Current Dictionary: All Dictionaries

Search results for: لم

علم (العلم) الإلهي

عــلم (العــلم) الإلهي
وهو: عــلم يبحث فيه عن المــوجودات من حيث هي موجودات.
وموضوعه: الوجود من حيث هو.
وغايته: تحصيل الاعتقادات الحقة، والتصورات المــطابقة، لتحصيل السعادة الأبدية، والسيادة السرمدية، كذا في: (مفتاح السعادة).
وقال صاحب (إرشاد القاصد) : يعبر عنه: بالإلهي، لاشتماله على عــلم الربوبية.
وبالعــلم الكلي: لعمومه، وشموله، لكليات المــوجودات.
وبعــلم ما بعد الطبيعة: لتجرد موضوعه عن المــواد، ولواحقها.
قال: وأجزاؤه الأصلية خمسة:
الأول: النظر في الأمور العامة، مثل: الوجود، والمــاهية، والوجوب، والإمكان، والقدم، والحدوث، والوحدة، والكثرة.
والثاني: النظر في مبادئ العلوم كلها، وتبيين مقدماتها، ومراتبها.
والثالث: النظر في إثبات وجود الإله، ووجوبه، والدلالة على وحدته، وصفاته.
والرابع: النظر في إثبات الجواهر المــجردة من: العقول، والنفوس، والمــلائكة، والجن، والشياطين، وحقائقها، وأحوالها.
والخامس: النظر في أحوال النفوس البشرية، بعد مفارقتها، وحال المــعاد.
ولمــا اشتدت الحاجة إليه اختلفت الطرق.
فمن الطالبين: من رام إدراكه بالبحث، والنظر، وهؤلاء زمرة الحكماء الباحثين، ورئيسهم: أرسطو، وهذا الطريق: أنفع للتعــلم، لوفائه بجملة المــطالب، وقامت عليها براهين يقينية، وتنبيهات.
ومنهم: من سلك طريق تصفية النفس بالرياضة، وأكثرهم يصل إلى أمور ذوقية، يكشفها له العيان، وتجلُّ عن أن توصف بلسان.
منهم: من ابتدأ أمره بالبحث والنظر، وانتهى إلى التجريد، وتصفية النفس، فجمع بين الفضيلتين، وينسب مثل هذا الحال إلى: سقراط، وأفلاطون، والسهروردي. انتهى.
وقال الفاضل أبو الخير: وهذا العــلم هو المــقصد الأقصى، والمــطلب الأعلى، لكن من وقف على حقائقه، واستقام في الاطلاع على دقائقه، فقد فاز فوزا عظيما.
ومن زلت به قدمه، أو طغى به قــلمــه، فقد ضل ضلالا بعيدا، وخسر خسرانا مبينا، إذ الباطل يشاكل الحق في مآخذه، والوهم يعارض العقل في دلائله، جل جناب الحق عن أن يكون شريعة لكل وارد، أو يطلع على سرائر قدسه، إلا واحدا بعد واحد، وقــلمــا يوجد إنسان يصفو عقله عن كدر الأوهام.
واعــلم: أن من النظر رتبة، تناظر طريق التصفية، ويقرب حدها من حدها، وهو: طريق الذوق، ويسمونه: الحكمة الذوقية.
وممن وصل إلى هذه الرتبة في السلف: السهروردي.
وكتاب: (حكمة الإشراق) له، صادر عن هذا المــقام، برمز أخفى من أن يعــلم.
وفي المــتأخرين: الفاضل، الكامل، مولانا: شمس الدين الفناري، في الروم.
ومولانا: جلال الدين الدواني، في بلاد العجم.
ورئيس هؤلاء: الشيخ: صدر الدين القونوي.
والعلامة: قطب الدين الشيرازي.
انتهى ملخصا.
وسيأتي تمام التفصيل في الحكمة، عند تحقيق الأقسام - إن شاء الله العزيز العلام -.
ثم اعــلم: أن البحث والنظر في هذا العــلم لا يخلو، إما: أن يكون على طريق النظر، أو: على طريق الذوق.
فالأول: إما على قانون فلاسفة المــشائين، فالمــتكفل له: كتب الحكمة، أو على قانون المــتكــلمــين، فالمــتكفل حينئذ: كتب الكلام لأفاضل المــتأخرين.
والثاني: إما: على قانون فلاسفة الإشراقيين، فالمــتكفل له: حكمة الإشراق، ونحوه، أو: على قانون الصوفية، واصطلاحهم فكتب التصوف.
وقد عــلم مواضع هذا الفن ومطالبه، فلا تغفل، فإن هذا التنبيه والتعليم مما فات عن أصحاب المــوضوعات، وفوق كل ذي عــلم عليم.

اسْتِعْمَال جمع المؤنث السالم لوصف جمع التكسير لمذكر غير عاقل

اسْتِعْمَال جمع المــؤنث السالم لوصف جمع التكسير لمــذكر غير عاقل

مثال: عِنْده كتب قيمات
الرأي: مرفوضة
السبب: لوصف جمع التكسير لمــذكر غير عاقل بجمع المــؤنث السالم.

الصواب والرتبة: -عنده كتب قيمات [فصيحة]-عنده كتب قيِّمة [فصيحة]
التعليق: (انظر: وصف جمع التكسير لمــذكر غير عاقل بجمع المــؤنث السالم).

علم آداب البحث ويقال له علم المناظرة

عــلم آداب البحث ويقال له عــلم المــناظرة
قال المــولى أبو الخير في (مفتاح السعادة) : وهو عــلم يبحث فيه عن كيفية إيراد الكلام بين المــناظرين.
وموضوعه: الأدلة من حيث أنها يثبت بها المــدعي على الغير.
ومباديه: أمور بينة بنفسها.
والغرض منه: تحصيل ملكة طرق المــناظرة، لئلا يقع الخبط في البحث فيتضح الصواب. انتهى.
وقد نقله من (موضوعات المــولى لطفي) بعبارته.
ثم أورد: بعض ما ذكر ها هنا من المــؤلفات.
وقال ابن صدر الدين في (الفوائد الخاقانية) : وهذا العــلم كالمــنطق، يخدم العلوم كلها، لأن البحث والمــناظرة عبارة عن النظر من الجانبين، في النسبة بين الشيئين، إظهارا للصواب، وإلزاما للخصم؛ والمــسائل العــلمــية تتزايد يوما فيوما، بتلاحق الأفكار والأنظار، فلتفاوت مراتب الطبائع والأذهان، لا يخلو عــلم من العلوم عن تصادم الآراء، وتباين الأفكار، وإدارة الكلام، من الجانبين للجرح والتعديل، والرد والقبول، وإلا لكان مكابرة غير مسموعة، فلا بد من قانون يعرف مراتب البحث، على وجه يتميز به المــقبول عما هو المــردود.
وتلك القوانين هي: عــلم آداب البحث. انتهى.
قوله: وإلا لكان مكابرة، أي: وإن لم يكن البحث لإظهار الصواب، لكان مكابرة.
وفيه: مؤلفات، أكثرها: مختصرات، وشروح لــلمــتأخرين منها.

علم الأوزان والمقادير المستعملة في علم الطب من الدرهم والأوقية والرطل وغير ذلك

عــلم الأوزان والمــقادير المــستعملة في عــلم الطب من الدرهم والأوقية والرطل وغير ذلك
ولقد صنف له: كتب مطولة، ومختصره، يعرفها مزاولوها؛ انتهى ما في: (مفتاح السعادة).
وقد جعله من فروع: عــلم الطب.
فيا ليت شعري ما هذه الكتب المــطولة؟ نعم هو باب من أبواب الكتب المــطولة في الطب؛ فلو كان أمثال ذلك عــلمــا متفرعا على عــلم الطب، لكان له ألف فرع، بل: وأزيد منه.

علم أسباب النزول، من فروع علم التفسير

عــلم أسباب النزول، من فروع عــلم التفسير
وهو عــلم، يبحث فيه عن: سبب نزول سورة، أو آية، ووقتها، ومكانها، وغير ذلك.
ومباديه: مقدمات مشهورة، منقولة عن السلف.
والغرض منه: ضبط تلك الأمور.
وفائدته: معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم، وتخصيص الحكم به، عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب، وأن اللفظ قد يكون عاما، ويقوم الدليل على تخصيصه، فإذا عُرف السبب، قصد التخصيص على ما عداه.
ومن فوائدهم: فهم معاني القرآن، واستنباط الأحكام، إذ ربما لا يمكن معرفة تفسير الآية، بدون الوقوف على سبب نزولها.
مثل قوله تعالى: (فأينما تولوا فثم وجه الله)، وهو يقتضي: عدم وجوب استقبال القبلة، وهو خلاف الإجماع.
ولا يعــلم ذلك، إلا بأن نزولها في نافلة السفر، وفيمن صلى بالتحري، ولا يحل القول فيه إلا بالرواية والسماع ممن شاهد التنزيل.
كما قال الواحدي: ويشترط في سبب النزول، أن يكون نزولها أيام وقوع الحادثة، وإلا كان ذلك من باب الإخبار عن الوقائع المــاضية، كقصة الفيل، كذا في: (مفتاح السعادة).
ومن الكتب المــؤلفة فيه:

علم الاختيارات، وهو من فروع علم النجوم

عــلم الاختيارات، وهو من فروع عــلم النجوم
فهو عــلم باحث عن أحكام كل وقت وزمان، من الخير والشر، وأوقات يجب الاحتراز فيها عن ابتداء الأمور، وأوقات يستحب فيها مباشرة الأمور، وأوقات يكون مباشرة الأمور فيها بين بين.
ثم كل وقت له نسبة خاصة ببعض الأمور بالخيرية، وببعضها بالشرية، وذلك بحسب كون الشمس في البروج، والقمر في المــنازل، والأوضاع الواقعة بينهما من: المــقابلة، والتربيع، والتسديس، وغير ذلك، حتى يمكن بسبب ضبط هذه الأحوال، اختيار وقت لكل أمر من الأمور التي تقصدها: كالسفر، والبناء، وقطع الثوب،... إلى غير ذلك من الأمور.
ونفع هذا العــلم بيِّنٌ، لا يخفى على أحد.
انتهى ما ذكره المــولى: أبو الخير في (مفتاح السعادة).
وفيه: كتب كثيرة، منها: (كتاب بطــلمــيوس)، وواليس المــصري، وذزوثيوس الإسكندراني، و(كتاب أبي معشر البلخي)، (وكتاب عمر بن فرخان الطبري)، و(كتاب أحمد بن عبد الجليل السجزي)، و(كتاب محمد بن أيوب الطبري).
و (كتاب يعقوب بن علي القصراني).
رتب على: مقالتين، وعشرين بابا.
و (كتاب كوشيار بن لبان الجيلي)، و(كتاب سهل بن نصر)، و(كتاب كنكه الهندي)، و(كتاب أبي علي الخياط)، و(كتاب الفضل بن بشر)، و(كتاب أحمد بن يوسف)، و(كتاب الفضل بن سهل)، و(كتاب نوفل الحمصي)، و(كتاب أبي سهل ماحور وأخويه)، و(كتاب علي بن أحمد الهمداني)، و(كتاب الحسن بن الخصيب)، و(كتاب أبي الغنائم بن هلال)، و(كتاب هبة الله بن شمعون)، و(كتاب أبي نصر بن علي القمي)، و(كتاب أبي نصر القبيصي)، و(كتاب أبي الحسن بن علي بن نصر).
و (اختيارات الكاشفي).
فارسي.
على: مقدمة، ومقالتين، وخاتمة.
والاختيارات العلائية، المــسماة: (بالأحكام العلائية، في الأعلام السماوية). وقد سبق.
و (اختيارت أبي الشكر: يحيى بن محمد المــغربي)، وغير ذلك.

العلم

العــلم:
[في الانكليزية] Knowledge ،science ،understanding
[ في الفرنسية] Savoir ،science ،connaissance
بالكسر وسكون اللام في عرف العــلمــاء يطلق على معان منها الإدراك مطلقا تصوّرا كان أو تصديقا، يقينيا أو غير يقيني، وإليه ذهب الحكماء. ومنها التصديق مطلقا يقينيا كان أو غيره. قال السيّد السّند في حواشي العضدي:
لفظ العــلم يطلق على المــقسم وهو مطلق الإدراك وعلى قسم منه وهو التصديق إمّا بالاشتراك بأن يوضع بإزائه أيضا، وإمّا بغلبة استعماله فيه لكونه مقصودا في الأكثر، وإنّما يقصد التصوّر لأجله. ومنها التصديق اليقيني. في الخيالي العــلم عند المــتكــلّمــين لا معنى له سوى اليقين.
وفي الأطول في باب التشبيه العــلم بمعنى اليقين في اللغة لأنه من باب أفعال القلوب انتهى.
ومنها ما يتناول اليقين والتصوّر مطلقا. في شرح التجريد العــلم يطلق تارة ويراد به الصورة الحاصلة في الذهن ويطلق تارة ويراد به اليقين فقط، ويطلق تارة ويراد به ما يتناول اليقين والتصوّر مطلقا انتهى. وقيل هذا هو مذهب المــتكــلّمــين كما ستعرفه. ومنها التعقّل كما عرفت. ومنها التوهّم والتعقّل والتخيّل. في تهذيب الكلام أنواع الإدراك إحساس وتخيّل وتوهّم وتعقّل. والعــلم قد يقال لمــطلق الإدراك وللثلاثة الأخيرة وللأخير وللتصديق الجازم المــطابق الثابت. ومنها إدراك الكلّي مفهوما كان أو حكما. ومنها إدراك المــركّب تصوّرا كان أو تصديقا، وسيذكر في لفظ المــعرفة. ومنها إدراك المــسائل عن دليل. ومنها نفس المــسائل المــدلّلة.
ومنها المــلكة الحاصلة من إدراك تلك المــسائل.
والبعض لم يشترط كون المــسائل مدلّلة وقال العــلم يطلق على إدراك المــسائل وعلى نفسها وعلى المــلكة الحاصلة منها. والعلوم المــدوّنة تطلق أيضا على هذه المــعاني الثلاثة الأخيرة وقد سبق توضيحها في أوائل المــقدّمة. ومنها ملكة يقتدر بها على استعمال موضوعات ما نحو غرض من الأغراض صادرا عن البصيرة بحسب ما يمكن فيها، ويقال لها الصناعة أيضا كذا في المــطول في بحث التشبيه. ورده السيّد السّند بأنّ المــلكة المــذكورة المــسمّاة بالصناعة فإنّما هي في العلوم العملية أي المــتعلّقة بكيفية العمل كالطب والمــنطق، وتخصيص العــلم بإزائها غير محقّق.
كيف وقد يذكر العــلم في مقابلة الصناعة. نعم إطلاقه على ملكة الإدراك بحيث يتناول العلوم النظرية والعملية غير بعيد مناسب للعرف انتهى.
اعــلم أنّ في العــلم مذاهب ثلاثة الأول أنّه ضروري يتصوّر ماهيته بالكنه فلا يحدّ، واختاره الرازي. والثاني أنّه نظري لكن يعسر تحديده وبه قال إمام الحرمين والغزالي، وقالا فطريق معرفته القسمة والمــثال. أمّا القسمة فهي أن تميّزه عما يلتبس به من الاعتقادات فنقول مثلا الاعتقاد إمّا جازم أو غيره، والجازم إمّا مطابق أو غير مطابق، والمــطابق إمّا ثابت أو غير ثابت. فقد خرج عن القسمة اعتقاد جازم مطابق ثابت وهو العــلم بمعنى اليقين، فقد تميّز عن الظّنّ بالجزم وعن الجهل المــركّب بالمــطابقة وعن تقليد المــصيب بالثابت الذي لا يزول بتشكيك المــشكّك. قيل القسمة إنّما تميّز العــلم التصديقي عن الاعتقادات فلا تكون مفيدة لمــعرفة مطلق العــلم. أقول لا اشتباه للعــلم بسائر الكيفيات النفسانية ولا العــلم التصوّري إنّما الاشتباه للعــلم التصديقي والقسمة المــذكورة تميّزه عنهما فحصل معرفة العــلم المــطلق. وأمّا المــثال فكأن يقال العــلم هو المــشابه لإدراك الباصرة، أو يقال هو كاعتقادنا أنّ الواحد نصف الاثنين.
والثالث أنّه نظري لا يعسر تحديده وذكر له تعريفات. الأول للحكماء أنّه حصول صورة الشيء في العقل. وبعبارة أخرى أنّه تمثّل ماهية المــدرك في نفس المــدرك، وهذا مبني على الوجود الذهني. وهذا التعريف شامل للظّنّ والجهل المــركّب والتقليد والشكّ والوهم.
وتسميتها عــلمــا يخالف استعمال اللّغة والعرف والشرع، إذ لا يطلق على الجاهل جهلا مركّبا ولا على الظّان والشاك والواهم أنّه عالم في شيء من تلك الاستعمالات. وأمّا التقليد فقد يطلق عليه العــلم مجازا ولا مشاحة في الاصطلاح. والمــبحوث عنه في المــنطق هو العــلم بهذا المــعنى لأنّ المــنطق لمــا كان جميع قوانين الاكتساب فلا بدّ لهم من تعميم العــلم.
ثم العــلم إن كان من مقولة الكيف فالمــراد بحصول الصورة الصورة الحاصلة. وفائدة جعله نفس الحصول التنبيه على لزوم الإضافة، فإنّ الصورة إنّما تسمّى عــلمــا إذا حصلت في العقل، وإن كان من مقولة الانفعال فالتعريف على ظاهره لأنّ المــراد بحصول الصورة في العقل اتصافه بها وقبوله إياها.
اعــلم أنّ العــلم يكون على وجهين أحدهما يسمّى حصوليا وهو بحصول صورة الشيء عند المــدرك ويسمّى بالعــلم الانطباعي أيضا لأنّ حصول هذا العــلم بالشيء إنّما يتحقّق بعد انتقاش صورة ذلك الشيء في الذهن لا بمجرّد حضور ذلك الشيء عند العالم، والآخر يسمّى حضوريا وهو بحضور الأشياء أنفسها عند العالم كعــلمــنا بذواتنا والأمور القائمة بها. ومن هذا القبيل عــلمــه تعالى بذاته وبسائر المــعلومات.
ومنهم من أنكر العــلم الحضوري وقال إنّ العــلم بأنفسنا وصفاتنا النفسانية أيضا حصولي، وكذلك عــلم الواجب تعالى. وقيل عــلمــه تعالى بحصول الصورة في المــجرّدات فإن جعل التعريف لــلمــعنى الأعم الشامل للحضوري والحصول بأنواعه الأربعة من الإحساس وغيره وبما يكون نفس المــدرك وغيره، فالمــراد بالعقل الذات المــجرّدة ومطلق المــدرك وبالصورة ما يعمّ الخارجية والذهنية أي ما يتميّز به الشيء مطلقا، وبالحصول الثبوت والحضور سواء كان بنفسه أو بمثاله، وبالمــغايرة المــستفادة من الظرفية أعمّ من الذاتية والاعتبارية، وبفي معنى عند كما اختاره المــحقّق الدواني. ولا يخفى ما فيه من التكلّفات البعيدة عن الفهم. وإن جعل التعريف للحصولي كان التعريف على ظاهره. والمــراد بالعقل قوة للنفس تدرك الغائبات بنفسها والمــحسوسات بالوسائط، وبصورة الشيء ما يكون آلة لامتيازه سواء كان نفس ماهية الشيء أو شبحا له، والظرفية على الحقيقة. اعــلم أنّ القائلين بأنّ العــلم هو الصورة فرقتان. فرقة تدّعي وتزعم أنّ الصور العقلية مثل وأشباح للأمور المــعلومة بها مخالفة لها بالمــاهية، وعلى قول هؤلاء لا يكون للأشياء وجود ذهني بحسب الحقيقة بل بحسب المــجاز، كأن يقال مثلا النار موجودة في الذهن ويراد أنّه يوجد فيه شبح له نسبة مخصوصة إلى ماهية النار، بسببها كان ذلك الشبح عــلمــا بالنار لا بغيرها من المــاهيات، ويكون العــلم حينئذ من مقولة الكيف ويصير العــلم والمــعلوم متغايرين ذاتا واعتبارا. وفرقة تدّعي أنّ تلك الصورة مساوية في المــاهية للأمور المــعلومة بها، بل الصور هي ماهيات المــعلومات من حيث إنّها حاصلة في النفس، فيكون العــلم والمــعلوم متّحدين بالذات مختلفين بالاعتبار. وعلى قول هؤلاء يكون للأشياء وجودان خارجي وذهني بحسب الحقيقة. والتعريف الثاني للعــلم مبني على هذا المــذهب. وعلى هذا قال الشيخ؛ الإدراك الحقيقة المــتمثّلة عند المــدرك. والثاني لبعض المــتكــلمــين من المــعتزلة أنّه اعتقاد الشيء على ما هو به، والمــراد بالشيء المــوضوع أو النسبة الحكمية أي اعتقاد الشيء على وجه ذلك الشيء متلبّس به في حدّ ذاته من الثبوت والانتفاء. وفيه أنّه غير مانع لدخول التقليد المــطابق فزيد لدفعه عن ضرورة أو دليل أي حال كون ذلك الاعتقاد المــطابق كائنا عن ضرورة أو دليل واعتقاد المــقلّد، وإن كان ناشئا عن دليل لأنّ قول المــجتهد حجة لــلمــقلّد إلّا أنّ مطابقته ليست ناشئة عن دليل، ولذا يقلده فيما يصيب ويخطئ، لكنه بقي الظّنّ الصادق الحاصل عن ضرورة أو دليل ظنّي داخلا فيه، إلّا أن يخصّ الاعتقاد بالجازم اصطلاحا. ويرد أيضا عليهم خروج العــلم بالمــستحيل فإنّه ليس شيئا اتفاقا، ومن أنكر تعلّق العــلم بالمــستحيل فهو مكابر للبديهي ومناقض لكلامه، لأنّ هذا الإنكار حكم على المــستحيل بأنّه لا يعــلم فيستدعي العــلم بامتناع الحكم على ما ليس بمعلوم، إلّا أن يقال المــستحيل شيء لغة ولو مجازا، وفيه أنّه يلزم حينئذ استعمال المــجاز في التعريف بلا قرينة. وأيضا يرد عليهم خروج العــلم التصوّري لعدم اندراجه في الاعتقاد فإنّه عبارة عن الحكم الذهني. والثالث للقاضي أبي بكر الباقلاني أنّه معرفة المــعلوم على ما هو به فيخرج عنه عــلم الله تعالى إذ لا يسمّى عــلمــه معرفة إجماعا لا لغة ولا اصطلاحا مع كونه معترفا بأنّ لله تعالى عــلمــا حيث أثبت له تعالى عــلمــا وعالمــية وتعلّقا إمّا لأحدهما أو لكليهما كما سيجيء، فيكون العــلم المــطلق مشتركا معنويا عنده بين عــلم الواجب وعــلم المــمكن، فلا بدّ من دخوله في تعريف مطلق العــلم بخلاف المــعتزلة فإنّهم لا يعترفون العــلم الزائد ويقولون إنّه عين ذاته تعالى. فلفظ العــلم عندهم مشترك لفظي، فالتعريف المــذكور يكون لمــطلق العــلم الحادث إذ لا مطلق سواه، ولذا لم يورد النقض عليهم بعــلمــه تعالى وأيضا ففيه دور إذ المــعلوم مشتق من العــلم ومعناه ما من شأنه أن يعــلم أي أن يتعلّق به العــلم، فلا يعرف إلّا بعد معرفته.
وأيضا فقيد على ما هو به قيد زائد إذ المــعرفة لا تكون إلّا كذلك لأنّ إدراك الشيء لا على ما هو به جهالة لا معرفة، إذ لا يقال في اللغة والعرف والشرع للجاهل جهلا مركّبا أنّه عارف.
كيف ويلزم حينئذ أن يكون أجهل الناس أعرفهم. والرابع للشيخ أبي الحسن الأشعري فقال تارة بالقياس إلى متعلّق العــلم هو إدراك المــعلوم على ما هو به وفيه دور، وتارة بالقياس إلى محلّ العــلم هو الذي يوجب كون من قام به عالمــا وبعبارة أخرى هو الذي يوجب لمــن قام بهبها إخراجا لإدراك الحواس الباطنة فإنّه إدراك المــعاني الجزئية ويسمّى ذلك الإدراك تخيّلا وتوهّما. فالعــلم عنده بمعنى التعقّل، وبقوله لا يحتمل النقيض أي لا يحتمل ذلك الشيء المــتعلّق نقيض ذلك التمييز بوجه من الوجوه خرج الظّنّ والشكّ والوهم لأنّها توجب لمــحلّها تمييزا يحتمل النقيض في الحال، وكذا الجهل المــركّب والتقليد فإنّهما يوجبان تمييزا يحتمل النقيض في المــآل. أمّا في الجهل فلأنّ الواقع يخالفه فيجوز أن يطلع عليه، وأمّا في التقليد فلعدم استناده إلى موجب من حسّ أو بديهة أو عادة أو برهان، فيجوز أن يزول بتقليد آخر.
قيل فيه أنّ إخراج الشكّ والوهم من التعريف مما لا يعرف وجهه لأنّ كلاهما تصوّران على ما بيّن في موضعه، والتصوّر داخل في التعريف بناء على أن لا نقيض للتصوّر أصلا وسيجيء تحقيقه في لفظ النقيض فلا وجه لإخراجه، بل لا وجه لصحته أصلا. قلت الشكّ والوهم من حيث إنّه تصوّر للنسبة من حيث هي هي لا نقيض له، وهما بهذا الاعتبار داخلان في العــلم. وأمّا باعتبار أنّه يلاحظ في كلّ منهما النسبة مع كلّ واحد من النفي والإثبات على سبيل تجويز المــساوي والمــرجوح. ولذا يحصل التردّد والاضطراب فله نقيض، فإنّ النسبة من حيث يتعلّق بها الإثبات تناقضها من حيث يتعلّق بها النفي، وهما بهذين الاعتبارين خارجان عن العــلم صرّح بهذين الاعتبارين السيّد السّند في حاشية العضدي. ثم إن كان المــعرّف شاملا لعــلم الواجب وغيره يجب أن يراد بالإيجاب أعمّ سواء كان بطريق السببية كما في عــلم الواجب أو بطريق العادة كما في عــلم الخلق، وإن كان المــعرّف عــلم الخلق يجب تخصيصه بالإيجاب العادي على ما هو المــذهب من استناد جميع المــمكنات إلى الله تعالى ابتداء، فالمــعنى أنّ العــلم صفة قائمة بالنفس يخلق الله تعالى عقيب تعلّقها بالشيء أن يكون النفس. مميزا له تمييزا لا يحتمل النقيض. فعلى هذا الضمير في لا يحتمل راجع إلى المــتعلّق الدال عليه لفظ التمييز فإنّ التمييز لا يكون إلّا بشيء. فعدم الاحتمال صفة لمــتعلّقه وإنّما لم يكن راجعا إلى نفس التمييز لأنّه إن كان المــراد به المــعنى المــصدري أعني كون النفس مميزا فلا نقيض له أصلا لا في التصوّر ولا في التصديق، وإن كان ما به التمييز أعني الصورة في التصوّر والنفي والإثبات في التصديق فلا معنى لاحتماله نقيض نفسه إذ الواقع لا يكون إلّا أحدهما مع مخالفته لمــا اشتهر من أنّ اعتقاد الشيء كذا، مع العــلم بأنّه لا يكون إلّا كذا عــلم ومع الاحتمال بأنّه لا يكون كذا ظنّ، فإنّه صريح في أنّ المــتعلّق أعني الشيء محتمل، ثم المــتعلّق للصورة المــاهية وللنفي والإثبات الطرفان. ثم المــراد بالنقيض إمّا نقيض المــتعلّق كما قيل وحينئذ المــراد بالتمييز إمّا المــعنى المــصدري، فالمــعنى صفة توجب لمــحلّها أن يكشف لمــتعلقها بحيث لا يحتمل المــتعلّق نقيضه، وحينئذ يكون الصفة نفس الصورة والنفي والإثبات لا ما يوجبها أو ما به التمييز، وحينئذ تكون الصفة ما يوجبها. ولا يخفى ما فيه لأنّ الشيء لا يكون محتملا لنقيضه أصلا من الصورة والنفي والإثبات كما مرّ، إذ الواقع لا يكون إلّا أحدهما فلا وجه لذكره أصلا، إلّا أن يقال المــتعلّق وإن لم يكن محتملا لنقيضه في نفس الأمر لكن يحتمله عند المــدرك بأن يحصل كلّ منهما بذلك الآخر، وهذا غير ظاهر. وإمّا نقيض التمييز كما هو التحقيق كما قيل أيضا وحينئذ إمّا أن يراد بالتمييز المــعنى المــصدري وهو حاصل التحرير الذي سبق وهذا أيضا بالنظر إلى الظاهر لأنّ التمييز بالمــعنى المــصدري ليس له نقيض يحتمله المــتعلّق أصلا، وإمّا ما به التمييز وهذا هو التحقيق الحقيقي.
فخلاصة التعريف أنّ العــلم أمر قائم بالنفس يوجب لها أمرا به تميّز الشيء عما عداه بحيث لا يحتمل ذلك الشيء نقيض ذلك الأمر. فإذا تعلّق عــلمــنا مثلا بماهية الإنسان حصل عند النفس صورة مطابقة لها لا نقيض لها أصلا، بها تميّزها عما عداه. وإذا تعلّق عــلمــنا بأنّ العالم حادث حصل عندها إثبات أحد الطرفين للآخر بحيث تميّزها عما عداهما، لكن قد يكون مطابقا جازما فلا يحتمل النقيض، أعني النفي وقد لا يكون فيحتمله. فالعــلم ليس نفس الصورة والنفي والإثبات عند المــتكــلّمــين بل ما يوجبها فإنّهم يقولون إنّه صفة حقيقية ذات إضافة يخلقها الله تعالى بعد استعمال العقل أو الحواس أو الخبر الصادق تستتبع انكشاف الأشياء إذا تعلّقت بها، كما أنّ القدرة والسمع والبصر كذلك. وما هو المــشهور من أنّ العــلم هو الصورة الحاصلة فهو مذهب الفلاسفة القائلين بانطباع الأشياء في النفس وهم ينفونه، والتقسيم إلى التصوّر والتصديق ليس بالذات عندهم، بل العــلم باعتبار إيجابه النفي والإثبات تصديق، وباعتبار عدم إيجابه لهما تصوّر؛ وعلى هذا قيل بأنّه إن خلا عن الحكم فتصوّر وإلّا فتصديق. والمــراد بالصورة عندهم الشّبح والمــثال الشبيه بالمــتخيّل في المــرآة، وليس هذا من الوجود الذهني، فإنّ من قال به يقول إنّه أمر مشارك للوجود الخارجي في تمام المــاهية فلا يرد أنّ القول بالصورة فرع الوجود الذهني، والمــتكــلمــون ينكرونه. والمــراد بالنفي والإثبات المــعنى المــصدري وهو إثبات أحد الطرفين للآخر وعدم إثبات أحدهما له، ولذا جعلوا متعلّقهما الطرفين لا إدراك أنّ النسبة واقعة أو ليست بواقعة كما هو مصطلح الفلاسفة، فلا يرد أنّ النفي والإثبات ليسا نقيضين لارتفاعهما عن الشّكّ وإرادة الصورة عن التمييز ليس على خلاف الظاهر، بل مبني على المــساهلة والاعتماد على فهم السامع للقطع بأنّ المــحتمل للنقيض هو التمييز بمعنى الصورة والنفي والإثبات دون المــصدري فتأمّل، فإنّ هذا المــقام من مطارح الأذكياء. وقيل المــراد نقيض الصفة وقوله لا يحتمل صفة للصفة لا للتمييز، وضمير لا يحتمل راجع إلى المــتعلّق، فالمــعنى صفة توجب تمييزا لا يحتمل متعلّقها نقيض تلك الصفة، فالتصوّر حينئذ نفس الصورة لا ما يوجبها وكذا التصديق نفس الإثبات والنفي والتمييز بالمــعنى المــصدري. ولا يخفى أنّه خلاف الظاهر، والظاهر أن يكون لا يحتمل صفة للتمييز ومخالف لتعريف العــلم عند القائلين بأنّه من باب الإضافة. وقالوا إنّه نفس التعلّق وعرّفوه بأنّه تمييز معنى عند النفس لا يحتمل النقيض، فإنّه لا يمكن أن يراد فيه نقيض الصفة، والتمييز في هذا التعريف بمعنى الانكشاف، وإلّا لم يكن العــلم نفس التعلّق؛ فالانكشاف التصوّري لا نقيض له وكذا متعلّقه، والانكشاف التصديقي أعني النفي والإثبات كلّ واحد منهما نقيض الآخر ومتعلّقه قد يحتمل النقيض وقد لا يحتمله. وقد أورد على الحدّ المــختار العلوم العادية فإنّها تحتمل النقيض، والجواب أنّ احتمال العاديات للنقيض بمعنى أنّه لو فرض نقيضها لم يلزم منه محال لذاته غير احتمال متعلّق التمييز الواقع فيه، أي في العــلم العادي للنقيض، لأنّ الاحتمال الأول راجع إلى الإمكان الذاتي الثابت لــلمــمكنات في حدّ ذاتها، حتى الحسّيات التي لا تحتمل النقيض اتفاقا.
والاحتمال الثاني هو أن يكون متعلّق التمييز محتملا لأن يحكم فيه المــميز بنقيضه في الحال أو في المــآل ومنشأه ضعف ذلك التمييز إمّا لعدم الجزم أو لعدم المــطابقة أو لعدم استناده إلى موجب، وهذا الاحتمال الثاني هو المــراد.
والتعريف الأحسن الذي لا تعقيد فيه هو أنّه يتجلّى بها المــذكور لمــن قامت هي به، فالمــذكور يتناول المــوجود والمــعدوم والمــمكن والمــستحيل بلا خلاف، ويتناول المــفرد والمــركّب والكلّي والجزئي، والتجلّي هو الانكشاف التام فالمــعنى أنّه صفة ينكشف بها لمــن قامت به ما من شأنه أن يذكر انكشافا تاما لا اشتباه فيه. واختيار كــلمــة من لإخراج التجلّي الحاصل للحيوانات العجم فقد خرج النور فإنّه يتجلّى به لغير من قامت به، وكذا الظّنّ والجهل المــركّب والشّكّ والوهم واعتقاد المــقلّد المــصيب أيضا لأنّه في الحقيقة عقدة على القلب، فليس فيه انكشاف تام. هذا كلّه خلاصة ما في شرح المــواقف وما حقّقه المــولوي عبد الحكيم في حاشيته وحاشية الخيالي.
فائدة:
قال المــتكــلّمــون لا بدّ في العــلم من إضافة ونسبة مخصوصة بين العالم والمــعلوم بها يكون العالم عالمــا بذلك المــعلوم والمــعلوم معلوما لذلك العالم، وهذه الإضافة هي المــسمّاة عندهم بالتعلّق. فجمهور المــتكــلّمــين على أنّ العــلم هو هذا التعلّق إذ لم يثبت غيره بدليل فيتعدّد العــلم بتعدّد المــعلومات كتعدّد الإضافة بتعدّد المــضاف إليه. وقال قوم من الأشاعرة هو صفة حقيقية ذات تعلّق، وعند هؤلاء فثمة أمر أنّ العــلم وهو تلك الصفة والعالمــية أي ذلك التعلّق، فعلى هذا لا يتعدّد العــلم بتعدّد المــعلومات إذ لا يلزم من تعلّق الصفة بأمور كثيرة تكثر الصفة، إذ يجوز أن يكون لشيء واحد تعلّقات بأمور متعدّدة.
وأثبت القاضي الباقلاني العــلم الذي هو صفة موجودة والعالمــية التي هي من قبيل الأحوال عنده وأثبت معها تعلّقا، فإمّا للعــلم فقط أو للعالمــية فقط، فههنا ثلاثة أمور: العــلم والعالمــية والتعلّق الثابت لأحدهما، وإمّا لهما معا، فههنا أربعة أمور: العــلم والعالمــية وتعلّقاهما. وقال الحكماء العــلم هو المــوجود الذهني إذ يعقل ما هو عدم صرف بحسب الخارج كالمــمتنعات والتعلّق إنّما يتصوّر بين شيئين متمايزين ولا تمايز إلّا بأن يكون لكلّ منهما ثبوت في الجملة، ولا ثبوت لــلمــعدوم في الخارج فلا حقيقة له إلّا الأمر المــوجود في الذهن، وذلك الأمر هو العــلم. وأمّا التعلّق فلازم له والمــعلوم أيضا فإنّه باعتبار قيامه بالقوة العاقلة عــلم، وباعتباره في نفسه من حيث هو هو معلوم، فالعــلم والمــعلوم متّحدان بالذات مختلفان بالاعتبار؛ وإذا كان العــلم بالمــعدومات كذلك وجب أن يكون سائر المــعلومات أيضا كذلك، إذ لا اختلاف بين أفراد حقيقة واحدة نوعية، كذا في شرح المــواقف.
قال مرزا زاهد هذا في العــلم الحصولي وأما في الحضوري فالعــلم والمــعلوم متّحدان ذاتا واعتبارا، ومن ظنّ أنّ التغاير بينهما في الحضوري أيضا اعتبارا كتغاير المــعالج والمــعالج فقد اشتبه عليه التغاير الذي هو مصداق تحقّقهما بالتغاير الذي هو بعد تحقّقهما، فإنّه لو كان بينهما تغاير سابق لكان العــلم الحضوري صورة منتزعة من المــعلوم وكان عــلمــا حصوليا. وفي أبي الفتح حاشية الحاشية الجلالية أمّا القائلون بالوجود الذهني من الحكماء وغيرهم فاختلفوا اختلافا ناشئا من أنّ العــلم ليس حاصلا قبل حصول الصورة في الذهن بداهة واتفاقا، وحاصل عنده بداهة واتفاقا، والحاصلة معه ثلاثة أمور: الصورة الحاصلة وقبول الذهن من المــبدأ الفيّاض وإضافة مخصوصة بين العالم والمــعلوم.
فذهب بعضهم إلى أنّ العــلم هو الصورة الحاصلة فيكون من مقولة الكيف، وبعضهم إلى أنّه الثاني فيكون من مقولة الانفعال، وبعضهم إلى أنّه الثالث فيكون من مقولة الإضافة. والأصح المــذهب الأول لأنّ الصورة توصف بالمــطابقة كالعــلم، والإضافة والانفعال لا يوصفان بها، لكن القول بأنّ الصورة العقلية من مقولة الكيف إنّما يصحّ إذا كانت مغايرة لذي الصورة بالذات قائمة بالعقل كما هو مذهب القائلين بالشّبح والمــثال الحاكمين بأنّ الحاصل في العقل أشباح الأشياء لا أنفسها. وأمّا إذا كانت متّحدة معه بالذات مغايرة له بالاعتبار على ما يدلّ عليه أدلة الوجود الذهني وهو المــختار عند المــحقّقين القائلين بأنّ الحاصل في الذهن أنفس الأشياء لا أشباحها فلا يصحّ ذلك. فالحقّ أنّ العــلم من الأمور الاعتبارية والمــوجودات الذهنية، وإن كان متحدا بالذات مع المــوجود الخارجي إذا كان المــعلوم من المــوجودات الخارجية سواء كان جوهرا أو عرضا كيفا أو انفعالا أو إضافة أو غيرها. انتهى في شرح المــواقف.
قال الإمام الرازي قد اضطرب كلام ابن سينا في حقيقة العــلم فحيث بيّن أنّ كون الباري عقلا وعاقلا ومعقولا يقتضي كثرة في ذاته، فسّر العــلم بتجرّد العالم والمــعلوم من المــادة. وردّ بأنّه يلزم منه أنّ يكون كلّ شخص إنساني عالمــا بجميع المــجرّدات، فإنّ النفس الإنسانية مجرّدة عندهم. وحيث قرّر اندراج العــلم في مقوله الكيف بالذات وفي مقولة الإضافة بالعرض جعله عبارة عن صفة ذات إضافة. وحيث ذكر أنّ تعقّل الشيء لذاته ولغير ذاته ليس إلّا حضور صورته عنده جعله عبارة عن الصورة المــرتسمة في الجوهر العاقل المــطابقة لمــاهية المــعقول.
وحيث زعم أنّ العقل البسيط الذي لواجب الوجود ليس عقليته لأجل صور كثيرة بل لأجل فيضانها حتى يكون العقل البسيط كالمــبدإ الخلّاق للصور المــفصّلة في النفس جعله عبارة عن مجرّد إضافة.

التقسيم:
للعــلم تقسيمات. الأول إلى الحضوري والحصولي كما عرفت. الثاني إلى أنّ العــلم الحادث إمّا تصوّر أو تصديق، والعــلم القديم لا يكون تصوّرا ولا تصديقا، وقد سبق في لفظ التّصوّر. الثالث إلى أنّ الأشياء المــدركة أي المــعلومة تنقسم إلى ما لا يكون خارجا عن ذات المــدرك أي العالم وإلى ما يكون. أما في الأول فالحقيقة الحاصلة عند المــدرك هي نفس حقيقتها، وأمّا في الثاني فهي تكون غير الحقيقة المــوجودة في الخارج بل هي إمّا صورة منتزعة من الخارج إن كان الإدراك مستفادا من خارج كما في العــلم الانفعالي أو صورة حصلت عند المــدرك ابتداء، سواء كانت الخارجية مستفادة منها كما في العــلم الفعلي، أو لم تكن. وعلى التقديرين فإدراك الحقيقة الخارجية بحصول تلك الصورة الذهنية عند المــدرك والاحتياج إلى الانتزاع إنّما هو في المــدرك المــادي لا غير، كذا في شرح الإشارات. وفي شرح الطوالع الشيء المــدرك إمّا نفس المــدرك أو غيره، وغيره إمّا غير خارج عنه أو خارج عنه، والخارج عنه إمّا مادي أو غير مادي، فهذه أربعة أقسام.
الأول ما هو نفس المــدرك. والثاني ما هو غيره لكنه غير خارج عنه. والثالث ما هو خارج عنه لكنه ماديّ. والرابع ما هو خارج عنه لكنه غير مادي. والأوّلان منها إدراكهما بحصول نفس الحقيقة عند المــدرك فيكون إدراكهما حضوريا والأول بدون حلول والثاني بالحلول، والآخران لا يكون إدراكهما بحصول نفس الحقيقة الخارجية بل بحصول مثال الحقيقة، سواء كان الإدراك مستفادا من الخارجية أو الخارجية مستفادة من الإدراك، والثالث إدراكه بحصول صورة منتزعة عن المــادة مجرّدة عنها، والرابع لم يفتقر إلى الانتزاع، الرابع إلى واجب أي ممتنع الانفكاك عن العالم كعــلمــه بذاته وممكن كسائر العلوم. الخامس إلى فعلي ويسمّى كلّيا قبل الكثرة وهو ما يكون سببا لوجود المــعلوم في الخارج كما نتصوّر السرير مثلا ثم نوجده، وانفعالي ويسمّى كلّيا بعد الكثرة وهو ما يكون مسبّبا عن وجود العالم بأن يكون مستفادا من الوجود الخارجي كما يوجد أمرا في الخارج كالسماء والأرض ثم نتصوّره، فالفعلي ثابت قبل الكثرة والانفعالي بعدها، فالعــلم الفعلي كلّي يتفرّع عليه الكثرة وهي الأفراد الخارجية والعــلم الانفعالي كلّي يتفرّع على الكثرة. وقد يقال إنّ لنا كلّيا مع الكثرة لكنه من قبيل العــلم ومبني على وجود الطبائع الكلّية في ضمن الجزئيات الخارجية.

قال الحكماء: عــلم الله تعالى بمصنوعاته فعلي لأنّه السّبب لوجود المــمكنات في الخارج؛ لكن كون عــلمــه تعالى سببا لوجودها لا يتوقّف على الآلات، بخلاف عــلمــنا بأفعالنا، ولذلك يتخلّف صدور معلومنا عن عــلمــنا. وقالوا إنّ عــلمــه تعالى بأحوال المــمكنات على أبلغ النّظام وأحسن الوجوه بالقياس إلى الكلّ من حيث هو كلّ، هو الذي استند عليه وجودها على هذا الوجه دون سائر الوجوه المــمكنة، وهذا العــلم يسمّى عندهم بالعناية الأزلية. وأمّا عــلمــه تعالى بذاته فليس فعليا ولا انفعاليا أيضا، بل هو عين ذاته بالذات وإن كان مغايرا له بالاعتبار.
السادس إلى ما يعــلم بالفعل وهو ظاهر وما يعــلم بالقوة كما إذا في يد زيد اثنان فسألنا أزوج هو أو فرد؟ قلنا نعــلم أنّ كلّ اثنين زوج، وهذا اثنان، فنعــلم أنّه زوج عــلمــا بالقوة القريبة من الفعل وإن لم نكن نعــلم أنّه بعينه زوج، وكذلك جميع الجزئيات المــندرجة تحت الكلّيات فإنّها معلومة بالقوة قبل أن يتنبّه للاندراج. فالنتيجة حاصلة في كبرى القياس، هكذا قال بعض المــتكــلّمــين. السابع إلى تفصيلي وإجمالي، والتفصيلي كمن ينظر إلى أجزاء المــعلوم ومراتبه بحسب أجزائه بأن يلاحظها واحدا بعد واحد، والإجمالي كمن يعــلم مسئلة فيسأل عنها فإنّه يحضر الجواب الذي هو تلك المــسألة بأسرها في ذهنه دفعة واحدة وهو أي ذلك الشخص المــسئول متصوّر للجواب لأنّه عالم بأنه قادر عليه، ثم يأخذ في تقرير الجواب، فيلاحظ تفصيله، ففي ذهنه أمر بسيط هو مبدأ التفاصيل؛ والتفرقة بين الحالة الحاصلة دفعة عقيب السؤال وبين حالة الجهل الثابتة قبل السؤال وملاحظة التفصيل ضرورية وجدانية، إذ في حالة الجهل المــسماة عقلا بالفعل ليس إدراك الجواب حاصلا بالفعل بل النفس في تلك الحالة تقوى على استحضاره بلا تجشّم كسب جديد، فهناك قوة محضة. وفي الحالة الحاصلة عقيب السؤال قد حصل بالفعل شعور وعــلم ما بالجواب لم يكن حاصلا قبله. وفي الحالة التفصيلية صارت الأجزاء ملحوظة قصدا ولم يكن حاصلا في شيء من الحالتين السابقتين، وشبه ذلك بمن يرى نعما كثيرة تارة دفعة فإنّه يرى في هذه الحالة جميع أجزائه ضرورة، وتارة بأن يحدّق البصر نحو واحد واحد فيفصّل أجزاؤه. فالرؤية الأولى إجمالية والثانية تفصيلية. وأنكر الإمام الرازي العــلم الإجمالي.
فائدة:
العــلم الإجمالي على تقدير جواز ثبوته في نفسه هل يثبت لله تعالى أولا؟ جوّزه القاضي والمــعتزلة، ومنعه كثير من أصحابنا وأبو الهاشم. والحقّ أنّه إن اشترط في الإجمالي الجهل بالتفصيل امتنع عليه تعالى، وإلّا فلا.
الثامن إلى التعقّل والتوهّم والتخيّل والإحساس وقد سبق في لفظ الإحساس. التاسع إلى الضروري والنظري، وعــلم الله تعالى عند المــتكــلّمــين لا يوصف بضرورة ولا كسب، فهو واسطة بينهما وأما عند المــنطقيين فداخل في الضروري وقد سبق. فائدة:
الفرق بين العــلم بالوجه وبين العــلم بالشيء من وجه أنّ معنى الأول حصول الوجه عند العقل ومعنى الثاني أنّ الشيء حاصل عند العقل لكن لا حصولا تاما، فإنّ التصوّر قابل للقوة والضعف كما إذا تراءى لك شبح من بعيد فتصوّرته تصورا ما، ثم يزداد انكشافا عندك بحسب تقاربك إليه إلى أن يحصل في عقلك كمال حقيقته. ولو كان العــلم بالوجه هو العــلم بالشيء من ذلك الوجه على ما ظنّه من لا تحقيق له لزم أن يكون جميع الأشياء معلومة لنا مع عدم توجّه عقولنا إليها، وذلك ظاهر الاستحالة، كذا في شرح المــطالع في بحث المــوضوع. وقال المــولوي عبد الحكيم في حاشية شرح المــواقف في المــقصد الرابع من مقاصد العــلم في المــوقف الأول: اعــلم أنّهم اختلفوا في عــلم الشيء بوجه وعــلم وجه الشيء. فقال من لا تحقيق له إنّه لا تغاير بينهما أصلا. وقال المــتأخّرون بالتغاير بالذات إذ في الأول الحاصل في الذهن نفس الوجه وهو آلة لمــلاحظة الشيء، والشيء معلوم بالذات، وفي الثاني الحاصل في الذهن صورة الوجه وهو المــعلوم بالذات من غير التفات إلى الشيء ذي الوجه. وقال المــتقدّمون بالتغاير بالاعتبار إذ لا شكّ في أنّه لا يمكن أن يشاهد بالضاحك أمر سواه، إلا أنّه إذا اعتبر صدقه على أمر واتحاده معه كما في موضوع القضية المــحصورة كان عــلم الشيء بالوجه، وإذا اعتبر مع قطع النظر عن ذلك كان عــلم الوجه كما في موضوع القضية الطبيعية.
فائدة:
أثبت أبو هاشم عــلمــا لا معلوم له كالعــلم بالمــستحيل فإنّه ليس بشيء والمــعلوم شيء وهذا أمر اصطلاحي محض لا فائدة فيه.
فائدة:
محلّ العــلم الحادث سواء كان متعلّقا بالكلّيات أو بالجزئيات عند أهل الحقّ غير متعيّن عقلا، بل يجوز عندهم عقلا أن يخلق الله تعالى في أيّ جوهر أراد من جواهر البدن؛ لكنّ السّمع دلّ على أنّه القلب. قال تعالى: فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها. وقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها. هذا وقد اختلف المــتكــلّمــون في بقاء العــلم، فالأشاعرة قضوا باستحالة بقائه كسائر الأعراض عندهم. وأما المــعتزلة فقد أجمعوا على بقاء العلوم الضرورية والمــكتسبة التي لا يتعلّق بها التكليف. واختلفوا في العلوم المــكتسبة المــكلّف بها، فقال الجبائي إنّها ليست باقية وإلّا لزم أن لا يكون المــكلّف بها حال بقائها مطيعا ولا عاصيا ولا مثابا ولا معاقبا مع تحقق التكليف وهو باطل بناء على أنّ لزوم الثواب أو العقاب على ما كلّف به. وخالفه أبو هاشم في ذلك وأوجب بقاء العلوم مطلقا. وقال الحكماء محلّ العــلم الحادث النفس الناطقة أو المــشاعر العشر الظاهرة والباطنة وقد سبق في لفظ الحسّ.
فائدة:
عــلم الله سبحانه بذاته نفس ذاته، فالعالم والمــعلوم واحد وهو الوجود الخاص، كذا في شرح الطوالع، أي واحد بالذات، أمّا بالاعتبار فلا بدّ من التغاير. ثم قال: وعــلم غير الله تعالى بذاته وبما ليس بخارج عن ذاته هو حصول نفس المــعلوم، ففي العــلم بذاته العالم والمــعلوم واحد، والعــلم وجود العالم والمــعلوم والوجود زائد، فالعــلم غير العالم والمــعلوم، والعــلم بما ليس بخارج عن العالم من أحواله غير العالم والمــعلوم والمــعلوم أيضا غير العالم، فيتحقّق في الأول أمر واحد وفي الثاني اثنان وفي الثالث ثلاثة؛ والعــلم بالشيء الذي هو خارج عن العالم عبارة عن حصول صورة مساوية لــلمــعلوم فيتحقّق أمور أربعة: عالم ومعلوم وعــلم وصورة. فالعــلم حصول صورة المــعلوم في العالم، ففي العــلم بالأشياء الخارجة عن العالم صورة وحصول تلك الصورة وإضافة الصورة إلى الشيء المــعلوم وإضافة الحصول إلى الصورة. وفي العــلم بالأشياء الغير الخارجة عن العالم حصول نفس ذلك الشيء الحاصل وإضافة الحصول إلى نفس ذلك الشيء. ولا شكّ أنّ الإضافة في جميع الصور عرض. وأمّا نفس حقيقة الشيء في العــلم بالأشياء الغير الخارجة عن العالم يكون جوهرا إن كان المــعلوم ذات العالم لأنّه حينئذ تكون تلك الحقيقة موجودة لا في موضوع ضرورة كون ذات المــوضوع العالم كذلك، وإن كان المــعلوم حال العالم يكون عرضا. وأمّا الصورة في العــلم بالأشياء الخارجة عن العالم فإن كانت صورة لعرض بأن يكون المــعلوم عرضا فهو عرض بلا شكّ، وإن كانت صورة لجوهر بأن يكون المــعلوم جوهرا فعرض أيضا انتهى. وهذا مبني على القول بالشّبح، وأمّا على القول بحصول ماهيات الأشياء في الذهن فجوهر.
فائدة:

قال الصوفية: عــلم الله سبحانه صفة نفسية أزلية. فعــلمــه سبحانه بنفسه وعــلمــه بخلقه عــلم واحد غير منقسم ولا متعدّد، لكنه يعــلم نفسه بما هو له ويعــلم خلقه بما هم عليه، ولا يجوز أن يقال إنّ معلوماته أعطته العــلم من أنفسها كما قال الامام محي الدين العربي لئلّا يلزم كونه استفاد شيئا من غيره، فلنعذره. ولا نقول كان ذلك مبلغ عــلمــه ولكنّا وجدناه سبحانه بعد هذا يعــلمــها بعــلم أصلي منه غير مستفاد مما هي عليه فيما اقتضته بحسب ذواتها، غير أنّها اقتضت في نفسها ما عــلمــه سبحانه عليها فحكم له ثانيا بما اقتضته وهو ما عــلمــها عليه. ولمّــا رأى الإمام المــذكور أنّ الحقّ حكم لــلمــعلومات بما اقتضته من نفسها ظنّ أنّ عــلم الحقّ مستفاد من اقتضاء المــعلومات، فقال إنّ المــعلومات أعطت الحق العــلم من نفسها وفاته أنّها إنّما اقتضت ما عــلمــها عليه بالعــلم الكلّي الأصلي النفسي قبل خلقها وإيجادها، فإنّها ما تعيّنت في العــلم الإلهي إلّا بما عــلمــها لا بما اقتضته ذواتها، ثم اقتضت ذواتها بعد ذلك من نفسها أمورا هي عين ما عــلمــها عليه أوّلا، فحكم لها ثانيا بما اقتضته، وما حكم إلّا بما عــلمــها عليه فتأمّل، فيسمّى الحقّ عليما بنسبة العــلم إليه مطلقا وعالمــا بنسبة معلومية الأشياء إليه، وعلّاما بنسبة العــلم ومعلومية الأشياء إليه معا. فالعليم اسم صفة نفسية لعدم النظر فيه إلى شيء مما سواه، إذ العــلم ما يستحقّه النفس في كمالها لذاتها. وأمّا العالم فاسم صفة فعلية وذلك عــلمــه للأشياء سواء كان عــلمــه لنفسه أو لغيره فإنّها فعلية، يقال عالم بنفسه أي عــلم نفسه وعالم بغيره أي عــلم غيره، فلا بدّ أن تكون صفة فعلية. وأمّا العلّام فبالنظر إلى النسبة العــلمــية اسم صفة نفسية كالعليم وبالنظر إلى نسبة معلومية الأشياء إليه اسم صفة فعلية، ولذا غلب وصف الخلق باسم العالم دون العليم والعلّام، فيقال فلان عالم ولا يقال عليم ولا علّام مطلقا، إلّا أن يقال عليم بأمر كذا، ولا يقال علّام بأمر كذا، بل إن وصف بشخص فلا بدّ من التقييد، فيقال فلان علّام في فنّ كذا، وهذا على سبيل التوسّع والتجوّز. وليس قولهم فلان علّامة من هذا القبيل لأنّه ليس من أسماء الله تعالى، فلا يجوز أن يقال إنّ الله علّامة فافهم، كذا في الانسان الكامل. والعالم في اصطلاح المــتصوفة: هو الذي وصل إلى عــلم اليقين بذات وصفات وأسماء الله، وليس بطريق الكشف والشّهود.
كذا في كشف اللغات.
العــلم: بالتحريك، ما وضع "لشيء" وهو العــلم القصدي، أو غلب والعــلم الاتفاقي الذي يصير عــلمــا لا بوضع واضع بل بكثرة الاستعمال مع الإضافة، أو اللازم لشيء بعينه خارجا أو ذهنا ولم يتناول الشبيه.
العــلم:
[في الانكليزية] Proper name
[ في الفرنسية] Nom propre
بفتح العين واللام عند النحاة قسم من المــعرفة، وهو ما وضع لشيء بعينه غير متناول غيره بوضع واحد. فقولهم لشيء بعينه أي متلبس بعينه أي لشيء معيّن شخصا كان وهو العــلم الشخصي كزيد، أو جنسا وهو العــلم الجنسي، وعــلم الجنس والعــلم الذهني كأسامة. واحترز بهذا عن النّكرة والأعلام الغالبة التي تعيّنت لفرد معيّن لغلبة الاستعمال فيه داخلة في التعريف لأنّ غلبة استعمال المــستعملين بحيث اختصّ العــلم الغالب لفرد معيّن بمنزلة الوضع من واضع المــعيّن، فكأنّ هؤلاء المــستعملين وضعوه لــلمــعيّن. وقولهم غير متناول غيره أي حال كون ذلك الاسم المــوضوع لشيء معيّن غير متناول غير ذلك الشيء باستعماله فيه، واحترز به عن المــعارف كلّها. والقيد الأخير لئلّا يخرج الأعلام المــشتركة كذا في الفوائد الضيائية.
اعــلم أنّ هذا التعريف مبني على مذهب المــتأخرين الذاهبين إلى أنّ ما سوى العــلم معارف وضعية أيضا لا استعمالية كما هو مذهب الجمهور، إذ لو لم يكن كذلك فقولهم غير متناول غيره مما لا يحتاج إليه لخروج ما سوى العــلم من المــعارف بقيد الوضع لأنّها ليست موضوعة لشيء معيّن بل لمــفهوم كلّي، إلّا أنه شرط حين الوضع أن لا يستعمل إلّا في معيّن كما سيأتي في لفظ المــعرفة. واعترض عليه بأنّ العــلم الشخصي ليس موضوعا لشيء معيّن لأنّ المــوضوع للشخص من وقت حدوثه إلى فنائه لفظ واحد، والتشخّص الذي لوحظ حين الوضع يتبدل كثيرا، فلا محالة يكون اللفظ موضوعا للشخص، لكلّ تشخّص تشخّص ملحوظ بأمر كلّي، فالعــلم كالمــضمر. وأجيب بأنّ وجود المــاهية لا ينفكّ عن تشخّص باق ببقاء الوجود يعرف بعوارض بعده وتلك العوارض تتبدّل ويأخذ العقل العوارض المــتبدلة أمارات يعرف بها ذلك التشخّص. فاللفظ موضوع للشخص بذلك التشخّص لا لــلمــتشخّص بالعوارض، ولو كان التشخّص بالعوارض لكان للجزئي أشخاص متّحدة في الوجود، وما اشتهر من أنّ التشخّص بالعوارض مسامحة مؤوّلة بأنّه أمر يعرف بعوارض. وأمّا أنّ ذلك التشخّص هل هو متحقّق مبرهن أو مجرّد توهّم فموكول إلى عــلم الكلام والحكمة ولا حاجة لنا إليه في وضع اللفظ لــلمــشخّص لأنّ أيّا ما كان يكفي فيه. بقي أنّ العــلم لو كان موضوعا للشخص بعينه لم يصح تسمية الآباء أبناءهم المــتولّدة في غيبتهم بأعلام، وتأويله بأنّه تسمية صورة أو أمر بالتسمية حقيقة أو وعد بها بعيد، وأنّ الوضع في اسم الله مشكل حينئذ لعدم ملاحظته بعينه وشخصه حين الوضع وبعد لم يعــلم بالوضع له بشخصه لــلمــخاطبين به، وإنّما يفهم منه معيّن مشخّص في الخارج بعنوان ينحصر فيه، ولذا قيل إنّه اسم لــلمــفهوم الكلّي المــنحصر فيه تعالى من الواجب لذاته أو المــستحقّ بالعبودية لذاته، إلّا أن يراد بالشيء بشخصه كونه متعيّنا بحيث لا يحتمل التعدّد بحسب الخارج ولا يطلب له منع العقل عن تجويز الشركة فيه. وقال بعض البلغاء: العــلم ما وضع لشيء بشخصه وهذا إنّما يصح إن لم يكن عــلم الجنس عــلمــا عند أصحاب فنّ البلاغة لأنّه دعت إليه ضرورات نحوية، وهم في سعة عنه، ولا يكون غير العــلم موضوعا لشيء بشخصه بناء على أنّ ما سوى العــلم معارف استعمالية كما هو مذهب الجمهور. هكذا يستفاد من الأطول في باب المــسند إليه في بيان فائدة جعله عــلمــا. قيل الأعلام الجنسية أعلام حقيقة كالأعلام الشخصية، إذ في كلّ منهما إشارة بجوهر اللفظ إلى حضور المــسمّى في الذهن بخلاف المــنكّر إذ ليس فيه إشارة إلى المــعلوم من حيث هو معلوم. وقيل عــلم الجنس من الأعلام التقديرية واللفظية لأنّ الأحكام اللفظية من وقوعه مبتدأ وذا حال ووصفا لــلمــعرفة وموصوفا بها ونحو ذلك هي التي اضطرتهم إلى الحكم بكونه عــلمــا حتى تكلّفوا فيه ما تكلّفوا، هكذا يستفاد مما ذكر في المــطول وحاشيته للسّيد السّند. والفرق بين عــلم الجنس واسم الجنس قد مرّ في لفظ اسم الجنس. وفي بعض حواشي الألفية اسم الجنس موضوع للفرد لا على التعيين كالأسد، وعــلم الجنس موضوع للحقيقة فقط. وعــلم النوع موضوع للفرد المــعيّن لا على التعيين كغدوة وعــلم الشخص للفرد المــعيّن على الخصوص. فاسم الجنس نكرة لفظا ومعنى، وعــلم الجنس معرفة لفظا لا معنى، وعــلم الشخص معرفة لفظا ومعنى، وعــلم النوع كذلك. فالحاصل أنّ الفرد المــعيّن يتعدّد في العــلم النوعي ويتّحد في العــلم الشخصي انتهى.
التقسيم
العــلم إمّا قصدي وهو ما كان بالوضع شخصيا كان أو جنسيا، أو اتفاقي وهو الذي يصير عــلمــا لا بوضع واضع معيّن بل إنّما يصير عــلمــا لأجل الغلبة وكثرة استعماله في فرد من افراد جنسه بحيث لا يذهب الوهم عند إطلاقه إلى غيره مما يتناوله اللفظ، كذا في العباب.
والعــلم المــوضوع أي القصدي إمّا منقول أو مرتجل، فإنّ ما صار عــلمــا بغلبة الاستعمال لا يكون منقولا ولا مرتجلا كما في شرح التسهيل وفي اللّب العــلم الخارجي أي الشخصي منقول أو مرتجل فخرج من هذا العــلم الذهني، أي الجنسي. والمــنقول وهو ما كان له معنى قبل العــلمــية ثم نقل عن ذلك المــعنى وجعل عــلمــا لشيء إمّا منقول عن مفرد سواء كان اسم عين كثور وأسد، أو اسم معنى كفصل وإياس، أو صفة كحاتم، أو فعلا ماضيا كشمّر وكعسب، أو فعلا مضارعا كتغلب ويشكر، أو أمرا بقطع همزة الوصل لتحقّق النقل كاصمت بكسر الهمزة والمــيم، أو صوتا كببّة وهو لقب عبد الله بن حارث، أو عن مركّب سواء كان جملة نحو تأبّط شرا أو غير جملة سواء كان بين أجزائه نسبة كالمــضاف والمــضاف إليه كعبد مناف أو لم يكن كبعلبك وسيبويه، هكذا في اللّب والمــفصّل. وقيل الأعلام كلّها منقولة ولا يضرّ جهل أصلها وهو ظاهر مذهب سيبويه كذا في شرح التسهيل. والمــرتجل هو ما وضع حين وضع عــلمــا ابتداء إمّا قياسي وهو ما لم يعرف له أصل مادة بل هيئة بأن يكون موافقا لزنة أصل في أسماء الأجناس والأفعال ولا يكون مخالفا لأصل فيها من الإظهار والإدغام والإعلال والإبدال ونحو ذلك مما ثبت في أصول الأوزان نحو عطفان، وإمّا شاذ وهو ما لم يعرف له أصل هيئة بأن يكون مخالفا لأوزان الأصول بتصحيح وما يعلّل مثله نحو مكوزة والقياس مكازة كمفازة، أو بالعكس كحياة عــلمــا لرجل والقياس حية، بانفكاك ما يدغم كمحبب اسم رجل والقياس محبّ، أو بالعكس وبانفتاح ما يكسر كوهب بفتح الهاء اسم رجل والقياس الكسر، أو نحو ذلك. ويمكن في المــرتجل الشاذ القول بالنقل وأنّ التغيير شاذ حدث بعد النقل كذا في الإرشاد وشرح اللب. ثم في شرح اللب إنّما لم يقسم المــصنف المــرتجل إلى المــفرد والمــركّب كما قسّم المــنقول إليهما لعدم مجيئه في ذلك انتهى. والعــلم الذهني أي الجنسي إمّا اسم عين كأمامة وإمّا اسم معنى وهو على نوعين: حدث أي مصدر كسبحان عــلم التسبيح أو وقت كغدوة عــلم لجنس غدوة اليوم الذي أنت فيه، وكذا سحر فإنّه عــلم لجنس سحر الليلة التي أنت فيه، والدليل على عــلمــيتها منع الصّرف. وإمّا لفظ يوزن به كقولهم قائمة على وزن فاعلة وإمّا كناية كفلان وفلانة فإنّهما كنايتان عن زيد ومثله وعن فاطمة ومثلها فيجريان مجرى المــكني عنه أي يكونان كالعــلم كذا في شرح اللب. والعــلم الاتفاقي على قسمين مضاف نحو ابن عمر فإنّه غلب بالإضافة على عبد الله بن عمر من بين إخوته، ومعرّف باللام نحو النّجم فإنّه غلب على الثّريا بالاستعمال والصّعق فإنّه غلب بالاستعمال على خويلد بن نفيل، ومنه ما لم يرد بجنسه الاستعمال كالدّبران والعيّوق والسّماك والثّريا لأنّها غلبت على الكواكب المــخصوصة من بين ما يوصف بهذه الأوصاف، وإن كانت في الأصل أسماء أجناس. وإنما قيل منه لأنّها ليست في الظاهر صفات غالبة كالصعق وإنما هي أسماء موضوعة باللام في الأصل أعلام لمــسمّياتها ولا تجري صفات وما لم يعرف بالاشتقاق من هذا النوع فملحق بما عرف كالمــشتري والمــريخ، كذا في العباب. فالأعلام الاتفاقية لا تكون إلّا مركّبة لحصرها في القسمين. ولذا قال صاحب العباب لمــا كان اسم الجنس إنّما يطلق على بعض أفراده المــعيّن إذا كان معرّفا باللام أو بالإضافة كان العــلم الاتفاقي قسمين: معرّفا باللام أو مضافا.

وأيضا العــلم ثلاثة أقسام: لقب وكنية واسم لأنّه إمّا مصدّر بأب أو أمّ أو لا، الأوّل الكنية، والثاني إمّا مشعر بالمــدح أو الذّم أو لا، الأول اللّقب، والثاني الاسم. فعلى هذا يتقابل الأقسام بالذات. وفي شرح الأوضح ناقلا عن الإمام أنّ من الكنية ما صدّر بابن أو بنت. وقال الفاضل الشريف في شرح المــفتاح: الكنية عــلم صدّر بأب أو أمّ أو ابن أو بنت، واللّقب عــلم يشعر بمدح أو ذمّ مقصود منه قطعا، وما عداهما من الأعلام يسمّى أسماء. فعلى ما ذكره الاسم المــقابل للّقب قد يشعر بالمــدح أو الذّمّ ولا يكون المــشعر بالمــدح أو الذم مطلقا لقبا، بل إذا كان المــقصود به عند إطلاقه المــدح أو الذّمّ. ولذا قيل الغرض من وضع الألقاب الإشعار بالمــدح والذّمّ، وقد يتضمنها الأسماء، وإن لم يقصد بالوضع إلّا تمييز الذات لكون تلك الأسماء منقولات من معان شريفة أو خسيسة كمحمد وعلي وكلب، أو لاشتهار الذات في ضمنها بصفة محمودة أو مذمومة كحاتم ومادر انتهى. والفرق بين اللّقب والكنية بالحيثية، فإشعار بعض الكنى بالمــدح أو الذّم كأبي الفضل وأبي الجهل لا يضرّ. وبعض أئمة الحديث يجعل المــصدّر بأب أو أم مضافا إلى اسم حيوان أو إلى ما هو صفة الحيوان كنية وإلى غير ذلك لقبا كأبي تراب. ثم إشعار العــلم بالمــدح أو الذّمّ باعتبار معناه الأصلي فإنّه قد يلاحظ في حال العــلمــية تبعا، ولذلك ينهى شرعا أن يذكر الشخص بعــلمــه الدّال في أصله على ذمّ إذا كان يتأذّى به ويتحاشى عادة أن يذكر من يقصد توقيره بمثل هذا. وقد يطلق الاسم على ما يعمّ الأقسام الثلاثة. هذا كله خلاصة ما في الأطول وما ذكر الفاضل الچلپي في حاشية المــطوّل والتلويح. وفي بعض الحواشي المــعلّقة على شرح النخبة قيل: العــلم إن دلّ على مدح أو ذم فلقب صدّر بأب أو أمّ أو ابن أو بنت أو لا، وإن صدّر بأحدها فكنية دلّ عليه أو لا، والاسم أعمّ، كذا قاله التفتازاني انتهى. وإذا اجتمع للرجل اسم غير مضاف ولقب يضاف الاسم إلى اللقب نحو سعيد كرز كما في المــفصل.
فائدة:
وقد سمّوا ما يتّخذونه ويألفونه من خيلهم وإبلهم وغنمهم وكلابهم بأعلام، كلّ واحد منها مختصّ بشخص بعينه يعرفونه به كالأعلام في الأناسي نحو اعوج ولاحق وشدقم وعليان ونحوها، وما لا يتّخذ ولا يؤلف فيحتاج إلى التمييز بين أفراده كالطير والوحش وغير ذلك، فإنّ العــلم فيه للجنس بأسره ليس بعضه أولى به من بعض. فإذا قلت أبو براقش وابن دابّة وأسامة وثعالة فكأنّك قلت الضرب الذي من شأنه كيت وكيت. ومن هذه الأجناس ما له اسم جنس واسم عــلم كالأسد وأسامة والثّعلب وثعالة وما لا يعرف له اسم غير العــلم نحو ابن مقرض وحمار قبّان، وقد يوضع للجنس اسم وكنية كما قالوا للأسد أسامة وأبو الحارث، ومنها ما له اسم ولا كنية له كقولهم قثم للضبعان، وما له كنية ولا اسم كأبي براقش كذا في المــفصّل.
فائدة:
ومن العــلم ما لزم فيه اللام كالمــسمّى معها نحو الفرزدق وكالغالب بها نحو الصّعق كما مرّ، وكالعــلم الذي ثنّي نحو الزيدان أو جمع كالزيدون والفواطم، وكالكناية عن أعلام البهائم كالفلان كناية عن نحو لاحق وشدقم والفلانة كناية عن نحو خطّة وهيلة. ومنه ما جازت اللام فيه كالعــلم الذي كان قبل العــلمــية مصدرا نحو الفضل، أو مشتقا نحو الحارث، أو كان مؤوّلا بواحد من جنسه أي بفرد من أفراد حقيقته الكلّية المــوضوع لها العــلم بالاشتراك الاتفاقي، وذلك لأنّه لمــا وضعه الواضع لمــسمّى ثم وضعه لمــسمّى آخر صارت نسبته إلى الجميع بعد ذلك نسبة واحدة فأشبه رجلا فأجري مجراه. وبهذا الاعتبار قيل: جاز اللام فيه حتى اجترئ لذلك على إضافته أيضا نحو زيدنا. فعلى هذا الطريق لا ينكّر عــلم الجنس لأنّ من شرطه أن يوجد الاشتراك في التسمية والمــسمّى بعــلم الجنس واحد لا تعدّد فيه، اللهم إلّا أن يوجد اسم مشترك أطلق على نوعين مختلفين، ثم ورود الاستعمال فيه مرادا به واحد من المــسمّيين به. وقيل طريق التنكير أن يشتهر العــلم بمعنى من المــعاني فيجعل العــلم بمنزلة اسم الجنس كما في قولهم لكلّ فرعون موسى أي لكلّ جبار مبطل قهّار محق. فعلى هذا الطريق لا شبهة في إمكان تنكير عــلم الجنس مثل أن يقال فرست كلّ أسامة أي كلّ بالغ في الشجاعة كذا في العباب، وهو أي تنكير العــلم قليل كما في شرح اللب. فائدة:
إذا استعمل اللّفظ للفظ كان عــلمــا له ولا اتحاد إذ الدّال محض اللّفظ والمــدلول لفظ ذو دلالة أو عديمها، وعلى هذا كان نحو جسق مما لم يوضع لمــعنى موضوعا أيضا كزيد، ويجري هذا الوضع في كلّ لفظ موضوع اسما كان أو فعلا أو حرفا أو مركّبا تاما أو غيره، أو غير موضوع ولا يثبت الاشتراك كما في المــنقولات. وليس أحدهما بالنسبة إلى الآخر مجازا بخلاف المــنقولات لأنّ وضع العــلم لا يختصّ بقوم دون قوم فيكون مسمّى العــلم بالنسبة إلى كلّ قوم حقيقة كذا في العضدي.
والعــلم عند المــهندسين عبارة عن مجموع المــتمّمين وأحد الشّكلين المــتوازيين أضلاعا اللذين يكونان بينهما أي بين المــتمّمين. فالعــلم مجموع ثلاث مربعات هكذا:
فمجموع المــتمّمين وهما مربّع ب أومربع رع مع مربّع ف هـ أو مع مربّع أف عــلم، هكذا يستفاد من تحرير أقليدس وحواشيه.
وفي تحرير الأقليدس تعريف العــلم مذكور بهذه العبارة- العــلم هو مجموع المــتمّمين وأحد متوازي الأضلاع الذين بينهما. وتعريف المــتمّم سيأتي في المــتن.
العــلم: الاعتقاد الجازم الثابت المــطابق للواقع، إذ هو صفة توجب تمييزا لا يحتمل النقيض، أو هو حصول صورة الشيء في العقل والأول أخص.

علم باحث عن لمية القراءات كما إن علم القراءات باحث عن آنيتها فالأول دراية والثاني رواية.

عــلم باحث عن لمــية القراءات كما إن عــلم القراءات باحث عن آنيتها فالأول دراية والثاني رواية.
ولمــا كانت الرواية أصلا في العلوم الشرعية جعل الأول فرعا والثاني أصلا ولم يعكس الأمر وإن أمكن ذلك باعتبار آخر وموضوع هذا العــلم وغايته ظاهران لــلمــتأمل المــتيقظ ذكره في مدينة العلوم.

علم الحساب

عــلم الحساب
هو عــلم بقواعد تعرف بها طرق استخراج المــجهولات العددية من المــعلومات العددية المــخصوصة من الجمع والتفريق والتصنيف والتضعيف والضرب والقسمة.
والمــراد بالاستخراج معرفة كمياتها.
وموضوعه العدد إذ يبحث فيه عن عوارضه الذاتية والعدد هو الكمية المــتألفة من الوحدات فالوحدة مقومة للعدد وأما الواحد فليس بعدد ولا مقوم له وقد يقال لكل ما يقع تحت العد فيقع على الواحد وعبارة ابن خلدون هي صناعة عملية في حساب الأعداد بالضم والتفريق فالضم يكون في الأعداد بالإفراد هو الجمع وبالتضعيف وهو تضاعف عددا بآحاد عدد آخر وهذا هو الضرب والتفريق أيضا يكون في الأعداد.
أما بالإفراد مثل إزالة عدد من عدد ومعرفة الباقي وهو الطرح.
أو تفصيل عدد بأجزاء متساوية تكون عدتها محصلة وهو القسمة وسواء كان هذا الضم التفريق في الصحيح من العدد أو الكسر.
ومعنى الكسر نسبة عدد إلى عدد تلك النسبة تسمى كسر أو كذلك يكون بالضم والتفريق في الجذور ومعناها العدد الذي يضرب في مثله فيكون منه العدد المــربع فإن تلك الجذور أيضا يدخلها الضم والتفريق.
وهذه الصناعة حادثة احتيج إليها للحساب في المــعاملات انتهى.
ومنفعته ضبط المــعاملات وحفظ الأموال وقضاء الديون وقسمة المــواريث والتركات وضبط ارتفاعات المــماليك وغير ذلك.
ويحتاج إليه في العلوم الفكلية وفي المــساحة والطب وقيل يحتاج إليه في جميع العلوم بالجملة ولا يستغني عنه ملك ولا عالم ولا سوقة وزاد شرفا بقوله - سبحانه وتعالى -: {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} وبقوله تعالى: {وَلِتَعْــلَمُــوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} وقوله تعالى: {فاسْأَلِ الْعَادِّينَ} ولذلك ألف فيه الناس كثيرا وتداولوه في الأمصار بالتعليم للولدان.
ومن أحسن التعليم عند الحكماء الابتداء به لأنه معارف متضحة وبراهينه منتظمة فينشأ عنه في الغالب عقل مضيء يدل على الصواب وقد يقال إن من أخذ نفسه بتعــلم الحساب أول أمره يغلب عليه الصدق لمــا في الحساب من صحة المــباني ومنافسة النفس فيصير له ذلك خلقا ويتعود الصدق ويلازمه مذهبا.
وهو مستغلق على المــبتدئ إذا كان من طريق البرهان وهذا شأن علوم التعاليم لأن مسائلها وأعمالها واضحة وإذا قصد شرحها وهو التعليل في تلك الأعمال ظهر من العسر على الفهم مالا يوجد في أعمال المــسائل.
وهو فرع عــلم العدد المــسمى بالأرتماطيقي وله فروع أوردها صاحب مفتاح السعادة بعد أن جعل عــلم العدد أصلا وعــلم الحساب مرادفا له مع كونه فرعا حيث قال:
الشعبة الثامنة في فروع عــلم العدد وقد يسمى بعــلم الحساب فعرفه بتعريف مغاير لتعريف عــلم العدد.
قال في مدينة العلوم ولعــلم الحساب فروع.
منها عــلم حساب التخت والمــيل وهو عــلم يتعرف منه كيفية مزاولة الأعمال الحسابية برقوم تدل على الآحاد وتغني عما عداها بحفظ المــراتب وتنسب هذه الأرقام إلى الهند انتهى.
وقال صاحب الكشف:
بل هو عــلم بصور الرقوم الدالة على الأعداد مطلقا ولكل طائفة أرقام دالة على الآحاد الأرقام الهندية والرومية والمــغربية والإفرنجية والنجومية وغيرها ويقال له التخت والتراب أيضا انتهى
ونفع هذا العــلم ظاهر ولابن الهيثم كتاب برهن فيه بمعرفة أصول أعماله ببراهين عددية لمــا فيسه من تسيهل الأعمال الحسابية.
ومن الكتب الشاملة فيه كتاب نصير الدين الطوسي وكتاب: البهائية وشرحه وكتاب المــحمدية لعلي القوشجي وغير ذلك من الكتب التي لا تحصى.
ولأهل المــغرب طرق ينفردون بها في الأعمال الجزئية من هذا العــلم فمنها قريبة المــآخذ لطرق ابن الياسين ومنها بعيدة كطرق الحضار كذا في المــدينة.
ومنها عــلم الجبر والمــقابلة وقد سبق في الجيم.
ومنها عــلم حساب الخطأين وهو قسم من مطلق الحساب وسيأتي في الخاء المــعجمة وإنما جعل عــلمــا برأسه لتكثير الأنواع.
ومنها عــلم حساب النجوم وهو عــلم يبحث فيه عن كيفية حساب الأرقام الواقعة في الزيجات وهذا وإن كان من فروع عــلم العدد إلا أنه لمــا امتازت عن سائر عــلم الحساب بقواعد مخصوصة يعرفها أهلها وتوقف عــلم التقويم عليه جعلوه عــلمــا برأسه.
ومنها عــلم حساب الدور والوصايا وهو عــلم يتعرف منه مقدار ما يوصي به إذا تعلق بدور في بادئ النظر.
مثال: رجل وهب لعتقه في مرض موته مائة درهم لا مال له غيرها فقبضها ومات قبل موت سيده وخلف بنتا والسيد المــذكور ثم مات السيد فظاهر المــسئلة أن الهبة تمضي من المــائة في ثلثها فإذا مات المــعتق رجع إلى السيد نصف الجائز بالهبة فيزداد مال السيد من إرثه وهــلم جراً.
وبهذا العــلم يتعين مقدار الجائز بالهبة.
وظاهر أن منفعة هذا العــلم جليلة وإن كانت الحاجة إليه قليلة ومن كتبه كتاب لأفضل الدين الخونجي.
أقول هذا العــلم يؤول إلى عــلم الجبر والمــقابلة وفيه تأليف لطيف لأبي حنيفة أحمد بن داود الدينوري المــتوفى سنة إحدى وثمانين ومائتين وكتاب نافع لأحمد بن محمد الكرابيسي وكتاب مفيد لأبي كامل شجاع بن مســلم ذكر فيه كتاب الوصايا بالجذور للحجاج بن يوسف. ومنها: عــلم حساب الدرهم والدينار وهي عــلم يتعرف منه كيفية استخراج المــجهولات العددية التي تزيد عدتها على المــعادلات الجبرية ولهذه الزيادة لقبوا تلك المــجهولات بالدرهم والدينار والفلس وغير ذلك ومنفعته كمنفعة الجبر والمــقابلة فيما يكثر فيه الأجناس المــعادلة:
ومن الكتب المــؤلفة فيه كتاب لابن فلوس إسماعيل بن إبراهيم بن غازي المــارديني الحنبلي المــتوفى سنة سبع وثلاثين وستمائة والرسالة المــغربية والرسالة الشاملة للخرقي والكافي الكرخي. ومختصره للسمؤل بن يحيى بن عباس المــغربي الإسرائيلي المــتوفى سنة ست وسبعين وخمسمائة كذا في إرشاد القاصد وكتاب لابن المــحلي المــوصلي.
ومن المــبسوطة فيه الكافي والكامل لأبي القاسم بن السمح.
ومنها عــلم حساب الفرائض وهو معرفة فروض الوراثة وتصحيح سهام الفريضة مما نصح باعتبار فروضها الأصول أو مناسختها وذلك إذا هلك أحد الورثة وانكسرت سهامه على فروض ورثته فإنه حينئذ يحتاج إلى حساب يصحح الفريضة الأولى حتى يصل أهل الفروض جميعا في الفريضتين إلى فروضهم من غير تجزية.
وقد تكون هذه المــناسخات أكثر من واحد واثنين وتتعدد لذلك بعدد أكثر وبقدر ما تتعدد تحتاج إلى الحسبان.
وكذلك إذا كانت فريضة ذات وجهين مثل أن يقر بعض الورثة بوارث وينكره الآخر فتصحح على الوجهين حينئذ وينظر مبلغ السهام ثم تقسم التركة على نسب سهام الورثة من أصل الفريضة وكل ذلك يحتاج إلى الحسبان وكان غالبا فيه وجعلوه فناء مفردا وللناس فيه تآليف كثيرة.
أشهرها عند المــالكية من متأخري الأندلس كتاب ابن ثابت ومختصر القاضي أبي القاسم الحوفي ثم الجعدي.
ومن متأخري إفريقية ابن النمر الطرابلسي وأمثالهم.
وأما الشافعية والحنفية والحنابلة فلهم فيه تآليف كثيرة وأعمال عظيمة صعبة شاهدة لهم باتساع الباع في الفقه والحساب
وقد يحتج الأكثر من أهل هذا الفن على فضله بالحديث المــنقول عن أبي هريرة رضي الله عنه إن الفرائض ثلث العــلم وإنها أول ما ينسى وفي رواية نصف العــلم خرجه أبو نعيم الحافظ واحتج به أهل الفرائض بناء على أن المــراد بالفرائض فروض الوراثة.
والذي يظهر أن هذا المــحمل بعيد وأن المــراد بالفرائض إنما هي الفرائض التكليفية في العبادات والعادات والمــواريث وغيرها وبهذا المــعنى يصحح فيها المــنصفية والثلثية وأما فروض الوراثة فهي أقل من ذلك كله بالنسبة إلى عــلم الشريعة كلها أو يعين هذا المــراد أن حمل اللفظ للفرائض على هذا الفن المــخصوص أو تخصيصه بفروض الوراثة إنما لهو صلاح ناشئ للفقهاء عند حدوث الفنون 2 / 243 والاصطلاحات ولم يكن صدر الإسلام يطلق على هذا الأعلى عموم مشتقا من الفرض الذي هو لغة التقدير أو القطع وما كان المــراد به في إطلاقه إلا جميع الفروض كما قلناه وهي حقيقته الشرعية فلا ينبغي أن يحمل إلا على ما كان يحمل في عصرهم والله - سبحانه وتعالى - أعــلم وبه التوفيق انتهى كلام ابن خلدون ملخصا. ومنها عــلم حساب الهواء وهو عــلم يتعرف منه كيفية حساب الأموال العظيمة في الخيال بلا كتابة ولها طرق وقوانين مذكورة في بعض الكتب الحسابية وهذا العــلم عظيم النفع للتجار في الأسفار وأهل السوق من العوام الذين لا يعرفون الكتابة وللخواص إذا عجزوا عن إحضار آلات الكتابة.
ومنها عــلم حساب العقود أي عقود الأصابع وقد وضعوا كلا منها بإزاء عدد مخصوص ثم رتبوا الأوضاع الأصابع آحادا وعشرات ومئات وألوفا ووضعوا قواعد يتعرف بها حساب الألوف فما فوقها بيد واحدة.
وهذا عظيم النفع للتجار سيما عند استعجام كل من المــتبايعين لسان الأخر عند فقد آلات الكتابة والعصمة عن الخطأ في هذا العــلم أكثر من حساب الهواء.
وكان هذا العــلم يستعمله الصحابة رضي الله عنهم كما وقع في الحديث في كيفية وضع اليد على الفخذ.
ومنه في التشهد أنه عقد خمسا وخمسين وأراد بذلك هيئة وضع الأصابع لأن هيئة عقد خمس وخمسين في عــلم العقود هي عقد أصابع اليد غير السبابة والإبهام وتحليق الإبهام معها وهذا الشكل في العــلم المــذكور دال على العدد المــرقوم فالراوي ذكر المــدلول وأراد الدال.
وهذا دليل على شيوع هذا العــلم عندهم والمــراد بالعقود في تمثيل الدلالة غير اللفظية الوضعية هي عقود الأصابع حيث مثلوها بالخطوط والعقود والإشارات والنصب وفي هذا العــلم أرجوزة لابن الحرب أورد فيها مقدار الحاجة ورسالة لشرف الدين اليزدي أورد فيها قدر الكفاية.
ومنها عــلم إعداد الوفق وتقدم في الألف.
ومنها عــلم خواص الأعداد المــتحابة والمــتباغضة وسيأتي في الخاء.
ومنها عــلم التعابي العددية وقد سبق في التاء وهذه الثلاثة من فروع عــلم العدد من حيث الحساب ومن فروع الخواص من جهة أخرى ولذلك أوردناها إجمالا كما أوردها صاحب مفتاح السعادة ومدينة العلوم وأما عــلم حساب النجوم فهو عــلم يتعرف منه قوانين حساب الدرج والدقائق والثواني والثوالث بالضرب والقسمة والتجذير والتفريق ومرابتها في الصعود والنزول وتقدم وفيه كتب مفردة غير ما بين في مبسوطات الكتب الحسابية وأما المــصنفات في عــلم الحساب مطلقا فكثيرة ذكرها صاحب كشف الظنون على ترتيب الكتاب إجمالا لا نطول بذكرها.

علم الفلسفيات

عــلم الفلسفيات
العلوم الفلسفية أربعة أنواع: رياضية ومنطقية وطبيعية وإلهية. فالرياضية على أربعة أقسام.
الأول: عــلم الأرتماطيقي وهو معرفة خواص العدد وما يطابقها من معاني المــوجودات التي ذكرها فيثاغورس نيقوماخس وتحته عــلم الوفق وعــلم الحساب الهندي وعــلم الحساب القبطي والزنجي وعــلم عقد الأصابع.
الثاني: عــلم الجومطريا وهو عــلم الهندسة بالبراهين المــذكورة في إقليدس ومنها عــلمــية وعملية وتحتها عــلم المــساحة وعــلم التكسير وعــلم رفع الأثقال وعــلم الحيل المــائية والهوائية والمــناظر والحزب.
الثالث: عــلم الإسطرلاب قوميا وهو: عــلم النجوم بالبراهين المــذكورة في المــجسطي وتحت عــلم الهيئة والمــيقات والزيج والتحويل.
الرابع: عــلم المــوسيقى وتحته عــلم الإيقاع والعروض، والثاني العلوم المــنطقية وهي خمسة أنواع:
الأول: أنولوطيقيا وهو معرفة صناعة الشعر.
الثاني: بطوريقا وهو معرفة صناعة الخطب.
الثالث: بوطيقيا وهو معرفة صناعة الجدل.
الرابع: الولوطيقي وهو معرفة صناعة البرهان. الخامس: سوفسطيقا وهو معرفة المــغالطة.
والثالث العلوم الطبيعية وهي سبعة أنواع:
الأول: عــلم المــبادئ وهو: معرفة خمسة أشياء لا ينفك عنها جسم وهي: الهيولى والصورة والزمان والمــكان والحركة.
الثاني: عــلم السماء والعالم وما فيه.
الثالث: عــلم الكون والفساد.
الرابع: عــلم حوادث الجو.
الخامس: عــلم المــعادن.
السادس: عــلم النبات.
السابع: عــلم الحيوان ويدخل فيه عــلم الطب وفروعه.
الرابع: العلوم الإلهية وهي خمسة أنواع:
الأول: عــلم الواجب وصفته.
الثاني: عــلم الروحانيات وهي معرفة الجواهر البسيطة العقلية الفعالة التي هي المــلائكة.
الثالث: العلوم النفسانية وهي معرفة النفوس المــتجسدة والأرواح السارية في الأجسام الفلكية والطبيعية من الفلك المــحيط إلى مركز الأرض.
الرابع: عــلم السياسات وهي خمسة أنواع:
الأول: عــلم سياسة النبوة.
الثاني: عــلم سياسة المــلك وتحته الفلاحة والرعايا وهو الأول المــحتاج إليه في أول الأمر لتأسيس المــدن.
الثالث: عــلم قود الجيش ومكائد الحرب والبيطرة والبيزرة وآداب المــلوك.
الرابع: العــلم المــدني كعــلم سياسة العامة وعــلم سياسة الخاصة وهي سياسة المــنزل.
الخامس: عــلم سياسة الذات وهو عــلم الأخلاق.
فصل في إبطال الفلسفة وفساد منتحلها
من كلام ابن خلدون رحمه الله وهذا الفصل مهم لأن هذه العلوم عارضة في العمران كثيرة في المــدن وضررها في الدين كثير فوجب أن يصدع بشأنها ويكشف عن المــعتقد الحق فيها وذلك أن قوما من عقلاء النوع الإنساني زعموا أن الوجود كله الحسي منه وما وراء الحسي تدرك ذواته وأحواله بأسبابها وعلل بالأنظار الفكرية والأقيسة العقلية وإن تصحيح العقائد الإيمانية من قبل النظر لا من جهة السمع فإنها بعض من مدارك العقل وهؤلاء يسمون فلاسفة جمع فيلسوف وهو باللسان اليوناني محب الحكمة فبحثوا عن ذلك وشمروا له وحوموا على إصابة الغرض منه ووضعوا قانونا يهتدي به العقل في نظره إلى التمييز بين الحق والباطل وسموه بالمــنطق.
ومحصل ذلك أن النظر الذي يفيد تمييز الحق من الباطل إنما هو للذهن في المــعاني المــنتزعة من المــوجودات الشخصية فيجرد منها أولا صورا منطبقة على جميع الأشخاص كما ينطبق الطابع على جميع النقوش التي ترسمها في طين أو شمع وهذه المــجردة من المــحسوسات تسمى المــعقولات الأوائل؛ ثم تجرد من تلك المــعاني الكلية إذا كانت مشتركة مع معاني أخرى وقد تميزت عنها في الذهن فتجرد منها معاني أخرى وهي التي اشتركت بها ثم تجرد ثانيا أن شاركها غيرها وثالثا إلى أن ينتهي التجريد إلى المــعاني البسيطة الكلية المــنطبقة على جميع المــعاني والأشخاص ولا يكون منها تجريد بعد هذا وهي الأجناس العالية.
وهذه المــجردات كلها من غير المــحسوسات هي من حيث تأليف بعضها مع بعض لتحصيل العلوم منها تسمى المــعقولات الثواني.
فإذا نظر الفكر في هذه المــعقولات المــجردة وطلب تصور الوجود كما هو فلا بد للذهن من إضافة بعضها إلى بعض ونفي بعضها عن بعض بالبرهان العقلي اليقيني ليحصل تصور الوجود تصورا صحيحا مطابقا إذا كان ذلك بقانون صحيح كما مر وصنف التصديق الذي هو تلك الإضافة والحكم متقدم عندهم على صنف التصور في النهاية والتصور متقدم عليه في البداية والتعليم لأن التصور التام عندهم هو غاية لطلب الإدراك وإنما التصديق وسيلة له وما تسمعه في كتب المــنطقيين من تقدم التصور وتوقف التصديق عليه فبمعنى الشعور لا بمعنى العــلم التام وهذا هو مذهب كبيرهم أرسطو.
ثم يزعمون أن السعادة في إدراك المــوجودات كلها في الحس وما وراء الحس بهذا النظر وتلك البراهين.
وحاصل مداركهم في الوجود على الجملة وما آلت إليه وهو الذي فرعوا عليه قضايا أنظارهم أنهم عثروا أولا على الجسم السفلي بحكم الشهود والحس.
ثم ترقى إدراكهم قليلا فشعروا بوجود النفس من قبل الحركة والحس والحيوانات ثم أحسوا من قوى النفس بسلطان العقل ووقف إدراكهم فقضوا على الجسم العالي السماوي بنحو من القضاء على أمر الذات الإنسانية ووجب عندهم أن يكون للفلك نفس وعقل كما للإنسان.
ثم أنهوا ذلك نهاية عدد الآحاد وهي العشر تسع مفصلة ذواتها جمل واحد أول مفرد وهو العاشر ويزعمون أن السعادة في إدراك الوجود على هذا النحو من القضاء مع تهذيب النفس وتخلقها بالقضاء وإن ذلك ممكن للإنسان ولو لم يرد شرع لتمييزه بين الفضيلة والرذيلة من الأفعال بمقتضى عقله ونظره وميله إلى المــحمود منها واجتنابه لــلمــذموم بفطرته وذلك إذا حصل للنفس حصلت لها البهجة واللذة وإن الجهل بذلك هو الشقاء السرمدي وهذا عندهم هو معنى النعيم والعذاب في الآخرة إلى خبط لهم في تفاصيل ذلك معروف من كــلمــاتهم.
وأمام هذه المــذاهب الذي حصل مسائلها ودون عــلمــها وسطر حجاجها فيما بلغنا في هذه الأحقاب هو أرسطو المــقدوني من أهل مقدونية من بلاد الروم من تلاميذ أفلاطون وهو معــلم الإسكندر1 ويسمونه المــعــلم الأول على الإطلاق ويعنون معــلم صناعة المــنطق إذ لم تكن قبله مهذبة وهو أول من رتب قانونها واستوفى مسائلها وأحسن بسطها ولقد أحسن في ذلك القانون ما شاء لو تكفل له بقصدهم في الإلهيات.
ثم كان من بعده في الإسلام من أخذ بتلك المــذاهب واتبع فيها رأيه حذو النعل بالنعل إلا في القليل وذلك أن كتب أولئك المــتقدمين لمــا ترجمها الخلفاء من بني العباس من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي تصفحها كثير من أهل المــلة وأخذ من مذاهبهم من أضله الله من منتحلي العلوم وجادلوا عنها واختلفوا في مسائل من تفاريعها.
وكان من أشهرهم أبو نصر الفارابي في المــائة الرابعة لعهد سيف الدولة. أبو علي بن سينا في المــائة الخامسة لعهد نظام المــلك من بني بويه بأصبهان وغيرهما.
واعــلم: إن هذا الرأي الذي ذهبوا إليه باطل بجميع وجوهه فأما إسنادهم المــوجودات كلها إلى العقل الأول واكتفائهم به في الترقي إلى الواجب فهو قصور عما وراء ذلك من رتب خلق الله فالوجود أوسع نطاقا من ذلك ويخلق ما لا تعــلمــون وكأنهم في اقتصارهم على إثبات العقل فقط والغفلة عما وراءه بمثابة الطبيعيين المــقتصرين على إثبات الأجسام خاصة المــعرضين عن النقل والعقل المــعتقدين أنه ليس وراء الجسم في حكمة الله شيء.
وأما البراهين التي يزعمونها على مدعياتهم في المــوجودات ويعرضوا على مغيار المــنطق وقانونه فهي قاصرة وغير وافية بالغرض.
أما ما كان منها في المــوجودات الجسمانية ويسمونه العــلم الطبيعي فوجه قصوره أن المــطابقة بين تلك النتائج الذهنية التي تستخرج بالحدود والأقيسة كما في زعمهم وبين ما في الخارج غير يقينية لأن تلك أحكام ذهنية كلية عامة والمــوجودات الخارجية متشخصة بموادها ولعل في المــواد ما يمنع من مطابقة الذهني الكلي للخارجي الشخصي اللهم إلا ما يشهدوا له الحس من ذلك فدليله شهوده لا تلك البراهين فأين اليقين الذي يجدونه فيها وربما يكون تصرف الذهن أيضا في المــعقولات الأول المــطابقة للشخصيات بالصور الخيالية لا في المــعقولات الثواني التي تجريدها في الرتبة الثانية فيكون الحكم حينئذ يقينيا بمثابة المــحسوسات إذ المــعقولات الأول أقرب إلى مطابقة الخارج لكمال الانطباق فيها فنســلم لهم حينئذ دعاويهم في ذلك إلا أنه ينبغي لنا الإعراض عن النظر فيها إذ هو من ترك المــســلم لمــا لا يعنيه فإن مسائل الطبيعيات لا تهمنا في ديننا ولا معاشنا فوجب علينا تركها.
وأما ما كان منها في المــوجودات التي وراء الحس وهي الروحانيات ويسمونه العــلم الإلهي وعــلم ما بعد الطبيعة فإن ذواتها مجهولة رأسا ولا يمكن التوصل إليها ولا البرهان عليها لأن تجريد المــعقولات من المــوجودات الخارجية الشخصية إنما هو ممكن فيما هو مدرك لها ونحن لا ندرك الذوات الروحانية حتى نجرد منها ماهيات أخرى بحجاب الحس بيننا وبينها فلا يتأتى لنا برهان عليها ولا مدرك لنا في إثبات وجودها على الجملة إلا ما نجده بين جنبينا من أمر النفس الإنسانية وأحوال مداركها وخصوصا في الرؤيا التي هي وجدانية لكل أحد وما وراء ذلك من حقيقتها وصفاتها فأمر غامض لا سبيل إلى الوقوف عليه وقد صرح بذلك محققوهم حيث ذهبوا إلى أن ما لا مادة له لا يمكن البرهان عليه لأن مقدمات البرهان من شرطها أن تكون ذاتية.
وقال كبيرهم أفلاطون: إن الإلهيات لا يوصل فيها إلى يقين وإنما يقال فيها بالأحق الأولى يعني الظن وإذا كنا إنما نحصل بعد التعب والنصب على الظن فقط فيكفينا الظن الذي كان أولا فأي فائدة لهذه العلوم والاشتغال بها ونحن إنما عنايتنا بتحصيل اليقين فيما وراء الحسن من المــوجودات على ما هي عليه بتلك البراهين فقول مزيف مردود وتفسيره أن الإنسان مركب من جزئين.
أحدهما: جسماني والآخر روحاني ممتزج به ولكل واحد من الجزئين مدارك مختصة به والمــدرك فيهما واحد وهو الجزء الروحاني يدرك تارة مدارك روحانية وتارة مدارك جسمانية إلا أن المــدارك الروحانية يدركها بذاته بغير واسطة والمــدارك الجسمانية بواسطة آلات الجسم من الدماغ والحواس وكل مدرك فله ابتهاج بما يدركه واعتبره بحال الصبي في أول مداركه الجسمانية التي هي بواسطة كيف يبتهج بما يبصره من الضوء وبما يسمعه من الأصوات فلا شك أن الاتبهاج بالإدراك الذي للنفس من ذاتها بغير واسطة يكون أشد وألذ فالنفس الروحانية إذا شعرت بإدراكها الذي لها من ذاتها بغير واسطة حصل لها ابتهاج ولذة لا يعبر عنها وهذا الإدراك لا يحصل بنظر ولا عــلم وإنما يحصل بكشف حجاب الحس ونسيان المــدارك الجسمانية بالجملة والمــتصوفة كثيرا ما يعنون بحصول هذا الإدراك للنفس حصول هذه البهجة فيحاولون بالرياضة أمانة القوى الجسمانية ومداركها حتى الفكر من الدماغ ليحصل للنفس إدراكها الذي لها من ذاتها عند زوال الشواغب والمــوانع الجسمانية فيحصل لهم بهجة ولذة لا يعبر عنها وهذا الذي زعموه بتقدير صحته مســلم لهم وهو مع ذلك غير واف بمقصودهم.
فأما قولهم إن البراهين والأدلة العقلية محصلة لهذا النوع من الإدراك والابتهاج عنه فباطل كما رأيته إذ البراهين والأدلة من جملة المــدارك الجسمانية لأنها بالقوى الدماغية من الخيال والفكر والذكر ونحن أول شيء نعني به في تحصيل هذا الإدراك إماتة هذه القوى الدماغية كلها لأنها منازعة له فادحة فيه وتجد المــاهر منهم عاكفا على كتاب الشفاء والإشارات والنجاة وتلاخيص ابن رشد للقص من تأليف أرسطو وغيره يبعثر أوراقها ويتوثق من براهينها ويلتمس هذا القسط من السعادة فيها ولا يعــلم أنه يستكثر بذلك المــوانع عنها ومستندهم في ذلك ما ينقلونه عن أرسطو والفارابي وابن سينا أن من حصل له إدراك العقل الفعال واتصل به في حياته فقد حصل حظه من هذه السعادة والعقل الفعال عندهم عبارة عن أول رتبة ينكشف عنها الحس من رتب الروحانيات ويحملون الاتصال بالعقل الفعال على الإدراك العــلمــي وقد رأيت فساده.
وإنما يعني أرسطو وأصحابه بذلك الاتصال والإدراك إدراك النفس الذي لها من ذاتها وبغير واسطة وهو لا يحصل إلا بكشف حجاب الحس.
وأما قولهم إن البهجة الناشئة عن هذا الإدراك هي عين السعادة المــوعود بها فباطل أيضا لأنا إنما تبين لنا بما قرروه إن وراء الحس مدركا آخر للنفس من غير واسطة وإنها تبتهج بإدراكها ذلك ابتهاجا شديدا وذلك لا يعين لنا أنه عين السعادة الأخروية ولا بد بل هي من جملة المــلاذ التي لتلك السعادة.
وأما قولهم أن السعادة في إدراك هذه المــوجودات على ما هي عليه فقول باطل مبني على ما كنا قدمناه في أصل التوحيد من الأوهام والأغلاط في أن الوجود عند كل مدرك منحصر في مداركه وبينا فساد ذلك وأن الوجود أوسع من أن يحاط به أو يستوفي إدراكه بجمله روحانيا أو جسمانيا والذي يحصل من جميع ما قررناه من مذاهبهم أن الجزء الروحاني إذا فارق القوى الجسمانية أدرك إدراكا ذاتيا له مختصا بصنف من المــدارك وهي المــوجودات التي أحاط بها عــلمــنا وليس بعام الإدراك في المــوجودات كلها إذ لم تنحصر وأنه يبتهج بذلك النحو من الإدراك ابتهاجا شديدا كما يبتهج الصبي بمداركه الحسية في أول نشرة ومن لنا بعد ذلك بإدراك جميع المــوجودات أو بحصول السعادة التي وعدنا به الشارع إن لم نعمل لها هيهات هيهات لمــا توعدون.
وأما قولهم إن الإنسان مستقل بتهذيب نفسه وإصلاحها بملابسة المــحمود من الخلق ومجانبة المــذموم فأمر مبني على أن ابتهاج النفس بإدراكها الذي لها من ذاتها هو عين السعادة المــوعود بها لأن الرذائل عائقة للنفس عن تمام إدراكها ذلك بما يحصل لها من المــلكات الجسمانية والروحانية فهذا التهذيب الذي توصولنا إلى معرفته إنما نفعه في البهجة الناشئة عن الإدراك الروحاني فقط الذي هو على مقاييس وقوانين.
وأما ما وراء ذلك من السعادة التي وعدنا به الشارع على امتثال ما أمر به من الأعمال والأخلاق فأملا يحيط به مدارك المــدركين وقد تنبه لذلك زعميهم أبو علي بن سينا فقال في كتاب المــبدأ والمــعاد ما معناه أن المــعاد الروحاني وأحواله هو مما يتوصل إليه بالبراهين العقلية والمــقاييس لأنه على نسبة طبيعية محفوظة ووتيرة واحدة قلنا في البراهين عليه سعة.
وأما المــعاد الجسماني أحواله فلا يمكننا إدراكه بالبرهان لأنه ليس على نسبة واحدة وقد بسطته لنا الشريعة الحقة المــحمدية فلينظر فيها ولنرجع في أحواله إليها فهذا العــلم كما رأيته غير واف بمقاصدهم التي حوموا عليها مع ما فيه من مخالفة الشرائع وظواهرها وليس له فيما عــلمــنا إلا ثمرة واحدة وهي شحذ الذهن في ترتيب الأدلة والحجاج لتحصيل ملكة الجودة والصواب في البراهين وذلك أن نظم المــقاييس وتركيبها على وجه الإحكام والإتقان هو كما شرطوه في صناعتهم المــنطقية وقولهم بذلك في علومهم الطبيعية وهم كثيرا ما يستعــلمــونها في علومهم الحكمية من الطبيعيات والتعاليم وما بعدها فيستولي الناظر فيها بكثرة استعمال البراهين بشروطها على ملكه الإتقان والصواب في الحجاج والاستدلالات لأنها وإن كانت غير وافية بمقصودهم هم فهي أصح ما عــلمــناه من قوانين الأنظار.
هذه هي ثمرة هذه الصناعة مع الاطلاع على مذاهب أهل العــلم وآرائهم ومضارها ما عــلمــت فليكن الناظر فيها متحرزا جهده من معاطيها فليكن نظر من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات والإطلاع على التفسير والفقه ولا يكبن أحد عليها وهو خلو عن علوم المــلة فقل أن يســلم لذلك من معاطيها والله المــوفق للصواب وللحق والهادي إليه وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
قال الغزالي في الإحياء: الفلسفة ليست عــلمــا برأسها بل هي أربعة أجزاء.
أحدها: الهندسة والحساب وهما مباحان ولا يمنع عنهما إلا من يخاف عليه أن يتجاوز بهما إلى علوم مذمومة فإن أكثر المــمارسين لهما قد خرجوا منهما إلى البدع فيصان الضعيف عنهما لا لعينهما خوفا عليه من أن القوي يندب إلى مخالطتهم.
قال الثاني: المــنطق وهو بحث عن وجه الدليل وشروطه ووجه الحد وشروطه وهما داخلان في عــلم الكلام.
الثالث: الإلهيات وهو بحث عن ذات الله تعالى وصفاته وهو داخل في الكلام أيضا والفلاسفة لم ينفردوا فيها بنمط آخر من العــلم بل انفرد بمذاهب بعضها كفر وبعضها بدعة.
الرابع: الطبيعيات بعضها مخالف للشرع والدين الحق فهو جهل وليس بعــلم حتى يورد في أقسام العلوم وبعضها بحث عن صفات الأجسام وخواصها وكيفية استحالتها وتغييرها وهو شبيه بنظر الأطباء ولا حاجة إليها وإنما حدث ذلك بحدوث البدع إلى آخر ما قال والله أعــلم.

سلَّم

ســلَّم: سَــلَّم: أول ما يقوله الخطيب والواعظ حين يكون على المــنبر (مملوك 2، 2: 72) أي ان يقول لــلمــستمعين السلام عليكم (ابن جبير ص47).
سَــلَّم: ما يقوله المــؤذن بعد الأذان (ألف ليلة 1: 246).
سَــلَّم من صلاته: خرج من الصلاة بقوله: السلام عليكم ويقال: ســلَّم الإمام (ابن بطوطة 1: 211) كما يقال: ســلم المــصلي الذي يصلي في بيته (رياض النفوس ص101 ق).
سَــلَّم: أوصل البضاعة وأعطاها (أماري ديب ص186، 188، فاندنبرج ص12).
سَــلَّم نَفْسَه: خضع، أذعن، استســلم (بوشر).
سَــلّم لأحد حَقّه: تخلَّى له عنه وتركه له (بوشر).
وســلّم في: تخلى عنه وتركه (زيشر 9: 564 رقم 26، 18: 324) وســلّم له في: سمح له بالتصرف في والتمتع بدخله. انظر مثالاً له في مادة حلال.
سَــلَّم بمعنى اعترف بصحته، يقال مثلاً: أراه عدة عبارات فيها خطأ فســلمــها الآخر أي اعترف بأنها خطأ وصححها (المــقري 1: 599).
سَــلَّم له في اختباره: أقْر له حسن اختياره في كتابه (المــقري 1: 679).
سَــلَّم: أذعن، خضع (همبرت ص145) سَــلَّم: اودع، وضع مبلغاً من المــال وديعة وأمانة.
ويقال: ســلَّمــه شيئاً بمعنى أودع لديه شيئاً وديعة وأمانة (بوشر).
سَــلَّم في حاصل: خزن الحاصل، وهو من مصطلح التجارة أي أودعه المــخزن وأوصله إليه (بوشر).
ســلَّم: وصّى، أوصى، عهد، كلَّف (الكالا).
ســلَّم: أبرأ، أسا، شفى، خلصه من المــرض (الكالا).
في معجم الكالا: guarmecer a otro التي يجب أن تقرأ guarecer a otro ويمكن أن يعني هذا ســلَّم وأوجب لأكثر مزايد وآخر مزايد، ويمكن أن يعني: باع بحكم القضاء أموال المــدين ليدفع للدائنين.
سَــلَّمِــوا عِنْد شروط المــنُاظرة: حافظوا على شروط المــناظرة وامتثلوا لها! (كرتاس ص112).
ســلّم تمك: أحسنت القول، لا فض فوك.
وهو تحريف واختصار الله يســلم (بوشر) ســلّم دياتك: أحسنت صنعاً مرحى (ديات تحريف ايديات جمع يد) وتعني أيضاً: شكراً لك، وتقال لمــن يقدم إليك شيئاً، والجواب: ودياتك (بوشر سورية).
ســلَّم كلباً (في لعبة طاب): جعل كلباً مُسَــلِمّــاً (انظر لين عادات 2: 61).
سالم: صالح (فوك).
أســلم. أســلم نَفْسه في السوق: صار تاجراً (عبد الواحد ص112) وفي تاريخ ما قبل الإسلام لأبي الفداء: أســلمــه عند المــنذر ليربيه، أي عهد إلى المــنذر تربية ابنه.
تســلَّم: تصرف، دبَّر، ساس. ففي طرائف دي ساسي (2: 178) موضوع أمير جاندار التســلَّم لباب السلطان ولرتبة البرددارية وطوائف الركابية الخ.
وفي الجريدة الآسيوية (1839، 2: 165) عبيدهم المــتســلمــون عمارتهم أي عبيدهم المــدبرون عمارة الأرض. قارن هذا بمتســلم فيما يلي.
سَــلَّم أسير. ويطلق على الذكر والمــؤنث والمــفرد والجمع (معجم البلاذري).
سَــلَم: نوع من الشحر (انظر لين) واحدته سَــلَمَــة وجمعه ســلمــات (ديوان الهذليين، البيت 19 ص178) ويقول بركهارت (نوبية ص 172، 173، 184) وهو يكتبها سِــلَّم إنها صنف من الاقاقيا (الأكاسيا) ومن خشبها الصلب تصنع الرماح. وهو يذكر اسم الوحدة ويكتبها سِــلَّمــة بمعنى عصا.
ســلمــى. كسب على الســلمــي: كسب دون أن يلاعب (بوشر).
سَــلْمــون (أسبانية): حوت سليمان، صومون. الكالا، القزويني 2: 396).
سَلاَم. سلام وســلم: تنقش على النقود وتعني إنها تامة الوزن (زيشر 9: 833) السلام: قول الإمام السلام عليكم ورحمة الله عند خروجه من الصلاة (الادريسي ص393).
السلام: نداء المــؤذن الثاني في ليالي شهر رمضان بعد نصف ساعة من منتصف الليل (لين عادات 2: 224) السلام عليكم: أبوس إيدك للاستهزاء والسخرية بمعنى لا أريد (بوشر).
والسلام: كفى انتهى انقضى (فوك).
يا سلام: الأمان! العفو! (بوشر).
بلَّغ السلام: أوصى به: شفع فيه (الكالا).
السلام في قسطنطينية: الرواق الكائن بين طبقة البيت السفلى (أرضية) وبين الطابق الأول (الجريدة الأسيوية، 1851، 1: 55 وتعليقه رقم 80) ففي الجريدة الأسيوية 1852، 2: 211) تُقف بالسلام من قصبة البلد.
سَلَيم: صحيح البنية، قوي، متين وسَوِي - مريء - غير خطر، هيّن (بوشر) سلامة، أمره على السلامة، معروف بأنه جرئ (محمد بن الحارث ص306) سَلاَمة: سِــلْم، سَلام، صلح. ففي كرتاس (ص155): يسألونه سلامته ويطلبون منه عفوه.
وهي مرادف صلح وفي (1: 13) منه: يطلب صلحه ويسئل منه عفوه.
سلامة: رقة، رفق، رأفة، دماثة، سماحة، لطف، طيبة، حــلم (بوشر).
سلامة: مراءة، ملاءمة للصحة، عذاوة (بوشر).
مية سلامة: أهلا وسهلا: مرحبا بك! وكذلك: سلامات (بوشر) سلامة عَقْلِك: اختصار حفظ الله لك عقلك ففي ألف ليلة (1: 841): فسلامة شبابك وسلامة عقلك الرجيح، ولسانك الفصيح. ويلاحظ شيخ لين فيقول أن جملة حفظ الله لك شبابك ليس في موضعها في كلام الوزير (ترجمة لين ألف ليلة 2: 226 رقم45) لأنها من لغة النساء، ففي برسل (4: 175): سلامة جاريتي، أي الله يحفظ جاريتي.
سَلامة: ربا: ونجد مثالين لها في مادة حلال.
سَلاَمي: يهودي اعتنق الإسلام (بوشر بربرية وهي تصحيف إسلاَمي.
سليمى: شالبية، قُويْسة، الناعمة، فعند أبي الجزار: السليمي هي الشالبية الصخرية أي سالفية سُلَيْمانّي: في تحفة إخوان الصفا التي ينقل منها فريتاج: ولنا بعد ذلك ألوان الاشربة من الخمر والبنية والقارص والفقاع والسليماني والجلاب.
السُكَّر السليماني: يذكر ابن جزلة كثيراً من المــعلومات عن الخصائص الطبية وفوائد هذا الصنف من السكرّ غير إنه لا يخبرنا لم أطلق عليه هذا الاسم. ولا أريد الآن أن أدافع عن الرأي الذي أعلنته في معجم الادريسي في هذا المــوضوع. وقد أطلق عليه هذا الاسم أيضاً المــيداني في تعليقات تاريخية على أبي الفداء (تاريخ 1: 112) لرايسكه.
سليماني: ساماني، يقال: حصير سليماني (انظر سامان).
سليماني: تحريف سبليماتن. يقول سنج: كانوا يطلقون هذا الاسم فيما مضى على خليط من حامض الزرنيخ (اوكسيد الزرنيخ الأبيض، الزرنيخ الأبيض أو سمّ الفار) ومن الزئبق مصعدين.
ويطلق اسم سليماني اليوم على كلورور الزئبق وهو الكالوميل أو الزئبق الحلو وعلى المــصعد الأكال أي الزرنيخ (دومب ص102 وهو فيه بالشين، برجون ص813) والمــصعد الاكال (بوشر).
سُــلَّم. ســلم للعَذاب: هو في المــعجم اللاتيني العربي كاتاستا catasta وهو نوع من سور الحديد أو السلالم يربط عليه المــجرم الذي يراد إحراقه.
(انظر دوكانج).
سُــلُّم = سُــلَّم: درج (بوشر، فوك القسم الأول).
ســلمّــة: درجة، إحدى درجات الســلم (بوشر).
سُلَّوم: سُــلَّم، درج (فوك القسم الثاني، دومب ص91).
سالِم، جرح سالم: جرح خفيف (بوشر).
اعطيك بدلها مائتي دينار سالمــة ليدك خارجاً عن الضمان وحق السلطان (ألف ليلة 1: 419) ومعنى الضمان وحق السلطان (ألف ليلة 1: 419) ومعنى سالمــة ليدك هبة دون مصاريف.
وكذلك في ألف ليلة (4: 288، 289).
سالمــة: شالبية، ناعمة، الاسفاقس (فوك، الكالا) اسمها العــلمــي: salvia yerva concida ( دومب ص72) وفي المــستعيني انظر اشفاقس في مخطوطة ن فقط: ويعرف أيضاً بالسالمــة.
(كاشف الرموز لعبد الرزاق الجزيري ص40) وفي ياجني (مخطوطات): سَــلْم، وعند دسكرياك سالم نبات ترعاه الإبل.
سالِمــة: حمى دماغية (شيرب).
اســلمــي وجمعه أسالِمَــة: نصراني اعتنق الإسلام (مملوك 2، 2: 67).
إسلام. الإسلام: لا يعني أهل الإسلام فقط (لين) بل بلاد الإسلام أيضاً (المــقري 1: 92) وفي طبعة بولاق: بلاد الإسلام (أماري ص3).
إسْلامِي: يهودي اعتنق الإسلام (هوست ص147) وفي كتاب ابن صاحب الصلاة (ص25 ق): اليهود الإسلاميون الذين اســلمــوا على كره.
تَسْليِم: اتباع رأي الآخرين (المــقدمة 1: 39) تسليمات: تحيات، احترامات (بوشر).
تسليمة: ففي كرتاس (ص180): وأخذ في الاجتهاد فيقطع الليل قائماً يختم القرآن في تسليمة واحدة.
وترى أن هذه تعني في مرة واحدة، غير أني لم أدرك المــعنى الدقيق لها.
مُسْــلِم: في لعبة طاب انظر لين (عادات 2: 61).
مســلمــة: الحديث عهد بالإسلام (المــقدمة 2: 179، تاريخ البربر 1، 153، مملوك 2، 2: 66) وقد أخطأ كاترمير حين غير الكــلمــة فيه. مُسَــلَّم: سالم من العيوب (معجم الطرائف) مَسْــلِمــاني: حديث عهد بالإسلام (مملوك 2، 2: 67، البكري ص178) المُــسالِمَــة: مبلغ المــال الذي يدفع سنوياً في سبيل استقرار السلام (معجم البلاذري) المــسُالِمَــة: الحديثو عهد بالإسلام من النصارى واليهود الذين اعتنقوا الإسلام (مملوك 2، 2: 66) وفيه ضبط كاترمير المــيم الأول بالفتحة وهو خطأ، فالضمة موجودة في المــخطوطة النفيسة لكتاب محمد بن الحارث، ففيه (ص212): وهو من أبناء المُــسالمــة. وفي كتاب ابن القوطية (ص37 ق) في كلامه عن عمر بن حفصون: وكان أبوه من مسالمــة أهل الذمة. وفي حيان (ص38 و) وتحزبت المــسالمــة مع المــولدين.
وفيه (ص41 و) أهل حاضرة البيرة الذين دعوتهم لــلمــولدين والمــسالمــة، وفيه (ص49 و): فتعصب على المــولدين والمــسالمــة.
متســلم: متصرف، حاكم المــدينة وهو الباشا ونائب الحاكم (بوشر، زيشر ص41، باشاليق ص32، 82، براون 2: 290، 294، بكنجهام 1: 115) قد أخطأ روجر في كتابتها فهو يقول: في (ص279): المُــسالمــة والصُباحية من قضاة الدرجة السفلى وهم من قضاة القلاع والمــوانئ ويقول ستوشوف (ص355) في كلامه عن أورشليم: ودخل الحاكم الكبير فيها وهو سنجق باي ويسمونه مُسالم وهو يشرف على الأسلحة كما إنه حاكم المــدينة.
مستســلم: رئيس الكتاب الذي ينظم حسابات المــسجد في المــدينة (برتون 1: 356)

العالم

العالم: لغة: ما يعــلم به الشيء. وعرفا: كل ما سوى الله من المــوجودات لأنه تعالى يعــلم به من حيث أسماؤه وصفاته. والعالم عالمــان: كبير وهو الفلك وما حواه من جوهر وعرض، وصغير وهو الإنسان لأنه مخلوق على هيئة العالم، وأوجد الله فيه كل ما أوجده في العالم الكبير.
العالم:
[في الانكليزية] worle ،universe ،cosmos
[ في الفرنسية] monde ،unirers ،cosmos
بفتح اللام في اللغة اسم لمــا يعــلم به شيء مشتقّ من العــلم والعلامة على الأظهر، كخاتم لمــا يختم به وطابع لمــا يطبع به، ثم غلب في الاستعمال فيما يعــلم به الصانع وهو ما سوى الله تعالى من المــوجودات أي المــخلوقات، جوهرا كان أو عرضا لأنّها لإمكانها وافتقارها إلى مؤثّر واجب لذاته تدلّ على وجوده، فخرجت صفات الله تعالى لأنّها قديمة غير مخلوقة. فعلى هذا كلّ موجود عالم لأنّه مما يعــلم به الصانع ولذا جمع على عوالم وجمعه على عالمــين وعالمــون باعتبار أنّه غلب على العقلاء منها. وقيل العالم اسم وضع لذوي العلوم من المــلائكة والثّقلين أي الجنّ والإنس، وتناوله الغير على سبيل الاستتباع. وقد يطلق على مجموع أجزاء الكون أي على مجموع المــخلوقات من باب تغليب الاسم في معظم أفراد المــسمّى كتغليب اسم القرآن في مجموع أبعاض التنزيل، فإنّه وإن وقع عليه وعلى كلّ بعض من أبعاضه من جهة الوضع بالسّوية، لكنه مستعمل فيه غالبا والتغليب في بعض الأفراد لا يمنع الاستعمال في غيره، هكذا يستفاد من أسرار الفاتحة وشرح القصيدة الفارضية والبرجندي حاشية الچغميني. ثم في البرجندي:
وأما العالم في عرف الحكماء فقال العلّامة في نهاية الإدراك: إنّ العالم اسم لكلّ ما وجوده ليس من ذاته من حيث هو كلّ وينقسم إلى روحاني وجسماني. وقد يقال العالم اسم لجملة المــوجودات الجسمانية من حيث هي جملة هي ما حواه السّطح الظاهر من الفلك الأعلى انتهى. وفي شرح المــواقف: قال الحكماء: لا عالم غير هذا العالم أعني ما يحيط به سطح محدّد الجهات وهو إمّا أعيان أو أعراض انتهى. ويسمّون العناصر وما فيها بالعالم السفلي وعالم الكون والفساد والأفلاك وما فيها عالمــا علويا وأجراما أثيرية. وأفلاطون يسمّي عالم العقل بعالم الربوبية كما في شرح إشراق الحكمة. ويقول في لطائف اللغات: العالم بفتح اللام في اصطلاح الصوفية عبارة عن الظلّ الثاني للحقّ الذي هو الأعيان الخارجية والصّور العــلمــية التي هي عبارة عن الأعيان الثابتة. اعــلم أنّ العوالم وإن لم تنحصر ضرورياتها لامتناع حصر الجزئيات أمكن حصر كلياتها وأصولها الحاصرة كانحصارها في الغيب والشهادة لانقسامها إلى الغائب عن الحسّ والشاهد له. في الإنسان الكامل كلّ عالم ينظر الحقّ سبحانه إليه بالإنسان يسمّى شهادة وجودية، وكلّ عالم ينظر إليه من غير واسطة الإنسان يسمّى غيبا. والغيب على نوعين: غيب جعله الحقّ تعالى مفصلا في عــلم الإنسان، وغيب جعله مجملا في قابلية عــلم الإنسان. فالغيب المــفصّل في العــلم يسمّى غيبا وجوديا، وهو كعالم المــلكوت، والغيب المــجمل في القابلية يسمّى غيبا عدميا وهي كالعوالم التي يعــلمــها الله تعالى ولا نعــلم نحن إيّاها، فهي عندنا بمثابة العدم، فذلك معنى الغيب العدمي. ثم إنّ هذا العالم الدنياوي الذي ينظر إليه بواسطة الإنسان لا يزال شهادة وجودية ما دام الإنسان واسطة نظر الحقّ فيها، فإذا انتقل الإنسان منها نظر الله تعالى إلى العالم الذي انتقل إليه الإنسان بواسطة الإنسان فصار ذلك العالم شهادة وجودية، وصار العالم الدنياوي غيبا عدميا، ويكون وجود العالم الدنياوي حينئذ في العــلم الإلهي كوجود الجنّة والنّار اليوم في عــلمــه سبحانه، فهذا هو عين فناء العالم الدنياوي وعين القيمة الكبرى والساعة العامة انتهى.
وقسم صاحب القصيدة الفارضية الغيب على ثلاثة أقسام وعبّر عنها بالغيب والمــلكوت والجبروت، فترك المــحدثات الغائبة عن الحسّ على اسم الغيب، وعبّر عن الذات القديمة بالجبروت، وعن صفاتها الجسمية بالمــلكوت فرقا بين المــحدث والقديم والذات والصفات.
وفي شرح المــثنوي لمــولانا جلال الدين الرومي:
يقال لمــرتبة الأحدية عالم الغيب أيضا. ويقول في أسرار الفاتحة: العالم في النظرة الأولى مجموع من جزءين هما: الخلق والأمر أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ إذا، صار العالم بمقتضى هذا الاعتبار عالمــين: عالم الخلق وعالم الأمر. ثم في درجة ثانية من التجلي بدا المــلك والمــلكوت، فالمــلك هو تجلّي عالم الخلق والمــلكوت هو تجلّي عالم الأمر. فالمــلك كلّ الخلق خلقه لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ والمــلكوت جملة الأمر بيده. بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ فالعالم إذن بمقتضى هذا الحساب أربعة عوالم. ثم العالم الخامس المــشتمل على هذه الأربعة، وهو سبب اتصال هذه العوالم، وذلك هو عالم الجبروت. انتهى. وفي كشف اللغات عالم الأمر ويقال له عالم المــلكوت وعالم الغيب أيضا. عند المــتصوفة يطلق على عالم وجد بلا مدّة وبلا مادّة مثل العقول والنفوس، كما أنّ الخلق يطلق على عالم وجد بمادّة كالأفلاك والعناصر والمــواليد الثلاثة ويسمّى أيضا بعالم الخلق وعالم المــلك وعالم الشهادة انتهى. ويؤيّده ما قيل عالم الأمر ما لا يدخل تحت المــساحة والمــقدار. وفي شرح المــثنوي: عالم المــلك كناية عن أجسام وأعراض. ويسمّى أيضا عالم الشهادة، وعالم الأجسام. وأمّا عالم المــلكوت فهو حاو للنفوس البشرية والسماوية، ويقال له أيضا عالم المــثال، انتهى. ويقول في مجمع السلوك: إنّ عالم المــلكوت هو عالم الباطن، وعالم المــلك هو عالم الظاهر. ويقول في مكان آخر: المــلكوت هو ما فوق العرش إلى ما تحت الثرى، وما عدا ذلك فهو عالم الجبروت. وعالم الإحسان هو عالم الإيقان بواسطة المــشاهدات وتجلّي الذات والصفات. انتهى. وفي الإنسان الكامل عالم القدس عبارة عن المــعاني الإلهية المــقدّسة عن الأحكام الخلقية والنقائص الكونية. وفي موضع آخر منه عالم القدس هو عالم أسماء الحقّ وصفاته انتهى. وفي كشف اللغات يقول: العالم المــعنوي عند الصوفية عبارة عن الذات والصفات والأسماء، والعالم العلوي هو العالم الأخروي.
وكذلك عالم الأرواح والعالم القدسي، وعالم النسيم هو كرة البخار كما سيأتي. وفي أسرار الفاتحة قد يقسم العالم إلى الكبير والصغير. واختلف في تفسيرهما فقال بعضهم:
العالم الكبير هو ما فوق السموات والصغير هو ما تحتها. وقيل الكبير ملكوت السموات والصغير ملكوت الأرض. وقيل الكبير هو القلب والصغير النفس. والجمهور على أنّ العالم الكبير عبارة عن السموات والأرض وما بينهما والعالم الصغير هو الإنسان. لمــاذا؟ لأنّ كلّ ما في دنيا الخلق هو في عالم الخلق، وكلّ ما هو مجتمع في عالم الخلق والأمر قد اجتمع في ذات الإنسان الذي هو العالم الصغير، لأنّ قالبه من عالم الخلق وروحه من عالم الأمر.
وتفصيل هذا يقتضي الإطناب، فليطلب في أسرار الفاتحة.

علم الميزان

عــلم المــيزان
ويسمى عــلم المــنطق تقدم وإنما سمي بالمــيزان إذ به توزن الحجج والبراهين.
وكان أبو علي يسميه: خادم العلوم إذ ليس مقصودا بنفسه بل هو وسيلة إلى العلوم فهو كخادم لها.
وأبو نصر يسميه: رئيس العلوم لنفاذ حكمه فيها فيكون رئيسا حاكما عليها وإنما سمي بالمــنطق لأن النطق يطلق على اللفظ وعلى إدراك الكليات وعلى النفس الناطقة.
ولمــا كان هذا الفن يقوي الأول ويسلك بالثاني مسلك السداد ويحصل بسببه كمالات الثالث اشتق له اسم منه وهو المــنطق.
وهو: عــلم بقوانين تفيد معرفة طرق الانتقال من المــعلومات إلى المــجهولات وشرائطها بحيث لا يعرض الغلط في الفكر.
والمــعلومات: تتناول الضرورية والنظرية.
والمــجهولات: تتناول التصورية والتصديقية وهذا أولى مما ذكره صاحب الكشف تفيد معرفة طرق الانتقال من الضروريات إلى النظريات لأنه يوهم بالانتقال الذاتي عــلم ما يتبادر من العبارة والمــراد الأعم من أن يكون بالذات أو بالواسطة.
وأما احترازاته: فقد ذكرها صاحب كشاف اصطلاحات الفنون وليس إيرادها ههنا من غرضنا في هذا الكتاب.
والمــنطق من العلوم الآلية لأن المــقصود منه تحصيل المــجهول من المــعلوم ولذا قيل: الغرض من تدوينه العلوم الحكمية فهو في نفسه غير مقصود ولذا قيل المــنطق آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر.
وموضوعه: التصورات والتصديقات أي: المــعلومات التصورية والتصديقية لأن بحث المــنطقي عن أعراضها الذاتية فإنه يبحث عن التصورات من حيث إنها توصل إلى تصور مجهول إيصالا قريبا أي بلا واسطة كالحد والرسم أو إيصالا بعيدا ككونها كلية وجزئية وذاتية وعرضية ونحوها فإن مجرد أمر من هذه الأمور لا يوصل إلى التصور ما لم ينضم إليه آخر يحصل منها حد أو رسم.
ويبحث عن التصديقات من حيث أنها توصل إلى تصديق مجهول إيصالا قريبا كالقياس والاستقراء والتمثيل أو بعيد ككونها قضية وعكس قضية ونقيضها فإنها ما لم تنضم إليه ضميمة لا توصل إلى التصديق.
ويبحث عن التصورات من حيث أنها توصل إلى التصديق إيصالا أبعد ككونها موضوعات ومحمولات ولا خفاء في أن إيصال التصورات والتصديقات إلى المــطالب قريبا أو بعيدا من العوارض الذاتية لها فتكون هي موضوع المــنطق.
وذهب أهل التحقيق إلى أن موضوعه المــعقولات الثانية لا من حيث إنها ما هي في أنفسها ولا من حيث أنها موجودة في الذهن فإن ذلك وظيفة فلسفية بل من حيث أنها توصل إلى المــجهول أو يكون لها نفع في الإيصال.
فإن المــفهوم الكلي إذا وجد في الذهن وقيس إلى ما تحته من الجزئيات فباعتبار دخوله في ماهياتها يعرض له الذاتية وباعتبار خروجه عنها العرضية وباعتبار كونه نفس ماهياتها النوعية وما عرض له الذاتية جنس باعتبار اختلاف أفراده وفصل باعتبار آخر وكذلك ما عرض له العرضية إما خاصة أو عرض عام باعتبارين مختلفين.
وإذا ركبت الذاتيات والعرضيات إما منفردة أو مختلطة على وجوه مختلفة عرض لذلك المــركب الحدية والرسمية ولا شك أن هذه المــعاني أعني كون المــفهوم الكلي ذاتيا أو عرضيا أو نوعا ونحو ذلك ليست من المــوجودات الخارجية بل هي مما يعرض للطبائع الكلية إذا وجدت في الأذهان وكذا الحال في كون القضية حملية أو شرطية وكون الحجة قياسا أو استقراء أو تمثيلا فإنها بأسرها عوارض تعرض لطبائع النسب الجزئية في الأذهان إما وحدها أو مأخوذة مع غيرها فهي أي المــعقولات الثانية موضوع المــنطق.
ويبحث المــنطقي عن المــعقولات الثالثة وما بعدها من المــراتب فإنها عوارض ذاتية لــلمــعقولات الثانية فقط.
فالقضية مثلا معقول ثان يبحث عن انقسامها وتناقضها وانعكاسها وإنتاجها إذا ركبت بعضها مع بعض فالانعكاس والإنتاج والانقسام والتناقض معقولات واقعة في الدرجة الثالثة من التعقل وإذا حكم على أحد الأقسام أو أحد المــتناقضين مثلا في المــباحث المــنطقية بشيء كان ذلك الشيء في الدرجة الرابعة من التعقل وعلى هذا القياس.
وقيل: موضوعه الألفاظ من حيث أنها تدل على المــعاني وهو ليس بصحيح لأن نظر المــنطقي ليس إلا في المــعاني ورعاية جانب اللفظ إنما هي بالعرض.
والغرض من المــنطق: التمييز بين الصدق والكذب في الأقوال والخير والشر في الأفعال والحق والباطل في الاعتقادات.
ومنفعته: القدرة على تحصيل العلوم النظرية والعملية.
وأما شرفه: فهو أن بعضه فرض وهو البرهان لأنه لتكميل الذات وبعضه نقل وهو ماسوى البرهان من أقسام القياس، لأنه للخطاب مع الغير ومن أتقن المــنطق فهو على درجة من سائر العلوم، ومن طلب العلوم الغير المــتسقة وهي ما لا يؤمن فيها من الغلط ولا يعــلم المــنطق، فهو كحاطب ليل وكرامد العين لا يقدر على النظر إلى الضوء لا البخل من المــوجد بل لنقصان في الأستعداد والصواب الذي يصدر من غير المــنطقي كرمي من غير رام، وقد يندر لــلمــنطقي خطأ في النوافل دون المــهمات لكنه يمكنه استدراكه بعرضه على القوانين المــنطقية. ومرتبته في القراءة أن يقرأ بعد تهذيب الأخلاق وتقويم الفكر ببعض العلوم الرياضية مع الهندسة والحساب.
وأما الأول: فــلمــا قال أبقراط: البدن ليس بنقي كــلمــا غذوته إنما يزيد شرا ووبالا ألا ترى أن الذين لم يهذبوا أخلاقهم إذا شرعوا في المــنطق سلكوا منهج الضلال وانخرطوا في سلك الجهال وأنفوا أن يكونوا مع الجماعة ويتقلدوا ذل الطاعة فجعلوا الأعمال الطاهرة والأقوال الظاهرة من البدائع التي وردت بها الشرائع وقر آذانهم والحق تحت أقدامهم وأما الثاني: فلتستأنس طبائعهم إلى البرهان كذا في شرح إشراق الحكمة ومؤلف المــنطق ومدونه أرسطو انتهى. ما في كشاف اصطلاحات الفنون.
ولشيخنا الإمام العلامة قاضي القضاة محمد بن علي الشوكاني رسالة في هذا الباب سماه أمنية المــتشوق في حكم المــنطق قال فيها:
الخلاصة في ذلك أنه ذهب إلى لزوم تعــلم المــنطق الغزالي وجماعة.
وذهب إلى تكريهه قوم.
وقال بإباحته جمع جم وصرح بتحريمه جماعة.
قال السيوطي في الحاوي: المــنطق هو: فن خبيث مذموم يحرم الاشتغال به مبني بعض ما فيه على القول بالهيولي الذي هو كفر يجر إلى الفلسفة والزندقة. وليس له ثمرة دينية أصلا بل ولا دنيوية نص على جميع ما ذكرته أئمة الدين وعــلمــاء الشريعة.
فأول من نص على ذلك الإمام الشافعي ونص عليه من أصحابه إمام المــحرمين والغزالي في آخر أمره وابن الصباغ صاحب الشامل وابن القشيري ونصر المــقدسي والعماد بن يونس وحفيده والسلفي وابن بندار وابن عساكر وابن الأثير وابن الصلاح وابن دقيق العيد والبرهان الجعبري وأبو حيان والشرف الدمياطي والذهبي والطيبي والمــلوي والأسنوي والأذرعي والولي العراقي والشرف المــقري قال: وأفتى به شيخنا قاضي القضاة شرف الدين المــناوي.
ونص عليه من أئمة المــالكية ابن أبي زيد صاحب الرسالة والقاضي أبو بكر بن العربي وأبو بكر الطرطوسي وأبو الوليد الباجي وأبو طالب المــكي صاحب قوت القلوب وأبو الحسن بن الحصار وأبو عامر بن الربيع وأبو الحسن بن حبيب وأبو حبيب المــالقي وابن المــنير وابن رشد وابن أبي حمزة وعامة أهل المــغرب.
ونص عليه من الأئمة الحنفية: أبو سعيد السيرافي والسراج القزويني وألف في ذمه كتابا سماه نصيحة المــســلم المــشفق لمــن ابتلى بعــلم المــنطق.
ونصل عليه من أئمة الحنابلة: ابن الجوزي وسعد الدين الحارثي والتقي ابن تيمية وألف في ذمه ونقض قواعده مجلدا كبيرا اسمه نصيحة ذوي الإيمان في الرد على منطق اليونان انتهى كلامه.
ومن عرف معنى الهيولي الذي جعله سببا لتحريم هذا الفن لابتناء بعضه عليه. عــلم أن السيوطي رحمه الله تعالى في هذا الفن ناقة ولا جمل ورجل ولا حمل فهو معذور. وقد قال بقول هؤلاء جماعة من أهل البيت وابن حزم الظاهري قال في الجوهرة: وقد فرط الغزالي وأفرط. وأما تفريطه: فكونه زعم أنه لا حاجة إلى عــلم الكلام.
وأما إفراطه: فلأنه شرط لــلمــجتهد ما لم يشترط أحد من عــلمــاء الإسلام معرفة صناعة المــنطق ولهذا قال المــهدي في أوائل البحر: وأما المــنطق فالمــحققون لا يعدونه لإمكان البرهان دونه يعني لا يعدونه من علوم الاجتهاد.
وفي منهاج القرشي: أن الفلاسفة وضعوا عــلم المــنطق خديعة وتوصلا إلى إبطال مسائل التوحيد لأنهم جعلوا قياس الغائب على الشاهد ظنيا وجميع مسائل التوحيد مبنية عليه فتوصلوا بهذا إلى أن الكلام في إثبات الصانع وصفاته ظني لا يمكن العــلم به وتوصلا إلى إبطال مسائل العدل لأنهم جعلوا الحكم بقبح المــظــلم والكذب ونحو ذلك والحكم بحسن العدل ووجوب رد الوديعة وشكر المــنعم ونحو ذلك أمورا مشهورات مســلمــات ليس فيها إلا ظن ضعيف فلا يحكم الإنسان بقبح الظــلم إلا لرقة قلبه أو الحمية أو لمــحبة التعاون على المــعاش ونحو ذلك
فتوصلوا بذلك إلى إبطال العدل والوعيد والشرائع وتكلفوا للتوصل إلى هذه الخديعة فنا من أدق الفنون والبراهين الحاصلة عن أشكالهم نوع واحد من أنواع العلوم وهو إلحاق التفصيل بالجملة وهو أقل العلوم كلفة وإن لم يكن ضروريا كمن يعــلم أن كل ظــلم قبيح ثم يعــلم في وقت معين أنه ظــلم فإنه يعــلم أن هذا المــعين قبيح إلحاقا للتفصيل بالجملة ولا يحتاج إلى إيراد مقدمتين في شكل مخصوص انتهى.
قال القاضي علي بن عبد الله بن رادع: ولقد عرفت صحة ما ذكره في المــنهاج بسماعي لمــعظم كتب المــنطق كالرسالة الشمسية وشرحها وغيرهما ووجدت ما يذكرونه في أشكالهم لا فائدة فيه إلى آخر ما قال في شرحه للأثمار ولقد عجبت من قول هذا القاضي حيث قال: بسماعي لمــعظم كتب المــنطق ثم تكــلم بعد ذلك بكلام يشعر بعدم معرفته لأول بحث من مباحث الرسالة الشمسية وكثيرا من يظن أنه قد عرف عــلم المــنطق وهو لا يعرفه لأنه عــلم دقيق لا يفتح هذه الإشكالات الباردة.
قال ابن رادع في شرح الأثمار: روي عن المــؤلف أيده الله أنه قال: إن العــلمــاء المــتقدمين كانوا إذا اطلعوا على شيء من ألفاظ الفلاسفة في أي كلام يرد عليهم اكتفوا في رده وإبطاله بكون فيه شيء من عبارة الفلاسفة ولم يتشاغلوا ببيان بطلانه وإن كثيرا من العــلمــاء المــتقدمين وكثيرا من المــتأخرين نهوا عن الخوض فيه أشد النهي.
وصنف الشيخ جلال الدين السيوطي كتابا سماه القول المــشرق في تحريم الاشتغال بالمــنطق ولم يشتغل من اشتغل من المــتأخرين إلا لمــا كثر التعبير بقواعده من المــخالفين واستعانوا بالخوض فيه على تيسير الرد عليهم بالطريق التي سلكوها وكان الأولى السلوك في طريقة المــتقدمين لأن قواعد التعبير بعبارة المــنطق كثيرة الغلط وخارجة عن عبارة الكتاب والسنة واللسان العربي مع أنه مفسدة في كل من الأديان وقد روي أن بعض الخلفاء العباسيين لمــا طلب الفلاسفة ترجم عــلم المــنطق باللغة العربية شاور كبيرا لهم فقال: ترجموه لهم فإن عــلمــنا هذا لا يدخل في دين إلا أفسده.
قال المــؤلف رحمه الله: وقد وجد ذلك الكلام صحيحا فإن كثيراً من المــتعمقين في عــلم المــنطق من المــســلمــين قد مال في كثير من الأصول إلى ما يفكر به قطعاً.
وأما غير المــســلمــين من أهل الكتاب فقد تفلسف أكثرهم ولهذا إن كل من خرج عن الأصول الشرعية والعقلية لا يعتمد غيره مثل الباطنية والصوفية وغيرهم انتهى.
وقال جماعة من العــلمــاء: القول الفصل فيه أنه كالسيف يجاهد به شخص في سبيل الله ويقطع به آخر الطريق.
قال الإمام يحيى بن حمزة: إن كان الإطلاع عليه لقصد حل شبهة ونقضها جاز ذلك بل هو الواجب على عــلمــاء الإسلام.
وإن كان لغرض غير ذلك كالاقتفاء لآثارهم والتدين بدينهم فهو الكفر والفرية التي لا شبهة فيها ولا مرية وفي هذا القدر من أقوال العــلمــاء كفاية وإن كان المــجال يتسع لأضعاف أضعاف ذلك وليس مرادنا إلا الإشارة إلى الاختلاف في هذا العــلم.
وأما ما هو الحق من هذه الأقوال فاعــلم أنه لا يشك من له مسكة في صحة أطراف ثلاثة نذكرها هاهنا نجعلها كالمــقدمة لمــا نرجحه.
الطرف الأول: إن عــلم المــنطق عــلم كفري واضعه الحكيم أرسطاطاليس اليوناني وليس من العلوم الإسلامية بإجماع المــســلمــين والمــنكر لهذا منكر للضرورة وليس لــلمــشتهرين بمعرفته المــكبين على تحقيق مطالبه من المــســلمــين كالفارابي وابن سينا ومن نحا نحوهم إلا التفهم لدقائقه والتعريف بحقائقه ولهذا قال الفارابي وهو أعــلم المــســلمــين بهذا الفن لمــا قال له قائل: أيما أعــلم أنت أم أرسطاطايس؟ فقال: لو أدركته لكنت من أكبر تلامذته.
الطرف الثاني: إن المــتأخرين من عــلمــاء الإسلام ولا سيما أئمة الأصول والبيان والنحو والكلام والجدل من أهل البيت وغيرهم قد استكثروا من استعمال القواعد المــنطقية في مؤلفاتهم في هذه الفنون وغيرها وبالغ المــحقق ابن الإمام الحسين بن القاسم في شرح غاية السول فقال:
وهاهنا أبحاث يحتاج إليها.
أما الأول: فلان هذا العــلم لمــا كان عــلمــا بكيفية الاستنباط وطريقة الاستدلال عن دلائل وكان المــنطق عــلمــا بكيفية مطلق الاستدلال والاستنباط شارك المــنطق وشابهه من هذه الجهة حتى كأنه جزئي من جزئيات المــنطق وفرع من فروعه ولا ريب في أن إتقان الأصل وتدبره أدخل لإتقان الفرع والتبصر فيه انتهى بلفظه.
فانظر كيف جعل عــلم الأصول جزئيا من جزئيات المــنطق وجعله فرعاً والمــنطق أصلاً.
وعلى الجملة فاستعمال المــتأخرين لفن المــنطق في كتبهم معلوم لكل باحث ومن أنكر هذا بحث أي كتاب شاء من الكتب المــتداولة بين الطلبة التي هي مدارس أهل العصر في هذه العلوم فإنه يجد معرفة ذلك متعسرة إن لم تكن متعذرة بدون عــلم المــنطق خصوصا عــلم الأصول. فإنها قد جرت عادة مؤلفيه باستفتاح كتبهم بهذا العــلم كابن الحاجب في مختصر المــنتهى وشرحه وابن الإمام في غاية السول وشرحها وغيرهما دع عنك المــطولات والمــتوسطات هذه المــختصرات التي هي مدرس المــبتدئ في زماننا كالمــعيار للإمام المــهدي وشروحه والكافل لابن بهران وشروحه قد اشتمل كل واحد منها على مباحث من هذا العــلم لا يعرفها إلا أربابه ومن ادعى معرفتها بدون هذا العــلم فهو يعرف كذب نفسه.
الطرف الثالث: إن كتب المــنطق التي يدرسها طلبة العلوم في زماننا كرسالة إيساغوجي للأبهري وشروحها التهذيب للسعد وشروحه والرسالة الشمسية وشروحها وما يشابه هذه الكتب قد هذبها أئمة الإسلام تهذيبا صفت به عن كدورات أقوال المــتقدمين فلا ترى فيها إلا مباحث نفيسة ولطائف شريفة تستعين بها على دقائق العلوم وتحل بها إيجازات المــائلين إلى تدقيق العبارات فإن حرمت نفسك معرفتها فلاحظ لك بين أرباب التحقيق ولا صحة لنظرك بين أهل التدقيق فاصطبر على ما تسمعه من وصفك بالبلة والبلادة وقلة الفطنة وقصور الباع.
فإن قلت: السلف أعظم قدوة وفي التشبه بهم فضيلة قلت: لا أشك في قولك ولكنه قد حال بينك وبينهم مئات من السنين وكيف لك بواحدة من أهل القرن الأول والثاني أو الثالث تأخذ عنه المــعارف الصافية عن كدر المــنطق هيهات هيهات حال بينك وبينهم عصور ودهور فليس في زمانك رجل يسبح في لجج مقدمات عــلم الكتاب والسنة إلا وعــلم المــنطق من أول محفوظاته ولا كتاب من على عــلمــاء الإسلام فنون هذه المــقدمات إلا وقد اشتمل على أبحاث منه فأنت بخير النظرين:
أما الجهل بالعلوم التي لا سبيل إلى معرفة الكتاب والسنة إلا بها.
أو الدخول فيما دخل فيه أبناء عصرك والكون في أعدادهم ولا أقول لك: لا سبيل لك إلى كتب المــتقدمين التي لم تشب بهذا لعــلم بل ربما وجده منها ما يكفيك عن كتب المــتأخرين ولكنك لا تجد أحدا من أبناء عصرك تأخذها عنه بسنده المــتصل بطريق السماع كما تجد كتب المــتأخرين كذلك ولا أقول لك أيضا: إن عــلم الكتاب والسنة متوقف لذاته على معرفة عــلم المــنطق فإن دين الله أيسر من أن يستعان على معرفته بعــلم كفري ولكن معرفة عــلم الأصول والبيان والنحو والكلام على التمام والكمال متوقفة على معرفته في عصرنا لمــا أخبرناك به ومعرفة كتاب الله وسنة نبيه متوقفة على معرفتها على نزاع والمــتوقف على المــتوقف متوقف.
وسبب التوقف بهذه الواسطة محبة المــتأخرين للتدقيق والإغراب في العبارات واستعمال قواعد المــناطقة واصطلاحاتهم وليتهم لم يفعلوه فإنه قد تسبب عن ذلك بعد الوصول إلى المــطلوب على طالبه وطول المــسافة وكثرة المــشقة حتى إن طالب الكتاب والسنة بما لا يبلغ حد الكفاءة لقراءتهما إلا بعد تفويت أعوام عديدة ومعاناة معارف شديد فيذهب في تحصيل الآلات معظم مدة الرغبة واشتغال القريحة وجودة الذكاء فيقطعه ذلك عن الوصول إلى المــطلوب وقد يصل إليهما بذهن كليل وفهم عليل فيأخذ منه بأنزر نصيب وأحقر حظ وهذا هو السبب الأعظم في إهمال عــلمــي الكتاب والسنة في المــتأخرين لأنهم قد أذهبوا رواء الطلب وبهاء الرغبة في غيرهما ولو أنفقوا فيهما بعض ما أنفقوا في آلاتهما لوجدت فيهم الحفاظ المــهرة والأئمة الكملة1 والله المــستعان. وحاصل البحث: أنه لم يأت من قال بتحريم عــلم المــنطق بحجة مرضية إلا قوله أنه عــلم كفري ونحن نســلم ذلك ولكنا نقول: قد صار في هذه الأعصار بذلك السبب من أهم آلات العلوم حلال أو حرام بل يتوقف كثير من المــعارف عليه فاشتغل به اشتغالك بفن من فنون الآلات ولا تعبأ بتشغيبات المــتقدمين وبتشنيعات المــقصرين وعليك بمختصرات الفن كالتهذيب والشمسية واحذر من مطولاته المــستخرجة على قواعد اليونان كشفاء ابن سينا وما يشابهه من كتبه وكتاب الشفاء والإشارات وما يليهما من المــطولات والمــتوسطات التي خلط فيها أهلها المــنطق بالحكمة اليونانية والفلسفة الكفرية يضل أكثر المــشتغلين بها ويبعدهم عن الصراط السوي والهدي النبوي الذي أمرنا باتباعه بنصوص الكتاب والسنة والله تعالى أعــلم بالصواب.

علم الحديث الشريف

عــلم الحديث الشريف
ويسمى ب: عــلم الرواية والأخبار أيضا على ما في: مجمع السلوك ويسمى جملة: عــلم الرواية والأخبار: عــلم الأحاديث. انتهى فعلى هذا عــلم الحديث يشتمل على عــلم الآثار أيضا بخلاف ما قيل فإنه لا يشمله والظاهر أن هذا مبني على عدم إطلاق الحديث على أقوال الصحابة وأفعالهم على ما عرف وهو الحق ولا حجة في قول أحد إلا رسول الله - صلى الله عليه وســلم - وعــلم الحديث هو: عــلم يعرف به أقوال النبي - صلى الله عليه وســلم - وأفعاله وأحواله فاندرج فيه معرفة موضوعه.
وأما غايته: فهي الفوز بسعادة الدارين كذا في: الفوائد الخاقانية.
وهو ينقسم إلى: العــلم برواية الحديث وهو: عــلم يبحث فيه عن كيفية اتصال الأحاديث بالرسول - عليه الصلاة والسلام - من حيث أحوال رواتها ضبطا وعدالة ومن حيث كيفية السند اتصالا وانقطاعا وغير ذلك وقد اشتهر بأصول الحديث كما سبق.
وإلى: العــلم بدراية الحديث وهو: عــلم باحث عن المــعنى المــفهوم من ألفاظ الحديث وعن المــراد منها مبنيا على قواعد العربية وضوابط الشريعة ومطابقا لأحوال النبي - صلى الله عليه وســلم
وموضوعه: أحاديث الرسول - صلى الله عليه وســلم - من حيث دلالتها على المــعنى المــفهوم أو المــراد.
وغايته: التحلي بالآداب النبوية والتخلي عما يكرهه وينهاه.
ومنفعته: أعظم المــنافع كما لا يخفى على المــتأمل.
ومبادئه: العلوم العربية كلها ومعرفة القصص والأخبار المــتعلقة بالنبي - صلى الله عليه وســلم - ومعرفة الأصلين والفقه وغير ذلك كذا في: مفتاح السعادة و: مدينة العلوم.
والصواب: ما ذكر في: الفوائد إذ الحديث أعم من القول والفعل والتقرير كما حقق في محله.
وفي: كشاف اصطلاحات الفنون: عــلم الحديث: عــلم تعرف به أقوال رسول الله - صلى الله عليه وســلم – وأفعاله.
أما أقواله: فهي الكلام العربي فمن لم يعرف حال الكلام العربي فهو بمعزل عن هذا العــلم وهو كونه حقيقة ومجازا وكناية وصريحا وعاما وخاصا ومطلقا ومقيدا ومنطوقا ومفهوما ونحو ذلك مع كونه على قانون العربية الذي بينه النحاة بتفاصيله وعلى قواعد استعمال العرب وهو المــعبر بعــلم اللغة
وأما أفعاله: فهي الأمور الصادرة عنه التي أمرنا باتباعه فيها أولا: كالأفعال الصادرة عنه طبعا أو خاصة كذا في: العيني شرح صحيح البخاري و: زاد الكرماني وأحواله.
ثم في العيني وموضعه ذات رسول الله - صلى الله عليه وســلم - من حيث أنه رسول الله - صلى الله عليه وســلم ومبادئه: هي ما تتوقف عليه المــباحث وهي: أحوال الحديث وصفاته
ومسائله: هي الأشياء المــقصودة منه وغايته: الفوز بسعادة الدارين. انتهى.
قال ابن الأثير في: جامع الأصول: علوم الشريعة تنقسم إلى: فرض ونفل والفرض: ينقسم إلى: فرض عين وفرض كفاية.
ومن أصول فروض الكفايات عــلم أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وســلم - وآثار أصحابه التي هي ثاني أدلة الأحكام وله أصول وأحكام وقواعد واصطلاحات ذكرها العــلمــاء وشرحها المــحدثون والفقهاء يحتاج طالبه إلى معرفتها والوقوف عليها بعد تقديم معرفة اللغة الإعراب اللذين هما أصل المــعرفة الحديث وغيره لورود الشريعة المــطهرة على لسان العرب وتلك الأشياء كالعــلم بالرجال وأساميهم وأنسابهم وأعمارهم ووقت وفاتهم والعــلم بصفات الرواة وشرائطهم التي يجوز معها قبول روايتهم والعــلم بمستند الرواة وكيفية أخذهم الحديث وتقسيم طرقه والعــلم بلفظ الرواة وإيرادهم ما سمعوه واتصاله إلى من يأخذه عنهم وذكر مراتبه والعــلم بجواز نقل الحديث بالمــعنى ورواية بعضه والزيادة فيه والإضافة إليه بما ليس منه وانفراد الثقة بزيادة فيه والعــلم بالمــسند وشرائطه والعالي منه والنازل والعــلم بالمــرسل وانقسامه إلى المــنقطع والمــوقوف والمــعضل وغير ذلك لاختلاف الناس في قبوله ورده والعــلم بالجرح والتعديل وجوازهما ووقوعهما وبيان طبقات المــجروحين والعــلم بأقسام الصحيح من الحديث والكذب وانقسام الخبر إليهما وإلى الغريب والحسن وغيرهما والعــلم بأخبار التواتر والآحاد والناسخ والمــنسوخ وغير ذلك مما توافق عليه أئمة أهل الحديث وهو بينهم متعارف فمن أتقنها أتى دار هذا العــلم من بابها وأحاط بها من جميع جهاتها وبقدر ما يفوته منها تزل درجته وتنحط رتبته إلا أن معرفة التواتر والآحاد والناسخ والمــنسوخ وإن تعلقت بعــلم الحديث إن المــحدث لا يفتقر إليه لأن ذلك من وظيفة الفقيه لأنه يستنبط الأحكام من الأحاديث فيحتاج إلى معرفة التواتر والآحاد والناسخ والمــنسوخ فأما المــحدث فوظيفته أن ينقل ويروي ما سمعه من الأحاديث كما سمعه فإن تصدى لمــا رواه فزيادة في الفضل.
وأما مبدأ جمع الحديث وتأليفه وانتشاره فإنه لمــا كان من أصول الفروض وجب الاعتناء به والاهتمام بضبطه وحفظه ولذلك يسر الله - سبحانه وتعالى - للعــلمــاء الثقات الذين حفظوا قوانينه وأحاطوا فيه فتناقلوه كابرا عن كابر وأوصله كما سمعه أول إلى آخر وحيه الله تعالى إليهم لحكمة حفظ دينه وحراسة شريعته فما زال هذا العــلم من عهد الرسول عليه الصلاة والسلام أشرف العلوم وأجلها لدى الصحابة والتابعين وتابعي التابعين خلفا بعد سلف لا يشرف بينهم أحد بعد حفظ كتاب الله - سبحانه وتعالى - إلا بقدر ما يحفظ منه ولا يعظم في النفوس إلا بحسب ما يسمع من الحديث عنه فتوفرت الرغبات فيه فما زال لهم من لدن رسول الله - صلى الله عليه وســلم - إلى أن انعطفت الهمم على تعــلمــه حتى لقد كان أحدهم يرحل المــراحل ويقطع الفيافي والمــفاوز ويجوب البلاد شرقا وغربا في طلب حديث واحد ليسمعه من راويه.
فمنهم من يكون الباعث له على الرحلة طلب ذلك الحديث لذاته ومنهم من يقرن بتلك الرغبة سماعه من ذلك الراوي بعينه إما لثقته في نفسه وإما لعلو إسناده فانبعثت العزائم إلى تحصيله.
وكان اعتمادهم أولا على الحفظ والضبط في القلوب غير ملتفتين إلى ما يكتبونه محافظة على هذا العــلم كحفظهم كتاب الله - سبحانه وتعالى - فــلمــا انتشر الإسلام واتسعت البلاد وتفرقت الصحابة في الأقطار ومات معظمهم قل الضبط احتاج العــلمــاء إلى تدوين الحديث وتقييده بالكتابة ولعمري إنها الأصل فإن الخاطر يغفل والقــلم يحفظ فانتهى الأمر إلى زمن جماعة من الأئمة مثل عبد المــلك بن جريج ومالك بن أنس وغيرهما فدونوا الحديث حتى قيل:
إن أول كتاب صنف في الإسلام كتاب ابن جريج وقيل: موطأ مالك بن أنس وقيل: إن أول من صنف وبوب الربيع بن صبيح بالبصرة ثم انتشر جمع الحديث وتدوينه وتسطيره في الأجزاء والكتب. وكثر ذلك وعظم نفعه إلى زمن الإمامين أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري وأبي الحسين مســلم بن الحجاج القشيري النيسابوري فدونا كتابيهما وأثبتا فيهما من الأحاديث ما قطعا بصحته وثبت عندهما نقله وسميا الصحيحين من الحديث ولقد صدقا فيما قالا والله مجازيهما عليه ولذلك رزقهما الله تعالى حسن القبول شرقاً وغرباً.
ثم ازداد انتشار هذا النوع من التصنيف وكثر في الأيدي وتفرقت أغراض الناس وتنوعت مقاصدهم إلى أن انقرض ذلك العصر الذي قد اجتمعوا واتفقوا فيه مثل: أبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي ومثل: أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني وأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي وغيرهم فكان ذلك العصر خلاصة العصور في تحصيل هذا العــلم وإليه المــنتهى.
ثم نقص ذلك الطلب وقل الحرص وفترت الهمم فكذلك كل نوع من أنواع العلوم والصنائع والدول وغيرها فإنه يبتدئ قليلا قليلا ولا يزال ينمو ويزيد إلى أن يصل إلى غاية هي منتهاه ثم يعود وكأن غاية هذا العــلم انتهت إلى البخاري ومســلم ومن كان في عصرها ثم نزل وتقاصر إلى ما شاء الله.
ثم إن هذا العــلم على شرفه وعلو منزلته كان عــلمــا عزيزا مشكل اللفظ أو المــعنى ولذلك كان الناس في تصانيفهم مختلفي الأغراض
فمنهم من قصر همته على تدوين الحديث مطلقا ليحفظ لفظه ويستنبط منه الحكم كما فعله عبد الله بن موسى الضبي وأبو داود الطيالسي وغيرهما أولا.
وثانيا: أحمد بن حنبل ومن بعده فأنهم أثبتوا الأحاديث من مسانيد رواتها فيذكرون مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه ويثنون فيه كل ما رووا عنه ثم يذكرون بعده الصحابة واحدا بعد واحد على هذا النسق.
ومنهم: من يثبت الأحاديث في الأماكن التي هي دليل عليها فيضعون لكل حديث بابا يختص به فإن كان في معنى الصلاة ذكروه في باب الصلاة وإن كان في معنى الزكاة ذكروه فيها كما فعل مالك في المــوطأ إلا أنه لقلة ما فيه من الأحاديث قلت أبوابه ثم اقتدى به من بعده. فــلمــا انتهى الأمر إلى زمن البخاري ومســلم وكثرت الأحاديث المــودعة في كتابيهما كثرت أبوابهما واقتدى بهما من جاء بعدهما وهذا النوع أسهل مطلبا من الأول لأن الإنسان قد يعرف المــعنى وإن لم يعرف رواية بل ربما لا يحتاج إلى معرفة رواية فإذا أراد حديثا يتعلق بالصلاة طلبه من كتاب الصلاة لأن الحديث إذا أورد في كتاب الصلاة عــلم الناظر أن ذلك الحديث هو دليل ذلك الحكم فلا يحتاج أن يفكر فيه بخلاف الأول.
ومنهم من استخرج أحاديث تتضمن ألفاظ لغوية ومعاني مشكلة فوضع لها كتابا قصره على ذكر متن الحديث وشرح غريبه وإعرابه ومعناه ولم يتعرض لذكر الأحكام كما فعل أبو عبيد القاسم بن سلام وأبو محمد عبد الله بن مســلم بن قتيبة وغيرهما.
ومنهم من أضاف إلى هذا الاختيار ذكر الأحكام وآراء الفقهاء مثل: أبي سليمان أحمد بن محمد الخطابي في معالم السنن وأعلام السنن وغيره من العــلمــاء.
ومنهم من قصد ذكر الغريب دون متن الحديث واستخراج الكــلمــات الغريبة ودونها ورتبها وشرحها كما فعل أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي وغيره من العــلمــاء.
ومنهم من قصد إلى استخراج أحاديث تتضمن ترغيبا وترهيبا وأحاديث تتضمن أحكاما شرعية غير جامعة فدونها وأخرج متونها وحدها كما فعله أبو محمد الحسين بن مسعود والبغوي في المــصابيح وغير هؤلاء
ولمــا كان أولئك الأعلام هم السابقون فيه لم يأت صنيعهم على أكمل 2 / 225 الأوضاع فإن غرضهم كان أولا حفظ الحديث مطلقا وإثباته ودفع الكذب عنه والنظر في طرقه وحفظ رجاله وتزكيتهم واعتبار أحوالهم والتفتيش عن أمورهم حتى قدحوا وجرحوا وعدلوا وأخذوا وتركوا هذا بعد الاحتياط والضبط والتدبر فكان هذا مقصدهم الأكبر وغرضهم الأوفى ولم يتسع الزمان لهم والعمر لأكثر من هذا الغرض الأعم والمــهم الأعظم ولا رأوا في أيامهم أن يشتغلوا بغيره من لوازم هذا الفن التي هي كالتوابع بل ولا يجوز لهم ذلك فإن الواجب أولا إثبات الذات ثم ترتيب الصفات والأصل إنما هو عين الحديث ثم ترتيبه وتحسين وضعه ففعلوا ما هو الغرض المــتعين واخترمتهم المــنايا قبل الفراغ والتخلي لمــا فعله التابعون لهم والمــقتدون بهم فتعبوا الراحة من بعدهم.
ثم جاء الخلف الصالح فأحبوا أن يظهروا تلك الفضيلة ويشيعوا هذه العلوم التي أفنوا أعمارهم في جمعها إما بإيداع ترتيب أو بزيادة تهذيب أو اختصار أو تقريب أو استنباط حكم وشرح غريب.
فمن هؤلاء المــتأخرين من جمع بين كتب الأولين بنوع من التصرف والاختصار كمن جمع بين كتابي البخاري ومســلم مثل: أبي بكر أحمد بن محمد الرماني وأبو مسعود إبراهيم بن محمد بن عبيد الدمشقي وأبي عبد الله محمد الحميدي فإنهم رتبوا على المــسانيد دون الأبواب.
وتلاهم أبو الحسن رزين بن معاوية العبدري فجمع بين كتب البخاري ومســلم والمــوطأ لمــالك وجامع الترمذي وسنن أبي داود والنسائي ورتب على الأبواب إلا أن هؤلاء أودعوا متون الحديث عارية من الشرح وكان كتاب رزين أكبرها وأعمها حيث حوى هذه الكتب الستة التي هي أم كتب الحديث وأشهرها وبأحاديثها أخذ العــلمــاء واستدل الفقهاء وأثبتوا الأحكام ومصنفوها أشهر عــلمــاء الحديث وأكثرهم حفظا وإليهم المــنتهى.
وتلاه الإمام أبو السعادات مبارك بن محمد بن الأثير الجزري فجمع بين كتاب رزين وبين الأصول الستة بتهذيبه ترتيب أبوابه وتسهيل مطالبه وشرح غريبه في جامع الأصول فكان أجمع ما جمع فيه.
ثم جاء الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي فجمع بين الكتب الستة والمــسانيد العشرة وغيرها في جمع الجوامع فكان أعظم بكثير من جامع الأصول من جهة المــتون إلا أنه لم يبال بما صنع فيه من جمع الأحاديث الضعيفة بل المــوضوعة.
وكان أول ما بدأ به هؤلاء المــتأخرون أنهم حذفوا الأسانيد اكتفاء بذكر من روى الحديث من الصحابي إن كان خبرا وبذكر من يرويه عن الصحابي إن كان أثرا والرمز إلى المــخرج لأن الغرض ممن ذكر الأسانيد كان أولا إثبات الحديث وتصحيحه وهذه كانت وظيفة الأولين وقد كفوا تلك المــؤنة فلا حاجة بهم إلى ذكر ما فرغوا منه.
ووضعوا الأصحاب الكتب الستة علامة ورمزا بالحروف.
فجعلوا البخاري خ لأن نسبته إلى بلده أشهر من اسمه وكنيته وليس في حروف باقي الأسماء خاء.
ولمــســلم م لأن اسمه أشهر من نسبه وكنيته.
ولمــالك طه لأن اشتهار كتابه بالمــوطأ أكثر.
ولأن المــيم أول حروف اسمه وقد أعطوها مســلمــا وباقي حروفه مشتبه بغيرها.
والترمذي ت لأن اشتهاره بنسبه أكثر.
ولأبي داود د لأن كنيته أشهر من اسمه ونسبه والدال أشهر حروفها وأبعدها من الاشتباه
وللنسائي س لأن نسبه أشهر من اسمه وكنيته والسين أشهر حروف نسبه وكذلك وضعوا لأصحاب المــسانيد بالإفراد والتركيب كما هو مسطور في الجامع.
قال في كشاف اصطلاحات الفنون: لأهل الحديث مراتب.
أولها الطلب وهو المــبتدئ الراغب فيه.
ثم المــحدث وهو الأستاذ الكامل وكذا الشيخ والإمام بمعناه.
ثم الحافظ وهو الذي أحاط عــلمــه بمائة ألف حديث متنا وإسنادا وأحوال رواته جرحا وتعديلا وتاريخاً.
ثم الحجة وهو الذي أحاط عــلمــه بثلاثمائة ألف حديث كذلك قاله ابن المــطري.
وقال الجزري: الراوي ناقل الحديث بالإسناد والمــحدث من تحمل بروايته واعتنى بدرايته.
والحافظ من روى ما يصل إليه ووعى ما يحتاج إليه انتهى.
قال أبو الخير: اعــلم أن قصارى نظر أبناء هذا الزمان في عــلم الحديث النظر في مشارق الأنوار فإن ترفعت إلى مصابيح البغوي ظننت أنها تصل إلى درجة المــحدثين وما ذلك إلا لجهلهم بالحديث بل لو حفظهما عن ظهر قلب وضم إليهما من المــتون مثليهما لم يكن محدثا حتى يلج الجمل في سم الخياط وإنما الذي يعده أهل الزمان بالغا إلى النهاية وينادونه محدث المــحدثين وبخاري العصر من اشتغل بجامع الأصول لابن الأثير مع حفظ علوم الحديث لابن الصلاح أو التقريب للنووي إلا أنه ليس في شيء من رتبة المــحدثين وإنما المــحدث من عرف المــسانيد والعلل وأسماء الرجال والعالي والنازل وحفظ مع ذلك جملة مستكثرة من المــتون وسمع الكتب الستة ومسند الإمام أحمد بن حنبل وسنن البيهقي ومعجم الطبراني وضم إلى هذا القدر ألف جزء من الأجزاء الحديثة هذا أقل فإذا سمع ما ذكرناه وكتب الطبقات ورد على الشيوخ وتكــلم في العلل والوفيات والأسانيد كان في أول درجة المــحدثين.
ثم يزيد الله - سبحانه وتعالى - من يشاء ما يشاء هذا ما ذكره تاج الدين السبكي
وذكر صدر الشريعة في تعديل العلوم أن مشائخ الحديث مشهورون بطول الأعمار
وذكر السبكي.
في طبقات الشافعية أن أبا سهل قال: سمعت ابن الصلاح يقول: سمعت شيوخنا يقولون: دليل طول عمر الرجل اشتغاله بأحاديث الرسول - صلى الله عليه وســلم - ويصدقه التجربة فان أهل الحديث إذا تتبعت أعمارهم تجدها في غاية الطول انتهى.
الكتب المــصنفة في عــلم الحديث أكثر من أن تحصى لكن استوعبنا ما وقفنا عليه في كتابنا إتحاف النبلاء المــتقين بإحياء مآثر الفقهاء المــحدثين بالفارسية على ترتيب حروف المــعجم.
قال في مدينة العلوم لكن اتفق السلف من مشائخ الحديث على أن أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى صحيح البخاري وصحيح مســلم وأصحهما صحيح البخاري وهو الإمام شيخ السنة ونور الإسلام وحافظ العصر وبركة الله في أرضه الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الجعفي البخاري رحمه الله كان والي بخارا جعفيا وهو نسبة إلى قبيلة باليمن ونسب البخاري إليها بالولاء.
والإمام مســلم بن الحجاج القشيري البغدادي أحد الأئمة الحفاظ وأعــلم المــحدثين إمام خراسان في الحديث بعد البخاري.
ومن الصحاح كتاب سنن أبي داود الأزدي السجستاني وكتاب الترمذي وكتاب النسائي
والنووي عدد هذه الخمسة في الأصول إلا أن الجمهور جعلها ستة وعدوا منها كتاب المــوطأ لإمام دار الهجرة وقدوة المــتقين وأحد الأئمة المــجتهدين الإمام مالك بن انس.
وجعل بعضهم كتاب المــوطأ بعد الترمذي وقيل النسائي والأصح انه بعد مســلم في الرتبة.
وعد بعضهم بدل المــوطأ كتاب ابن ماجة محمد بن يزيد الحافظ القزويني.
واعــلم أن المــحدثين ألحقوا بالكتب الستة جامع أبي الحسن رزين العبدري صاحب الجمع بين الصحاح وجامع الحميدي بين الصحيحين وجامع البرقاتي لجمعه بينهما وجامع أبي مسعود الدمشقي أيضا لجمعه بين الصحيحين.
ثم اختاروا من المــصنفين سبعة وألحقوا كتبهم بالصحاح لعظم نفعها منهم الدارقطني والحاكم أبو عبد الله النيسابوري وأبو محمد عبد الغني الأزدي المــصري وأبو نعيم الأصبهاني صاحب الحلية وابن عبد البر حافظ المــغرب والبيهقي والخطيب البغدادي انتهى ملخصاً.
فصل في ذكر علوم الحديث
قال ابن خلدون: وأما علوم الحديث فهي كثيرة ومتنوعة لأن منها ما ينظر في ناسخه ومنسوخه وذلك بما ثبت في شريعتنا من جواز النسخ ووقوعه لطفا من الله بعباده وتخفيفا عنهم باعتبار مصالحهم التي تكفل لهم بها قال تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} فإذا تعارض الخبران بالنفي والإثبات وتعذر الجمع بينهما ببعض التأويل وعــلم تقدم أحدهما تعين أن المــتأخر ناسخ ومعرفة الناسخ والمــنسوخ من أهم علوم الحديث وأصعبها.
قال الزهري: أعيا الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا ناسخ حديث رسول الله - صلى الله عليه وســلم - من منسوخه وكان للشافعي - رحمه الله - قدم راسخة فيه1.
ومن علوم الأحاديث النظر في الأسانيد ومعرفة ما يجب العمل به من الأحاديث بوقوعه على السند الكامل الشروط لأن العمل إنما وجب بما يغلب على الظن صدقه من أخبار رسول الله - صلى الله عليه وســلم - فيجتهد في الطريق التي تحصل ذلك الظن وهو بمعرفة رواة الحديث بالعدالة والضبط وإنما يثبت ذلك بالنقل عن أعلام الدين بتعديلهم وبراءتهم من الجرح والغفلة ويكون لنا ذلك دليلا على القبول أو الترك.
وكذلك مراتب هؤلاء النقلة من الصحابة والتابعين وتفاوتهم في ذلك تميزهم فيه واحدا واحدا وكذلك الأسانيد تتفاوت باتصالها وانقطاعها بأن يكون الراوي الذي نقل عنه وبسلامتها من العلل المــوهنة لها وتنتهي بالتفاوت إلى الطرفين فحكم بقبول الأعلى ورد الأسفل ويختلف في المــتوسط بحسب المــنقول عن أئمة الشأن.
ولهم في ذلك ألفاظ اصطلحوا على وضعها لهذه المــراتب المــرتبة مثل الصحيح والحسن والضعيف والمــرسل والمــنقطع والمــعضل والشاذ والغريب وغير ذلك من ألقابه المــتداولة بينهم.
وبوبوا على كل واحد منها ونقلوا ما فيه من الخلاف لأئمة هذا الشأن أو الوفاق.
ثم النظر في كيفية أخذ الرواة بعضهم عن بعض بقراءة أو كتابة أو مناولة أو إجازة وتفاوت رتبها وما للعــلمــاء في ذلك من الخلاف بالقبول والرد ثم أتبعوا ذلك بكلام في ألفاظ تقع في متون الحديث من غريب أو مشكل أو مصحف أو مفترق منها أو مختلف وما يناسب ذلك هذا معظم ما ينظر فيه أهل الحديث وغالبه.
وكانت أحوال نقلة الحديث في عصور السلف من الصحابة والتابعين معروفة عند أهل بلدة فمنهم بالحجاز ومنهم بالبصرة والكوفة من العراق ومنهم بالشام ومصر والجميع معروفون مشهورون في أعصارهم.
وكانت طريقة أهل الحجاز في أعصارهم في الأسانيد أعلى ممن سواهم وأمتن في الصحة لاستبدادهم في شروط النقل من العدالة والضبط وتجافيهم عن قبول المــجهول الحال في ذلك.
وسند الطريقة الحجازية بعد السلف الإمام مالك عالم المــدينة ثم أصحابه مثل الإمام محمد بن إدريس الشافعي والإمام أحمد بن حنبل وأمثالهم. وكان عــلم الشريعة في مبدأ هذا الأمر نقلا صرفا شمر لها السلف وتحروا الصحيح حتى أكملوها.
وكتب مالك - رحمه الله - كتاب المــوطأ أودعه أصول الأحكام من الصحيح المــتفق عليه ورتبه على أبواب الفقه ثم عني الحفاظ بمعرفة طرق الأحاديث وأسانيده المــختلفة وربما يقع إسناد الحديث من طرق متعددة عن رواة مختلفين وقد يقع الحديث أيضا في أبواب متعددة باختلاف المــعاني التي اشتمل عليها.
وجاء محمد بن إسماعيل البخاري إمام الحدثين في عصره فخرج أحاديث السنة على أبوابها في مسنده الصحيح بجميع الطرق التي للحجازيين والعراقيين والشاميين واعتمد منها ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه وكرر الأحاديث يسوقها في كل باب بمعنى ذلك الباب الذي تضمنه الحديث فتكررت لذلك أحاديثه حتى يقال انه اشتمل على تسعة آلاف حديث ومائتين منها ثلاثة آلاف متكررة وفرق الطرق والأسانيد عليها مختلفة في كل باب.
ثم جاء الإمام مســلم بن الحجاج القشيري - رحمه الله - فألف مسنده الصحيح حذا فيه حذو البخاري في نقل المــجمع عليه وحذف المــتكرر منها وجمع الطرق والأسانيد وبوبه على أبواب الفقه وتراجمه ومع ذلك فــلم يستوعب الصحيح كله وقد استدرك الناس عليهما في ذلك
ثم كتب أبو داود السجستاني وأبو عيسى الترمذي وأبو عبد الرحمن النسائي في السنن بأوسع من الصحيح وقصدوا ما توفرت فيه شروط العمل إما من الرتبة العالية في الأسانيد وهو الصحيح كما هو معروف وإما من الذي دونه من الحسن وغيره ليكون ذلك إماما للسنة. والعمل وهذه هي المــسانيد المــشهورة في المــلة وهي أمهات كتب الحديث في السنة فإنها وإن تعددت ترجع إلى هذه في الأغلب ومعرفة هذه الشروط والاصطلاحات كلها هي عــلم الحديث وربما يفرد عنها الناسخ والمــنسوخ فيجعل فنا برأسه وكذا الغريب وللناس فيه تآليف مشهورة.
ثم المــؤتلف والمــختلف وقد ألف الناس في علوم الحديث وأكثروا.
ومن فحول عــلمــائه وأئمتهم أبو عبد الله الحاكم وتآليفه فيه مشهورة وهو الذي هذبه وأظهر محاسنه وأشهر كتاب لــلمــتأخرين فيه كتاب أبي عمرو بن الصلاح كان لعهد أوائل المــائة السابعة وتلاه محيي الدين النووي بمثل ذلك والفن شريف في مغزاه لأنه معرفة ما يحفظ به السنن المــنقولة عن صاحب الشريعة وقد انقطع لهذا العهد تخريج شيء من الأحاديث واستدراكها على المــتقدمين إذ العادة تشهد بأن هؤلاء الأئمة على تعددهم وتلاحق عصورهم وكفايتهم واجتهادهم لم يكونوا ليغفلوا شيئا من السنة أو يتركوه حتى يعثر عليه المــتأخر هذا بعيد عنهم وإنما تنصرف العناية لهذا العهد إلى صحيح الأمهات المــكتوبة وضبطها بالرواية عن مصنفيها والنظر في أسانيدها إلى مؤلفيها وعرض ذلك على ما تقرر في عــلم الحديث من الشروط والأحكام لتتصل الأسانيد محكمة إلى منتهاها ولم يزيدوا في ذلك على العناية بأكثر من هذه الأمهات الخمسة إلا في القليل.
فأما البخاري وهو أعلاها رتبة فاستصعب الناس شرحه واستغفلوا منحاه من اجل ما يحتاج إليه من معرفة الطرق المــتعددة ورجالها من أهل الحجاز والشام والعراق ومعرفة أحوالهم واختلاف الناس فيهم ولذلك يحتاج إلى إمعان النظر في التفقه في تراجمه لأنه يترجم الترجمة ويورد فيها الحديث بسند أو طريق ثم يترجم أخرى ويورد فيها ذلك الحديث بعينه لمــا تضمنه من المــعنى الذي ترجم به الباب وكذلك في ترجمة وترجمة إلى أن يتكرر الحديث في أبواب كثيرة بحسب معانيه واختلافها ومن شرحه ولم يستوف هذا فيه فــلم يوف حق الشرح كابن بطال وابن المــهلب وابن التين ونحوهم ولقد سمعت كثيرا من شيوخنا رحمهم الله يقولون: شرح كتاب البخاري دين على الأمة. يعنون أن أحدا من عــلمــاء الأمة لم يوف ما يجب له من الشرح بهذا الاعتبار.
قال في كشف الظنون أقول ولعل ذلك الدين قضي بشرحي المــحقق ابن حجر العسقلاني والعيني بعد ذلك انتهى.
قلت وشرح الحافظ ابن حجر أو في الشروح لا يعادله شرح ولا كتاب ولذا لمــا قيل للشوكاني لشرح البخاري أجاب: أنه لا هجرة بعد الفتح يعني فتح الباري وما ألطف هذا الجواب عند من يفهم لطف الخطاب.
ثم قال ابن خلدون:
وأما صحيح مســلم فكثرت عناية عــلمــاء المــغرب به وأكبوا عليه وأجمعوا على تفضيله على كتاب البخاري من غير الصحيح مما لم يكن على شرطه وأكثر ما وقع له في التراجم
وأملى الإمام المــارزي من فقهاء المــالكية عليه شرحا وسماه المــعــلم بفوائد مســلم اشتمل على عيون من عــلم الحديث وفنون من الفقه ثم أملاه القاضي عياض من بعده وتممه وسماه إكمال المــعــلم.
وتلاهما محيي الدين النووي بشرح استوفى ما في الكتابين وزاد عليهما فجاء شرحاً وافياً.
وأما كتب السنن الأخرى وفيها معظم مآخذ الفقهاء فأكثر شرحها في كتب الفقه إلا ما يختص بعــلم الحديث فكتب الناس عليها واستوفوا من ذلك ما يحتاج إليه من عــلم الحديث وموضوعاته والأسانيد التي اشتملت على الأحاديث المــعمول بها من السنة.
واعــلم أن الأحاديث قد تميزت مراتبها لهذا العهد بين صحيح وحسن وضعيف ومعلول وغيرها تنزلها أئمة الحديث وجهابذته وعرفوها لم يبق طريق في تصحيح ما يصح من قبل ولقد كان الأئمة في الحديث يعرفون الأحاديث بطرقها وأسانيدها بحيث لو روي حديث بغير سنده وطريقه يفطنون إلى أنه قد قلب عن وضعه.
ولقد وقع مثل ذلك للإمام محمد بن إسماعيل البخاري حين ورد على بغداد وقصد المــحدثون امتحانه فسألوه عن أحاديث قلبوا أسانيدها فقال: لا أعرف هذه ولكن حدثني فلان.. ثم أتى بجميع تلك الأحاديث على الوضع الصحيح ورد كل متن إلى سنده وأقروا له بالإمامة قف.
قال ابن خلدون: واعــلم أيضا أن الأئمة المــجتهدين تفاوتوا في الإكثار من هذه الصناعة والإقلال.
فأبو حنيفة1 رضي الله عنه يقال بلغت روايته إلى سبعة عشر حديثا أو نحوها. ومالك - رحمه الله - إنما صح عنده ما في كتاب المــوطأ وغايتها ثلاثمائة حديث أو نحوها.
وأحمد بن حنبل - رحمه الله - تعالى في مسنده خمسون ألف حديث ولكل ما أداه إليه اجتهاده في ذلك.
وقد تقول بعض المــبغضين المــتعسفين إلى أن منهم من كان قليل البضاعة في الحديث فلهذا قلت روايته ولا سبيل إلى هذا المــعتقد في كبار الأئمة لأن الشريعة إنما تؤخذ من الكتاب والسنة ومن كان قليل البضاعة من الحديث فيتعين عليه طلبه وروايته والجد والتشمير في ذلك ليأخذ الدين عن أصول صحيحة ويتلقى الأحكام عن صاحبها المــبلغ لها وإنما قلل منهم من قلل الرواية الأجل المــطاعن التي تعترضه فيها والعلل التي تعرض في طرقها سيما والجرح مقدم عند الأكثر فيؤديه الاجتهاد إلى ترك الأخذ بما يعرض مثل ذلك فيه من الأحاديث وطرق الأسانيد ويكثر ذلك فتقل روايته لضعف في الطرق هذا مع أن أهل الحجاز أكثر رواية للحديث من أهل العراق لأن المــدينة دار الهجرة ومأوى الصحابة ومن انتقل منهم إلى العراق كان شغلهم بالجهاد أكثر.
والإمام أبو حنيفة إنما قلت روايته لمــا شدد في شروط الرواية والتحمل وضعف رواية الحديث اليقيني إذا عارضها الفعل النفسي وقلت من أجلها روايته فقل حديثه لأنه ترك رواية الحديث متعمدا فحاشاه من ذلك ويدل على أنه من كبار المــجتهدين في عــلم الحديث اعتماد مذهبه بينهم والتعويل عليه واعتباره ردا وقبولاً.
وأما غيره من المــحدثين وهم الجمهور فتوسعوا في الشروط وكثر حديثهم والكل عن اجتهاد وقد توسع أصحابه من بعده في الشروط وكثرت روايتهم.
وروى الطحاوي فأكثر وكتب مسنده وهو جليل القدر إلا أنه لا يعدل الصحيحين لأن الشروط التي اعتمدها البخاري ومســلم في كتابيهما مجمع عليها بين الأمة كما قالوه
وشروط الطحاوي غير متفق عليها كالرواية عن المــستور الحال وغيره فلهذا قدم الصحيحان بل وكتب السنن المــعروفة عليه لتأخر شرطه عن شروطهم ومن أجل هذا قيل في الصحيحين بالإجماع على قبولهما من جهة الإجماع على صحة ما فيهما من الشروط المــتفق عليها
فلا تأخذك ريبة في ذلك فالقوم أحق الناس بالظن الجميل بهم والتماس المــخارج الصحيحة لهم والله - سبحانه وتعالى - أعــلم بما في حقائق الأمور.

علم الخط

عــلم الخط
هو: معرفة كيفية تصوير اللفظ بحروف هجائه إلى أسماء الحروف إذا قصد بها المــسمى هو في بإحداكم رحيم معين فإنما يكتب هذه الصورة جعفر لأنه سماها خطا ولفظا ولذلك قال الخليل لمــا سألهم: كيف تنطقون بالجيم جعفر؟ فقالوا: جيم إنما نطقتم بالاسم ولم تنطقوا بالمــسؤول عنه والجواب: جه لأنه المــسمى فإن سمي به مسمى آخر كتب كغيرها نحو ياسين وحاميم يس وحم هذا ما ذكروه في تعريفه والغرض والغاية ظاهران لكنهم أطنبوا في بيان أحوال الخط وأنواعه ونحن نذكر خلاصة ما ذكروا في فصول.
فصل في فضل الخط
اعــلم أن الله - سبحانه وتعالى - أضاف تعليم الخط إلى نفسه وامتن به على عباده في قوله: عــلم بالقــلم وناهيك بذلك شرفاً.
وقال عبد الله بن عباس: الخط لسان اليد قيل: ما من أمر إلا والكتابة موكل به مدبر له ومعبر عنه وبه ظهرت خاصة النوع الإنساني من القوة إلى الفعل وامتاز به عن سائر الحيوانات.
وقيل: الخط أفضل من اللفظ لأن اللفظ يفهم الحاضر فقط والخط يفهم الحاضر والغائب وفضائله كثيرة معروفة.
فصل في وجه الحاجة إليه
اعــلم أن فائدة التخاطب لمــا لم تتبين إلا بالألفاظ وأحوالها وكان ضبط أحوالها مما اعتنى العــلمــاء كان ضبط أحوال ما يدل على الألفاظ أيضا ما يعتني بشأنه وهو الخطوط والنقوش الدالة على الألفاظ فبحثوا عن أحوال الكتابة الثابتة نقوشها على وجه كل زمان وحركاتها وسكناتها ونقطها وشكلها وضوابطها من شداتها ومداتها وعن تركيبها وتسطيرها لينتقل منها الناظرون إلى الألفاظ والحروف ومنها إلى المــعاني الحاصلة في الأذهان.
فصل في كيفية وضعه وأنواعه
قيل: أول من وضع الخط آدم عليه السلام كتبه في طين وطبخه ليبقى بعد الطوفان وقيل: إدريس وعن ابن عباس أن أول من وضع الخط العربي ثلاثة رجال من بولان قبيلة من طي نزلوا مدينة الأنبار فأولهم: مراز وضع الصور وثانيهم: أســلم وصل وفصل وثالثهم: عامر وضع الأعجام ثم انتشر.
وقيل: أول من اخترعه ستة أشخاص من طلسم أسماؤهم: أبجد هوز حطي كــلمــن سعفص قرشت فوضعوا الكتابة والخط وما شذ من أسمائهم من الحروف وألحقوها ويروى: أنها أسماء ملوك مدين.
وفي السيرة لابن هاشم: أن أول من كتب الخط العربي حمير بن سبأ.
قال السهيلي في التعريف والأعلام والأصح ما رويناه من طريق ابن عبد البر يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وســلم - قال: "أول من كتب بالعربية إسماعيل عليه السلام".
قال أبو الخير: واعــلم أن جميع كتابات الأمم اثنتا عشرة كتابة: بالعربية والحميرية واليونانية والفارسية والسريانية والعبرانية والرومية والقبطية والبرية والأندلسية والهندية والصينية.
فخمس منها اضمحلت وذهب من يعرفها وهي: الحميرية واليونانية والقبطية والأندلسية والبريرية.
وثلاثة بقي استعمالها في بلادها وعدم من يعرفها في بلاد الإسلام وهي: الرومية والهندية والصينية.
وبقيت أربع هي المــستعملات في بلاد الإسلام هي: العربية والفارسية والسريانية والعبرانية.
أقول: في كلامه بحث من وجوه: أما أولاً: فلأن الحصر في العدد المــذكور غير صحيح إذ الأقلام المــتداولة بين الأمم الآن أكثر من ذلك سوى المــنقرضة فإن من نظر في كتب القدماء المــدونة باللغة اليونانية والقبطية وكتب أصحاب الحرف الذين بينوا فيها أنواع الأقلام والخطوط عــلم صحة ما قلنا وهذا الحصر يبنى عن قلة الإطلاع.
وأما ثانيا: فلأن قوله خمس منها اضمحلت ليس بصحيح أيضا لأن اليونانية مستعملة في خواص المــلة النصرانية أعني: أهل أقاديميا المــشهورة الواقعة في بلاد إسبانيا وفرنسا ونمسه وهي مماليك كثيرة واليونانية أصل علومهم وكتبهم.
وأما ثالثا: فلأن قوله وعدم من يعرفها في بلاد الإسلام وهي الرومية كلام سقيم أيضا إذ من يعرف الرومية في بلاد الإسلام أكثر من أن يحصى وينبغي أن يعــلم أن الرومية المــستعملة في زماننا منحرفة من اليونانية بتحريف قليل وأما القــلم المــستعمل بين كفرة الروم فغير القــلم اليوناني.
وأما رابعا: فلأن جعله السريانية والعبرانية من المــستعملات في بلاد الإسلام ليس كما ينبغي لأن السرياني خط قديم بل هو أقدم الخطوط منسوب إلى سوريا وهي البلاد الشامية وأهلها منقرضون فــلم يبق منهم أثر ثبت في التواريخ والعمرانية المــستعملة فيما بين اليهود وهي مأخذ اللغة العربية وخطها. والعبراني يشبه العربي في اللفظ والخط مشابهة قليلة.
فصل
واعــلم: أن جميع الأقلام مرتب على ترتيب أبجد إلا القــلم العربي وجميعها منفصل إلا العربي والسرياني والمــغولي واليوناني والرومية والقبطية من اليسار إلى اليمين والعبرانية والسريانية والعربية من اليمين إلى اليسار وكذا التركية والفارسية.
الخط السرياني:
ثلاثة أنواع: المــفتوح المــحقق ويسمى: أسطريحالا وهو أجلها والشكل المــدور ويقال له: الخط الثقيل ويسمى أسكولينا وهو أحسنها والخط الشرطاوي يكتبون به الترسل والسرياني أصل النبطي.
الخط العبراني:
أول من كتب به عامر بن شالح وهو مشتق من السرياني وإنما لقب بذلك حيث عبر إبراهيم الفرات يريد الشام وزعمت اليهود والنصارى لا خلاف بينهم أن الكتابة العبرانية في لوحين من حجارة و: أن الله - سبحانه وتعالى - دفع ذلك إليه.
الخط الرومي:
وهو أربعة وعشرون حرفا كما ذكرنا في المــقدمة ولهم قــلم يعرف ب المــسميا ولا نظير له عندنا فإن الحرف الواحد منه يدل على معان وقد ذكره جالينوس في ثابت كتبه.
الخط الصيني:
خط لا يمكن تعــلمــه في زمان قليل لأنه يتعب كاتبه المــاهر فيه ولا يمكن للخفيف اليد أن يكتب به في اليوم أكثر من ورقتين أو ثلاثة وبه يكتبون كتب ديانتهم وعلومهم ولهم كتابة يقال لها كتابة المــجموع وهو أن كل كــلمــة تكتب بثلاثة أحرف أو أكثر في صورة واحدة ولكل كلام طويل شكل من الحروف يأتي عــلم المــعاني الكثيرة فإذا أرادوا أن يكتبوا ما يكتب في مائة ورقة كتبوه في صفحة واحدة بهذا القــلم.
الخط المــانوي:
مستخرج من الفارسي والسرياني استخرجه ماني كما أن مذهبه مركب من المــجوسية والنصرانية وحروفه زائدة على حروف العربي وهذا القــلم يكتب به قدماء أهل ما رواء النهر كتب شرائعهم ولــلمــرقنونية قــلم يختصون به.
الخط الهندي والسندي:
هو أقلام عدة يقال أن لهم نحو مائتي قــلم بعضهم يكتب بالأرقام التسعة على معنى أبجد وينقطون تحته نقطتين أو ثلاثا.
الخط الزنجي والحبشي:
على ندرة لهم قــلم حروفه متصلة كحروف الحميري يبتدئ من الشمال إلى اليمين يفرقون بين كل اسم منها بثلاث نقط.
الخط العربي:
في غاية تعويج إلى يمنة اليد وقال ابن إسحاق أول خطوط العربية: الخط المــكي وبعده المــدني ثم البصري ثم الكوفي وأما المــكي والمــدني ففي شكله انضجاع يسير قال الكندي: لا أعــلم كتابة يحتمل منها تحليل حروفها وتدقيقها ما تحتمل الكتابة العربية ويمكن فيها سرعة ما لا يمكن في غيرها من الكتابات.
فصل في أهل الخط العربي:
قال ابن اسحق: أول من كتب المــصاحف في الصدر الأول ويوصف بحسن الخط خالد بن أبي الهياج وكان سعد نصبه لكتب المــصاحف والشعر والأخبار للوليد بن عبد المــلك وكان الخط العربي حينئذ هو المــعروف الآن بالكوفي ومنه استنبطت الأقلام كما في شرح العقيلة.
ومن كتاب المــصاحف: خشنام البصري والمــهدي الكوفي وكانا في أيام الرشيد
ومنهم أبو حدى وكان يكتب المــصاحف في أيام المــعتصم من كبار الكوفيين وحذاقهم.
وأول من كتب في أيام بني أمية: قطبة وقد استخرج الأقلام الأربعة واشتق بعضها من بعض وكان أكتب الناس.
ثم كان بعده الضحاك بن عجلان الكاتب في أول خلافة بني العباس فزاد على قطبة.
ثم كان إسحاق بن حماد في خلافة المــنصور والمــهدي وله عدة تلامذة كتبوا الخطوط الأصلية المــوزونة وهي اثنا عشر قــلمــا: قــلم الجليل قــلم السجلات قــلم الديباج قــلم أسطورمار الكبير قــلم الثلاثين قــلم الزنبور قــلم المــفتح قــلم الحرم قــلم المــدامرات قــلم العهود قــلم القصص قــلم الحرفاج فحين ظهر الهاشميون حدث خط يسمى العراقي وهو المــحقق ولم يزل يزيد حتى انتهى الأمر إلى المــأمون فأخذ كتابه بتجويد خطوطهم وظهر رجل يعرف بالأحوال المــحرر فتكــلم على رسومه وقوانينه وجعله أنواعاً.
ثم ظهر قــلم المــرضع وقــلم النساخ وقــلم الرياسي اختراع ذي الرياستين: الفضل بن سهل وقــلم الرقاع وقــلم غبار الحلية.
ثم كان إسحاق بن إبراهيم التميمي المــكنى بأبي الحسن معــلم المــقتدر وأولاده أكتب أهل زمانه وله رسالة في الخط اسماها تحفة الوامق.
ومن الوزراء الكتاب: أبو علي محمد بن علي بن مقلة المــتوفى سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة وهو أول من كتب الخط البديع ثم ظهر صاحب الخط البديع علي بن هلال المــعروف بابن البواب المــتوفى سنة ثلاث عشرة وأربعمائة ولم يوجد في المــتقدمين من كتب مثله ولا قاربه وإن كان ابن مقلة أول من نقل هذه الطريقة من خط الكوفيين وأبرزها في هذه الصورة وله بذلك فضيلة السبق وخطه أيضا في نهاية الحسن لكن ابن البواب هذب طريقته ونقحها وكساها حلاوة وبهجة وكان شيخه في الكتابة محمد بن أسد الكاتب.
ثم ظهر أبو الدر ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي المــتوفى سنة ست وعشرين وستمائة.
ثم ظهر أبو المــجد ياقوت بن عبد الله الرومي المــستعصمي المــتوفى سنة ثمان وتسعين وستمائة وهو الذي سار ذكره في الآفاق واعترفوا بالعجز عن مداناة رتبته.
ثم اشتهرت الأقلام الستة بين المــتأخرين وهي: الثلث والنسخ والتعليق والريحان والمــحقق والرقاع.
ومن المــاهرين في هذه الأنواع: ابن مقلة وابن البواب وياقوت وعبد الله أرغون وعبد الله الصيرفي ويحيى الصوفي والشيخ أحمد السهروردي ومبارك شاه السيوفي ومبارك شاه القطب وأسد الله الكرماني.
ومن المــشهورين في البلاد الرومية: حمد الله بن الشيخ الأماسي وابنه دده جلبي والجلال والجمال وأحمد القرة الحصاري وتــلمــيذه حسن وعبد الله القريمي وغيرهم من النساخين
ثم ظهر قــلم التعليق والديواني والدشتي وكان ممن اشتهر بالتعليق سلطان علي المــشهدي ومير علي ومير عماد وفي الديواني تاج وغيرهم مدون في غير هذا المــحل مفصلا ولسنا نخوض بذكرهم لأن غرضنا بيان عــلم الخط.
وأما أبو الخير فأورد في الشعبة الأولى من مفتاح السعادة علوم متعلقة بكيفية الصناعة الخطية فنذكرها إجمالا في فصل
فمما ذكره:
أولا: عــلم أدوات الخط من القــلم وطريق بريها وأحوال الشق والقط ومن الدواة والمــداد والكاغد. فأقول هذه الأمور من أحوال عــلم الخط فلا وجه لإفراده ولو كان مثل ذلك عــلمــا لكان الأمر عسيراً.
وذكر ابن البواب نظم فيه قصيدة رائية بليغة استقصى فيها أدوات الكتابة ولياقوت رسالة فيه أيضا ومنها عــلم قوانين الكتابة: أي معرفة كيفية نقص صور الحروف البسائط وكيف يوضع القــلم ومن أي جانب يبتدئ في الكتابة وكيف يسهل تصوير تلك الحروف.
ومن المــصنفات فيه: الباب الواحد من كتاب صبح الأعشى وما ذلك إلا عــلم الخط.
ومنها عــلم تحسين الحروف وتقدم في باب التاء وهو أيضا من قبيل تكثير السواد قال: ومبنى هذا الفن الاستحسانات الناشئة من مقتضى الطباع السليمة بحسب الألف والعادة والمــزاج بل بحسب كل شخص وغير ذلك مما يؤثر في استحسان الصور واستقباحها ولهذا يتنوع هذا العــلم بحسب قوم وقوم ولهذا لا يكاد يوجد خطان متماثلان من كل الوجوه.
أقول ما ذكره في الاستحسان مســلم لكن تنوعه ليس بمتفرع عليه وعدم وجدان الخطين المــتماثلين لا يترتب على الاستحسان بل هو أمر عادي قريب إلى الجبلي كسائر أخلاق الكاتب وشمائله وفيه سر إلهي لا يطلع عليه إلا الأفراد.
ومنها عــلم كيفية تولد الخطوط عن أصولها بالاختصار والزيادة وغير ذلك من أنواع التغيرات بحسب قوم وقوم وبحسب أغراض معلومة في فنه وحداق الخطاطين صنفوا فيها رسائل كثيرة سيما كتاب صبح الأعشى فإن فيه كفاية في هذا الباب لكن هو أيضا من هذا القبيل.
ومنها عــلم ترتيب حروف التهجي بهذا الترتيب المــعهود فيما بيننا واشتراك بعضها ببعض في صورة الخط وإزالة التباسها بالنقط واختلاف تلك النقط وتقدم ذكره في باء التاء
ولابن جني والجزي1 رسالة في هذا الباب أما ترتيب الحروف فهو من أحوال عــلم الحروف وإعجامها من أحوال عــلم الخط.
ذكر النقط والإعجام في الإسلام
اعــلم أن الصدر الأول أخذ القرآن والحديث من أفواه الرجال بالتلقين ثم لمــا كثر أهل الإسلام اضطروا إلى وضع النقط والإعجام فقيل: أول من وضع النقط مراد والإعجام عامر وقيل: الحجاج وقيل: أبو الأسود الدؤلي بتلقين علي كرم الله وجهه إلا أن الظاهر أنهما موضوعان مع الحروف إذ يبعدان الحروف مع تشابه صورها كانت عرية عن النقط إلى حين نقط المــصحف وقد روي أن الصحابة جردوا المــصحف من كل شيء حتى النقط ولو لم توجد في زمانهم لمــا يصح التجريد منها.
وذكر ابن خلكان في ترجمة الحجاج أنه حكم أبو أحمد العسكري في كتاب التصحيف أن الناس مكثوا يقرؤون في مصحف عثمان - رضي الله عنه - نيفا وأربعين سنة إلى أيام عبد المــلك بن مروان ثم كثر التصحيف وانتشر بالعراق ففزع الحجاج إلى كتابه وسألهم أن يضعوا لهذه الحروف المــشتبهة علامات. فيقال: أن نصر بن عاصم وقيل: يحيى بن يعمر قام بذلك فوضع النقط وكان معه ذلك أيضا يقع التصحيف فأحدثوا الإعجام انتهى.
واعــلم أن النقط والإعجام في زماننا واجبات في المــصحف وأما في غير المــصحف فعند خوف اللبس واجبان البتة لأنهما ما وضعا إلا لإزالته وأما مع أمن اللبس فتركه أولى سيما إذا كان المــكتوب إليه أهلا.
وقد حكي أنه عرض على عبد الله بن طاهر خط بعض الكتاب فقال: ما أحسنه لولا أكثر شونيزة.
ويقال: كثرة النقط في الكتاب سوء الظن بالمــكتوب إليه.
وقد يقع بالنقط ضرر كما حكي أن جعفر المــتوكل كتب إلى بعض عماله: أن أخص من قبلك من الذميين وعرفنا بمبلغ عددهم فوقع على الحاء نقطة فجمع العامل من كان في عمله منهم وخصاهم فماتوا غير رجلين إلا في حروف لا يحتمل غيرها كصورة الياء والنون والقاف والفاء المــفردات وفيها أيضا مخير.
ثم أورد في الشعبة الثانية علوما متعلقة بإملاء الحروف المــفردة وهي أيضا كالأولى.
فمنها: عــلم تركيب أشكال بسائط الحروف من حيث حسنها فكما أن للحروف حسنا حال بساطتها فكذلك لها حسن مخصوص حال تركيبها من تناسب الشكل ومباديها أمور استحسانية ترجع إلى رعاية النسبة الطبيعية في الأشكال وله استمداد من الهندسيات
وذلك الحسن نوعان: حسن التشكيل في الحروف يكون بخمسة:
أولها: التوفية: وهي أن يوفى كل حرف قسمته من الأقدار في الطول والقصر والرقة والغلظة.
والثاني: الإتمام: وهو أن يعطى كل حرف قسمته من الأقدار في الطول والقصر والغلظة.
والثالث: الانكباب والاستلقاء.
والرابع: الإشباع.
والخامس: الإرسال: وهو أن يرسل يده بسرعة.
وحسن الوضع في الكــلمــات وهي ستة:
الترصيف: وهو وصل حرف إلى حرف.
والتأليف: وهو جمع حرف غير متصل.
والتسطير: وهو إضافة كــلمــة إلى كــلمــة.
والتفصيل: وهو مواقع المــدات المــستحسنة ومراعات فواصل الكلام وحسن التدبير في قطع كــلمــة واحدة بوقوعها إلى آخر السطر وفصل الكــلمــة التامة ووصلها بأن يكتب بعضها في آخر السطر وبعضها في أوله
ومنها عــلم إملاء الخط العربي: أي الأحوال العارضة لنقوش الخطوط العربية لا من حيث حسنها بل من حيث دلالتها على الألفاظ وهو أيضا من قبيل تكثير السواد.
ومنها عــلم خط المــصحف: على ما اصطلح عليه الصحابة عند جمع القرآن الكريم على ما اختاره زيد بن ثابت ويسمى الاصطلاح السلفي أيضا
وهذا العــلم وإن كان من فروع عــلم الخط من حيث كونه باحثا عن نوع من الخط لكن بحث عنه صاحب مدينة العلوم في علوم تتعلق بالقرآن الكريم وإنما تعرضنا له هنا تتميما للأقسام.
وفيه العقيلة الرائية للشاطبي.
ومنها عــلم خط العروض: وهو ما اصطلح عليه أهل العروض في تقطيع الشعر واعتمادهم في ذلك على ما يقع في السمع دون المــعنى المــعبثة به في صنعة العروض إنما هو اللفظ لأنهم يريدون به عدد الحروف التي يقوم بها الوزن متحركا وساكنا فيكتبون التنوين نونا ساكنة ولا يراعون حذفها في الوقف ويكتبون الحرف المــدغم بحرفين ويحذفون اللام مما يدغم فيه في الحرف الذي بعده كالرحمان والذاهب والضارب ويعتمدون في الحروف على أجزاء التفاعيل ويقطعون حروف الكــلم بحسب قطعها كما في قول الشاعر:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود فيكتبون على هذه الصورة:
ستبدي لكلايا مما كن تجاهلا ... ويأتي كبلا خبار منــلم تزودي
قال في الكشاف: وقد اتفقت في خط المــصحف أشياء خارجة عن القياس ثم ما دعا ذلك بضير ولا نقصان لاستقامة اللفظ وبقاء الخط وكان اتباع خط المــصحف سنة لا تخالف.
وقال ابن درستوري في كتاب الكتاب: خطان لا يقاسان خط المــصحف لأنه سنة وخط العروض لأنه يثبت فيه ما أثبته اللفظ ويسقط عنه ما أسقطه هذا خلاصة ما ذكروه في عــلم الخط1 ومتفرعاته.
وأما الكتب المــصنفة فيه فقد سبق ذكر بعض الرسائل وما عداها نادر جدا سوى أوراق ومختصرات كأرجوزة عون الدين.

علم أصول الدين

عــلم أصول الدين
المــسمى بالكلام يأتي في الكاف.
وقال الأرنيقي: هو عــلم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج عليها ودفع الشبه عنها.
وموضوعه عند الأقدمين: ذات الله تعالى وصفاته لأن المــقصود الأصلي من عــلم الكلام معرفته تعالى وصفاته ولمــا احتاجت مباديه إلى معرفة أحوال المــحدثات أدرج المــتأخرون تلك المــباحث في عــلم الكلام لئلا يحتاج أعلى العلوم الشرعية إلى العلوم الحكمية فجعلوا موضوعه المــوجود من حيث هو موجود وميزوه عن الحكمة بكون البحث فيه على قانون الإسلام وفي الحكمة على مقتضى العقول.
ولمــا رأى المــتأخرون احتياجه إلى معرفة أحوال الأدلة وأحكام الأقيسة وتحاشوا عن أن يحتاج أعلى العلوم الشرعية إلى عــلم المــنطق جعلوا موضوعه المــعلوم من حيث يتعلق به إثبات العقائد الدينية تعلقا قريبا أو بعيدا.
ثم إن عــلم الكلام شرطوا فيه أن تؤخذ العقيدة أولا من الكتاب والسنة ثم تثبت بالبراهين العقلية انتهى.
ثم ذكر الإنكار على عــلم الكلام نقلا عن الأئمة الأربعة وفصل أقوالهم في ذلك وأطال في بيانها وبيان حدوث الاعتزال ورد أبي الحسن الأشعري عليه قال: وعند ذلك ظهرت العقائد الواردة في الكتاب والسنة وتحولت قواعد عــلم الكلام من أيدي المــعتزلة إلى أيدي أهل السنة والجماعة انتهى.
ثم ذكر حال أبي منصور المــاتريدي وكتبه في العقائد.
قلت: والكتب في هذا العــلم كثيرة جدا وأحسنها كتب المــحدثين في إثبات العقائد على الوجه المــأثور عن الكتاب والسنة.
وفي الرد على المــتكــلمــين منها: كتب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وكتب تــلمــيذه الحافظ ابن القيم وكتاب الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم للسيد الإمام محمد بن إبراهيم الوزير اليمني.
وكتاب السفاريني وهو مجلد كبير وقد من الله تعالى بتلك الكتب النافعة علي منا كافيا وافيا. وكتبت قبل ذلك رسالة سميتها قصد السبيل إلى ذم الكلام والتأويل وهي نفيسة جدا وليس هذا المــوضوع بسط القول في ذم الكلام ومدح العقائد أهل الحديث الكرام.
قال في كشاف اصطلاحات الفنون: أما وجه تسميته ب الكلام فإنه يورث قدرة على الكلام في الشرعيات أو لأن أبوابه عنونت أولا بالكلام في كذا ولأن مسئلة الكلام أشهر أجزائه حتى كثر فيه التقاتل قال:
وسماه أبو حنيفة - رحمه الله - ب الفقه الأكبر.
وفي مجمع السلوك ويسمى ب عــلم النظر والاستدلال أيضاً. ويسمى أيضا ب عــلم التوحيد والصفات.
وفي شرح العقائد للتفتازاني: العــلم المــتعلق بالأحكام الفرعية أي العــلمــية يسمى عــلم الشرائع والأحكام وب الأحكام الأصلية أي الاعتقادية يسمى عــلم التوحيد والصفات انتهى.
ثم ذكر تعريف هذا العــلم على ما تقدم وأبدى فوائد قيود حده المــذكور آنفاً.
قال: وموضوعه: هو العلوم.
وقال الأرموي: ذات الله تعالى.
وقال طائفة منهم الغزالي: موضوعه المــوجود بما هو موجود أي من حيث هو غير مقيد بشيء
وفائدته وغايته: الترقي من حضيض التقليد إلى ذروة الإيقان وإرشاد المــسترشدين بإيضاح الحجة لهم وإلزام المــعاندين بإقامة الحجة عليهم وحفظ قواعد الدين عن أن تزلزلها شبهة المــبطلين وأن تبنى عليه العلوم الشرعية فإنه أساسها وإليه يؤول أخذها وأساسها فإنه ما لم يثبت وجود صانع عالم قادر مكلف مرسل للرسل منزل للكتب لم يتصور عــلم تفسير ولا عــلم فقه وأصوله فكلها متوقفة على عــلم الكلام مقتبسة منه فالأخذ فيها بدونه كبان على غير أساس.
وغاية هذه الأمور كلها: الفوز بسعادة الدارين ومن هذا تبين مرتبة الكلام أي شرفه فإن شرف الغاية يستلزم شرف العــلم وأيضا دلائله يقينية يحكم بها صريح العقل وقد تأيدت بالنقل وهي أي شهادة العقل مع تأيدها بالنقل هي الغاية في الوثاق إذ لا تبقي حينئذ شبهة في صحة الدليل.
وأما مسائله التي هي المــقاصد: فهي كل حكم نظري لمــعلوم والكلام هو العــلم الأعلى إذ تنتهي إليه العلوم الشرعية كلها وفيه تثبت موضوعاتها وحيثياتها فليست له مباد تبين في عــلم آخر شرعيا أو غيره بل مباديه إما مبينة بنفسها أو مبينة فيه فهي مسائل له من هذه الحيثية ومباد لمــسائل أخر منه لا تتوقف عليها لئلا يلزم الدور فلو وجدت في الكتب الكلامية مسائل لا يتوقف عليها إثبات العقائد في الكتاب فمن الكلام يستمد غيره من العلوم الشرعية وهو لا يستمد من غيره أصلا فهو رئيس العلوم الشرعية على الإطلاق بالجملة فعــلمــاء الإسلام وقد دونوا إثبات العقائد الدينية المــتعلقة بالصانع وصفاته وأفعاله وما يتفرع عليها من مباحث النبوة والمــعاد عــلمــا يتوصل به إلى إعلاء كــلمــة الحق فيها ولم يرضوا أن يكونوا محتاجين فيه إلى عــلم آخر أصلاً.
فأخذوا موضوعه على وجه يتناول تلك العقائد والمــباحث النظرية التي تتوقف عليها تلك العقائد سواء كان توقفها عليها باعتبار مواد أدلتها واعتبار صورها.
وجعلوا جميع ذلك مقاصد مطلوبة في عــلمــهم هذا فجاء عــلمــا مستغنيا في نفسه عما عداه ليس له مباد تبين في عــلم آخر هذا خلاصة ما في شرح المــواقف انتهى.
وانظر في هذا الباب كتاب العواصم والقواصم للسيد محمد بن إبراهيم الوزير اليمني - رحمه الله - يتضح لك الخطأ والصواب.

علم الإلهي

عــلم الإلهي
هو عــلم يبحث فيه عن الحوادث من حيث هي موجودات.
وموضوعه الوجود من حيث هو.
وغايته تحصيل الاعتقادات الحقة والتصورات المــطابقة لتحصيل السعادة الأبدية والسيادة السرمدية كذا في: مفتاح السعادة.
وفي كشاف اصطلاحات الفنون: هو عــلم بأحوال ما يفتقر في الوجودين أي الخارجي والذهني إلى المــادة.
ويسمى أيضا بالعــلم الأعلى وبالفلسفة الأولى وبالعــلم الكلي وبما بعد الطبيعة وبما قبل الطبيعة
والبحث فيه عن الكميات المــتصلة والكيفيات المــحسوسة والمــختصة بالكميات وأمثالها مما يفتقر إلى المــادة في الوجود الخارجي استطرادي وكذا البحث عن الصورة مع أن الصورة تحتاج إلى المــادة في التشكل كذا في العــلمــي وفي الصدر أمن الحكمية النظرية ما يتعلق بأمور غير مادية مستغنية القوام في نحوي الوجود العيني والذهني عن اشتراط المــادة كالإله الحق والعقول الفعالة والأقسام الأولية لــلمــوجود كالواجب والمــمكن والواحد والكثير والعلة والمــعلول والكلي والجزئي وغير ذلك فإن خالط شيء منها المــواد الجسمانية فلا يكون على سبيل الافتقار والوجوب.
وسموا هذا القسم: العــلم الأعلى فمنه العــلم الكلي المــشتمل على تقاسيم الوجود المــسمى بالفلسفة الأولى ومنه الإلهي الذي هو فن من المــفارقات.
وموضوع هذين الفنين: أعم الأشياء وهو المــوجود المــطلق من حيث هو. انتهى.
وأصول الإلهي خمسة:
الأول: الأمور العامة.
الثاني: إثبات الواجب وما يليق به.
الثالث: إثبات الجواهر الروحانية.
الرابع: بيان ارتباط الأمور الأرضية بالقوى السماوية.
الخامس: بيان نظام المــمكنات.
وفروعه قسمان:
الأول: البحث عن كيفية الوحي وصيرورة العقل محسوسا ومنه تعريف الإلهيات ومنه الروح الأمين.
الثاني: العــلم بالمــعاد الروحاني. انتهى.
وقال صاحب: إرشاد القاصد: يعبر عنه بالإلهي لاشتماله على عــلم الربوبية.
وبالعــلم الكلي لعمومه وشموله لكليات المــوجودات.
وبعــلم ما بعد الطبيعة لتجرد موضوعه عن المــواد ولواحقها.
قال: وأجزاؤه الأصلية خمسة: الأول: النظر في الأمور العامة مثل الوجود والمــاهية والوجوب والإمكان والقدم والحدوث والوحدة والكثرة.
والثاني: النظر في مبادئ العلوم كلها وتبيين مقدماتها ومراتبها. والثالث: النظر في إثبات وجود الإله ووجوبه والدلالة على وحدته وصفاته.
والرابع: النظر في إثبات الجواهر المــجردة من العقول والنفوس والمــلائكة والجن والشياطين وحقائقها وأحوالها.
والخامس: النظر في أحوال النفوس البشرية بعد مفارقتها وحال المــعاد.
ولمــا اشتدت الحاجة إليه اختلفت الطرق.
فمن الطالبين: من رام إدراكه بالبحث والنظر وهؤلاء زمرة الحكماء الباحثين ورئيسهم أرسطو وهذا الطريق أنفع للتعــلم لو وفى بجملة المــطالب وقامت عليها براهين يقينية وهيهات.
ومنهم: من سلك طريق تصفية النفس بالرياضة وأكثرهم يصل إلى أمور ذوقية يكشفها له العيان ويجل أن توصف بلسان ومنهم: ابتدأ أمره بالبحث والنظر وانتهى إلى التجريد وتصفية النفس فجمع بين الفضيلتين وينسب مثال هذا الحال إلى سقراط وأفلاطون والسهروردي والبيهقي. انتهى.
وقال أبو الخير: وهذا العــلم هو المــقصد الأقصى والمــطلب الأعلى لكن لمــن وقف على حقائقه واستقام في الإطلاع على دقائقه لأن حظي به فقد فاز فوزا عظيما ومن زلت فيه قدمه أو طغى به قــلمــه فقد ضل ضلالا بعيدا وخسر خسرانا مبينا إذ الباطل يشاكل الحق في مأخذه والوهم يعارض العقل في دلائله جل جناب الحق عن أن يكون شريعة الكل وارد أو يطلع على سرائر قدسه إلا واحد بعد واحد وقــلمــا يوجد إنسان يصفو عقله عن كدر الأوهام ويخلص فهمه عن مهاوي الإيهام ويستســلم لمــا قرره الأعلام.
واعــلم أن من النظر رتبة تناظر طريق التصفية ويقرب حدها من حدها وهو طريق الذوق ويسمونه الحكمة الذوقية.
وممن وصل إلى هذه الرتبة في السلف السهروردي وكتاب: حكمة الإشراق له صادر عن هذا المــقام برمز أخفى من أن يعــلم وفي المــتأخرين: الفاضل الكامل مولانا شمس الدين الفناري في بلاد الروم ومولانا جلال الدين الدواني في بلاد العجم ورئيس هؤلاء الشيخ صدر الدين القونوي والعلامة قطب الدين الشيرازي. انتهى. ملخصا أو سيأتي تمام التفصيل في الحكمة عند تحقيق الأقسام إن شاء الله العزيز العلام.
واعــلم أن منبع العلوم الحكمية النظرية وأستاذ الكل فيها إدريس عليه السلام آتاه الله الحكمة والنبوة وأنزل عليه ثلاثين صحيفة وعــلم النجوم. وأفهمه عدد السنين والحساب وعــلمــه الألسنة حتى تكــلم الناس في زمنه باثنين وتسعين لسانا ولد بمصر وسموه هرمس الهرامس وباليونانية أرمس بمعنى عطارد وعرب بهرمس واسمه الأصلي هنوخ وعرب أخنوخ وسماه الله تعالى في كتابه العربي المــبين إدريس لكثرة دراسة كتاب الله تعالى.
وقيل: إن معــلمــه غوثاديمون أو أغثاذيمون المــصري وتفسيره السعيد الجد قيل: وهو شيث عليه السلام.
ثم إن إدريس عرف الناس صفة نبينا محمد - صلى الله عليه وســلم - بأنه يكون بريئا عن المــذمات والآفات كلها كاملا في الفضائل المــمدوحات لا يقصر عما يسأل عنه مما في الأرض والسماء ومما فيه دواء وشفاء وأنه يكون مستجاب الدعوة في كل ما يطلبه ويكون مذهبه ودينه ما يصلح به العالم.
وكانت قبلة إدريس جهة الجنوب على خط نصف النهار كان رجلا تام الخلقة حسن الوجه أجلح كث اللحية مليح الشمائل والتخاطيط تام الباع عريض المــنكبين ضخم العظام قليل اللحم براق العين أكحلها متأنيا في كلامه كثير الصمت وإذا اغتاظ أخذ يحرك سبابته إذا تكــلم وكانت مدة مقامه في الأرض اثنتين وثمانين سنة ثم دفعه الله مكانا عليا.
وهو أول من خاط الثياب وحكم بالنجوم وأنذر بالطوفان وأول من بنى الهياكل ومجد الله فيها وأول من نظر في الطب وأول من ألف القصائد والأشعار وهو الذي بنى أهرام بمصر وصور فيها جميع العلوم والصناعات وآلاتها خشية أن يذهب رسمها بالطوفان.
واعــلم أيضا أن من أساتذة الحكمة الحكيم أفلاطون أحد الأساطين الخمسة للحكمة من يونان كبير القدر مقبول القول البليغ في مقاصده.
أخذ عن فيثاغورس وشارك مع سقراط في الأخذ عنه وصنف في الحكمة كتبا لكن اختار فيها الرمز والإغلاق وكان يعــلم تلاميذه وهو ماش ولهذا سموا المــشائين وفوض الدرس في آخر عمره إلى أرشد أصحابه وانقطع هو للعبادة وعاش ثمانين سنة وولد في مدينة أنيس ولازم سقراط خمسين سنة وكان عمره إذ ذاك عشرون سنة وتزوج امرأتين وكانت نفسه في التعليم مباركة تخرج بها عــلمــاء اشتهروا من بعده.
ومن جملة أساتذة الحكمة أرسطاطاليس تــلمــيذ أفلاطون لازم خدمته مدة عشرين سنة وكان أفلاطون يؤثر على غيره ويسميه العقل وهو خاتم حكماءهم وسيد عــلمــائهم وأول من استخرج المــنطق وله كتب شريفة في الفلسفة وكان معــلم الإسكندر بن فيلقوس وبآدابه وسياسته عمل هو فظهر الخير وفاض العدل وبه انقمع الشرك في بلاد اليونانيين.
ومعنى أرسطاطاليس محب الحكمة أو الفاضل الكامل عاش سبعا وستين سنة ومصنفاته تنيف على ثمانين وكان أبيض أجلح حسن القامة عظيم العظام صغير العينين والفم عريض الصدر كث اللحية أشهل العينين أقنى الأنف يسرع في مشيته ناظرا في الكتب دائما يقف عند كل كــلمــة ويطيل الإطراق عند السؤال قليل الجواب ينتقل في أوقات النهار في الفيافي ونحو الأنهار محبا لاستماع الألحان والاجتماع بأهل الرياضة وأصحاب الجدل منصفا في نفسه إذا خصم ويعرف بموضع الإصابة والخطأ معتدلا في المــلابس والمــآكل مات وله ثمان وتسعين سنة ثم إنه تخلف عن خدمة المــلوك وبنى موضع التعليم وأقبل على العناية بمصالح الناس.
وكان جليل القدر كثير التلاميذ من المــلوك وأبناءهم وكان أهل مدينة أسطا إذا أشكل عليهم أمر يجتمعون إلى قبره حتى يفتح لهم ويزعمون أن قبره يصحح فكرهم ويذكي عقولهم واستيفاء أخباره لا يمكن إلا في مجلد.
ومن جملة أساتذة الحكمة الفارابي وهو أبو نصر محمد بن محمد كان ذكيا حكيما مشهورا صاحب التصانيف في المــنطق والمــحكمة وغيرهما من العلوم وهو أكبر فلاسفة الإسلاميين لم يكن فيهم من بلغ رتبته في فنونه وتخرج ابن سينا في كتبه وبعلومه انتفع في تصانيفه كان رجلا تركيا تنقلت به الأسفار إلى أن وصل بغداد وهو يعرف كثيرا من اللغات غير العربي ثم تعــلمــه وأتقنه.
ثم اشتغل بالحكمة فقرأ على أبي بشر - متى بن يونس الحكيم - من شرح كتاب أرسطو في المــنطق سبعين سفرا وكان هو شيخا كبيرا له صيت عظيم يجتمعون في حلقته كل يوم المــئون من المــنطقيين ثم أخذ طرفا من المــنطق من أبي حنا ابن خيلان الحكيم النصراني بمدينة حران ثم نقل إلى بغداد وقرأ بها علوم الفلسفة وتمهر في كتب أرسطو جميعها يقال وجد كتاب النفس لأرسطو عليه مكتوب بخط الفار أبي: إني قرأت هذا الكتاب مائتي مرة وقال: قرأت السماع الطبعي لأرسطو أربعين مرة ومع ذلك إني محتاج إلى معاودته وكان يقول: لو أدركت أرسطو لكنت أكبر تلامذته.
ثم سافر إلى دمشق ثم إلى مصر ثم عاد إلى دمشق فأحسن إليه سلطانها1 سيف الدولة بن حمدان وأجرى عليه كل يوم أربعة دراهم لأنه كان أزهد الناس في الدنيا لا يحتفل بأمر مكتسب ولا مسكن لذلك أقتصر على أربعة دراهم وكان منفردا بنفسه لا يكون إلا في مجتمع ماء أو مشبك رياض ويؤلف كتبه هناك وكان أكثر تصانيفه في الرقاع ولم يصنف في الكراريس إلا قليلا فلذلك كانت أكثر تصانيفه فصولا وتعليقات وبعضها ناقصا.
يحكى أن الآلات المــسماة بالقونون من تركيبه.
توفي سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة بدمشق وقد ناهز ثمانين سنة.
وعدد مصنفاته من الكتب والرسالة سبعون كلها نافعة سيما كتابان في العــلم الإلهي والمــدني لا نظير لهما.
أحدهما: المــعروف بالسياسة المــدنية.
والأخرى: بالسيرة الفاضلة وصنف كتابا شريفا في إحصاء العلوم والتعريف بأغراضها لم يسبق إليه أحد ولا ذهب أحد مذهبه ولا يستغني عنه أحد من طلاب العــلم وكذا كتابه في أغراض أفلاطون وأرسطو أطلع فيه على أسرار العلوم وثمارها عــلمــا عــلمــا وبين كيفية التدرج من بعضها إليها بعض شيئا فشيئا ثم بدأ بفلسفة أرسطو ووصف أغراضه في تواليفه المــنطقية والطبيعية فلا أعــلم كتابا أجدى على طلب الفلسفة منه.
وفاراب: إحدى مدن الترك فيما وراء النهر. ومن جملة أساطين الحكمة: أبو علي حسين بن عبد الله بن سينا الحكيم المــشهور وكان أبوه من بلخ ثم انتقل منها إلى بخارا وكان من العمال الكفاة وتولى العمل بقرية من بخارا يقال لها هرمين ثم انتقلوا إلى بخارا وانتقل الرئيس بعد ذلك في البلاد وأشتغل بالعلوم وحصل الفنون ولمــا بلغ عشر سنين من عمره أتقن عــلم القرآن العزيز والأدب وحفظ أشياء من أصول الدين وحساب الهندسة والجبر والمــقابلة ثم قرأ كتاب: إيساغوجي علي أبي عبد الله النابلي وأحكم عليه ظواهر المــنطق: لأنه لم يكن يعرف دقائقها ثم حل هو نفسه دقائق غفل عنها الأوائل وأحكم عليه إقليدس والمــجسطي وفاقه أضعافا كثيرة.
وكان مع ذلك يختلف في الفقه إلى إسماعيل الزاهد يقرأ ويبحث ويناظرهم ثم اشتغل بتحصيل الطبعي والإلهي وغير ذلك وفتح الله عليه أبواب العلوم ثم فاق في عــلم الطب الأوائل والأواخر في أقل مدة وأصبح عديم القرين فقيد المــثيل.
وقرأ عليه فضلاء هذا الفن أنواعه والمــعالجات المــقتبسة من التجربة وسنه إذ ذاك نحو ستة عشر وفي مدة اشتغاله لم ينم ليلة واحدة بكمالها ولم يشتغل في النهار بشيء سوى العــلم والمــطالعة وكان إذا أشكلت عليه مسئلة توضأ وقصد المــسجد الجامع وصلى ودعا الله عز وجل أن يسهلها عليه ويفتح مغلقها له فتح الله - تبارك وتعالى – مشكلاتها.
ثم اتصل بخدمة نوح بن نصر الساماني صاحب خراسان بسبب الطب ودخل إلى خزانة كتبه واطلع على كتب لم تقرع آذان الزمان بمثلها وحصل نخب فوائدها وتحلى بنفائس فرائدها.
ويحكى عنه أنه لم يطلع على مسئلة إلى آخر عمره إلا وكان يعرفها وكان في ثمانية عشر سنين من سنه حتى حكي عنه أنه قال: كل ما عــلمــته في ذلك الوقت فهو كما عــلمــته الآن لم أزد عليه إلى اليوم وهذا أمر عظيم لا يكاد يقبله العقل لولا عرف حد ذكائه.
ثم تنقلت به الأحوال بأمور يطول شرحها حتى استوزر ثم عزل وحبس وبعد هذه الأحوال كلها مرض ثم صلح ثم دخل إلى أن ضعف جدا ثم اغتسل وتاب1 وتصدق بما معه على الفقراء ورد المــظالم على من عرفه وأعتق مماليكه وجعل يختم في كل ثلاثة أيام ختمة ثم مات يوم الجمعة من رمضان سنة ثمان وعشرين وأربعمائة بهمذان وكانت ولادته سنة سبعين وثلاثمائة في شهر صفر وقيل: توفي بأصبهان وفضائله كثيرة شهيرة وكان نادرة عصره في عــلمــه وذكائه وتصانيفه.
وعدة مؤلفاته ثمانية وستون على الأشهر وقيل: يقارب مائة مصنف ما بين مطول ومختصر. ورسائله بديعة منها: رسالة حي بن يقظان و: رسالة سلامان و: إبسال و: رسالة الطب و: قصيدة الورقاء يرمز بها عن النفس الناطقة.
ومن جملة أساطين الحكمة الإمام فخر الدين الرازي وممن نحا نحو ابن سينا والرازي:
نصير الدين الطوسي وهو محمد بن محمد سلطان الحكماء المــدققين وقدوتهم في زمانه جامع علوم المــتقدمين والمــتأخرين.
ولد يوم السبت حادي عشر جمادى الأولى سنة سبع وتسعين وخمسمائة توفي آخر نهار الاثنين ثامن عشر ذي الحجة وقت مغيب الشمس سنة اثنتين وسبعين وستمائة ودفن بالمــشهد الكاظمي.
وكان آية في التدقيق والتحقيق وحل المــواضع المــشكلة سيما: لطف التحرير الذي لم يلتفت إليه المــتقدمون بل التفتوا إلى جانب المــعنى فقط ثم إن الفاضل الشريف قلده في أمر التحرير والتقرير كما يظهر ذلك بالنظر في تصانيفهما.
وكان1 غاليا في التشيع كما يفصح عنه المــقصد السادس من التجريد إلا أن الشيخ أكمل الدين قال: في أواخر شرحه للتجريد سمعت شيخي العلامة قطب الدين الشيرازي قال: كان الناس مختلفين في أن هذا الكتاب يعني التجريد لخواجه نصير الدين أولا فسأل عن ذلك ابنه خواجه أصيل الدين فقال: كان والدي وضعه إلى باب الإمامة وتوفي فكمله ابن المــطهر الحلي وكان من الشيعة وهو زائغ زيغا عظيما فعلى هذه الرواية يكون بريئا عن نقيصة التشيع إلا أن المــشهور عند الجمهور خلاف.
وبمن يلي هؤلاء في معرفة الحكمة الشيخ شهاب الدين السهروردي بل فاق كثيرا في الحكمة الذوقية.
وممن خرط في سلكهم الشيخ قطب دن الشيرازي والشيخ قطب الدين الرازي وسعد الدين التفتازاني والسيد الشريف الجرجاني ثم الجلال الدواني.
قال الأرنيقي: بعد ما ذكر في: مدينة العلوم ومن فضلاء بلادنا مولانا مصلح الدين مصطفى الشهير بخواجه زاده ومصلح الدين مصطفى الشهير بالقسطلاني لكن هؤلاء السبعة قد فاقوا على أكثر المــتقدمين في الحديث والتفسير والأصول والفروع إلا أن الإمام فخر الدين الرازي فإنه تمهر فيها مع مشاركته لهؤلاء في علوم الحكمة بأقسامها وإن اتقانه أقوى من إتقانهم. انتهى
قلت: وفي قوله فاق على أكثر المــتقدمين إلى آخره نظرا لأن العــلم المــجرد بالحديث والتفسير لا يكفي في صحة الاعتقاد والعمل حتى يستعملها على وجههما ويقول بمقتضاهما ويحقق فحواهما وأنى لهم التناوش من مكان بعيد.
والفخر الرازي أكثر كلاما من هؤلاء في علوم التفسير ولكن قال أهل التحقيق في حق كتابه: مفاتيح الغيب فيه كل شيء إلا التفسير وقد بحث في تفسيره هذا عن كل شيء لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وقد أخطأ في مواضع مما يتعلق بفهم القرآن الكريم ويقال: إنه لم يكمل تفسيره بل كمله بعض من جاء بعده والخطأ منه وقد أصاب في مواضع منها: رد التقليد واثبات الاتباع. والله أعــلم.
ثم قال في: مدينة العلوم: إن الكتب المــؤلفة في العــلم الإلهي لمــا لم يخل عن الرياضي والطبعي أيضا أحببنا أن نذكره بعد الفراغ عن الكل - اللهم إلا نادرا -: كالمــباحث المــشرقية للإمام فخر الدين الرازي وأمثاله ولا تظن أن العلوم الحكمية مخالفة للعلوم الشرعية مطلقا بل الخلاف في مسائل يسيرة وبعضها مخالف في مسائل قليلة ظاهرا لكن إن حقق يصافح أحدهما الآخر ويعانقه. انتهى.
قال في: كشف الظنون ثم اعــلم أن البحث والنظر في هذا العــلم لا يخلو إما: أن يكون على طريق النظر أو: على طريق الذوق فالأول: إما على قانون فلاسفة المــشائين فالمــتكفل له كتب الحكمة أو على قانون المــتكــلمــين فالمــتكفل حينئذ كتب الكلام لأفاضل المــتأخرين والثاني: إما على قانون فلاسفة الإشراقين فالمــتكفل له حكمة الإشراق ونحوه أو على قانون الصوفية واصطلاحهم فكتب التصوف.
وقد عــلم موضوع هذا الفن ومطالبه فلا تغفل فإن هذا التنبيه والتعليم مما فات عن أصحاب المــوضوعات - وفوق كل ذي عــلم عليم.
وعبارة ابن خلدون في: تاريخه هكذا.
قال: عــلم الإلهيات: هو عــلم ينظر في الوجود المــطلق.
فأولا: في الأمور العامة للجسمانيات والروحانيات من المــاهيات والوحدة والكثرة والوجوب والإمكان وغير ذلك.
ثم ينظر في مبادئ المــوجودات وأنها روحانيات.
ثم في كيفية صدور المــوجودات عنها ومراتبها.
ثم في أحوال النفس بعد مفارقة الأجسام وعودها إلى المــبدأ.
وهو عندهم: عــلم شريف يزعمون أنه يوقفهم على معرفة الوجود على ما هو عليه وإن ذلك عين السعادة في زعمهم وسيأتي الرد عليهم وهو تال للطبيعيات في ترتيبهم ولذلك يسمونه: عــلم ما وراء الطبيعة وكتب المــعــلم الأول فيه موجود بين أيدي الناس ولخصه ابن سينا في كتاب: الشفاء والنجاة وكذلك لخصها ابن رشد من حكماء الأندلس.
ولمــا وضع المــتأخرون في علوم القوم ودونوا فيها رد عليهم الغزالي ما رد منها ثم خلط المــتأخرون من المــتكــلمــين مسائل عــلم الكلام بمسائل الفلسفة لعروضها في مباحثهم وتشابه موضوع عــلم الكلام بموضوع الإلهيات ومسائله بمسائلها فصارت كأنها فن واحد ثم غيروا ترتيب الحكماء في مسائل الطبيعيات والإلهيات وخلطوهما فنا واحدا قدموا الكلام في الأمور العامة ثم أتبعوه بالجسمانيات وتوابعها إلى آخر العــلم كما فعله الإمام ابن الخطيب في: المــباحث المــشرقية وجميع من بعده من عــلمــاء الكلام وصار عــلم الكلام مختلطا بمسائل الحكمة وكتبه محشوة بها كان الغرض من موضوعهما ومسائلهما واحد والتبس ذلك على الناس وهي غير صواب لأن مسائل عــلم الكلام إنما هي عقائد ملتقاة من الشريعة كما نقلها السلف من غير رجوع فيها إلى العقل ولا تعويل عليه بمعنى أنها لا تثبت إلا به فإن العقل معزول عن الشرع وأنظاره وما تحدث فيه المــتكــلمــون من إقامة الحجج فليس بحثا عن الحق فيها فالتعليل بالدليل بعد أن لم يكن معلوما هو شأن الفلسفة بل إنما هو التماس حجة عقلية تعضد عقائد الإيمان ومذاهب السلف فيها وتدفع شبه أهل البدع عنها الذين زعموا أن مداركهم فيها عقلية وذلك بعد أن تفرض صحيحة بالأدلة النقلية كما تلقاها السلف واعتقدوها وكثيرا ما بين المــقامين من التفاوت في ذلك مدارك صاحب الشريعة أوسع لاتساع نطاقها عن مدارك الأنظار العقلية فهي فوقها ومحيطة بها لاستمدادها من الأنوار الإلهية فلا تدخل تحت قانون النظر الضعيف والمــدارك المــحاط بها فإذا هدانا الشارع إلى مدرك فينبغي أن نقدمه على مداركنا ونثق به دونها ولا ننظر في تصحيحه بمدارك العقل ولو عارضه نعتمد ما أمرنا به اعتقادا وعــلمــا ونسكت عما لم نفهم من ذلك ونفوضه إلى الشارع ونعزل العقل عنه.
والمــتكــلمــون إنما دعاهم إلى ذلك كلام أهل الإلحاد في معارضات العقائد السلفية بالبدع النظرية فاحتاجوا إلى الرد عليهم من جنس معارضاتهم واستدعى ذلك الحجج النظرية والبطلان فليس من موضوع عــلم الكلام ولا من جنس أنظار المــتكــلمــين فاعــلم ذلك لتميز به بين الفنين فإنهما مختلطان عند المــتأخرين في الوضع والتأليف والحق مغايرة كل منه لصاحبه بالمــوضوع والمــسائل وإنما جاء الالتباس من اتحاد المــطالب عند الاستدلال وصار احتجاج أهل الكلام كأنه إنشاء لطلب الاعتداد بالدليل وليس كذلك بل إنما هو رد على المــلحدين
والمــطلوب مفروض الصدق معلومه وكذا جاء المــتأخرين من غلاة المــتصوفة المــتكــلمــين بالمــواجد أيضا فخلطوا مسائل الفنين بفنهم وجعلوا الكلام واحدا فيه كلها مثل كلامهم في النبوات والاتحاد والحلول والوحدة وغير ذلك.
والمــدارك في هذه الفنون الثلاثة متغايرة مختلفة وأبعدها من جنس الفنون والعلوم مدارك المــتصوفة لأنهم يدعون فيها الوجدان ويفرون عن الدليل والوجدان بعيد عن المــدارك العــلمــية وأبحاثها وتوابعها كما بيناه ونبينه - والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم -. انتهى كلامه.

علم الهيئة

عــلم الهيئة
ذكره في كشف الظنون ولم يزد على ذلك. وقال في مدينة العلوم: هو عــلم يعرف منه أحوال الأجرام البسيطة العلوية والسفلية وأشكالها وأوضاعها ومقاديرها وأبعادها.
وموضوعه الأجرام المــذكورة من الحيثية المــذكورة وقد يذكر هذا العــلم تارة مع براهينها الهندسية كما هو الأصل وهذا هو المــذكور في المــجسطي لبطليموس ولخصه الأبهري وعربه.
ومن الكتب المــختصرة: فيه هيئة ابن أفلح.
ومن المــبسوطة: القانون المــسعودي لأبي ريحان البيروتي وشرح المــجسطي للنيروزي وقد تجرد عن البراهين ويقتصر على التصور والتخيل دون اليقين ويسمى هيئة بسيطة.
ومن المــختصر فيه: التذكرة لنصير الدين الطوسي.
ومن المــتوسط: هيئة العرضي ومن المــبسوطة: أيضا التحفة ونهاية الإدراك كلاهما للعلامة قطب الدين الشيرازي.
ومن المــختصرة: المــلخص المــشهور لمــحمود الجغميني وعليه شروح منها: شرح لفضل الله العبيدي وكمال الدين الزاكاني والشريف الجرجاني.
وأحسن الشروح شرح الفاضل قاضي زادة الرومي.
ومن المــختصرة النافعة فيه: غاية النفع كتاب النخبة لعلي بن محمد القوشجي وعليه شرح لمــولانا سنان الدين وشرحه أستاذي محمود بن محمد بن قاضي زاده الرومي وهو ابن بنت المــصنف علي بن محمد القوشجي كتبه عند قراءتي عليه الكتاب المــذكور وهذا الشرح من أحسن المــؤلفات في هذا الفن وكانت القدماء قد اقتصروا في هيئة الأفلاك على الدوائر المــجردة وتسمى: هيئة مسطحة وفيه كتاب لأبي علي بن الهيثم انتهى كلامه.
قال في كشاف اصطلاحات الفنون: عــلم الهيئة: هو من أصول الرياضي وهو عــلم يبحث فيه عن أحوال الأجرام البسيطة العلوية والسفلية من حيث الكمية والكيفية والوضع والحركة اللازمة لها وما يلزم منها.
فالكمية إما منفصلة: كأعداد الأفلاك وبعض الكواكب دون أعداد العناصر فإنها مأخوذة من الطبعيات وأما متصلة: كمقادير الأجرام والأبعاد واليوم وأجزاءه وما يتركب منها.
وأما الكيفية: فكالشكل إذ تتبين فيه استدارة هذه الأجسام وكلون الكواكب وضوئها.
وأما الوضع: فكقرب الكواكب وبعدها عن دائرة معينة وانتصاب دائرة وميلانها بالنسبة إلى سمت رؤوس سكان الأقاليم وحيلولة الأرض بين النيرين والقمر بين الشمس والأبصار ونحو ذلك.
وأما الحركة فالمــبحوث عنه في هذا الفن منها هو قدرها وجهتها.
وأما البحث عن أصل الحركة وإثباتها للأفلاك فمن الطبعيات والمــراد باللازمة الدائمة على زعمهم وهي حركات الأفلاك والكواكب واحترز بها عن حركات العناصر كالرياح والأمواج والزلازل فإن البحث عنها من الطبعيات.
وأما حركة الأرض من المــغرب إلى المــشرق وحركة الهواء بمشايعتها وحركة النار بمشايعة الفلك فمما لم يثبت ولو ثبت فلا يبعد أن يجعل البحث عنها من حيث القدر والجهة من مسائل الهيئة والمــراد بما يلزم من الحركة الرجوع والاستقامة التذكرة هذا القيد - أعني قيد ما يلزم منها - والظاهر أنه لا حاجة إليه.
والغرض من قيد الحيثية: الاحتراز عن عــلم السماء والعالم فإن موضوعه البسائط المــذكورة أيضا لكن يبحث فيه عنها لا عن الحيثية المــذكورة بل من حيث طبائعها ومواضعها والحكمة في ترتيبها ونضدها وحركاتها إلا باعتبار القدر والجهة.
وبالجملة فموضوع الهيئة الجسم البسيط من حيث إمكان عروض الأشكال والحركات المــخصوصة ونحوها وموضوع عــلم السماء والعالم الذي هو من أقسام الطبعي الجسم البسيط أيضا لكن من حيث إمكان عروض التغير والثبات وإنما زيد لفظ الإمكان إشارة إلى أن ما هو من جزء المــوضوع ينبغي أن يكون مســلم الثبوت وهو إمكان العروض لا العروض بالفعل.
وقيل: موضوع كل من العــلمــين الجسم البسيط من حيث إمكان عروض الأشكال والحركات والتمايز بينهما إنما هو بالبرهان فإن أثبت المــطلوب بالبرهان الآني يكون من الهيئة وإن أثبت بالبرهان الــلمــي يكون من عــلم السماء والعالم فإن تمايز العلوم كما يكون بتمايز المــوضوعات كذلك قد يقع بالمــحمولات والقول بأن التمايز في العلوم إنما هو بالمــوضوع فأمر لم يثبت بالدليل بل هو مجرد رعاية مناسبة.
واعــلم أن الناظر في حركات الكواكب وضبطها وإقامة البراهين على أحوالها يكفيه الاقتصار على اعتبار الدوائر ويسمى ذلك هيئة غير مجسمة ومن أراد تصور مبادئ تلك الحركات على الوجه المــطابق لقاعد الحكمة فعليه تصور الكرات على وجه تظهر حركات مراكز الكواكب وما يجري مجراها في مناطقها ويسمى ذلك هيئة مجسمة وإطلاق العام على المــجسمة مجاز ولهذا قال صاحب التذكرة:
إنها ليست بعــلم تام لأن العلوم هو التصديق بالمــسائل على وجه البرهان فإذا لم يورد بالبرهان يكون حكاية لــلمــسائل المــثبتة بالبرهان في موضع آخر هذا كله خلاصة ما ذكره عبد العلي البرجندي في حواشي شرح المــلخص.
والمــذكور في عــلم الهيئة ليس مبينا على المــقدمات الطبعية والإلهية وما جرت به العادة من تصدير المــصنفين كتبهم بها إنما هو بطريق المــتابعة للفلاسفة وليس ذلك أمرا واجبا بل يمكن إثباته من غير ملاحظة الابتناء عليها فإن المــذكور فيه بعضه مقدمات هندسية لا يتطرق إليها شبهة مثلا: مشاهدة التشكلات البدرية والهلالية على الوجه المــرصود توجب اليقين بان نور القمر مستفاد من نور الشمس وبعضه مقدمات يحكم بها العقل بحسب الأخذ لمــا هو الأليق والأحرى كما يقولون: إن محدب الحامل يماس محدب المــمثل على نقطة مشتركة وكذا مقعره بمقعره ولا مستند لهم غير أن الأولى أن لا يكون في الفلكيات فضل لا يحتاج إليه وكذا الحال في أعداد الأفلاك من أنها تسعة وبعضه مقدمات يذكرونها على سبيل التردد دن الجزم كما يقولون أن اختلاف حركة الشمس بالسرعة والبطء إما بناء على أصل الخارج أو على أصل التدوير من غير جزم بأحدهما فظهر أن ما قيل: من أن إثبات مسائل هذا الفن مبني على أصول فاسدة مأخوذة من الفلاسفة من نفي القادر المــختار وعدم تجويز الخرق والالتئام على الأفلاك وغير ذلك ليس بشيء ومنشأه عدم الاطلاع على مسائل هذا الفن ودلائله. وذلك لأن مشاهدة التشكلات البدرية والهلالية على الوجه المــرصود توجب اليقين بأن نور القمر حاصل من نور الشمس وإن الخسوف إنما هو بسبب حيلولة الأرض بين النيرين والكسوف إنما هو بسبب حيلولة القمر بين الشمس والبصر مع القول بثبوت القادر المــختار ونفي تلك الأصول المــذكور فإن ثبوت القادر المــختار وانتفاء تلك الأصول لا ينفيان أن يكون الحال ما ذكر غاية الأمر أنهما يجوزان الاحتمالات الآخر مثلا: على تقدير ثبوت القادر المــختار يجوز أن يسود القادر بحسب أرادته وينور وجه القمر على ما يشاهد من التشكلات البدرية والهلالية وأيضا يجوز على تقدير الاختلاف في حركات الفلكيات وسائر أحوالها أن يكون أحد نصفي كل من النيرين مضيئا والآخر مظــلمــا ويتحرك النيران على مركزيهما بحيث يصير وجهاهما المــظــلمــان مواجهين لنا في حالتي الخسوف والكسوف إما بالتمام إذا كانا تامين أو بالبعض إن كانا ناقصين وعلى هذا القياس حال التشكلات البدرية والهلالية لكنا نجزم مع قيام الاحتمالات المــذكور أن الحال على ما ذكر من استفادة القمر النور من الشمس وأن الخسوف والكسوف بسبب الحيلولة ومثل هذا الاحتمال قائم في العلوم العادية والتجريبية أيضا بل في جميع الضروريات مع أن القادر المــختار يجوز أن يجعلها كذلك بحسب إرادته بل على تقدير أن يكون المــبدأ موجبا يجوز أن يتحقق وضع غريب من الأوضاع الفلكية فيقتضي ظهور ذلك الأمر الغريب على مذهب القائلين بالإيجاب من استناد الحوادث إلى الأوضاع الفلكية وغير ذلك مما هو مذكور في شبه القادحين في الضروريات.
ولو ســلم أن إثبات مسائل هذا الفن يتوقف على تلك الأصول الفاسدة فلا شك أنه إنما يكون ذلك إذا ادعى أصحاب هذا الفن أنه لا يمكن إلا على الوجه الذي ذكرنا.
أما إذا كان دعواهم أنه يمكن أن يكون على ذلك الوجه ويمكن أن يكون على الوجوه الآخر فلا يتصور التوقف حينئذ وكفى بهم فضلا أنهم تخيلوا من الوجوه المــمكنة ما تنضبط به أحوال تلك الكواكب مع كثرة اختلافاتها على وجه تيسر لهم أن يعينوا مواضع تلك الكواكب واتصالات بعضها ببعض في كل وقت وأرادوا بحيث يطابق الحس والعيان مطابقة تتحير فيها العقول والأذهان كذا في شرح التجريد وهكذا يستفاد من شرح المــواقف في موقف الجواهر في آخر بيان محدد الجهات.
وفي إرشاد القاصد الهيئة: وهو عــلم تعرف به أحوال الأجرام البسيطة العلوية والسفلية وأشكالها وأوضاعها وأبعاد ما بينها وحركات الأفلاك والكواكب ومقاديرها.
وموضوعه: الأجسام المــذكورة من حيث كميتها وأوضاعها وحركاتها اللازمة لها.
وأما العلوم المــتفرعة عليه فهي خمسة وذلك لأنه إما أن يبحث عن إيجاد ما تبرهن بالفعل أولا.
الثاني: كيفية.
الأرصاد والأول: إما حساب الأعمال أو التوصل إلى معرفتها بالآلات.
فالأول منهما: إن اختص بالكواكب المــجردة فهو عــلم الزيجات والتقاويم وإلا فهو عــلم المــواقيت.
والآلات: إما شعاعية أو ظلية فإن كانت شعاعية فهو عــلم تسطيح الكرة وإن كانت ظلية فعــلم الآلات الظلية وقد ذكرنا هذه العلوم في هذا الكتاب على نهج الترتيب المــختار فيه.
وقال ابن خلدون: هو عــلم ينظر في حركات الكواكب الثابتة والمــتحركة والمــتحيرة ويتسدل بكيفيات تلك الحركات على أشكال وأوضاع للأفلاك لزمت عنها هذه الحركات المــحسوسة بطرق هندسة كما يبرهن على أن مركز الأرض مبائن لمــركز فلك الشمس بوجود حركة الإقبال والأدبار وكما يستدل بالرجوع والاستقامة للكواكب على وجود أفلاك صغيرة حاملة لها متحركة داخل فلكها الأعظم وكما يبرهن على وجود الفلك الثامن بحركة الكواكب الثابتة وكما يبرهن على تعدد الأفلاك للكوكب الواحد بتعدد المــيلول له وأمثال ذلك وإدراك المــوجود من الحركات وكيفياتها وأجناسها إنما هو بالرصد فإنا إنما عــلمــنا حركة الإقبال والأدبار به وكذا ترتيب الأفلاك في طبقاتها وكذا الرجوع والاستقامة وأمثال ذلك.
وكان اليونانيون يعتنون بالرصد كثيرا ويتخذون له الآلات التي توضع ليرصد بها حركة الكوكب المــعين وكانت تسمى عندهم: ذات الحلق وصناعة عملها والبراهين عليه في مطابقة حركتها بحركة الفلك منقول بأيدي الناس.
وأما في الإسلام: فــلم تقع به عناية إلا في القليل وكان في أيام المــأمون شيء منه وصنع الآلة المــعروفة للرصد المــسماة: ذات الحلق وشرع في ذلك فــلم يتم ولمــا مات ذهب رسمه وأغفل واعتمد من بعده على الأرصاد القديمة وليست بمغنية لاختلاف الحركات باتصال الأحقاب.
وإن مطابقة حركة الآلة في الرصد بحركة الأفلاك والكواكب إنما هو بالتقريب ولا يعطى التحقيق فإذا طال الزمان ظهر تفاوت ذلك بالتقريب.
وهذه الهيئة صناعة شريفة وليست على ما يفهم في المــشهور إنها تعطي صورة السموات وترتيب الأفلاك والكواكب بالحقيقة بل إنما تعطي أن هذه الصور والهيئات للأفلاك لزمت عن هذه الحركات وأنت تعــلم أنه لا يبعد أن يكون الشيء الواحد لازما لمــختلفين وإن قلنا:
إن الحركات لازمة فهو استدلال باللازم على وجود المــلزوم ولا يعطي الحقيقة بوجه على أنه عــلم جليل وهو أحد أركان التعاليم.
ومن أحسن التآليف فيه: كتاب المــجسطي منسوب لبطليموس وليس من ملوك اليونان الذين أسماهم بطليموس على ما حققه شراح الكتاب وقد اختصره الأئمة من حكماء الإسلام كما فعله ابن سينا وأدرجه في تعاليم الشفاء ولخصه ابن رشد أيضا من حكماء الأندلس وابن السمح وابن الصلت في كتاب الاقتصار ولابن الفرغاني هيئة ملخصة قربها وحذف براهينها الهندسية والله عــلم الإنسان ما لم يعــلم سبحانه لا إله إلا هو رب العــلمــين انتهى كلام ابن خلدون. وقد بسطنا القول في الهيئة في كتابنا لقطة العجلان فمن شاء أن يطلع عليه فعليه به والله المــوفق. 

علم التفسير

عــلم التفسير
وهو: عــلم باحث عن معنى نظم القرآن، بحسب الطاقة البشرية، وبحسب ما تقتضيه القواعد العربية.
ومباديه: العلوم العربية، وأصول الكلام، وأصول الفقه، والجدل،... وغير ذلك من العلوم الجمة.
والغرض منه: معرفة معاني النظم.
وفائدته: حصول القدرة على استنباط الأحكام الشرعية، على وجه الصحة.
وموضوعه: كلام الله - سبحانه وتعالى - الذي هو: منبع كل حكمة، ومعدن كل فضيلة.
وغايته: التوصل إلى فهم معاني القرآن، واستنباط حكمه، ليفاز به إلى السعادة الدنيوية، والأخروية.
وشرف العــلم وجلالته، باعتبار شرف موضوعه وغايته، فهو أشرف العلوم، وأعظمها.
هذا ما ذكره: أبو الخير، وابن صدر الدين.
وذكر العلامة الفناري، في تفسير الفاتحة، فصلا مفيدا في تعريف هذا العــلم، ولا بأس بإيراده، إذ هو مشتمل على لطائف التعريف.
قال مولانا: قطب الدين الرازي، في: (شرحه للكشاف) : هو ما يبحث فيه عن مراد الله - سبحانه وتعالى - من قرآنه المــجيد، ويرد عليه: أن البحث فيه ربما كان عن أحوال الألفاظ، كمباحث: القراءات، وناسخية الألفاظ، ومنسوخيتها، وأسباب نزولها، وترتيب نزولها،... إلى غير ذلك.
فلا يجمعها حده، وأيضا يدخل في البحث في الفقه الأكبر، والأصغر، عما يثبت بالكتاب، فإنه بحث عن مراد الله - تعالى - من قرآنه، فلا يمنعه حده، فكان الشارح التفتازاني إنما عدل عنه لذلك، إلى قوله:
هو: العــلم الباحث عن: أحوال ألفاظ كلام الله - سبحانه وتعالى، من حيث: الدلالة على مراد الله - تعالى -.
ويرد على مختاره أيضا: وجوه.
الأول: أن البحث المــتعلق بألفاظ القرآن، ربما لا يكون بحيث يؤثر في المــعنى المــراد بالدلالة والبيان، كمباحث عــلم القراءة، عن أمثال التفخيم، والإمالة، إلى ما لا يحصى، فإن عــلم القراءة: جزء من عــلم التفسير، أفرز عنه لمــزيد الاهتمام إفراز الكحالة من الطب، والفرائض من الفقه، وقد خرج بقيد الحيثية، ولم يجمعه، فإن قيل: أراد تعريفه بعد إفراز عــلم القراءة، قلنا: فلا يناسب الشرح المــشروح للبحث في التفسير، عما لا يتغير به المــعنى في مواضع لا تحصى.
الثاني: أن المــراد بالمــراد، إن كان المــراد بمطلق الكلام، فقد دخل العلوم الأدبية، وإن كان مراد الله - تعالى - بكلامه، فإن أريد مراده في نفس الأمر، فلا يفيده بحث التفسير، لأن طريقه غالبا: إما رواية الآحاد، أو الدراية بطريق العربية، وكلاهما ظني كما عرف، ولأن فهم كل واحد بقدر استعداده.
ولذلك أوصى المــشايخ - رحمهم الله - في الإيمان: أن يقال: آمنت بالله، وبما جاء من عنده، على مراده، وآمنت برسول الله، وبما قاله على مراده، ولا يعين بما ذكره أهل التفسير.
ويكرر ذلك: عــلم الهدى، في تأويلاته، وإن أريد مراد الله - سبحانه وتعالى - في زعم المــفسر، ففيه: حزازة من وجهين:
الأول: كون عــلم التفسير بالنسبة إلى كل مفسر إلى كل أحد شيئا آخر، وهذا مثل ما اعترض، أي التفتازاني على حد الفقه، لصاحب (التنقيح)، وظن وروده، وإلا فإني أجيب عنه: بأن التعدد ليس في حقيقته النوعية، بل في جزئياتها المــختلفة، باختلاف القوابل.
وأيضا، ذكر الشيخ: صدر الدين القونوي، في تفسير: (مالك يوم الدين..) أن جميع المــعاني المــفسر بها لفظ القرآن رواية أو دراية صحيحتين، مراد الله - سبحانه وتعالى -، لكن بحسب المــراتب والقوابل، لا في حق كل أحد.
الثاني: أن الأذهان تنساق بمعاني الألفاظ، إلى ما في نفس الأمر على ما عرف، فلا بد لصرفها عنه، من أن يقال من حيث الدلالة على ما يظن أنه مراد الله - سبحانه وتعالى -.
الثالث: أن عبارة العــلم الباحث في المــتعارف، ينصرف إلى الأصول، والقواعد، أو ملكتها، وليس لعــلم التفسير قواعد يتفرع عليها الجزئيات، إلا في مواضع نادرة، فلا يتناول غير تلك المــواضع، إلا بالعناية.
فالأَوْلَى أن يقال: عــلم التفسير: معرفة أحوال كلام الله - سبحانه وتعالى - من حيث: القرآنية، ومن حيث: دلالته على ما يعــلم أو يظن أن مراد الله - سبحانه وتعالى - بقدر الطاقة الإنسانية، فهذا يتناول أقسام البيان بأسرها. انتهى كلام الفناري بنوع تلخيص.
ثم أورد فصولا: في تقسيم هذا الحد إلى: تفسير، وتأويل، وبيان الحاجة إليه، وجواز الخوض فيهما، ومعرفة وجوههما، المــسماة: بطونا، أو ظهرا، وبطنا، وحدا، فمن أراد الاطلاع على حقائق عــلم التفسير، فعليه مطالعته، ولا ينبؤه مثل خبير.
ثم إن المــولى: أبا الخير، أطال في (طبقات المــفسرين).
ونحن أشرنا: إلى من ليس لهم تصنيف فيه، من مفسري الصحابة، والتابعين، إشارة إجمالية، والباقي مذكور عند ذكر كتابه.
أما المــفسرون من الصحابة، فمنهم:
الخلفاء الأربعة.
وابن مسعود.
وابن عباس.
وأبي بن كعب.
وزيد بن ثابت.
وأبو موسى الأشعري.
وعبد الله بن الزبير.
وأنس بن مالك.
وأبو هريرة.
وجابر.
وعبد الله بن عمرو بن العاص، - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين -.
ثم اعــلم: أن الخلفاء الأربعة، أكثر من روي عنه: علي بن أبي طالب، والرواية عن الثلاثة، في ندرة جدا.
والسبب فيه: تقدم وفاتهم، وأما علي - رضي الله عنه - فروي عنه الكثير.
عن ابن مسعود، أنه قال: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، ما منها حرف إلا وله ظهر وبطن، وإن عليا - رضي الله تعالى عنه - عنده من الظاهر والباطن.
وأما بن مسعود - رضي الله تعالى عنهم -، فروي عنه أكثر مما روي عن علي - رضي الله تعالى عنه -.
مات: بالمــدينة، سنة 32، اثنتين وثلاثين.
وأما ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -.
المــتوفى: سنة 68، ثمان وستين، بالطائف.
فهو ترجمان القرآن، وحبر الأمة، ورئيس المــفسرين، دعا له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَــلَّمَ -، فقال: (اللهم فقهه في الدين، وعــلمــه التأويل).
وقد ورد عنه: في التفسير، ما لا يحصى كثرة، لكن أحسن الطرق عنه: طريقة: علي بن أبي طلحة الهاشمي.
المــتوفى: سنة 143، ثلاث وأربعين ومائة.
واعتمد على هذه البخاري في (صحيحه).
ومن جيد الطرق عنه: طريق: قيس بن مســلم الكوفي.
المــتوفى: سنة 120، عشرين ومائة.
عن عطاء بن السائب.
وطريق: ابن إسحاق صاحب (السير).
وأوهى طريقته: طريق الكلبي، عن أبي صالح.
والكلبي: هو: أبو النصر: محمد بن السائب.
المــتوفى: بالكوفة، سنة 146، ست وأربعين ومائة.
فإن انضم إليه رواية: محمد بن مروان السدي الصغير.
المــتوفى: سنة 186، ست وثمانين ومائة.
فهي سلسلة الكذب.
وكذلك: طريق: مقاتل بن سليمان بن بشر الأزدي.
المــتوفى: سنة 150، خمسين ومائة.
إلا أن الكلبي: يفضل عليه، لمــا في مقاتل من المــذاهب الرديئة.
وطريق: الضحاك بن مزاحم الكوفي.
المــتوفى: سنة 102، اثنتين ومائة.
عن: ابن عباس منقطعة، فإن الضحاك لم يلقه.
وإن انضم إلى ذلك: رواية: بشر بن عمارة، فضعيفة ضعف بشر.
وقد أخرج عنه:
ابن جرير.
وابن أبي حاتم.
وإن كان من رواية: جرير عن الضحاك، فأشد ضعفا، لأن جريرا شديد الضعف، متروك.
وإنما أخرج منه:
ابن مردويه.
وأبو الشيخ: ابن حبان.
دون: ابن جرير.
وأما: أبي بن كعب.
المــتوفى: سنة 20، عشرين، على خلاف فيه.
فعنه نسخة كبيرة.
يرويها: أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عنه، وهذا إسناد صحيح.
وهو أحد الأربعة الذين جمعوا القرآن، على عهد رسول الله - صلى الله تعالى عليه وســلم -.
وكان أقرأ الصحابة، وسيد القراء.
ومن الصحابة: من ورد عنه اليسير من التفسير، غير هؤلاء، منهم:
أنس بن مالك بن النضر.
المــتوفى: بالبصرة، سنة 91، إحدى وتسعين.
وأبو هريرة: عبد الرحمن بن صخر، على خلاف.
المــتوفى: بالمــدينة، سنة 57، سبع وخمسين.
وعبد الله بن عمر بن الخطاب.
المــتوفى: بمكة المــكرمة، سنة 73، ثلاث وسبعين.
وجابر بن عبد الله الأنصاري.
المــتوفى: بالمــدينة، سنة 74، أربع وسبعين.
وأبو موسى: عبد الله بن قيس الأشعري.
المــتوفى: سنة 44، أربع وأربعين.
وعبد الله بن عمرو بن العاص السهمي.
المــتوفى: سنة 63، ثلاث وستين.
وهو: أحد العبادلة الذين استقر عليهم أمر العــلم، في آخر عهد الصحابة.
وزيد بن ثابت الأنصاري.
وأما المــفسرون من التابعين، فمنهم:
أصحاب ابن عباس.
وهم عــلمــاء مكة المــكرمة - شرفها الله تعالى -.
ومنهم:
مجاهد بن حبر المــكي.
المــتوفى: سنة 103، ثلاث ومائة.
قال: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة.
واعتمد على تفسيره: الشافعي، والبخاري.
وسعيد بن جبير.
المــتوفى: سنة 94، أربع وتسعين.
وعكرمة، مولى: ابن عباس.
المــتوفى: بمكة، سنة 105، خمس ومائة.
وطاووس بن كيسان اليماني.
المــتوفى: بمكة، سنة 106، ست ومائة.
وعطاء بن أبي رباح المــكي.
المــتوفى: سنة 114، أربع عشرة ومائة.
ومنهم:
أصحاب ابن مسعود.
وهم: عــلمــاء الكوفة.
كعلقمة بن قيس.
المــتوفى: سنة 102، اثنتين ومائة.
والأسود بن يزيد.
المــتوفى: سنة 75، خمس وسبعين.
وإبراهيم النخعي.
المــتوفى: سنة 95، خمس وتسعين.
والشعبي.
المــتوفى: سنة 105، خمس ومائة.
ومنهم:
أصحاب: زيد بن أســلم.
كعبد الرحمن بن زيد.
ومالك بن أنس.
ومنهم:
الحسن البصري.
المــتوفى: سنة 121، إحدى وعشرين ومائة.
وعطاء بن أبي ســلمــة ميسرة الخراساني.
المــتوفى: سنة...
ومحمد بن كعب القرظي.
المــتوفى: سنة 117، سبع عشرة ومائة.
وأبو العالية: رفيع بن مهران الرياحي.
المــتوفى: سنة 90، تسعين.
والضحاك بن زاحم.
وعطية بن سعيد العوفي.
المــتوفى: سنة 111، إحدى عشرة ومائة.
وقتادة بن دعامة السدوسي.
المــتوفى: سنة 117، سبع عشرة ومائة.
وربيع بن أنس السدي.
ثم بعد هذه الطبقة:
الذين صنفوا كتب التفاسير، التي تجمع أقوال الصحابة، والتابعين:
كسفيان بن عيينة.
ووكيع بن الجراح.
وشعبة بن الحجاج.
ويزيد بن هارون.
وعبد الرزاق.
وآدم بن أبي إياس.
وإسحاق بن راهويه.
وروح بن عبادة.
وعبد الله بن حميد.
وأبي بكر بن أبي شيبة.
... وآخرين.
وسيأتي ذكر كتبهم.
ثم بعد هؤلاء: طبقة أخرى، منهم:
عبد الرزاق.
وعلي بن أبي طلحة.
وابن جرير.
وابن أبي حاتم.
وابن ماجة.
والحاكم.
وابن مردويه.
وأبو الشيخ: ابن حبان.
وابن المــنذر ... في آخرين.
ثم انتصبت طبقة بعدهم:
إلى تصنيف: تفاسير مشحونة بالفوائد، محذوفة الأسانيد، مثل:
أبي إسحاق الزجاج.
وأبي علي الفارسي.
وأما:
أبو بكر النقاش.
وأبو جعفر النحاس.
فكثيرا ما استدرك الناس عليهما.
ومثل: مكي بن أبي طالب.
وأبي العباس المــهدوي.
ثم ألف في التفسير طائفة من المــتأخرين:
فاختصروا الأسانيد، ونقلوا الأقوال بتراء، فدخل من هنا الدخيل، والتبس الصحيح بالعليل، ثم صار كل من سنح له قول يورده، ومن خطر بباله شيء يعتمده، ثم ينقل ذلك خلف عن سلف، ظانا أن له أصلا، غير ملتفت إلى تحرير ما ورد عن السلف الصالح، ومن هم القدوة في هذا الباب.
قال السيوطي: رأيت في تفسير قوله - سبحانه وتعالى -: (غير المــغضوب عليهم ولا الضالين)، نحو: عشرة أقول، مع أن الوارد عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَــلَّمَ -، وجميع الصحابة، والتابعين: ليس غير اليهود والنصارى.
حتى قال ابن أبي حاتم: لا أعــلم في هذا اختلافا من المــفسرين.
ثم صنف بعد ذلك: قوم برعوا في شيء من العلوم.
ومنهم: من ملأ كتابه بما غلب على طبعه من الفن، واقتصر فيه على: ما تمهر هو فيه، كأن القرآن انزل لأجل هذا العــلم لا غير، مع أن فيه تبيان كل شيء.
فالنحوي: تراه ليس له هم إلا الإعراب، وتكثير الأوجه المــحتملة فيه، وإن كانت بعيدة، وينقل قواعد النحو، ومسائله، وفروعه، وخلفياته:
كالزجاج.
والواحدي في: (البسيط).
وأبي حيان في: (البحر والنهر).
والإخباري: ليس له شغل إلا القصص واستيفاؤها، والأخبار عمن سلف، سواء كانت صحيحة أو باطلة.
ومنهم:
الثعلبي.
والفقيه: يكاد يسرد فيه الفقه جميعا، وربما استطرد إلى إقامة أدلة الفروع الفقهية، التي لا تعلق لها بالآية أصلا، والجواب عن أدلة المــخالفين:
كالقرطبي.
وصاحب: (العلوم العقلية).
خصوصا:
الإمام: فخر الدين الرازي.
قد ملأ تفسيره: بأقوال الحكماء، والفلاسفة، وخرج من شيء إلى شيء، حتى يقضي الناظر العجب.
قال أبو حيان في (البحر) : جمع الإمام الرازي في تفسيره أشياء كثيرة طويلة، لا حاجة بها في عــلم التفسير.
ولذلك قال بعض العــلمــاء: فيه كل شيء إلا التفسير.
والمــبتدع: ليس له قصد إلا تحريف الآيات، وتسويتها على مذهبه الفاسد، بحيث أنه لو لاح له شاردة من بعيد اقتنصها، أو وجد موضعا له فيه أدنى مجال سارع إليه.
كما نقل عن البلقيني، أنه قال: استخرجت من (الكشاف) اعتزالا بالمــناقيش، منها:
أنه قال في قوله - سبحانه وتعالى -: (فمن زحزح عن النار، وأدخل الجنة فقد فاز)، أي: فوز أعظم من دخول الجنة، أشار به إلى عدم الرؤية.
والمــلحد: فلا تسأل عن كفره، وإلحاده في آيات الله - تعالى -، وافترائه على الله - تعالى - ما لم يقله.
كقول بعضهم (إن هي إلا فتنتك) : ما على العباد أضر من ربهم.
وينسب هذا القول إلى صاحب: (قوت القلوب)، أبي طالب المــكي.
ومن ذلك القبيل: الذين يتكــلمــون في القرآن بلا سند، ولا نقل عن السلف، ولا رعاية للأصول الشرعية، والقواعد العربية.
كتفسير: محمود بن حمزة الكرماني.
في مجلدين.
سماه: (العجائب، والغرائب).
ضمنه: أقوالا، هي عجائب عند العوام، وغرائب عما عهد عن السلف، بل هي أقوال منكرة، لا يحل الاعتقاد عليها، ولا ذكرها، إلا للتحذير.
من ذلك قول من قال في (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا) : إنه الحب والعشق.
ومن ذلك قولهم في (ومن شر غاسق إذا وقب) : إنه الذكر إذا قام.
وقولهم في (من ذا الذي يشفع عنده) : معناه: (من ذل)، أي: من الذل، و(ذي) : إشارة إلى النفس، و(يشف) : من الشفاء، جواب: مَنْ، و(عِ) : أمر من الوعي.
وسئل البلقيني: عمن فسر بهذا؟ فأفتى بأنه: ملحد.
وأما: كلام الصوفية في القرآن، فليس بتفسير.
قال ابن الصلاح في (فتاواه) : وجدت عند الإمام الواحدي، أنه قال: صنف الســلمــي (حقائق التفسير)، إن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير، فقد كفر.
قال النسفي في (عقائده) : النصوص تحمل على ظواهرها، والعدول عنها، إلى معان يدعيها أهل الباطن، إلحاد.
وقال التفتازاني في (شرحه) : سميت المــلاحدة: باطنية، لادعائهم أن النصوص ليست على ظواهرها، بل لها معان باطنة.
وقال: وأما ما يذهب إليه بعض المــحققين، من أن النصوص على ظواهرها، ومع ذلك فيها إشارات خفية، إلى دقائق تنكشف على أرباب السلوك، يمكن التطبيق بينها، وبين الظواهر المــرادة، فهو من كمال العرفان، ومحض الإيمان.
وقال تاج الدين، عطاء الله، في (لطائف المــنن) : اعــلم: أن تفسير هذه الطائفة لكلام الله - سبحانه وتعالى -، وكلام رسول الله - صلى الله تعالى عليه وســلم - بالمــعاني الغريبة، ليست إحالة الظاهر عن ظاهره، ولكن ظاهر الآية مفهوم، منه ما جلبت الآية له، ودلت عليه في عرف اللسان، وثَمَّ أفهام باطنة تفهم عند الآية والحديث، لمــن فتح الله - تعالى - قلبه.
وقد جاء في الحديث: (لكل آية ظهر وباطن...).
فلا يصدنك عن تلقي هذه المــعاني منهم، أن يقول لك ذو جدل: هذا إحالة لكلام الله - تعالى -، وكلام رسول الله، فليس ذلك بإحالة؛ وإنما يكون إحالة، لو قال: لا معنى للآية إلا هذا.
وهم يقولون ذلك، بل يفسرون الظواهر على ظواهرها، مرادا بها موضوعاتها. انتهى.
قال صاحب (مفتاح السعادة) : الإيمان بالقرآن هو: التصديق بأنه كلام الله - سبحانه وتعالى -، قد أنزل على رسوله محمد - صلى الله تعالى عليه وســلم -، بواسطة جبرائيل - عليه السلام -، وأنه دال على صفة أزلية له - سبحانه وتعالى -، وأن ما دل هو عليه بطريق القواعد العربية، مما هو مراد الله - سبحانه وتعالى - حق لا ريب فيه، ثم تلك الدلالة على مراده - سبحانه وتعالى - بواسطة القوانين الأدبية، المــوافقة للقواعد الشرعية، والأحاديث النبوية، مراد الله - سبحانه وتعالى -.
ومن جملة ما عــلم من الشرائع: أن مراد الله - سبحانه وتعالى - من القرآن، لا ينحصر في هذا القدر، لمــا قد ثبت في الأحاديث: (إن لكل آية ظهرا وبطنا..).
وذلك المــراد الآخر لمــا لم يطلع عليه كل أحد، بل من أعصى فهما وعــلمــا، من لدنه - تعالى - يكون الضابط في صحته: أن لا يرفع ظاهر المــعاني المــنفهمة، عن الألفاظ بالقوانين العربية، وأن لا يخالف القواعد الشرعية، ولا يباين إعجاز القرآن، ولا يناقض النصوص الواقعة فيها، فإن وجد هذه الشرائط، فلا يطعن فيه، وإلا فهو بمعزل عن القبول.
قال الزمخشري: من حق تفسير القرآن أن يتعاهد بقاء النظم على حسنه، والبلاغة على كمالها، وما وقع به التحدي سليما من القادح، وأما الذين تأيدت فطرتهم النقية، بالمــشاهدات الكشفية، فهم القدوة في هذه المــسالك، ولا يمنعون أصلا عن التوغل في ذلك.
ثم ذكر ما وجب على المــفسر من الآداب، وقال:
ثم اعــلم: أن العــلمــاء - كما بينوا في التفسير شرائط - بينوا أيضا في المــفسر شرائط، لا يحل التعاطي لمــن عري عنها، أو هو فيها راجل، وهي: أن يعرف خمسة عشر عــلمــا، على وجه الإتقان، والكمال:
اللغة، والنحو، والتصريف، والاشتقاق، والمــعاني، والبيان، والبديع، والقراآت، وأصول الدين، وأصول الفقه، وأسباب النزول، والقصص، والناسخ والمــنسوخ، والفقه، والأحاديث المــبينة لتفسير المــجمل والمــبهم، وعــلم المــوهبة، وهو: عــلم يورثه الله - سبحانه وتعالى - لمــن عمل بما عــلم، وهذه العلوم التي لا مندوحة لــلمــفسر عنها، وإلا فعــلم التفسير لا بد له من التبحر في كل العلوم.
ثم إن تفسير القرآن ثلاثة أقسام:
الأول: عــلم لم يطلع الله - سبحانه وتعالى - عليه أحدا من خلقه، وهو: ما استأثر به من علوم أسرار كتابه، من معرفة: كنه ذاته، ومعرفة حقائق أسمائه، وصفاته، وهذا لا يجوز لأحد الكلام فيه.
والثاني: ما أطلع الله - سبحانه وتعالى - نبيه عليه من أسرار الكتاب، واختص به، فلا يجوز الكلام فيه، إلا له - عليه الصلاة والسلام -، أو لمــن أذن له.
قيل: وأوائل السور من هذا القسم، وقيل: من الأول.
والثالث: علوم عــلمــها - الله تعالى - نبيه، مما أودع كتابه من المــعاني الجلية، والخفية، وأمره بتعليمها.
وهذا ينقسم إلى قسمين:
منه: ما لا يجوز الكلام فيه، إلا بطريق السمع، كأسباب النزول، والناسخ والمــنسوخ، والقراآت، واللغات، وقصص الأمم، وأخبار ما هو كائن.
ومنه: ما يؤخذ بطريق النظر، والاستنباط، من الألفاظ، وهو قسمان:
قسم: اختلفوا في جوازه ، وهو: تأويل الآيات المــتشابهات.
وقسم: اتفقوا عليه، وهو: استنباط الأحكام الأصلية، والفرعية، والإعرابية، لأن مبناها على الأقيسة.
وكذلك: فنون البلاغة، وضروب المــواعظ، والحكم، والإشارات، لا يمتنع استنباطها منه، لمــن له أهلية ذلك؛ وما عدا هذه الأمور هو: التفسير بالرأي، الذي نهي عنه.
وفيه خمسة أنواع:
الأول: في التفسير، من غير حصول العلوم، التي يجوز معها التفسير.
الثاني: تفسير المــتشابه، الذي لا يعــلمــه إلا الله - سبحانه وتعالى -.
الثالث: التفسير المــقرر لــلمــذهب الفاسد، بأن يجعل المــذهب أصلا، والتفسير تابعا له، فيرد إليه بأي طريق أمكن، وإن كان ضعيفا.
الرابع: التفسير بأن مراد الله - سبحانه وتعالى - كذا على القطع، من غير دليل.
الخامس: التفسير بالاستحسان والهوى.
وإذا عرفت هذه الفوائد، وإن أطنبنا فيها، لكونها رأس العلوم، ورئيسها.
فاعــلم: أن كتب التفاسير كثيرة، ذكرنا منها هاهنا ما هو مسطور في هذا السفر على ترتيبه.
(الإبانة، في تفسير آية الأمانة).
(الإتقان، في علوم القرآن).
(أبين الحصص، في أحسن القصص).
(أحكام القرآن).
كثيرة.
(إرشاد العقل السليم).
لأبي مسعود.
(إرشاد ابن برجان).
(أسباب النزول).
سبق كتبه في فنه.
(إعراب القرآن).
مر ذكر كتبه في فنه.
(أسئلة القرآن).
(إعجاز القرآن).
(إغاثة اللهف، تفسير الكهف).
(أقاليم التعاليم).
(أقسام القرآن).
(الإقناع).
في تفسير: آية الانتصار.
للزمخشري، من أبي المــنير.
(الانتصاف، شرح الكشاف).
(الإنصاف، في الجمع بين: الثعلبي والكشاف).
(أنوار التنزيل).
للبيضاوي.
ومتعلقاته.
(أنوار ابن مقسم).
(إيجاز البيان).
(الإيجاز في الناسخ والمــنسوخ).
(الإيضاح).
فيه أيضا.
(بحار القرآن).
(بحر الحقائق).
(بحر الدرر).
(بحر العلوم).
(البرهان، في علوم القرآن).
(البرهان، في تفسير القرآن).
(بحر البحور).
(البرهان، في تناسب السور).
(البرهان، في إعجاز القرآن).
(بسيط الواحدي).
(بصائر ذوي التمييز).
(بصائر).
فارسي.
(البيان، في تأويلات القرآن).
(البيان، في مبهمات القرآن).
(البيان، في علوم القرآن).
(البيان، في شواهد القرآن).
(تاج المــعاني).
(تاج التراجم).
(تأويلات القرآن).
(تأويلات المــاتريدي).
(التبصرة في التفسير).
(تبصير الرحمن).
(التبيان، في إعراب القرآن).
(التبيان، في تفسير القرآن).
(التبيان، في أقسام القرآن).
(التبيان، في مسائل القرآن).
(التبيان، في متشابه القرآن).
(تبيين القرآن).
(تحف الأنام).
(تحقيق البيان).
(التحبير، في علوم التفسير).
(ترجمان القرآن).
(الترجمان في التفسير).
(تعداد الآي).
(التعظيم والمــنة).
(تعلق الآي).
عــلم التفسير: أي تفسير القرآن
هو: عــلم باحث عن معنى نظم القرآن بحسب الطاقة البشرية وبحسب ما تقتضيه القواعد العربية.
ومباديه: العلوم العربية وأصول الكلام وأصول الفقه والجدل وغير ذلك من العلوم الجمة.
والغرض منه: معرفة معاني النظم بقدر الطاقة البشرية.
وفائدته: حصول القدرة على استنباط الأحكام الشرعية على وجه الصحة والاتعاظ بما فيه من القصص والعبر والاتصاف بما تضمنه من مكارم الأخلاق إلى غير ذلك من الفوائد التي لا يمكن تعدادها لأنه بحر لا تنقضي عجائبه وسبحانه من أنزله وأرشد به عباده.
وموضوعه: كلام الله - سبحانه وتعالى - الذي هو: منبع كل حكمة ومعدن كل فضيلة.
وغايته: التوصل إلى فهم معاني القرآن واستنباط حكمه ليفاز به إلى السعادة الدنيوية والأخروية وشرف العــلم وجلالته باعتبار شرف موضوعه وغايته فهو أشرف العلوم وأعظمها هذا ما ذكره أبو الخير وابن صدر الدين والأرتيقي.
قال في: كشاف اصطلاحات الفنون: عــلم التفسير: عــلم يعرف به نزول الآيات وشؤونها وأقاصيصها والأسباب النازلة فيها ثم ترتيب مكيها ومدنيها ومحكمها ومتشابهها وناسخها ومنسوخها وخاصها وعامها ومطلقها ومقيدها ومجملها ومفسرها وحلالها وحرامها ووعدها ووعيدها وأمرها ونهيها وامتثالها وغيرها.
قال أبوحيان: التفسير: عــلم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها وأحكامها الإفرادية والتركيبية ومعانيها التي يحمل عليه حالة التركيب وتتمات ذلك.
وقال الزركشي: التفسير: عــلم يفهم به كتاب الله المــنزل على محمد - صلى الله عليه وســلم - وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحكمه واستمداد ذلك من عــلم اللغة والنحو والتصريف وعــلم البيان وأصول الفقه والقراءات وأما وجه الحاجة إليه فقال بعضهم: اعــلم أن من المــعلوم أن الله تعالى إنما خاطب خلقه بما يفهمونه ولذلك أرسل كل رسول بلسان قومه وأنزل كتابه على لغتهم وإنما احتيج إلى التفسير لمــا سيذكر بعد تقرير قاعدة وهي: أن كل من وضع من البشر كتاب فإنما وضعه ليفهم بذاته من غير شرح وإنما احتيج إلى الشروح لأمور ثلاثة:
أحدها: كمال فضيلة المــصنف فإنه بقوته العــلمــية بجمع المــعاني الدقيقة في اللفظ الوجيز فربما عسر فهم مراده فقصد بالشروح ظهور تلك المــعاني الدقيقة من ههنا كان شرح بعض الأئمة لتصنيفه أدل على المــراد من شرح غيره له"
وثانيها: إغفاله بعض متممات المــسئلة أو شروطها اعتمادا على وضوحها أو لأنها من عــلم آخر فيحتاج الشارح لبيان المــتروك ومراتبه.
وثالثها: احتمال اللفظ لمــعان مختلفة كما في المــجاز والاشتراك ودلالة الالتزام فيحتاج الشارح إلى بيان غرض المــصنف وترجيحه وقد يقع في التصانيف ما لا يخلو عنه بشر من السهو والغلط أو تكرار الشيء أو حذف المــهم أو غير ذلك فيحتاج الشارح للتنبيه على ذلك وإذا تقرر هذا فنقول:
إن القرآن إنما نزل بلسان عربي في زمن فصحاء العرب وكانوا يعــلمــون ظاهره وأحكامه أما دقائق باطنه فإنما كانت تظهر لهم بعد البحث والنظر مع سؤالهم للنبي - صلى الله عليه وســلم - في الأكثر كسؤالهم لمــا نزل: {وَــلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُــلْمٍ} فقالوا:
وأينا لم يظــلم نفسه ففسره النبي - صلى الله عليه وســلم - بالشرك واستدل عليه {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُــلْمٌ عَظِيمٌ} وغير ذلك مما سألوا عنه - صلى الله عليه وســلم - ونحن محتاجون إلى ما كانوا يحتاجون إليه مع أحكام الظاهر لقصورنا عن مدارك أحكام اللغة بغير تعــلم فنحن أشد احتياجا إلى التفسير.
وأما شرفه: فلا يخفى قال الله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} .
وقال الأصبهاني: شرفه من وجوه:
أحدها: من جهة المــوضوع: فإن موضوعه كلام الله تعالى الذي ينبوع كل حكمة ومعدن كل فضيلة.
وثانيها: من جهة الغرض: فإن الغرض منه الاعتصام بالعروة الوثقى والوصول إلى السعادة الحقيقية التي هي الغاية القصوى.
وثالثها: من جهة شدة الحاجة: فإن كل كمال ديني أو دنيوي مفتقر إلى العلوم الشرعية والمــعارف الدينية وهي متوقفة على العــلم بكتاب الله تعالى.
واختلف الناس في تفسير القرآن: هل يجوز لكل أحد الخوض فيه؟ فقال قوم: لا يجوز لأحد أن يتعاطى تفسير شيء من القرآن وأن كان عالمــا أديبا متسعا في معرفة الأدلة والفقه والنحو والأخبار والآثار، وليس له إلا أن ينتهي إلى ما روي عن النبي - صلى الله عليه وســلم - في ذلك.
ومنهم من قال: يجوز تفسيره لمــن كان جامعا للعلوم التي يحتاج المــفسر إليها وهي خمسة عشر عــلمــا: اللغة والنحو والتصريف والاشتقاق والمــعاني والبيان والبديع وعــلم القراءات: لأنه يعرف به كيفية النطق بالقرآن وبالقراءات يرجح بعض الوجوه المــحتملة على بعض وأصول الدين: أي الكلام وأصول الفقه وأسباب النزول والقصص إذ بسبب النزول يعرف معنى الآية المــنزلة فيه بحسب ما أنزلت فيه والناسخ والمــنسوخ ليعــلم المــحكم من غيره والفقه والأحاديث المــبينة لتفسير المــبهم والمــجمل وعــلم المــوهبة وهو عــلم يورثه الله لمــن عمل بما عــلم وإليه الإشارة بحديث: من عمل بما عــلم أورثه الله تعالى عــلم ما لم يعــلم.
قال البغوي والكواشي وغيرهما: التأويل صرف الآية إلى معنى موافق لمــا قبلها وما بعدها تحتملها الآية غير مخالف للكتاب والسنة غير محظور على العــلمــاء بالتفسير كقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} .
وقيل: أغنياء وفقراء.
وقيل: نشاطا أو غير نشاط.
وقيل: أصحاء ومرضى وكل ذلك سائغ والآية تحتمله.
وأما التأويل المــخالف للآية والشرخ فمحظور لأنه تأويل الجاهلين مثل تأويل الروافض قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} أنهما علي وفاطمة {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَــرْجَانُ} يعني الحسن والحسين. انتهى.
وذكر العلامة الفناري في: تفسير الفاتحة فصلا مفيدا في تعريف هذا العــلم ولا بأس بإيراده اذ هو مشتمل على لطائف التعريف.
قال قطب الدين الرازي في شرحه ل: الكشاف: هو ما يبحث فيه عن مراد الله - سبحانه وتعالى - من قرآنه المــجيد ويرد عليه أن البحث فيه ربما كان عن أحوال الألفاظ: كمباحث القراءات وناسخية الألفاظ ومنسوخيتها وأسباب نزولها وترتيب نزولها إلى غير ذلك فلا يجمعها أحده.
وأيضا يدخل فيه البحث في الفقه الأكبر والأصغر عما يثبت بالكتاب فإنه بحث عن مراد الله تعالى من قرآنه فلا يمنعه أحد فكان الشارح التفتازاني إنما عدل عنه لذلك إلى قوله: هو العــلم الباحث عن أحوال الألفاظ كلام الله - سبحانه وتعالى - من حيث الدلالة على مراد الله وترد على مختاره أيضا وجوه:
الأول: أن البحث المــتعلق بألفاظ القرآن ربما لا يكون بحيث يؤثر في المــعنى المــراد بالدلالة والبيان: كمباحث عــلم القراءة عن أمثال التفخيم والإمالة إلى ما لا يحصى فإن عــلم القراءة جزء من عــلم التفسير أفرز عنه لمــزيد الاهتمام إفراز الكحالة من الطب والفرائض من الفقه.
وقد خرج بقيد الحيثية ولم يجمعه فإن قيل: أراد تعريفه بعد إفراز عــلم القراءة
قلنا: فلا يناسب الشرح المــشروح للبحث في التفسير عما لا يتغير به المــعنى في مواضع لا تحصى
الثاني: أن المــراد بالمــراد إن كان المــراد بمطلق الكلام فقد دخل العلوم الأدبية وإن كان مراد الله تعالى بكلامه.
فإن أريد مراده في نفس الأمر فلا يفيده بحث التفسير لأن: طريقه غالبا إما رواية الآحاد أو الدراية بطريق العربية وكلاهما ظني كما عرف ولأن فهم كل أحد بقدر استعداده ولذلك أوصى المــشائخ - رحمهم الله - في الإيمان أن يقال: آمنت بالله وبما جاء من عنده على مراده وآمنت برسول الله وبما قاله على مراده ولا يعين بما ذكره أهل التفسير ويكرر ذلك على الهدي في تأويلاته.
وإن أريد مراد الله - سبحانه وتعالى - في زعم المــفسر ففيه خرازة من وجهين:
الأول: كون عــلم التفسير بالنسبة إلى كل مفسر بل إلى كل أحد شيئا آخر وهذا مثل ما اعترض على حد الفقه لصاحب: التنقيح وظن وروده وإلا فإني أجيب عنه بأن التعدد ليس في حقيقته النوعية بل في جزئياتها المــختلفة باختلاف القوابل.
وأيضا ذكر الشيخ صدر الدين القونوي في تفسير: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} : أن جميع المــعاني المــفسر بها لفظ القرآن رواية أو دراية صحيحتين مراد الله - سبحانه وتعالى - لكن بحسب المــراتب والقوابل لا في حق كل أحد.
الثاني: أن الأذهان تنساق بمعاني الألفاظ إلى ما في نفس الأمر على ما عرف فلا بد لصرفها عنه من أن يقال من حيث الدلالة على ما يظن أنه مراد الله سبحانه وتعالى.
الثالث: أن عبارة العــلم الباحث في المــتعارف ينصرف إلى الأصول والقواعد أو ملكتها وليس لعــلم التفسير قواعد يتفرع عليها الجزئيات إلا في مواضع نادرة فلا يتناول غير تلك المــواضع إلا بالعناية فالأولى: أن يقال عــلم التفسير معرفة أحوال كلام الله سبحانه وتعالى من حيث القرآنية ومن حيث دلالته على ما يعــلم أو يظن أنه مراد الله سبحانه وتعالى بقدر الطاقة الإنسانية فهذا يتناول أقسام البيان بأسرها. انتهى كلام الفناري بنوع تلخيص.
ثم أورد فصولا في تقسيم هذا الحد إلى تفسير وتأويل وبيان الحاجة إليه وجواز الخوض فيهما ومعرفة وجوههما المــسماة بطونا أو ظهرا أو بطنا فمن أراد الإطلاع على حقائق عــلم التفسير فعليه بمطالعته ولا ينبؤه مثل خبير.
ثم إن أبا الخير أطال في ذكر: طبقات المــفسرين ونحن أشرنا إلى من ليس لهم تصنيف فيه من مفسري الصحابة والتابعين إشارة جمالية والباقي مذكور عند ذكر كتابه.
أما المــفسرون من الصحابة فمنهم: الخلفاء الأربعة وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري وعبد الله بن الزبير وأنس بن مالك وأبو هريرة وجابر وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم.
ثم اعــلم أن الخلفاء الأربعة أكثر من روي عنه علي بن أبي طالب والرواية عن الثلاثة في ندرة جدا والسبب فيه تقدم وفاتهم وأما علي رضي الله عنه فروي عنه الكثير وروي عن ابن مسعود أنه قال إن القرآن أنزل على سبعة أحرف ما منها حرف إلا وله ظهر وبطن وإن عليا - رضي الله عنه - عنده من الظاهر والباطن.
وأما ابن مسعود فروي عنه أكثر مما روي عن علي مات بالمــدينة سنة اثنتين وثلاثين.
وأما ابن عباس المــتوفى سنة ثمان وستين بالطائف فهو: ترجمان القرآن وحبر الأمة ورئيس المــفسرين دعا له النبي - صلى الله عليه وســلم - فقال: "اللهم فقهه في الدين وعــلمــه التأويل".
وقد روي عنه في التفسير ما لا يحصى كثرة لكن أحسن الطرق عنه طريق علي بن أبي طلحة الهاشمي المــتوفى سنة ثلاث وأربعين ومائة واعتمد على هذه البخاري في صحيحه.
ومن جيد الطرق عنه طريق قيس بن مســلم الكوفي المــتوفى سنة عشرين ومائة عن عطاء بن السائب.
وطريق ابن إسحاق صاحب: السير.
وأوهى طريقة طريق الكلبي عن أبي صالح والكلبي: هو أبو النصر محمد بن السائب المــتوفى بالكوفة سنة ست وأربعين ومائة فإن انضم إليه رواية محمد بن مروان السدي الصغير المــتوفى سنة ست وثمانين ومائة فهي سلسلة الكذب وكذلك طريق مقاتل بن سليمان بن بشر الأزدي المــتوفى سنة خمسين ومائة إلا أن الكلبي يفضل عليه لمــا في مقاتل من المــذاهب الردية وطريق ضحاك بن مزاحم الكوفي المــتوفى سنة اثنتين مائة عن ابن عباس منقطعة فإن الضحاك لم يلقه وإن انضم إلى ذلك رواية بشر بن عمارة فضعيفة لضعف بشر وقد أخرج عنه ابن جرير وابن أبي حاتم وإن كان من رواية جرير عن الضحاك فأشد ضعفا لأن جريرا شديد الضعف متروك وإنما أخرج عنه ابن مردويه وأبو الشيخ ابن حبان دون ابن جرير وأما أبي ابن كعب المــتوفى سنة عشرين على خلاف فيه فعن نسخة كبيرة يرويها أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عنه وهذا إسناد صحيح وهو أحد الأربعة الذي جمعوا القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وســلم - كان أقرأ الصحابة وسيد القراء.
ومن الصحابة من ورد عنه اليسير من التفسير غير هؤلاء منهم أنس بن مالك بن النضر المــتوفى بالبصرة سنة إحدى وتسعين.
وأبو هريرة عبد الرحمن بن صخر على خلاف المــتوفى بالمــدينة سنة سبع وخمسين.
وعبد الله بن عمر بن الخطاب المــتوفى بمكة المــكرمة سنة ثلاث وسبعين.
وجابر بن عبد الله الأنصاري المــتوفى بالمــدينة سنة أربع وسبعين.
وأبو موسى عبد الرحمن بن قيس الأشرعي المــتوفى سنة أربع وأربعين.
وعبد الله بن عمرو بن العاص السهمي المــتوفى سنة ثلاث وستين وهو أحد العبادلة الذين استقر عليهم أمر العــلم في آخر عهد الصحابة.
وزيد بن ثابت الأنصاري كاتب النبي - صلى الله عليه وســلم - المــتوفى سنة خمس وأربعين
وأما المــفسرون من التابعين فمنهم أصحاب ابن عباس وهم: عــلمــاء مكة المــكرمة - شرفها الله تعالى.
ومنهم: مجاهد بن جبر المــكي المــتوفى سنة ثلاث ومائة قال: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة واعتمد على تفسيره الشافعي والبخاري.
وسعيد بن جبير المــتوفى سنة أربع وتسعين.
وعكرمة مولى ابن عباس المــتوفى بمكة سنة خمس ومائة.
وطاووس بن كيسان اليماني المــتوفى بمكة سنة ست ومائة.
وعطاء بن أبي رباح المــكي المــتوفى سنة أربع عشرة ومائة. ومنهم أصحاب ابن مسعود وهم عــلمــاء الكوفة.
كعلقمة بن قيس المــتوفى سنة اثنتين ومائة والأسود بن يزيد المــتوفى سنة خمس وسبعين.
وإبراهيم النخعي المــتوفى سنة خمس وتسعين.
والشعبي المــتوفى سنة خمس ومائة.
ومنهم: أصحاب زيد بن أســلم كعبد الرحمن بن زيد ومالك بن أنس.
ومنهم: الحسن البصري المــتوفى سنة إحدى وعشرين ومائة وعطاء بن أبي ســلمــة ميسرة الخراساني ومحمد بن كعب القرظي المــتوفى سنة سبع عشرة ومائة وأبو العالية رفيع بن مهران الرياحي المــتوفى سنة تسعين والضحاك بن مزاحم وعطية بن سعيد العوفي المــتوفى سنة إحدى عشرة ومائة وقتادة بن دعامة السدوسي المــتوفى سنة عشرة ومائة والربيع بن أنس والسدي
ثم بعد هذه الطبقة الذين صنفوا كتب التفاسير التي تجمع أقوال الصحابة والتابعين كسفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح وشعبة بن الحجاج ويزيد بن هارون وعبد الرزاق وآدم بن أبي إياس وإسحاق بن راهويه وروح بن عبادة وعبد لله بن حميد وأبي بكر بن أبي شيبة وآخرين.
ثم بعد هؤلاء طبقة أخرى منهم: عبد الرزاق علي بن أبي طلحة وابن جرير وابن أبي حاتم وابن ماجة والحاكم وابن مردويه وأبو الشيخ ابن حبان وابن المــنذر في آخرين.
ثم انتصبت طبقة بعدهم إلى تصنيف تفاسير مشحونة بالفوائد محذوفة الأسانيد مثل: أبي أسحق الزجاج وأبي علي الفارسي.
وأما أبو بكر النقاش وأبو جعفر النحاس فكثيرا ما استدرك الناس عليهما ومثل مكي بن أبي طالب وأبي العباس المــهدوي.
ثم ألف في التفسير طائفة من المــتأخرين فاختصروا الأسانيد ونقلوا الأقوال بترا فدخل من هنا الدخيل والتبس الصحيح بالعليل ثم صار كل من سنح له قول يورده ومن خطر بباله شيء يعتمده ثم ينقل ذلك خلف عن سلف ظانا أن له أصلا غير ملتفت إلى تحرير ما ورد عن السلف الصالح ومن هم القدوة في هذا الباب.
ثم صنف بعد ذلك قوم برعوا في شيء من العلوم ومنهم من ملأ كتابه بما غلب على طبعه من الفن واقتصر فيه على ما تمهر هو فيه وكان القرآن أنزل لأجل هذا العــلم لا غير مع أن فيه تبيان كل شيء.
فالنحوي تراه ليس له إلا الإعراب وتكثير الأوجه المــحتملة فيه وإن كانت بعيدة وينقل قواعد النحو ومسائله وفروعه وخلافياته ك: الزجاج و: الواحدي في البسيط وأبي حيان في: البحر والنهر.
والإخباري ليس له شغل إلا القصص واستيفاؤها والأخبار عن سلف سواء كانت صحيحة أو باطلة ومنهم الثعلبي.
والفقيه يكاد يسرد فيه الفقه جميعا وربما استطرد إلى إقامة أدلة الفروع الفقهية التي لا تعلو لها بالآية أصلا والجواب عن الأدلة لــلمــخالفين كالقرطبي.
وصاحب العلوم العقلية خصوصا الإمام فخر الدين الرازي قد ملأ تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة وخرج من شيء إلى شيء حتى يقضي الناظر العجب قال أبو حيان في البحر: جمع الإمام الرازي في تفسيره أشياء كثيرة طويلة لا حاجة بها في عــلم التفسير ولذلك قال بعض العــلمــاء فيه: كل شيء إلا التفسير ولــلمــبتدع ليس له قصد إلا تحريف الآيات وتسويتها على مذهبه الفاسد بحيث أنه لو لاح له شاردة من بعيد اقتنصها أو وجد موضعا له فيه أدنى مجال سارع إليه كما نقل عن البلقيني أنه قال: استخرجت من: الكشاف اعتزالا بالمــناقيش منها أنه قال في قوله - سبحانه وتعالى -: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} أي فوز أعظم من دخول الجنة أشار به إلى عدم الرؤية والمــلحد لا تسأل عن كفره وإلحاده في آيات الله تعالى وافترائه على الله تعالى ما لم يقله كقول بعضهم: {ِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} وما علي العباد أضر من ربهم وينسب هذا القول إلى صاحب قوت القلوب أبي طالب المــكي.
ومن ذلك القبيل الذين يتكــلمــون في القرآن بلا سند ولا نقل عن السلف ولا رعاية للأصول الشرعية والقواعد العربية كتفسير محمود بن حمزة الكرماني في مجلدين سماه: العجائب والغرائب ضمنه أقوالا هي: عجائب عند العوام وغرائب عما عهد عن السلف بل هي أقوال منكرة لا يحل الاعتقاد عليها ولا ذكرها إلا للتحذير من ذلك قول من قال في: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} إنه الحب والعشق ومن ذلك قولهم في: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} إنه الذكر إذا قام وقولهم: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ} معناه من ذل أي من الذل وذي إشارة إلى النفس ويشف من الشفاء جواب من وع أمر من الوعي.
وسئل البلقيني عمن فسر بهذا؟ فأفتى بأنه ملحد.
وأما كلام الصوفية في القرآن فليس بتفسير.
قال ابن الصلاح في فتاواه: وجدت عن الإمام الواحدي أنه قال: صنف الســلمــي حقائق التفسير إن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر.
قال النسفي في: عقائده: النصوص تحمل على ظواهرها والعدول عنها إلى معان يدعيها أهل الباطن إلحادا وقال التفتازاني في: شرحه: سميت المــلاحدة باطنية لادعائهم أن النصوص ليست على ظواهرها بل لها معان باطنة لا يعــلمــها إلا المــعــلم وقصدهم بذلك نفي الشريعة بالكلية.
وقال: وأما ما يذهب إليه بعض المــحققين من النصوص على ظواهرها ومع ذلك فيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف على أرباب السلوك يمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المــرادة فهو من كمال الإيمان ومحض العرفان.
وقال تاج الدين عطاء الله في: لطائف المــنن: اعــلم أن تفسير هذه الطائفة لكلام الله - سبحانه وتعالى - وكلام رسوله - صلى الله عليه وســلم - بالمــعاني الغريبة ليست إحالة الظاهر عن ظاهره ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جلبت الآية له ودلت عليه في عرف اللسان وثم أفهام باطنة تفهم عند الآية والحديث لمــن فتح الله تعالى قلبه.
وقد جاء في الحديث: لكل آية ظهر وبطن ولكل حرف حد ولكل حد مطلع فلا يصدنك عن تلقي هذه المــعاني منهم أن يقول لك ذو جدل: هذا إحالة كلام الله - تعالى - وكلام رسوله فليس ذلك بإحالة وإنما يكون إحالة لو قال: لا معنى للآية إلا هذا وهم لا يقولون ذلك بل يفسرون الظواهر على ظواهرها مرادا بها موضوعاتها. انتهى. قال في: كشاف اصطلاحات الفنون: أما الظهر والبطن ففي معناهما أوجه ثم ذكرها قال: قال بعض العــلمــاء: لكل آية ستون ألف فهم فهذا يدل على أن في فهم المــعاني من القرآن مجالا متسعا وأن المــنقول من ظاهر التفسير ليس ينتهي الإدراك فيه بالنقل والسماع لا بد منه في ظاهر التفسير لتتقى به مواضع اللغط ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط ولا يجوز التهاون في حفظ التفسير الظاهر بل لا بد منه أولا إذ لا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر وإن شئت الزيادة فارجع إلى: الإتقان. انتهى.
قال صاحب مفتاح السعادة: الإيمان بالقرآن هو التصديق بأنه كلام الله - سبحانه وتعالى - قد أنزل على رسوله محمد - صلى الله عليه وســلم - بواسطة جبريل - عليه السلام - وأنه دال على صفة أزلية له - سبحانه وتعالى - وأن ما دل هو عليه بطريق القواعد العربية مما هو مراد الله - سبحانه وتعالى - حق لا ريب فيه ثم تلك الدلالة على مراده - سبحانه وتعالى - بواسطة القوانين الأدبية المــوافقة للقواعد الشرعية والأحاديث النبوية مراد الله سبحانه وتعالى.
ومن جملة ما عــلم من الشرائع أن مراد الله - سبحانه - من القرآن لا ينحصر في هذا القدر لمــا قد ثبت في الأحاديث أن لكل آية ظهرا وبطنا وذلك المــراد الآخر لمــا لم يطلع عليه كل أحد بل من أعطي فهما وعــلمــا من لدنه تعالى يكون الضابط في صحته أن لا يرفع ظاهر المــعاني المــنفهمة عن الألفاظ بالقوانين العربية وأن لا يخالف القواعد الشرعية ولا يباين إعجاز القرآن ولا يناقض النصوص الواقعة فيها فإن وجد فيه هذه الشرائط فلا يطعن فيه وألا فهو بمعزل عن القبول.
قال الزمخشري: من حق تفسير القرآن أن يتعاهد بقاء النظم على حسنه والبلاغة على كمالها وما وقع به التحدي سليما من القادح وأما الذين تأيدت فطرتهم النقية بالمــشاهدات الكشفية فهم القدوة في هذه المــسالك ولا يمنعون أصلا عن التوغل في ذلك ثم ذكر ما وجب على المــفسر من آداب.
وقال: ثم اعــلم أن العــلمــاء كما بينوا في التفسير شرائط بينوا في المــفسر أيضا شرائط لا يحل التعاطي لمــن عري عنها وهو فيها راجل وهي: أن يعرف خمسة عشر عــلمــا على وجه الإتقان والكمال: اللغة والنحو والتصريف والاشتقاق والمــعنى والبيان والبديع والقراءات وأصول الدين وأصول الفقه وأسباب النزول والقصص والناسخ والمــنسوخ والفقه والأحاديث المــبينة لتفسير المــجمل والمــبهم وعــلم المــوهبة وهو: عــلم يورثه الله - سبحانه وتعالى - لمــن عمل بما عــلم وهذه العلوم التي لا مندوحة لــلمــفسر عنها وإلا فعــلم التفسير لا بد له من التبحر في كل العلوم.
ثم إن تفسير القرآن ثلاثة أقسام:
الأول: عــلم ما لم يطلع الله تعالى عليه أحدا من خلقه وهو ما استأثر به من علوم أسرار كتابه من معرفة كنه ذاته ومعرفة حقائق أسمائه وصفاته وهذا لا يجوز لأحد الكلام فيه.
والثاني: ما أطلع الله - سبحانه وتعالى - نبيه عليه من أسرار الكتاب واختص به فلا يجوز الكلام فيه إلا له عليه الصلاة والسلام أو لمــن أذن له قيل: وأوائل السور من هذا القسم وقيل: من الأول.
والثالث علوم عــلمــها الله تعالى نبيه مما أودع كتابه من المــعاني الجلية والخفية وأمره بتعليمها وهذا ينقسم إلى قسمين: منه ما لا يجوز الكلام فيه إلا بطريق السمع: كأسباب النزول والناسخ والمــنسوخ والقرآن واللغات وقصص الأمم وأخبار ما هو كائن.
ومنه ما يؤخذ بطريق النظر والاستنباط من الألفاظ وهو قسمان:
قسم اختلفوا في جوازه وهو: تأويل الآيات المــتشابهات.
وقسم اتفقوا عليه وهو: استنباط الأحكام الأصلية والفرعية والإعرابية: لأن مبناها على الأقيسة وكذلك فنون البلاغة وضروب المــواعظ والحكم والإشارات لا يمتنع استنباطها منه لمــن له أهلية ذلك وما عدا هذه الأمور هو التفسالمــسمى ب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من عــلم التفسير ثم تفسير هذا العبد القاصر المــسمى ب: فتح البيان في مقاصد القرآن وقد طبع - بحمد الله تعالى - بمطبعتنا ببلدة بهوبال وكان المــصروف في وليمة طبعه عشرين ألف ربية وسارت به الركبان من بلاد الهند إلى بلاد العرب والعجم ورزق القبول من عــلمــاء الكتاب والسنة القاطنين ببلد الله الحرام ومدينة نبيه - عليه الصلاة والسلام - ومحدثي اليمن وصنعاء والقدس والمــغرب وغير هؤلاء ولله الحمد كل الحمد على ذلك.
فصل
قال ابن خلدون في: بيان علوم القرآن من التفسير والقراءات:
أما التفسير فاعــلم أن القرآن نزل بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم فكانوا كلهم يفهمونه ويعــلمــون معانيه في مفرداته وتراكيبه وكان ينزل جملا جملا وآيات آيات لبيان التوحيد والفروض الدينية بحسب الوقائع منها: ما هو في العقائد الإيمانية ومنها: ما هو في أحكام الجوارح ومنها: ما يتقدم ومنها: ما يتأخر ويكون ناسخا له وكان النبي - صلى الله عليه وســلم - يبين المــجمل ويميز الناسخ من المــنسوخ ويعرفه أصحابه فعرفوه وعرفوا سبب نزول الآيات ومقتضى الحال منها منقولا عنه كما عــلم من قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} : أنها نعي النبي - صلى الله عليه وســلم - وأمثال ذلك ونقل ذلك عن الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - وتداول ذلك التابعون من بعدهم ونقل ذلك عنهم ولم يزل ذلك متناقلا بين الصدر الأول والسلف حتى صارت المــعارف علوما ودونت الكتب فكتب الكثير من ذلك ونقلت الآثار الواردة فيه عن الصحابة والتابعين وانتهى ذلك إلى الطبري والواقدي والثعالبي وأمثال ذلك من المــفسرين فكتبوا فيه ما شاء الله أن يكتبوه من الآثار.
ثم صارت علوم اللسان صناعية من الكلام في موضوعات اللغة وأحكام الإعراب والبلاغة في التراكيب فوضعت الدواوين في ذلك بعد أن كانت ملكات للعرب لا يرجع فيها إلى نقل ولا كتاب فتنوسي ذلك وصارت تتلقى من كتب أهل اللسان فاحتيج إلى ذلك في تفسير القرآن لأنه بلسان العرب وعلى منهاج بلاغتهم وصار التفسير على صنفين: تفسير نقلي مسند إلى الآثار المــنقولة عن السلف وهي: معرفة الناسخ والمــنسوخ وأسباب النزول ومقاصد الآي وكل ذلك لا يعرف إلا بالنقل عن الصحابة والتابعين وقد جمع المــتقدمون في ذلك وأوعوا إلا أن كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغث والسمين والمــقبول والمــردود والسبب في ذلك: أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا عــلم وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية وإذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المــكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدونه منهم وهم أهل التوراة من اليهود من تبع دينهم من النصارى وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب ومعظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهودية فــلمــا أســلمــوا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها مثل: أخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان والمــلاحم وأمثال ذلك وهؤلاء مثل: كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وأمثالهم فامتلأت التفاسير من المــنقولات عندهم وفي أمثال هذه الأغراض أخبار موقوفة عليهم وليست مما يرجع إلى الأحكام فيتحرى في الصحة التي يجب بها العمل ويتساهل المــفسرون في مثل ذلك وملئوا كتب التفسير بهذه المــنقولات وأصلها كما قلنا عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ير بالرأي الذي نهى عنه وفيه خمسة أنواع:
الأول: التفسير من غير حصول العلوم التي يجوز معها.
التفسير الثاني: تفسير المــتشابه الذي لا يعــلمــه ألا الله - سبحانه وتعالى -.
الثالث: التفسير المــقرر لــلمــذهب الفاسد بأن يجعل المــذهب أصلا والتفسير تابعا له فيرد إليه بأي طريق أمكن وإن كان ضعيفا.
والرابع: التفسير بأن مراد الله - سبحانه وتعالى - كذا على القطع من غير دليل.
الخامس: التفسير بالاستحسان والهوى.
وإذا عرفت هذه الفوائد وإن أطنبنا فيها لكونه رأس العلوم ورئيسها فاعــلم أن كتب التفاسير كثيرة ذكرنا منها في كتابنا: الإكسير في أصول التفسير ما هو مسطور في: كشف الظنون وزدنا عليه أشياء على ترتيب حروف الهجاء.
قال في: مدينة العلوم: والكتب المــصنفة في التفسير ثلاثة أنواع: وجيز ووسيط وبسيط.
ومن الكتب الوجيزة فيه: زاد المــسيرة لابن الجوزي و: الوجيز للواحدي و: تفسير الواضح للرازي و: تفسير الجلالين إذ عمل نصفه الآخر جلال الدين المــحلى وكمله جلال الدين السيوطي والشهير لأبي حيان ومن الكتب المــتوسطة: الوسيط للواحدي و: تفسير المــاتريدي و: تفسير التيسير لنجم الدين النسفي و: تفسير الكشاف للزمخشري و: تفسير الطيبي و: تفسير البغوي و: تفسير الكواشي و: تفسير البيضاوي و: تفسير القرطبي و: تفسير سراج الدين الهندي و: تفسير مدارك التنزيل لأبي البركات النسفي.
ومن الكتب المــبسوطة: البسيط للواحدي و: تفسير الراغب للأصفهاني وتفسير أبي حيان المــسمى ب: البحر و: التفسير الكبير للرازي و: تفسير العلامي ورأيته في أربعين مجلدا و: تفسير ابن عطية الدمشقي و: تفسير الخرقي نسبة إلى بائع الخرق والثياب و: تفسير الحوفي و: تفسير القشيري1 و: تفسير ابن عقيل وتفسير السيوطي المــسمى ب: الدر المــنثور في التفسير المــأثور و: تفسير الطبري ومن التفاسير: إعراب القرآن للسفاقسي. انتهى.
قلت: ومن الحسن التفاسير المــؤلفة في هذا الزمان الأخير تفسير شيخنا الإمام المــجتهد العلامة قاضي القضاة بصنعاء اليمن محمد بن علي الشوكاني المــتوفى سنة خمس وخمسين ومائتين وألف الهجرية المــسمى بفتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من عــلم التفسير ثم تفسير هذا العبد القاصر المــسمى بفتح البيان في مقاصد القرآن وقد طبع - بحمد الله تعالى - بمطبعتنا ببلدة بهوبال وكان المــصروف في وليمة طبعه عشرين ألف ربية وسارت به الركبان من بلاد الهند إلى بلاد العرب والعجم ورزق القبول من عــلمــاء الكتاب والسنة القاطنين ببلد الله الحرام ومدينة نبيه - عليه الصلاة والسلام - ومحدثي اليمن وصنعاء والقدس والمــغرب وغير هؤلاء ولله الحمد كل الحمد على ذلك.
فصل
قال ابن خلدون في: بيان علوم القرآن من التفسير والقراءات:
أما التفسير فاعــلم أن القرآن نزل بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم فكانوا كلهم يفهمونه ويعــلمــون معانيه في مفرداته وتراكيبه وكان ينزل جملا جملا وآيات آيات لبيان التوحيد والفروض الدينية بحسب الوقائع منها: ما هو في العقائد الإيمانية ومنها: ما هو في أحكام الجوارح ومنها: ما يتقدم ومنها: ما يتأخر ويكون ناسخا له وكان النبي - صلى الله عليه وســلم - يبين المــجمل ويميز الناسخ من المــنسوخ ويعرفه أصحابه فعرفوه وعرفوا سبب نزول الآيات ومقتضى الحال منها منقولا عنه كما عــلم من قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} : أنها نعي النبي - صلى الله عليه وســلم - وأمثال ذلك ونقل ذلك عن الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - وتداول ذلك التابعون من بعدهم ونقل ذلك عنهم ولم يزل ذلك متناقلا بين الصدر الأول والسلف حتى صارت المــعارف علوما ودونت الكتب فكتب الكثير من ذلك ونقلت الآثار الواردة فيه عن الصحابة والتابعين وانتهى ذلك إلى الطبري والواقدي والثعالبي وأمثال ذلك من المــفسرين فكتبوا فيه ما شاء الله أن يكتبوه من الآثار.
ثم صارت علوم اللسان صناعية من الكلام في موضوعات اللغة وأحكام الإعراب والبلاغة في التراكيب فوضعت الدواوين في ذلك بعد أن كانت ملكات للعرب لا يرجع فيها إلى نقل ولا كتاب فتنوسي ذلك وصارت تتلقى من كتب أهل اللسان فاحتيج إلى ذلك في تفسير القرآن لأنه بلسان العرب وعلى منهاج بلاغتهم وصار التفسير على صنفين: تفسير نقلي مسند إلى الآثار المــنقولة عن السلف وهي: معرفة الناسخ والمــنسوخ وأسباب النزول ومقاصد الآي وكل ذلك لا يعرف إلا بالنقل عن الصحابة والتابعين وقد جمع المــتقدمون في ذلك وأوعوا إلا أن كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغث والسمين والمــقبول والمــردود والسبب في ذلك: أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا عــلم وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية وإذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المــكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدونه منهم وهم أهل التوراة من اليهود من تبع دينهم من النصارى وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب ومعظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهودية فــلمــا أســلمــوا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها مثل: أخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان والمــلاحم وأمثال ذلك وهؤلاء مثل: كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وأمثالهم فامتلأت التفاسير من المــنقولات عندهم وفي أمثال هذه الأغراض أخبار موقوفة عليهم وليست مما يرجع إلى الأحكام فيتحرى في الصحة التي يجب بها العمل ويتساهل المــفسرون في مثل ذلك وملئوا كتب التفسير بهذه المــنقولات وأصلها كما قلنا عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك إلا أنهم بعد صيتهم وعظمة أقدارهم لمــا كانوا عليه من المــقامات في الدين والمــلة فتلقيت بالقبول من يومئذ لمــا رجع الناس إلى التحقيق والتمحيض.
وجاء أبو محمد بن عطية من المــتأخرين بالغرب فلخص تلك التفاسير كلها وتحرى ما هو أقرب إلى الصحة منها ووضع ذلك في كتاب متداول بين أهل المــغرب والأندلس حسن المــنحى.
وتبعه القرطبي في تلك الطريقة على منهاج واحد في كتاب آخر مشهور بالمــشرق.
والصنف الآخر من التفسير وهو: ما يرجع إلى اللسان من معرفة اللغة والإعراب والبلاغة في تأدية المــعنى بحسب المــقاصد والأساليب وهذا الصنف من التفسير قل أن ينفرد عن الأول إذ الأول هو المــقصود بالذات وإنما جاء هذا بعد أن صار اللسان وعلومه صناعة نعم قد يكون في بعض التفاسير غالبا ومن أحسن ما اشتمل عليه هذا الفن من التفاسير كتاب: الكشاف للزمخشري من أهل خوارزم العراق إلا أن مؤلفه من أهل الاعتزال في العقائد فيأتي بالحجاج على مذاهبهم الفاسدة حيث تعرض له في أي في القرآن من طرق البلاغة فصار بذلك لــلمــحققين من أهل السنة انحراف عنه وتحذير للجمهور من مكامنه مع إقرارهم برسوخ قدمه فيما يتعلق باللسان والبلاغة وإذا كان الناظر فيه واقفا مع ذلك على المــذاهب السنية محسنا للحجاج عنها فلا جرم أنه مأمون من غوائله فلتغتنم مطالعته لغرابة فنونه في اللسان ولقد وصل إلينا في هذه العصور تأليف لبعض العراقيين وهو شرف الدين الطيبي من أهل توريز من عراق العجم شرح فيه كتاب الزمخشري هذا وتتبع ألفاظه وتعرض لمــذاهبه في الاعتزال بأدلة تزيفها وتبين أن البلاغة إنما تقع في الآية على ما يراه أهل السنة لا على ما يراه المــعتزلة فأحسن في ذلك ما شاء مع إمتاعه في سائر فنون البلاغة - وفوق كل ذي عــلم عليم -. انتهى كلامه
فصل
قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} وقال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} وقال رسول الله - صلى الله عليه وســلم -:
"ستكون فتن", قيل: وما المــخرج منها؟ قال: "كتاب الله: فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم" أخرجه الترمذي وغيره.
وقال أبو مسعود: من أراد العــلم فعليه بالقرآن فإن فيه خير الأولين والآخرين أخرجه سعيد بن منصور في سننه قال البيهقي: أراد به أصول العــلم.
وقال بعض السلف: ما سمعت حديثا إلا التمست له آية من كتاب الله تعالى
وقال سعيد بن جبير: ما بلغني حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وســلم وآله وســلم - على وجهه إلا وجدت مصداقه في كتاب الله أخرجه ابن أبي حاتم.
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنزل في هذا القرآن كل عــلم وميز لنا فيه كل شيء ولكن عــلمــنا يقصر عما بين لنا في القرآن أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وســلم -: "إن الله لو أغفل شيئا لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة" أخرجه أبو الشيخ في كتاب: العظمة.
وقال الشافعي: جميع ما حكم به النبي - صلى الله عليه وســلم - فهو ما فهمه من القرآن قلت: ويؤيد قوله - صلى الله عليه وســلم -: "إني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه" رواه بهذا اللفظ الطبراني في الأوسط من حديث عائشة رضي الله عنها.
وقال الشافعي أيضا: ليست تنزل بأحد في الدين نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها لا يقال: إن من الأحكام ما ثبت ابتداء بالسنة لأن ذلك مأخوذ من كتاب الله تعالى في الحقيقة لأن الله تعالى أوجب علينا اتباع الرسول - صلى الله عليه وســلم - في غير موضع من القرآن وفرض علينا الأخذ بقوله دون من عداه ولهذا نهى عن التقليد وجميع السنة شرح للقرآن وتفسير للفرقان.
قال الشافعي مرة بمكة المــكرمة: سلوني عما شئتم أخبركم عنه من كتاب الله.
فقيل له: ما تقول في المــحرم يقتل الزنبور.
فقال: بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ثم روى عن حذيفة بن اليمان عن النبي - صلى الله عليه وســلم - بسنده أنه قال: "اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر" ثم روى عن عمر بن الخطاب أنه أمر بقتل المــحرم الزنبور ومثل ذلك حكاية ابن مسعود في لعن الواشمات وغيرهن واستدلاله بالآية الكريمة المــذكورة وهي معروفة رواها البخاري.
ونحوه حكاية المــرأة التي كانت لا تتكــلم إلا بالقرآن وهي:
أنها قال عبد الله بن المــبارك: خرجت قاصدا بيت الله الحرام وزيارة مسجد النبي - عليه الصلاة والسلام - فبينما أنا سائر في الطريق وإذا بسواد فمررت به وإذا هي عجوز عليها درع من صوف وخمار من صوف فقلت: السلام عليك ورحمة الله وبركاته فقالت: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} فقلت لها يرحمك الله تعالى ما تصنعين في هذا المــكان؟
فقالت: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ} فقلت: أنها ضالة عن الطريق فقلت: أين تريدين؟
فقالت: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَــسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَــسْجِدِ الْأَقْصَى} فعــلمــت أنها قضت حجها وتريد بيت المــقدس فقلت: أنت مذ كم في هذا المــكان؟
فقالت: ثلاث ليال سويا فقلت أما أرفعك طعاما.
فقالت: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فقلت لها ليس هذا شهر رمضان.
فقالت: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} فقلت لها قد أبيح لنا الإفطار في السفر.
فقالت: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} فقلت لها لم لا تكــلمــيني مثل ما أكــلمــك به فقالت: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} فقلت لها: من أي الناس أنت؟
فقالت: {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِــلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} فقلت لها: قد أخطأت فاجعلني في حل. فقالت: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم قلت لها: هل لك أن أحملك على ناقتي وتلحقي القافلة؟
قالت: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْــلَمْــهُ اللَّهُ} فأنخت مطيتي لها.
فقالت: {قُلْ لِــلْمُــؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} فغضضت بصري عنها فقلت: اركبي فــلمــا أرادت أن تركب نفرت الناقة بها ومزقت ثيابها.
فقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} فقلت لها: اصبري حتى أعقلها.
فقالت: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} فشددت لها الناقة وقلت لها: اركبي فــلمــا ركبت قالت: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُــنْقَلِبُونَ} فأخذت بزمام الناقة وجعلت أسعى وأصيح طربا.
فقالت لي: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} فجعلت أمشي وأترنم بالشعر.
فقالت: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} فقلت: ليس هو بحرام.
قالت: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} فطرقت عنها ساعة فقلت لها: هل لك ربع؟
قالت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} فسكت عنها ولم أكملها حتى أدركت بها القافلة فقلت: لها هذه القافلة فمن لك فيها؟
فقالت: {الْمَــالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فعــلمــت أن لها أولادا ومالا فقلت لها: ما شأنهم في الحاج؟
قالت: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} فعــلمــت أنهم أدلاء الركب فقصدت بي القبابات والعمارات فقلت: من لك فيها؟
فقالت: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} {وَكَــلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} فناديت: يا إبراهيم يا موسى يا يحيى فجاءوني بالتلبية فإذا هم شبان كأنهم الأقمار قد أقبلوا فــلمــا استقر بهم الجلوس قالت لهم: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَــدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ} فقام أحدهم فاشترى طعاما فقدموه بين يدي وقالت:
{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} فقلت لهم: طعامكم هذا علي حرام حتى تخبروني بامرأتكم هذه فقالوا: هذه لها أربعون سنة ما تتكــلم إلا بالقرآن مخافة أن تزل في كلامها فيسخط الله عليها - فسبحان الله القادر على كل شيء -. انتهت الحكاية1 وهي تدل على أن القرآن الكريم فيه كل شيء.
قال بعض السلف: ما من شيء إلا ويمكن استخراجه من القرآن لمــن فهمه الله حتى أن بعضهم استنبط عمر النبي - صلى الله عليه وســلم - ثلاثا وستين سنة من قوله تعالى في سورة المــنافقين: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} فإنها رأس ثلاث وستين وعقبها بالتغابن ليظهر التغابن في فقده.
قال المــرسي: جمع القرآن وعلوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها عــلمــا حقيقة إلا المــتكــلم به ثم رسول الله - صلى الله عليه وســلم - خلا ما استأثر به سبحانه ثم ورث عنه معظم ذلك سادة الصحابة وأعلامهم مثل الخلفاء الأربعة وابن مسعود وابن عباس حتى قال: لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله ثم ورث عنهم التابعون بإحسان ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم وتقال أهل العــلم وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه فنوعوا عــلمــه وقامت كل طائفة بفن من فنونه فاعتزم قوم بضبط لغاته وتحرير كــلمــاته ومعرفة مخارج حروفه وعدد كــلمــاته وآياته وسوره وأجزائه وأنصافه وأرباعه وعدد سجداته والتعليم عند كل عشر آيات إلى غير ذلك من حصر الكــلمــات المــتشابهات والآيات المــتماثلات من غير تعرض لمــعانيه ولا تدبر لمــا أودع فيه فسموا: القراء.
واعتنى النحاة بالمــعرب منه والمــبني من الأسماء والأفعال والحروف العاملة وغيرها وأوسعوا الكلام في الأسماء وتوابعها وضروب الأفعال واللازم والمــتعدي ورسوم خط الكــلمــات وجميع ما يتعلق به حتى إن بعضهم أعرب مشكله وبعضهم أعربه كــلمــة كــلمــة.
واعتنى المــفسرون بألفاظه فوجدوا منه لفظا يدل على معنى واحد ولفظا يدل على معنيين ولفظا يدل على أكثر فأجروا الأول على حكمه وأوضحوا معنى الخفي منه وخاضوا في ترجيح أحد محتملات ذي المــعنيين والمــعاني وأعمل كل منهم فكره وقال بما اقتضاه نظره.
واعتنى الأصوليون بما فيه من الأدلة العقلية والشواهد الأصلية والنظرية مثل قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة فاستنبطوا منه أدلة على وحدانية الله ووجوده وبقائه وقدمه وقدرته وعــلمــه وتنزيهه عما لا يليق به وسموا هذا العــلم ب: أصول الدين
وتأملت طائفة منهم معاني خطابه وإن منها ما يقتضي العموم ومنها ما يقتضي الخصوص إلى غير ذلك فاستنبطوا منه أحكام اللغات من الحقيقة والمــجاز وتكــلمــوا في التخصيص والإضمار والنص والظاهر والمــجمل والمــحكم والمــتشابه والأمر والنهي والنسخ إلى غير ذلك من أنواع الأقيسة واستصحاب الحال والاستقراء وسموا هذا الفن: أصول الفقه.
وأحكمت طائفة صحيح النظر وصادق الفكر فيما فيه من الحلال والحرام وسائر الأحكام فابتنوا أصوله وفروعه وبسطوا القول في ذلك بسطا حسنا وسموه ب: عــلم الفروع وب: الفقه أيضاً.
وتــلمــحت طائفة ما فيه من قصص القرون السابقة والأمم الخالية ونقلوا أخبارهم ودونوا آثارهم ووقائعهم حتى ذكروا بدء الدنيا أول الأشياء حتى سموا ذلك بالتاريخ والقصص.
وتنبه آخرون لمــا فيه من الحكم والأمثال والمــواعظ التي ترقق قلوب الرجال وتكاد تدكدك شوامخ الجبال فاستنبطوا مما فيه من الوعد والوعيد والتحذير والتبشير وذكر المــوت والمــعاد والنشر والحشر والحساب والعقاب والجنة والنار فصولا من المــواعظ وأصولا من الزواجر فسموا بذلك: الخطباء والوعاظ.
واستنبط قوم مما فيه من أصول التعبير مثل ما ورد في قصة يوسف في البقرات السمان وفي منامي صاحبي السجن وفي رؤياه الشمس والقمر والنجوم ساجدة وسموه: تعبير الرؤيا
واستنبطوا تفسير كل رؤيا من الكتاب فإن عز عليهم إخراجها منه فمن السنة التي هي شارحة للكتاب فإن عسر فمن الحكم والأمثال.
ثم نظروا إلى اصطلاح العوام في مخاطبتهم وعرف عادمهم الذي أشار إليه القرآن بقوله: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} .
وأخذ قوم مما في آية المــواريث من ذكر السهام وأربابها وغير ذلك: عــلم الفرائض واستنبطوا منها من ذكر النصف والثلث والربع والسدس والثمن حساب الفرائض ومسائل العول1 واستخرجوا منها أحكام الوصايا. ونظر قوم إلى ما فيه من الآيات الدالة على الحكم الباهرة في الليل والنهار والشمس والقمر ومنازله والنجوم والبروج غير ذلك فاستخرجوا منه عــلم المــواقيت.
ونظر الكتاب والشعراء إلى ما فيه من جلالة اللفظ وبديع النظم وحسن السياق والمــبادئ والمــقاطع والمــخالص والتلوين في الخطاب والإطناب والإيجاز وغير ذلك فاستنبطوا منه المــعاني والبيان والبديع.
ونظر فيه أرباب الإشارات وأصحاب الحقيقة فلاح لهم من ألفاظه معان ودقائق جعلوا لها أعلاما اصطلحوا عليها من الفناء والبقاء والحضور والخوف والهيبة والأنس والوحشة والقبض والبسط وما أشبه ذلك.
هذه الفنون التي أخذتها المــلة الإسلامية منه وقد احتوى على علوم أخر مثل: الطب والجلد والهيئة والهندسة والجبر والمــقابلة والنجامة وغير ذلك.
أما الطب: فمداره على حفظ نظام الصحة واستحكام القوة وغير ذلك وإنما يكون باعتدال المــزاج بتفاعل الكيفيات المــتضادة وقد جمع ذلك في آية واحدة وهي قوله: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} وعرفنا فيه بما يعيد نظام الصحة بعد اختلاطه وحدوث الشفاء للبدن بعد إعلاله في قوله: {شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} ثم زاد على طب الأجساد بطب القلوب: {وَشِفَاءٌ لِمَــا فِي الصُّدُورِ} .
وأما الهيئة: ففي تضاعيف سور من الآيات التي ذكر فيها من ملكوت السموات والأرض وما بث في العالم العلوي والسفلي من المــخلوقات.
وأما الهندسة: ففي قوله تعالى: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ} {لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} فإن فيه القاعدة الهندسية وهي: أن الشكل المــثلث لا ظل له.
وأما الجدل: فقد حوت آياته من البراهين والمــقدمات والنتائج والقول بالمــوجب والمــعارضة وغير ذلك شيئا كثيرا ومناظرة إبراهيم أصل في ذلك عظيم.
وأما الجبر والمــقابلة: فقد قيل: أن أوائل السور فيها ذكر مدد أعوام وأيام وتواريخ أمم سابقة وإن فيها تاريخ بقاء هذه الأمة وتاريخ هذه الدنيا وما مضى وما بقي مضروب بعضها في بعض.
وأما النجامة: ففي قوله: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِــلْمٍ} فقد فسره ابن عباس بذلك وفيه أصول الصنائع وأسماء الآلات التي تدعو الضرورة إليها فمن الصنائع: الخياطة في قوله: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ} والحدادة في قوله: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} وقوله: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} والبناء في آيات
والنجارة: {أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ} .
والغزل: {َقَضَتْ غَزْلَهَا} .
والنسج: {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً} .
والفلاحة: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} وفي آيات أخر.
والصيد في آيات.
والغوص: {كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً} .
والصياغة: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً} . والزجاجة: {صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} و: {الْمِــصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} .
والفخارة: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} .
والمــلاحة: {أَمَّا السَّفِينَةُ} الآية.
والكتابة: {عَــلَّمَ بِالْقَــلَمِ} وفي آيات أخر.
والخبز والعجن: {أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً} .
والطبخ: {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} .
والغسل والقصارة: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} و {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} وهم القصارون.
والجزارة: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} والبيع والشراء في آيات كثيرة.
والصبغ {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} و {بِيضٌ وَحُمْرٌ} .
والحجارة: {وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً} والكيالة والوزن في آيات كثيرة.
والرمي: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} .
وفيه من أسماء الآلات وضرب المــأكولات والمــشروبات والمــنكوحات وجميع ما وقع ويقع في الكائنات ما يحقق معنى قوله: ما فرطنا في الكتاب من شيء. انتهى كلام المــرسي ملخصا مع زيادات.
قال السيوطي في: الإكليل: وأنا أقول: قد اشتمل كتاب الله العزيز على كل شيء أما أنواع العلوم فليس منها باب ولا مسئلة هي أصل إلا وفي القرآن ما يدل عليها وفيه عــلم عجائب المــخلوقات وملكوت السموات والأرض وما في الأفق الأعلى وتحت الثرى وبدء الخلق وأسماء مشاهير الرسل والمــلائكة وعيون أخبار الأمم السابقة: كقصة آدم مع إبليس في إخراجه من الجنة.
وفي الولد الذي سماه عبد الحارث ورفع إدريس وغرق قوم نوح.
وقصة عاد الأولى والثانية وقوم تبع ويونس وأصحاب الرس وثمود والناقة وقوم لوط وقوم شعيب الأولين والآخرين فإنه أرسل مرتين وقصة موسى في ولادته وإلقائه في اليم وقتله القبطي ومسيره إلى مدين وتزوجه ابنة شعيب وكلامه تعالى بجانب الطور ومجيئه إلى فرعون وخروجه وإغراق عدوه وقصة العجل والقوم الذين خرج بهم وأخذتهم الصاعقة وقصة القتيل وذبح البقرة وقصته في قتل الجبارين وقصته مع الخضر والقوم ساروا في سرب من الأرض إلى الصين وقصة طالوت وداود مع جالوت وفتنته وقصة سليمان وخبره مع ملكة سبأ وفتنته وقصة القوم الذي خرجوا فرارا من الطاعون فأماتهم الله ثم أحياهم وقصة إبراهيم في مجادلة قومه ومناظرة نمرود وقصة وضعه ابنه إسماعيل مع أمه بمكة وبنائه البيت وقصة الذبيح وقصة يوسف وما أبسطها وأحسنها قصصا وقصة مريم وولادتها عيسى وإرساله ورفعه وقصة زكريا وابنه يحيى وقصة أيوب وذي الكفل وقصة ذي القرنين ومسيره إلى مطلع الشمس ومغربها وبناء السد وقصة أهل الكهف وقصة أصحاب الرقيم وقصة بخت نصر وقصة الرجلين اللذين لأحدهما الجنة وقصة أصحاب الجنة وقصة مؤمن آل يس وقصة أصحاب الفيل وقصة الجبار الذي أراد أن يصعد إلى السماء. انتهى.
وبقيت قصص لم يشر إليها السيوطي منها: قصة قتل قابيل أخاه هابيل وقصة دفن هابيل بدلالة الغراب وقصة وصية يعقوب بنيه إلى غير ذلك قال: وفيه من شأن النبي - صلى الله عليه وســلم - دعوة إبراهيم وبشارة عيسى وبعثه وهجرته.
ومن غزواته: غزوة بدر في سورة الأنفال وأحد في آل عمران وبدر الصغرى فيها والخندق في الأحزاب والنضير في الحشر والحديبية في الفتح وتبوك في براءة وحجة الوداع في المــائدة.
ونكاحة زينب بنت جحش وتحريم سرية وتظاهر أزواجه عليه وقصة الإفك وقصة الإسراء وانشقاق القمر وسحر اليهود.
وفيه بدء خلق الإنسان إلى موته وكيفية المــوت وقبض الروح وما يفعل بها بعد عودها إلى السماء وفتح الباب لــلمــؤمنة وإلقاء الكافرة وعذاب القبر والسؤال فيه ومقر الأرواح وأشراط الساعة الكبرى العشرة وهي: نزول عيسى وخروج الدجال ويأجوج ومأجوج والدابة والدخان ورفع القرآن وطلوع الشمس من مغربها وغلق باب التوبة والخسف وأحوال البعث: من نفخ الصور للفزع وللصعق وللقيام والحشر والنشر وأهوال المــوقف وشدة الشمس وظل العرش والصراط والمــيزان والحوض والحساب لقوم ونجاه آخرين.
ومنه: شهادة الأعضاء وإيتاء الكتب بالأيمان والشمائل وخلف الظهر والشفاعة أي بالإذن. والجنة1 وأبوابها وما فيها من الأنهار والأشجار والثمار والحلي والأواني والدرجات ورؤية الله تعالى.
والنار2 وما فيها من الأودية وأنواع العقاب وأصناف العذاب والزقوم والحميم إلى غير ذلك مما لو بسط لجاء في مجلدات
وفي القرآن جميع أسمائه تعالى الحسنى كما ورد في الحديث وفيه من أسمائه مطلقا ألف اسم
وفيه: من أسماء النبي - صلى الله عليه وســلم - جملة أي سبعون اسما ذكرها السيوطي في آخر: الإكليل.
وفيه: شعب الإيمان البضع والسبعون.
وفيه: شرائع الإسلام الثلاثمائة وخمسة عشر وفيه: أنواع الكبائر وكثير من الصغائر وفيه تصديق كل حديث روي عن النبي - صلى الله عليه وســلم -
قال الحسن البصري: أنزل الله مائة وأربعة كتب أودع علومها أربعة منها: التوارة والإنجيل والزبور والفرقان ثم أودع علوم الثلاثة الفرقان ثم أودع علوم الفرقان المــفصل ثم أودع علوم الفصل فاتحة الكتاب فمن عــلم تفسيرها كان كمن عــلم تفسير جميع الكتب المــنزلة. أخرجه البيهقي.
قلت: ولذلك كانت قراءتها في كل ركعة من الصلاة وإن كان مأموما واجبة عند أهل المــعرفة بالحق وكانت السبع المــثاني والقرآن العظيم وقد وردت أحاديث كثيرة في فضلها ما خلا ما صرح بوضعها أهل النقد من عــلم الحديث وقد فسرها جماعة من أهل العــلم مفردة بالتأليف وأبسطوا القول فيها وأجملوا واستنبط الفخر الرازي الإمام منها عشرة آلاف مسئلة كما صرح بذلك في أول: تفسيره الكبير وكل ذلك يدل على عظم مرتبة الكتاب العزيز ورفعة شأن الفرقان الكريم قال الشافعي - رحمه الله -: جميع ما تقول الأئمة شرح للسنة وجميع السنة شرح للقرآن.
قلت: ولذا كان الحديث والقرآن أصلي الشرع لا ثالث لهما وقول الأصوليين أن أدلة الشرع وأصوله أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس تسامح ظاهر كيف وهما كفيلان لحكم كل ما حدث في العالم ويحدث فيه إلى يوم القيامة دلت على ذلك آيات من الكتاب العزيز وآثار من السنة المــطهرة وإلى ذلك ذهب أهل الظاهر وهم الذين قال فيهم رسول - صلى الله عليه وســلم -: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق" الحديث قال بعض السلف: ما قال النبي - صلى الله عليه وســلم - من شيء إلا وهو في القرآن أو فيه أصله قرب أو بعد فهم من فهم وعمي منه من عمي وكذا كل ما حكم أو قضى به. انتهى.
فإذا كانت السنة شرحا للكتاب فماذا يقال من فضل الكتاب نفسه وكفى له شرفا أنه كلام ربنا الخلاق الرزاق المــنعم بلا استحقاق أنزله حكما عدلا جامعا للعلوم والفضائل كلها والفنون بأسرها والفواضل والمــحاسن والمــكارم والمــحامد والمــناقب والمــراتب بقلها وكثرها لا يساويه كتاب ولا يوازيه خطاب وهذه جملة القول فيه.
وقد أكثر الناس التصنيف في أنواع علوم القرآن وتفاسيرها وألف الشيخ الحافظ جلال الدين السيوطي - رحمه الله - في جملة من أنواعه: كأسباب النزول والمــعرب والمــبهمات ومواطن الورود وغير ذلك وما من كتاب منها إلا وقد فاق الكتب المــؤلفة في نوعه ببديع اختصاره وحسن تحريره وكثرة جمعه.
وقد أفرد الناس في أحكامه كتبا: كالقاضي إسماعيل والبكر بن العلاء وأبي بكر الرزاي والكيا الهراسي وأبي بكر بن العربي وابن الفرس والمــوزعي وغيرهم وكل منهم أفاد وأجاد وجمع فأبدع وأوعى.
وللسيوطي في ذلك كتاب: الإكليل في استنباط التنزيل أورد فيه كل ما استنبط منه واستدل به عليه من مسئلة فقهية أو أصولية أو اعتقادية فاشدد بذلك الكتاب يديك وعض عليه بناجذيك.
وألفت أنا في الأحكام خاصة كتاب: نيل المــرام من تفسير آيات الأحكام وبالجملة فعلوم الكتاب لا تحصى وتفاسيره لا تستقصى وفنونه لا تتناهى وبركاته لا تقف عند حد وأنواره لا ترسم برسم ولا تحد بحد.
وإذا تقرر ذلك عرفت أن العلوم التي ذكرناها في هذا الكتاب كلها موجودة في ذلك الكتاب دلالة وإشارة منطوقا أو مفهوما مفسرا أو مجملا ولا يعرفها إلا من رسخ قدمه في الكمال وسبح فهمه في بحار العــلم بالتفصيل والإجمال والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

علم الهندسة

عــلم الهندسة
هو: عــلم بقوانين تعرف منه الأصول العارضة للكم من حيث هو كم وقال في مدينة العلوم:
هو: عــلم يعرف منه أحوال المــقادير ولواحقها وأوضاع بعضها عند بعض ونسبتها وخواص أشكالها والطرق إلى عمل ما سبيله أن يعمل بها واستخراج ما يحتاج إلى استخراجه بالبراهين اليقينية. وموضوعه المــقادير المــطلقة أعني: الخط والسطح والجسم التعليمي ولواحق هذه من الزاوية والنقطة والشكل.
ومنفعته: الاطلاع على الأحوال المــذكورة من المــوجودات وأن يكسب الذهن حدة ونفاذا ويروض بها الفكر رياضة قوية لمــا اتفقوا على أن أقوى العلوم برهانا هي العلوم الهندسية.
ومن جملة منافعها العلاج عن الجهل المــركب لمــا أنها علوم يقينية لا مدخل فيها للوهم فيعتاد الذهن على تسخير الوهم والجهل المــركب ليس إلا من غلبة الوهم على العقل.
والمــصنفات فيه كثيرة أشهرها وأصحها: تحرير الطوسي لكتاب إقليدس وأخصرها وأحسنها: شرح أشكال التأسيس للأبهري وشرحه لقاضي زادة الرومي وقد ذكر ابن سينا في كتاب الشفاء جملة كافية منها ثم إن للهندسة عدة فروع وكذا ذكر العلامة في كتبه من حقائق هذا الفن ما فيه كفاية انتهى.
والهندسة معرب أندازه ووجه التسمية ظاهر.
وأما العلوم المــتفرعة عليه فهي عشرة.
وذلك لأنه إما يبحث عن إيجاد ما يتبرهن عليه في الأصول الكلية بالفعل أولاً.
والثاني: إما يبحث عما ينظر إليه أولاً.
الثاني: عــلم عقود الأبنية والباحث عن المــنظور إليه إن اختص بانعكاس الأشعة فهو عــلم المــرايا المــحرقة وإلا فهو عــلم المــناظر.
وأما الأول: وهو ما يبحث عن إيجاد المــطلوب من الأصول الكلية بالفعل فإما من جهة تقديرها أو لا.
والأول: منهما إن اختص بالنقل فهو عــلم مراكز الأثقال وإلا فهو عــلم المــساحة.
والثاني: منهما فإما إيجاد الآلات أو لا.
الثاني: عــلم أنباط المــياه والآلات إما تقديرية أو لا.
والتقديرية: إما ثقيلة وهو جر الأثقال.
أو زمانية: وهو عــلم البنكامات.
والتي ليست تقديرية فإما خربية أولا.
الثاني: عــلم الآلات الروحانية.
الأول: عــلم الآلات الحربية وقد ذكرنا هذه العلوم في هذا الكتاب على الترتيب الهجائي فارجع إليها.
قال ابن خلدون رحمه الله: هذا العــلم هو النظر في المــقادير إما المــتصلة: كالخط والسطح والجسم وإما المــنفصلة: كالأعداد وفيما يعرض لها من العوارض الذاتية.
مثل: أن كل مثلث فزواياه مثل قائمتين.
ومثل: أن كل خطين متوازيين لا يلتقيان في وجه ولو خرجا إلى غير نهاية.
ومثل: أن كل خطين متقاطعين فالزاويتان المــتقابلتان منهما متساويتان.
ومثل: أن الأربعة المــقادير المــتناسبة ضرب الأول منها في الثالث كضرب الثاني في الرابع وأمثال ذلك. والكتاب المــترجم لليونانيين في هذه الصناعة كتاب إقليدس ويسمى كتاب: الأصول وكتاب: الأركان وهو أبسط ما وضع فيها لــلمــتعــلمــين.
وأول ما ترجم من كتاب اليونانيين في المــلة أيام أبي جعفر المــنصور ونسخه مختلفة باختلاف المــترجمين فمنها لحنين بن إسحاق ولثابت بن قرة وليوسف بن الحجاج ويشتمل على خمس عشرة مقالة: أربعة في السطوح وواحدة في الأقدار المــتناسبة وأخرى في نسب السطوح بعضها إلى بعض وثلث في العدد والعاشرة في المــنطقات والقوى على المــنطقات ومعناه الحذور وخمس في المــجمسات.
وقد اختصره الناس اختصارات كثيرة كما فعله ابن سينا في تعاليم الشفاء أفرد له جزء منها اختصه به وكذلك ابن الصلت في كتاب الاقتصاد وغيرهم.
وشرحه آخرون شروحا كثيرة وهو مبدأ العلوم الهندسية بإطلاق.
واعــلم: أن الهندسة تفيد صاحبها إضاءة في عقله واستقامة في فكره لأن براهينها كلها بينة الانتظام جلية الترتيب لا يكاد الغلط يدخل أقيسها لترتيبها وانتظامها فيبعد الفكر بممارستها عن الخطأ وينشأ لصاحبها عقل على ذلك المــهيع وقد زعموا أنه كان مكتوبا على باب أفلاطون من لم يكن مهندسا فلا يدخلن منزلنا.
وكان شيوخنا رحمهم الله تعالى يقولون: ممارسة عــلم الهندسة للفكر بمثابة الصابون للثوب الذي يغسل منه الأقذار وينقيه من الأوضار والأدران وإنما ذلك لمــا أشرنا إليه من ترتيبه وانتظامه ومن فروع هذا الفن الهندسة المــخصوصة بالأشكال الكرية والمــخروطات.
أما الأشكال الكرية: ففيها كتابان من كتب اليونانيين لثاوذوسيوس ميلاوش في سطوحها وقطوعها وكتاب ثاوذوسيوس مقدم في التعليم على كتاب ميلاوش لتوقف كثير من براهينه عليه ولا بد منهما لمــن يريد الخوض في عــلم الهيئة لأن براهينها متوقفة عليهما فالكلام في الهيئة كله كلام في الكرات السماوية وما يعرض فيها من القطوع والدوائر بأسباب الحركات كما نذكره فقد يتوقف على معرفة أحكام الأشكال الكرية سطوحها وقطوعها.
وأما المــخروطات: فهو من فروع الهندسة أيضا وهو عــلم ينظر في ما يقع في الأجسام المــخروطة من الأشكال والقطوع ويبرهن على ما يعرض لذلك من العوارض ببراهين هندسية متوقفة على التعليم الأول.
وفائدتها: تظهر في الصنائع العملية التي موادها الأجسام مثل: النجارة والبناء وكيف تصنع التماثيل الغريبة والهياكل النادرة وكيف يتحيل على جر الأثقال ونقل الهياكل بالهندام والمــنجال وأمثال ذلك.
وقد أفرد بعض المــؤلفين في هذا الفن كتابا في الحيل العملية يتضمن من الصناعات الغريبة والحيل المــستطرفة كل عجيبة وربما استغلق على الفهوم لصعوبة براهينه الهندسية وهو موجود بأيدي الناس ينسبونه إلى بني شاكر والله تعالى أعــلم.
Learn Quranic Arabic from scratch with our innovative book! (written by the creator of this website)
Available in both paperback and Kindle formats.