Current Dictionary: All Dictionaries

Search results for: ذات

الْحمل

(الْحمل) فلَان حمل على أَهله إِذا كَانَ ثقيل الْمَرَض وَمَا كَانَ فِي بطن أَو على شجر والهودج وَالْبَعِير عَلَيْهِ الهودج (ج) أحمال وحمول وحمال

(الْحمل) مَا يحمل على الظّهْر وَنَحْوه والهودج وَالْبَعِير عَلَيْهِ الهودج و (فِي الرياضيات) الثّقل أَو الْجِسْم الَّذِي يرفع أَو يجر بوساطة الْآلَات (مج)(ج) أحمال وحمول

(الْحمل) الصَّغِير من الضَّأْن (ج) حملان وأحمال وبرج فِي السَّمَاء من البروج الربيعية
الْحمل: بِالْكَسْرِ بار وبالفتح بار برداشتن وبارشكم وهرباري كه باشد. وَالْحمل مُخْتَصّ بالإنسان كالنتاج بِالْحَيَوَانِ وَلذَا قيل فِي كتب الْفِقْه الْحمل مَا فِي بطن الْإِنْسَان وَأَقل مُدَّة الْحمل سِتَّة أشهر بالِاتِّفَاقِ وَفِي أَكْثَرهَا اخْتِلَاف عِنْد أبي حنيفَة رَحمَه الله وَأَصْحَابه سنتَانِ لما رُوِيَ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت لَا يبْقى الْوَلَد فِي رحم أمه أَكثر من سنتَيْن وَلَو بِقدر ظلّ مغزل وَمثل هَذَا لَا يعرف قِيَاسا بل سَمَاعا عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعند الشَّافِعِي رَحمَه الله أَربع سِنِين لما رُوِيَ أَن الضَّحَّاك ولد لأَرْبَع سِنِين وَقد بَدَت ثناياه وَهُوَ يضْحك فَسُمي ضحاكا وَعند لَيْث بن سعد الفهمي رَحمَه الله ثَلَاث سِنِين وَعند الزُّهْرِيّ رَحمَه الله سبع سِنِين. وبرج من البروج الاثْنَي عشر من الْفلك الْأَعْظَم.وَالْحمل عِنْد أَرْبَاب الْمَعْقُول يُطلق بالاشتراك اللَّفْظِيّ على ثَلَاثَة معَان:

الأول: الْحمل اللّغَوِيّ، وَالثَّانِي: الْحلم الاشتقاقي، وَالثَّالِث: حمل المواطأة. (أما الْحمل اللّغَوِيّ) فَهُوَ الحكم بِثُبُوت شَيْء بِشَيْء أَو انتفائه عَنهُ وَحَقِيقَته الإذعان وَالْقَبُول. (وَأما الْحمل الاشتقاقي) فَهُوَ الْحمل بِوَاسِطَة (فِي) أَو (ذُو) أَو (لَهُ) وَحَقِيقَته الْحُلُول فَإنَّك إِذا قلت زيد ذُو مَال فقد حملت المَال على زيد بِوَاسِطَة (ذُو) . فَإِن قلت: إِن المَال مَحْمُول على زيد بِوَاسِطَة ذُو وَلَيْسَ حَالا فِيهِ فَكيف يَصح أَن حَقِيقَته الْحُلُول. قلت: الْمَحْمُول فِي الْحَقِيقَة هُوَ الْإِضَافَة الَّتِي بَين زيد وَالْمَال وَهُوَ التَّمَلُّك. وَلَا شكّ أَن التَّمَلُّك حَال فِي زيد والتملك مَحْمُول على زيد فِي ضمن التَّمَلُّك الْمُشْتَقّ مِنْهُ كَمَا أَن الْكِتَابَة مَحْمُول على زيد فِي ضمن الْكَاتِب وَالْكَاتِب مَحْمُول عَلَيْهِ بالاشتقاق وَلِهَذَا سمي هَذَا الْحمل بالاشتقاق وَقس عَلَيْهِ زيد فِي الدَّار وَزيد أَب لعَمْرو فَإِن الْمَحْمُول فِي الْحَقِيقَة هُوَ الْإِضَافَة الَّتِي بَين زيد وداره وَبَين زيد وَعَمْرو وَهِي الظَّرْفِيَّة والأبوة والنبوة.
وَأما حمل المواطأة فَهُوَ حمل شَيْء بقول على مثل الْإِنْسَان حَيَوَان يَعْنِي الْحَيَوَان مَحْمُول على الْإِنْسَان وَحَقِيقَته هُوَ هُوَ. وَبِعِبَارَة أُخْرَى نِسْبَة الْمَحْمُول إِلَى الْمَوْضُوع إِن كَانَت بِلَا وَاسِطَة وَهُوَ القَوْل على الشَّيْء فَهِيَ الْحمل بالمواطأة وَهَذَا الْحمل يرجع إِلَى اتِّحَاد المتغائرين فِي نَحْو من اتِّحَاد الْوُجُود بِحَسب نَحْو آخر من أنحائه فَإِن كَانَ الْمَحْمُول ذاتــيا فَهُوَ حمل بِالــذَّاتِ أَو عرضيا فَهُوَ حمل بِالْعرضِ. فَفِي حمل الــذاتــيات اتِّحَاد بِالــذَّاتِ وَفِي حمل العرضيات اتِّحَاد بِالْعرضِ.
ثمَّ اعْلَم أَن الْحمل بالمواطأة يَنْقَسِم إِلَى قسمَيْنِ: الأول: حمل الشَّيْء على نَفسه، وَالثَّانِي: الْحمل الْمُتَعَارف وَيُسمى الْحمل الشَّائِع أَيْضا. ثمَّ من الْقسم الأول الْحمل الأولي وَهُوَ يُفِيد أَن الْمَحْمُول هُوَ بِعَيْنِه عنوان حَقِيقَة الْمَوْضُوع وَإِنَّمَا سمي حملا أوليا لكَونه أولي الصدْق أَو الْكَذِب. وَمِنْه حمل الشَّيْء على نَفسه مَعَ تغاير بَين الطَّرفَيْنِ بِأَن يُؤْخَذ. أَحدهمَا: مَعَ حيثية أَو بِدُونِ التغاير بَينهمَا بِأَن يتَكَرَّر الِالْتِفَات إِلَى شَيْء وَاحِد ذاتــا واعتبارا فَيحمل ذَلِك الشَّيْء على نَفسه من غير أَن يَتَعَدَّد الملتفت إِلَيْهِ وَالْأول صَحِيح غير مُفِيد وَالثَّانِي غير صَحِيح وَغير مُفِيد ضَرُورَة أَنه لَا يعقل النِّسْبَة إِلَّا بَين اثْنَيْنِ وَلَا يُمكن أَن يتَعَلَّق بِشَيْء وَاحِد التفاتان من نفس وَاحِدَة فِي زمَان وَاحِد والتغاير من جِهَة الِالْتِفَات لَا يَكْفِي هَا هُنَا لِأَن الِالْتِفَات لَا يلْتَفت إِلَيْهِ حِين الِالْتِفَات والتعدد فِي الِالْتِفَات لَا يتَصَوَّر إِلَّا بالتعدد فِي أحد هَذِه الْأُمُور الثَّلَاثَة الملتفت والملتفت إِلَيْهِ وَالزَّمَان. وَالْحمل الْمُتَعَارف يُفِيد أَن يكون الْمَوْضُوع من أَفْرَاد الْمَحْمُول أَو مَا هُوَ فَرد لأَحَدهمَا فَرد للْآخر وَإِنَّمَا سمي متعارفا لتعارفه وشيوع اسْتِعْمَاله.
وَرُبمَا يُطلق الْحمل الْمُتَعَارف فِي الْمنطق على الْحمل المتحقق فِي المحصورات سَوَاء كَانَت حَقِيقَة كَمَا هُوَ الظَّاهِر أَو حكما كالمهملات. فالحمل فِي قَوْلنَا الْإِنْسَان كَاتب مُتَعَارَف على كلا الاصطلاحين وَفِي قَوْلنَا الْإِنْسَان نوع مُتَعَارَف على الِاصْطِلَاح الأول وَغير مُتَعَارَف على الِاصْطِلَاح الثَّانِي.
ثمَّ اعْلَم أَن الفارابي جعل الْحمل على أَرْبَعَة أَقسَام: حمل الْكَلْبِيّ على الجزئي مثل زيد إِنْسَان. وَحمل الْكَلْبِيّ على الْكُلِّي مثل الْإِنْسَان حَيَوَان وَالْإِنْسَان إِنْسَان وَحمل الجزئي على الجزئي مثل هَذَا زيد وَهَذَا الْإِنْسَان هَذَا الْكَاتِب. قَالَ الْفَاضِل الزَّاهِد فِي الْهَامِش على حَوَاشِيه على شرح المواقف أَن الأول وَالثَّالِث حمل مُتَعَارَف وَالْمرَاد بالفرد الْوَاقِع فِي تَعْرِيفه مَا صدق عَلَيْهِ مُطلقًا. وَالثَّانِي يحْتَمل أَن يكون متعارفا أَو غير مُتَعَارَف لِامْتِنَاع أَن يصدق جزئي على جزئي آخر إِلَّا بِأَن يكون الجزئي حِصَّة كحصة من الْإِنْسَان أَو الْكَاتِب فَحمل تِلْكَ الْحصَّة حملا متعارفا على حِصَّة أَو على جزئي آخر أَو عَكسه بِالنّظرِ إِلَى الْوُجُود بِالــذَّاتِ أَو الْوُجُود بِالْعرضِ انْتهى.
وَقَالَ السَّيِّد السَّنَد الشريف الشريف قدس سره فِي حَوَاشِيه على شرح الشمسية كَون الجزئي الْحَقِيقِيّ مقولا على وَاحِد إِنَّمَا هُوَ بِحَسب الظَّاهِر وَإِمَّا بِحَسب الْحَقِيقَة فالجزئي الْحَقِيقِيّ لَا يكون مَحْمُولا مقولا على شَيْء أصلا بل يُقَال وَيحمل عَلَيْهِ المفهومات الْكُلية فَهُوَ مقول عَلَيْهِ لَا مقول بِهِ وَكَيف لَا وَحمله على نَفسه لَا يتَصَوَّر قطعا إِذْ لَا بُد فِي الْحمل الَّذِي هُوَ النِّسْبَة بَين الْمَوْضُوع والمحمول أَن تكون بَين أَمريْن متغائرين وَحمله على غَيره بِأَن يُقَال زيد عَمْرو إِيجَابا مُمْتَنع أَيْضا وَأما قَوْلك هَذَا زيد فَلَا بُد فِيهِ من التَّأْوِيل لِأَن هَذَا إِشَارَة إِلَى الشَّخْص الْمعِين فَلَا يُرَاد بزيد ذَلِك الشَّخْص الْمعِين وَإِلَّا فَلَا حمل من حَيْثُ الْمَعْنى كَمَا عرفت بل يُرَاد مَفْهُوم مُسَمّى بزيد أَو صَاحب اسْم زيد وَهَذَا الْمَفْهُوم كلي. وَإِن فرض انحصاره فِي شخص وَاحِد فالمحمول أَعنِي الْمَقُول على غَيره لَا يكون إِلَّا كليا انْتهى.
وَقَالَ أفضل الْمُتَأَخِّرين مَوْلَانَا عبد الْحَكِيم رَحمَه الله قَوْله لَا يكون مقولا على شَيْء لِأَن منَاط الْحمل الِاتِّحَاد فِي الْوُجُود وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَن وجودا وَاحِدًا قَائِم بهما لِامْتِنَاع قيام الْعرض الْوَاحِد بمحلين بل مَعْنَاهُ أَن الْوُجُود لأَحَدهمَا بالإصالة وَللْآخر بالتبع بِأَن يكون منتزعا عَنهُ وَلَا شكّ أَن الجزئي هُوَ الْمَوْجُود إصالة والأمور الْكُلية سَوَاء كَانَت ذاتــية أَو عرضية منتزعة عَنهُ على مَا هُوَ تَحْقِيق الْمُتَأَخِّرين. فَالْحكم باتحاد الْأُمُور الْكُلية مَعَ الجزئي صَحِيح دون الْعَكْس فَإِن وَقع مَحْمُولا كَمَا فِي بعض الْإِنْسَان زيد فَهُوَ مَحْمُول على الْعَكْس أَو على التَّأْوِيل فَانْدفع مَا قيل إِنَّه يجوز أَن يُقَال زيد إِنْسَان فليجز الْإِنْسَان زيد لِأَن الِاتِّحَاد من الْجَانِبَيْنِ فَظهر أَنه لَا يُمكن حمله على الْكُلِّي وَأما على الجزئي فَلِأَنَّهُ إِمَّا نَفسه بِحَيْثُ لَا تغاير بَينهمَا أصلا بِوَجْه من الْوُجُوه حَتَّى بالملاحظة والالتفات على مَا قَالَ بعض الْمُحَقِّقين لَهُ إِذا لوحظ شخص مرَّتَيْنِ وَقيل زيد زيد كَانَ مغائرا بِحَسب الملاحظة وَالِاعْتِبَار قطعا وَيَكْفِي هَذَا الْقدر من التغاير فِي الْحمل فَلَا يُمكن تصور الْحمل بَينهمَا فضلا عَن إِمْكَانه. وَإِمَّا جزئي آخر مغائر لَهُ وَلَو بالملاحظة والالتفات فالحمل وَإِن كَانَ يتَحَقَّق ظَاهرا لكنه فِي الْحَقِيقَة حكم بتصادق الاعتبارين على ذَات وَاحِدَة فَإِن معنى الْمِثَال الْمَذْكُور أَن زيدا الْمدْرك أَولا هُوَ زيد الْمدْرك ثَانِيًا. وَالْمَقْصُود مِنْهُ تصادق الاعتبارين عَلَيْهِ وَكَذَا فِي قَوْلك هَذَا الضاحك هَذَا الْكَاتِب الْمَقْصُود اجْتِمَاع الوصفين فِيهِ فَفِي الْحَقِيقَة الجزئي مقول عَلَيْهِ للاعتبارين. نعم على القَوْل بِوُجُود الْكُلِّي الطبيعي فِي الْخَارِج حَقِيقَة كَمَا هُوَ رَأْي الأقدمين والوجود الْوَاحِد إِنَّمَا قَامَ بالأمور المتعددة من حَيْثُ الْوحدَة لَا من حَيْثُ التَّعَدُّد يَصح حمله على الْكُلِّي لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْوُجُود والاتحاد من الْجَانِبَيْنِ وَلَعَلَّ هَذَا مَبْنِيّ على مَا نقل عَن الفارابي وَالشَّيْخ من صِحَة حمل الجزئي انْتهى.
وَقَالَ الباقر فِي الْأُفق الْمُبين نِسْبَة الْمَحْمُول إِلَى الْمَوْضُوع إِمَّا بِوُجُود (فِي) أَو توَسط (ذُو) أَو (لَهُ) بَين هُوَ هُوَ وَيُقَال لَهَا الْحمل الاشتقاقي. وَإِمَّا بقول (على) وَيُقَال لَهَا حمل المواطأة أَي الِاتِّحَاد بَين الشَّيْئَيْنِ بهو هُوَ وَهُوَ يُفِيد إِعْطَاء الِاسْم وَالْحَد وَيُشبه أَن يكون قَول الْحمل عَلَيْهِمَا باشتراك الِاسْم أَي بالاشتراك اللَّفْظِيّ دون الْمَعْنى وَالْآخر وَهُوَ مفَاد الْهَيْئَة التركيبية الحملية حَقِيقَة اتِّحَاد المتغائرين فِي نَحْو من أنحاء لحاظ التعقل بِحَسب نَحْو آخر من أنحاء الْوُجُود اتحادا بِالــذَّاتِ أَو بِالْعرضِ وَفَوق ذَلِك ذكر سيقرع سَمعك إِن شَاءَ الله تَعَالَى تَفْصِيله فِي تبصرة حمل شَيْء على شَيْء. إِمَّا أَن يَعْنِي بِهِ أَن الْمَوْضُوع هُوَ بِعَيْنِه أَخذ مَحْمُولا على أَن يتَكَرَّر إِدْرَاك شَيْء وَاحِد بِتَكَرُّر الِالْتِفَات إِلَيْهِ من دون تكَرر فِي الْمدْرك والملتفت إِلَيْهِ أصلا وَلَو بِالِاعْتِبَارِ وَهُوَ حمل الشَّيْء على نَفسه وتأبى الضَّرُورَة الفطرية إِلَّا أَن تشهد بِبُطْلَانِهِ وَإِن وَقع بعض الأذهان فِي مَخْمَصَة تجويزه فَإِن صَحَّ فَكيف يَصح أَن تلْتَفت نفس وَاحِدَة إِلَى مَفْهُوم وَاحِد ذاتــا واعتبارا فِي زمَان بِعَيْنِه مرَّتَيْنِ. وَإِمَّا أَن يَعْنِي ذَلِك لَكِن على أَن يَجْعَل تكَرر الْإِدْرَاك حيثية تقيدية يتكثر بحسبها الْمدْرك فَيحكم بِأَن الْمدْرك بِأحد الإدراكين هُوَ نفس الْمدْرك بالإدراك الآخر وَلَا يلحظ تعددا إِلَّا من تِلْكَ الْجِهَة وَهُوَ الَّذِي يُقَال إِنَّه ضرب مَنْصُور من حمل الشَّيْء على نَفسه وَلكنه هدر غير مُفِيد. وَإِمَّا أَن يَعْنِي بِهِ أَن الْمَحْمُول هُوَ بِعَيْنِه نفس الْمَوْضُوع بعد أَن يلحظ التغاير الاعتباري أَي هُوَ بِعَيْنِه عنوان حَقِيقَته لَا أَن يقْتَصر على مُجَرّد الِاتِّحَاد فِي الْوُجُود وَيُسمى الْحمل الأولي الــذاتــي لكَونه أولى الصدْق أَو الْكَذِب غير معنى بِهِ إِلَّا أَن هَذَا الْمَفْهُوم هُوَ نفس ذَاتــه وعنوان حَقِيقَته. فَإِذا اعْتبر بَين المفهومات المتغائرة فِي جليل النّظر رُبمَا احْتِيجَ تعْيين الْإِيجَاب أَو السَّلب إِلَى تَدْقِيقه كَمَا يَقُول الْوُجُود هُوَ الْمَاهِيّة أَو لَيْسَ والوجود هُوَ الْوحدَة أَو لَيْسَ يحْتَاج فِي الأذهان إِلَى الْبُرْهَان. وَإِمَّا أَن يَعْنِي بِهِ مُجَرّد اتِّحَاد الْمَوْضُوع والمحمول ذاتــا ووجودا وَيرجع إِلَى كَون الْمَوْضُوع من أَفْرَاد الْمَحْمُول أَو كَون مَا هُوَ فَرد أَحدهمَا هُوَ فَرد الآخر وَيُسمى الْحمل الْعرفِيّ الْمُتَعَارف لشيوعه بِحَسب التعارف الصناعي وينقسم بِحَسب كَون الْمَحْمُول ذاتــيا للموضوع أَو عرضيا لَهُ إِلَى الْحمل بِالــذَّاتِ وَالْحمل بِالْعرضِ.
ثمَّ إِن فِي الْحمل الْمُتَعَارف قد يكون الْمَوْضُوع فَردا حَقِيقِيًّا للمحمول وَهُوَ مَا يكون أخص بِحَسب الصدْق كالإنسان بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَيَوَان وَقد يكون فَردا اعتباريا وَهُوَ مَا يكون أخصيته بِحَسب نَحْو الِاعْتِبَار كمفهوم الْمَوْجُود الْمُطلق بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَعْيِينه وَكَذَلِكَ الْمُمكن الْعَام وَالْمَفْهُوم والكلي وَمَا ضاهاها فتلطف فِي سرك تنتصر انْتهى. وَإِنَّمَا قَالَ وَيُشبه الخ لِأَن معنى حمل المواطأة أَعنِي الِاتِّحَاد الْمَخْصُوص لَا يصلح مقسمًا لَهُ وللحمل الاشتقاقي كَمَا لَا يخفى.
وَفِي الْأَسْفَار اعْلَم أَن حمل الشَّيْء على الشَّيْء واتحاده مَعَه يتَصَوَّر على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: الشَّائِع الصناعي الْمُسَمّى بِالْحملِ الْمُتَعَارف وَهُوَ عبارَة عَن مُجَرّد اتِّحَاد الْمَوْضُوع والمحمل ووجودا وَيرجع إِلَى كَون الْمَوْضُوع من أَفْرَاد مَفْهُوم الْمَحْمُول سَوَاء كَانَ الحكم على نفس مَفْهُوم الْمَوْضُوع كَمَا فِي الْقَضِيَّة الطبيعية أَو على أَفْرَاده كَمَا فِي القضايا المتعارفة من المحصورات وَغَيرهَا سَوَاء كَانَ الْمَحْكُوم بِهِ ذاتــيا للمحكوم عَلَيْهِ وَيُقَال لَهُ الْحمل بِالــذَّاتِ أَو عرضيا لَهُ وَيُقَال لَهُ الْحمل بِالْعرضِ والجميع يُسمى حملا عرضيا. وَثَانِيهمَا: أَن يَعْنِي بِهِ أَن الْمَوْضُوع هُوَ بِعَيْنِه نفس مَاهِيَّة الْمَحْمُول وَمَفْهُومه بعد أَن يلحظ نَحْو من التغاير أَي هَذَا بِعَيْنِه عنوان مَاهِيَّة ذَلِك لَا أَن يقْتَصر على مُجَرّد الِاتِّحَاد فِي الــذَّات والوجود وَيُسمى حملا ذاتــيا أوليا. أما ذاتــيا فلكونه لَا يجْرِي وَلَا يصدق إِلَّا فِي الــذاتــيات. وَأما أوليا فلكونه أولى الصدْق أَو الْكَذِب. فكثيرا مَا يصدق ويكذب مَحْمُول وَاحِد على مَوْضُوع وَاحِد بل مَفْهُوم وَاحِد على نَفسه بِخِلَاف اخْتِلَاف هذَيْن الحملين كالجزئي واللامفهوم واللاممكن بالإمكان الْعَام واللاموجود بالوجود الْمُطلق وَعدم الْعَدَم والحرف وَشريك الْبَارِي والنقيضين وَلذَلِك اعْتبرت فِي التَّنَاقُض وحدة أُخْرَى سوى المشروطات الثَّمَانِية الْمَشْهُورَة وَتلك هِيَ وحدة الْحمل والجزئي مثلا جزئي بِالْحملِ الــذاتــي لَيْسَ بجزئي بل كلي بِالْحملِ الْمُتَعَارف وَمَفْهُوم الْحَرْف حرف بِالْأولِ اسْم بِالثَّانِي انْتهى. وَإِنَّمَا أطنبت الْكَلَام. فِي هَذَا الْمقَام. لِأَنَّهُ زل فِيهِ اقدام الْإِعْلَام. ونقلت أَيْضا مَا ذكره الْعلمَاء الْكِرَام. عَسى أَن يَتَّضِح بِهِ المرام. حمل النقيض على النقيض: جَائِز عِنْد الْجُمْهُور. فَإِن قلت. حق النقيض أَن يكون مُخَالفا للنقيض لَا مُوَافقا لَهُ فَكيف يحمل أَحدهمَا على الآخر. قلت: النقيض لَهُ طرفان طرف للثبوت وطرف للنَّفْي فَيحمل أَحدهمَا على الآخر لاشْتِرَاكهمَا فِي كَونهمَا طرفين فَهُوَ فِي الْحَقِيقَة حمل النظير لَا حمل النقيض على النقيض وَقد نبه على هَذَا الشَّيْخ عبد القاهر قدس سره فِي النظير.
(بَاب الْحمل)
يُقالُ للمرأةِ أَوَّلُ مَا تَحْمِلُ (280) : قد نُسِئَتْ تُنْسَأُ نَسْأً، وامرأةٌ نَسِئٌ ونِسْوَةٌ نَسْئٌ ونُسُوءٌ. ثُمَّ يُقالُ لَهَا: حامِلٌ وحُبْلَى. والحَبَلُ إنَّما هُوَ الامتلاءُ. ويُقالُ: حِبِلَ الرجلُ من الشرابِ: إِذا امتلأَ مِنْهُ، ورَجُلٌ حَبْلانُ، وامرأةٌ حَبْلَى. وكأَنَّ الحُبْلَى مُشْتَقٌ من ذَلِك. ورجلٌ حَبْلانُ: إِذا امْتَلَأَ غَضَباً. ويُقال لَهَا إِذا عَظُمَ بَطْنُها: امرأةٌ مُثْقِلٌ، وَقد أَثْقَلَتْ، وَمِنْه قولُ اللهِ عزَّ وجّلَّ: (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) (281) . ويُقالُ [أَيْضا] : امرأةٌ مُجِحٌ، للحامِلِ المُقْرِبِ. وأَصْلُ ذَلِك فِيويُقالُ لبَيْضِها: المَكْنُ، والواحدةُ مَكْنَةٌ. ويُقالُ فِي (308) مِثْلِ ذلكَ مِن ذِي الجَناحِ: جَمَّعَ الطائرُ تَجْمِيعاً. وأَمْكَنَتِ الجرادةُ إِذا جَمَعَتِ البَيْضَ [فِي جوفِها] . وسَرَأَتْ: إِذا باضَتْ، وسَرْؤُها: بَيْضُها مِثالُ سَوْعِها (309) . ويُقالُ: أَرْتَجَتِ الدَّجاجةُ، إِذا امتلأَ بَطْنُها بَيْضاً وأَمْكَنَتْ فَهِيَ مَكُونٌ. ويُقالُ: أَقْطَعَتْ وأَقْفَّتْ، إِذا انقَطَعَ بَيْضُها.

التَّوْفِيق

(التَّوْفِيق) من الله للْعَبد سد طَرِيق الشَّرّ وتسهيل طَرِيق الْخَيْر وَيُقَال أَتَيْتُك لتوفيق الْهلَال أَي حِين أهل و (فِي القانون الدولي) محاولة إِحْدَى الدول الْإِصْلَاح بَين دولتين متنازعتين (مج)
التَّوْفِيق: جعل الله تَعَالَى قَول العَبْد وَفعله مُوَافقا لأَمره وَنَهْيه. وَالْمَشْهُور أَنه جعل الْأَسْبَاب نَحْو الْمَطْلُوب الْخَيْر.
اعْلَم أَن الزَّاهِد فِي حَوَاشِيه على حَوَاشِي جلال الْعلمَاء على التَّهْذِيب جعل الْخَيْر ذاتــيا للتوفيق دَاخِلا فِي مَفْهُومه. والفاضل المدقق ملا مرزاجان رَحمَه الله جعله من لَوَازِم ذَات التَّوْفِيق. وَهَذَا هُوَ الْحق فَمَعْنَى كَون الْخَيْر ذاتــيا للتوفيق أَنه لَا يَنْفَكّ عَنهُ لَا بِمَعْنى أَنه جُزْء من مَفْهُومه كَمَا يتَبَادَر إِلَى الْفَهم فَالْمُرَاد من الــذاتــي فِي قَول الزَّاهِد لِامْتِنَاع تخلله بَين الشَّيْء وذاتــياته للشَّيْء الْمَنْسُوب إِلَى الــذَّات سَوَاء كَانَ عين الــذَّات أَو جزءه أَو لَازِما غير منفك عَنهُ أَي مَعْنَاهُ اللّغَوِيّ لَا الاصطلاحي. وعَلى مَا قَرَّرْنَاهُ لَا احْتِيَاج إِلَى التكلفات فِي جعل الْخَيْر ذاتــيا لَهُ والانصاف أَن قَوْله لِأَن الْخَيْر مُعْتَبر فِي مَفْهُوم التَّوْفِيق يَأْبَى عَن هَذَا التَّوْجِيه وينادى على أَنه ذاتــي وجزء لَهُ. وَقيل فِي تَوْجِيه الــذاتــية أَن مَفْهُوم التَّوْفِيق تَوْجِيه الْأَسْبَاب نَحْو الْمَطْلُوب الْخَيْر فالخير ذاتــي وداخل فِي مَفْهُومه.
وَلَا يخفى على سالك مسالك التَّحْقِيق وشارع مشارع التدقيق إِن أَخذ شَيْء فِي تَعْرِيف أَمر لَا يسْتَلْزم كَونه ذاتــيا لَهُ وداخلا فِيهِ مُطلقًا.
أَلا ترى أَن الْإِنْسَان مَأْخُوذ وَفِي تَعْرِيف اللَّفْظ بِمَا يتَلَفَّظ بِهِ الْإِنْسَان والغير مَأْخُوذ فِي تَعْرِيف الأَصْل بِمَا يبتني عَلَيْهِ غَيره مَعَ أَنَّهُمَا خارجان عَن اللَّفْظ وَالْأَصْل فَلَيْسَ كل مَأْخُوذ فِي تَعْرِيف شَيْء ذاتــيا لَهُ دَاخِلا فِيهِ نعم إِذا أُرِيد بالمأخوذ الْمَأْخُوذ بطرِيق حمله على الْمُعَرّف أَو وَصفه للمحمول على الْمُعَرّف فالكلية حِينَئِذٍ صَادِقَة لَكِن الْخَيْر فِي تَعْرِيف التَّوْفِيق لَيْسَ كَذَلِك. وَقيل إِن التَّوْفِيق لَا يسْتَعْمل فِي الشَّرْع وَالْعرْف إِلَّا فِي الْخَيْر. فَمن هَذَا يعلم أَن الْخَبَر ذاتــي لَهُ دَاخل فِي مَفْهُومه وَأَنت تعلم أَن تَخْصِيص الِاسْتِعْمَال لَا يسْتَلْزم الدُّخُول.
وَقيل اخْتلف المتكلمون فِي التَّوْفِيق فَقَالَ الْبَعْض التَّوْفِيق الدعْوَة إِلَى الطَّاعَة. وَقَالَ الْبَعْض خلق الطَّاعَة. وَقَالَ الْبَعْض خلق الْقُدْرَة على الطَّاعَة وَكلهَا خير فالخير دَاخل فِي مَفْهُوم التَّوْفِيق. وَلَا يخفى أَنه لَا يفهم مِنْهُ كَون الْخَيْر دَاخِلا فِي مَفْهُوم التَّوْفِيق وذاتــيا لَهُ لِأَن صدق الْخَيْر على مَعَاني التَّوْفِيق لَا يسْتَلْزم دُخُوله فِيهَا. نعم يعلم من الْوَجْهَيْنِ الْأَخيرينِ أَن الْخَيْر لَازم للتوفيق لَا يَنْفَكّ عَنهُ وَلذَا قَالَ الْفَاضِل المدقق بلزومه وَمَال عَن دُخُوله فِي التَّوْفِيق وَكَونه ذاتــيا لَهُ.
فَاعْلَم أَن غَرَض الزَّاهِد الْمُحَقق والفاضل المدقق أَنه لَو جعل قَوْله لنا مُتَعَلقا بِجعْل يلْزم تخَلّل الْجعل بَين التَّوْفِيق وذاتــه وَهُوَ الْخَيْر إِن ثَبت أَنه ذاتــي لَهُ. أَو بَين التَّوْفِيق ولازمه كَمَا هُوَ الظَّاهِر. وتخلله بَين الشَّيْء وذاتــياته وَكَذَا بَينه وَبَين لَازمه مُمْتَنع فاللازم وَهُوَ التخلل بَاطِل فَكَذَا الْمَلْزُوم وَهُوَ جعل قَوْله لنا مُتَعَلقا بِجعْل. وَإِمَّا إِذا جعل لنا مُتَعَلقا برفيق فَلَا يلْزم الْمَحْذُور الْمَذْكُور لِأَن الْخَيْر بعد تعلقه برفيق يصير مُقَيّدا وَهُوَ لَيْسَ بــذاتــي أَو لَازم للتوفيق فَإِن ذاتــيه أَو لَازمه هُوَ الْخَيْرِيَّة الْمُطلقَة. فَأَقُول إِن الْخَيْر مُضَاف إِلَى النكرَة وَهِي رَفِيق وَهَذِه الْإِضَافَة تفِيد التَّخْصِيص كَمَا تقرر فِي النَّحْو فالخير الْمُضَاف إِلَى الرفيق مُقَيّد لَا مُطلق من غير احْتِيَاج إِلَى أَن تقيد بلنا قُلْنَا سَوَاء كَانَ مُتَعَلقا بِجعْل أَو برفيق لَا يلْزم الْمَحْذُور الْمَذْكُور بل الْأَنْسَب تعلقه بِجعْل لقُرْبه وفعليته دون رَفِيق لبعده واسميته إِلَّا أَن يُقَال إِن الــذاتــي أَو اللَّازِم هُوَ الْخَيْر الْمُضَاف إِلَى الرفيق أَي خيرية الرفاقة الْمُطلقَة الشاملة لتوفيق هُوَ رَفِيق لنا أَي لكل وَاحِد والتوفيق هُوَ رَفِيق لبَعض دون بعض مَعَ انْتِفَاء كل وَاحِد مِنْهُ إِمَّا بِلَا وَاسِطَة أَو بِوَاسِطَة فَإِذا قيد الرفيق بلنا تكون خيرية الرفاقة مُقَيّدَة وَهِي لَيست بــذاتــية وَلَا لَازم فَلَا يلْزم حِينَئِذٍ المحذوران الْمَذْكُورَان جَمِيعًا وَيُؤَيّد هَذَا أَنهم يَقُولُونَ إِنَّا لنا مُتَعَلق برفيق وَإِلَّا يلْزم الْمَحْذُور فَلَو كَانَ الــذاتــي أَو اللَّازِم هُوَ الْخَيْر فَقَط لاحتاجوا إِلَى تَقْيِيده وتخصيصه دون رَفِيق هَذَا كُله مَا حررناه فِي الْحَوَاشِي على حَوَاشِي الزَّاهِد وَقَوْلنَا وَكَذَا بَين لَازمه مُمْتَنع.
اعْلَم أَنه يفهم هَذَا الِامْتِنَاع من كَلَام الْفَاضِل المدقق حَيْثُ قَالَ قَوْله فركيك لِأَنَّهُ إِذا جعل لنا مُتَعَلقا بِجعْل صَار المجعول إِلَيْهِ خير رَفِيق بِلَا اعْتِبَار تَقْيِيده بِأَمْر فَظَاهر أَن الْخَيْرِيَّة من لَوَازِم ذَات التَّوْفِيق. وَلَا يتَعَلَّق الْجعل فِي الْمُتَعَارف باللوازم. فَلَا يُقَال إِن الْفَاعِل جعل الْأَرْبَعَة زوجا انْتهى قيل مُرَاده أَن لَوَازِم الْمَاهِيّة لَا يتَعَلَّق بهَا الْجعل ابْتِدَاء بل هِيَ مجعولة بِمَعْنى كَونهَا تَابِعَة لملزومه فِي الْجعل والمتبادر من الْجعل هُوَ الابتدائي. فَيعلم من هَا هُنَا أَن الْجعل يتَعَلَّق باللوازم أَيْضا ثَانِيًا وَفِي غير الْمُتَعَارف. أما سَمِعت أَن الباقر قَالَ فِي الْأُفق الْمُبين ثمَّ الْجعل الْمُؤلف لَا يتوسط بَين الشَّيْء وَبَين نَفسه كَقَوْلِنَا الْإِنْسَان إِنْسَان وَلَا بَينه وَبَين شَيْء من ذاتــياته كَقَوْلِنَا الْإِنْسَان حَيَوَان لانحفاظ الْخَلْط فِي مرتبَة الْمَاهِيّة من حَيْثُ هِيَ هِيَ الدُّخُول فِي أصُول قوامها بل يخْتَص بالعرضيات سَوَاء كَانَت لَوَازِم الْمَاهِيّة كَقَوْلِنَا الْأَرْبَعَة زوج أَو الْعَوَارِض الممكنة الانسلاخ كَقَوْلِنَا الْإِنْسَان مَوْجُود والجسم أَبيض لتعري الــذَّات عَنْهَا فِي مرتبَة التقرر وَصِحَّة سلبها عَن الْمَاهِيّة من حَيْثُ هِيَ هِيَ ولحوقها فِي مرتبَة مُتَأَخِّرَة.

الضّوء

الضّوء:
[في الانكليزية] Light
[ في الفرنسية] Lumiere
بالفتح وسكون الواو روشنى وهو غني عن التعريف وما يقال في تعريفه فهو من خواصّه وأحكامه. فقيل الضوء كمال أول للشفاف من حيث هو شفاف وإنّما اعتبر قيد الحيثية لأنّ الضوء ليس كمالا للشفاف في جسميته بل في شفافيته والمراد بكونه كمالا أولا أنّه كمال ذاتــي لا عرضي. وقال الإمام إنّه كيفية لا يتوقّف إبصارها على إبصار شيء آخر، وعكسه اللون، فهو كيفية يتوقّف إبصارها على إبصار شيء آخر هو الضوء فإنّ اللون ما لم يصر مستنيرا لا يكون مرئيا.
اعلم أنّهم اختلفوا فيه، فزعم بعض الحكماء الأقدمين أنّ الضوء أجسام صغار تنفصل من المضيء وتتصل بالمستضيء تمسكا بأنّه متحرّك بالــذات، كما نشاهد في السراج المنقول من موضع إلى موضع، وكلّ متحرك بالــذات جسم. والمحققون على أنّه ليس بجسم بل هو عرض قائم بالمحلّ معدّ لحصول مثله في الجسم المقابل وليست له حركة أصلا، بل حركته وهم محض وتخيّل باطل. وسبب التوهّم حدوث الضوء في القابل المقابل للمضيء فيتوهّم أنّه تحرّك منه ووصل إلى المقابل. ولما كان حدوثه فيه من مقابلة مضيء عال كالشمس تخيّل أنّه ينحدر. فالصواب إذن أنّه يحدث في القابل المقابل دفعة. وأيضا سبب آخر للتوهّم وهو أنّه لما كان حدوثه في الجسم القابل تابعا للوضع من المضيء ومحاذاتــه إيّاه، فإذا زالت تلك المحاذاة إلى قابل آخر زال الضوء عن الأول وحدث في ذلك الآخر ظنّ أنّه يتبعه في الحركة. وأيضا يرد عليهم الظّلّ فإنّه متحرّك بحركة صاحبه مع الاتّفاق على أنّه ليس بجسم.
ثم إنّ القائلين بكون الضوء كيفية لا جسما منهم من قال الضوء هو مراتب ظهور اللون، وادّعى أنّ الظهور المطلق هو الضوء والخفاء المطلق هو الظلمة والمتوسّط بينهما هو الظلّ؛ ويختلف مراتبه بحسب القرب والبعد من الطرفين. فإذا ألف الحسّ مرتبة من تلك المراتب ثم شاهد ما هو أكثر ظهورا من الأوّل حسب أنّ هناك بريقا ولمعانا، وليس الأمر كذلك، بل ليست هناك كيفية زائدة على اللون الذي ظهر ظهورا أتمّ.
فالضوء هو اللون الظاهر على مراتب مختلفة لا كيفية موجودة زائدة عليه. والتفرقة بين اللون المستنير والمظلم بسبب أنّ أحدهما خفي والآخر ظاهر لا بسبب كيفية أخرى موجودة مع المسبب. وقد بالغ بعضهم في ذلك حتى قال إنّ ضوء الشمس ليس إلّا الظهور التّام للونه.
ولما اشتد ظهوره وبلغ الغاية في ذلك قهر الإبصار حتى خفي اللون، لا لخفائه في نفسه بل لعجز البصر عن إدراك ما هو جلي في الغاية. والمحققون على أنّ الضوء واللون متغايران حسّا، وذلك أنّ البلور في الظلمة إذا وقع عليه ضوء يرى ضوءه دون لونه إذ لا لون له، كذا المار في الظلمة إذا وقع عليه الضوء فإنه يرى ضوءه لا لونه لعدمه، فقد وجد الضوء بدون اللون كما وجد اللون بدونه أيضا، فإنّ السواد وغيره من الألوان قد لا يكون مضيئا.
التقسيم
الضوء قسمان. ذاتــي وهو القائم بالمضيء لــذاتــه كما للشمس وسائر الكواكب سوى القمر، فإنّها مضيئة لذواتها غير مستفيدة ضوءها من مضيء آخر، ويسمّى هذا الضوء بالضّياء أيضا.
وقد يخصّ اسم الضوء به أي بهذا القسم.
وعرضي وهو القائم بالمضيء لغيره كما للقمر ويسمّى نورا إذا كان ذلك الغير مضيئا لــذاتــه من قوله تعالى هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً، أي جعل الشمس ذات ضياء والقمر ذات نور. والعرضي قسمان: ضوء أول وهو الحاصل من مقابلة المضيء لــذاتــه كضوء جرم القمر وضوء وجه الأرض المقابل للشمس.
وضوء ثان وهو الحاصل من مقابلة المضيء لغيره كضوء وجه الأرض حالة الإسفار وعقيب الغروب، ويسمّى بالظلّ أيضا. وقد يقال الضوء الثاني إن كان حاصلا في مقابلة الهواء المضيء يسمّى ظلا. وبالجملة فالضوء إمّا ذاتــي للجسم أو مستفاد من الغير، وذلك الغير إمّا مضيء بالــذات أو بالغير فانحصرت الأقسام في الثلاث. وقد يقسم الضوء إلى أوّل وثان.
فالأول هو الحاصل من مقابلة المضيء لــذاتــه، والثاني هو الحاصل من مقابلة المضيء لغيره.
فعلى هذا الضوء الــذاتــي غير خارج عن التقسيم، ولم يكن التقسيم حاصرا كذا في شرح المواقف.
اعلم أنّ مراتب المضيء في كونه مضيئا ثلاث. أدناها المضيء بالغير فهنا مضيء وضوء يغايره، وشيء ثالث أفاد الضوء. وأوسطها المضيء بالــذات بضوء هو غيره أي الذي تقتضي ذاتــه ضوءه اقتضاء يمتنع تخلّفه عنه كجرم الشمس إذا فرض اقتضاؤه الضوء، فهذا المضيء له ذات وضوء يغاير ذاتــه. وأعلاها المضيء بــذاتــه بضوء هو عينه كضوء الشمس مثلا فإنّه مضيء بــذاتــه لا بضوء زائد على ذاتــه. وليس المراد بالمضيء هنا معناه اللغوي أي ما قام به الضوء، بل المراد به أنّ ما كان حاصلا لكل واحد من المضيء بغيره. والمضيء بضوء هو غيره، أعني الظهور على الإبصار بسبب الضوء فهو حاصل للضوء في نفسه بحسب ذاتــه لا بأمر زائد على ذاتــه، بل الظهور في الضوء أقوى وأكمل فإنّه ظاهر بــذاتــه ومظهر لغيره على حسب قابليته للظهور، كذا في شرح التجريد في بحث الوجوب.
فائدة:
هل يتكيّف الهواء بالضوء أو لا؟ منهم من منعه وجعل اللون شرطه، ولا لون للهواء لبساطته، فلا يقبل الضوء. ومنهم من قال به، والتوضيح في شرح المواقف.
فائدة:
ثمة شيء غير الضوء يترقرق أي يتلألأ ويلمع على بعض الأجسام المستنيرة، وكأنّه شيء يفيض من تلك الأجسام، ويكاد يستر لونها وهو أي الشيء المترقرق لذلك الجسم، إمّا لــذاتــه ويسمّى شعاعا كما للشمس من التلألؤ واللمعان الــذاتــي، وإمّا من غيره ويسمّى حينئذ بريقا كما للمرآة التي حاذت الشمس، ونسبة البريق إلى اللّمعان نسبة النور إلى الضوء في أنّ الشعاع والضوء ذاتــيان للجسم والبريق والنور مستفادان من غيره.
معلوم أنّ الفرق بين الضوء والنور هو أنّ الضوء يستعمل في مجال التأثير في الغير. بينما النور عام سواء كان الشيء نوره ذاتــيا أو عرضيا من الغير كما في قوله تعالى هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً، وفيه إشارة للفرق بين الضّياء والنور (الشمس مضيئة والقمر اكتسب نوره من الشمس). وكذلك يؤيّد هذا قوله سبحانه: فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ البقرة، يعني: أثر تلك النار بواسطة وبدون واسطة أذهبتها الريح. ولم يبق منهم أثر.
وثمّة فرق آخر وهو أنّ الضوء يستعمل غالبا في اللمعان الحسي بينما يستعمل النور في اللمعان الحسي والباطني. هكذا في التفسير العزيزي.

المعرفة

المعرفة: عند النحاة: ما وضع ليدل على شيء بعينه وهي المضمرات والأعلام والمبهمات، وما عرف باللام، والمضاف إلى أحدهما.وعند أهل النظر: إدراك الشيء على ما هو عليه وهي مسبوقة بنسيان حاصل بعد العلم، ولذلك يسمى الحق تعالى بالعالم دون العارف.المعرفة عند القوم: سمو اليقين. وقيل سقوط الوهم لوضوح الاسم. وقيل زوال البرهان بكمال العيان. وقيل دثور الريب لظهور الغيب. وقيل هجوم الأنوار على الأبرار.
المعرفة:
[في الانكليزية] Knowledge
[ في الفرنسية] Connaissance
هي تطلق على معان. منها العلم بمعنى الإدراك مطلقا تصوّرا كان أو تصديقا. ولهذا قيل كلّ معرفة وعلم فإمّا تصوّر أو تصديق.
ومنها التصوّر كما سبق وعلى هذا يسمّى التصديق علما كما مرّ أيضا. ومنها إدراك البسيط سواء كان تصوّرا للماهية أو تصديقا بأحوالها، وإدراك المركّب سواء كان تصوّرا أو تصديقا، على هذا الاصطلاح يخصّ بالعلم، فبين المعرفة والعلم تباين بهذا المعنى، وكلاهما أخصّ من العلم بمعنى الإدراك مطلقا، وكذا الحال في المعنى الثاني للمعرفة والعلم. وبهذا الاعتبار يقال عرفت الله دون علمته. ومناسبة هذا الاصطلاح بما نسمعه من أئمة اللغة من حيث إنّ متعلّق المعرفة في هذا الاصطلاح وهو البسيط واحد ومتعلّق العلم وهو المركّب متعدّد، كما أنّهما كذلك عند أهل اللغة وإن اختلف وجه التعدّد والوحدة، فإنّ وجه التعدّد والوحدة في اللغوي يرجع إلى تقييد الاسم الأول بإسناد أمر إليه وإطلاقه عنه، سواء كان مدخوله مركّبا أو بسيطا، وفي الاصطلاحي إلى نفس المحكوم عليه. فإن كان مركّبا فهو متعلّق العلم وإن كان بسيطا فمتعلّق المعرفة. ومنها إدراك الجزئي سواء كان مفهوما جزئيا أو حكما جزئيا، وإدراك الكلّي مفهوما كلّيا كان أو حكما كلّيا على هذا الاصطلاح يخصّ بالعلم، وبالنظر إلى هذا يقال أيضا عرفت الله دون علمته، والمراد بالحكم التصديق، والنسبة بينهما على هذا على قياس المعنى الثاني والثالث، والنسبة بين تلك المعاني الثلاثة للمعرفة هي العموم من وجه، وكذا بين تلك المعاني الثلاثة للعلم، وكذا بين المعرفة بالمعنى الثاني أي بمعنى التصوّر وبين العلم بالمعنى الثالث الرابع، وكذا بين المعرفة بالمعنى الثالث والعلم بالمعنى والرابع، وكذا بين المعرفة بالمعنى الرابع والعلم بالمعنى الثالث كما لا يخفى. قيل الاصطلاح الثاني والرابع متفرّعان على الثالث لأنّ الجزئي والتصوّر أشبه بالبسيط والكلّي والتصديق بالمركّب، هذا والأقرب أن يجعل استعمال المعرفة في التصوّرات والعلم في التصديقات أصلا لأنّه عين المعنى اللغوي ثم يفرّع عليه المعنيان الآخران، هكذا في شرح المطالع وحواشيه وحواشي المطول. ومنها إدراك الجزئي عن دليل كما في التوضيح في تعريف الفقه ويسمّى معرفة استدلالية أيضا. ومنها الإدراك الأخير من الإدراكين لشيء واحد إذا تخلّل بينهما عدم بأن أدرك أولا ثم ذهل عنه ثم أدرك ثانيا. قيل المراد بالذهول هو ما يفضي إلى نسيان محوج إلى كسب جديد وإلّا فالحاصل بعد الذهول التفات لا إدراك إلّا مجازا. والحقّ أنّ الذهول زوال الصورة عن المدركة فيكون الموجود بعده إدراكا، وإن كان بلا كسب جديد. ومنها الإدراك الذي هو بعد الجهل ويعبّر عنه أيضا بالإدراك المسبوق بالعدم والعلم يقال للإدراك المجرّد من هذين الاعتبارين بمعنى أنّه لم يعتبر فيه شيء من هذين القيدين، وبالنظر إلى هذه المعاني الثلاثة يقال: الله تعالى عالم ولا يقال عارف، إذ ليس إدراكه تعالى استدلاليا ولا مسبوقا بالعدم ولا قابلا للذهول، والنسبة بين المعرفة والعلم بهذين المعنيين هي العموم مطلقا، هكذا في حواشي المطول في تعريف علم المعاني، وباقي النّسب يظهر بأدنى توجّه.
ومنها ما هو مصطلح الصوفية. قال في مجمع السلوك: المعرفة لغة العلم، وعرفا العلم الذي تقدّمه نكرة. وفي عبارة الصوفية العلم الذي لا يقبل الشكّ إذا كان المعلوم ذات الله تعالى وصفاته، ومعرفة الــذات أن يعلم أنّه تعالى موجود واحد فرد وذات وشيء وقائم ولا يشبه شيئا ولا يشبهه. وأما معرفة الصفات فأن يعرف الله تعالى حيّا عالما سميعا بصيرا مريدا متكلّما إلى غير ذلك من الصفات. وإنما لا تطلق المعرفة على الله تعالى لأنّها في الأصل اسم لعلم كان بعد أن لم يكن، وعلمه تعالى قديم.
ثم المعرفة إمّا استدلالية، وهو الاستدلال بالآيات على خالقها لأنّ منهم من يرى الأشياء فيراه بالأشياء، وهذه المعرفة على التحقيق إنّما تحصل لمن انكشف له شيء من أمور الغيب حتى استدلّ على الله تعالى بالآيات الظاهرة والغائبة، فمن اقتصر استدلاله بظاهر العالم دون باطنه فلم يستدل بالدليلين فتعطّل استدلاله بالباطن وهي درجة العلماء الراسخين في العلم.
وأمّا شهودية ضرورية وهو الاستدلال بناصب الآيات على الآيات، وهي درجة الصّدّيقين وهم أصحاب المشاهدة. قال بعض المشايخ: رأيت الله قبل كلّ شيء وهو عرفان الإيقان والإحسان، فعرفوا كلّ شيء به لا أنّهم عرفوه بشيء انتهى. ويقرب من هذا ما في شرح القصيدة الفارضية من أنّ المعرفة أخصّ من العلم لأنّها تطلق على معنيين، كلّ منهما نوع من العلم، أحدهما العلم بأمر باطن يستدلّ عليه بأثر ظاهر كما توسّمت شخصا فعلمت باطن أمره بعلامة ظاهرة منه، ومن ذلك ما خوطب به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ. وثانيهما العلم بمشهود سبق به عهد كما رأيت شخصا رأيته قبل ذلك بمدة فعلمت أنّه ذلك المعهود، فقلت عرفته بعد كذا سنّة عهده، فالمعروف على الأول غائب وعلى الثاني شاهد. وهل التفاوت البعيد بين عارف وعارف إلّا لبعد التفاوت بين المعرفتين؟ فمن العارفين من ليس له طريق إلى معرفة الله تعالى إلّا الاستدلال بفعله على صفته وبصفته على اسمه وباسمه على ذاتــه، أولئك ينادون من مكان بعيد. ومنهم من يحمله العناية الأزلية فتطرقه إلى حريم الشّهود فيشهد المعروف تعالى جده بعد المشاهدة السابقة في معهد أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ويعرف به أسماءه وصفاته على عكس ما يعرفه العارف الأول، فبين العارفين بون بيّن، إذ الأول لغيبة معروفة كنائم يرى خيالا غير مطابق للواقع، والثاني لشهود معروفه كمستيقظ يرى مشهودا حقيقيا مطابقا للواقع انتهى كلامه.

قال في مجمع السلوك: أوحى الله تعالى لداود عليه السلام يا داود: أتدري ما معرفتي؟ قال:

لا. قال: حياة القلب في مشاهدتي. وقال الواسطي: المعرفة ما شاهدته حسّا والعلم ما شاهدته خبرا أي بخبر الأنبياء عليهم السلام.

وقال البعض: المعرفة اسم لعلم تقدّمه نكرة وغفلة، ولهذا لا يصحّ إطلاقه على الله تعالى.

وقال الشبلي: إذا كنت بالله تعالى متعلّقا لا بأعمالك غير ناظر إلى ما سواه فأنت كامل المعرفة. وقيل الرؤية في الآخرة كالمعرفة في الدنيا كما أنّه تعالى يعرف في الدنيا من غير إدراك كذلك يرى في العقبى من غير إدراك، لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ.
وقالوا من لم يعرف الله تعالى فالسكوت عليه حتم، ومن عرف الله تعالى فالصّمت له جزم.
ولذلك قيل من عرف الله كلّ لسانه، ولا يعارضه ما قيل: من عرف الله طال لسانه: إذ المعنى من عرف الله بالــذات كلّ لسانه ومن عرف الله بالصفات طال لسانه. لأنّ الشّخص الذي له مقام التلوين يكون له معرفة الصفات، وأمّا من كان في مقام التمكين فله معرفة الــذات.
وذلك مثل سيدنا موسى عند ما كان في مقام التلوين فتطاول قائلا: ربّ أرني أنظر إليك.

فجاءه الجواب: لن تراني. وأمّا نبيّنا المصطفى صلى الله عليه وسلم فلكونه في مقام التمكين فلم يتطاول بلسانه ولم يطلب الرؤية لهذا حظي بالرؤية. أو يقال: المعنى من عرف الله بمعرفته الشهودية الضرورية كلّ لسانه، ومن عرف الله بمعرفته الاستدلالية طال لسانه انتهى. وفي خلاصة السلوك: المعرفة ظهور الشيء للنفس عن ثقة، قال به عليّ بن عيسى. وقال عبد الله بن يحيى إذا أراك الاضطراب عن مقام العلم بدوام الصحبة فهو معرفة. وقيل المعرفة إحاطة العلم بالأشياء، قال عليه الصلاة والسلام: «لو عرفتم الله حقّ معرفته لزال الجبال عن دعائكم». قال أبو يزيد: حقيقة المعرفة الحياة بذكر الله وحقيقة الجهل الغفلة عن الله.
حكى أبو عليّ ثمرة المعرفة إذا ابتلي صبر وإذا أعطي النّعم شكر وإذا أصابه المكروه رضي.

وقال أهل الإشارات: العارف من لا يشغله شاغل طرفة عين. قال الجنيد: العارف الذي نطق الحقّ عن سرّه وهو ساكت. وقيل الذي ضاقت الدنيا عليه بسعتها. وقيل: الناس على أربعة أصناف: الثابت الذي يعمل للدرجات، والمحبّ الذي يعمل للزلفى القريبة، والعارف الذي يعمل لرضاء ربه من غير حفظ لنفسه منه.
ومنها ما هو مصطلح النحاة وهي اسم وضع لشيء بعينه. وقيل اسم وضع ليستعمل في شيء بعينه ويقابلها النكرة. اعلم أنّ التعريف عبارة عن جعل الــذات مشارا بها إلى خارج إشارة وضعية ويقابلها التنكير وهو جعل الــذات غير مشار بها إلى خارج في الوضع، والمراد بالــذات المعنى المستقلّ بالمفهومية الذي يصلح أن يحكم عليه وبه، وهو معنى الاسم فقط، فإنّ معنى الفعل والجملة لدخول النسبة فيه خارج عن تلك الصلاحية، وكذا معنى الحرف. ثم لا يخفى أنّ المشار به إلى خارج إنّما هو اللفظ الدالّ على الــذات وإنّما نسب إليها مجازا أو أراد بالــذات ما يدلّ عليها مجازا، فالتعريف والتنكير من عوارض الــذات أي من عوارض ما يكون مدلوله الــذات، فلا يجريان في غير الاسم. فعلى هذا لو بدّل الــذات بالاسم لكان أنسب. والمراد بالخارج مقابل الذهن. وإنّما قيل إلى خارج لأنّ كلّ اسم موضوع للدلالة على ما سبق في علم المخاطب بكون ذلك الاسم دالا عليه، ومن ثمّة لا يحسن أن يخاطب بلسان إلّا من سبق معرفته بذلك اللسان، فعلى هذا كلّ لفظ فهو إشارة إلى ما ثبت في ذهن المخاطب أنّ ذلك اللفظ موضوع له، فلو لم يقل إلى خارج لدخل في الحدّ جميع الأسماء معارفها ونكراتها. وتوضيحه أنّ المعرفة يشار بها إلى ما في الذهن من حيث حضوره فيه، ولهذا قيل المعرفة يقصد بها معيّن عند السامع من حيث هو معيّن كأنه إشارة إليه بذلك الاعتبار. وأمّا النكرة فيقصد بها التفات الذهن إلى المعيّن من حيث ذاتــه ولا يلاحظ فيها تعيينه وإن كان معيّنا في نفسه، لكن بين مصاحبة التعيين وملاحظته فرق جلي. ولا شكّ في أنّ الأمر الحاضر في الذهن وإن كان أمرا ذهنيا إلّا أنه مع قيد الحضور في الذهن أمر خارج عن الذهن لأنّ الموجود في الذهن مجرّد ذاتــه لا مع قيد الحضور فيه، فالمراد بالخارج المعيّن من حيث هو معيّن، وقد يقيّد الخارج بالمختصّ ويجعل فائدته الاحتراز عن الضمائر العائدة إلى ما لم يختص بشيء قبله نحو: أرجل قائم أبوه، ونحو: ربّه رجلا وربّ رجل وأخيه، ويا لها قصة، فإنّ هذه الضمائر نكرات إذ لم يسبق اختصاص المرجوع إليه بحكم. ولو قلت ربّ رجل كريم وأخيه، وربّ شاة سوداء وسخلتها لم يجز لأنّ الضمير معرفة لرجوعه إلى نكرة مخصصة بالصفة. وفيه بحث لأنّه إن كانت هذه الضمائر إشارة إلى ما في الذهن من حيث حضوره فيه كان الظاهر كونها معرفة لا نكرة، وإن كانت إشارة إليه من حيث ذاتــه خرجت من قيد خارج فلم يحتج إلى قيد مختص. وأيضا معنى التعريف هو التعيين أي الإشارة إلى معلوم حاضر في ذهن السامع من حيث هو معلوم وإن كان مبهما كما سبق، وهذا المعنى موجود في الضمير العائد إلى النكرة، فلا وجه للحكم بكونه نكرة. وأيضا لمّا اعتبر مجرّد الإشارة إلى الخارج فاعتبار التخصيص الغير الواصل إلى حدّ التعيين مستبعد جدا. ولما كان الحقّ إدخال تلك الضمائر في المعارف لم يقيّد الخارج بالمختص. وإنّما قيل إشارة وضعية ليخرج عن الحدّ النكرات المعيّنة عند المخاطب نحو أتيت رجلا إذا علمه المتكلّم بعينه إذ ليس في رجلا إشارة لا وضعا ولا استعمالا إلى معيّن؛ ويدخل في الحدّ تعريف الأعلام المشتركة إذ يشار بها إلى معيّن بحسب الوضع.
فالمعرفة على هذا ما أشير به إلى خارج إشارة وضيعة. وعند من قيّد الخارج بالمختصّ هي ما أشير به إلى خارج مختصّ إشارة وضعية، والنكرة ما ليس كذلك.
ثم اعلم أنّ الجمهور على أنّ المعتبر في المعرفة التعيين عند الاستعمال دون الوضع، فعرّفوا المعرفة بما وضع ليستعمل في شيء بعينه أي متلبّس بعينه أي في شيء معيّن من حيث إنّه معيّن. وحاصله الإشارة إلى أنّه معهود ومعلوم بوجه ما، وبهذا خرج النكرة لأنّ معاني النكرات وإن أوجبت معلوميتها للسامع لكن ليس في اللفظ إشارة إلى تلك المعلومية. ولمّا اعتبر التعيين عند الاستعمال دخل في الحدّ المضمرات والمبهمات وسائر المعارف، فإنّ لفظ أنا لا يستعمل إلّا في الاشخاص المعيّنة إذ لا يصحّ أن يقال إنا ويراد به متكلّم لا بعينه، وليست موضوعة لواحد منها وإلّا لكانت في غيره مجازا، ولا لكلّ واحد منها وإلّا لكانت مشتركة موضوعة أوضاعا بعدد الأفراد. وأيضا لا قدرة على وضعها لأمور متعيّنة لا يمكن ضبطها وملاحظتها حين الوضع، فوجب أن تكون موضوعة لمفهوم كلّي شامل لكلّ الأفراد، ويكون الغرض من وضعها له استعمالها في أفراده المعيّنة دونه، فما سوى العلم معارف استعمالية لا وضعية، فالشيء المذكور في التعريف أعمّ ممّا وضع اللفظ المستعمل فيه له كالأعلام وممّا وضع لما يصدق عليه كما في سائر المعارف. وهذا هو الذي اختاره المحقّق التفتازاني. وقال في التلويح بأنّه الأحسن.
وذهب بعض المتأخّرين إلى أنّ المعتبر التعيين عند الوضع وعرّفوها بما وضع لشيء بعينه.
فالموضوع له لا بدّ أن يكون معيّنا سواء كان الوضع خاصا كما في العلم أو عاما كما في غيره من المعارف، ولا يلزم المجاز ولا الاشتراك وتعدّد الأوضاع. ويرد على قولهم لا قدرة على وضعها لأمور الخ أنّه كيف صحّ منكم اشتراط أن لا يستعمل إلّا في واحد معيّن من طائفة من المعيّنات فيما ضبطتم للمستعمل فيه يمكن أن يضبط الموضوع له ويوضع له، ولو صحّ ما ذكرتموه لكانت أنت وأنا وهذا مجازات لا حقائق لها إذ لا تستعمل فيما وضعت هي لها من المفهومات الكلّية، بل لا يصحّ استعمالها فيها أصلا، وهذا مستبعد جدا، كيف لا ولو كانت كذلك لما اختلف أئمّة اللغة في عدم استلزام المجاز الحقيقة ولما احتيج في نفي الاستلزام أن يتمسّك في ذلك بأمثلة نادرة، وهذا هو الذي اختاره السّيّد السّند وصاحب الأطول وغيرهما، وقالوا بأنّه هو الحقّ الحقيق بالتحقيق ويجيء لذلك توضيح في لفظ الوضع.
هذا كلّه خلاصة ما في المطول وحواشيه والأطول في بيان فائدة تعريف المسند إليه.

اعلم أنّ المعارف بحسب الاستقراء ستّ:
المضمرات والأعلام والمبهمات وما عرّف باللام وما عرّف بالنداء والمضاف إلى إحدى هذه الخمسة، ولم يذكر المتقدّمون ما عرّف بالنداء لرجوعه إلى ذي اللام إذ أصل يا رجل يا أيّها الرجل، ويذكر هاهنا المعرّف باللام والإضافة. فأقول اشتهر فيما بينهم أنّ لام التعريف يكون للعهد الخارجي ولتعريف الجنس وللعهد الذهني وللاستغراق وكذلك المعرّف بالإضافة. وذهب المحقّقون إلى أنّ اللام لتعريف العهد والجنس لا غير، إلّا أنّ القوم أخذوا بالحاصل وجعلوه أربعة أقسام: توضيحا وتسهيلا، وجعلوا تعريف الاستغراق من أقسام تعريف الجنس، واختلفوا في المعهود الذهني.
فبعضهم جعله من أقسام العهد الخارجي وقال إذا ذكر بعض أفراد الجنس خارجا أو ذهنا فحمل الفرد على ذلك البعض أولى من حمله على جميع الأفراد ويسمّى المعهود خارجيا أو ذهنيا، وإلى هذا ذهب صاحب التوضيح كما صرّح به الفاضل الچلپي في حاشية التلويح في بيان ألفاظ العموم، وإلى هذا يشير أيضا ما وقع في الاتقان حيث قال: التعريف باللام نوعان:

عهدية وجنسية، وكلّ منهما ثلاثة أقسام:
فالعهدية إمّا أن يكون مصحوبها معهودا ذكريا نحو كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا، فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ وضابطته أنّ يسدّ الضمير مسدّها مع مصحوبها أو معهودا ذهنيا نحو إِذْ هُما فِي الْغارِ أو معهودا حضوريا نحو الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي. قال ابن عصفور وكذا كلّ ما وقع بعد اسم الإشارة نحو جاءني هذا الرجل، وبعد أيّ في النداء نحو يا أيّها الرجل، أو إذا الفجائية نحو خرجت فإذا الأسد، أو في اسم الزمان الحاضر نحو الآن انتهى نظرك. والجنسية إمّا لاستغراق الأفراد وهي التي يخلفها لفظ كلّ حقيقة نحو وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً ومن دلائلها صحة الاستثناء من مدخولها نحو إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا أو وصفه بالجمع نحو أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا وإمّا لاستغراق خصائص الأفراد وهي التي يخلفها لفظ كلّ مجازا نحو ذلك الكتاب أي الكتاب الكامل في الهداية الجامع لصفات جميع الكتب المنزّلة وخصائصها. وإمّا لتعريف الماهية والحقيقة والجنس وهي التي لا يخلفها كلّ لا حقيقة ولا مجازا نحو جعلنا من الماء كل شيء حيّا، ومثل هذا في المغني أيضا. وبعضهم جعله أي المعهود الذهني من أقسام الجنس ولذا حقّق صاحب المفتاح أنّ لام التعريف للإشارة إلى تعيين حصّة من مفهوم مدخوله أو تعيين نفس المفهوم والعهد الذهني والاستغراق من أقسام لام تعريف الجنس. واعلم أنّ معنى التعريف مطلقا هو الإشارة إلى أنّ مدلول اللفظ معهود أي معلوم حاضر في الذهن فلا فرق بين لام الجنس ولام العهد في الحقيقة إذ كلّ منهما إشارة إلى معهود غايته أنّ المعهود في أحدهما جنس وفي الآخر حصّة منه، فتسمية أحدهما بلام الجنس والآخر بلام العهد اصطلاح عائد إلى معروض التعيين، أي التعريف، لا إلى التعيين نفسه. ولهذا قال أئمة الأصول حقيقة التعريف العهد لا غير، وإلى هذا أشار السّكّاكي واختار في اللام أنّ معناها العهد، أي الإشارة إلى أنّ مدلول اللفظ معهود أي معلوم حاضر في ذهن السامع. وإذا كانت اللام موضوعة لمعنى العهد مطلقا أي سواء كان الحاضر ماهية أو حصة منها كان تعريف الحقيقة قسما من العهد، كما أنّ ما سمّوه تعريف عهد قسم آخر منه، وهذا كلام حقّ. هكذا يستفاد من الأطول وحواشي المطول، وبهذا ظهر فساد ما في بعض شروح المغني أنّ الألف واللام عند السّكّاكي إنّما هي لتعريف العهد الذهني خاصة. وأمّا الجنسية والاستغراقية والعهدية خارجيا فكلّها داخلة في العهد الذهني انتهى. واعلم أيضا أنّه إذا دخلت اللام على اسم الجنس فإمّا أن يشار بها إلى حصّة معيّنة منه فردا كان أو أفرادا مذكورة تحقيقا أو تقديرا، ويسمّى لام العهد الخارجي والأول وهو ما كان مذكورا تحقيقا بأن يذكر سابقا في كلامك أو كلام غيرك صريحا أو غير صريح هو العهد التحقيقي، والثاني وهو ما كان مذكورا تقديرا بأن يكون معلوما حقيقة أو ادعاء لغرض وهو العهد التقديري. وأمّا أن يشار بها إلى الجنس نفسه وحينئذ إمّا أن يقصد الجنس من حيث هو كما في التعريفات وفي نحو قولنا الرجل خير من المرأة ويسمّى لام الحقيقة والطبيعة، وإمّا أن يقصد الجنس من حيث هو موجود في ضمن الأفراد بقرينة الأحكام الجارية عليه الثابتة له في ضمنها، فأمّا في جميعها كما في المقام الخطابي وهو الاستغراق أو في بعضها وهو المعهود الذهني. فإن قلت هلّا جعلت العهد الخارجي كالذهني راجعا إلى الجنس؟ قلت:
لأنّ معرفة الجنس غير كافية في تعيين شيء من أفراده، بل يحتاج فيه إلى معرفة أخرى. ثم الظاهر أنّ الاسم في المعهود الخارجي له وضع آخر بإزاء خصوصية كلّ معهود. ومثله يسمّى وضعا عاما، ولا حاجة إلى ذلك في العهد الذهني والاستغراق، والتعريف الجنسي إذا جعل أسماء الأجناس موضوعة للماهيات من حيث هي. هذا خلاصة ما قال عضد الملّة في الفوائد الغياثية، فهذا صريح في أنّ لام الحقيقة ولام الطبيعة بمعنى واحد، وهو قسم من لام الجنس مقابل للعهد الذهني والاستغراق، والمفهوم من المطول والإيضاح أنّ لام الجنس ولام الحقيقة بمعنى واحد كذا في الأطول.
فائدة:
قولهم لام الجنس تشير إلى نفس الحقيقة معناه أنّ لام الجنس تشير إلى مطلق المفهوم أي مفهوم المسمّى، سواء كان حقيقيا أو مجازيا، فإنّها كما تدخل على الحقيقة تدخل على المجاز أيضا، كقولك الأسد الذي يرمي خير من الأسد المفترس، وسواء اقتصر الحكم على المفهوم أو أفضي صرفه إلى الفرد، وليس معناه أنّها تشير إلى نفس المفهوم من غير زيادة كما توهّم، وإلّا لم يصح جعل العهد الذهني والاستغراق داخلين تحته. وقد تكون الإشارة إلى نفس الحقيقة لدعوى اتحاده مع شيء، وجعل منه قوله تعالى أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وهو الذي قصده جار الله حيث قال: إنّ معنى التعريف في «المفلحون» الدلالة على أن المتقين هم الذين إن حصلت صفة المفلحين وتحقّقوا بما هم فيه وتصوّروا بصورتهم الحقيقية فهم هم لا يعدون تلك الحقيقة، كما تقول لصاحبك هل عرفت الأسد وما جبل إليه من فرط الإقدام أنّ زيدا هو هو. وقد يشار بها إلى تعيين الجنس من حيث انتسابه إلى المسند إليه فيرجع التعيين إلى الانتساب كما في بيت حسّان ووالدك العبد أي المعروف بالعبودية، فظهر أنّ تعريف الجنس ليس تعريفا لفظيا لا يحكم به إلّا بضبط أحكام اللفظ من غير حظّ المعنى فيه، كما قال بعض محقّقي النحاة، كلّ لام تعريف سوى لام العهد لا معنى للتعريف فيها، فإنّ الناظرين في المعاني لهم شرب آخر ولا يعتبرون التعريف اللفظي، ولذلك تراهم طووا ذكر علم الجنس بأقسامه في مقام التعرض للعلم وأحكامه؛ فلام الجنس تشير إلى نفس الحقيقة باعتبار حضورها وتعيّنها وعهديتها في الذهن. ولذا قال السّكّاكي لا بدّ في تعريف الجنس من تنزيله منزلة المعهود بوجه من الوجوه الخطابية إمّا لكون ذلك الشيء محتاجا إليه على طريق التحقيق أو على طريق التحكّم، فهو لذلك حاضر في الذهن، أو لأنّه عظيم الخطر معقود به الهمم لذلك على أحد الطريقين، أو لأنّه لا يغيب عن الجنس على أحد الطريقين، وإمّا لأنّه جار على الألسن كثير الدور في الكلام على أحد الطريقين، فإن قلت لم لم يجعل علم الجنس موضوعا بجوهره لما وضع له المعرّف بلام الجنس؟ قلت: لأنّ اعتبار التعين الذهني تكلّف إذ ليس نظر أرباب وضع اللفظ إلّا على الأمور الخارجية، وذو اللام يدعو إليه لئلّا يلغو اللام، ولا داعي إليه في نحو أسامة كذا في الأطول.
فائدة:
الاستغراق مطلقا باللام كان أو غيره ضربان: حقيقي نحو عالم الغيب والشّهادة وعرفي نحو جمع الأمير الصاغة أي صاغة بلده أو مملكته. وفسّر المحقّق التفتازاني الحقيقي بالشمول لكلّ ما يتناوله اللفظ بحسب اللغة وكأنّه أراد أعم من التناول بحسب المعنى المجازي أو الحقيقي والعرفي بالشمول لما يتناوله اللفظ بحسب متفاهم العرف. والعرف إذا أطلق يراد به العرف العام فيتّجه أنّه يبقى الشمول شرعا واصطلاحا واسطة وأنّ الظاهر لغوي وعرفي. وفسّر في شرح المفتاح السّيد السند أيضا الحقيقي بما كان شموله للأفراد على سبيل الحقيقة بأن لا يخرج فرد والعرفي مما يعدّ شمولا في عرف الناس، وإن خرج عنه كثير من أفراد المفهوم. هذا ولا يخفى عليك أنّ التقسيم إلى الحقيقي والعرفي لا يختص الاستغراق بل هو تخصيص من غير مخصّص إذ المعرّف باللام أيضا لواحد منها يكون عرفيا وحقيقيا، فنحو أدخل السوق عرفي إذ المراد سوق من أسواق البلد لا أسواق الدنيا، بل الإشارة إلى الحقيقة من حيث هي أيضا كذلك لأنّك ربما تقول في بلد البطيخ خير من العنب لأنّ بطيخه خير من عنبه، فالإشارة في كلّ من البطيخ والعنب إلى جنس خاص منهما بمعونة العرف. ولذا قد يعكس ذلك في بلد آخر وهذه دقيقة قد أبدعها السّكّاكي واتخذها من جاء بعده مذهبا. والحق أن لا استغراق إلّا حقيقيا والتصرّف في أمثال هذا المثال في الاسم المعرّف حيث خصّ ببعض مفهومه بقرينة التعارف فأريد بالصاغة إحدى الصاغتين، وأدخل اللام فاستفيد العموم كذا في الأطول.
فائدة:
الفرق بين المعرّف بلام الحقيقة والطبيعة وبين أسماء الأجناس التي ليست فيها دلالة على البعضية والكلّية نحو رجعى وذكرى ونحوهما من المصادر لأنّ المصادر ليس فيها القصد إلّا إلى الحقيقة المتحدة بالإجماع هو أنّ المعرّف بلام الحقيقة يقصد فيه الإشارة إلى الحقيقة باعتبار حضورها في الذهن وليس أسماء الأجناس المذكورة كذلك. والفرق بينه وبين علم الجنس هو أنّ علم الجنس يدلّ بجوهره على حضور الماهية في الذهن بخلاف المعرّف باللام فإنّه يدلّ على الحضور بالآلة. ومثل هذا الفرق بين المعهود الخارجي وعلم الشخص. وأيضا المعرّف باللام كثيرا ما لا يدلّ على المعهود بشخصه بخلاف علم الشخص. والفرق بين المعرّف بلام الاستغراق وبين كل مضافا إلى النكرة أنّ المعرّف مستعمل في الماهية بخلاف كلّ مضافا إلى النكرة، وأيضا في المعرّف باللام إشارة إلى حضورها في الذهن دون كلّ مضافا إلى النكرة، هكذا في المطول وأبي القاسم.
والفرق بين المعهود الذهني وبين النكرة هو أنّ النكرة تفيد أنّ ذلك الاسم بعض من جملة الحقيقة نحو أدخل سوقا سواء كانت موضوعة للحقيقة مع وحدة أو كانت موضوعة للحقيقة المتحدة، لأنّها مع التنوين تفيد الماهية مع وحدة لا بعينها، فإطلاقها على الواحد حقيقة بخلاف المعرّف باللام نحو أدخل السوق فإنّ المراد به نفس الحقيقة والبعضية مستفادة من القرينة، فإنّ الدخول أفاد أنّ الحقيقة المتحدة المرادة بالمعرّف باللام متحدة مع معهود، فإطلاقه على الواحد مجاز. وبالجملة قولك أدخل سوقا يأتي لواحد من حاق اللفظ فالنكرة أقوى في الإتيان لواحد، ولذا قالوا المعهود الذهني في المعنى كالنكرة وإن كان في اللفظ معرفة صرفة لوجود اللام وعدم التنوين، ولذا يجري عليه أحكام المعارف تارة من وقوعه مبتدأ وذا حال ووصفا للمعرفة ونحو ذلك، وأحكام النكرات تارة أخرى كتوصيفه بالجملة في قول الشاعر:
ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني وفي قوله تعالى كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً. هذا حاصل ما في الأطول. لكن في المطول أنّ إطلاق المعرّف بلام الحقيقة وكذا علم الجنس على الواحد حقيقة إذ لم يستعمل إلّا فيما وضع له، والفرق بين المعرّف والنكرة أنّ إرادة البعض في النكرة بنفس اللفظ، وفي المعرّف بالقرينة. واعترض عليه بأنّ الموضوع له الماهية المطلقة والمستعمل فيه هو الماهية المخلوطة، ولا شك في تغايرهما فينبغي أن يكون مجازا. وأجيب بأن الموضوع له هو الماهية لا بشرط شيء، وهي تتحقّق في ضمن المخلوطة، فالمستعمل فيه ليس إلّا الماهية لا بشرط شيء، والفرد المنتشر إنّما فهم من القرينة، وإنّما سمّي معهودا باعتبار مطابقته للماهية المعهودة فله عهد بهذا الاعتبار فسمّي معهودا ذهنيا. قال صاحب الأطول: لا يخفى أنّ المعرّف في مقام الاستغراق أيضا كالنكرة لأنّه يأتي للوحدات من غير إشارة إلى تعيينها، غايته أنّه متحد مع الماهية المعهودة كالمعهود الذهني، والمعرّف بلام الحقيقة من المصادر كالنكرة منها في المعنى، فلا وجه لتخصيص هذا الحكم بهذا القسم. ويمكن أن يقال يراد أنّ هذا في المعنى كالنكرة في اعتبار البلغاء وليس غيره كذلك. ولذا لم يعامل معه معاملة النكرة، ونظرهم في هذا التخصيص محمود لأنّ مناط الإفادة وهو الفرد في هذا القسم مبهم فلم يعتدّ بتعيين تعلّق بالمفهوم بخلاف ما إذا أريد جميع الأفراد فإنّها لتعيّنها بالعموم نائبة مناب المتعيّن.
فائدة:
اعلم أنّ التعريف باللام والنداء وبالإضافة جاء لمدلول اللفظ من الخارج. وأمّا تعريف باقي المعارف فمن جوهر اللفظ ولوضعه للأمر المأخوذ مع التعيّن. وما ذكره السّيّد السّند ناقلا عن الرّضي أنّ تعريف الموصول واسم الإشارة والضمير من الخارج كالمعرّف باللام والنداء والإضافة والانقسام إلى الخمسة بحسب تفاوت ما يستفاد منه مزيّف لأنّ الخارج في الموصول ونظيريه قرينة المراد من اللفظ لا الإشارة إلى تعيّنه كما قال، ولأنّ تفاوت ما يستفاد منه أزيد من الخمسة كذا في الأطول.

الضّرورة

الضّرورة:
[في الانكليزية] Necessity
[ في الفرنسية] Necessite
في اللغة الحاجة. وعند أهل السلوك هي ما لا بدّ للإنسان في بقائه ويسمّى حقوق النفس أيضا كما في مجمع السلوك. وعند المنطقيين عبارة عن استحالة انفكاك المحمول عن الموضوع سواء كانت ناشئة عن ذات الموضوع أو عن أمر منفصل عنها، فإنّ بعض المفارقات لو اقتضى الملازمة بين أمرين ضروريا للآخر، فكان امتناع انفكاكه من خارج. والمراد استحالة انفكاك نسبة المحمول إلى الموضوع فتدخل ضرورة السّلب. والمعتبر في القضايا الموجّهة هي الضرورية بالمعنى المذكور. وقيل المعتبر فيها الضرورة بمعنى أخصّ من الأول وهو استحالة انفكاك المحمول عن الموضوع لــذاتــه، والصحيح الأول وتقابل الضرورة اللاضرورة وهي الإمكان.
ثم الضرورة خمس. الأولى الضرورة الأزلية وهي الحاصلة أزلا وأبدا كقولنا: الله تعالى عالم بالضّرورة الأزلية، والأزل دوام الوجود في الماضي والأبد دوامه في المستقبل.
والثانية الضرورة الــذاتــية أي الحاصلة ما دامت ذات الموضوع موجودة وهي إمّا مطلقة كقولنا كلّ إنسان حيوان بالضرورة أو مقيّدة بنفي الضرورة الأزلية أو بنفي الدوام الأزلي.
والمطلقة أعمّ من المقيّدة لأنّ المطلق أعمّ من المقيّد والمقيّدة بنفي الضرورة الأزلية أعمّ من المقيّدة بنفي الدوام الأزلي، لأنّ الدوام الأزلي أعمّ من الضرورة الأزلية، فإنّ مفهوم الدوام شمول الأزمنة ومفهوم الضرورة امتناع الانفكاك.
ومتى امتنع انفكاك المحمول عن الموضوع أزلا وأبدا يكون ثابتا له في جميع الأزمنة أزلا وأبدا بدون العكس، فيكون نفي الضرورة الأزلية أعمّ من نفي الدوام الأزلي، والمقيد بالأعمّ أعمّ من المقيّد بالأخصّ، لأنه إذا صدق المقيّد بالأخصّ صدق المقيّد بالأعمّ ولا ينعكس. وفيه أنّ هذا على الإطلاق غير صحيح فإنّ المقيّد بالقيد الأعمّ إنمّا يكون أعمّ إذا كان أعم مطلقا من القيدين أو مساويا للقيد الأعمّ. أمّا إذا كان أخصّ من القيدين أو مساويا للقيد الأخصّ فهما متساويان، أو كان أعمّ منهما من وجه فيحتمل العموم والتساوي كما فيما نحن بصدده.
والضرورة الأزلية أخصّ من الضرورة الــذاتــية المطلقة لأنّ الضرورة متى تحقّقت أزلا وأبدا تتحقّق ما دام ذات الموضوع موجودة من غير عكس، هذا في الإيجاب. وأما في السلب فهما متساويان لأنّه متى سلب المحمول عن الموضوع ما دامت ذاتــه موجودة يكون مسلوبا عنه أزلا وأبدا لامتناع ثبوته في حال العدم، ومباينة للأخيرين. أمّا مباينتها للمقيّدة بنفي الضرورة الأزلية فظاهر، وأمّا مباينتها للمقيّد بنفي الدوام الأزلي فللمباينة بين نقيض العام وعين الخاص.
والثالثة الضرورة الوصفية وهي الضرورة باعتبار وصف الموضوع وتطلق على ثلاثة معان:
الضرورة ما دام الوصف أي الحاصلة في جميع أوقات اتصاف الموضوع بالوصف العنواني كقولنا: كل إنسان كاتب بالضرورة ما دام كاتبا.
والضرورة بشرط الوصف أي ما يكون للوصف مدخل في الضرورة كقولنا: كلّ كاتب متحرّك الأصابع بالضرورة ما دام كاتبا. والضرورة لأجل الوصف أي يكون الوصف منشأ الضرورة كقولنا كلّ متعجّب ضاحك بالضرورة ما دام متعجبا. والأولى أعمّ من الثانية من وجه لتصادقهما في مادة الضرورة الــذاتــية إن كان العنوان نفس الــذات أو وصفا لازما كقولنا كلّ إنسان أو كلّ ناطق حيوان بالضرورة، وصدق الأولى بدون الثانية في مادة الضرورة إذا كان العنوان وصفا مفارقا كما إذا يدل الموضوع بالكاتب وبالعكس في مادة لا يكون المحمول ضروريا للــذات، بل بشرط مفارق كقولنا: كلّ كاتب متحرك الأصابع، فإنّ تحرّك الأصابع ضروري لكلّ ما صدق عليه الكاتب بشرط اتصافه بالكتابة، وليس بضروري في أوقات الكتابة، فإنّ نفس الكتابة ليست ضرورية لما صدق عليه الكاتب في أوقات ثبوتها، فكيف يكون تحرّك الأصابع التابع لها ضروريا، وكذا النسبة بين الأولى والثالثة من غير فرق. والثانية أعمّ من الثالثة لأنّه متى كان الوصف منشأ الضرورة يكون للوصف مدخل فيها بدون العكس، كما إذا قلنا في الدهن الحار بعض الحار ذائب بالضرورة فإنه يصدق بشرط وصف الحرارة ولا يصدق لأجل الحرارة، فإنّ ذات الدهن لو لم يكن له دخل في الذوبان وكفى الحرارة فيه كان الحجر ذائبا إذا صار حارا. ثم الضرورة بشرط الوصف إمّا مطلقة أو مقيّدة بنفي الضرورة الأزلية أو بنفي الضرورة الــذاتــية أو بنفي الدوام الأزلي أو بنفي الدوام الــذاتــي، والقسم الأول أعمّ من الأربعة الباقية، لأنّ المطلق أعمّ من المقيّد، والثاني أعمّ من الثلاثة الباقية لأنّ الضرورة الأزلية أخصّ من الضرورة الــذاتــية والدوام الأزلي والدوام الــذاتــي فيكون نفيها أعمّ من نفيهما. والثالث والرابع أعمّ من الخامس لأنّه متى صدقت الضرورة بشرط الوصف مع نفي الدوام الــذاتــي صدقت مع نفي الضرورة الــذاتــية أو مع نفي الدوام الأزلي، وإلّا لصدقت مع تحقّقها فتصدق مع تحقّقها، فتصدق مع تحقّق الدوام الــذاتــي هذا خلف. وليس متى صدقت مع نفي الضرورة الــذاتــية أو نفي الدوام الأزلي صدقت مع نفي الدوام الــذاتــي، لجواز ثبوته مع انتفائهما. وبين الثالث والرابع عموم من وجه لتصادقهما في مادّة لا تخلو عن الضرورة والدوام، وصدق الثالث فقط في مادة الدوام المجرّد عن الضرورة، وصدق الرابع فقط في مادّة الضرورة المجرّدة عن الدوام الأزلي وكذا بين الضّرورة بشرط الوصف والضّرورة الــذاتــية، إذ الضرورية قد لا تكون بشرط الوصف، وقد تكون بشرط الوصف فتتصادقان إذا اتّحد الوصف والــذات، وتصدق الضرورة المشروطة فقط إن كان الوصف مغايرا للــذات.
نعم الضرورة ما دام الوصف أعمّ من الــذاتــية لأنّه متى ثبت في جميع أوقات الوصف ثبت في جميع أوقات الــذات بدون العكس. الرابعة الضرورة بحسب وقت إمّا معيّن كقولنا كلّ قمر منخسف بالضرورة وقت الحيلولة وإمّا غير معيّن بمعنى أن التعيين لا يعتبر فيه لا بمعنى أنّ عدم التعيين معتبر فيه، كقولنا كلّ إنسان متنفس بالضرورة في وقت ما. وعلى التقديرين فهي إمّا مطلقة وتسمّى وقتية مطلقة إن تعيّن الوقت، ومنتشرة مطلقة إن لم يتعيّن، وإمّا مقيّدة بنفي الضرورة الأزلية أو الــذاتــية أو الوصفية أو بنفي الدوام الأزلي أو الــذاتــي أو الوصفي، فهذه أربعة عشر قسما. وعلى التقادير فالوقت إمّا وقت الــذات أي تكون نسبة المحمول إلى الموضوع ضرورية في بعض أوقات وجود ذات الموضوع، وإمّا وقت الوصف أي تكون النسبة ضرورية في بعض أوقات اتصاف ذات الموضوع، بالوصف العنواني، كقولنا كل مغتذ نام في وقت زيادة الغذاء على بدل ما يتحلّل، وكلّ نام طالب للغذاء وقتا ما من أوقات كونه ناميا، فالاقسام تبلغ ثمانية وعشرين. والضابطة في النسبة أنّ المطلق أعمّ من المقيّد والمقيّد بالقيد الأعمّ أعمّ وكلّ واحد من السبعة بحسب الوقت المعيّن أخصّ من نظيره من السبعة بحسب الوقت الغير المعيّن، فإنّ كلّ ما يكون ضروريا في وقت معيّن يكون ضروريا في وقت ما من غير عكس، وكلّ واحد من الأربعة عشر بحسب وقت الــذات أعمّ من نظيره من الأربعة عشر بحسب وقت الوصف، لأنّ وقت الوصف وقت الــذات من غير عكس. فكلّ ما هو ضروري في وقت الوصف فهو ضروري في وقت الــذات. والسّرّ في صيرورة ما ليس بضروري ضروريا في وقت أنّ الشيء إذا كان منتقلا من حال إلى حال آخر فربّما تؤدّي تلك الانتقالات إلى حالة تكون ضرورية له بحسب مقتضى الوقت. ومن هاهنا علم أنّه لا بد أن يكون للوقت مدخل في الضرورة ولــذات الموضوع أيضا، كما أنّ للقمر مدخلا في ضرورة الانخساف. فإنّه لما كان بحيث يقتبس النور من الشمس وتختلف تشكلاته بحسب اختلاف أوضاعه منها، فلهذا أو لحيلولة الأرض وجب الانخساف. الخامسة الضرورة بشرط المحمول وهي ضرورة ثبوت المحمول للموضوع أو سلبه عنه بشرط الثبوت أو السلب، ولا فائدة فيها لأنّ كلّ محمول فهو ضروري للموضوع بهذا المعنى.
فائدة:
إذا قيل ضرورية أو ضرورية مطلقة أو قيل كل ج ب بالضرورة وأرسلت غير مقيّدة بأمر من الأمور، فعلى أية ضرورية تقال، فقال الشيخ في الإشارات على الضرورة الأزلية.
وقال في الشفاء على الضرورة الــذاتــية. وإنما لم يطلق الشيخ الضرورة المطلقة على غيرهما من الضرورات لأنّها مشتملة على زيادة من الوصف والوقت، فهي كالجزء من المحمول.
اعلم أنّ ما ذكر من الضرورة والإمكان هي التي تكون بحسب نفس الأمر وقد يكونان بحسب الذهن وتسمّى ضرورة ذهنية وإمكانا ذهنيا. فالضرورية الذهنية ما يكون تصوّر طرفيها كافيا في جزم العقل بالنسبة بينهما، والإمكان الذهني ما لا يكون تصوّر طرفيه كافيا فيه، بل يتردّد الذّهن بالنسبة بينهما. والضرورة الذهنية أخصّ من الخارجية لأنّ كلّ نسبة جزم العقل بها بمجرد تصوّر طرفيها كانت مطابقة لنفس الأمر وإلّا ارتفع الأمان عن البديهيات ولا ينعكس، أي ليس كلما كان ضروريا في نفس الأمر كان العقل جازما به بمجرّد تصوّر طرفيه كما في النظريات الحقة، فيكون الإمكان الذهني أعمّ من الإمكان الخارجي لأنّ نقيض الأعم أخصّ من نقيض الأخصّ.

الوجود

الوجود أضرب: وجود بإحدى الحواس الخمس نحو، وجدت زيدا، ووجود بقوة الشهوة نحو: وجدت الشبع، ووجود بقوة الغضب كوجود الحزن والسخط، ووجود بالعقل أو بواسطة العقل كمعرفة الله والنبوة، ويعبر عن التمكن من الشيء بالوجود نحو {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} .
الوجود عند أهل الحقيقة: فقدان العبد بمحوا أوصافه البشرية، ووجود الحق لأنه لا بقاء للبشرية عند ظهور سلطان الحقيقة.
الوجود:
[في الانكليزية] Being ،existence ،reality
[ في الفرنسية] Etre ،existence ،realite

وبالفارسية: هستى- أي الكون ويقابله العدم- واختلف في تعريفه. فقيل لا يعرّف، فمنهم من قال لأنّه بديهي التصوّر فلا يجوز أن يعرّف إلا تعريفا لفظيا، ومنهم من قال لأنّه لا يتصوّر أصلا لا بداهة ولا كسبا. وقيل يعرّف لأنّه كسبي التصوّر. وفي تعريفه عبارات.
الأولى أنّ الموجود هو الثابت العين والمعدوم هو المنفي العين، وفائدة لفظ العين التنبيه على أنّ المعرّف هو الموجود في نفسه والمعدوم في نفسه لا الموجود لغيره والمعدوم عن غيره، ولا ما هو أعمّ منهما، فمعنى الثابت العين الذي ثبت عينه ونفسه فيشتمل الجوهر والعرض.
والثانية أنّه المنقسم إلى فاعل ومنفعل أي مؤثّر ومتأثّر وإلى حادث وقديم، والمعدوم ما لا يكون كذلك. وهذان التعريفان مختصّان بالموجود الخارجي. والثالثة أنّه ما يعلم ويخبر عنه أي يصحّ أن يعلم ويخبر منه، والمعدوم ما لا يصحّ أن يكون كذلك، وهذا التعريف يشتمل الموجود الذهني أيضا، وعلى هذا فقس تعريفات الوجود والعدم. فالوجود ثبوت العين أو ما به ينقسم الشيء إلى فاعل ومنفعل وإلى حادث وقديم، أو ما به يصحّ أن يعلم ويخبر عنه، والعدم ما لا يكون كذلك، وكلّ هذه تعريفات الشيء بالأخفى فإنّ الجمهور يعرّفون معنى الوجود والموجود ولا يعرّفون شيئا مما ذكر. قال مرزا زاهد في حاشية شرح المواقف:
الظاهر أنّ القائل ببداهة تصوّر الوجود أراد بالوجود المعنى المصدري الانتزاعي، والقائل بكسبيته أو بامتناعه أراد به منشأ الانتزاع أي الوجود الحقيقي الذي هو حقيقة الواجب تعالى على تقدير وحدة الوجود وحقيقة ما عينه متعيّنة بنفسها على تقدير تعدّده، فالوجود الحقيقي على كلا التقديرين هو الوجود القائم بنفسه الواجب لــذاتــه، والوجود يطلق على هذين المعنيين. قال الشيخ في إلهيات الشفاء لكلّ أمر حقيقة هو بها ما هو، فللمثلث حقيقة أنّه مثلث، وللبياض حقيقة أنّه بياض، وذلك هو الذي ربّما سمّيناه الوجود الخاص، ولم يرد به معنى الوجود الانتزاعي، فإنّ لفظ الوجود يدلّ به على معان كثيرة. ولا شكّ أنّ تصوّر الوجود الانتزاعي بالكنه بديهي ضرورة أنّ كنهه ليس إلّا ما يرتسم في الذهن عند انتزاعه عن الماهيات وفهمه من الألفاظ الدالة عليه، إذ لا نعني بكنهه غيره، وتصوّر الوجود الحقيقي بالكنه غير ممكن، أو كسبي فإنّه إن كان جزئيا حقيقيا وواجبا لــذاتــه فتصوّره ممتنع وإلّا فكسبي. ثم لا يخفى أنّ بعد تصوّر الشيء بالكنه لا يمكن تعريفه بالرسم إذ بعد تصوّره بالكنه لا يقصد تصوره إلّا بوجه آخر، فلا يكون المعرّف حينئذ في الحقيقة ذلك الشيء، ولا يكون التعريف تعريفا له بل يكون المعرّف هو الشيء الموجود مع الوصف والتعريف تعريف له. فعلى تقدير أن يكون تصوّر الوجود بالكنه لا يمكن تعريفه إلّا تعريفا لفظيا فتأمّل انتهى. ويؤيّد إطلاق الوجود على المعنيين المذكورين ما في شرح إشراق الحكمة حيث قال: الوجود يطلق بإزاء الروابط كما يقال زيد يوجد كاتبا، فإنّه عبارة عن نسبة المحمول إلى الماهية الخارجية إلى الموضوع بالوجود أعني سيوجد مكان ما كان يعبر عنه هو، وقد يقال على الحقيقة والــذات كما يقال ذات الشيء وحقيقته ووجود الشيء وعينه ونفسه أي ذاتــه انتهى كلامه.

التقسيم:
اعلم أنّ الوجود ينقسم إلى العيني أي الخارجي وإلى الذهني حقيقة وإلى اللفظي والخطّي مجازا إذ ليس في اللفظ والخط من الإنسان التشخّص ولا الماهية كما في الخارج والذهن، بل الاسم في اللفظي وصورته في الخطي، وكلّ من الموجود العيني والذهني يستعمل لمعنيين كما في بعض حواشي شرح المطالع: أحدهما أنّ الموجود الخارجي ما يكون اتصافه بالوجود خارج الذهن والموجود الذهني هو ما يكون اتصافه بالوجود في الذهن.
وأما قولهم تارة من أنّ النسبة من الأمور الخارجية وأخرى بأنّها ليست من الأمور الخارجية فيمكن التطبيق بينهما بأنّه لا شكّ في الفرق بين كون الخارج ظرفا لنفس الشيء وبين كونه ظرفا لوجوده. فإنّ قولنا زيد موجود في الخارج جعل فيه الخارج ظرفا لنفس الوجود وهو لا يقتضي وجود المظروف وإنّما يقتضي وجود ما جعل ظرفا لوجوده. فالموجود في هذه الصورة زيد لا وجود زيد. ففي قولنا زيد قائم في الخارج جعل الخارج ظرفا لنفس ثبوت القيام لزيد، فاللازم كون القيام ثابتا في الخارج بثبوت لغيره لا بثبوت له. وبالجملة فالمعتبر في كون الموجود خارجيا كون الخارج ظرفا لوجوده لا لنفسه وفي الذهني كون الذهن ظرفا لوجوده.
فمتى قيل إنّ النسبة من الأمور الاعتبارية أريد أنّ الخارج ليس ظرفا لوجودها. ومتى قيل إنّها من الأمور الخارجية أريد أنّ الخارج ظرف لنفسها، وكذا الحال في كون الشيء موجودا في الواقع ونفس الأمر. وقال صاحب الأطول في بحث صدق الخبر: ونحن نقول الخارجي اسم للأمر الموجود في الخارج كالذهني الذي هو اسم للأمر الموجود في الذهن، ومعنى كون الشيء موجودا في الخارج والأعيان أنّه واحد منها أو في عدادها، فظرفية الخارج للوجود مسامحة إذ الوجود ليس في عداد الأعيان.
ومعنى زيد موجود في الخارج أنّ وجوده في وجود الخارج وفي عداد وجوداته، فليس الخارج إلّا ظرفا لنفس الشيء، لكنه إذا جعل ظرفا له حقيقة اقتضى وجوده، وإذا جعل ظرفا له مسامحة لم يقتض وجوده، هكذا حقّق الخارج والواقع واحفظه فإنّه خلاف المستفيض الشائع. وثانيهما أنّ الموجود الخارجي هو ما يكون متصفا بوجود أصيل وهو مصدر الآثار ومظهر الأحكام، سواء كان ظرف الاتصاف هو الذهن أو خارجه، والموجود الذهني هو ما يكون متصفا بوجود ظلّي وذلك الاتصاف لا يكون إلّا في الذهن، يعني أنّ الموجود الخارجي ما يتصف بوجود أصيل، أي ذا أصل وعرق ليس ظلا وحكاية عن شيء به، أي بذلك الوجود يصدر عن الموجود آثاره ويظهر عنها أحكامه، أي يترتّب عليه أي على الموجود الآثار والأحكام، سواء كان ذلك الترتّب في الذهن أو خارج الذهن، فالكيفيات النفسانية التي يترتّب عليها آثارها في الذهن كالعلم من قبيل الموجودات الخارجية والموجود الذهني ما يتصف بوجود غير أصيل لا يترتّب به عليه الأحكام والآثار.
إن قيل إن أريد بالآثار والأحكام في تعريف الموجود الخارجي الآثار والأحكام الخارجية لزم الدور، وإن أريد الأعم من الخارجية والذهنية دخل في تعريف الموجود الخارجي الموجود الذهني فإنّه أيضا مبدأ الآثار في الجملة، فإنّ المعقولات الثانية آثار للمعقولات الأولى.
أجيب بأنّ المراد الآثار المطلوبة منه أي التي يطلب كلّ واحد تلك الآثار منه والأحكام المعلومة واتصافه بها لكلّ أحد كالإحراق والاشتعال والطبخ من النار، فالموجود الذهني ما يكون متصفا بوجود لا يترتّب به عليه تلك الآثار والأحكام، سواء ترتّب عليه آثار وأحكام أخر أو لا، وقيل لا حكم ولا أثر للوجود الذهني والمعقولات الثانية آثار للصور الشخصية القائمة بالذهن وهي من الموجودات الخارجية.
وقيل المراد الخارجية بمعنى ما يكون في خارج الذهن لا بمعنى ما يكون باعتبار الوجود الخارجي، فلا دور. ثم الأحكام والآثار متقاربان، وقد يقال في قوله مظهر ومصدر إشارة إلى أنّ المراد بالأحكام ما لا يكون فاعلا له وبالآثار ما يكون فاعلا له، ولو اكتفى بأحدهما لكفى أيضا. اعلم أنّ الاستعمال الأول هو الأصل إذ المتبادر من الخارج في مقابلة الذهن هو خارج الذهن، والاستعمال الثاني متفرّع عليه لأنّ إطلاق الخارج على الوجود الأصيل الذي ظرفه الذهن باعتبار التشبيه بالوجود الذي ظرفه خارج الذهن في الكون أصيل فإنّ كلّ خارجي بهذا المعنى أصيل.

تنبيه:
الموجود الذهني بالمعنى الأول أعمّ مطلقا من الذهني بالمعنى الثاني لأنّه يتناول نوعين:
الأول ما يترتّب عليه الآثار والأحكام الخارجية كوجود الكيفيات النفسانية، وهو أحد قسمي الوجود الخارجي بالمعنى الثاني، فإنّ الصورة الحاصلة من الشيء مثلا من حيث إنّها مكتنفة بالعوارض الذهنية موجودة في الذهن بوجود يحذو حذو الوجود الخارجي في ترتّب الآثار فإنّها بهذا الاعتبار صورة علمية يحصل بها الانكشاف. والثاني ما لا يترتّب عليه تلك الآثار والأحكام وهو الوجود الذهني بالمعنى الثاني فإنّ الصورة الحاصلة من الشيء من حيث هو مع قطع النظر عن العوارض الذهنية موجودة في الذهن بصورتها بوجود لا يترتّب عليه الآثار والأحكام، وأعمّ من وجه من الخارجي بالمعنى الثاني لصدقهما على وجود الكيفيات النفسانية وصدق الذهني فقط على ما لا يترتّب عليه الآثار والأحكام، وصدق الخارجي فقط على ما يترتّب عليها الأحكام والآثار في الخارج والخارجي بالمعنى الأول أخصّ من الخارجي بالمعنى الثاني مطلقا لعدم شموله وجود الكيفيات النفسانية ومباين للوجود الذهني بالمعنيين، وكذا الخارجي بالمعنى الثاني بالنسبة إلى الذهن بالمعنى الثاني.
اعلم أنّ للموجود في نفس الأمر معنيان أحدهما أنّ وجوده ليس متعلّقا بفرض فارض واعتبار معتبر سواء كان فرضا اختراعيا أو انتزاعيا. وثانيهما أنّ وجوده ليس متعلّقا بفرض اختراعي سواء كان متعلّقا بفرض انتزاعي أو لم يكن. ثم إنّ نفس الأمر بالمعنيين أعمّ مطلقا من الخارج إذ كلّ موجود في الخارج بالمعنى الأول موجود في نفس الأمر بلا عكس كلّي ومن الذهن من وجه لإمكان ملاحظة الكواذب كزوجية الخمسة فتكون موجودة في الذهن لا في نفس الأمر ومثله يسمّى ذهنيا فرضيا، وزوجية الأربعة موجودة فيهما ومثله يسمّى ذهنيا حقيقيا، والحقائق الغير المتصوّرة موجودة في نفس الأمر لا في الذهن، واعترض عليه بأنّه إن أريد من الذهن القوى السّافلة خاصة صحّ ما ذكر، لكن ما في القوى إمّا أن لا يكون من الموجود في الخارج فيلزم عدم انحصار الموجود في القسمين، وإمّا أن يكون من الموجود في الخارج فيلزم عدم صحّة ما ذكر من النسبة، بل يكون نفس الأمر أخصّ مطلقا من الخارج. وإن أريد من الذهن القوى العالية خاصة أو الأعمّ منها فيلزم عدم كون نفس الأمر أعمّ من الذهن من وجه بل هي أخصّ مطلقا منه. ويمكن أن يجاب باختيار الشقّ الأول ويقال الموجود في الذهن هو ما يكون القوى السّافلة ظرفا لوجوده، وتعتبر تلك الظرفية سواء كان بتعمّلها أو لا، والموجود في الخارج ما يكون خارج القوى السّافلة ظرفا لوجوده، وتعتبر تلك الظرفية والموجود في نفس الأمر، وإن لم يكن خاليا عن أحدهما فهو ما يصحّ للعقل أن يحكم بتحقّقه مع قطع النظر عن الطرفين، فالموجود الذهني الذي يكون بتعلّمه أي باختراع الذهن وفرضه كزوجية الخمسة ليس بموجود في نفس الأمر لعدم صحّة حكم العقل بتحقّقه مع قطع النظر عن ظرفه، والموجود في القوى السّافلة أيضا لا يكون خاليا عن أحدهما وهو ما يكون حاضرا عندها والحاضر عندها إذا اعتبر كون القوى السّافلة ظرفا لوجوده فموجود ذهني، فما لا يكون بتعمّل الذهن يصدق عليه أنّ القوى السّافلة ظرف لوجوده فهو موجود خارجي، وإذا لم يعتبر الظرفان فموجود في نفس الأمر، وإن لم يكن خارجا عن الموجود الذهني أو الخارجي والموجود الذهني الذي يكون بتعمّله إذا قطع النظر عن ظرفه فليس بموجود عند القوى العالية ولا في نفس الأمر إذ ليس له تحقّق ولا يصحّ للعقل الحكم بتحقّقه مع قطع النظر عن ظرفه، وعلى هذا فلا يرد شيء.
ويمكن أن يجاب باختيار الشقّ الرابع وهو أن يراد بالذهن القوى العالية والسّافلة جميعا، فالموجود الذهني ما يكون موجودا فيهما معا، ولا ريب أنّ ما لا يكون موجودا فيهما بموجود أصلا، وأنّه لا يمكن أن يوجد شيء في القوى السّافلة إلّا ويوجد في القوى العالية، وما ليس موجودا في القوى السّافلة فقط فموجود خارجي فلا يرد عدم الانحصار، وصحّ كون الموجود في نفس الأمر أعمّ من الموجود في الذهن من وجه إذ قد يجتمعان كما في الصوادق الحاصلة في القوى العالية والسّافلة، ويصدق الموجود في نفس الأمر فقط في الصوادق الغير الحاصلة في القوى السّافلة، وإن كانت حاصلة في القوى العالية ويصدق الموجود الذهني فقط في الكواذب الحاصلة في القوى السّافلة والعالية، هكذا ذكر العلمي في حاشية شرح هداية الحكمة.
اعلم أنّ وجود الشيء للشيء على معنيين:
الأول وجود الشيء لغيره بأن يكون محمولا عليه ومستقلا بالمفهومية كوجود الأعراض والثاني وجوده لغيره بأن يكون رابطا بين الموضوع والمحمول وغير مستقل بالمفهومية ويسمّى وجودا رابطيا.
فائدة:
المتكلّمون أنكروا الوجود الذهني لأنّه لو اقتضى تصوّر الشيء حصوله ذهنا لزم كون الذهن حارا وباردا ومستقيما ومعوجا، وأيضا حصول الجبل والسماء مع عظمهما في ذهننا مما لا يعقل، وأثبته الحكماء وأجابوا عن الوجهين بأنّ الحاصل في الذهن صورة وماهية موجودة بوجود ظلّي لا هوية عينية موجودة بوجود أصيل. والحار ما يقوم به هوية الحرارة لا صورتها وماهيتها، وكذا الحال في البارد والمستقيم والمعوج. وبأنّ الذي يمتنع حصوله في الذهن هو هوية الجبل والسماء وغيرهما وأما مفهوماتها الكلّية وماهيتها فلا. وبالجملة فالصورة الذهنية كلّية كانت كصور المعقولات أو جزئية كصور المحسوسات مخالفة للخارجية في اللوازم المستندة إلى خصوصية أحد الوجودين وإن كانت مشاركة لها في لوازم الماهية من حيث هي. وما ذكرتم امتناعه هو حكم الخارجي فلم قلتم إنّ الذهني كذلك. والتفصيل أنّ هاهنا ثلاثة اعتبارات: الأول اعتبار الشيء من حيث هو، والثاني اعتباره من حيث إنّه مقترن باللوازم الخارجية، والثالث اعتباره من حيث إنّه مقترن باللوازم الذهنية. فالشيء من حيث هو معلوم بالــذات لحصول صورته في الذهن وموجود في الخارج والذهن معا لحصوله في الخارج بنفسه وفي الذهن بصورته. والشيء من حيث إنّه مقترن بالعوارض الخارجية معلوم بالعرض لتحقّق العلم عند انتفائه وموجود في الخارج فقط لترتّب الآثار الخارجية عليه دون الذهنية. والشيء المقترن بالعوارض الذهنية علم لكونه صورة ذهنية للاعتبار الأول وموجود خارجي لترتّب الآثار الخارجية عليه واتصاف الذهن اتصافا انضماميا وحصوله في الذهن بنفسه لا بصورته، فالعلم والمعلوم في الحصولي متحدان ذاتــا ومتغايران اعتبارا كما أنّهما في العلم الحضوري متحدان ذاتــا واعتبارا كذا في شرح المواقف.
فائدة:
الوجود مشترك في الموجودات بأسرها اشتراكا معنويا وإليه ذهب الحكماء والمعتزلة غير أبي الحسن وأتباعه، وذهب إليه جمع من الأشاعرة أيضا، إلّا أنّه مشكّك عند الحكماء متواطئ عند غيرهم. والقائلون بأنّه نفس الحقيقة في الكلّ ذهبوا إلى أنّه مشترك لفظا فيها. ونقل عن الكبشي وأتباعه أنّه مشترك لفظا بين الواجب والممكن ومشترك معنى بين الممكنات كلّها، والتفصيل في شرح المواقف.
فائدة:
ذهب الأشعري إلى أنّ الوجود نفس الحقيقة في الواجب والممكن والحكماء إلى أنّه نفس الماهية في الواجب زائد في الممكن.
وقيل إنّه زائد على الماهية في الكلّ. قال مرزا زاهد في حاشية شرح المواقف ليس المراد بعينية الوجود وزيادته حمله على الموجود حملا أوليا، وانتفاء هذا الحمل كما هو المشهور ضرورة لأنّه لا يتصوّر أن يكون مفهوم الوجود عين الحقيقة الواجبة أو الممكنة، بل المراد منهما حمله عليه حملا بالــذات وحملا بالعرض. والحمل بالــذات أن يكون مصداق الحمل نفس ذات الموضوع من حيث هي والحمل بالعرض أن يكون مصداقه خارجا عنها كما مرّ في موضعه. فمصداق حمل الوجود على تقدير العينية ذات الموضوع من حيث هي وعلى تقدير الغيرية ذات الموضوع مع حيثية زائدة عليه عقلي كحيثية استناده إلى الجاعل. ويقرب من ذلك ما قيل إنّ محلّ النزاع هو الوجود بمعنى مصدر الآثار. ثم قال: وتحقيق مذهب الحكماء أنّ حقيقة الوجود ليس ما يفهم منه من المعنى المصدري لأنّ هذا المعنى متحقّق باعتبار العقل وانتزاع الذهن وحقيقته متحقّقة مع قطع النظر عن ذهن الذاهن واعتبار المعتبر، كما يشهد به الضرورة العقلية. فمفهوم الوجود مغاير لحقيقته، وتلك الحقيقة على ما يحكم به النظر الدقيق منشأ لانتزاع هذا المفهوم ومصداق لحمله ومطابق لصدقه وهي في الممكن زائدة لأنّه موجود بغيره. فمصداق حمل الوجود عليه أمر زائد وفي الواجب عين لأنّه موجود بــذاتــه فمصداق حمل الوجود عليه نفس ذاتــه من غير اعتبار أمر آخر، فالواجب سبحانه وجود خاص قائم بــذاتــه ذاتــية محضة لا ماهية له، فإنّ الماهية هي الحقيقة المعراة عن الأوصاف في اعتبار العقل وهو سبحانه منزّه عن أن يلحقه التعرية وأن يحيطه الاعتبار. وبالجملة فبعد تدقيق النظر يظهر أن ليس في الخارج مثلا إلّا ذات الشيء من حيث يصحّ انتزاع مفهوم الوجود عنه والعقل بضرب من التحليل ينتزع عنه الوجود ويصفه به ويحمل عليه، فهنا ثلاثة أمور: الأول المنتزع عنه وهو ذات الشيء وماهيته. والثاني الحيثية التي هي منشأ الانتزاع وهي تعلّق الشيء بالوجود الحقيقي الذي هو موجود بنفسه وواجب لــذاتــه وارتباطه به. والثالث المنتزع وهو الوجود بالمعنى المصدري وهو أمر اعتباري وليس أفراده إلّا حصصا ولا يصدق مواطأة إلّا عليها.
ومن جوّز أن يكون له فرد غير الحصّة فقد أخطأ، كيف والمعنى المصدري الانتزاعي لا حقيقة له إلّا ما يفهم منه عند انتزاعه وذلك المفهوم لا يحمل على ما يغايره إلّا اشتقاقا.
وهذه الأمور الثلاثة كلّها متحقّقة في الممكن واثنان منها في الواجب فإنّ ذاتــه تعالى منشأ الانتزاع ومصداق الحمل. ويحول حول ذلك ما قيل إنّ في الممكن الوجود المطلق وحصّته والوجود الخاص زائد وفي الواجب الأول والثاني زائدان دون الثالث لانتفائه هناك، إذ عين الــذات ينوب منابه في كونه مصداق الحمل. وما قيل إنّ محلّ الخلاف هو الوجود بمعنى مصدر الآثار والوجود الحقيقي الذي به الموجودية انتهى. والوجود عند الصوفية قد مرّ بيانه في لفظ الوجد.

الطّبيعة

الطّبيعة:
[في الانكليزية] Nature ،physics
[ في الفرنسية] Nature ،physique

بالفتح وكسر الموحدة وبالفارسية: السّجيّة التي جبل الإنسان وطبع عليها، سواء صدرت عنها صفات نفسية أولا، كالطّباع بالكسر إذ الطّباع ما ركّب فينا من المطعم والمشرب وغير ذلك من الأخلاق التي لا تزايلنا، وكذا الغريزة هي الصفة الخلقية أي التي خلقت عليها كأنّها غرزت فيها، هكذا ذكر صاحب الأطول والسّيّد السّند. ولا تخرج سجية غير الإنسان من الحيوانات فإنّ قيد الإنسان وقع اتفاقا لا يقصد منه الاحتراز، وأيضا هذا تعريف لفظي فيجوز بالأخصّ ولكونه تعريفا لفظيا لا يلزم تعريف الشيء بنفسه من قوله وطبع عليها كما في العلمي في فصل الفلك قابل للحركة المستديرة.
والطّبع بالفتح وسكون الباء أيضا بمعنى الطبيعة.

قال في الصّراح: الطّبع هو فطرة النّاس التي فطروا عليها،، وهو في الأصل مصدر طبيعة طباع كذلك انتهى.
والطبيعة في اصطلاح العلماء تطلق على معان. منها مبدأ أول لحركة ما هي فيه وسكونه بالــذات لا بالعرض. والمراد بالمبدإ المبدأ الفاعلي وحده، وبالحركة أنواعها الأربعة أعني الأينية والوضيعة والكمّية والكيفية، وبالسكون ما يقابلها جميعا وهي بانفرادها لا تكون مبدأ للحركة والسكون معا، بل مع اتصاف شرطين هما عدم الحالة الملائمة ووجودها. ويراد بما هي فيه ما يتحرّك ويسكن بها وهو الجسم، ويحترز به عن المبادئ القسرية والصناعية فإنّها لا تكون مبادي لحركة ما هي فيه، وبالأول عن النفوس الأرضية فإنها تكون مبادي لحركات ما هي فيه كالإنماء مثلا إلّا أنّها تكون مبادي باستخدام الطبائع والكيفيات، وتوسّط الميل بين الطبيعة والجسم عند التحرّك لا يخرجها عن كونها مبدأ أوّلا لأنّه بمنزلة آلة لها. والمراد بقولهم بالــذات أحد المعنيين: الأول بالقياس إلى المتحرّك أي أنها تحرّك بــذاتــها لا عن تسخير قاسر إيّاها. والثاني بالقياس إلى المتحرّك وهو أن يتحرّك الجسم بــذاتــه لا عن سبب خارج. ويراد بقولهم لا بالعرض أيضا أحد المعنيين: الأول بالقياس إلى المتحرّك وهو أنّ الحركة الصادرة عنها لا تصدر بالعرض كحركة السفينة، والثاني بالقياس إلى المتحرّك وهو أنّها تحرّك الشيء الذي ليس متحرّكا بالعرض كصنم من نحاس، فإنّه يتحرّك من حيث هو صنم بالعرض. والطبيعة بهذا المعنى تقارب الطّبع الذي يعمّ الأجسام حتى الفلك، كذا قال المحقّق الطوسي في شرح الإشارات في البسائط. فعلى هذا يكون ضمير هي راجعا إلى المبدأ بتأويل الطبيعة. وقوله بالــذات احتراز عن طبيعة المقسور. وقوله لا بالعرض احتراز عن مبدأ الحركة العرضية. ولا يخفى أنّ قوله بالــذات على هذا مستدرك لأنّ مبدأ الحركة القسرية لا يكون في الجسم بل في القاسر.
وقيل ضمير هي راجع إلى حركة، ويلزم على هذا استدراك قوله ما هي فيه إذ يكفي أن يقال إنّه مبدأ أول للحركة والسكون. ثم التحقيق أنّ مبدأ الحركة القسرية قوة في ذات المقسور أوجدها القاسر فيه. فبقيد ما هي فيه لا يخرج مبدأ الحركة القسرية ولا بقوله بالــذات. وأيضا قوله لا بالعرض مستدرك ويمكن أن يقال إنّ ضمير هي راجع إلى المبدأ ويكون قوله ما هي فيه احترازا عن مبدأ الحركة العرضية فإنّه ليس في المتحرّك بالعرض. ومعنى قوله بالــذات أنّ حصول المبدأ في الجسم المتحرّك بالــذات فخرج مبدأ الحركة القسرية، فإنّ حصوله فيه بسبب القاسر. ومعنى قوله لا بالعرض لا باعتبار العرض، وهو إشارة إلى أنّ الحركة مثلا في الكرة المتحرّكة من حيث إنّها كرة تعرض للجسم والكرة معا عروضا واحدا، إلّا أنّه للجسم والكرة معا عروضا واحدا، إلّا أنّه للجسم لــذاتــه وللكرة بتوسّطه؛ لكنّ إطلاق الطبيعة على مبدأ تلك الحركة بالاعتبار الأول لا بالاعتبار الثاني، فتأمّل. هكذا ذكر عبد العلي البرجندي في حاشية الجغميني في الخطبة.
ومنها مبدأ أول لحركة ما هي فيه وسكونه بالــذات لا بالعرض من غير إرادة وهذا المعنى لا يشتمل لما له شعور فيكون أخصّ من الأول. قال السّيّد السّند في حاشية المطول في فنّ البيان: الطبيعة قد يخصّ بما يصدر عنها الحركة والسكون فيما هو فيه أوّلا وبالــذات من غير إرادة، وهكذا ذكر المحقّق الطوسي في شرح الإشارات. وفي بعض شرح التجريد أنّ استعمال الطبيعة في هذا المعنى أكثر منه في الأول حيث قال إنّ الطّباع يتناول ماله شعور وإرادة وما لا شعور له، والطبيعة في أكثر استعمالاتها مقيّدة بعدم الإرادة. والطّبع قد يطلق على معنى الطّباع وقد يطلق على معنى الطبيعة، انتهى كلامه. وفي بعض حواشي شرح هداية الحكمة أنّ الطبيعة أيضا تطلق على سبيل النّدرة مرادفة للطّباع كما صرّح به بعض المحقّقين.
ومنها مبدأ أول لحركة ما هي فيه وسكونه بالــذات لا بالعرض على نهج واحد من غير إرادة، وهذا المعنى أخصّ من الأولين. قال المحقق الطوسي في شرح الإشارات: الطبيعة مبدأ أول لحركة ما هي فيه وسكونه بالــذات لا بالعرض، وشرح هذا كما عرفت. ثم قال:
وربما يزاد في هذا التعريف قولهم على نهج واحد من غير إرادة، وحينئذ يتخصّص المعنى المذكور بما يقابل النفس وذلك لأنّ المتحرّك يتحرّك إمّا على نهج واحد أولا على نهج واحد، وكلاهما بإرادة أو من غير إرادة. فمبدأ الحركة على نهج واحد ومن غير إرادة هو الطبيعة، وبإرادة هو القوة الفلكية، ومبدأها لا على نهج واحد من غير إرادة هو القوة النباتية، وبإرادة هو القوة الحيوانية، والقوى الثلاث تسمّى نفوسا، انتهى، ومما يؤيّده ما وقع في شرح حكمة العين في بيان النفس النباتية من أن الأفعال الصادرة عن صور أنواع الأجسام. منها ما يصدر عن إدراك وإرادة وينقسم إلى ما يكون الفعل الصادر منه على وتيرة واحدة كما للأفلاك، وإلى ما لا يكون على وتيرة واحدة بل على جهات مختلفة كما للحيوان. ومنها ما لا يصدر عن إرادة وإدراك وينقسم إلى ما يكون على وتيرة واحدة وهي القوّة السّخرية كما يكون للبسائط العنصرية كميل الأجزاء الأرضية إلى المركز، وإلى ما لا يكون على وتيرة واحدة بل على جهات مختلفة كما يكون للنبات والحيوان من أفاعيل القوّة التي توجب الزيادة في الأقطار المختلفة، وللقوة السخرية خصوصا باسم الطبيعة، والثلاثة الباقية يسمّونها النفس. ومنها الصورة النوعية بل الصورة الجسمية أيضا كما مرّ. ومنها الحقيقة كما ذكر عبد العلي البرجندي في حاشية الجغميني، وهذا هو المراد بالطبيعة الواقعة في تعريف الخاصة المطلقة. ومنها المفهوم الذي إذا أخذ من حيث هو هو لا يمنع وقوع الشركة، وهذا من مصطلحات أهل المنطق، كذا ذكر عبد العلي البرجندي أيضا في تلك الحاشية. ومنها قوة من شأنها حفظ كمالات ما هي فيه على ما ذكر عبد العلي البرجندي أيضا هناك. والظاهر أنّ الفرق بين هذا المعنى والمعنى الأول أنّ المبدأ الفاعلي في المعنى الأول سبب لوجود الحركة والسكون، والقوة المذكورة في هذا المعنى سبب فاعلي للحفظ لا للوجود، فإنّ الحركة والسكون أيضا من الكمالات والله أعلم. ومنها قوّة من قوى النفس الكلّية سارية في الأجسام فاعلة لصورها المنطبعة في موادها. ومنها حقيقة إلهية فعّالة للصّور كلّها.
في شرح الفصوص للجامي في الفصّ الأول الطبيعة في عرف علماء الرسوم قوة من قوى النفس الكلية سارية في الأجسام الطبيعية السفلية والأجرام فاعلة لصورها المنطبعة في موادها الهيولانية. وفي مشرب الكشف والتّحقيق حقيقة إلهية فعّالة للصّور كلّها وهذه الحقيقة تفعل الصور الأسمائية بباطنها في المادة العمائية، فإنّ النّشأة واحدة جامعة بحقيقتها للصور الحقّانية الوجوبية والصّور الخلقية الكونية روحانية كانت أو مثالية أو جسمانية بسيطة أو مركبة. والصور في طور الحقيق الكشفي علوية وسفلية، والعلوية حقيقية وهي صور الأسماء الربوبية والحقائق الوجوبية ومادة هذه الصور وهيولاها العماء، والحقيقة الفعالة لها أحد جمع ذات الألوهية، وإضافية وهي حقائق الأرواح العقلية المهيمنية والنفسية، ومادة هذه الصور الروحانية هي النور.
وأمّا الصور السفلية فهي صور الحقائق الإمكانية وهي أيضا منقسمة إلى علوية وسفلية. فمن العلوية ما سبق من الصور الروحانية ومنها صور عالم المثال المطلق والمقيّد. وأمّا السفلية فمنها صور عالم الأجسام الغير العنصرية كالعرش والكرسي، ومادتها الجسم الكلّ. ومنها صور العناصر والعنصريات، ومن العنصريات الصور الهوائية والنارية والمارجيّة، ومادة هذه الصور الهواء والنار وما اختلط معهما من الثقلين الباقيين من الأركان المغلوبين في الخفيفين ومنها الصور السفلية الحقيقية وهي ما غلب في نشئه الثقيلان وهما الأرض والماء على الخفيفين وهما النار والهواء، وهي ثلاث صور: صور معدنية، وصور نباتية، وصور حيوانية، وكلّ من هذه العوالم يشتمل على صور شخصية لا تتناهى ولا يحصيها إلّا الله سبحانه. والحقيقة الفعّالة الإلهية فاعلة بباطنها من الصور الأسمائية وبظاهرها الذي هو الطبيعة الكلّية التي هي مظهرها أصل صور العوالم كلها انتهى كلامه. ومنها القوة المدبّرة لبدن الإنسان من غير إرادة ولا شعور وهي مبدأ كلّ حركة وسكون بالــذات على ما قال بقراط كما في بحر الجواهر. ومنها المزاج الخاص بالبدن.
ومنها الهيئة التركيبية. ومنها حركة النفس. في بحر الجواهر قال العلّامة اسم الطبيعة يقال في عرف الطبّ على أربعة معان: أحدها على المزاج الخاص بالبدن. وثانيها على الهيئة التركيبية. وثالثها على القوّة المدبّرة. ورابعها على حركة النفس، والأطباء ينسبون جميع أحوال البدن إلى الطبيعة المدبّرة للبدن، والفلاسفة ينسبون ذلك إلى النفس ويسمّون هذه الطبيعة قوة جسمانية انتهى.
وقال عبد العلي البرجندي في شرح حاشية الچغميني وقد تطلق الطبيعة على النفس كما وقع في عبارة الأطباء الطبيعة تقاوم المرض في البحران انتهى. فالمراد بالنفس هي النفس الناطقة.

القرآن

القرآن:
[في الانكليزية] The Koran
[ في الفرنسية] Le Coran
بالضم اختلف فيه. فقيل هو اسم علم غير مشتقّ خاصّ بكلام الله فهو غير مهموز وبه قرأ ابن كثير وهو مروي عن الشافعي. وقيل هو مشتقّ من قرنت الشيء بالشيء سمّي به لقران السور والآيات والحروف فيه. وقال الفرّاء هو مشتقّ من القرائن وعلى كلّ تقدير فهو بلا همزة ونونه أصلية. وقال الزجاج هذا سهو والصحيح أنّ ترك الهمزة فيه من باب التخفيف، ونقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها. واختلف القائلون بأنّه مهموز، فقيل هو مصدر لقرأت سمّي به الكتاب المقروء من باب تسميته بالمصدر. وقيل هو وصف على فعلان مشتق من القرء بمعنى الجمع كذا في الاتقان. قال أهل السّنّة والجماعة: القرآن ويسمّى بالكتاب أيضا كلام الله تعالى غير مخلوق وهو مكتوب في مصاحفنا محفوظ في قلوبنا مقروء بألسنتنا مسموع بآذاننا غير حالّ فيها أي مع ذلك ليس حالّا في المصاحف ولا في القلوب والألسنة والآذان، لأنّ كلام الله ليس من جنس الحروف والأصوات لأنّها حادثة، وكلام الله صفة أزلية قديمة منافية للسكوت الذي هو ترك التكلّم مع القدرة عليه والآفة التي هي عدم مطاوعة الآلات بل هو معنى قديم قائم بــذات الله تعالى يلفظ ويسمع بالنّظم الدّال عليه ويحفظ بالنظم المخيل ويكتب بنقوش وأشكال موضوعة للحروف الدالة عليه، كما يقال النار جوهر محرق يذكر باللفظ ويكتب بالقلم ولا يلزم منه كون حقيقة النار صوتا وحرفا. وتحقيقه أنّ للشيء وجودا في الأذهان ووجودا في الكتابة. فالكتابة تدلّ على العبارة وهي على ما في الأذهان وهو على ما في الأعيان، فحيث يوصف القرآن بما هو من لوازم القديم كقولنا القرآن غير مخلوق فالمراد حقيقته الموجودة في الخارج، وحيث يوصف بما هو من لوازم المخلوقات يراد به الألفاظ المنطوقة المسموعة كقولك قرأت نصف القرآن أو المخيلة كقولك حفظت القرآن أو الأشكال كقولك يحرم للمحدث مسّ القرآن. ثم الكلام القديم الذي هو صفة لله تعالى يجوز أن يسمع وهو مذهب الأشعري ومنعه الأستاذ أبو إسحاق الأسفرايني، وهو اختيار الشيخ أبي منصور رحمه الله تعالى. فمعنى قوله: حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ يسمع ما يدلّ عليه كما يقال سمعت علم فلان. فموسى صلوات الله عليه سمع صوتا دالّا على كلام الله، لكن لمّا كان بلا واسطة الكتاب والملك خصّ باسم الكليم. وقيل خصّ به لما سمعه من جميع الجهات على خلاف المعتاد. وأمّا من يجوّز سماعه فهو يقول خصّ به لأنّه سمع كلامه الأزلي بلا حرف وصوت كما يرى ذاتــه تعالى في الآخرة بلا كمّ ولا كيف.
فإن قيل لو كان كلام الله حقيقة في المعنى القديم مجازا في النّظم المؤلّف يصحّ نفيه عنه بأن يقال ليس النّظم كلام الله والإجماع على خلافه، وأيضا المعجز هو كلام الله حقيقة مع القطع بأنّ الإعجاز إنّما يتصوّر في النظم.
قلنا التحقيق أنّ كلام الله تعالى مشترك بين الكلام النفسي القديم ومعنى الإضافة كونه صفة له تعالى وبين اللفظي الحادث، ومعنى الإضافة حينئذ أنّه مخلوق له تعالى ليس من تأليفات المخلوقين، فلا يصحّ النفي أصلا ولا يكون الإعجاز إلّا في كلام الله تعالى. وما وقع في عبارة بعض المشايخ من أنّه مجاز فليس معناه أنّه غير موضوع للنظم بل إنّ الكلام في التحقيق وبالــذات اسم للمعنى القائم بالنفس وتسمية اللفظ به وضعه لذاك إنّما هو باعتبار دلالته على المعنى، فلا نزاع لهم في الوضع والتسمية باعتبار معنى مجازي يكون حقيقة أيضا، كما يكون باعتبار معنى حقيقي. ويؤيّد هذا ما وقع في شرح التجريد من أنّه لا نزاع في إطلاق اسم القرآن وكلام الله بطريق الاشتراك على المعنى القائم بالنفس القديم وعلى المؤلّف الحادث وهو المتعارف عند العامة والقراء والأصوليين والفقهاء وإليه يرجع الخواص التي هي من صفات الحادث. وإطلاق هذين اللفظين عليه ليس بمجرد أنّه دالّ على كلامه القديم حتى لو كان مخترع هذه الألفاظ غير الله تعالى لكان الإطلاق بحاله، بل لأنّ له اختصاصا به تعالى وهو أنّه اخترعه بأن أوجد أولا الأشكال في اللوح المحفوظ لقوله بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ والأصوات في لسان الملك لقوله: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ثم اختلفوا، فقيل القرآن وكلام الله اسمان لهذا المؤلّف المخصوص القائم بأوّل لسان اخترعه الله تعالى فيه، حتى إنّ ما يقرأه كلّ أحد سواه بلسان يكون مثله لا عينه. والأصحّ أنّه اسم له لا من حيث تعيّن المحلّ فيكون واحدا بالنوع ويكون ما يقرأه القارئ أيّ قارئ كان نفسه لا مثله، وهكذا الحكم في كلّ متغيّر وكتاب ينسب إلى مؤلّفه. وعلى التقديرين فقد يجعل اسما للمجموع بحيث لا يصدق على البعض وقد يجعل اسما بمعنى كلّ صادق على المجموع وعلى كلّ بعض من أبعاضه.
وبالجملة فما يقال إنّ المكتوب في كلّ مصحف والمقروء بكل لسان كلام الله، فباعتبار الوحدة النوعية. وما يقال إنّه حكاية عن كلام الله ومماثل له وإنّما الكلام هو المخترع في لسان الملك فباعتبار الوحدة الشخصية. وما يقال إنّ كلام الله ليس قائما بلسان أو قلب ولا حالّا في مصحف فيراد به الكلام الحقيقي النفسي. ومنعوا من القول بحلول اللفظي أيضا رعاية للتأدّب واحترازا عن ذهاب الوهم إلى الحقيقي النفسي، على أنّ إطلاق اسم المدلول على الدّال وكذا إجراء صفات الدّال على المدلول شائع ذائع مثل: سمعت هذا المعنى من فلان انتهى كلامه. وقال صاحب المواقف إنّ المعنى من قول مشايخنا كلام الله تعالى معنى قديم ليس المراد به مدلول اللفظ بل الأمر القائم بالغير فيكون الكلام النفسي عندهم أمرا شاملا للفظ والمعنى جميعا قائما بــذاتــه تعالى وهو مكتوب في المصاحف مقروء بالألسنة محفوظ في الصدور، وهو غير القراءة والكتابة والحفظ الحادثة. وما يقال من أنّ الحروف والألفاظ مترتّبة متعاقبة فجوابه أنّ ذلك الترتّب إنما هو في التلفّظ بسبب عدم مساعدة الآلة، فالتلفّظ حادث والأدلة الدالة على الحدوث يجب حملها على حدوثه دون حدوث الملفوظ جمعا بين الأدلة انتهى. قيل عليه القول بأنّ ترتّب الحروف إنّما هو في التلفّظ دون الملفوظ، فالتلفّظ حادث دون الملفوظ أمر خارج عن العقل وما ذلك إلّا مثل أن يتصوّر حركة تكون أجزاؤها مجتمعة في الوجود لا يكون لبعضها تقدّم على بعض، ويندفع بما قيل إنّ المراد بالملفوظ هو اللفظ القائم به تعالى وبالتلفّظ اللفظ القائم بنا عبّر عنه بالتلفّظ، فرقا بينهما وإشعارا بأنّ اللفظ الحادث كالنسبة المصدرية لكونه غير قارّ، ولولا هذا الاعتبار لكان القول بقدم الملفوظ دون التلفّظ تناقضا، وبه يندفع من أنّ حمل المعنى على الأمر القائم بالغير بعيد جدا لأنّ الأدلة إنّما تدلّ على حدوث ماهية القرآن لا حدوث التلفّظ لأنّه ليس بقرآن، وذلك لأنّ اللفظ يعدّ واحدا في المحال كلها وتباينه إنّما هو بتباين الهيئات. فاللفظ القائم بنا وبه تعالى واحد حقيقة، والأول حادث والثاني قديم.
فإن قيل يفهم من هذا التوجيه أنّه لا ترتّب في اللفظ القائم بــذاتــه تعالى فيلزم عدم الفرق بين لمع وعلم. قيل ترتّب الكلمات وتقدّم بعضها على بعض لا يقتضي الحدوث لأنّ التقدّم ربما لا يكون زمانيا كالحروف المنطبعة في شمعة دفعة من الطابع عليه، وقد يمثل أيضا بوجود الألفاظ في نفس الحافظ فإنّ جميعها مع الترتيب المخصوص مجتمعة الوجود فيها وليس وجود بعضها مشروطا بانقضاء البعض وانعدامه عن نفسه. والفرق بأنّ وجود الحرف على هذا الوجه في ذاتــه تعالى بالوجود العيني وفي نفس الحافظ بالظلّي لا يضرّ إذ الغرض منه مجرّد التصوير والتفهيم لا إثباته بطريق التمثيل، فحينئذ يكون الحاصل أنّ الترتيب المقتضي للحدوث إنّما هو في التلفّظ أي اللفظ القائم بنا، هذا غاية توجيه المقام فافهم.
فائدة:
في بيان كيفية الإنزال قال في الاتقان وفيه مسائل. الأولى قال الله تعالى شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ وقال إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. اختلف في كيفية إنزاله من اللوح المحفوظ على ثلاثة أقوال. الأول وهو الأصح الأشهر أنّه نزل إلى سماء الدنيا ليلة القدر جملة واحدة ثم نزل بعد ذلك منجّما في عشرين سنة أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين على حسب الخلاف في مدة إقامته صلى الله عليه وآله وسلم بمكة بعد البعثة.
الثاني أنّه نزل إلى سماء الدنيا في عشرين ليلة القدر أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين، في كلّ ليلة ما يقدر الله إنزاله في كلّ سنة، ثم نزل بعد ذلك منجّما في جميع السنة، وهذا القول ذكره الرازي بطريق الاحتمال ثم توقّف. هل هذا أولى أو الأول؟ قال ابن كثير وهذا الذي جعله احتمالا نقله القرطبى عن مقاتل بن حيان، وحكى الإجماع على أنّه نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة في سماء الدنيا. الثالث أنّه ابتدأ انزاله في ليلة القدر ثم نزل بعد ذلك منجّما في أوقات مختلفة من سائر الأوقات، وبه قال الشعبي. قال ابن حجر والأول هو الصحيح المعتمد. قال وحكى الماوردي قولا رابعا أنّه نزل من اللوح المحفوظ جملة واحدة وأنّ الحفظة نجّمته على جبرئيل في عشرين ليلة وأنّ جبرئيل نجّمه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عشرين سنة، والمعتمد أنّ جبرئيل كان يعارضه في رمضان بما ينزل به عليه في طول السنة. قال أبو شامة:
نزوله جملة إلى سماء الدنيا قبل ظهور نبوّته ويحتمل أن يكون بعدها، قيل الظاهر هو الثاني. قيل السرّ في إنزاله جملة إلى سماء الدنيا تفخيم أمره وأمر من نزل عليه وذلك بإعلام سكان السموات السبع أنّ هذا آخر الكتب المنزّلة على خاتم الرسل أشرف الأمم قد قرّبناه إليهم لننزّله عليهم، ولولا أنّ الحكمة الإلهية اقتضت وصوله إليهم منجّما بحسب الوقائع لهبط به إلى الأرض جملة كسائر الكتب المنزّلة قبله، ولكن الله باين بينه وبينها فجعل له الأمرين إنزاله جملة ثم إنزاله مفرّقا تشريفا للمنزّل عليه. وقيل إنزاله منجّما لأنّ الوحي إذا كان يتجدّد في كلّ حادثة كان أقوى للقلب وأشدّ عناية بالمرسل إليه، ويستلزم ذلك كثرة نزول الملك إليه فيحدث له من السرور ما يقصر عنه العبارة. والثانية في كيفية الإنزال والوحي.
قال الأصفهاني اتفق أهل السّنة والجماعة على أنّ كلام الله منزّل واختلفوا في معنى الإنزال.
فمنهم من قال إظهار القراءة، ومنهم من قال إنّ الله تعالى ألهم كلامه جبرئيل وهو في السماء وهو عال من المكان وعلّمه قراءته ثم جبرئيل أدّاه إلى الأرض وهو يهبط في المكان. وفي التنزيل طريقان أحدهما أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم انخلع من الصورة البشرية إلى الصورة الملكية وأخذه من جبرئيل، ثانيهما أنّ الملك انخلع إلى البشرية حتى يأخذه الرسول منه، والأوّل أصعب الحالين. وقال القطب الرازي إنزال الكلام ليس مستعملا في المعنى اللغوي الحقيقي وهو تحريك الشيء من العلو إلى السفل بل هو مجاز. فمن قال بقدمه فإنزاله أن يوجد الكلمات والحروف الدّالّة على ذلك المعنى ويثبتها في اللوح المحفوظ، ومن قال بحدوثه وأنّه هو الألفاظ فإنزاله مجرّد إثباته في اللوح المحفوظ. ويمكن أن يكون المراد بإنزاله إثباته في سماء الدنيا بعد الإثبات في اللوح المحفوظ والمراد بإنزال الكتب على الرسل أن يتلقّفها الملك من الله تلقّفا روحانيا أو يحفظها من اللوح المحفوظ وينزل بها فيلقيها عليهم.

وقال غيره فيه ثلاثة أقوال: الأول أنّ المنزّل هو اللفظ والمعنى وأنّ جبرئيل حفظ القرآن من اللوح المحفوظ ونزل به، وذكر بعضهم أنّ أحرف القرآن في اللوح المحفوظ كلّ حرف منها بقدر جبل قاف، وأنّ تحت كلّ حرف منها معان لا يحيط بها إلّا الله. الثاني أنّ جبرئيل عليه السلام إنّما نزل بالمعاني خاصة وأنّه صلى الله عليه وآله وسلم علم تلك المعاني وعبّر عنها بلغة العرب لقوله تعالى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ، الثالث أنّ جبرئيل ألقى عليه المعنى وأنّه عبّر بهذه الألفاظ بلغة العرب، وأنّ أهل السماء يقرءونه بالعربية ثم أنّه نزل به كذلك بعد ذلك. وقال الجويني كلام الله المنزّل قسمان. قسم قال الله تعالى لجبرئيل قل للنبي الذي أنت مرسل إليه إنّ الله يقول افعل كذا وكذا وأمر بكذا وكذا، ففهم جبرئيل ما قاله ربّه ثم نزل على ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال له ما قاله ربّه، ولم تكن العبارة تلك العبارة كما يقول الملك لمن يثق به قل لفلان يقول لك الملك اجتهد في الخدمة واجمع الجند للقتال، فإن قال الرسول يقول لك الملك لا تتهاون في خدمتي واجمع الجند وحثّهم على المقاتلة لا ينسب إلى كذب ولا تقصير في أداء الرسالة. وقسم آخر قال الله تعالى لجبرئيل اقرأه على النبي هذا الكتاب فنزل جبرئيل بكلمة الله من غير تغيير كما يكتب الملك كتابا ويسلّمه إلى أمين ويقول اقرأه على فلان فهو لا يغيّر منه كلمة ولا حرفا. قيل القرآن هو القسم الثاني والقسم الأول هو السّنّة. كما ورد أنّ جبرئيل كان ينزل بالسّنّة كما ينزل بالقرآن. ومن هاهنا جاز رواية السّنّة بالمعنى لأنّ جبرئيل أدّاه بالمعنى ولم تجز القراءة بالمعنى لأنّ جبرئيل أدّاه باللفظ. والسّرّ في ذلك أنّ المقصود منه التعبّد بلفظه والإعجاز به وأنّ تحت كلّ حرف منه معان لا يحاط بها كثرة فلا يقدر أحد أن يأتي بلفظ يقوم مقامه، والتخفيف على الأمة حيث جعل المنزّل إليهم على قسمين: قسم يروونه بلفظ الموحى به وقسم يروونه بالمعنى، ولو جعل كلّه مما يروى باللفظ لشقّ أو بالمعنى لم يؤمن من التبديل والتحريف. الثالثة للوحي كيفيات. الأولى أن يأتيه الملك في مثل صلصلة الجرس كما في الصحيح وفي مسند احمد (عن عبد الله بن عمر سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هل تحسّ بالوحي؟ فقال أسمع صلاصل ثم اسكت عند ذلك. فما من مرّة يوحى إليّ إلّا ظننت أنّ نفسي تقبض). قال الخطابي المراد أنّه صوت متداول يسمعه ولا يتبينه أوّل ما يسمعه حتى يفهمه بعد. وقيل هو صوت خفق أجنحة الملك، والحكمة في تقدّمه أن يقرع سمعه الوحي فلا يبقي فيه مكانا لغيره. وفي الصحيح أنّ هذه الحالة أشدّ حالات الوحي عليه. وقيل إنّه إنّما كان ينزل هكذا إذا نزلت آية وعيد أو تهديد. الثانية أن ينفث في روعه الكلام نفثا كما قال صلى الله عليه وآله وسلم (إنّ روح القدس نفث في روعي) أخرجه الحاكم، وهذا قد يرجع إلى الحالة الأولى أو التي بعدها بأن يأتيه في إحدى الكيفيتين وينفث في روعه. الثالثة أن يأتيه في صورة رجل فيكلّمه كما في الصحيح (وأحيانا يتمثّل لي الملك رجلا فيكلّمني فأعي ما يقول) زاد أبو عوانة في صحيحة وهو أهونه عليّ. الرابعة أن يأتيه في النوم وعدّ من هذا قوم سورة الكوثر. الخامسة أن يكلّمه الله تعالى إمّا في اليقظة كما في ليلة الإسراء أو في النوم كما في حديث معاذ (أتاني ربّي فقال فيم يختصم الملأ الأعلى) الحديث انتهى ما في الإتقان.
وقال الصوفية القرآن عبارة عن الــذات التي يضمحلّ فيها جميع الصفات فهي المجلى المسمّى بالأحدية أنزلها الحقّ تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون مشهد الأحدية من الأكوان. ومعنى هذا الإنزال أنّ الحقيقة الأحدية المتعالية في ذراها ظهرت بكمالها في جسده، فنزلت عن أوجها مع استحالة العروج والنزول عليها، لكنه صلى الله عليه وآله وسلم لما تحقّق بجسده جميع الحقائق الإلهية وكان مجلى الاسم الواحد بجسده، كما أنّه بهويته مجلى الأحدية وبــذاتــه عين الــذات، فلذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أنزل عليّ القرآن جملة واحدة) يعبّر عن تحقّقه بجميع ذلك تحقّقا ذاتــيا كليا جسميا، وهذا هو المشار إليه بالقرآن الكريم لأنه أعطاه الجملة، وهذا هو الكرم التّام لأنّه ما ادّخر عنه شيئا بل أفاض عليه الكلّ كرما إلهيا ذاتــيا. وأمّا القرآن الحكيم فهو تنزّل الحقائق الإلهية بعروج العبد إلى التحقّق بها في الــذات شيئا فشيئا على مقتضى الحكمة الإلهية التي يترتّب الــذات عليها فلا سبيل إلى غير ذلك، لأنّه لا يجوز من حيث الإمكان أن يتحقّق أحد بجميع الحقائق الإلهية بجهده من أوّل إيجاده، لكن من كانت فطرته مجبولة على الألوهة فإنّه يترقّى فيها ويتحقّق منها بما ينكشف له من ذلك شيئا بعد شيء مرتبا ترتيبا إلهيا. وقد أشار الحقّ إلى ذلك بقوله:
وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا، وهذا الحكم لا ينقطع ولا ينقضي، بل لا يزال العبد في ترقّ، وهكذا لا يزال الحقّ في تجلّ، إذ لا سبيل إلى استيفاء ما لا يتناهى لأنّ الحقّ في نفسه لا يتناهى. فإن قلت ما فائدة قوله: أنزل عليّ القرآن جملة واحدة؟ قلنا ذلك من وجهين: الوجه الواحد من حيث الحكم لأنّ العبد الكامل إذا تجلّى الحقّ له بــذاتــه حكم بما شهده أنّه جملة الــذات التي لا تتناهى وقد تنزّلت فيه من غير مفارقة لمحلها الذي هو المكانة. والوجه الثاني من حيث استيفاء بقيات البشرية واضمحلال الرسوم الخلقية بكمالها لظهور الحقائق الإلهية بآثارها في كلّ عضو من أعضاء الجسد. فالجملة متعلّقة بقوله على هذا الوجه الثاني، ومعناها ذهاب جملة النقائص الخلقية بالتحقّق بالحقائق الإلهية.
وقد ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (أنزل القرآن دفعة واحدة إلى سماء الدنيا) ثم أنزله الحقّ عليه آيات مقطّعة بعد ذلك، هذا معنى الحديث. فإنزال القرآن دفعة واحدة إلى سماء الدنيا إشارة إلى التحقّق الــذاتــي، ونزول الآيات مقطّعة إشارة إلى ظهور آثار الأسماء والصفات مع ترقّي العبد في التحقّق بالــذات شيئا فشيئا. وقوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، فالقرآن العظيم هاهنا عبارة عن الجملة الــذاتــية لا باعتبار النزول ولا باعتبار المكانة بل مطلق الأحدية الــذاتــية التي هي مطلق الهوية الجامعة لجميع المراتب والصفات والشئون والاعتبارات المعبّر عنها بساذج الــذات مع جملة الكمالات.
ولذا قورن بلفظ العظيم لهذه العظمة، والسبع المثاني عبارة عمّا ظهر عليه في وجوده الجسدي من التحقّق بالسبع الصفات. وقوله تعالى الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ إشارة إلى أنّ العبد إذا تجلّى عليه الرحمن يجد في نفسه لذة رحمانية تكسبه تلك اللذة معرفة الــذات فتتحقّق بحقائق الصفات، فما علّمه القرآن إلّا الرحمن وإلّا فلا سبيل إلى الوصول إلى الــذات بدون تجلّي الرحمن الذي هو عبارة عن جملة الأسماء والصفات، إذ الحقّ تعالى لا يعلم إلّا من طريق أسمائه وصفاته فافهم، ولا يعقله إلّا العالمون، كذا في الانسان الكامل.
القرآن: عند أهل الفقه: اللفظ المنزل على محمد للإعجاز بسورة منه، المكتوب في المصاحف المنقول عنه نقلا متواترا.القرآن عند أهل الحق: العلم اللدني الإجمالي الجامع للحقائق كلها.
القرآن
هو العلم الخاص بهذا الكتاب الذى نزل على محمد، لم يشركه غيره من كتب الله في هذا الاسم، وقد اختار الكتاب العزيز له من الصفات ما يوضّح رسالته، والهدف الذى نزل من أجله، فهو هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (البقرة 97). هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ (البقرة 185). هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (آل عمران 138).
هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ (فصلت 44). يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (الأحقاف 30). أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (الكهف 1، 2). فرسالة القرآن الأساسية هداية الناس إلى الحق وطريق الصواب، وتبشير المهتدى وإنذار الضال، إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (الإسراء 9، 10).
وإذا كان الكتاب قد أنزل للهداية صحّ وصفه بأنه شفاء، أليس هو بلسما يبرئ أدواء القلوب، ودواء لعلل النفوس، وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (الإسراء 82). وصح وصفه بأنه كالمصباح، يخرج الناس من الظلمات إلى النور، كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (إبراهيم 1). وبأنه لم يدع سبيلا للإرشاد إلا بيّنه، وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ (النمل 89). ولما كان كتاب هداية كان واضحا في دلالته، بيّنا في إرشاده، هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ (العنكبوت 49). وكان خير ذكرى، يلجأ إليه المسترشد فيرشد، والضال فيجد عنده التوفيق والهداية، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (الأنعام 90). وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ (الزخرف 44). وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا (الإسراء 41). وهو ذكر مبارك، ناضج الثمر، جليل الأثر، وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ (الأنعام 92). وهو حق لا مرية فيه لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (فصلت 42). وهو قول فصل وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (الطارق 14). وكتاب حكيم، وذكر مبين، قد أحكمت آياته، ثم فصلت.
أليس كتاب هذا شأنه وتلك صفاته جديرا بالاتّباع، خليقا بالاسترشاد والاقتداء، أو ليس في تلك الصفات ما يحرك النفس إلى الاستماع إليه، وتدبر آياته، والإنصات إلى عظاته، ولا سيما أنه كثيرا ما يقترن بذكر الحكمة، وفي الحكمة ما يغرى بحبها واتباعها، إذ يقول: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (البقرة 151).
وردد القرآن كثيرا أنه نزل من الله بالحق، وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ (الإسراء 105). ويؤكد ذلك في قوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (الإنسان 23). وينفى أن يكون وحى شيطان، أو أن يستطيع الشياطين الإيحاء بمثله، وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (الشعراء 192 - 194).
وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (الشعراء 210، 211). ويؤكد في صراحة أن الإنس والجن مجتمعين لا يستطيعون الإتيان بمثل القرآن، ولو ظاهر بعضهم بعضا، وإذا كان المجيء به مما ليس في طوق مخلوق فمن غير المعقول أن يفترى من دون الله، وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (يونس 37). ولما ادعى المعارضون أن محمدا تقوّله أو افتراه تحداهم القرآن أن يأتوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (الطور 34). ثم تحداهم أن ائتوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (هود 13). ثم نزل إلى سورة مثله، فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (القصص 50). ويتحدث القرآن في صراحة عما كان يمكن أن ينتظر محمدا من الجزاء الصارم لو أنه افترى أو تقوّل، فقال: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (الحاقة 44 - 47). أرأيت كيف يصوّر القرآن، كيف يلتزم محمد ما أوحى إليه، من غير أن يستطيع تعدى الحدود التى رسمت له، فى جلاء ووضوح، لأنه ليس سوى رسول عليه بلاغ ما عهد إليه أن يبلغه فى أمانة وصدق.
كما ردد كثيرا أنه بلسان عربىّ مبين، إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (يوسف 2).
وفي ترديد هذه الفكرة ودفع العجمة عن القرآن، ما يدفع العرب إلى التفكير في أمره وأن كونه بلسانهم ثمّ عجزهم عن المجيء بمثله، مع تحديهم صباح مساء، دليل على أنه ليس من عند محمد، ولا قدرة لمحمد على الإتيان بقرآن مثله، وهو بهذا الوصف يقرر عجزهم الدائم، وأنه لا وجه لهم في الانحراف عن جادة الطريق، وما يدعو إليه العقل السليم، والتفكير المستقيم.
وقرّر أنه كتاب متشابه مثان، ومعنى تشابهه أن بعضه يشبه بعضا في قوة نسجه، وعمق تأثيره، وإحكام بلاغته، فكل جزء مؤثر بألفاظه وأفكاره وأخيلته وتصويره، ومعنى أنه مثان أن ما فيه من معان يثنى في مواضع مختلفة، ومناسبات عديدة، فيكون لهذا التكرير أثره في الهداية والإرشاد، وهو بهذا التكرير يؤدى رسالته التى جاء من أجلها، ولذا كان بتشابهه وتكرير ما جاء به من عظات، مؤثرا أكبر الأثر في القلوب، حتى لتقشعرّ منه جلود أولئك الذين يتدبرونه، وتنفعل له قلوبهم، ثم لا يلبثون أن تطمئن أفئدتهم إلى هداه، وتهدأ نفوسهم إلى ذكر الله، اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (الزمر 23). ويعرف القرآن ما له من تأثير قوى بالغ حتى لتتأثر به صم الحجارة إذا أدركت معناه، لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ (الحشر 21).
ومع طول القرآن وتعدد مناحيه لا عوج فيه، ولا اضطراب في أفكاره ولا أخيلته، أو لا ترى أن أمّيا لا يستطيع تأليف كتاب على هذا القدر من الطول من غير أن يقع فيه الخلل والاختلاف والاضطراب، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (النساء 82).
ومما أكده القرآن أنه مصدّق لما نزل قبله من التوراة والإنجيل، وإلى جانب ذلك، سجل القرآن ما قابله به أهل الكتاب والمشركون، من كفر به وإنكار له، أما بعض أهل الكتاب فقد مضوا يكابرون، منكرين أن يكون الله قد أنزل كتابا على إنسان، وما كان أسهل دحض هذه الفرية بما بين أيديهم من كتاب موسى، يبدون بعضه ويخفون الكثير منه، قال سبحانه: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (الأنعام 91). ولم يزد الكثير من أهل الكتاب نزول القرآن إلا تماديا فى الكفر وشدة في الطغيان، قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ
وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ
(المائدة 68). وقالوا إن محمّدا يتعلم القرآن من إنسان عليم بأخبار الماضين، وكان من السهل أيضا إبطال تلك الدعوى، فإن هذا الذى زعموه يعلمه ذو لسان أعجمى، وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (النحل 103). ثم زعموا أنه إفك اختلقه، وأعانه على إتمامه سواه ممن يعرفون أساطير الأولين ويتقنونها، وهنا يرد القرآن في هدوء بأن هذه الأسرار التى في القرآن، والتى ما كان يعلمها محمد ولا قومه، إنما أنزلها الذى يعلم أسرار السموات والأرض، وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (الفرقان 4 - 6). ونزلوا في المكابرة إلى أعمق درك، فزعموا مرة أن ليس ما في القرآن من أخبار سوى أضغاث أحلام، وحينا زعموا أنه قول شاعر، وأن القرآن لا يصلح أن يكون آية قاطعة كآيات الرسل السابقين، بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (الأنبياء 5). ولم يتحمل القرآن الرد على دعوى أضغاث الأحلام لتفاهتها، ووضوح بطلانها، ولكنه نفى أن يكون القرآن شعرا بوضوح الفرق بين القرآن والشعر، الذى لا يليق أن يصدر من محمد، وجعلوا القرآن سحرا من محمد، لا صلة لله به، وهنا يبين القرآن مدى مكابرتهم، فيقول: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (الأنعام 7).
ومضى بعض الناس يذيع الأحاديث الباطلة ليضل عن سبيل الله، ويصم أذنيه عن سماع القرآن مستكبرا مستهزئا به، والقرآن يغضب لموقف هؤلاء شديد الغضب، وينذرهم كما استهزءوا، بعذاب يهينهم ويؤلمهم، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (لقمان 6، 7).
ومن عجب أن كثيرا من الكافرين كان لا يرضى عما في القرآن من أفكار التوحيد والعبادة، فكان يطلب من الرسول أن يأتى بقرآن غير هذا القرآن، فكان رد الرسول صريحا في أنه لا يستطيع أن يفعل شيئا من تلقاء نفسه، وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (يونس 15).
ومما اعترضوا به على القرآن أنه نزل منجّما، واقترحوا أن ينزل دفعة واحدة، ولكن القرآن ردّ على هذا الاقتراح، بأن نزوله على تلك الطريقة، فيه تثبيت لفؤاد الرسول، ليكون دائم الاتصال بربه، أو ليس في نزوله كذلك تثبيت لأفئدة المؤمنين أيضا إذ ينقلهم القرآن بتعاليمه مرحلة مرحلة إلى الدين الجديد، ويروى القرآن هذا الاعتراض، ويرد عليه في قوله سبحانه: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (الفرقان 32، 33).
ولقد تعبوا في صدّ تيار القرآن الجارف، ووقف أثره في النفوس فما استطاعوا ثم هداهم خيالهم الضّيق إلى طريقة يحولون بها بين القرآن وسامعيه تلك هى الصّخب عند سماع القرآن واللغو فيه، ولما كان في ذلك استقبال لا يليق بالقرآن قابله الله بتهديد عنيف، وإيعاد شديد، إذ يقول: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (فصلت 26 - 28). وذلك أقوى دليل على الإخفاق، وأنه لا حجة عندهم يستطيعون أن يهدموا بها حجة القرآن.
وحرّك القرآن فيهم غريزة الخوف إن كذبوا به، فسألهم ماذا تكون النتيجة إذا ثبت حقّا أنه من عند الله، وظلوا كافرين به، أيكون ثمّ من هو أضل منهم أو أظلم، يثير تلك الغريزة في قوله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (فصلت 52). ويقف منهم موقف من بين الخير والشر، ثم تركهم لأنفسهم يفكرون، ألا يثير فيهم ذلك كثيرا من الخوف من أن ينالهم سوء إعراضهم بأوخم العواقب، إذ يقول: إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (الزمر 41). أما سورة الفرقان فيراد به هنا القرآن، كما أنه في مواضع أخرى يطلق على كتب الله، لأنها تفرق بين الحق والباطل، والصواب والخطأ.
ولعل بدء هذه السورة بقوله سبحانه: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (الفرقان 1). فيه دلالة على أنها تحوى إنذارا ووعيدا وتهديدا، وحقا لقد اتسمت هذه السورة بالرد المنذر على كثير من دعاوى المنكرين لأحقية القرآن ورسالة محمد ووحدانية الله، وقد بدأها بالحديث عن منزل القرآن، وتفرده بالملك وتعجبه من أن اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (الفرقان 3). وبدأ بعد ذلك يعدد مفترياتهم على القرآن وتشكيكهم في رسالة محمد، ثم يتعمّق في السبب الذى دفعهم إلى إنكار القرآن ونبوة محمد، فيراه التكذيب باليوم الآخر، وكأنما غضبت جهنم لهذا التكذيب، حتى إنها إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (الفرقان 12).
ويمضى في تصوير ما ينتظرهم في ذلك اليوم من مصير مؤلم موازنا بين ذلك، وبين جنة الخلد التى وعد المتقون، ثم يعود إلى أكاذيبهم، فيردّ على بعضها، ويبسط
بعضها الآخر، واضعا إلى جانب هذه الأكاذيب ما ينتظرها من عقوبة يوم الدين، وهنا يلجأ إلى التصوير المؤثر، يرسم به موقفهم في ذلك اليوم، علّه يردهم بذلك إلى الصواب، إذا ذكروا سوء المغبة؛ وتأمل قوة تصوير من ظلم نفسه بهجر القرآن وتكذيبه، فى قوله: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (الفرقان 27 - 30). ويعود مرة إلى شبهة من شبهاتهم في القرآن فيدحضها وينذرهم بشر مكان في جهنم، ويعدد لهم عواقب من كذب الرسل من قبلهم. ثم يأتى إلى إثم آخر من آثامهم باستهزائهم بالرسول الذى كاد يصرفهم عن آلهتهم، لولا أن صبروا عليها، وهنا يناقشهم في اتخاذ هذه الآلهة التى لا يصلح اتخاذها إلها إذا وزنت بالله الذى يعدد من صفاته ما يبين بوضوح وجلاء أنهم يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ (الفرقان 55). ويطيل القرآن في تعداد صفات الله وبيان مظاهر قدرته. وإذا كانت السورة قد مضت تنذر المنكرين وتعدّد آثامهم، فإنها قد أخذت تذكر كذلك صفات المؤمنين الصادقين، ليكونوا إلى جانبهم مثالا واضحا للفرق بين الصالح والطّالح، ولتكون الموازنة بينهما مدعاة إلى تثبيت النموذجين في النفس، وختمت السورة بالإنذار بأن العذاب نازل بهم لا محالة، ما داموا قد كذبوا، فكانت السورة كلّها من المبدأ إلى المنتهى تتجه إلى الوعيد، ما دامت تناقش المنكرين في مفتريات تتعلق بالقرآن ومن نزل عليه القرآن، وقد رأينا كيف كان يقرن كل افتراء بما أعدّ له من العذاب.

الحركة

الحركة: الخروج من القوة إلى الفعل تدريجا، وقيل هي شغل حيز بعد أن كان في حيز آخر، وقيل هي كونان في آنين في مكانين كما أن السكون كونان في آنين في مكان واحد.
الحركة:
نصف الألف، وبها تقدّر -عند المتأخرين- مقادير المدود، وهي بمقدار نصف المد الطبيعي، ويقدر زمنها بمعدل قبض الإصبع أو بسطه، من غير سرعة ولا بطء، وُيعبر عنه بـ (فويق) و (فوق)، يقال: قرأ بـ (فويق القصر) و (فوق القصر) أي بمقدار ثلاث حركات، وقرأ بـ (فويق التوسط) و (فوق التوسط) أي بمقدار خمس حركات.
الحركة:
[في الانكليزية] Movement ،motion
[ في الفرنسية] Mouvement
بفتح الحاء والراء المهملة في العرف العام النقل من مكان إلى مكان، هكذا ذكر العلمي في حاشية شرح هداية الحكمة، وهذا هو الحركة الأينية المسماة بالنقلة. قال صاحب الأطول: لا تطلق الحركة عند المتكلمين إلّا على هذه الحركة الأينية وهي المتبادرة في استعمالات أهل اللغة. وقد تطلق عند أهل اللغة على الوضعية دون الكميّة والكيفية انتهى.
وهكذا في شرح المواقف. ويؤيد الإطلاقين ما وقع في شرح الصحائف من أنّ الحركة في العرف العام انتقال الجسم من مكان إلى مكان آخر، أو انتقال أجزائه كما في حركة الرّحى انتهى.
وعند الصوفية الحركة السلوك في سبيل الله تعالى، كذا في لطائف اللغات:
ثم المتكلمون عرّفوا الحركة بحصول جوهر في مكان بعد حصوله في مكان آخر أي مجموع الحصولين لا الحصول في الحيز الثاني المقيّد بكونه بعد الحصول في الحيز الأول، وإن كان متبادرا من ظاهر التعريف. ولذا قيل الحركة كونان في آنين في مكانين، والسكون كونان في آنين في مكان واحد. ويرد عليه أنّ ما أحدث في مكان واستقر فيه آنين وانتقل منه في الآن الثالث إلى مكان آخر لزم أن يكون كون ذلك الحادث في الآن الثاني جزءا من الحركة والسكون، فإنّ هذا الكون مع الكون الأول يكون سكونا، ومع الثالث يكون حركة، فلا تمتاز الحركة عن السكون بالــذات، بمعنى أنّه يكون الساكن في آن سكونه أعني الآن الثاني شارعا في الحركة. فالحق هو المعنى المتبادر من التعريف. ولذا قيل الحركة كون أول في مكان ثان، والسكون كون ثان في مكان أول.
ويرد عليه وعلى القول الأول أيضا أنّ الكون في أول زمان الحدوث لا يكون حركة ولا سكونا.
اعلم أنّ الأشاعرة على أنّ الأكوان وسائر الأعراض متجدّدة في كل آن. والمعتزلة قد اتفقوا على أنّ السكون كون باق غير متجدّد، واختلفوا في الحركة هل هي باقية أم لا؟ فعلى القول ببقاء الأكوان يردّ على كلا الفريقين أنه لا معنى للكونين ولا لكون الكون أولا، وثانيا لعدم تعدّده اللهم إلّا أن يفرض التجدّد فرضا.
وعلى القول بعدم بقائها يرد أن لا يكون الحركة والسكون موجودين لعدم اجتماع الكونين في الوجود، اللهم إلّا أن يقال يكفي في وجود الكل وجود أجزائه ولو على سبيل التعاقب.
وقيل الحق أنّ السكون مجموع الكونين في مكان واحد، والحركة كون أول في مكان ثان.
ومما يجب أن يعلم أنّ المراد بكونين في مكان أنّ أقل السكون ذلك وبالكون الثاني في مكان أول ما يعمّ الكون الثالث. وعلى هذا قس سائر التعاريف.
واعلم أيضا أنّ جميع التعاريف لا يشتمل الحركة الوضعية لأنّه لا كون للمتحرك بها إلّا في المكان الأول، هكذا يستفاد مما ذكره المولوي عصام الدين والمولوي عبد الحكيم في حواشيهما على شرح العقائد النسفية. ويجيء ما يدفع بعض الشكوك في لفظ الكون.
وأمّا الحكماء فقد اختلفوا في تعريف الحركة. فقال بعض القدماء هي خروج ما بالقوة إلى الفعل على التدريج. بيانه أنّ الشيء الموجود لا يجوز أن يكون بالقوة من جميع الوجوه وإلّا لكان وجوده أيضا بالقوة، فيلزم أن لا يكون موجودا، فهو إمّا بالفعل من جميع الوجوه وهو البارئ تعالى، والعقول على رأيهم أو بالفعل، من بعضها وبالقوة من بعض. فمن حيث إنّه موجود بالقوة لو خرج ذلك البعض من القوة إلى الفعل فهو إمّا دفعة وهو الكون والفساد فتبدل الصورة النارية بالهوائية انتقال دفعي، ولا يسمّونه حركة بل كونا وفسادا، وإمّا على التدريج وهو الحركة. فحقيقة الحركة هو الحدوث أو الحصول أو الخروج من القوة إلى الفعل إمّا يسيرا يسيرا أو لا دفعة أو بالتدريج.
وكل من هذه العبارات صالحة لإفادة تصوّر الحركة. لكن المتأخّرين عدلوا عن ذلك لأنّ التدريج هو وقوع الشيء في زمان بعد زمان، فيقع الزمان في تعريفه، والزمان مفسّر بأنّه مقدار الحركة، فيلزم الدور. وكذا الحال في اللادفعة، وكذا معنى يسيرا يسيرا. فقالوا الحركة كمال أول لما هو بالقوة من جهة ما هو بالقوة.
وهكذا قال أرسطو. وتوضيحه أنّ الجسم إذا كان في مكان مثلا وأمكن حصوله في مكان آخر فله [هناك] إمكانان، إمكان الحصول في المكان الثاني، وإمكان التوجّه إليه. وكلّ ما هو ممكن الحصول له فإنه إذا حصل كان كمالا له، فكل من التوجه إلى المكان الثاني والحصول فيه كمال، إلّا أنّ التوجّه متقدّم على الحصول لا محالة، فوجب أن يكون الحصول بالقوة ما دام التوجّه بالفعل. فالتوجّه كمال أول للجسم الذي يجب أن يكون بالقوة في كماله الثاني الذي هو الحصول. ثم إنّ التوجّه ما دام موجودا فقد بقي منه شيء بالقوة. فالحركة تفارق سائر الكمالات بخاصتين: إحداهما أنها من حيث إنّ حقيقتها هي التأدّي إلى الغير، والسلوك إليه تستلزم أن يكون هناك مطلوب ممكن الحصول غير حاصل معها بالفعل ليكون التأدّي تأدّيا إليه، وليس شيء من سائر الكمالات بهذه الصفة، إذ ليست ماهيتها التأدّي إلى الغير ولا يحصل فيها واحد من هذين الوصفين. فإنّ الشيء مثلا إذا كان مربعا بالقوة ثم صار مربعا بالفعل فحصول المربعية من حيث هو هو لا يستعقب شيئا ولا يبقى عند حصولها شيء منها بالقوة. وأما الإمكان الاستعدادي وإن كان يستلزم أن لا يكون المقبول غير حاصل معه بالفعل فإنّ التحقيق أنّ الاستعداد يبطل مع الفعل لكن حقيقتها ليس التأدّي. وثانيتهما أنها تقتضي أن يكون شيء منها بالقوة فإنّ المتحرّك إنما يكون متحركا إذا لم يصل إلى المقصد، فإنّه إذا وصل إليه فقد انقطع حركته، وما دام لم يصل فقد بقي من الحركة شيء بالقوة. فهوية الحركة مستلزمة لأن يكون محلها حال اتصافه بها يكون مشتملا على قوتين، قوة بالقياس إليها وقوة أخرى بالقياس إلى ما هو المقصود بها. أما القوة التي بالنسبة إلى المقصد فمشتركة بلا تفاوت بين الحركة، بمعنى القطع والحركة بمعنى التوسط. فإنّ الجسم ما دام في المسافة لم يكن واصلا إلى المنتهى، وإذا وصل إليه لم تبق الحركة أصلا. وأما القوة الأخرى ففيها تفاوت بينهما، فإنّ الحركة بمعنى القطع حال اتصاف المتحرّك بها يكون بعض أجزائها بالقوة وبعضها بالفعل. فالقوة والفعل في ذات شيء واحد. والحركة بمعنى التوسّط إذا حصلت كانت بالفعل، ولم تكن هناك قوة متعلّقة بــذاتــها، بل بنسبتها إلى حدود المسافة. وتلك النسبة خارجة عن ذاتــها عارضة لها كما ستعرف. فقد ظهر أنّ الحركة كمال بالمعنى المذكور للجسم الذي هو بالقوة في ذلك الكمال وفيما يتأدّى إليه ذلك الكمال. وبقيد الأول تخرج الكمالات الثانية، وبقيد الحيثية المتعلّقة بالأول تخرج الكمالات الأولى على الإطلاق، أعني الصورة النوعية لأنواع الأجسام والصور الجسمية للجسم المطلق فإنّها كمالات أولى لما بالقوة، لكن لا من هذه الحيثية بل مطلقا، لأنّ تحصيل هذه الأنواع والجسم المطلق في نفسه إنّما هو بهذه الصور وما عداها من أحوالها تابعة لها، بخلاف الحركة فإنّها كمال أول من هذه الحيثية فقط، وذلك لأنّ الحركة في الحقيقة من الكمالات الثانية بالقياس إلى الصور النوعية.
وإنّما اتصفت بالأولية لاستلزامها ترتّب كمال آخر عليها بحيث يجب كونه بالقوة معها فهي أول بالقياس إلى ذلك الكمال، وكونه بالقوة معها لا مطلقا. فالحاصل أنّ الحركة كمال أول للجسم الذي هو بالقوة في كماله الثاني بحيث يكون أوليته من جهة الأمر الذي هو له بالقوة بأن تكون أولية هذا الكمال بالنسبة إليه.
وهاهنا توجيهان آخران. الأول أن يكون قولهم من جهة ما هو بالقوة متعلّقا بما يتعلّق به قولهم لما هو بالقوة كالثابت والحاصل، فيكون المعنى كمال أول حاصل للجسم الذي يجب كونه معه بالقوة في كماله الثاني، ومتعلّق به من جهة كونه بالقوة، وذلك لأنّ الحركة كمال بالنسبة إلى الوصول أو بقية الحركة للجسم الذي يجب كونه معه بالقوة في كماله الثاني، وحصوله له من جهة كونه بالقوة إذ على تقدير الوصول أو بقية الحركة بالفعل تكون الحركة منقطعة غير حاصلة للجسم. وبيان فائدة القيود مثل ما مرّ، لكن بقي انتقاض تعريف الحركة بالإمكان الاستعدادي إذ يصدق أنّه كمال بالنسبة إلى ما يترتب عليه سواء كان قريبا أو بعيدا للجسم الذي يجب كونه معه بالقوة في الكمال الثاني، من جهة كونه بالقوة، فإنّه إذا حصل ما يترتّب عليه بطل استعداده، وكذلك أولية الاستعداد بالنسبة إلى ما يترتب. والثاني أن يكون متعلّقا بلفظ الكمال ويكون المعنى أنّ الحركة كمال أول للجسم الذي هو بالقوة في كماله الثاني من جهة المعنى الذي هو به بالقوة، بأن يكون ذلك المعنى سببا لكماليته، وذلك فإنّ الحركة ليست كمالا له من جهة كونه جسما أو حيوانا بل إنما هي كمال من الجهة التي باعتبارها كان بالقوة، أعني حصوله في أين مخصوص أو وضع مخصوص أو غير ذلك؛ وفيه نظر، وهو أنّ الحركة ليست كمالا من جهة حصوله في أين أو وضع أو غير ذلك، فإنّ كماليتها إنما هو باعتبار حصولها بعد ما كان بالقوة.
ويردّ على التوجيهات الثلاثة أنه يخرج من التعريف الحركة المستديرة الأزلية الأبدية الفلكية على زعمهم، إذ لا منتهى لها إلّا بالوهم، فليس هناك كمالان أول هو الحركة وثان هو الوصول إلى المنتهى إلّا إذا اعتبر وضع معين واعتبر ما قبله دون ما بعده؛ إلّا أنّ هذا منتهى بحسب الوهم دون الواقع المتبادر من التعريف. وفي الملخص أنّ تصور الحركة أسهل مما ذكر فإنّ كل عاقل يدرك التفرقة بين كون الجسم متحركا وبين كونه ساكنا. وأمّا الأمور المذكورة فمما لا يتصورها إلّا الأذكياء من الناس.
وقد أجيب عنه بأنّ ما أورده يدلّ على تصورها بوجه والتصديق بحصولها للأجسام لا على تصوّر حقيقتها.
اعلم انهم اختلفوا في وجود الحركة.
فقيل بوجوده وقيل بعدم وجوده. وحاكم بينهم ارسطو، فقال: الحركة يقال بالاشتراك اللفظي لمعنيين. الأول التوجّه نحو المقصد وهو كيفية بها يكون الجسم أبدا متوسطا بين المبدأ والمنتهى، أي مبدأ المسافة ومنتهاها، ولا يكون في حيّز آنين بل يكون في كل آن في حيّز آخر، وتسمّى الحركة بمعنى التوسط. وقد يعبر عنها بأنها كون الجسم بحيث أي حدّ من حدود المسافة يفرض لا يكون هو قبل الوصول إليه ولا بعده حاصلا فيه، وبأنها كون الجسم فيما بين المبدأ والمنتهى بحيث أي آن يفرض يكون حاله في ذلك الآن مخالفا لحاله في آنين يحيطان به، والحركة بهذا المعنى أمر موجود في الخارج، فإنّا نعلم بمعاونة الحسّ أنّ للمتحرك حالة مخصوصة ليست ثابتة له في المبدأ ولا في المنتهى، بل فيما بينهما، وتستمر تلك الحالة إلى المنتهى وتوجد دفعة. ويستلزم اختلاف نسب المتحرك إلى حدود المسافة فهي باعتبار ذاتــها مستمرة وباعتبار نسبتها إلى تلك الحدود سيالة وبواسطة استمرارها وسيلانها تفعل في الخيال أمرا ممتدا غير قارّ هو الحركة بمعنى القطع. فالحركة بمعنى التوسّط تنافي استقرار المتحرّك في حيّز واحد سواء كان منتقلا عنه أو منتقلا إليه، فتكون ضدا للسكون في الحيّز المنتقل عنه وإليه، بخلاف من جعل الحركة الكون في الحيّز الثاني كما يجيء في لفظ الكون. الثاني الأمر الممتد من أول المسافة إلى آخرها ويسمّى الحركة بمعنى القطع ولا وجود لها إلّا في التوهم، إذ عند الحصول في الجزء الثاني بطل نسبته إلى الجزء الأول منها ضرورة، فلا يوجد هناك أمر ممتد من مبدأها إلى منتهاها. نعم لما ارتسم نسبة المتحرك إلى الجزء الثاني الذي أدركه في الخيال قبل أن يزول نسبته إلى الجزء الأول الذي تركه عنه، أي عن الخيال، يخيّل أمر ممتد، كما يحصل من القطرة النازلة والشعلة المدارة أمر ممتد في الحسّ المشترك فيرى لذلك خطّا ودائرة.
التقسيم
الحركة إمّا سريعة أو بطيئة. فالسريعة هي التي تقطع مسافة مساوية لمسافة أخرى في زمان أقلّ من زمانها، ويلزمها أن تقطع الأكثر من المسافة في الزمان المساوي. أعني إذا فرض تساوي الحركتين في المسافة كان زمان السريعة أقلّ، وإذا فرض تساويهما في الزمان كانت مسافة السريعة أكثر. فهذان الوصفان لا زمان للسريعة مساويان لها. ولذلك عرفت بكلّ واحد منهما.
وأمّا قطعها لمسافة أطول في زمان أقصر فخاصة قاصرة. والبطيئة عكسها فتقطع المساوي من المسافة في الزمان الأكثر أو تقطع الأقل من المسافة في الزمان المساوي، وربما قطعت مسافة أقل في زمان أكثر لكنه غير شامل لها. والاختلاف بالسرعة والبطء ليس اختلافا بالنوع إذ الحركة الواحدة سريعة بالنسبة إلى حركة والبطيئة بالنسبة إلى أخرى، ولأنهما قابلان للاشتداد والنقص.
فائدة:
قالوا علّة البطء في الطبيعة ممانعة المخروق الذي في المسافة، فكلما كان قوامه أغلظ كان أشدّ ممانعة للطبيعة وأقوى في اقتضاء بطء الحركة كالماء مع الهواء، فنزول الحجر إلى الأرض في الماء أبطأ من نزوله إليها في الهواء.
وأمّا في الحركات القسرية والإرادية فممانعة الطبيعة إمّا وحدها لأنه كلما كان الجسم أكبر أو كانت الطبيعة السارية فيه أكبر كان ذلك الجسم بطبيعته أشدّ ممانعة للقاسر، والمحرك بالإرادة وأقوى في اقتضاء البطء وإن اتحد المخروق والقاسر والمحرّك الإرادي. ومن ثمّ كان حركة الحجر الكبير أبطأ من حركة الصغير في مسافة واحدة من قاسر واحد، أو ممانعة الطبيعة مع ممانعة المخروق كالسهم المرمي بقوة واحدة تارة في الهواء، وكالشخص السائر فيهما بالإرادة، وربّما عاوق أحدهما أكثر والآخر أقل فتعادلا، مثل أن يحرك قاسر واحد الجسم الكبير في الهواء والصغير في الماء الذي يزيد معاوقة الهواء بمقدار الزيادة التي في طبيعته. وأيضا الحركة إمّا أينية وهي الانتقال من مكان إلى مكان تدريجا وتسمّى النقلة، وإمّا كمية وهي الانتقال من كم إلى كم آخر تدريجا وهو أولى مما ذكره الشارح القديم من أنّها انتقال الجسم من كمّ إلى كمّ على التدريج، إذ قد ينتقل الهيولى والصورة أيضا من كم إلى كم، وهذه الحركة تقع على وجوه التخلخل والتكاثف والنمو والذبول والسّمن والهزال، وإمّا كيفية وهي الانتقال من كيفية إلى أخرى تدريجا وتسمّى بالاستحالة أيضا، وإمّا وضعية وهي أن يكون للشيء حركة على الاستدارة، فإنّ كلّ واحد من أجزاء المتحرّك يفارق كلّ واحد من أجزاء مكانه لو كان له مكان، ويلازم كله مكانه، فقد اختلفت نسبة أجزائه إلى أجزاء مكانه على التدريج. وقولهم لو كان له مكان ليشمل التعريف فلك الأفلاك.
والمراد بالحركة المستديرة ما هو المصطلح وهو ما لا يخرج المتحرّك بها عن مكانه لا اللغوي فإنّ معناها اللغوي أعمّ من ذلك، فإنّ الجسم إذا تحرك على محيط دائرة يقال إنه متحرك بحركة مستديرة، فعلى هذا حركة الرحى وضعية وكذا حركة الجسم الآخر الذي يدور حول نفسه من غير أن تخرج عن مكانه حركة وضعية. وقيل الحركة الوضعية منحصرة في حركة الكرة في مكانها وليس بشيء إذ الحركة في الوضع هي الانتقال من وضع إلى وضع آخر تدريجا. وقيل حصر الوضعية في الحركة المستديرة أيضا ليس بشيء على ما عرفت من معنى الحركة في الوضع، كيف والقائم إذا قعد فقد انتقل من وضع إلى وضع آخر مع أنّه لا يتحرك على الاستدارة وثبوت الحركة الأينية لا ينافي ذلك.
نعم لا توجد الوضعية هناك على الانفراد.
وبالجملة فالحق أنّ الحركة الوضعية هي الانتقال من وضع إلى وضع كما عرفت، فكان الحصر المذكور بناء على إرادة الحركة الوضعية على الانفراد. ولذا قيل الحركة الوضعية تبدل وضع المتحرك دون مكانه على سبيل التدريج، وتسمّى حركة دورية أيضا انتهى.
وهذا التقسيم بناء على أنّ الحركة عند الحكماء لا تقع إلّا في هذه المقولات الأربع، وأما باقي المقولات فلا تقع فيها حركة لا في الجوهر لأنّ حصوله دفعي ويسمّى بالكون والفساد، ولا في باقي مقولات العرض لأنها تابعة لمعروضاتها، فإن كانت معروضاتها مما تقع فيه الحركة تقع في تلك المقولة الحركة أيضا وإلّا فلا. ومعنى وقوع الحركة في مقولة عند جماعة هو أنّ تلك المقولة مع بقائها بعينها تتغير من حال إلى حال على سبيل التدريج، فتكون تلك المقولة هي الموضوع الحقيقي لتلك الحركة، سواء قلنا إنّ الجوهر الذي هو موضوع لتلك المقولة موصوف بتلك الحركة بالعرض وعلى سبيل التبع أو لم نقل وهو باطل، لأنّ التسود مثلا ليس هو أنّ ذات السواد يشتدّ لأنّ ذلك السواد إن عدم عند الاشتداد فليس فيه اشتداد قطعا، وإن بقي ولم تحدث فيه صفة زائدة فلا اشتداد فيه أيضا، وإن حدثت فيه صفة زائدة فلا تبدل ولا اشتداد قطعا ولا حركة في ذات السواد، بل في صفة والمفروض خلافه.
وعند جماعة معناه أنّ تلك المقولة جنس لتلك الحركة، قاموا إنّ من الأين ما هو قارّ ومنه ما هو سيّال، وكذا الحال في الكم والكيف والوضع. فالسيّال من كل جنس من هذه الأجناس هو الحركة فتكون الحركة نوعا من ذلك الجنس وهو باطل أيضا إذ لا معنى للحركة إلّا تغيّر الموضوع في صفاته على سبيل التدريج، ولا شك أنّ التغيّر ليس من جنس المتغيّر والمتبدّل لأنّ التبدّل حالة نسبية إضافية والمتبدّل ليس كذلك، فإذا كان المتبدّل في الحركة هذه المقولات لم يكن شيء منها جنسا للتبدل الواقع فيها. والصواب أنّ معنى ذلك هو أنّ الموضوع يتحرك من نوع لتلك المقولة إلى نوع آخر من صنف إلى صنف آخر أو من فرد إلى فرد آخر.
وأيضا الحركة إمّا ذاتــية أو عرضية. قالوا ما يوصف بالحركة إمّا أن تكون الحركة حاصلة فيه بالحقيقة بأن تكون الحركة عارضة له بلا توسط عروضها لشيء آخر أو لا تكون، بأن تكون الحركة حاصلة في شيء آخر يقارنه فيوصف بالحركة تبعا لذلك، والثاني يقال له إنّه متحرك بالعرض وبالتبع وتسمّى حركته حركة عرضية وتبعية كراكب السفينة، والأول يقال له إنّه متحرك بالــذات وتسمّى حركته حركة ذاتــية.
والحركة الــذاتــية ثلاثة أقسام لأنه إمّا أن يكون مبدأ الحركة في غيره وهي الحركة القسرية أو يكون [مبدأ] الحركة فيه إمّا مع الشعور أي شعور مبدأ الحركة بتلك الحركة، وهي الحركة الإرادية أو لا مع الشعور وهي الحركة الطبعية.
فالحركة النباتية طبعية وكذلك حركة النّبض لأنّ مبدأ هاتين الحركتين موجود في المتحرّك ولا شعور له بالحركة الصادرة عنه. وقد أخطأ من جعل الحركة الطبعية هي الصاعدة والهابطة وحصرها فيهما إذ تخرج عنها حينئذ هاتان الحركتان، وكذا أخطأ من جعل الحركة الطبعية هي التي على وتيرة واحدة من غير شعور بخروج هاتين الحركتين. ومنهم من قسّم الحركة إلى ذاتــية وعرضية، والــذاتــية إلى ستة أقسام، لأنّ القوة المحركة إن كانت خارجة عن المتحرك فالحركة قسرية، وإن لم تكن خارجة عنه فإمّا أن تكون الحركة بسيطة أي على نهج واحد وإمّا أن تكون مركّبة أي لا على نهج واحد.
والبسيطة إمّا أن تكون بإرادة وهي الحركة الفلكية أو لا بإرادة وهي الحركة الطبعية.
والمركّبة إمّا أن يكون مصدرها القوة الحيوانية أو لا. الثانية الحركة النباتية. والاولى إمّا أن تكون مع شعور بها وهي الحركة الإرادية الحيوانية أو مع عدم شعور وهي الحركة التسخيرية كحركة النبض.
فائدة:
الحركة تقتضي أمورا ستة. الأول ما به الحركة أي السبب الفاعلي. الثاني ما له الحركة أي محلها. الثالث ما فيه الحركة أي إحدى المقولات الأربع. الرابع ما منه الحركة أي المبدأ. والخامس ما إليه الحركة أي المنتهى وهما أي المبدأ والمنتهى بالفعل في الحركة المستقيمة وبالفرض في الحركة المستديرة.
السادس المقدار أي الزمان فإنّ كل حركة في زمان بالضرورة فوحدتها متعلّقة بوحدة هذه الأمور، فوحدتها الشخصية بوحدة موضوعها وزمانها وما هي فيه ويتبع هذا وحدة ما منه وما إليه، ولا يعتبر وحدة المحرك وتعدده، ووحدتها النوعية بوحدة ما فيه وما منه وما إليه ووحدتها الجنسية بوحدة ما فيه فقط. فالحركة الواقعة في كل جنس جنس من الحركة، فالحركات الأينية كلّها متحدة في الجنس العالي، وكذا الحركات الكمية والكيفية. ويترتّب أجناس الحركات بترتب الأجناس التي تقع تلك الحركة فيها فالحركة في الكيف جنس هي فوق الحركة في الكيفيات المحسوسة وهي فوق الحركة في المبصرات وهي [جنس] فوق الحركة في الألوان، وهكذا إلى أن ينتهي إلى الحركات النوعية المنتهية إلى الحركات الشخصية. وتضاد الحركتين ليس لتضاد المحرّك والزمان وما فيه بل لتضاد ما منه وما إليه إمّا بالــذات كالتسوّد والتبيّض أو بالعرض كالصعود والهبوط، فإنّ مبدأهما ومنتهاهما نقطتان متماثلتان عرض لهما تضاد من حيث إنّ إحداهما صارت مبدأ والأخرى منتهى، فالتضاد إنّما هو بين الحركات المتجانسة المتشاركة في الجنس الأخير. ففي الاستحالة كالتسوّد والتبيّض وفي الكم كالنمو والذبول وفي النقلة كالصاعدة والهابطة وأمّا الحركات الوضعية فلا تضاد فيها.
فائدة:
انقسام الحركة ليس بالــذات بل بانقسام الزمان والمسافة والمتحرك؛ فإنّ الجسم إذا تحرّك تحركت أجزاؤه المفروضة فيه، والحركة القائمة بكل جزء غير القائمة بالجزء الآخر، فقد انقسمت الحركة بانقسام محلها.
فائدة:
ذهب بعض الحكماء كأرسطو وأتباعه والجبّائي من المعتزلة إلى أنّ بين كل حركتين مستقيمتين كصاعدة وهابطة سكونا، فالحجر إذا صعد قسرا ثم رجع فلا بد أن يسكن فيما بينهما فإنّ كل حركة مستقيمة لا بدّ أن تنتهي إلى سكون لأنها لا تذهب على الاستقامة إلى غير النهاية، ومنعه غيرهم كأفلاطون وأكثر المتكلّمين من المعتزلة. وإن شئت تحقيق المباحث فارجع إلى شرح المواقف وشرح الطوالع والعلمي وغيرها.
تذنيب
الحركة كما تطلق على ما مرّ كذلك تطلق على كيفية عارضية للصوت وهي الضم والفتح الكسر ويقابلها السكون. قال الإمام الرازي الحركات أبعاض المصوّتات. أمّا أولا فلأنّ الحروف المصوتة قابلة للزيادة والنقصان، وكلّما كان كذلك فله طرفان ولا طرف في النقصان للمصوّتة إلّا بهذه الحركات بشهادة الاستقراء.
وأمّا ثانيا فلأنّ الحركات لو لم تكن أبعاض المصوّتات لما حصلت المصوتات بتمديدها، فإن الحركة إذا كانت مخالفة لها ومددتها لم يمكنك أن تذكر المصوّت إلّا باستئناف صامت آخر يجعل المصوّت تبعا له، لكن الحسّ شاهد بحصول المصوتة بمجرّد تمديد الحركات، كذا في شرح المواقف في بحث المسموعات.
حركات الأفلاك وما في أجرامها لها أسماء
الحركة البسيطة وتسمّى متشابهة وبالحركة حول المركز أيضا، وبالحركة حول النقطة أيضا، وهي حركة تحدث بها عند مركز الفلك في أزمنة متساوية زوايا متساوية. وبعبارة أخرى تحدث بها عند المركز في أزمنة متساوية قسي متساوية. والحركة المختلفة وهي ما لا تكون كذلك. والحركة المفردة وهي الحركة الصادرة عن فلك واحد وقد تسمّى بسيطة، لكن المشهور أنّ البسيطة هي المتشابهة. والحركة المركّبة وهي الصادرة عن أكثر من فلك واحد. وكل حركة مفردة بسيطة وكل مختلفة مركبة وليس كل بسيطة مفردة وليس كل مركّبة مختلفة. والحركة الشرقية وهي الحركة من المشرق إلى المغرب سمّيت بها بظهور الكوكب بها من الشرق، وتسمّى أيضا حركة إلى خلاف التوالي لأنّها على خلاف توالي البروج، والبعض يسمّيها بالغربية لكونها إلى جهة الغرب. والحركات الشرقية أربع: الأولى الحركة الأولى وهي حركة الفلك الأعظم حول مركز العالم سمّيت بها لأنها أول ما يعرف من الحركات السماوية بلا إقامة دليل، وتسمّى بحركة الكلّ أيضا إذ الفلك الأعظم يسمّى أيضا بفلك الكل لأنّ باقي الأجرام في جوفه وتسمّى أيضا بالحركة اليومية، لأنّ دورة الفلك الأعظم تتم في قريب من يوم بليلته على اصطلاح الحساب، وتسمّى أيضا بالحركة السريعة لأنّ هذه الحركة أسرع الحركات. الثانية حركة مدير عطارد حول مركزه وتسمّى حركة الأوج إذ في المدير الأوج الثاني لعطارد فيتحرك هذا الأوج بحركة المدير ضرورة. الثالثة حركة جوزهر القمر حول مركزه وتسمّى بحركة الرأس والذنب لتحركهما بهذه الحركة. الرابعة حركة مائل القمر حول مركزه وتسمّى حركة أوج القمر لتحركه بحركته. ولما كان الأوج كما يتحرك بهذه الحركة كذلك يتحرك بحركة الجوزهر أيضا. ويسمّى البعض مجموع حركتي الجوزهر والمائل بحركة الأوج صرّح به العلّامة في النهاية. والحركة الغربية كحركة فلك الثوابت وهي الحركة من المغرب إلى المشرق وتسمّى أيضا بالحركة إلى التوالي لأنها على توالي البروج والبعض يسميها شرقية أيضا لكونها إلى جهة الشرق، وتسمّى أيضا بالحركة البطيئة لأنها أبطأ من الحركة الأولى، وبالحركة الثانية لأنها لا تعرف أولا بلا إقامة دليل. وحركات السبعة السيارة أيضا تسمّى بالحركة الثانية والبطيئة وإلى التوالي والغربية أو الشرقية. فمن الحركات الغربية حركة فلك الثوابت. ومنها حركات الممثلات سوى ممثل القمر حول مراكزها وتسمّى حركات الأوجات والجوزهرات، وحركات العقدة. ومنها حركات الأفلاك الخارجة المراكز حول مراكزها. وحركة خارج مركز كل كوكب يسمّى بحركة مركز ذلك الكوكب اصطلاحا ولا تسمّى حركة مركز التدوير كما زعم البعض وإن كانت يطلق عليها بحسب اللغة. وحركة مركز القمر تسمّى بالبعد المضعف أيضا.
اعلم أنّ خارج مركز ما سوى الشمس يسمّى حاملا فحركة حامل كل كوكب كما تسمّى بحركة المركز كذلك تسمّى بحركة العرض لأنّ عرض مركز التداوير إنّما حصل بها فلهذه الحركة دخل في عرض الكوكب وهي أي حركة العرض هي حركة الطول بعينها إذا أضيفت وقيست إلى فلك البروج.
اعلم أنّ مركز التدوير إذا سار قوسا من منطقة الحامل في زمان مثلا تحدث زاوية عند مركز معدّل المسير ويعتبر مقدارها من منطقة معدل المسير، وبهذا الاعتبار يقال لهذه الحركة حركة المركز المعدّل الوسطى وتحدث أيضا زاوية عند مركز العالم ويعتبر مقدارها من منطقة البروج. وبهذا الاعتبار يقال لهذه الحركة حركة المركز المعدل. وإذا أضيفت إلى حركة المركز المعدّل حركة الأوج حصل الوسط المعدّل فإذا زيد التعديل الثاني على الوسط المعدّل أو نقص منه يحصل التقويم المسمّى بالطول وهذا في المتحيرة، ويعلم من ذلك الحال في النيرين.
فلهذا سميت بهذه الحركة المضافة إلى فلك البروج بحركة الطول. ومعنى الإضافة إلى فلك البروج أن تعتبر هذه الحركة بالنسبة إلى مركز فلك البروج الذي هو مركز العالم.
اعلم أنّ مجموع حركة الخارج والممثل في الشمس والمتحيّرة تسمّى حركة الوسط وقد تسمّى حركة المركز فقط بحركة الوسط وأهل العمل يسمّون مجموع حركة الممثل وفضل حركة الحامل على المدير في عطارد بالوسط، فإنهم لما سمّوا فضل حركة الحامل على حركة المدير في عطارد بحركة المركز سمّوا مجموع حركة الممثل والفضل المذكور بحركة الوسط.
وأما الوسط في القمر فهو فضل حركة المركز على مجموع حركتي الجوزهر والمائل، وتسمّى حركة مركز القمر في الطول أيضا وقد يسمّى جميع الحركات المستوية وسطا.
وحركة الاختلاف وهي حركة تدوير كل كوكب سمّيت بها لأنّ تقويم الكوكب يختلف بها، فتارة تزاد تلك الحركة على الوسط وتارة تنقص منه ليحصل التقويم وتسمّى أيضا حركة خاصة الكوكب لأنّ مركزه يتحرك بها بلا واسطة وهذه الحركة ليست من الشرقية والغربية لأنّ حركات أعالي التداوير لا محالة مخالفة في الجهة لحركات أسافلها لكونها غير شاملة للأرض فإن كانت حركة أعلى التدوير إلى التوالي أي من المغرب إلى المشرق كانت حركة الأسفل إلى خلافه، وإن كانت بالعكس فبالعكس. هذا كله مما يستفاد مما ذكره الفاضل عبد العلي البرجندي في تصانيفه في علم الهيئة والسيّد السّند في شرح الملخص.

الْقدَم يُنَافِي الْعَدَم

الْقدَم يُنَافِي الْعَدَم: أَي كل مَا كَانَ قَدِيما لَا يُمكن طريان الْعَدَم عَلَيْهِ لِأَن الْقَدِيم إِمَّا وَاجِب بِالــذَّاتِ أَو وَاجِب بِالْغَيْر وَعدم إِمْكَان طريان الْعَدَم على الْوَاجِب بِالــذَّاتِ تَعَالَى شَأْنه ظَاهر - وَإِن كَانَ الْقَدِيم وَاجِبا بِالْغَيْر فَلَا محَالة يكون مُسْتَندا إِلَى الْوَاجِب بِالــذَّاتِ بطرِيق الْإِيجَاب فَيكون الْوَاجِب بِالــذَّاتِ عِلّة تَامَّة لَهُ. وَلَا يُمكن طريان الْعَدَم عَلَيْهِ فَلَا يُمكن طريانه على معلوله أَيْضا وَإِلَّا لزم تخلف الْمَعْلُول عَن علته التَّامَّة وَهُوَ محَال بِالضَّرُورَةِ.
وَلَا يذهب عَلَيْك أَن كل مُسْتَند إِلَى الْوَاجِب بِالــذَّاتِ قديم مُسْتَمر بل المُرَاد أَن كل مُسْتَند إِلَيْهِ بِلَا وَاسِطَة أَو بِوَاسِطَة شَرط مُسْتَمر قديم - وَإِنَّمَا قَالُوا بطرِيق الْإِيجَاب لِأَن الْمُسْتَند إِلَى الْوَاجِب بِالــذَّاتِ بطرِيق الْقَصْد وَالِاخْتِيَار يكون حَادِثا إِذْ الْقَصْد إِنَّمَا يكون حَال الْعَدَم فَإِن الْقَصْد إِلَى إِيجَاد الْمَوْجُود مُمْتَنع بِالضَّرُورَةِ وَعَلِيهِ منع مَشْهُور.
تَقْرِيره لَا نسلم أَن يكون الصَّادِر عَن الْوَاجِب بِالــذَّاتِ بطرِيق الْقَصْد حَادِثا إِنَّمَا يلْزم ذَلِك إِذا كَانَ تقدم الْقَصْد على الْوُجُود بِحَسب الزَّمَان ليَكُون مُقَارنًا بِعَدَمِهِ وَهُوَ مَمْنُوع لم لَا يجوز أَن يكون تقدم الْقَصْد على الْوُجُود بِحَسب الــذَّات فَإِن قَصده تَعَالَى إِنَّمَا يكون كَامِلا فَكَمَا أَن تقدم الإيجاد على الْوُجُود ذاتــي لَا زماني بِأَن يكون الإيجاد فِي زمَان والوجود فِي زمَان آخر بل زَمَانه عين زمَان الْوُجُود فَكَذَلِك لم لَا يكون تقدم الْقَصْد الْكَامِل على الإيجاد تقدما ذاتــيا فَيكون زمَان الْقَصْد عين زمَان الإيجاد والوجود فَحِينَئِذٍ يكون الْمُسْتَند إِلَى الْوَاجِب بطرِيق الِاخْتِيَار قَدِيما لَا حَادِثا. وَالْقَصْد الْكَامِل مَا يكون مستلزما للمقصود وَهُوَ قصد الْوَاجِب تَعَالَى بِخِلَاف الْقَصْد النَّاقِص كقصدنا فَإِنَّهُ مُتَقَدم على الإيجاد والوجود فَإِنَّهُ يحْتَاج فِي حُصُول الْمَقْصُود بعده إِلَى مُبَاشرَة الْأَسْبَاب وَاسْتِعْمَال الْآلَات. وَبِالْجُمْلَةِ أَن الْقَصْد إِذا كَانَ كَافِيا فِي حُصُول الْمَقْصُود يكون مَعَه بِحَسب الزَّمَان فَلَا يلْزم حُدُوث الْمَقْصُود وَإِذا لم يكن كَافِيا فيتقدم عَلَيْهِ بِالزَّمَانِ فَيكون الْمَقْصُود حَادِثا بِالزَّمَانِ الْبَتَّةَ.
وَهَا هُنَا اعْتِرَاض وَهُوَ أَنا لَا نسلم أَن كل مُسْتَند إِلَى الْمُوجب بِالــذَّاتِ بطرِيق الْإِيجَاب بِوَاسِطَة شَرط مُسْتَمر قديم لجَوَاز أَن يكون وجود زيد الْقَدِيم مثلا مُسْتَندا إِلَى الْمُوجب بِالــذَّاتِ بِشَرْط أَمر عدمي ثَابت فِي الْأَزَل كَعَدم بكر فَإِن الإعدام أزلية فوجود زيد غير مَسْبُوق بِالْعدمِ ومستند إِلَى الْمُوجب الْقَدِيم. وَمَعَ هَذَا يجوز أَن يطْرَأ عَلَيْهِ الْعَدَم بِزَوَال شَرطه أَعنِي عدم بكر بِأَن يُوجد بكر فِيمَا لَا يزَال بِسَبَب تحقق جَمِيع مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ وجوده فَيكون انتفاؤه بِسَبَب انْتِفَاء شَرطه لَا لانْتِفَاء علته حَتَّى يلْزم عدم الْمُوجب الْقَدِيم - فَإِن قلت إِن ذَلِك الْأَمر العدمي إِمَّا مُسْتَند إِلَى الْمُوجب الْقَدِيم بِالــذَّاتِ بِلَا وَاسِطَة أَو بِوَاسِطَة شَرَائِطه العدمية لَا إِلَى نِهَايَة أَو إِلَى الْمُمْتَنع بِالــذَّاتِ وأياما كَانَ يمْتَنع زَوَال عدم الْحَادِث أما على الأول وَالثَّالِث فَظَاهر - وَأما على الثَّانِي فَلِأَن زَوَاله لَا يتَصَوَّر إِلَّا بِزَوَال تِلْكَ الوسائط الْغَيْر المتناهية وزوالها يسْتَلْزم وجود أُمُور غير متناهية وَهُوَ بَاطِل ببرهان التطبيق. فَنَقُول لَا نسلم أَن الْأَمر العدمي يحْتَاج إِلَى عِلّة فَإِن الإعدام غير محتاجة إِلَى سَبَب إِذْ عِلّة الِاحْتِيَاج عِنْد الْمُتَكَلِّمين هِيَ الْحُدُوث. وَأَنت تعلم أَن الِاحْتِيَاج غير مُتَحَقق فِي حَال الْعَدَم. نعم يتم الْجَواب على مَذْهَب الْحُكَمَاء فَإِن عِلّة الِاحْتِيَاج إِلَى الْعلَّة عِنْدهم هِيَ الْإِمْكَان لَكِن كلامنا على مَذْهَب الْمُتَكَلِّمين.

العمى

العمى: ضد البصر والبصيرة. والعماء السحاب والجهالة.وعند أهل الحقيقة: العماء هو المرتبة الأحدية.
العمى:
[في الانكليزية] Blindness
[ في الفرنسية] Cecite ،aveuglement
بفتح العين والميم لغة عدم البصر عمّا من شأنه أن يكون بصيرا. فالحجر لا يتّصف بالعمى. وعند الصوفية عبارة عن حقيقة الحقائق التي لا تتصف بالحقيقة ولا بالخلقية، فهي ذات محض لأنّها لا تضاف إلى مرتبة لا حقية ولا خلقية، فلا تقتضي لعدم الإضافة وصفا ولا اسما. وهذا معنى قوله عليه السلام: إنّ العمي ما فوقه هواء وما تحته هواء، يعني لا حقّ ولا خلق، فصار العمى مقابلا للأحدية. فكما أنّ الأحدية تضمحلّ فيها الأسماء والصفات ولا يكون لشيء فيها ظهور، كذلك العمي ليس لشيء من ذلك فيه مجال ولا ظهور. فالفرق بين العمى والأحدية أنّ الأحدية حكم الــذات في الــذات بمقتضى التعالي وهو الظهور الــذاتــي الأحدي، والعمى حكم الــذات بمقتضى الإطلاق، فلا يفهم منه تعال ولا تدان وهو البطون الــذاتــي العمائي، فهي مقابلة للأحدية، تلك صرافة الــذات بحكم التجلّي وهذه صرافة الــذات بحكم الاستتار، فتعالى الله أن يستتر عن نفسه من تجلّ ويتجلّى لنفسه عن الاستتار، هو على ما يقتضيه ذاتــه من التجلّي والاستتار والبطون والظهور والشئون والنّسب والاعتبارات والإضافات والأسماء والصفات، لا يتغيّر ولا يتحوّل ولا يلتبس شيئا، بل حكم ذاتــه هو ما عليه منذ كان، ولا يكون إلّا على ما كان، لا تبديل لخلق الله أي لوصف الله الذي هو عليه، إنّما هو بحكم ما يتجلّى به علينا ويظهر به لنا وهو في نفسه على ما هو عليه من الأمر الذي كان له قبل تجليه علينا وظهوره لنا، وبعد ذلك فهو على ذلك الحكم. لا يقبل ذاتــه إلّا التجلّي الذي هو عليه، فليس له إلّا تجلّ واحد، وليس للتجلّي الواحد إلّا اسم واحد، وليس للاسم الواحد إلّا وصف واحد، وليس للجميع إلّا واحد غير متعدّد، فهو متجلّ لنفسه في الأزل بما هو متجلّ له في الأبد. وبالجملة فإنّ هذا التجلّي الــذاتــي الذي هو عليه جامع لأنواع التجلّيات البواقي لا يمنعه كونه في هذا التجلّي أن يتجلّى بتجلّ آخر. لكن حكم التجلّيات الأخر تحته كحكم الأنجم تحت الشمس موجودة معدومة، على أنّ نور الأنجم في نفسها من نور الشمس، وكذلك باقي التجلّيات الإلهية إنّما هي رشحة من سماء هذا التجلّي وقطرة من بحره.
ثم اعلم بعد أن أعلمناك أنّ العمى هو نفس الــذات باعتبار الإطلاق في البطون والاستتار وأنّ الأحدية هي نفسه باعتبار التعالي في الظهور والتجلّي مع وجوب سقوط الاعتبارات فيها. وقولي باعتبار الظهور واعتبار الاستتار إنّما هو لإيصال المعنى إلى فهم السامع، لا أنّه من حكم العمى اعتبار البطون أو من حكم الأحدية اعتبار الظهور فافهم.
اعلم أنّ هذا التجلّي الواحد هو المستأثر الذي لا يتجلّى به لغيره، فليس للخلق فيه نصيب البتّة البتّة، لأنّ هذا التجلّي لا يقبل الاعتبار ولا الانقسام ولا الإضافة ولا الأوصاف ونحوها. ومتى كان لخلق فيه نسبة احتاجت إلى اعتبار أو نسبة أو وصف، وكلّ هذا ليس من حكم هذا التجلّي الذي هو عليه في ذاتــه من الأزل إلى الأبد، كذا في الانسان الكامل. ويقول في لطائف اللغات: العمى في اصطلاح الصّوفية عبارة عن مرتبة الأحدية، وبشكل آخر: بعض من مرتبة الواحدية..

الْإِمْكَان الاستعدادي

الْإِمْكَان الاستعدادي: وَيُسمى بالإمكان الوقوعي أَيْضا هُوَ مَا لَا يكون طرفه الْمُخَالف وَاجِبا بِالــذَّاتِ وَلَا بِالْغَيْر وَلَو فرض وُقُوع الطّرف الْمُوَافق لَا يلْزم الْمحَال بِوَجْه من الْوُجُوه وَالْأول أَعم من الثَّانِي مُطلقًا. وَقَالَ الْفَاضِل القوشجي فِي شرح التَّجْرِيد هُوَ أَي الْإِمْكَان الاستعدادي عبارَة عَن التهيؤ للكمال بتحقق بعض الْأَسْبَاب والشرائط وارتفاع بعض الْمَوَانِع قَابل للشدة والضعف بِحَسب الْقرب من الْحُصُول والبعد عَنهُ بِنَاء على حُصُول الْكثير مِمَّا لَا بُد مِنْهُ أَو الْقَلِيل فَإِن استعداد النُّطْفَة الإنسانية أَضْعَف من استعداد الْعلقَة لَهَا وَهُوَ من استعداد المضغة لَهَا واستعداد الْجَنِين للكتابة أَضْعَف من استعداد الطِّفْل لَهَا.
وَاعْلَم أَن الْمُمكن قد يكون لَهُ إمكانان وَقد لَا يكون فَإِن بعض الممكنات مِمَّا لَا يتأبى مُجَرّد ذَاتــه أَن تفيض من وجود المبدأ الْأَعْلَى بِلَا شَرط خَارج عَن ذَاتــه وعَلى مَا هُوَ مقوم ذَاتــه فَلَا محَال يفِيض عَن المبدأ الْجواد بِلَا تراخ ومهلة وَلَا سبق عدم زماني واستعداد جسماني لصلوح ذَاتــه وتهيؤ طباعه للحصول والكون. وَهَذَا الْمُمكن لَا يكون لَهُ إِلَّا نَحْو وَاحِد من الْكَوْن وَلَا محَالة نَوعه يكون منحصرا فِي شخصه إِذْ الحصولات الْمُخْتَلفَة والتخصصات المتعددة لِمَعْنى وَاحِد إِنَّمَا تلْحق لأجل أَسبَاب خَارِجَة عَن مرتبَة ذَاتــه وقوام حَقِيقَته فَإِن مُقْتَضى الــذَّات مُقْتَضى لَازم الــذَّات دَاخِلا كَانَ أَو خَارِجا لَا يخْتَلف وَلَا يتَخَلَّف فَلَا محَال لتَعَدد التشخصات وتكثر الحصولات. وَبَعضهَا مِمَّا لايكفي ذَاتــه ومقوماته الــذاتــية فِي قبُول الْوُجُود من دون الِاسْتِعَانَة بِأَسْبَاب اتفاقية وشروط غير ذاتــية فَلَيْسَ لَهُ فِي ذَاتــه إِلَّا قُوَّة التَّحْصِيل من غير أَن يصلح لقبوله صلوحا تَاما بعد انضياف تِلْكَ الشُّرُوط والمعدات إِلَى مَا يقبل قُوَّة وجوده وَهُوَ الْمُسَمّى بالمادة ليتهيأ لقبُول الْوُجُود وَيصير قريب الْمُنَاسبَة إِلَى فَاعله بعد مَا كَانَ بعيد الْمُنَاسبَة مِنْهُ فَلَا محَالة يَنْضَم إِلَى إِمْكَانه الــذاتــي إِمْكَان آخر متفاوت الْوُقُوع لَهُ ومادة حاملة ذَات تغير فِي زمَان هُوَ كمية تغيرها وانتقالها من حَالَة إِلَى حَالَة حَتَّى انْتَهَت إِلَى مُوَاصلَة مَا بَين الْقُوَّة الْقَابِلَة وَالْقُوَّة الفاعلة ليتحصل من اجتماعها ويتولد من ازدواجهما شَيْء من المواليد الوجودية. وَلما تحقق وَتبين أَن الممكنات مستندة فِي وجودهَا إِلَى سَبَب وَاجِب الْوُجُود والفيوضة لكَونه بِالْفِعْلِ من جَمِيع جِهَات الْوُجُود والإيجاد. وكل مَا كَانَ كَذَلِك اسْتَحَالَ أَن يخص بإيجاده وفيضه بعض القوابل والمستعدات دون بعض بل يجب أَن يكون عَام الْفَيْض فَلَا بُد أَن يكون اخْتِلَاف الْفَيْض لأجل اخْتِلَاف الْإِمْكَان واستعدادات الْموَاد.
ثمَّ إِن للممكنات طرا إمكانا فِي أَنْفسهَا وماهياتها فَإِن كَانَ ذَلِك كَافِيا فِي فيضان الْوُجُود عَن الْوَاجِب بِالــذَّاتِ عَلَيْهَا وَجب أَن تكون مَوْجُودَة بِلَا مهلة لِأَن الْفَيْض عَام والجود تَامّ وَأَن لَا يتخصص وجود شَيْء مِنْهَا بِحِين دون حِين والوجود بِخِلَاف ذَلِك لمَكَان حوادث الزمانية وَإِن لم يكن ذَلِك الْإِمْكَان الْأَصْلِيّ كَافِيا بل لَا بُد من حُصُول شُرُوط أخر حَتَّى يستعد لقبُول الْوُجُود عَن الْوَاجِب بِالــذَّاتِ فلمثل هَذَا الشَّيْء إمكانان. فقد ثَبت أَن لبَعض الممكنات إمكانين أَحدهمَا هُوَ وصف عَام وَمعنى وَاحِد عَقْلِي مُشْتَرك لجَمِيع الممكنات وَنَفس ماهياتها حاملة لَهُ وَالثَّانِي مَا يطْرَأ لبَعض الماهيات لقُصُور إِمْكَانه الْأَصْلِيّ فِي الصلاحية لقبُول إفَاضَة الْوُجُود فَلَا محَالة يلْحق بِهِ إِمْكَان عَيْني آخر قَائِم بِمحل سَابق على وجوده سبقا زمنيا بِهِ يستعد لِأَن يخرج من الْقُوَّة إِلَى الْفِعْل وَهُوَ الَّذِي يُسمى بالإمكان الاستعدادي هَذَا مَا قَالَ الْحَكِيم صَدرا فِي (الْأَسْفَار) وَلَا يخفى على الذكي مَا فِيهِ من المنوع.

الحقيقة

الحقيقة:
[في الانكليزية] Truth ،true meaning
[ في الفرنسية] Verite ،sens propre
بالفتح تطلق بالاشتراك في عرف العلماء على معان. منها قسم من الاستعارة ويقابلها المجاز وهذا اصطلاح أهل الفرس. ومنها ما هو مصطلح أهل الشرع والبيانيين من أهل العرب، قالوا كلّ من الحقيقة والمجاز تطلق بالاشتراك على نوعين لأنّ كلّا منهما إمّا في المفرد ويسمّيان بالحقيقة والمجاز اللغويين، وإمّا في الجملة ويسمّيان بالحقيقة والمجاز العقليين، وسيأتي في لفظ المجاز.
قال الأصوليون الحقيقة الشرعية واقعة خلافا للقاضي أبي بكر وهي اللفظ المستعمل فيما وضع له في عرف الشرع أي وضعه الشارع لمعنى بحيث يدلّ عليه بلا قرينة، سواء كان ذلك لمناسبة بينه وبين المعنى اللغوي فيكون منقولا أو لا فيكون موضوعا مبتدأ. وأثبت المعتزلة الحقيقة الدينيّة أيضا وقالوا بوقوعها، وهي اسم لنوع خاص من الحقيقة الشرعية، وهو ما وضعه الشارع لمعناه ابتداء بأن لا يعرف أهل اللغة لفظه أو معناه أو كليهما، وزعموا أنّ أسماء الذوات أي ما هي من أصول الدين أو ما يتعلّق بالقلب كالمؤمن والكافر والإيمان والكفر من قبيل الدينيّة دون أسماء الأفعال أي ما هي من فروع الدين، أو ما يتعلّق بالجوارح كالمصلّي والمزكّي والصلاة والزكاة. والظاهر أنّ الواقع هو القسم الثاني من الحقيقة الدينيّة فقط أعني ما لم يعرف أهل اللغة معناه.
ولا نزاع في أنّ الألفاظ المتداولة على لسان أهل الشرع المستعملة في غير معانيها اللغوية قد صارت حقائق فيها، بل النزاع في أنّ ذلك بوضع الشارع وتعيينه إياها بحيث تدلّ على تلك المعاني بلا قرينة لتكون حقائق شرعية كما هو مذهبنا، أو بغلبتها في تلك المعاني في لسان أهل الشرع. والشارع إنّما استعملها فيها مجازا بمعونة القرائن فتكون حقائق عرفية خاصّة لا شرعية كما هو مذهب القاضي. فإذا وقعت مجرّدة عن القرائن في كلام أهل الكلام والفقه والأصول ومن يخاطب باصطلاحهم تحمل على المعاني الشرعية وفاقا.
وأمّا في كلام الشارع فعندنا تحمل عليها إذ الظاهر أن يتكلّم باصطلاحه، وهذه المعاني هي الحقائق بالقياس إليه. وعند القاضي تحمل على معانيها اللغوية لأنّها غير موضوعة من جهة الشارع، فهو يتكلّم على قانون اللغة، فإنّ القاضي ينفي كونها حقائق شرعية زاعما أنّها مجازات لغوية. والحق أنّه لا ثالث لهما فإنّه ليس النزاع في أنّها هل هي بوضع من الشارع على أحد الوجهين وهو مذهب المعتزلة والفقهاء أو لا فيكون مجازات لغوية، وهو مذهب القاضي فلا ثالث لها حينئذ. ومنهم من زعم أنّ مذهب القاضي أنّها مبقاة على حقائقها اللغوية فتصير المذاهب ثلاثة، كونها حقائق لغوية وكونها مجازات لغوية وكونها حقائق شرعية. وإن شئت الزيادة على هذا القدر فارجع إلى العضدي وحواشيه.
ومنها المفهوم المستقل الملحوظ بالــذات كمفهوم الاسم وهذا المعنى من اصطلاحات أهل العربية أيضا. قال السيّد السّند قد تستعمل الحقيقة بهذا المعنى في بعض استعمالاتهم كذا في الأطول في بحث الاستعارة التبعية.
ومنها الماهية بمعنى ما به الشيء هو هو وتسمّى بالــذات أيضا. والحقيقة بهذا المعنى أعمّ من الكلية والجزئية والموجودة والمعدومة.
وأيضا إنّ الباء في به للسببية والضميران للشيء، فالمعنى الأمر الذي بسببه الشيء ذلك الشيء، ولو قيل ما به الشيء هو لكان أخصر. إن قلت هذا صادق على العلّة الفاعلية فإنّ الإنسان مثلا إنّما يصير إنسانا متمايزا عمّا عداه بسبب الفاعل وإيجاده ضرورة أنّ المعدوم لا يكون إنسانا بل لا يكون ممتازا عن غيره. قلت الفاعل ما بسببه الشيء موجود في الخارج لا ما به الشيء ذلك الشيء، فإنّ أثر الفاعل إمّا نفس ماهية ذلك الشيء مستتبعا له استتباع الضوء للشمس، والعقل ينتزع عنها الوجود ويصفها به على ما قال الإشراقيون وغيرهم القائلون بأنّ الماهية مجعولة، فإنّهم ذهبوا إلى أنّ الماهية هي الأثر المترتّب على تأثير الفاعل. ومعنى التأثير الاستتباع ثم العقل ينتزع منها الوجود ويصفها به. مثلا ماهية زيد يستتبعها الفاعل في الخارج ثم يصفها العقل بالوجود والوجود ليس إلّا اعتباريا عقليّا انتزاعيّا، كما أنّه يحصل من الشمس أثر في مقابلتها من الضوء المخصوص، وليس هاهنا ضوء منفرد في نفسه يجعل متصفا بالوجود، لكن العقل يعتبر الوجود ويصفه به فيقال وجد الضوء بسبب الشمس. وأمّا الماهية باعتبار الوجود لا من حيث نفسها ولا من حيث كونها تلك الماهية على ما ذهب إليه المشّائيون وغيرهم القائلون بأنّ الماهية ليست مجعولة، فإنّهم قالوا أثر الفاعل ثبوت الماهية في الخارج ووجودها فيه بمعنى أنّه يجعل الماهية متصفة به في الخارج، وأمّا الماهية فهي أثر له باعتبار الوجود لا من حيث هي، بأن يكون نفس الماهية صادرة عنه، ولا من حيث كونها تلك الماهية ماهية. فعلى كلا التقديرين أثر الفاعل الشيء الموجود في الخارج إمّا بنفسه وإمّا باعتبار الوجود لا كون الشيء ذلك الشيء ضرورة أنّه لا مغايرة بين الشيء ونفسه. فإن قلت الشيء بمعنى الموجود فيرد الإشكال المذكور. قلت لا نسلم ذلك بل هو بالمعنى اللغوي، أعني ما يصحّ أن يعلم ويخبر عنه ولو مجازا. وإن سلّمنا بناء على أنّ الأصل في التعريفات الحقيقة والاحتراز عن المجاز وإن كان مشهورا ففرق بين ما به الموجود موجود فإنّه فاعل وبين ما به الموجود ذلك الموجود فإنه الماهية، إذ لا مدخل للفاعل في كون هذا الموجود الممتاز بهذا الموجود الممتاز، بل تأثيره إمّا في نفسه أو في اتصافه بالوجود على ما عرفت. فإن قلت لا مغايرة بين الشيء وماهيته حتى يتصوّر بينهما سببية. قلت هذا من ضيق العبارة والمقصود أنه لا يحتاج الشيء في كونه ذلك الشيء إلى غيرها. وهذا كما قالوا الجوهر ما يقوم بنفسه إذ لا مغايرة بين الشيء ونفسه حتى يتصوّر القيام بينهما. وقد يجعل الضمير الثاني للموصول فالمعنى الأمر الذي بسببه الشيء هو ذلك الأمر بمعنى أنّه لا يحتاج في ثبوت ذلك الأمر له إلى غير ذلك الأمر، فلا يرد الإشكال بالفاعل، لكن ينتقض ظاهر التعريف بالعرضي، إذ الضاحك ما به الإنسان ضاحك. لكن لما كان مآل التعريف على ما قلنا هو أن لا يحتاج في كونه ذلك الأمر إلى غير ذلك الأمر فلا نقض بالحقيقة، لكن بقي الانتقاض بالــذاتــي بمعنى الجزء ظاهرا وباطنا لأنّ الإنسان في كونه ناطقا لا يحتاج إلى أمر غير الناطق، لأنّ ثبوته له غير معلّل بشيء.
ويمكن أن يقال المقصود تعريف الماهية بحيث يمتاز عن العرضي. ولذا ذكر بعض الفضلاء من أنه جرت عادة القوم في ابتداء مبحث الأمور العامّة ببيان الفرق بين الماهية وعوارضها دون ذاتــياتها، لأنه قد تشتبه الماهية بالعوارض فيما إذا عرض الشيء لنفسه كالكلّي للكلّي، بخلاف الــذاتــيات فإنه لا اشتباه بين الكلّ والجزء فتدبر. هذا كله خلاصة ما حققه المولوي عبد الحكيم في حاشية الخيالي.
وقال المولوي عصام الدين في حاشية شرح العقائد إنّ الضمير الأول ضمير فصل لإفادة أنّ ما به الشيء ليس إلّا الشيء وليس راجعا إلى الشيء. فالمعنى ما به الشيء هو الشيء أعني أمر باعتباره مع الشيء يكون الشيء هو الشيء ولا يثبت بإثباته للشيء إلّا نفسه بخلاف الجزء والعارض، فإنّه باعتباره مع الشيء وإثباته للشيء يكون الشيء غيره، فإنّك إذا اعتبرت مع الإنسان الإنسان لا يكون الإنسان إلّا إنسانا، ولو اعتبرت معه الناطق يكون الإنسان الناطق، ولو اعتبرت معه الضاحك يكون الإنسان الضاحك. وبهذا التحقيق سهل عليك ما صعب على كل ناظر فيه من التمييز بين ماهية الشيء وعلّته بهذا التعريف ونجوت عن تكلفات. واندفع أيضا أنّ أحد الضميرين زائد، ويكفي ما به الشيء هو، وأنه يرد بالــذاتــي، وأنّ كلمة الباء الدالة على السببية تقتضي الاثنينية، انتهى وهذا حسن جدّا.
اعلم أنّ الحقيقة بهذا المعنى يستعملها الحكماء والمتكلمون والصوفية.
التقسيم
قال المولوي عبد الرحمن الجامي في شرح الفصوص في الفص الأول: إنّ الحقائق عند الصوفية ثلاث. الأولى حقيقة مطلقة فعّالة واحدة عالية واجبة وجودها بــذاتــها وهي حقيقة الله سبحانه. والثانية حقيقة مقيّدة منفعلة سافلة قابلة للوجود من الحقيقة الواجبة بالفيض والتجلّي وهي حقيقة العالم. والثالثة حقيقة أحدية جامعة بين الإطلاق والتقييد والفعل والانفعال والتأثير والتأثر فهي مطلقة من وجه مقيدة من آخر، فعّالة من جهة منفعلة من أخرى. وهذه الحقيقة أحدية جمع الحقيقتين، ولها مرتبة الأولية والآخرية، وذلك لأنّ الحقيقة الفعّالة المطلقة في مقابلة الحقيقة المنفعلة المقيّدة، وكل متفرقتين فلا بد لهما من أصل هما فيه واحد وهو فيهما متعدد مفصل.
وظاهرية هذه الحقيقة هي المسماة بالطبيعة الكلية الفعّالة من وجه والمنفعلة من آخر، فإنّها تتأثّر من الأسماء الإلهية وتؤثّر في موادها. وكلّ واحد من هذه الحقائق الثلاث حقيقة الحقائق التي تحتها انتهى. وللحقيقة بهذا المعنى تقسيمات أخر تجيء في لفظ الماهية. وبعض ما يتعلّق بهذا المقام يجيء في لفظ الــذات أيضا.
ومنها الماهية باعتبار الوجود فعلى هذا لا تتناول المعدوم، وإطلاق الحقيقة بهذا المعنى أكثر من إطلاقها بمعنى الماهية مطلقا. قال شارح الطوالع وشارح التجريد إنّ الحقيقة والــذات تطلقان غالبا على الماهية مع اعتبار الوجود الخارجي كلية كانت أو جزئية انتهى. فعلى هذا لا يقال ذات العنقاء وحقيقتها كذا بل ماهيتها كذا. ومنها ما هو مصطلح الصوفية في كشف اللغات الحقيقة: عند الصوفية ظهور ذات الحقّ بدون حجاب التعيّنات ومحو الكثرة الموهومة في نور الــذات. انتهى كلامه. وفي مجمع السلوك أمّا الحق والحقيقة في اصطلاح مشايخ الصوفية فالحق هو الــذات والحقيقة هي الصفات. فالحق اسم الــذات والحقيقة اسم الصفات. ثم إنّهم إذا أطلقوا ذلك أرادوا به ذات الله تعالى وصفاته خاصة، وذلك لأنّ المريد إذا ترك الدنيا وتجاوز عن حدود النفس والهوى ودخل في عالم الإحسان يقولون دخل في عالم الحقيقة ووصل إلى مقام الحقائق، وإن كان بعد عن عالم الصفات والأسماء، فإذا وصل إلى نور الــذات يقولون وصل إلى الحق وصار شيخا لائقا للاقتداء به، وقلّما يستعملون ذلك في ذوات أخر وفي صفاتهم لأن مقصودهم الكلّي هو التوحيد. وقال الديلمي الحقيقة عند مشايخ الصوفية عبارة عن صفات الله تعالى والحق ذات الله تعالى. وقد يريدون بالحقيقة كل ما عدا عالم الملكوت وهو عالم الجبروت. والملكوت عندهم عبارة من فوق العرش إلى تحت الثرى وما بين ذلك من الأجسام والمعاني والأعراض.
والجبروت ما عدا الملكوت. وقال بعضهم الكبار وأما عالم الملكوت فالعبد له اختيار فيه ما دام في هذا العالم، فإذا دخل في عالم الجبروت صار مجبورا على أن يختار ما يختار الحق وأن يريد ما يريده، لا يمكنه مخالفته أصلا انتهى. وقيل الحقيقة هي التوحيد وقيل هي مشاهدة الربوبية ويجيء في لفظ الطريقة ما يزيد على هذا.
الحقيقة: اسم لما أريد به ما وضع له فعيلة في حق الشيء إذا ثبت، بمعنى فاعلة أي حقيق والتاء فيه للنقل من الوصفية إلى الاسمية كما في العلامة لا للتأنيث. واصطلاحا: هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له. حقيقة الشيء ما به الشيء هو هو كالحيوان الناطق للإنسان بخلاف نحو الضاحك والكاتب بما يتصور الإنسان بدونه. وقد يقال إن ما به الشيء هو هو باعتبار تحققه حقيقة، وباعتبار تشخصه هوية، ومع قطع النظر عن ذلك. ماهية الحقيقة العقلية جملة أسند فيها الفعل إلى ما هو فاعل عند المتكلم كقول المؤمن: أنبت الله البقل، بخلاف نهاره صائم، فإن الصائم ليس النهار. الحقيقة الشرعية ما لم يستفد اسمه إلا من الشرع.

الحقيقة عند أهل الحق: سلب آثار أوصافك عنك بأوصافه.

القدم

القدم: بفتحتين: ما يقوم عليه الشيء ويعتمد، ذكره الحرالي.وعند الصوفية: ما يثبت للعبد في علم الحق من باب السعادة والشقاوة، وإن اختص بالسعادة فهو قدم الصدق. أو بالشقاوة فقدم الجبار.
القدم:
[في الانكليزية] Foot
[ في الفرنسية] Pied
بفتح القاف والدال المهملة في اللغة الرّجل. وعند الرياضيين عبارة عن سبع المقياس وقد سبق في لفظ الظّل. والقدم في اصطلاح الصوفية عبارة عن الحكم الإلهي السابق في الأزل على العبد، وبه يصير العبد كاملا، كذا في لطائف اللغات. 
القدم:
[في الانكليزية] Eternity
[ في الفرنسية] Eternite
بالكسر وفتح الدال ديرينه شدن- أن يكون الشيء قديما- كما في الصراح، ويقابله الحدوث، وهما صفتان للوجود. وأمّا الماهية فإنّما توصف بهما باعتبار اتصاف وجودها بهما وقد يوصف بهما العدم، فيقال للعدم الغير المسبوق بالوجود قديم وللمسبوق به حادث. ثم كلّ من القدم والحدوث قد يؤخذ حقيقيا وقد يؤخذ إضافيا. أمّا الحقيقي فقد يراد بالقدم عدم المسبوقية بالغير سبقا ذاتــيا ويسمّى قدما ذاتــيا، وحاصله عدم احتياج الشيء في وجوده إلى غيره في حال ما أصلا، حتى يكون القديم ما لا يحتاج في وجوده في وقت ما إلى غيره، وهو يستلزم الوجوب، والقديم بهذا المعنى يستلزم الواجب. ويراد بالحدوث المسبوقية بالغير سبقا ذاتــيا سواء كان هناك سبق زماني أو لا ويسمّى حدوثا ذاتــيا، وحاصله احتياج الشيء في وجوده إلى غيره في وقت ما، فيكون الحادث ما يحتاج في وجوده إلى غيره في الجملة. وعلى هذا فالزمان حادث وقد يختصّ الغير بالعدم فيراد بالقدم عدم المسبوقية بالعدم سبقا زمانيا ويسمّى قدما زمانيا، وحاصله وجود الشيء على وجه لا يكون عدمه سابقا عليه بالزمان. فالقديم بالزمان هو الذي لا أوّل لزمان وجوده، ويراد بالحدوث المسبوقية بالعدم سبقا زمانيا ويسمّى حدوثا زمانيّا، وحاصله وجود الشيء بعد عدمه في زمان مضى، فالحادث الزماني ما يكون عدمه سابقا عليه بالزمان، وعلى هذا فالزمان ليس بحادث إذ لا يتصوّر حدوثه إلّا إذا سبقه زمان قارنه عدمه وذلك محال لاستحالة أن يكون وجود الشيء وعدمه مقارنين. وأمّا الإضافي فيراد بالقدم كون ما مضى من زمان وجود الشيء أكثر مما مضى من زمان وجود شيء آخر، فيقال للأوّل بالنسبة إلى الثاني قديم وللثاني بالنسبة إلى الأول حادث، فالحدوث كون ما مضى من زمان وجود الشيء أقلّ مما مضى من زمان وجود شيء آخر، فالقديم الــذاتــي أخصّ من الزماني والزماني من الإضافي فإنّ كلّما ليس مسبوقا بالغير أصلا ليس مسبوقا بالعدم ولا عكس كما في صفات الواجب، وكلّما ليس مسبوقا بالعدم فما مضى من زمان وجوده يكون أكثر بالنسبة إلى ما حدث بعده كالأب فإنّه قديم بالنسبة إلى الابن وليس قديما بالزمان.
والحدوث الإضافي أخصّ من الزماني والزماني من الــذاتــي، فإنّ كلّما يكون زمان وجوده الماضي أقلّ فهو مسبوق بالعدم ولا عكس فإنّ الأب مقيسا إلى ابنه فرد من أفراد القديم الإضافي وليس فردا من أفراد الحادث الإضافي مع أنّه حادث زماني. وبالجملة فالأب من حيث إنّه أب لابنه قديم إضافي وليس حادثا إضافيا، فالأب المأخوذ بتلك الحيثية هو مادة افتراق الحادث الزماني من الحادث الإضافي، وكلّما هو مسبوق بالعدم فهو مسبوق بالغير ولا عكس.

قال بعض الفضلاء: اختلفوا في تفسير الحدوث الــذاتــي، فمنهم من فسّره تارة بالاحتياج في الوجود إلى الغير وأخرى بمسبوقية استحقاقية الوجود أو العدم بحسب الغير وباستحقاقية الاستحقاقية ولا استحقاقية اللااستحقاقية الوجود. أو العدم بحسب الــذات. ومنهم من فسّره بتقدّم اقتضاء الوجود بالــذات على اقتضاء الوجود بالغير. والظاهر أنّ المراد بالاقتضاء واللااقتضاء معنى الاستحقاق واللااستحقاق، والأوّل من التفاسير المذكورة للحدوث يصدق على الموجود فقط ولا يعمّ الموجود والمعدوم إذ لا يسمّى الممكن حال عدمه حادثا. وقيل الحدوث الــذاتــي هو مسبوقية الوجود بالعدم أيضا كالحدوث الزماني إلّا أنّ السّبق في الــذاتــي بالــذات وفي الزماني بالزمان.
وقيل هو مسبوقية استحقاقية الوجود بلا استحقاقيته. اعلم أنّ القدم الــذاتــي والزماني من مخترعات الفلاسفة المتفرعة على كونه تعالى موجبا بالــذات. وأمّا عند المتكلّمين فالقديم مطلقا مفسّر بما لا يكون مسبوقا بالعدم.
فائدة:
القدم يوصف به ذات الله تعالى اتفاقا من الحكماء وأهل الملّة وصفاته أيضا عند الأشاعرة. وأمّا المعتزلة فأنكروه لفظا وقالوا به معنى فإنّهم أثبتوا أحوالا أربعة لا أوّل لها هي الوجود والحياة والعلم والقدرة، وزاد أبو هاشم خامسة هي علّة للأربعة مميّزة للــذات وهي الإلهية، كذا قال الإمام الرازي، وفيه نظر، لأنّ القديم موجود لا أوّل له وهذه أحوال ليست موجودة ولا معدومة عندهم. وأمّا غير ذات الله تعالى فلا يوصف بالقدم بإجماع المتكلّمين وجوّزه الحكماء إذ قالوا بقدم العالم. وأثبت الحرنانيون من المجوس قدماء خمسة اثنان منها عالمان حيّان وهما الباري والنفس، والمراد بالنفس ما يكون مبدأ للحياة وهي الأرواح البشرية والسماوية وثلاثة لا عالمة ولا حية ولا فاعلة هي الهيولى والفضاء أي الخلاء والدهر أي الزمان. هذا كله خلاصة ما في شرح المواقف وحواشيه وحواشي شرح التجريد والخيالي وغيرها.

الله

الله
صور القرآن الله المثل الأعلى في جميع صفات الكمال، فهو السميع الخبير، على كل شىء قدير، غفور رحيم، عزيز حكيم، حى قيوم، واسع عليم، بصير بالعباد، يحب المحسنين والصابرين، ولا يحب الظالمين، ويمحق الكافرين، غنى حميد، واحد قهار، نور السموات والأرض، قوى، شديد العقاب، خالق كل شىء، لا إله إلا هو، على كلّ شىء شهيد، عالم الغيب والشهادة، هو الرحمن الرحيم، الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، الخالق البارئ المصور، له الأسماء الحسنى، يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم، الأول والآخر، والظاهر والباطن، الصمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، سريع الحساب، غنى عن العالمين، عليم بــذات الصدور، بكل شىء محيط، علىّ كبير، عفو غفور، شاكر حليم، ليس بظلام للعبيد، يجزى المتصدقين، ولا يهدى كيد الخائنين، لا يخلف الميعاد، عزيز ذو انتقام، خير الرازقين، لطيف خبير، ذو القوة المتين. أوليس من يتصف بهذه الصفات المثالية جديرا بالعبادة والتقديس، وألا يتخذ له شريك، ولا من دونه إله.
ومن بين ما عنى القرآن به أكبر عناية إبراز صفة الإنعام التى يتصف بها الله سبحانه؛ فيوجه أنظارهم إلى النعمة الكبرى التى أودعها قلوبهم وهى نعمة الهدوء والسكينة يحسون بها، عند ما يعودون إلى بيوتهم، مكدودين منهوكى القوى، وإلى هدايتهم إلى بناء بيوت من جلود الأنعام، يجدونها خفيفة المحمل في الظعن
والإقامة، وإلى اتخاذ أثاثهم وأمتعتهم من أصوافها وأوبارها، وإلى نعمة الظل يجدون عنده الأمن والاستقرار، وإن للشمس وحرارتها لوقعا مؤلما في النفوس وعلى الأجسام، ومن أجمل وسائل الاستتار هذه الثياب تقى صاحبها الحر، وبها تتم نعمة الله، فيقول: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (النحل 79 - 81).
ويوجه أنظارهم إلى ما في خلق الزوج من نعمة تسكن إليها النفس، وتجد في ظلها الرحمة والمودة، فيقول: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الروم 21). وهو الذى يرزقهم، ويرزق ما على الأرض من دواب، لا تستطيع أن تتكفل برزق نفسها، وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (العنكبوت 60). وينبههم إلى ما في اختلاف الليل والنهار من تجديد النشاط للجسم، وبعث القوة في الأحياء وما في الفلك المسخرة تنقل المتاجر فوق سطح البحر، فتنفع الناس، وفي الماء ينزل من السماء فيحيى الأرض بعد موتها، وفي الرياح تحمل السحاب المسخر بين السماء والأرض، ينبههم إلى نفع ذلك كله فيقول: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (البقرة 164). ويسأل عمن يلجئون إليه، حين يملأ قلبهم الرعب من ظلمة البر البحر، أليس الله هو الذى ينجيهم منه ومن كل كرب، فيقول:
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (الأنعام 63 - 64).
ويحدثهم عن نعمة تبادل الليل والنهار، وعما خلق له الليل من نعمة الهدوء والسكون، وعن الشمس والقمر يجريان في دقة ونظام، فيحسب الناس بهما حياتهم، وينظمون أعمالهم، وعن النجوم في السماء تزينها كمصابيح، ويهتدى بها السائر في ظلمات البر والبحر، وعن المطر ينزل من السماء، فتحيا به الأرض وتنبت به الجنات اليانعة، ذات الثمار المشتبهة وغير المشتبهة، وكان للمطر في الحياة العربية قدره وأثره، فعليه حياتهم، فلا جرم أكثر القرآن من الحديث عنه نعمة من أجلّ نعمه عليهم، فيقول: فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (الأنعام 96 - 99)، وتحدث عن هذه النعم نفسها مرارا أخرى كقوله:
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (إبراهيم 32 - 34). وتحدث إليهم عما أنعم به عليهم من أنعام، فيها دفء ومنافع، وجمال، وعاد فذكرهم بنعمة المطر وإنباته الزرع، وخص البحر بالحديث عن تسخيره، وما نستخرجه منه من اللحم والحلى، وما يجرى فوقه من فلك تمخر عبابه، فقال: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (الأنعام 5 - 18)، وللأنعام في حياة العرب بالبادية ما يستحق أن يذكروا به، وأن يسجل فضله عليهم بها. ويوجه القرآن نظرهم إلى خلقهم وما منحهم الله من نعمة السمع والبصر والعقل، فيقول: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (الملك 23). وكثيرا ما امتنّ عليهم بنعمة الرزق، فيقرّرها مرة، ويقررهم بها أخرى، فيقول حينا: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (غافر 64). ويقول حينا: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (يونس 31). ويسترعى انتباههم إلى طعامهم الذى هو من فيض فضله، فيقول: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً وَأَبًّا مَتاعاً
لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ
(عبس 24 - 32).
وإن في إكثار القرآن من الحديث عن هذه النعم، وتوجيه أنظارهم إليها، وتقريرهم بها، ما يدفعهم إلى التفكير في مصدرها، وأنه جدير بالعبادة، وما يثير في أنفسهم شكرها وتقديس بارئها، ولا سيما أن تلك النعم ليست في طاقة بشر، وأنها باعترافهم أنفسهم من خلق العلىّ القدير. وهكذا يتكئ القرآن على عاطفة إنسانية يثيرها، لتدفع صاحبها عن طريق الإعجاب حينا، والاعتراف بالجميل حينا، إلى الإيمان بالله وإجلاله وتقديسه. كما أن ذلك الوصف يبعث في النفس حب الله المنعم، فتكون عبادته منبعثة عن حبه وشكر أياديه.
ومما عنى القرآن بإبرازه من صفات الله وحدانيته، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، وقد أبرز القرآن في صورة قاطعة أنه لا يقبل الشرك ولا يغفره: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (النساء 48)؛ ويعد الإشراك رجسا فيقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا (التوبة 28).
أوليس في هذا التصوير ما يبعث في النفس النفور منه والاشمئزاز؟!
والقرآن يعرض لجميع ألوان الإشراك، فيدحضها ويهدمها من أساسها، فعرض لفكرة اتخاذ ولد، فحدثنا في صراحة عن أنه ليس في حاجة إلى هذا الولد، يعينه أو يساعده، فكل من في الوجود خاضع لأمره، لا يلبث أن ينقاد إذا دعى، وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (البقرة 116، 117). وحينا يدفع ذلك دفعا طبيعيا بأن الولد لا يكون إلا إذا كان ثمة له زوجة تلد، أما وقد خلق كل شىء، فليس ما يزعمونه ولدا سوى خلق ممن خلق:
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (الأنعام 101، 102).
ويعرض مرة أخرى لهذه الدعوى، فيقرر غناه عن هذا الولد، ولم يحتاج إليه، وله ما في السموات وما في الأرض، فيقول: قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (يونس 68 - 70). ويعجب القرآن كيف يخيل للمشركين عقولهم أن يخصوا أنفسهم بالبنين ويجعلوا البنات لله، فيقول:
أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً (الإسراء 40).
ويصور القرآن- فى أقوى صور التعبير- موقف الطبيعة الساخطة المستعظمة نسبة الولد إلى الله، فتكاد- لشدة غضبها- أن تنفجر غيظا، وتنشق ثورة، وتخر الراسيات لهول هذا الافتراء، وضخامة هذا الكذب، وأصغ إلى تصوير هذا الغضب فى قوله: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (مريم 88 - 91). أما هؤلاء الذين دعوهم أبناء الله، فليسوا سوى عباد مكرمين، خاضعين لأمره، ولن يجرؤ واحد منهم على ادعاء الألوهية، أما من تجرأ منهم على تلك الدعوى فجزاؤه جهنم، لأنه ظالم مبين، وهل هناك أقوى في هدم الدعوى من اعترف هؤلاء العباد أنفسهم الذين يدعونهم أبناء، بأنهم ليسوا سوى عبيد خاضعين، ومن جرؤ منهم على دعوى الألوهية كان جزاؤه عذاب جهنم خالدا فيها، قال تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (الأنبياء 26 - 29).
وعلى هذا النسق نفسه جرى في الرد على من زعم ألوهية المسيح، فقد جعل المسيح نفسه يتبرأ من ذلك وينفيه، إذ قال: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (المائدة 116، 117).
وتعرض القرآن مرارا لدعوى ألوهية عيسى، وقوض هذه الدعوى من أساسها بأن هذا المسيح الذى يزعمونه إلها، ليس لديه قدرة يدفع بها عن نفسه إن أراد الله أن يهلكه، وأنه لا امتياز له على سائر المخلوقات، بل هو خاضع لأمره، مقر بأنه ليس سوى عبد الله، وليس المسيح وأمه سوى بشرين يتبوّلان ويتبرّزان، أو تقبل الفطرة الإنسانية السليمة أن تتخذ لها إلها هذا شأنه، لا يتميز عن الناس في شىء، ولا يملك لهم شيئا من الضر ولا النفع، ولننصت إلى القرآن مهاجما دعوى ألوهية عيسى قائلا: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (المائدة 17). لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
(المائدة 72 - 76).
وإن الغريزة لتنأى عن عبادة من لا يملك الضرر ولا النفع. وتأمل جمال الكناية في قوله: يَأْكُلانِ الطَّعامَ. والمسيح مقر- كما رأيت- بعبوديته ولا يستنكف أن يكون لله عبدا، لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (النساء 172).
وهاجم القرآن بكل قوة الإشراك بالله، وهو يهاجم ببلاغته العقل والوجدان معا فيأخذ في نقاش المشركين، ليصلوا إلى الحق بأنفسهم، ويلزمهم الحجة، ويقودهم إلى الصواب، فيسألهم عمن يرزقهم، ومن يملك سمعهم وأبصارهم، ومن يخرج الحى من الميت، ويخرج الميت من الحى، ومن يدبر أمر العالم، ومن يبدأ الخلق ثمّ يعيده، ومن يهدى إلى الحق، وإذا كان المشركون أنفسهم يعترفون بأن ذلك إنما هو من أفعال الله، فما قيمة هؤلاء الشركاء إذا، وما معنى إشراكهم لله في العبادة، أو ليس من يهدى إلى الحق جديرا بأن يعبد ويتّبع، أما من لا يهتدى إلا إذا اقتيد فمن الظلم عبادته، ومن الجهل اتباعه، وليست عبادة هؤلاء الشركاء سوى جرى وراءه وهم لا يغنى من الحق شيئا، وتأمل جمال هذا النقاش الذى يثير التفكير والوجدان معا: يثير التفكير بقضاياه، ويثير الوجدان بهذا التساؤل عن الجدير بالاتباع، وتصويره المشرك، مصروفا عن الحق، مأفوكا، ظالما، يتبع الظن الذى لا يغنى عن الحق شيئا، وذلك حين يقول: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (يونس 31 - 36). وفي التحدث إليهم عن الرزق، وهدايتهم إلى الحق، ما يثير في أنفسهم عبادة هذا الذى يمدهم بالرزق، ويهديهم إلى الحق، واستمع إلى هذا النقاش الذى يحدثهم فيه عن نعمه عليهم، متسائلا:
أله شريك في هذه النعم التى أسداها، وإذا لم يكن له شريك فيما أسدى، فكيف يشرك به غيره في العبادة؟ فقال مرة: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (النمل 59 - 71). أو ليس في إنبات الحدائق ذات البهجة، وتسيير الأنهار خلال الأرض، وإجابة المضطر إذا دعا، وكشف السوء، وجعلهم خلفاء الأرض، ما يبعث الابتهاج في النفس، والحب لله، ويدفع إلى عبادته وتوحيده ما دام هو الملجأ في الشدائد، والهادى في ظلمات البر والبحر، ومرسل الرياح بشرا بين يدى رحمته؟ ومرة يسائلهم قائلا: وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (القصص 70 - 73). أوليس في الليل السرمد والنهار السرمد ما يبعث الخوف في النفس، والحب لمن جعل الليل والنهار خلفة؟!
وكثيرا ما تعجب القرآن من عبادتهم ما لا يضر ولا ينفع. والقرآن يبعث الخوف من سوء مصير هؤلاء المشركين يوم القيامة، فمرة يصورهم محاولين ستر جريمتهم بإنكارهم، حين لا يجدون لها سندا من الحق والواقع، فيقول:
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (يونس 22 - 24).
وحينا يصورهم، وقد تبرأ شركاؤهم من عبادتهم، فحبطت أعمالهم، وضل سعيهم، وذلك حين يقول: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (يونس 28 - 30).
وحينا يصورهم هلكى في أشد صور الهلاك وأفتكها، إذ يقول: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (الحج 31). أما المصير المنتظر لمن يشرك بالله فأن يلقى في جهنم ملوما مدحورا.
ومن أبرز صفات الله في القرآن قدرته، يوجّه النظر إلى مظاهرها، ويأخذ بيدهم ليدركوا آثار هذه القدرة، مبثوثة في أرجاء الكون وفي أنفسهم، فهذه الأرض هو الذى بسطها فراشا، وتلك السماء رفعها بناء، وهذه الجبال بثها في الأرض أوتادا، وهذه الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، ووجه النظر إلى هذه الحبوب فلقها بقدرته، كما فلق النوى ليخرج منه النخل باسقات، ويوجه أنظارهم إلى ألوان المخلوقات وأنواعها وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (النور 45). وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (الروم 20 - 25). خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (لقمان 10). ويوجّه النظر إلى توالى الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر، فيقول: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (لقمان 29، 30)؛ وكرر ذلك مرارا عدة، كقوله: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (ق 6 - 11).
ويوجّه أنظارهم إلى قدرته في خلقهم، إذ يقول: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (آل عمران 6). ويقول: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (الزمر 6).
صوّر القرآن قدرة الله الباهرة التى لا يعجزها شىء، والتى يستجيب لأمرها كل شىء، بهذا التّصوير البارع إذ قال: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (يس 82).
ولما وجّه النظر إلى مظاهر قدرته، اتخذ ذلك ذريعة إلى إقناعهم بأمر البعث، فحينا يتساءل أمن خلق السموات والأرض، ولم يجد مشقة في خلقها يعجز عن إحياء الموتى، فيقول: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (الأحقاف 33). ويقرر أن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس، لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (غافر 57). ولذا صح هذا التساؤل ليقروا: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها وَالْجِبالَ أَرْساها مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (النازعات 27 - 33). وسوف نكمل الحديث عن ذلك في فصل اليوم الآخر.
ومن أظهر صفات الله في القرآن علمه، وإحاطة علمه بكل شىء في الأرض وفي السماء وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ (يونس 61). ويقول على لسان لقمان لابنه: يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (لقمان 16). أرأيت هذا التصوير المؤثر لإحاطة علم الله بكل شىء، فلا يغيب عنه موضع ذرّة بين طيات صخرة أو في طبقات السموات، أو في أعماق الأرض، ويعلم الله الغيب، ومن ذلك ما يرونه بأعينهم في كل يوم من أمور غيبيّة، يدركون أنها مستورة عليهم، مع قرب بعضها منهم، إذ يقول: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (لقمان 34). وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (طه 7). واقرأ هذا التصوير الشامل لعلمه في قوله: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ (الأنعام 59). وهكذا يصور القرآن شمول علم الله تصويرا ملموسا محسا.
ومن أظهر صفاته كذلك شدة قربه إلى الناس، ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (المجادلة 7). وأمر الرسول بأن يخبر الناس بقربه، يسمعهم ويصغى إليهم إذا دعوا، فقال: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ (البقرة 186). ولا يستطيع فرد أن يعيش بعيدا عن عينه، يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (الحديد 4). بل هو أقرب شىء إلى الإنسان، يعلم خلجات نفسه، ويدرك أسراره وخواطره لا يغيب عنه منها شىء، وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (ق 16).
والعدل، وقد أطال القرآن في تأكيد هذه الصفة، وأكثر من تكريرها، فكل إنسان مجزى بعمله وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (غافر 31). مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (فصلت 146). ويقرر في صراحة إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (يونس 44). وإِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ (النساء 40).
وإن في تقرير هذه الصفات وتأكيدها لدفعا للمرء إلى التفكير قبل العمل، كى لا يغضب الله العالم بكل صغيرة وكبيرة تصدر منه، والقريب إليه قربا لا قرب أشد منه، وفي تأكيد صفتى العلم والقرب ما يبعث الخجل في الإنسان من أن يعمل ما يغضب الله وما حرمه، وفي تأكيد صفة العدل ما يبعث على محاسبة النفس لأن الخير سيعود إليها ثوابه، والشر سيرجع عليها عقابه.
وكان وصف القرآن لله بالرحمة والرأفة والحلم والغفران والشكر، أكثر من وصفه بالانتقام وشدّة العذاب، بل هو عند ما يوصف بهما، تذكر إلى جانبهما أحيانا صفات الرحمة؛ فكثيرا ما يكرر القرآن معنى قوله: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (البقرة 143). وقوله: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (النساء 110). وأكّد هذا الوصف حتى قال: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (الأنعام 54). وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (المؤمنون 118). أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (الأعراف 155). ويفتح باب رحمته وغفرانه، حتى لمن أسرف ولج في العصيان، إذ يقول: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (الزمر 53). وبذلك كانت الصورة التى رسمها القرآن مليئة بالأمل والرجاء، تحيى في النفس التفاؤل، كما أن كثرة وصفه بالرحمة وأخواتها، تجعل عبادة الله منبعثة عن الحب، أكثر منها منبعثة عن الرهبة والخوف، ولكن لما كان كثير من النفوس يخضع بالرهبة دون الرغبة وصف القرآن الله بالعزة والانتقام وشدة العذاب، يقرن ذلك بوصفه بالرحمة حينا، ولا يقرنها بها حينا آخر، فيقول مرة: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (المائدة 98). غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ (غافر 3). إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (فصلت 43). ويقول أخرى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (الحشر 7). عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (المائدة 95). إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (آل عمران 4). وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (الزمر 37). وبرغم وصفه بالعزّة والانتقام والجبروت كانت الصفة الغالبة في القرآن هى الإنعام والرحمة والتّفضّل وأنه الملجأ والوزر، يجيب المضطرّ إذا دعاه، ويكشف السوء، وينجّى في ظلمات البرّ والبحر، فهى صورة محبّبة إلى النفوس، تدفع إلى العبادة، عبادة من هو جدير بها، لكثرة فضله وخيره وإنعامه.
وأفحم القرآن من ادّعى الألوهية من البشر إفحاما لا مخلص له منه، وذلك في الحديث الذى دار بين إبراهيم وهذا الملك الذى ادعى أنه إله، إذ يقول: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (البقرة 258).
وأرشد ــالقرآن إلى أن العقل السليم والفطرة المستقيمة يرشدان إلى وجود الله ويدلّان على وحدانيته، فهذا إبراهيم قد وجد قومه يتخذون أصناما آلهة، فلم ترقه عبادتهم، فمضى إلى الكون يلتمس إلهه، فلما رأى نورا يشع ليلا من كوكب في الأفق ظنه إلها، ولكنه لم يلبث أن رآه قد أفل، فأنكر على نفسه اتخاذ كوكب يأفل إلها، إذ الإله يجب أن يكون ذا عين لا تغفل ولا تنام، وهكذا أعجب بالقمر، واستعظم الشمس، ولكنهما قد مضيا آفلين، فأدرك إبراهيم أن ليس في كل هؤلاء من يستحق عبادة ولا تقديسا، وأنّ الله الحق هو الذى فطر السموات والأرض، واستمع إلى القرآن يصوّر تأمل إبراهيم في قوله: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (الأنعام 74 - 79).
كان الإيمان بالله ووحدانيته، أساس الدين الإسلامى، وقد رأينا كيف عنى القرآن بإبراز صفاته التى تتصل بالإنسان خالقا له، ومنعما عليه، وعالما بكل صغيرة وكبيرة تصدر منه، وقريبا منه أقرب إليه من حبل الوريد، ورحيما به، عادلا لا يظلمه، ولا يغبنه، يهبه الرزق، ويمنحه الخير، ويجيبه إذا دعاه. أو ليس من له هذه الصفات الكاملة جديرا من الناس بالعبادة والتقديس والتنزيه عن النقص والإشراك؟
الله: علم دَال على الْإِلَه الْحق دلَالَة جَامِعَة لمعاني الْأَسْمَاء الْحسنى كلهَا وَقد مر تَحْقِيقه فِي أول الْكتاب تبركا وتيمنا.
الله: وَإِنَّمَا افتتحت بِهَذِهِ الْكَلِمَة المكرمة المعظمة مَعَ أَن لَهَا مقَاما آخر بِحَسب رِعَايَة الْحَرْف الثَّانِي تيمنا وتبركا وَهَذَا هُوَ الْوَجْه للإتيان بعد هَذَا بِلَفْظ الأحمد وَالْأَصْحَاب وَاعْلَم أَنه لَا اخْتِلَاف فِي أَن لفظ الله لَا يُطلق إِلَّا عَلَيْهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا الِاخْتِلَاف فِي أَنه إِمَّا علم لــذات الْوَاجِب تَعَالَى الْمَخْصُوص الْمُتَعَيّن أَو وصف من أَوْصَافه تَعَالَى فَمن ذهب إِلَى الأول قَالَ إِنَّه علم للــذات الْوَاجِب الْوُجُود المستجمع للصفات الْكَامِلَة. وَاسْتدلَّ بِأَنَّهُ يُوصف وَلَا يُوصف بِهِ وَبِأَنَّهُ لَا بُد لَهُ تَعَالَى من اسْم يجْرِي عَلَيْهِ صِفَاته وَلَا يصلح مِمَّا يُطلق عَلَيْهِ سواهُ. وَبِأَنَّهُ لَو لم يكن علما لم يفد قَول لَا إِلَه إِلَّا الله التَّوْحِيد أصلا لِأَنَّهُ عبارَة عَن حصر الألوهية فِي ذَاتــه المشخص الْمُقَدّس. وَاعْترض عَلَيْهِ الْفَاضِل المدقق عِصَام الدّين رَحمَه الله بِأَنَّهُ كَيفَ جعل الله علما شخصيا لَهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا يتَحَقَّق إِلَّا بعد حُصُول الشَّيْء وحضوره فِي أذهاننا أَو القوى المثالية والوهمية لنا أَلا ترى أَنا إِذا جعلنَا العنقاء علما لطائر مَخْصُوص تصورناه بِصُورَة مشخصة بِحَيْثُ لَا يتَصَوَّر الشّركَة فِيهَا وَلَو بالمثال وَالْفَرْض وَهَذَا لَا يجوز فِي ذَاتــه تَعَالَى الله علوا كَبِيرا. فَإِن قلت وَاضع اللُّغَة هُوَ الله تَعَالَى فَهُوَ يعلم ذَاتــه بِــذَاتِــهِ وَوضع لفظ الله لــذاتــه الْمُقَدّس، قلت هَذَا لَا يُفِيد فِيمَا نَحن فِيهِ لِأَن التَّوْحِيد أَن يحصل من قَوْلنَا لَا إِلَه إِلَّا الله حصر الألوهية فِي عقولنا فِي ذَاتــه المشخص فِي أذهاننا وَلَا يَسْتَقِيم هَذَا إِلَّا بعد أَن يتَصَوَّر ذَاتــه تَعَالَى بِالْوَجْهِ الجزئي. هَذَا غَايَة حَاصِل كَلَامه وَقد أجَاب عَنهُ أفضل الْمُتَأَخِّرين الشَّيْخ عبد الْحَكِيم رَحمَه الله بِأَنَّهُ آلَة الْإِحْضَار وَهُوَ وَإِن كَانَ كليا لَكِن الْمحْضر جزئي وَلَا يخفى على المتدرب مَا فِيهِ لِأَنَّهُ إِن أَرَادَ أَن الْمحْضر جزئي فِي الْوَاقِع فَهُوَ لَا يُفِيد حصر الألوهية فِي أذهاننا كَمَا هُوَ المُرَاد. وَإِن أَرَادَ أَن الْمحْضر جزئي فِي عقولنا فَمَمْنُوع، فَإِن وَسِيلَة الْإِحْضَار والموصل إِلَيْهِ إِذا كَانَ كليا كَيفَ يحصل بهَا فِي أذهاننا محْضر جزئي وَمَا الْفرق بَين قَوْلنَا لَا إِلَه إِلَّا الله وَبَين قَوْلنَا لَا إِلَه إِلَّا الْوَاجِب لــذاتــه. فَإِن مَا يصدق عَلَيْهِ هَذَا الْمَفْهُوم أَيْضا جزئي فِي الْوَاقِع. فَإِن قلت التَّوْحِيد حصر الألوهية فِي ذَات مشخصة فِي نفس الْأَمر لَا فِي أذهاننا فَقَط. قلت فَهَذَا الْحصْر لَا يتَوَقَّف على جعل اسْم الله علما بل إِن كَانَ بِمَعْنى المعبود بِالْحَقِّ يحصل أَيْضا ذَلِك، وَلذَلِك يحصل بقولنَا لَا إِلَه إِلَّا الله إِلَّا الْوَاجِب لــذاتــه كَمَا سبق وَمن ذهب إِلَى الثَّانِي قَالَ إِنَّه وصف فِي أَصله لكنه لما غلب عَلَيْهِ تَعَالَى بِحَيْثُ لَا يسْتَعْمل فِي غَيره تَعَالَى وَصَارَ كَالْعلمِ أجري مجْرى الْعلم فِي الْوَصْف عَلَيْهِ وَامْتِنَاع الْوَصْف بِهِ وَعدم تطرق الشّركَة إِلَيْهِ. وَاسْتدلَّ، بِأَن ذَاتــه من حَيْثُ هُوَ بِلَا اعْتِبَار أَمر آخر حَقِيقِيّ كالصفات الإيجابية الثبوتية أَو غير حَقِيقِيّ كالصفات السلبية غير مَعْقُول للبشر فَلَا يُمكن أَن يدل عَلَيْهِ بِلَفْظ. ثمَّ على الْمَذْهَب الثَّانِي قد اخْتلف فِي أَصله فَقَالَ بَعضهم إِن لفظ الله أَصله إِلَه من إِلَه الآهة وإلها بِمَعْنى عبد عبَادَة والإله بِمَعْنى المعبود الْمُطلق حَقًا أَو بَاطِلا فحذفت الْهمزَة وَعوض عَنْهَا الْألف وَاللَّام لِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال أَو للْإِشَارَة إِلَى المعبود الْحق وَعند الْبَعْض من إِلَه إِذا فزع وَالْعَابِد يفزع إِلَيْهِ تَعَالَى وَعند الْبَعْض من وَله إِذا تحير وتخبط عقله، وَعند الْبَعْض من لاه مصدر لاه يَلِيهِ ليها ولاها إِذا احتجب وارتفع وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِكَمَال ظُهُوره وجلائه مَحْجُوب عَن دَرك الْأَبْصَار ومرتفع على كل شَيْء وَعَما لَا يَلِيق بِهِ. وَالله أَصله الْإِلَه حذفت الْهمزَة إِمَّا بِنَقْل الْحَرَكَة أَو بحذفها وعوضت مِنْهَا حرف التَّعْرِيف ثمَّ جعل علما إِمَّا بطرِيق الْوَضع ابْتِدَاء وَإِمَّا بطرِيق الْغَلَبَة التقديرية فِي الْأَسْمَاء وَهِي تَجِيء فِي موضعهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
ثمَّ اعْلَم أَن حذف الْهمزَة بِنَقْل الْحَرَكَة قِيَاس وَبِغَيْرِهِ خلاف قِيَاس وَهُوَ هَا هُنَا يحْتَمل احْتِمَالَيْنِ لَكِن على الثَّانِي الْتِزَام الْإِدْغَام ووجوبه قياسي لِأَن السَّاقِط الْغَيْر القياسي بِمَنْزِلَة الْعَدَم فَاجْتمع حرفان من جنس وَاحِد أَولهمَا سَاكن وعَلى الثَّانِي الْتِزَامه على خلاف الْقيَاس لِأَن الْمَحْذُوف القياسي كالثالث فَلَا يكون المتحركان المتجانسان فِي كلمة وَاحِدَة من كل وَجه وعَلى أَي حَال فَفِي اسْم الله المتعال خلاف الْقيَاس فَفِيهِ توفيق بَين الِاسْم والمسمى لِأَنَّهُ تَعَالَى شَأْنه خَارج عَن دَائِرَة الْقيَاس وطرق الْعقل وَعند أهل الْحق وَالْيَقِين رضوَان الله تَعَالَى عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ. حرف الْهَاء فِي لفظ الله إِشَارَة إِلَى غيب هويته تَعَالَى وَالْألف وَاللَّام للتعريف وَتَشْديد اللَّام للْمُبَالَغَة فِي التَّعْرِيف وَلَفظ الله اسْم أعظم من أَسْمَائِهِ تَعَالَى وَقد يُرَاد بِهِ وَاجِب الْوُجُود بِالــذَّاتِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {قل هُوَ الله أحد} وَفِي قَوْلهم والمحدث للْعَالم هُوَ الله الْوَاحِد فَلَا يلْزم اسْتِدْرَاك الْأَحَد وَالْوَاحد فيهمَا وتفصيله فِي الْأَحَد إِن شَاءَ الله الصَّمد.
الله: علم دال على الإله الحق دلالة جامعة لجميع الأسماء الحسنى.
(الله) علم على إلاله المعبود بِحَق أَصله إِلَه دخلت عَلَيْهِ ال ثمَّ حذفت همزته وأدغم اللامان
الله: تَبَارَكَ وتَعالى وجَلَّ جَلاَلُهُ- هو عَلَم دالٌّ على الإله الحقِّ دلالة جامعة لمعاني الأسماء الحسنى كلها قاله السيد في "التعريفات".

ذهن

ذ هـ ن : الذِّهْنُ الذَّكَاءُ وَالْفِطْنَةُ وَالْجَمْعُ أَذْهَانٌ. 
الذهن: قوة للنفس تشمل الحواس الظاهرة والباطنة، معدة لاكتساب العلوم.

الذهن: هو الاستعداد التام لإدراك العلوم والمعارف بالفكر. 
ذهن: ذِهْن وذَهَن: فكر، رأي. في الذهن، أو ذهناً: في الفكر، مثالي، تصوري (المقدمة 2: 52، 53).
على ذهن: ظاهراً، عن ظهر القلب، غيباً استظهاراً. (بوشر، همبرت ص 112).
باب الهاء والذال، والنون معهما ذ هـ ن مستعمل فقط

ذهن: الذِّهْنُ: حِفْظُ القَلْب، نقول: اجعَلْ ذِهْنَك إلى كذا وكذا.
ذهن
الذِّهْنُ: الحِفْظُ، ورَجُلٌ مَذْهُونٌ وقد ذُهِنَ: أي فاتَه الذِّهْنُ، والعَقْلُ. والمُسْتَذْهِنُ: الذي يَذْهَبُ بالذِّهْنِ والعَقْل. وما رأيتُ بالإبلِ ذِهْناً: أي شَحْماً وقُوَّةً.
(ذهن)
قرنه ذهنا غَلبه وفاقه جودة ذهن

(ذهن) ذهنا فطن وَالشَّيْء فهمه وعقله فَهُوَ ذهن وَهِي ذهنة

(ذهن) فلَان ذهب بذهنه فَلَا يعي فَهُوَ مذهون

(ذهن) ذهانة وعى ذهنه مَا أودعهُ

ذهن


ذَهَنَ(n. ac. ذَهْن)
a. Surpassed in intelligence.

ذَهِنَ(n. ac. ذِهْن
ذَهَن)
a. Understood.

ذَهُنَ(n. ac. ذَهَاْنَة)
a. Had a retentive memory.

ذَاْهَنَa. Surpassed in intelligence.

ذِهْن
(pl.
أَذْهَاْن)
a. Intelligence, understanding, sagacity; prudence;
memory.
b. Fat.

ذِهْنِيّa. Intellectual; subjective; ideal.

ذَهَن
(pl.
أَذْهَاْن)
a. see 2 (a)
ذَهِنa. Intelligent.
[ذهن] الذِهْنُ: الفطنة والحفظ. والذَهَنُ بالتحريك مثله. والذِهْنُ: القوَّة. وقال الشاعر أوس بن حجر: أنوءُ بِرجْلٍ بها ذِهْنُها وأَعْيَتْ بها أختها الغابره 

ذهن: الذِّهْنُ: الفهم والعقل. والذِّهْن أَيضاً: حِفْظُ القلب، وجمعهما

أَذْهان. تقول: اجعل ذِهْنَك إلى كذا وكذا. ورجل ذَهِنٌ وذِهْنٌ كلاهما

على النسب، وكأَنَّ ذِهْناً مُغيَّر من ذَهِنٍ. وفي النوادر: ذَهِنْتُ

كذا وكذا أَي فهمته. وذَهَنتُ عن كذا: فَهِمْتُ عنه. ويقال: ذَهَنَني عن

كذا وأَذْهَنَني واسْتَذْهَنَني أَي أَنساني وأَلهاني عن الذِّكْرِ.

الجوهري: الذَّهَُ مثل الذِّهْنِ، وهو الفِطْنة والحفظ. وفلانُ يُذاهِنُ الناس

أَي يُفاطنهم. وذاهَنَني فذَهَنْتُه أَي كنت أَجْوَدَ منه ذِهْناً.

والذِّهْنُ أَيضاً: القوَّة؛ قال أَوس بن حَجَر:

أَنُوءُ بِرجْلٍ بها ذِهْنُها

وأَعْيَتْ بها أُخْتُها الغابِرَه

والغابرة هنا: الباقية.

ذ هـ ن

ما رأينا بإبلك ذهنا يقيها السنة أي طرقاً وشحماً يقويها. وما برجلي ذهن: قوة على المشي. قال:

أنوء برجل بها ذهنها ... وأعيت بها أختها العاثره

واستذهنت السنة القصب: ذهبت بذهنها وهو نقيها.

ومن المجاز: هو من أهل الذهن والأذهان. وهو القوة في العقل والمسكة. واجعل ذهنك إلى ما أقول، وألق ذهنك. وقد ذهن ذهناً. وهو ذهن فطن زكن. وما يذهن فلان شيئاً: ما يعقله. قال الطرماح يصف واعظاً:

وأدلّ في عظة على ما لم يكن ... أبداً ليذهنه ذوو الأبصار

وفلان يذاهن الناس ويفاطنهم: يباريهم بفطنته، وقد ذاهنني فذهنته وهو مذهون. وقد ذهن: ذهب بذهنه. تقول: لقد غبنت وذهنت. واستذهنك حب الدنيا: ذهب بذهنك.
ذ هـ ن : (الذِّهْنُ) الْفِطْنَةُ وَالْحِفْظُ وَ (الذَّهَنُ) بِفَتْحَتَيْنِ مِثْلُهُ. ذُو بِمَعْنَى صَاحِبٍ فَلَا يَكُونُ إِلَّا مُضَافًا فَإِنْ وَصَفْتَ بِهِ نَكِرَةً أَضَفْتَهُ إِلَى نَكِرَةٍ وَإِنْ وَصَفْتَ بِهِ مَعْرِفَةً أَضَفْتَهُ إِلَى الْأَلِفِ وَاللَّامِ. وَلَا يَجُوزُ إِضَافَتُهُ إِلَى مُضْمَرٍ وَلَا إِلَى زَيْدٍ وَنَحْوِهِ. تَقُولُ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ ذِي مَالٍ وَبِامْرَأَةٍ (ذَاتِ) مَالٍ وَبِرَجُلَيْنِ (ذَوَيْ) مَالٍ بِفَتْحِ الْوَاوِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَبِرِجَالٍ ذَوَيْ مَالٍ وَبِنِسْوَةٍ (ذَوَاتِ) مَالٍ وَيَا ذَوَاتِ الْمَالِ بِكَسْرِ التَّاءِ فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ كَتَاءِ مُسْلِمَاتٍ. وَأَصْلُ ذُو (ذَوًى) مِثْلُ عَصًا، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: (ذَاتَ) مَرَّةٍ وَ (ذَا) صَبَاحٍ فَهُوَ ظَرْفُ زَمَانٍ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ تَقُولُ: لَقِيتُهُ ذَاتَ يَوْمٍ وَــذَاتَ لَيْلَةٍ وَــذَاتَ غَدَاةٍ وَــذَاتَ الْعِشَاءِ وَــذَاتَ مَرَّةٍ وَذَا صَبَاحٍ وَذَا مَسَاءٍ بِغَيْرِ تَاءٍ فِيهِمَا وَلَمْ يَقُولُوا ذَاتَ شَهْرٍ وَلَا ذَاتَ سَنَةٍ. وَقَوْلُهُمْ: كَانَ ذَيْتَ وَذَيْتَ مِثْلُ كَيْتَ وَكَيْتَ. 
ذهن
: (الذِّهْنُ، بالكسْرِ: الفَهْمُ والعَقْلُ.
(و) أَيْضاً: (حِفْظُ القَلْبِ) . يقالُ: اجْعَلْ ذِهْنَك إِلَى كَذَا وَكَذَا.
(و) أَيْضاً: (الفِطْنَةُ) ؛ كَمَا فِي الصِّحاحِ.
وقيلَ: هُوَ قوَّةٌ فِي النفْسِ معدَّةٌ لاكْتِسابِ العلومِ تشْملُ الحَوَاس الظاهِرَةَ والباطِنَةَ وشِدَّتها هِيَ الذَّكَاء وجودتها لتَّصوّر مَا يرد عَلَيْهَا هِيَ الفِطْنَةُ؛ (ويُحَرَّكُ) ؛ نَقَلَه الجَوْهرِيُّ.
(و) الذِّهْنُ: (القُوَّةُ) . ويقالُ: مَا برِجْلِي ذهْنٌ: أَي قوَّةٌ على المَشْيِ؛ وأَنْشَدَ الجَوْهرِيُّ لأَوْس بنِ حَجَر:
أَنُوءُ برِجْلٍ بهَا ذِهْنُهاوأَعْيَتْ بهَا أُخْتُها الغابِرَة (و) الذِّهْنُ: (الشَّحْمُ) . يقالُ: مَا رأَيْنا بإِبْلِكَ ذِهْناً يقيمها السّنة أَي طِرقاً وشَحْماً يُقوِّيها؛ (ج أَذْهانٌ) .
يقالُ: هُوَ مِن أَهْلِ الذِّهْنِ والأَذْهانِ: وَهُوَ القُوَّةُ فِي العقْلِ والمُسْكةِ؛ وَهُوَ مجازٌ. (و) يقالُ: (ذَهَنَني عَنهُ وأَذْهَنَني واسْتَذْهَنَنِي) : أَي (أَنْساني وأَلْهاني) عَن الذِّكْرِ.
(وذَاهَنَني فَذَهَنْتُه) : أَي (فاطَنَني فكُنْتُ أَجْوَدَ مِنْهُ ذِهْناً) ؛ وَهُوَ مَذْهونٌ.
(وذُهْنُ بنُ كَعْبٍ، بالضَّمِّ: بَطْنٌ من مَذْحِجٍ) .
قالَ الحافِظُ: وَالَّذِي فِي أَنْسابِ ابنِ السّمعانيِّ: الدَّهِنُ، بفتْحِ الدالِ المهْمَلَةِ وكسْرِ الهاءِ، هُوَ ابنُ كَعْبِ بنِ ربيعَةَ بنِ كعْبِ بنِ الحارِثِ بنِ كَعْبِ بنِ عَمْرِو بنِ عِلّة بنِ جلدِ بنِ مالِكِ بنِ أُدَدٍ؛ مِنْهُم: شريكُ بنُ الأَعْورِ، واسمُ الأَعْورِ الحارِثُ بنُ عبْدِ يغوثَ بنِ خَلَف بنِ سَلَمَةَ بنِ دُهْنٍ المَذْحجيُّ، كانَ فِي شيعَةِ عليَ، رضِيَ الِلَّهُ تَعَالَى عَنهُ، ماتَ بالكُوفَةِ فِي أَيامِ زِيادٍ.
وممَّا يُسْتدركُ عَلَيْهِ:
رجلٌ ذَهِنٌ، ككَتِفٍ، وذِهْنٌ، بالكسْرِ: أَي ذكيٌّ فَطِنٌ، كِلاهُما على النّسَبِ، وكأَنَّ ذِهْناً مغيَّرٌ عَن ذَهِنٍ وَقد ذَهِنَ، كعَلِمَ.
واذهَنَ إِلَى مَا أَقولُ افطنَ.
وَهُوَ لَا يَذْهَنُ شَيْئا: لَا يَعْقِلُ.
واسْتَذْهَنك حبُّ الدُّنْيا: ذَهَبَ بذهْنِك.
واسْتَذْهَنَتِ السّنةُ القَصَبَ: ذَهَبَتْ بذِهْنِها وَهُوَ نِقْيُها.
وَفِي النَّوادِرِ: ذَهِنْتُ كَذَا وَكَذَا: فَهِمْتُه.
وذَهَنْتُ عَن كَذَا: فهمت عَنهُ. 

ذهن

1 ذَهِنَ, (MA, TA,) aor. ـَ (TA,) inf. n. ذِهْنٌ and ذَهَنٌ, (MA, KL,) He was, or became, intelligent, possessed of understanding, sagacious, acute, skilful, knowing, (MA, KL, PS, TA,) and endowed with a retentive mind. (KL, PS.) Yousay, اِذْهَنْ إِلَى مَا أَقُولُ Understand thou what I say. (TA.) And هُوَ لَا يَذْهَنُ شَيْئًا He does not understand anything. (TA.) And ذَهِنْتُ كَذَا وَ كَذَا I understood such and such things. (TA) And ذَهِنْتُ عَنْ كَذَا I understood from such a thing. (TA.) A2: ذَاهَنَنِى فَذَهَنْتُهُ: see 3. b2: ذَهَنَنِى عَنْهُ, and ↓ أَذْهَنَنِى, and ↓ اِسْتَذْهَنَنِى, He, or it, made me to forget it; diverted me from remembering it: (K, * TA:) [like ذَهَلَنِى

عَنْهُ, and أَذْهَلَنِى.] And ذُهِنَ Memory, or understanding, escaped him, or left him. (JK.) 3 ذَاْهَنَ ↓ ذَاهَنَنِى فَذَهَنْتُهُ He vied with me, or contended with me for superiority, in intelligence, understanding, sagacity, acuteness, skill, or knowledge, and I surpassed him [therein, i. e.,] in ذِهْن. (K.) 4 أَذْهَنَ see 1.10 إِسْتَذْهَنَ see 1. b2: You say also, اِسْتَذْهَنَكَ حُبُّ الدُّنْيَا The love of the present world took away, or has taken away, thy ذِهْن [i. e. intelligence, understanding, &c.]. (TA.) b3: And اِسْتَذْهَنَتِ السَّنَةُ القَصَبَ (assumed tropical:) The year of drought took away the ذِهْن, i. e. pith (نِقْى), of the canes, or reeds. (TA.) ذِهْنٌ (JK, S, Msb, K, &c.) and ↓ ذَهَنٌ (S, K) Intellect, intelligence, understanding, sagacity, acuteness, skill, or knowledge; syn. عَقْلٌ, (JK, K,) and فَهْمٌ, (K,) and فِطْنَةٌ, (S, Msb, K,) and ذَكَآءٌ; (Msb;) and retentiveness of mind, or memory: (JK, * S, * K:) or, as some say, a faculty of the soul, provided for the acquisition of the several species of knowledge, including the external and internal senses: strength thereof is termed ذَكَآءٌ: and a good quality thereof for the forming ideas of the things that present themselves to it is termed فِطْنَةٌ: (TA:) pl. أَذْهَانٌ. (Msb, K. *) One says, اِجْعَلْ ذِهْنَكَ إِلَى كَذَا وَكَذَا [Apply thine intellect, &c., to such and such things]. (TA.) [Both are also inf. ns.: see 1, first sentence.] b2: Also, the former, (assumed tropical:) Strength: (JK, S, K:) and fat: (JK, K:) pl. as above. (K.) One says, مَا بِرِجْلَىَّ ذِهْنٌ There is not in my legs any strength to walk. (TA.) and هُوَ مِنْ أَهْلِ الذِّهْنِ and الأَذْهَانِ (tropical:) He is of those endowed with strength [of body: and also, of those endowed with intelligence, &c., and intelligent faculties]. (TA.) And مَا رَأَيْتُ بِالإِبِلِ ذِهْنًا (assumed tropical:) I saw not, in the camels, fat and strength. (JK.) b3: Also (assumed tropical:) The pith (نِقْى) of canes, or reeds. (TA.) A2: See also ذَهِنٌ.

ذَهَنٌ: see the next preceding paragraph.

ذَهِنٌ and ↓ ذِهْنٌ Intelligent, possessed of understanding, sagacious, acute, skilful, or knowing, [and endowed with a retentive mind;] each [said to be] a possessive epithet, [signifying possessing ذِهْن, though the former is agreeable with a general rule as part. n. of ذَهِنَ,] applied to a man; the latter app. changed [or contracted] from the former. (TA.) ذِهْنِىٌّ Of, or relating to, the ذِهْن, or intellect, &c.; intellectual; subjective; ideal. Hence, الأَمُورُ الذِّهْنِيَّةُ Intellectual things; the things that are conceived in the mind, or considered subjectively; opposed to الأَمُورُ الخَارِجِيَّةُ.]
ذهـن
ذهُنَ يَذهُن، ذَهانةً، فهو ذَهِن
• ذهُن فلانٌ: وعى ذهنُه ما أودعه من أفكار. 

ذهِنَ1 يذهَن، ذَهَنًا، فهو ذَهِن
• ذهِن الشَّخصُ: فهم، صار ذا فطنة "تلميذٌ ذَهِن". 

ذهِنَ2 يذهَن، ذهَنًا، فهو ذَاهِن، والمفعول مَذْهون
• ذهِن أمرًا: فهمه، وعقله "ذهِن الدرسَ- تلميذ ذَاهِن". 

ذاهنَ يُذاهن، مُذاهنةً، فهو مُذاهِن، والمفعول مُذاهَن
• ذاهَن فلانٌ فلانًا: فاطنَه وباراه في جودة الذهن. 

ذُهَان [مفرد]: (نف) اختلال شديد في القوى العقليّة، يؤدِّي إلى اختلال جميع وسائل التكيُّف والتوافق العقليّ والاجتماعيّ والمهنيّ والدينيّ، مع فقد القدرة على الاستبصار "ذُهان هذيانيّ- أصيب بذُهَان فنُقِل إلى مستشفى الأمراض النفسيّة".
• ذُهَان الشَّيخوخة: (طب) مرض عقليّ يصاحب الشيخوخة ولا ينتج عنها بالضرورة.
• الذُّهَان المسِّيّ الكآبيّ: (نف) مرض عقليّ وظيفيّ خطير يتَّصف بحدوث فترات من المسّ والكآبة تحدث بشكل متناوب وتتوقّف نوعيّتها على الشّخص المصاب.
• الذُّهَان الزَّهريّ: (طب) شلل غير عامّ في معظم الأحيان، منشؤه في الغالب الإصابة بمرض الزَّهريّ في القشرة الدِّماغيّة، ويتميّز بإصابة شديدة في التَّذكُّر. 

ذَهانة [مفرد]: مصدر ذهُنَ. 

ذَهَن [مفرد]:
1 - مصدر ذهِنَ1 وذهِنَ2.
2 - فطنة وذكاء وفهم. 

ذَهِن [مفرد]: صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من ذهُنَ وذهِنَ1: ذكيّ فَطِن. 

ذِهْن [مفرد]: ج أذهان:
1 - عقل وذكاء وفطنة "فلان حادّ/ بطيء/ متوقِّد الذِّهن- غاب عن ذهني كذا" ° ألقِ إليَّ ذهنك: أنصت إليَّ، وتمعَّن فيما أقول- اجعل ذهنك إلى ما أقول: انتبه إليَّ- علِق بذهنه: احتفظ به في ذاكرته- غليظ الذِّهن: عَديم الذّكاء- قدَح ذهنَه في الأمر/ شحذ ذهنَه
 في الأمر: فكَّر فيه طويلاً، استغرق في التفكير وأمعن فيه- متوقِّد الذِّهن/ ثاقب الذِّهن: سريع الخاطر، متيقِّظ دائمًا، نبيه.
2 - (نف) ما يُمكِّن الإنسانَ من الشعور بالظواهر النفسيّة وإجراء الحكم والتحليل.
3 - مجموعة العمليّات الواعية وغير الواعية لكائن ذي عقل توجّه وتؤثِّر على التصرُّف العقليّ والفعليّ "يتشتَّت ذهنُه: يفقد صفاءَ فكره وترابطه".
• شُرود الذِّهْن: (نف) عدم الانتباه إلى الظروف المحيطة أو الملابسات الطارئة. 

ذِهْنيّ [مفرد]:
1 - اسم منسوب إلى ذِهْن: عَقْليّ "عمل ذِهْنيّ- قوَّة ذِهنيّة".
2 - عمل يحدث، ويتمّ في العقل فقط، دون تعبير شفهيّ، أو كتابيّ "حساب ذِهْنيّ".
3 - طريقة تفكير مردُّها ومرجعها إلى معتقدات، وأفكار، وعادات تُميِّز مجتمعًا معيّنًا، أو جماعة بشريّة.
• مُستقِرّ ذهنيًّا: (نف) غير مُعرَّض للمرض العقليّ.
• صُورة ذهنيَّة: تخيُّل لما كان في الماضي أو يكون في المستقبل. 

ذا

ذا
ذا [كلمة وظيفيَّة]:
1 - اسم إشارة للمفرد المذكّر القريب، يأتي بثلاث صور: بإضافة (ها) التنبيه، وبإضافة كاف الخطاب مُتصرِّفة على حسب أحوال المخاطَب، وبإضافة كاف الخطاب ولام البعد "هذا البيت- ذاك الولد- ذلك المنزل- {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا} " ° لذا: لهذا السبب.
2 - اسم موصول بعد (ما) و (مَنْ) الاستفهاميَّتين "ماذا تقرأ؟ - مَنْ ذا أعطاك الكتاب؟ - {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ}: ما الذي أنزله ربّكم؟ ".
3 - اسم من الأسماء الخمسة في حالة النصب، بمعنى صاحب (انظر: ذ و - ذو) "كن ذا خلق- {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} ". 
ذ ا: (ذَا) اسْمٌ يُشَارُ بِهِ إِلَى الْمُذَكَّرِ وَ (ذِي) بِكَسْرِ الذَّالِ لِلْمُؤَنَّثِ، تَقُولُ: ذِي أَمَةُ اللَّهِ، فَإِنْ أَدْخَلْتَ عَلَيْهَا هَا التَّنْبِيهِ قُلْتَ: هَذَا زَيْدٌ وَهَذِي أَمَةُ اللَّهِ وَهَذِهِ أَيْضًا بِتَحْرِيكِ الْهَاءِ. وَتَثْنِيَةُ ذَا ذَانِ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُ الْأَلِفَيْنِ لِسُكُونِهِمَا فَتَسْقُطُ إِحْدَاهُمَا: فَمَنْ أَسْقَطَ أَلِفَ ذَا قَرَأَ «إِنَّ هَذَيْنِ لَسَاحِرَانِ» فَأَعْرَبَ. وَمَنْ أَسْقَطَ أَلِفَ التَّثْنِيَةِ قَرَأَ «إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ» لِأَنَّ أَلِفَ ذَا لَا يَقَعُ فِيهَا إِعْرَابٌ. وَقِيلَ: إِنَّهَا عَلَى لُغَةِ بَلْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ. وَالْجَمْعُ أُولَاءِ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ. فَإِنْ خَاطَبْتَ جِئْتَ بِالْكَافِ فَقُلْتَ: (ذَاكَ) وَ (ذَلِكَ) فَاللَّامُ زَائِدَةٌ وَالْكَافُ لِلْخِطَابِ وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا يُومَأُ إِلَيْهِ بِعِيدٌ وَلَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ. وَتُدْخِلُ هَا عَلَى ذَاكَ فَتَقُولُ: (هَذَاكَ) زَيْدٌ وَلَا تُدْخِلْهَا عَلَى ذَلِكَ وَلَا عَلَى أُولَئِكَ كَمَا لَمْ تُدْخِلْهَا عَلَى تِلْكَ. وَلَا تُدْخِلِ الْكَافَ عَلَى ذِي لِلْمُؤَنَّثِ وَإِنَّمَا تُدْخِلُهَا عَلَى تَا تَقُولُ: تِيكَ وَتِلْكَ وَلَا تَقُلْ: ذِيكَ فَإِنَّهُ خَطَأٌ. وَتَقُولُ فِي التَّثْنِيَةِ: (ذَانِكَ) فِي الرَّفْعِ وَ (ذَيْنِكَ) فِي النَّصْبِ وَالْجَرِّ وَرُبَّمَا قَالُوا: (ذَانِّكَ) بِالتَّشْدِيدِ وَلِلْمُؤَنَّثِ تَانِكَ وَتَانِّكَ أَيْضًا بِالتَّشْدِيدِ وَالْجَمْعُ أُولَئِكَ. وَحُكْمُ الْكَافِ سَبَقَ فِي - تَا -. 
ذا: لم يهمزوا ولا يُريدون بها إذن، ولكنها مثلُ:

تعلمتها لعَمْرُ اللهِ ذا قَسَما 

والأنثى في الأصل: ذاة، ولكنها كَثُرت على ألسنتهم فصار أكثرهم يقول ذات وهي ناقصة، وإتمامها ذواة مثل نواة، فحذَفوا منها الواو، فإذا ثَنَّوا أتَمّوها فقالوا: ذواتان كقولك: نَواتان، وإذا ثلثوا رجعوا إلى ذات فقالوا: ذوات، ولو جمعوا على التمام لقالوا: ذَوَيات كنَوَيات. وتصغرها ذُوَيَّةٌ، وقد سمعنا في الشعر من يبني على حَذف الواو كقوله: ذاتــا فلزم القياس، وقد وبناؤه على ذات وذاتــا. وأما ذِهِ وذي وذا في هذه وهذي وهذا فأسماءٌ مَكنيّاتٌ وليس في البناء فيها غير الذال والألف التي بعدها زائدة. وبيان ذلك أن تصغيرها ذبّا كأنّه بوزن فعا كما ينبغي في القياس، أو يكون بوزن فُعَيْلَى لو تَمَّ لأنّ ياء التصغير لا تعتمد إلاّ على ضمّة، ولم يرُدّوا الحرف الذي في موضع العَيْن فالتَزَقت ياء التصغير بالحرف الأول من الكلمة فاعتمدَتْ على الفتحةِ، وإذا صَغَّروا ذهِ وذي رَدُّوهما إلى بنائهما. والذي: تعريف ذا فلما قصرت قوَّوا اللام بلام أخرى، فمنهم من يقول: اللّذْ يُسكِّن الذال، ويحذف الياء التي بعدها وإنّهم لمّا أدخلوا في الأسْمِ لامَ المعرفة طَرَحوا الزيادة التي بعد الذال وسكَنَتِ الذال، فلما ثَنَّوا حَذَفُوا النون فأدخَلوا على الاثنين بحذف النون، كما أَدخَلوا على الواحد باسكان الذال، وكذلك فعَلوا في الجميع. وإنْ قالَ قائل: ألا قالوا: اللذو والجميع بالواو، فقل: إن الصوابَ ذلك في القياس، ولكنّ العربَ اجمَعَت على الذي بالياء في الجرِّ والرَّفْع والنّصب. وقد بَلَغَنا عن الحَسَن في مَواعِظه أنّه قال: اللذون فَعَلوا وفَعَلوا، وقال:

وإن الذي حانت بفَلْجٍ دِماؤهم ... هم القومُ كلُّ القومِ يا أمَّ خالِدِ 

وقال آخر:

أبني أُمَيَّةَ إنَّ عَمَّيَ اللذا ... قَتَلا المُلوكَ وفكَّكا الأَغلالا  وكذلك يقولون: اللَّتَا والَّتي، قال الشاعر:

هما اللَّتا أقصَدَني سَهْماهُما ... يا جارَتَيَّ اليومَ لا أنساهُما 

فإذا صَغَّرت الذي رجَعتَ إلى الأصل فقُلتَ، اللَّذَيّا واللَّتَيّا، وإذا جمَعْتَ اللَّذَيّا قلتَ: هم اللذيون وهن اللتيات فَعَلوا ذلك، لمّا جاءت الكلمةُ بالياءِ المشدَّدة التي بعد الذال أُجرِيَتْ مجْرَى الأسماء التي تجمَعُ بالواو والنون، فكانت الذال في الذي مفردةً في اللّذ فلّما قُوِّيَت بالياء ثم جُمِعَت بالواو والنون غَلَبَت الياءُ الواو فثَبَتَتْ وأزالَت الواو عن موضعها.
[ذا] ذا اسمٌ: يشار به إلى المذكرْ. وذي بكسر الذال للمؤنث. تقول: ذِي أَمَةُ اللهِ.نْ وقفْتَ عليه قلت: ذِهْ بهاء موقوفة. وهى بدل من الياء، وليست للتأنيث وإنما هي صلة، كما أبدلوا في هنية فقالوا هنيهة. فإن أدخلت عليه ها للتنبيه قلت: هذا زيد، وهذى أمة الله، وهذه أيضا بتحريك الهاء. وقد اكتفوا به عنه. فإن صغرت ذا قلت: ذيا بالفتح والتشديد، لانك تقلب ألف ذا ياء لمكان الياء قبلها، فتدغمها في الثانية وتزيد في آخره ألفا لتفرق بين المبهم والمعرب. وذيان في التثنية. وتصغير هذا: هذيا. ولا يصغر ذى للمونث وإنما يصغرتا، وقد اكتفوا به عنه. وإن ثنّيت ذا قلت ذان، لانه لا يصح (*) اجتماعهما لسكونهما فتسقط إحدى الالفين، فمن أسقط ألف ذا قرأ: (إن هذين لساحران) فأعرب. ومن أسقط ألف التثنية قرإ: (إن هذان لساحران) ، لان ألف ذا لا يقع فيها إعراب. وقد قيل إنها على لغة بلحارث بن كعب. والجمع أولاء من غير لفظه. فإن خاطبتَ جئتَ بالكاف فقلت: ذاكَ وذَلِكَ، فاللام زائدة والكاف للخطاب، وفيها دليلٌ على أنَّ ما يومأ إليه بعيدٌ. ولا موضعَ لها من الإعراب. وتُدْخِلُ " ها " على ذاكَ فتقول: هَذاكَ زيدٌ، ولا تُدْخِلُها على ذَلِكَ ولا على أُولَئِكَ كما لم تدخلها على تِلْكَ. ولا تُدخل الكاف على ذي للمؤنّث، وإنَّما تدخلها على تا، تقول: تيك وتلك، ولا تقل ذيك فإنه خطأ. وتقول في التثنية: رأيت ذَيْنِكَ الرجلين، وجاءني ذانِكَ الرجلان. وربَّما قالوا: ذانِّكَ بالتشديد، وإنَّما شدَّدوا تأكيداً وتكثيراً للاسم، لانه بقى على حرف واحد، كما أدخلوا اللام على ذلك، وإنما يفعلون مثل هذا في الاسماء المبهمة لنقصانها. وتقول للمؤنث: تانِكَ، وتانِّكِ أيضاً بالتشديد، والجمع أولَئِكَ. وحكم الكاف قد ذكرناه في تا. وتصغير ذا: ذَيَّاكَ، وتصغير ذَلِكَ: ذَيَّالِكَ. وقال: أو تحلفي بربك العلى * أنى أبوذيا لك الصبى وتصغير تلك تياك . وأما ذو الذي بمعنى صاحِبٍ فلا يكون إلاَّ مضافاً، فإنْ وصفتَ به نكرةً أضفتَه إلى نكرةٍ، وإن وصفتَ به معرفةً أضفته إلى الألف واللام، ولا يجوز أن تضيفه إلى مضمر ولا إلى زيد وما أشبهه. تقول: مررتُ برجلٍ ذي مالٍ، وبامرأة ذاتِ مالٍ، وبرجلين ذَوَيْ مالٍ بفتح الواو، كما قال تعالى: (وأشهدو ذوى عدل منكم) وبرحال ذوى مالٍ بالكسر، وبنسوة ذّواتِ مالٍ، ويا ذَواتِ الجِمامِ فتكسر التاء في الجمع في موضع النصب، كما تكسر تاء المسلمات. تقول (*) رأيت ذَواتِ مالٍ، لأنَّ أصلها هاء، لانك لو وقفت عيها في الواحد لقلت ذاهْ بالهاء، ولكنَّها لما وُصِلَتْ بما بعدها صارت تاءً. وأصل ذو ذَوًى مثل عَصاً، يدلُّ على ذلك قولهم: هاتانِ ذَواتا مالٍ. قال تعالى: (ذَواتا أفنانٍ) في التثنية. ونرى أنّ الألف منقلبة من واو ، ثم حذفت من أن ذوى عينُ الفعل لكراهتهم اجتماعَ الواوين، لأنَّه كان يلزم في التثنية ذووان مثل عصوان ، فبقى ذا منوّناً ثم ذهب التنوين للإضافة في قولك: ذو مالٍ. والإضافة لازمةٌ له، كما تقول: فُو زَيْدٍ وفا زَيْدٍ، فإذا أفردْتَ قلت: هّذا فَمٌ. فلو سمَّيت رجلاً ذو لقلت هَذا ذّوى قد أقبل، فتردّ ما ذهب، لأنَّه لا يكون اسمٌ على حرفين أحدهما حرفُ لين ; لأنَّ التنوين يذهبه فيبقى على حرفٍ واحد. ولو نسبتَ إليه قلت ذووى، مثال عصوى. وكذلك إذا نسبتَ إلى ذَاتٍ ; لأنَّ التاء تحذف في النسبة، فكأنّك أضفت إلى ذي فرددْتَ الواو. ولو جمعت ذو مالٍ قلت: هؤلاء ذَوُونَ، لأنَّ الإضافة قد زالت. قال الكميت: ولا أَعْني بذلك أَسْفَلِيكُمْ * ولكنِّي أريد به الذَوينا يعني به الأَذْواءَ وهم ملوك اليمن من قُضاعة المسمَّون بذي يَزَنَ، وذي جَدَنٍ، وذي نُواسٍ، وذي فائِشٍ، وذي أَصْبَحَ، وذي الكَلاع. وهم التَبابعة. وأما ذُو التي في لغة طيئ بمعنى الذى فحقُّها أن توصف بها المعارف، تقول: أنا ذُو عَرَفْتَ وذو سَمِعْتَ، وهَذِهِ المرأةُ ذُو قالت كذا، يستوي فيه التثنية والجمع والثأنيث. قال الشاعر : ذاك خليلي وذو يعاتبني * يرمى ورائي بامسهم وا مسلمه يريد الذى يعاتبني، والواو التي قبله زائدة. قال سيبويه: إن ذَا وحدها بمنزلة الذي، (*) كقولهم: ماذا رأيت؟ فتقول: متاعٌ حسنٌ. قال لبيد: ألاَ تَسْأَلانِ المرء ماذا يحاول * أأب فيقضى أم ضلالٌ وباطلُ قال: وتجرى مع ما بمنزلة اسمٍ واحدٍ، كقولهم: ماذا رأيت؟ فتقول: خيراً، بالنصب كأنَّه قال: ما رأيت؟ ولو كان ذا ههنا بمنزلة الذي لكان الجواب خيرٌ بالرفع. وأما قولهم ذاتُ مرّةٍ وذُو صباحٍ، فهو من ظروف الزمان التي لا تتمكَّن. تقول: لقيته ذاتَ يومٍ وذاتَ ليلةٍ وذاتَ غَداةٍ وذاتَ العِشاءِ وذاتَ مرّةٍ وذات الزمين ذات العويم، وذا صباحٍ وذا مَساءٍ وذا صَبوحٍ وذا غَبوقٍ، فهذه الأربعة بغيرها هاءٍ وإنَّما سُمِعَ في هذه الأوقات، ولم يقولوا: ذاتَ شهرٍ ولا ذاتَ سنةٍ. قال الأخفش في قوله تعالى: (وَأَصْلِحوا ذاتَ بَيْنِكُم) إنّما أنّثوا ذاتَ لأنَّ بعض الأشياء قد يُوضع له اسمٌ مؤنّث ولبعضها اسمٌ مذكَر، كما قالوا دارٌ وحائطٌ، أنّثوا الدار وذكَّروا الحائط. وقولهم: كان ذَيْتَ وذَيْتَ، مثل كيت وكيت، أصله ذيؤ على فعل ساكنة العين، فحذفت الواو فبقي على حرفين فشُدِّدَ كما شُدِّدَ كَيُّ إذا جعلته اسماً، ثم عُوِّضَ من التشديد التاء. فإنْ حذفْتَ التاء وجئت بالهاء فلا بد من أن تردَّ التشديد، تقول: كان ذَيِّت وذَيَّة. وإن نسبْتَ إليه قلت ذَيَويٌّ، كما تقول بَنَوِيٌّ في النسبة إلى البنت.
[ذا] ذا إِشارَةٌ إِلى المُذَكَّرِ يُقالُ ذَا وذاكَ وقَدْ تُزادُ الّلامُ فيُقالُ ذلِكَ وقولُه تَعالَى {ذلك الكتاب} البقرة 2 قالَ الزَّجّاجُ مَعْناهُ هذا الكِتابُ وقد تَدْخُلُ عَلَى ذا ها الَّتِي للتَّنْبِيه فيُقال هذا قالَ أَبو عَلِيٍّ وأَصْلُه ذَيْ فأَبْدَلُوا ياءَه أَلِفًا وإِن كانت ساكِنَةً ولَمْ يَقُولوا ذَيْ لِئَلا يُشْبِهَ كَيْ وأَي فأَبْدَلُوا ياءَه أَلِفًا ليُلْحَقَ ببابِ مَتَى وإِذا ويَخْرُجَ من شَبَهِ الحَرْفِ بعضَ الخُروج وقولُه تَعالَى {قالوا إن هذان لساحران} طه 63 قال الفَرّاءُ أَرادَ ياءَ النَّصْبِ ثم حَذَفَها لسُكُونِها وسُكونِ الأَلِفِ قَبْلَها ولَيْسَ ذلِك بالقَوِيِّ وذلِكَ أَنَّ الياءَ هي الطارِئَةُ على الأَلِفُ فيجبُ أَن تُحْذَفَ الأَلِفُ لمكانِها فأَمَّا ما أَنْشَدَه اللِّحْيانِيُّ عن الكسائِيِّ لجَمِيلٍ من قَوْلِه

(وأَتَى صَواحِبُها فقُلْنَ هَذَا الَّذِي ... مَنَح المَوَدَّةَ غيرَنَا وجَفانَا)

فإِنَّه أَرادَ أَذَا الَّذِي فأَبْدَلَ الهاءَ من الهَمْزَةِ وقد اسْتُعْمِلَتْ ذا مكانَ الَّذِي كقَوْلِه تَعالَى {ويَسْئَلُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوٌ} البقرة 219 أَي مَا الَّذِي يُنْفِقُونَ فيمَنْ رَفَع الجَوابَ فرَفْعُ العَفْو يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ما مَرْفُوعةٌ بالابْتداءِ وذا خَبَرُها ويُنْفِقُونَ صِلَةُ ذا وأَنَّه ليسَ ما وذا جميعًا كالشَّيْءِ الواحدِ هذا الوَجْهُ عند سِيبَوَيْهِ وإِن كانَ قد أَجازَ الوَجْهَ الآخَرَ مع الرَّفْعِ وذِي للمُؤَنَّثِ وفِيه لُغاتٌ ذِي وذِهْ الهاء بدل من الياء الدَّلِيلُ على ذلِكَ قَوْلُهُم في تَحْقِير ذَا ذَيّا وذِي إِنّما هيَ تأنِيثُ ذا ومن لَفْظِه وكما لا تَجِدُ الهاءَ في المُذَكَّرِ أَصْلاً فكذلك هِيَ أَيضًا في المُؤنَّثِ بَدَلٌ غيرُ أَصْلٍ وليست الهاءُ في هذِه وإِن اسْتُفِيدَ منها التَّأْنِيث بمَنْزِلَة هاءِ طَلْحَةَ وحَمْزَةَ لأَنَّ الهاءَ في طَلْحَةَ وحَمْزَةَ زائدَةٌ إِنَّما هي بدَلٌ من الياءِ الَّتِي هي عينُ الفِعْلِ في هَذِيَ وأَيْضًا فإِن الهاءَ في حَمْزَةَ تجدُها في الوَصْلِ تاءً والهاءَ في هذِه ثابِتَةٌ في الوَصْلِ ثَباتَها في الوَقْفِ ويُقالُ ذِهِي والياءُ لبَيانِ الهاءِ شَبَّهَها بهاءِ الإضمارِ في بِهِي وهذِي وهاذِهِي وهاذِهْ الهاءُ في الوَصْلِ والوَقْفِ ساكِنَةٌ إِذا لم يَلْقَها ساكِنٌ فإِن لَقِيَها لم يَكُنْ بُدٌّ مِن كَسْرِها وهَذِ كُلّها في مَعْنَى ذي عن ابن الأَعْرابِيِّ وأَنشد

(قُلْتُ لَها يا هَذِ هذا إِثِمْ ... )

(هَلْ لَكِ في قاضِ إِلَيْهِ نَحْتَكِمْ ... )

وقد أَبَنْتُ حَقِيقَةَ تَصْرِيفِ ذلك في الكِتابِ المُخَصِّصِ ويُوصَلُ ذلك كُلُّه بكافِ المُخَاطَبةِ قال ابنُ جِنِّي أَسماءُ الإشارةِ نحو هذا وهذِه لا يَصِحُّ تَثْنِيةُ شيءٍ مِنها من قِبَلِ أَنَّ التَّثْنِيَةَ لا تَلْحَقُ إِلا النّكِرَةَ فما لا يَجُوزُ تنكِيرُه فهُوَ بأَن لا تَصِحَّ تَثْنِيَتُه أَجْدرُ فأَسْماءُ الإشارَةِ لا يَجُوزُ أن تُنَكَّرَ ولا يَجوزُ أَن يُثَنَّى شَيْءٌ مِنها أَلا تَراها بَعْدَ التَّثْنِيَةِ عَلَى حَدٍّ ما كانَتْ عليه قبلَ التَّثْنِيَةِ وذلِك نحو قَوْلِكَ هذانِ الزَّيْدانِ قائِمَيْنِ فنَصْبُ قائِمَينِ بمَعْنَى الفعلِ الَّذِي دَلَّتْ عليهِ الإشارَةُ والتَّنْبِيهُ كما كنتَ تَقُولُ في الواحِدِ هذا زَيْدٌ قائمًا فتَجِدُ الحالَ واحِدَةً قبلَ التَّثْنِيَةِ وبعدَها وكَذلِكَ قَوْلُك ضَرَبْتُ اللَّذَيْنِ قامَا إِنَّما يَتَعَرَّفان بالصِّلَةِ كما يَتَعَرَّفُ بها الواحِدُ في قَوْلِكَ ضربت الذي قام والأَمْرُ في هذه الأَشْياءِ بعدَ التَّثْنِيَةِ هو الأَمْرُ فِيها قَبْلَ التَّثْنِيَةِ وليسَ كذلك سائِرُ الأَسْماءِ المُثَنّاةِ نحو زَيْدٍ وعَمْرٍ وأَلا تَرَى أَن تَعْرِيفَ زَيْدٍ وعَمْرٍ وإِنّما هو بالوَضْعِ والعلمِيَّةِ فإِذا ثَنَّيْتَهُما تَنَكّرَا فقُلْتَ عِنْدِي عَمْرانِ عاقِلانِ فإِن آثَرْتَ التَّعْرِيف بالإضافَةِ أَو باللامِ قلتَ الزَّيْدانِ والعَمْرانِ وزَيْداكَ وعَمْراكَ فقد تَعَرّفا بعد التَّثنِية من غيرِ وَجْهِ تَعَرُّفِهما قَبْلَها ولَحِقَا بالأَجْناسِ وفارَقا ما كانَا عليه من تَعْرِيفِ العَلَمِيَّةِ والوَضْعِ فإِذا صَحَّ ذلك فيَنْبَغِي أَن تَعْلَمَ أَنّ هذان وهاتان إِنَّما هي أَسماءٌ مَوْضُوعةٌ للتَّثْنِيةِ مُخْتَرَعَةٌ لها ولَيْسَت تثْنِيَةً للواحِدِ عَلى حَدِّ زَيْدٍ وزَيْدانِ إِلا أَنَّها صِيغَتْ عَلَى صُورَةِ ما هُوَ مُثَنَّى على الحَقِيقَةِ فقِيلَ هذان وهاتانِ لِئَلاّ تَخْتَلِفَ التَّثْنِيَةُ وذلك أَنَّهم يحافِظُونَ عليها ما لا يُحافٍ ظُونَ على الجَمْعِ أَلا تَرَى أَنّك تَجِدُ في الأَسماءِ المُتَمكِّنَةِ أَلْفَاظَ الجُموعِ مِن غَيْرِ أَلْفاظِ الآحادِ وذلك نحو رَجُلٍ ونَفَرٍ وامْرَأَةٍ ونِسْوَةٍ وبَعيرٍ وإِبِلٍ وواحِدٍ وجَماعَة ولا تَجِدُ في التَّثْنِيةِ شيئًا من هذا إِنَّما هيَ من لَفْظِ الواحد نحو زَيْد وزَيْدان ورَجُل ورَجُلان لا يَخْتَلِفُ ذلك وكَذلك أيضًا كَثِيرٌ من المَبْنِيّاتِ عَلَى أَنَّها أَحقُّ بذلِكَ من المُتَمَكِّنَة وذلك نحو اذا وأُلاءِ وذَات وأُولى وأُلات وذُو وأُلُو ولا تَجِدُ ذلك في تَثْنِيَتها نحو ذَا وذَان وذُو وذَوان فهذا يدُلُّكَ عَلَى مُحافَظَتِهم على التَّثْنِيَة وعِنايَتِهم بها أَعْنِي أَن تَخْرُجَ على صُورةٍ واحِدةٍ لِئَلا تَخْتَلِف وأَنَّهم بها أَشَدُّ عِنايةً منهم بالجَمْعِ فلذلِك لمّا صِيْغَتْ للتًّثْنِيَة أسماءٌ مُخْتَرَعَةٌ غيرُ مُثَنّاةٍ على الحَقِيقة كانَت عَلَى أَلفاظِ المُثَنّاةِ تَثْنِيَة حَقِيقِيَّة وذلك ذان وتان والقَوْلُ في اللًّذانِ واللَّتانِ كالقَوْلِ في ذان وتان قالَ ابنُ جِنِّي فأَمَّا قَوْلُهم هذانِ وهاتانِ وفذَانِّك فإِنَّما ثُقِّلَتْ في هذه المَواضِع لأَنَّهُم عَوَّضُوا بتَثْقِيلِها من حَرْفٍ مَحْذُوف أما في هذانِّ فهي عِوَضٌ من أَلِف ذَا وهي في ذانِّك عِوضٌ من لامِ ذلِكَ وقد يُحْتَملُ أيضًا أَن تكونَ عِوَضًا من أَلفِ ذلِكَ وقالوا كانَ من الأَمْرِ ذَيَّهْ وذَيًّهْ بتَشْدِيد الياءِ وبالهاءِ وذَيْتَ وذَيْتَ بتَخْفِيفِ الياءِ وإِبدالِ التّاءِ من الياءِ الثانِية ولذلِك كُتِبَتْ في التَّخفيفِ بالتاء لأَنّها كانَتْ حِينَئَذٍ مُلْحَقةً بدَعْد وإِبدالُ التّاءِ من الياءِ قَلِيلٌ إِنّما جاءً في قولهم كَيْتَ وكَيْتَ وفي قَوْلِهم ثِنْتانِ قالَ والقولُ فِيهما كالقَوْلِ في كَيْتَ وكَيْتَ وقد تَقَدَّم
ذَا
: ( {ذَا: إشارةٌ إِلَى المُذَكَّرِ، تقولُ: ذَا} وذاكَ) ، الكافُ للخِطابِ وَهُوَ للبَعِيدِ.
قَالَ ثَعْلبُ والمبرِّدُ: {ذَا يكونُ بمعْنَى هَذَا؛ وَمِنْه قولهُ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عنْدَه إلاَّ بإذْنِهِ} ، أَي مَنْ هَذَا الَّذِي يَشْفَع.
وَقَالَ أَبو الهَيْثم: ذَا اسْمُ كلِّ مُشارٍ إِلَيْهِ مُعايَنٍ يَراهُ المُتكلِّم المُخاطِبُ، قَالَ: والاسْمُ فِيهَا الذالُ وحْدُها مَفْتوحَة، وَقَالُوا: الذالُ وَحْدُها هِيَ الاسْمُ المُشارُ إِلَيْهِ، وَهُوَ اسمٌ مُبْهمٌ لَا يُعرَف مَا هُوَ حَتَّى يُفَسِّره مَا بعْدَه كَقَوْلِك: ذَا الرَّجُلُ، وَذَا الفرسُ.
(وتُزادُ لاماً) للتَّأْكيدِ (فيُقالُ: ذلِكَ) ، والكافُ للخِطابِ؛ وفيهَا دَليلٌ على أنَّ المُشارَ إِلَيْهِ: بَعِيدٌ، وَلَا مَوْضِع لَها مِن الإعْرابِ. وقولهُ تَعَالَى: {} ذَلكَ الكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} ، قَالَ الزجَّاج: مَعْناه هَذَا الكِتابُ.
قُلْت: وَقَالَ غيرُه إنَّما قالَ ذلكَ لبُعْدِ مَنْزلتِه فِي الشَّرَفِ والتّعْظيمِ.
(أَو هَمْزاً فيُقالُ: {ذائِكَ) ، هَذِه الهَمْزةُ بدلٌ من الَّلامِ، وكِلاهُما زائِدتَانِ (ويُصَغَّرُ فيُقالُ:} ذَيَّاكَ) ، هُوَ تَصْغيرُ ذاكَ، (و) أَمَّا تَصْغيرُ ذلِكَ: ( {ذَيَّالِكَ) ؛ وأَنْشَدَ الجَوْهرِي لبعضِ الَّرجَّاز:
أَو تَحْلِفي بِرَبِّكِ العَلِيِّ
أنِّي أَبو} ذَيَّالِكَ الصَّبِيِّ قُلْت: هُوَ لبعضِ العَرَبِ وقَدِمَ من سَفَرِه فوجَدَ امْرأَتَه قد وَلَدَتْ غُلاماً فأنْكَره فقالَ لَهَا:
لَتَقْعُدِنَّ مَقْعَدَ القَصِيِّ
مِنِّي ذَا القاذُورَةِ المَقْلِيِّأَو تَحْلِفي برَبِّكِ العَلِيِّ
أنِّي أَبو ذَيَّالِكَ الصَّبِيِّقدْ رابَني بالنَّظَر الركيِّ (8)
ومُقْلةٍ كمُقْلَةِ الكُرْكِيِّفقالت:
لَا وَالَّذِي رَدَّكَ يَا صَفِيِّ
مَا مَسَّنِي بَعْدَكَ مِن إنْسِيِّغيرِ غُلامٍ واحدٍ قَيْسِيِّ
بَعْدَ امرَأَيْنِ مِنْ بَني عَدِيِّوآخَرَيْنِ مِنْ بَني بَلِيِّ
وخَمْسة كَانُوا على الطَّوِيِّوسِتَّةٍ جاؤُوا مَعَ العَشِيِّ
وغيرِ تُرْكِيَ وبَصْرَوِيِّ (وَقد تَدْخُلُ هَا التَّنْبِيه على {ذَا) فتقولُ:} هَذَا زَيْدٌ، فها حَرْفُ تَنْبيهٍ، وَذَا: اسْمُ المُشارِ إِلَيْهِ، وزيْدٌ هُوَ الخَبَرُ.
( {وذِي) ، بالكسْر، (و) إنْ وَقفْتَ عَلَيْهِ قُلْتَ: (} ذِهْ) بهاءٍ مَوْقُوفَةٍ، وَهِي بدلٌ مِن الياءِ وليسَتْ للتّأْنِيثِ وإنَّما هِيَ صِلَةٌ، كَمَا أَبْدلُوا فِي هُنَيَّةٍ فَقَالُوا هُنَيْهة، وكِلاهُما (للمُؤَنَّثِ) ، تقولُ: ذِي أَمَةُ اللهاِ، {وذِهْ أَمَةُ اللهاِ؛ وأَنْشَدَ المبرِّدُ:
أَمِنْ زَيْنَبَ} ذِي النارُ
قُبَيْلَ الصُّبْحِ مَا تَخْبُوإذا مَا خَمَدَتْ يُلْقى
عَلَيها المَنْدَلُ الرَّطْبُقال ثَعْلَب: ذِي مَعْناهُ ذِهْ، وَلَا تَدْخُلُ الكافُ على ذِي للمُؤَنَّثِ، وإنَّما تُدْخَلُها على تا، تقولُ: تِيكَ وتِلْكَ وَلَا تَقُلْ ذِيكَ، فإنَّه خَطَأٌ.
وممَّا يُسْتدركُ عَلَيْهِ:
تَصْغِيرُ {ذَا} ذَيَّا، لأنَّك تَقْلِبُ أَلفَ ذَا ياءَ لمَكانِ الياءِ قَبْلها فتُدْغِمُها فِي الثانيةِ وتُزِيدُ فِي آخرِه أَلِفاً لِتَفْرُقَ بينَ تَصْغير المُبْهَم والمُعْرَب، {وذَيَّان فِي التَّثْنيةِ، وتَصْغيرُ هَذَا هَذَيَّا، وَلَا يُصَغَّرُ ذِي للمُؤَنَّثِ وإنَّما يُصَغَّرُ تا، وَقد اكْتفُوا بِهِ، وَإِن ثَّنيْتَ،} ذَا قلْتَ {ذانِ لأنَّه لَا يصحُّ اجْتِماعُهما لسكونِهما فتَسْقُط إحْدَى الألِفَيْن، فمَنْ أْسَقَطَ أَلفَ ذَا قرَأَ: {إنَّ} هذَيْنِ لَساحِرانِ} فأَعْرَبَ، ومَنْ أَسْقَط أَلِفَ التَّثْنيةِ قَرأَ: {إنَّ هذانِ لَساحِرانِ} لأنَّ أَلفَ ذَا لَا يَقَعُ فِيهَا إعْرابٌ؛ وَقد قيل: إنَّها لغةُ بلحارِثِ بنِ كعْبٍ، كَذَا فِي الصِّحاح.
قَالَ ابنُ برِّي عنْدَ قولِ الجَوْهرِي مَنْ أَسْقَطَ أَلفَ التَّثْنيةِ قرَأَ: {إنَّ! هذانِ لَسَّاحِرانِ} : هَذَا وَهمٌ مِن الجَوْهرِي لأنَّ أَلفَ التَّثْنيةِ حَرْفٌ زِيدَ لمعْنًى، فَلَا تَسقُط وتَبْقى الألَفُ الأصْليَّةُ كَمَا لم يَسْقُط التَّنْوين فِي: هَذَا قاضٍ، وتَبْقى الياءُ الأصْليَّةُ لأنَّ التَّنّوينَ زِيدَ لمعْنًى فَلَا يصحُّ حذْفهُ، انتَهَى.
وتدخلُ الهاءُ على ذَاكَ فتقولُ: {هذاكَ زيْدٌ، وَلَا تدخلُها على ذلِكَ وَلَا على أُولئِكَ كَمَا تقدَّمَ، وتقولُ فِي التَّثْنيةِ رأَيْتُ} ذَيْنِكَ الرَّجُلَيْن، وجاءَني {ذانِكَ الرَّجُلانِ، ورُبَّما قَالُوا} ذانِّكَ بتَشْديدِ النونِ.
قَالَ ابنُ برِّي: قُلِبَتِ اللامُ نُوناً وأُدْغِمتِ النُّون فِي النونِ، وَمِنْهُم مَنّ يقولُ تَشْديدُ النونِ عِوَضٌ مِن الألفِ المَحْذوفَةِ مِن ذَا.
قَالَ الجَوْهرِي: وإنَّما شَدَّدوا النُّونَ فِي ذانِكَ تأْكيداً وتكْثيراً للاسْمِ لأنَّه بَقِي على حَرْفٍ واحدٍ كَمَا أَدْخلُوا اللامَ على ذلكَ، وإنَّما يَفْعلونَ مثْلَ هَذَا فِي الأسْماءِ المُبْهمةِ لنُقصانِها؛ وأَمَّا مَا أَنْشَدَه اللّحياني عَن الكِسائي لجميلٍ:
وأَتَى صَواحِبُها فَقُلْنَ {هَذَا الَّذِي
مَنَحَ المَوَدَّةَ غَيْرَنا وجَفانافإنَّه أَرادَ} أَذا الَّذِي، فأبْدلَ الهاءَ مِن الهَمْزةِ؛ وسَيَأتي للمصنِّفِ فِي الهاءِ المُبْدلَة قرِيباً.
وَقد اسْتُعْمِلَت ذَا مَكان، الَّذِي كقولهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ {مَاذَا يُنْفِقُونَ} ، أَي مَا الَّذِي، فَمَا مَرْفُوعةٌ بالابْتِداءِ وَذَا خَبَرُها، ويُنْفِقُونَ صِلَةُ ذَا.
وكَذلكَ هَذَا بمعْنَى الَّذِي؛ وَمِنْه قولُ الشاعرِ:
عَدَسْ مَا لعباد عَلَيْك امارةٌ
نَجَوْتِ} وَهَذَا تَحْمِلينَ طليقُ أَي {الَّذِي.
وَقد تكونُ ذِي زائِدَةً؛ كَمَا فِي حديثِ جريرٍ: (يطلعُ عَلَيْكم رجُلٌ مِن ذِي يمنٍ على وجْهِهِ مسْحَةٌ مِن ذِي ملكٍ) . قَالَ ابنُ الْأَثِير: كَذَا أوْرَدَه أَبُو عُمر الزَّاهِد، وقالَ: إنَّها صلَةٌ أَي زائِدَةٌ.
ويقالُ فِي تأْنِيثِ هَذَا:} هَذِه مُنْطَلِقَة، وَقَالَ بعضُهم: {هذي مُنْطلقَةٌ؛ قَالَ ذُو الرُّمّة:
} فهذِي طَواها بُعْدَ {هذِي وَهَذِه
طَواها} لهِذِي وخْدُها وانْسِلالُهاوقال بعضُهم: {هَــذاتِ مُنْطَلقاتٌ، وَهِي شاذَّةٌ مَرْغوبٌ عَنْهَا؛ قَالَ أَبو الهَيْثم: وقولُ الشاعرِ:
تمنّى شبيبٌ مِنّةً ينفلت بِهِ
} وَذَا قطري لفّه مِنْهُ وائلُيُريدُ قطريًّا، وَذَا زائِدَةٌ.

ذا



ذَا is said by Aboo-'Alee to be originally ذَىْ; the ى, though quiescent, being changed into ا: (M:) or it is originally ذَيَى or ذَوَى; the final radical letter being elided: some say that the original medial radical letter is ى because it has been heard to be pronounced with imáleh [and so it is now pronounced in Egypt]; but others say that it is و, and this is the more agreeable with analogy. (Msb.) It is a noun of indication, [properly meaning This, but sometimes, when repeated, better rendered that,] relating to an object of the masc. gender, (S, M, K,) such as is near: (I'Ak p. 36:) or it relates to what is distant [accord. to some, and therefore should always be rendered that]; and هٰذَا, [which see in what follows,] to what is near: (K in art. هَا: [but the former is generally held to relate to what is near, like the latter:]) or it is a noun denoting anything indicated that is seen by the speaker and the person addressed: the noun in it is ذَ, or ذ alone: and it is a noun of which the signification is vague and unknown until it is explained by what follows it, as when you say ذَا الرَّجُلُ [This man], and ذَا الفَرَسَ [This horse]: and the nom. and accus. and gen. are all alike: (T:) the fem. is ذِى (T, S, M, K, but omitted in the CK) and ذِهْ, (S, M, K, but omitted in the CK,) the latter used in the case of a pause, (S,) with a quiescent ه, which is a substitute for the ى, not a sign of the fem. gender, (S, M,) as it is in طَلْحَهْ and حَمْزَهْ, in which it is changed into ة when followed by a conjunctive alif, for in this case the ه in ذِه remains unchanged [but is meksoorah, as it is also in other cases of connexion with a following word]; and one says also ذهِى; (M;) and تَا and تِهْ: (S and K &c. in art. تا:) for the dual you say ذَانِ and تَانِ; (M;) ذَانِ is the dual form of ذَا (T, S) [and تَانِ is that of تَا used in the place of ذِى]; i. e., you indicate the masc. dual by ذَانِ in the nom. case, and ذَيْنِ in the accus. and gen.; and the fem. dual you indicate by تَانِ in the nom. case, and تَيْنِ in the accus. and gen.: (I'Ak p. 36:) the pl. is أُلَآءِ [or أُلَآءِ] (T, S, and I'Ak ib.) in the dial. of the people of El-Hijáz, (I'Ak,) and أُولَى [or أُلَى] (T, I'Ak) in the dial. of Temeem; each both masc. and fem. (I'Ak ib. [See art. الى.]) You say, ذَا أَخُوكَ [This is thy brother]: and ذِىأُخْتُكَ [This is thy sister]: (T:) and لَاآتِيكَ فِى ذِى السَّنَةِ [I will not come to thee in this year]; like as you say فى هٰذِهِ السَّنَةِ and فى هٰذِى السَّنَةِ; not فى ذَا السَّنَةِ, because ذا is always masc. (As, T.) And you say, ذَانِ أَخَوَاكَ [These two are thy two brothers]: and تَانِ أُخْتَاكَ [These two are thy two sisters]. (T.) and أُولَآءِ إِخْوَتُكَ [These are thy brothers]: and أُولَآءِ

أَخَوَاتُكَ [These are thy sisters]: thus making no difference between the masc. and the fem. in the pl. (T.) b2: The هَا that is used to give notice, to a person addressed, of something about to be said to him, is prefixed to ذَا [and to ذِى &c.], (T, S, M, K,) and is a particle without any meaning but inception: (T:) thus you say هٰذَا, (T, S, M,) and some say هٰذَاا, adding another ا; (Ks, T;) fem.

هٰذِى, (T, S, M,) and [more commonly] هٰذِهْ in the case of a pause, (M,) and هٰذِهِ in other cases, (T, S,) and هَاتَا, and some say هٰذَاتِ, but this is unusual and disapproved: (T:) dual هٰذَانِ for the masc., and هَاتَانِ for the fem.; (T;) said by IJ to be not properly duals, but nouns formed to denote duals; (M;) and many of the Arabs say هٰذَانِّ; (T;) some, also, make هٰذَانِ indecl., like the sing. ذَا, reading [in the Kur xx. 66] إِنَّ هٰذَانِ لَسَاحِرَانِ [Verily these two are enchanters], and it has been said that this is of the dial. of Belhárith [or Benu-l-Hárith] Ibn-Kaab; but others make it decl., reading إِنَّ هٰذَايْنِ لَسَاحِرَانِ: (S, TA: [see, however, what has been said respecting this phrase voce إِنَّ:]) the pl. is هٰؤُلَا in the dial. of Temeem, with a quiescent ا; and هٰؤُلَآءِ in the dial. of the people of El-Hijáz, with medd and hemz and khafd; and هٰؤُلَآءٍ in the dial. of Benoo-'Okeyl, with medd and hemz and tenween. (Az, T.) The Arabs also say, لَا هَا اللّٰهِ ذَا, introducing the name of God between هَا and ذَا; meaning No, by God; this is [my oath, or] that by which I swear. (T.) In the following verse, of Jemeel, وَأَتَى صَوَاحِبُهَا فَقُلْنَ هٰذَا الَّذِى

مَنَحَ المَوَدَّةَ غَيْرَنَا وَجَفَانَا [it is said that] هَذَا is for أَذَا, (M,) i. e., ه is here substituted for the interrogative hemzeh (S * and K in art. ها) [so that the meaning is, And her female companions came, and said, Is this he who gave love to other than us, and treated us unkindly?]: or, as some assert, هَذَا is here used for هٰذَا, the ا being suppressed for the sake of the measure. (El-Bedr El-Karáfee, TA in art. ها.) b3: One says also ذَاكَ, (T, S, M, K,) affixing to ذَا the ك of allocution, [q. v., meaning That,] relating to an object that is distant, (T, *, S, and I'Ak p. 36,) or, accord. to general opinion, to that which occupies a middle place between the near and the distant, (I'Ak pp. 36 and 37,) and this ك has no place in desinential syntax; (S, and I'Ak p. 36;) it does not occupy the place of a gen. nor of an accus., but is only affixed to ذا to denote the distance of ذا from the person addressed: (T:) for the fem. you say تِيكَ (T, S) and تَاكَ; (S and K in art. تا, q. v.;) but not ذِيكَ, for this is wrong, (T, S,) and is used only by the vulgar: (T:) for the dual you say ذَانِكَ (T, S) and ذَيْنِكَ, as in the phrases جَآءَنِى ذَانِكَ الرَّجُلَانِ [Those two men came to me] and رَأَيْتُ ذَيْنُكَ الرَّجُلَيْنِ, [I saw those two men]; (S;) and some say ذَانِّكَ, with teshdeed, (T, S,) [accord. to J] for the purpose of corroboration, and to add to the letters of the noun, (S,) but [accord. to others] this is dual of ذٰلِكَ, [which see in what follows,] the second ن being a substitute for the ل; (T on the authority of Zj and others;) and some say تَانِّكَ also, with tesh-deed, (T, S,) as well as تَانِكَ: (T in this art., and S and K in art. تا, but there omitted in some copies of the S:) the pl. is [أُولَاكَ and] أُولٰئِكَ. (T, S.) هَا is also prefixed to ذَاكَ; so that you say, هٰذَاكَ زَيْدٌ [That is Zeyd]: (S, TA:) and in like manner, for the fem., you say هَاتِيكَ and هَاتَاكَ: (S and K in art. تا:) but it is not prefixed [to the dual nor] to أُولٰئِكَ. (S.) b4: You also add ل in ذَاكَ, (T, S, M, K,) as a corroborative; (TA;) so that you say ذٰلِكَ, [meaning That,] (T, S, M, K,) relating to an object that is distant, by common consent; (I'Ak pp. 36 and 37;) or hemzeh, saying ذَائِكَ, (K,) but some say that this is a mispronunciation: (TA in art. ذوى:) for the fem. you say تِلْكَ and تَالِكَ: the dual of ذٰلِكَ is ذَانِّكَ, mentioned above; and that of the fem. is ثَانِّكَ: (T: [and in the K in art. تا, تَالِكَ is also mentioned as a dual, as well as a sing.:]) and the pl. is أُولَالِكَ. (S and M and K voce أُولَى or أُلَى or أُلَا. [See art. الى.]) هَا is not prefixed to ذٰلِكَ (S) nor to تِلْكَ [nor to أُولَالِكَ] because, as IB says, the ل denotes the remoteness of that which is indicated and the ها denotes its nearness, so that the two are incompatible. (TA in art. تا.) b5: In the saying in the Kur [ii. 256, the Verse of the Throne], مَنْ ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ, (T, TA,) accord. to Th and Mbr, (TA,) هٰذَا is syn. with ذا [so that the meaning is, Who is this that shall intercede with Him but by his permission?]: (T, TA:) or it may be here redundant [so that the meaning is, Who is he that &c.?]. (Kull.) b6: It is sometimes syn. with اَلَّذِى. (T, S, M.) So in the saying, مَا ذَا رَأَيْتَ [What is it that thou sawest?]; to which one may answer, مَتَاعٌ حَسَنٌ [A goodly commodity]. (Sb, S.) and so in the Kur [ii. 220 (erroneously stated as 216 in Lane's original)], وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ[And they ask thee what amount of their property is it that they shall expend in alms]; (T, M, TA;) accord. to those who make the reply to be in the nom. case; for this shows that ما is [virtually] in the nom. case as an inchoative, and ذا is its enunciative, and ينفقون is the complement of ذا; and that ما and ذا are not to be regarded as one word: [or] this is the preferable way of explanation in the opinion of Sb, though he allowed the other way, [that of regarding ما and ذا as one word, together constituting an inchoative, and ينفقون as its enunciative, (see Ham p. 521,)] with [the reply in] the nom. case: (M:) and هٰذَا, also, is used in the same sense: (TA:) so too ذا in مَا ذَا هُوَ and مَنْ ذَا هُوَ may be considered as syn. with الذى; but it is preferable to regard it as redundant. (Kull.) b7: It is [said to be] redundant also in other instances: for ex., in the trad. of Jereer, as related by Aboo-'Amr Ez-Záhid, who says that it is so in this instance: يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ ذِى يَمَنٍ عَلَى وَجْهِهِ مَسْحَةٌ مِنْ ذِى مُلْكٍ

[There will come to you a man from El-Yemen, having upon his face an indication of dominion]. (TA. [But this evidently belongs to art. ذُو; in which see a similar ex. (أَتَيْنَا ذَا يَمَنٍ). See also other exs. there.]) b8: [كَذَا lit. means Like this: and hence, thus: as also هٰكَذَا. b9: It is also often used as one word, and, as such, is made the complement of a prefixed noun; as in سَنَةَ كَذَا and فِى سَنَةِ كَذَا In such a year. See also art. كَذَا: and see the letter ك.] b10: هٰذَا is sometimes used to express contempt, and mean estimation; as in the saying of 'Áïsheh respecting 'Abd-Allah Ibn-'Amr Ibn-'Abbás, يَا عَجَبًا لِابْنِ عَمْرٍو هٰذَا [O wonder (meaning how I wonder) at Ibn-'Amr, this fellow!]. (Kitáb el-Miftáh, cited in De Sacy's “ Gram. Ar.,” 2nd ed., i. 442.) [يَا هٰذَا often occurs as addressed to one who is held in mean estimation: it is like the Greek ὦ οὗτος, and virtually like the vulgar Arabic expression يَا أَنْتَ, and the Latin heus tu; agreeably with which it may be rendered O thou; meaning O thou fellow; an appellation denoting mean estimation being understood: in the contrary case, one says يَا فَتَى.

See also, in what follows, a usage of ذَاكَ and ذٰلِكَ. b11: هٰذَا in a letter and the like is introduced when the writer breaks off, turning to a new subject; and means “ This is all that I had to say on the subject to which, it relates: ” what follows it is commenced with the conjunction وَ.] b12: One says, لَيْسَ بِذَاكَ [and لَيْسَ بِذٰلِكَ], meaning It is not approved: for, [like as a person held in mean estimation is indicated by هٰذَا, which denotes a thing that is near, so,] on account of its high degree of estimation, a thing that is approved is indicated by that whereby one indicates a thing that is remote. (Kull voce ليس.) [See also what next follows.] b13: ذٰلِكَ الكِتَابُ in the Kur ii. 1 is said by Zj to mean هٰذَا الكِتَابُ [This book]: but others say that ذلك is here used because the book is remote [from others] in respect of highness and greatness of rank. (TA.) b14: كَذٰلِكَ [lit. Like that, often means so, or in like manner: and b15: ] Let that suffice [thee or] you. (TA in art. ذعر, from a trad.) b16: The dim. of ذَا is ذَيَّا: (T, S, M:) you form no dim. of the fem. ذِى, using in its stead that of تَا, (S,) which is تَيَّا: (T:) the dim. of the dual [ذَانِ] is ذَيَّانِ: (S:) and that of [the pl.] أُولَآءِ [and أُولَى] is أُولَيَّآءِ [and أُولَيَّا]: (T:) b17: that of هٰذَا is ذَيَّا, like that of ذَا; [and you may say هٰذَيَّا also; for] that of هٰؤُلَآءِ is هٰؤُلَيَّآءِ: (T:) b18: that of ذَاكَ is ذَيَّاكَ: (S, K: *) and that of تَاكَ is تَيَّاكَ: (K in art. تا:) b19: that of ذٰلِكَ is ذَيَّالِكَ: (S, K: *) and that of تِلْكَ is تَيَّالِكَ. (S.) A rájiz says, أَوْ تَحْلِفِى بِرَبِّكَ العَلِىِّ

إِنِّى أَبُو ذَيَّالِكِ الصَّبِىِّ [Or thou shalt swear by thy Lord, the High, that I am the father of that little child]: (S, TA:) he was an Arab who came from a journey, and found that his wife had given birth to a boy whom he disacknowledged. (TA.) A2: ذَا is also the accus. case of ذُو, q. v.

ذا: قال أَبو العباس أَحمد بن يحيى ومحمد بن زيد: ذا يكون بمعنى هذا، وم

نه قول الله عز وجل: مَنْ ذا الذي يَشْفَع عِنده إلا بإذنه؛ أَي مَنْ هذا

الذي يَشْفَع عِنده؛ قالا: ويكون ذا بمعنى الذي ، قالا: ويقال هذا دو

صَلاحٍ ورأَيتُ هذا ذا صَلاحٍ ومررت بهذا ذي صَلاحٍ، ومعناه كله صاحِب

صَلاح. وقال أَبو الهيثم: ذا اسمُ كلِّ مُشارٍ إليه مُعايَنٍ يراه المتكلم

والمخاطب، قال: والاسم فيها الذال وحدها مفتوحة، وقالوا الذال وحدها هي

الاسم المشار إليه، وهو اسم مبهم لا يُعرَف ما هو حتى يُفَسِّر ما بعده كقولك

ذا الرَّجلُ، ذا الفرَسُ، فهذا تفسير ذا ونَصْبُه ورفعه وخفصه سواء،

قال: وجعلوا فتحة الذال فرقاً بين التذكير والتأْنيث كما قالوا ذا أَخوك،

وقالوا ذي أُخْتُك فكسروا الذال في الأُنثى وزادوا مع فتحة الذال في المذكر

أَلفاً ومع كسرتها للأُنثى ياء كما قالوا أَنْتَ وأَنْتِ. قال الأَصمعي:

والعرب تقول لا أُكَلِّمُك في ذي السنة وفي هَذِي السنة، ولا يقال في

ذا السَّنةِ، وهو خطأٌ، إِنما يقال في هذه السَّنةِ؛ وفي هذي السنة وفي ذي

السَّنَة، وكذلك لا يقال ادْخُلْ ذا الدارَ ولا الْبَسْ ذا الجُبَّة،

وإنما الصواب ادْخُل ذي الدارَ والْبَس ذي الجُبَّةَ، ولا يكون ذا إلا

للمذكر. يقال: هذه الدارُ وذي المرأَةُ. ويقال: دَخلت تِلْكَ الدَّار وتِيكَ

الدَّار، ولا يقال ذِيك الدَّارَ، وليس في كلام العرب ذِيك البَتَّةَ،

والعامَّة تُخْطِئ فيه فتقول كيف ذِيك المرأَةُ؟ والصواب كيف تِيكَ

المرأَةُ؟ قال الجوهري: ذا اسم يشار به إِلى المذكر، وذي بكسر الذال للمؤنث،

تقول: ذي أَمَةُ اللهِ، فإِن وقفت عليه قلت ذِهْ، بهاء موقوفة، وهي بدل من

الياء، وليست للتأْنيث، وإنما هي صِلةٌ كما أَبدلوا في هُنَيَّةٍ فقالوا

هُنَيْهة؛ قال ابن بري: صوابه وليست للتأْنيث وإنما هي بدل من الياء،

قال: فإِن أَدخلت عليها الهاء للتنبيه قلت هذا زيدٌ وهذي أَمَةٌ اللهِ وهذه

أَيضاً، بتحريك الهاء، وقد اكتفوا به عنه، فإِن صَغَّرْت ذا قلت دَيًّا،

بالفتح والتشديد ، لأَنك تَقْلِب أَلف ذا ياء لمكان الياء قبلها

فتُدْغِمها في الثانية وتزيد في آخره أَلفاً لتَفْرُقَ بين المُبْهَم والمعرب،

وذَيّانِ في التثنية، وتصغير هذا هَذَيًّا، ولا تُصَغَّر ذي للمؤنث وإنما

تصَغَّر تا، وقد اكتفوا به عنه، وإن ثَنَّيْتَ ذا قلت ذانِ لأَنه لا يصح

اجتماعهما لسكونهما فتَسْقُط إحدى الأَلفين، فمن أَسقط أَلف ذا قرأَ إنَّ

هذَينِْ لَساحِرانِ فأَعْرَبَ، ومن أَسقط أَلف التثنية قرأَ إَنَّ هذانِ

لساحِرانِ لأَن أَلف ذا لا يقع فيها إعراب، وقد قيل: إنها على لغة

بَلْحَرِثِ ابن كعب، قال ابن بري عند قول الجوهري: من أَسقط أَلف التثنية قرأَ

إنَّ هذان لساحران، قال: هذا وهم من الجوهري لأَن أَلف التثنية حرف زيد

لمعنى، فلا يسقط وتبقى الأَلف الأَصلية كما لم يَسقُط التنوين في هذا

قاضٍ وتبقى الياء الأَصلية، لأَن التنوين زيدَ لمعنى فلا يصح حذفه، قال:

والجمع أُولاء من غير لفظه، فإن خاطبْتَ جئْتَ بالكاف فقلت ذاكَ وذلك،

فاللام زائدة والكاف للخطاب، وفيها دليل على أَنَّ ما يُومأُ إِليه بعيد ولا

مَوْضِعَ لها من الإِعراب، وتُدْخِلُ الهاء على ذاك فتقول هذاك زَيدٌ، ولا

تُدْخِلُها على ذلك ولا على أُولئك كما لم تَدْخُل على تلْكَ، ولا

تَدْخُل الكافُ على ذي للمؤنث، وإنما تَدْخُلُ على تا، تقول تِيكَ وتِلْك، ولا

تَقُلْ ذِيك فأِنه خطأٌ، وتقول في التثنية: رأَيت ذَيْنِكَ الرِّجُلين،

وجاءني ذانِكَ الرَّجُلانِ، قال: وربما قالوا ذانِّك، بالتشديد. قال ابن

بري: من النحويين من يقول ذانِّك، بتشديد النون، تَثْنِيةَ ذلك قُلِبَتِ

اللام نوناً وأُدْغِمَت النون في النون، ومنهم من يقول تشديدُ النون

عِوضٌ من الأَلف المحذوفة من ذا، وكذلك يقول في اللذانِّ إِنَّ تشديد النون

عوض من الياء المحذوفة من الذي، قال الجوهري: وإنما شددوا النون في ذلك

تأْكيداً وتكثيراً للاسم لأَنه بقي على حرف واحد كما أَدخلوا اللام على

ذلك، وإنما يفعلون مثل هذا في الأَسماء المُبْهَمة لنقصانها، وتقول للمؤنث

تانِكَ وتانِّك أَيضاً، بالتشديد، والجمع أُولئك، وقد تقدم ذكر حكم الكاف

في تا، وتصغير ذاك ذَيّاك وتصغير ذلك ذَيّالِك؛ وقال بعض العرب وقَدِمَ

من سَفَره فوجد امرأَته قد ولدت غلاماً فأَنكره فقال لها:

لَتَقْعُدِنَّ مَقْعَدَ القَصِيِّ

مِنِّي ذي القاذُورةِ المَقْلِيِّ

أَو تَحْلِفِي برَبِّكِ العَلِيِّ

أَنِّي أَبو ذَيّالِكِ الصَّبيِّ

قد رابَني بالنَّظَر التُّرْكِيِّ،

ومُقْلةٍ كمُقْلَةِ الكُرْكِيِّ

فقالت:

لا والذي رَدَّكَ يا صَفِيِّي،

ما مَسَّني بَعْدَك مِن إنْسِيِّ

غيرِغُلامٍ واحدٍ قَيْسِيِّ،

بَعْدَ امرأَيْنِ مِنْ بَني عَدِيِّ

وآخَرَيْنِ مِنْ بَني بَلِيِّ،

وخمسة كانوا على الطَّوِيِّ

وسِتَّةٍ جاؤوا مع العَشِيِّ،

وغيرِ تُرْكِيٍّ وبَصْرَوِيِّ

وتصغير تِلْك تَيَّاكَ؛ قال ابن بري: صوابه تَيّالِكَ، فأَما تَيّاك

فتصغير تِيك. وقال ابن سيده في موضع آخر: ذا إِشارة إِلى المذكر، يقال

ذا وذاك، وقد تزاد اللام فيقال ذَلِكَ. وقوله تعالى: ذَلِكَ الكِتابُ؛

قال الزجاج: معناه هَذا الكتابُ، وقد تدخل على ذا ها التي للتَّنْبِيه

فيقال هَذا، قال أَبو علي: وأَصله ذَيْ فأَبدلوا ياءه أَلفاً، وإن كانت

ساكنة ، ولم يقولوا ذَيْ لئلا يشبه كَيْ وأَيْ، فأَبدلوا ياءه أَلفاً

لِيلْحَقَ بباب متى وإذ أَو يخرج من شَبَه الحَرْفِ بعضَ الخُروج. وقوله تعالى:

إنَّ هَذانِ لَساحِرانِ؛ قال الفراء: أَراد ياء النصب ثم حذفها لسكونها

وسكون الأَلف قَبْلَها، وليس ذلك بالقوي، وذلِك أَن الياء هي الطارئة على

الأَلف فيجب أَن تحذف الأَلف لمكانها، فأَما ما أَنشده اللحياني عن

الكسائي لجميل من قوله:

وأَتَى صَواحِبُها فَقُلْنَ: هَذَا الَّذي

مَنَحَ المَوَدَّةَ غَيْرَنا وجَفانا

فإِنه أَراد أَذا الَّذِي، فأَبدل الهاء من الهمزة. وقد استُعْمِلت ذا

مكان الذي كقوله تعالى: ويَسْأَلُونك ماذا يُنْفِقُون قل العَفْوُ؛ أَي ما

الذي ينفقون فيمن رفع الجواب فَرَفْعُ العَفْوِ يدلّ على أَن ما مرفوعة

بالابتداء وذا خبرها ويُنْفِقُون صِلةُ ذا، وأَنه ليس ما وذا جميعاً

كالشيء الواحد، هذا هو الوجه عند سيبويه، وإِن كان قد أَجاز الوجهَ الآخر مع

الرفع. وذي، بكسر الذال، للمؤنث وفيه لُغاتٌ: ذِي وذِهْ، الهاء بدل من

الياء، الدليل على ذلك قولهم في تحقير ذَا ذَيًّا، وذِي إنما هي تأْنيث ذا

ومن لفظه، فكما لا تَجِب الهاء في المذكر أَصلاً فكذلك هي أَيضاً في

المؤنث بَدَلٌ غيرُ أَصْلٍ، وليست الهاء في هَذِه وإن استفيد منها التأْنيث

بمنزلة هاء طَلْحَة وحَمْزَة لأَن الهاء في طلحة وحمزة زائدة، والهاء في

هَذا ليست بزائدة إِنما هي بدل من الياء التي هي عين الفعل في هَذِي،

وأَيضاً فإِنَّ الهاء في حمزة نجدها في الوصل تاء والهاء في هذه ثابِتةٌ في

الوصل ثَباتَها في الوقف. ويقال: ذِهِي، الياء لبيان الهاء شبهها بهاء

الإِضمار في بِهِي وهَذِي وهَذِهِي وهَذِهْ، الهاء في الوصل والوقف ساكنةٌ

إِذا لم يلقها ساكن، وهذه كلها في معنى ذِي؛ عن ابن الأَعرابي؛ وأَنشد:

قُلْتُ لَها: يا هَذِهي هذا إِثِمْ،

هَلْ لَكِ في قاضٍ إِلَيْهِ نَحْتَكِمْ؟

ويوصل ذلك كله بكاف المخاطبة. قال ابن جني: أَسماء الإِشارة هَذا وهذِه

لا يصح تثنية شيء منها من قِبَلِ أَنَّ التثنية لا تلحق إِلا النكرة، فما

لا يجوز تنكيره فهو بأَن لا تصح تثنيته أَجْدَرُ، فأَسْماء الإِشارة لا

يجوز أَن تُنَكَّر فلا يجوز أَن يُثَنَّى شيء منها، أَلا تراها بعد

التثنية على حدّ ما كانت عليه قبل التثنية، وذلك نحو قولك هَذانِ الزَّيْدانِ

قائِمَيْن، فَنَصْبُ قائِمَيْن بمعنى الفعل الذي دلت عليه الإِشارةُ

والتنبيهُ، كما كنت تقول في الواحد هذا زَيْدٌ قائماً، فَتَجِدُ الحال واحدةً

قبل التثنيةِ وبعدها، وكذلك قولك ضَرَبْتُ اللَّذَيْنِ قاما، تَعرَّفا

بالصلة كما يَتَعَرَّفُ بها الواحد كقولك ضربت الذي قامَ، والأَمر في هذه

الأَشياء بعد التثنية هو الأَمر فيها قبل التثنية، وليس كذلك سائرُ

الأَسماء المثناة نحو زيد وعمرو، أَلا ترى أَن تعريف زيد وعمرو إِنما هو

بالوضع والعلمية؟ فإِذا ثنيتهما تنكرا فقلت عندي عَمْرانِ عاقِلانِ، فإِن آثرت

التعريف بالإِضافة أَو باللام فقلت الزَّيْدانِ والعَمْرانِ وزَيْداكَ

وعَمْراكَ، فقد تَعَرَّفا بَعْدَ التثنية من غير وجه تَعَرُّفِهما قبلها

ولَحِقا بالأَجْناسِ وفارَقا ما كانا عليه من تعريف العَلَمِيَّةِ

والوَضْعِ، فإِذا صح ذلك فينبغي أَن تعلمَ أَنَّ هذانِ وهاتانِ إِنما هي أَسماء

موضوعة للتثنية مُخْتَرعة لها، وليست تثنية للواحد على حد زيد وزَيْدانِ،

إِلا أَنها صِيغت على صورة ما هو مُثَنًّى على الحقيقة فقيل هذانِ

وهاتانِ لئلا تختلف التثنية، وذلك أَنهم يُحافِظون عليها ما لا يُحافِظون على

الجمع، أَلا ترى أَنك تجد في الأَسماء المتمكنة أَلفاظَ الجُموع من غير

أَلفاظِ الآحاد، وذلك نحو رجل ونَفَرٍ وامرأَةٍ ونِسْوة وبَعير وإِبلٍ

وواحد وجماعةٍ، ولا تجد في التثنية شيئاً من هذا، إنما هي من لفظ الواحد نحو

زيد وزيدين ورجل ورجلين لا يختلف ذلك، وكذلك أَيضاً كثير من المبنيات

على أَنها أَحق بذلك من المتمكنة، وذلك نحو ذا وأُولَى وأُلات وذُو وأُلُو،

ولا تجد ذلك في تثنيتها نحو ذا وذانِ وذُو وذَوانِ، فهذا يدلك على

محافظتهم على التثنية وعنايتهم بها، أَعني أَن تخرج على صورة واحدة لئلا

تختلف، وأَنهم بها أَشدُّ عِناية منهم بالجمع، وذلك لَمَّا صيغت للتثنية

أَسْماء مُخْتَرَعة غير مُثناة على الحقيقة كانت على أَلفاظ المُثناة

تَثْنِيةً حقيقةً، وذلك ذانِ وتانِ، والقول في اللَّذانِ واللَّتانِ كالقول في

ذانِ وتانِ. قال ابن جني: فأَما قولهم هذانِ وهاتانِ وفذانك فإِنما تقلب في

هذه المواضع لأَنهم عَوَّضوا من حرف محذوف، وأَما في هذانِ فهي عِوَضٌ

من أَلف ذا، وهي في ذانِك عوض من لام ذلك، وقد يحتمل أَيضاً أَن تكون

عوضاً من أَلف ذلك، ولذلك كتبت في التخفيف بالتاء

(* قوله« ولذلك كتبت في

التخفيف بالتاء إلخ» كذا بالأصل.) لأَنها حينئذ ملحقة بدَعْد، وإِبدال التاء

من الياء قليل، إِنما جاء في قولهم كَيْتَ وكَيْتَ، وفي قولهم ثنتان،

والقول فيهما كالقول في كيت وكيت، وهو مذكور في موضعه. وذكر الأَزهري في

ترجمة حَبَّذا قال: الأَصل حَبُبَ ذا فأُدغمت إِحدى الباءَين في الأُخرى

وشُدِّدت، وذا إِشارة إِلى ما يقرب منك؛ وأَنشد بعضهم:

حَبَّذا رَجْعُها إِلَيْكَ يَدَيْها

في يَدَيْ دِرْعِها تَحُلُّ الإِزارا

كأَنه قال: حَبُبَ ذا، ثم ترجم عن ذا فقال: هو رَجْعُها يَدَيْها إِلى

حَلّ تِكَّتها أَي ما أَحَبَّه، ويَدا دِرْعِها: كُمَّاها. وفي صفة

المهدي: قُرَشِيٌّ يَمانٍ ليس مِن ذِي ولا ذُو أَي ليس نَسَبُه نَسَبَ أَذْواء

اليمن، وهم مُلوكُ حِمْيَرَ، منهم ذُو يَزَنَ وذُو رُعَيْنٍ؛ وقوله:

قرشيٌّ يَمانٍ أَي قُرَشِيُّ النَّسَب يَمانِي المَنْشإ؛ قال ابن الأَثير:

وهذه الكلمة عينها واو، وقياس لامها أَن تكون ياء لأَن باب طَوَى أَكثر من

باب قَوِيَ؛ ومنه حديث جرير: يَطْلُع عليكم رَجل من ذِي يَمَنٍ على

وجْهِه مَسْحة من ذي مَلَكٍ؛ قال ابن الأَثير: كذا أَورده أَبو عُمَر الزاهد

وقال ذي ههنا صِلة أَي زائدة.

اللفيف من الذال

بابُ اللَّفِيْفِ


ما أوَّلُه الذّال
ذُوْ: اسْمٌ ناقِصٌ، وتَفْسِيْرُه: صاحِبُ ذاكَ، والتَّثْنِيَةُ ذَوَان، والجَمْعُ ذَوُوْنَ، والأُنْثى ذات وذَوَات، ويَجُوْزُ ذَاتَــا في الشِّعْرِ.
والذَّوُوْنَ: هُمُ الأدْنَوْنَ الأوَّلُوْنَ.
ولَقِيْتُه ذا صَبَاحٍ وذاتَ صَبَاحٍ.
وعَرَفَه من ذاتِ نَفْسِه: يَعْني سَرِيْرَتَه المُضْمَرَةَ.
وتَقُولُ: " لَقِيْتُه أوَّلَ ذاتِ يَدَيْنِ " أي أوَّلَ إنْسَانٍ.
وأتَيْنَا ذا يَمَنٍ: أي اليَمَنَ و " ذا " زائدَةٌ، ولا ذا جَرَمَ مِثْلُه تَقْدِيْرُه: لا جَرَمَ. ويقولونَ: لا بذِي تَسْلَمُ، كأنَّه قال له: افْعَلْ كذا، فقُلْتَ: لا بسَلاَمَتِكَ؛ تَفْسِيْرُه: لا تَعَنَّهْ وتَدْعُو له أي سَلِمْتَ.
وذاتُ: ناقِصَةٌ؛ تَمَامُها ذَوَات، وتَصْغِيْرُها ذُوَيَّةٌ.
ويُقال من الأوَّلِ للاثْنَيْنِ: لا بِذِي تَسْلَمَانِ، وللجَمِيْعِ: لا بذِي تَسْلَمُوْنَ: أي لا بالذي يُسَلِّمُكَ.
فأمَّا ذا وذِهِ في هذا وهذِهِ فاسْمَانِ مَكْنِيّانِ، ولَيْسَ فيهما من نَفْسِ البِنَاءِ غَيْرُ الذّالِ. وتَصْغِيْرُها: ذَيّا.
والذي: تَعْرِيْفُ ذا، ويُقال: اللَّذْ؛ واللَّذُوْنَ والَّذِيْنَ، واللَّذَا فَعَلَ ذاكَ. واللَّذَيّا: تَصْغِيْرُ الذي، فإذا جَمَعْتَه قُلْتَ: اللَّذَيُّوْنَ. واللَّذِيُّ بتَشْدِيْدِ الياءِ: لُغَةٌ في الذي. واللَّذَانِّ: مُثَقَّلٌ بمَعْنى المُخَفَّفِ.
ويقولونَ: هذا ذُوْ قالَ ذاكَ لا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ: بمَعْنى الذي.
وسَمِعْتُ ذا فيه: أي كَلامَه، وذاتَ فيه.
ووَضَعِ المَرْأةُ ذاتَ بَطْنِها: أي حَمْلَها.
ورَمى بذي بَطْنِه: أي بعَذِرَتِه، وقيل: قَيْئِه.
وجاءَ القَوْمُ من ذي أنْفُسِهم ومن ذاتِ أنْفُسِهم: أي من هِمَّتِها ورَأْيها إذا جاؤوا طائِعِيْنَ.
وقَلَّتْ ذاتُ يَدِه: أي مِلْكه.
وجَعَلَ اللهُ ما بَيْنَنا في ذاتِــه: أي في سُبُلِه ومَرْضَاتِه.
وأتَيْنا ذا يَمَنٍ: أي اليَمَنَ.
وكانَ من الأمْرِ ذَيّا وذَيّاءُ بالمَدِّ وذَيَّةُ وذَيَّةَ وذَيَةَ؛ وذَيْتَ وذَيْتَ؛ ويُكْسَرَانِ: بمَعْنَى كَيْتَ وكَيْتَ.
وتُوْضَعُ " الذي " مَوْضِعَ الجَمِيْعِ فيُقال: هُمُ الذي كانُوا كذا: أي الَّذِيْنَ.
ويُقالُ في تَصْغِيْرِ ذاكَ: ذَيّاكَ، وفي ذلك: ذَيّالِكَ، وفي ذانِكَ: ذَيّانِكَ.
ويُوْضَعُ ذلك في مَوْضِع هذا؛ ومَعْنَاه: ذَيّانِكَ.
ويقولونَ: أتَنْطَلِقُ أمْ كَذَاَ: أي أمْ تَرى رَأْيَكَ.
وهو رَجُلٌ كَذَاكَ: أي دُوْنٌ.
وذَأَى يَذْأَى ذَأْياً: وهو ضَرْبٌ من عَدْوِ الإِبِلِ. ويُوْصَفُ به حِمَارُ الوَحْشِ يُقال: حِمَارٌ مِذْأىً مَهْمُوْزٌ مَقْصُوْرٌ.
وذَأَيْتُه ذَأْياً وذَأَوْتُه: أي طَرَدْته وسُقْته. والذَّأْوُ: السَّوْقُ، وحادٍ مِذْأىً.
وذَيَّأْتُ اللَّحْمَ وقد تَذَيَّأَ: إذا انْفَصَلَ عن العَظْمِ بفَسَادٍ أو طَبْخٍ.
وتَذَيَّأَ وَجْهُه: إذا وَرِمَ وانْتَفَخَ ثُمَّ تَشَقَّقَ، وكذلك الثَّوْبُ إذا تَمَزَّقَ.
وذَوى النَّبْتُ يَذْوِي ذَيّاً: ذَبَلَ ولانَ وَعُفَ، وقيل: ذَأَى العُوْدُ. وذَوِيَ البَقْلُ يَذْوى: لُغَةٌ غَيْرُ فَصِيْحَةٍ.
والذّأْوَةُ: المَهْزُوْلَةُ من الغَنَمِ، والجَمِيْعُ الذَّأَوَاتُ.
والذَّأْذَأَةُ: من قَوْلِكَ مَرَّ يَتَذَأْذَأُ: أي يَضْطَرِبُ في المَشْيِ.
والذَّوَاةُ: قِشْرُ الحَنْظَلَةِ أو العِنَبَةِ. وقيل بالدال أيضاً.
وذَأَوْتُ المَرْأَةَ: إذا نَكَحْتها.


ما أوَّلُه الواو
وَذَأَتِ العَيْنُ عَنِ الشَّيْءِ تَذَأُ وَذْءاً: إذا نَبَتْ عنه. ووَذَأَتْهُ عَيْني.
ووَذَأْتُه فاتَّذَأَ: أي زَجَرْتَه فانْزَجَرَ. وكذلك إذا عِبْتَه أو شَتَمْتَه. والوَذْءُ: الشَّتْمُ.
وما به وَذْيَةٌ: أي عِلَّةٌ ووَجَعٌ، وقيل: عَيْبٌ. وبَرْدٌ أيضاً.
وما به أَذِيَّةٌ ووَذْيَةٌ: أي شَيْءٌ يَتَأَذَّى به. وما به وَذَاةٌ.
والوَذْيَةُ: الماءُ القَلِيْلُ.
والوَذْوَذَةُ: المَرْأَةُ الخَفِيْفَةُ الطَّيّاشَةُ. وذِئْبٌ وَذْوَاذٌ: خَفِيْفٌ.


ما أوَّلُه الألِف
إذْ: لِمَا مَضى.
وإذا: لِمَا يُسْتَقْبَلُ؛ لِوَقْتَيْنِ من الزَّمَانِ. وقد يُجْعَلُ أحَدُهُما بَدَلَ صاحِبِه.
وتَجِيْءُ إذْ بمَعْنى إنْ.
وإذَنْ: جَوَابُ تَوْكِيْدِ الشَّرْطِ.
وإذا أُضِيْفَتْ إلى " إذْ " كَلِمَةٌ جُعِلَتْ غايَةً للوَقْتِ ونُوِّنَتْ وجُرَّتْ؛ كقَوْلِكَ: يَوْمَئِذٍ وعَشِيَّتَئِذٍ.
وأنْتَ إذٍ: أي أنْتَ إذْ صَبيٌّ.
والأذَى: ما تَأذَّيْتَ به. ورَجُلٌ أَذٍ: شَدِيْدُ التَّأَذّي، أَذِيَ يَأْذى. وما بِهِ أَذِيَّةٌ: أي ما يُؤْذِيْه.
وبَعِيْرٌ أَذٍ وناقَةٌ أَذِيَةٌ: إذا كانَ لا يَقِرُّ في مَكانٍ من غَيْرِ وَجَعٍ.
وأذَّه يَؤُذُّه: إذا قَطَعَه. وشَفْرَةٌ أَذُوْذٌ. وأذَأْتُه إلى كذا: ألْجَأْته إليه.
وآذَا: لُغَةٌ في هذا.

الْكمّ

(الْكمّ) مدْخل الْيَد ومخرجها من الثَّوْب (ج) أكمام وكممة وَكم السَّبع غشاء مخالبه وَكم كل نور وعاؤه (ج) أكمام وأكمام النَّخْلَة مَا غطى جمارها من السعف والليف والجذع

(الْكمّ) مِقْدَار الشَّيْء (مو) (وَانْظُر كم)

(الْكمّ) برعوم الثَّمَرَة ووعاء الطّلع وغطاء النُّور (ج) أكمام
الْكمّ: هُوَ الْعرض الْقَابِل للانقسام بِالــذَّاتِ وَهُوَ على نَوْعَيْنِ مُتَّصِل وَكم مُنْفَصِل أما الْكمّ الْمُتَّصِل فَهُوَ مَا يكون بَين أَجْزَائِهِ الْمَفْرُوضَة حد مُشْتَرك وَالْحَد الْمُشْتَرك مَا يكون نسبته إِلَى الجزئين نِسْبَة وَاحِدَة كالنقطة بِالْقِيَاسِ إِلَى جزئي الْخط والكم الْمُنْفَصِل مَا لَا يكون بَين أَجْزَائِهِ الْمَفْرُوضَة حد مُشْتَرك وَهُوَ الْعدَد لَا غير قيل انحصار الْكمّ الْمُنْفَصِل فِي الْعدَد غير بَين لَا برهَان عَلَيْهِ كَيفَ والجسم مَعَ سطحه والسطح مَعَه خطه لَيْسَ بَينهمَا حد مُشْتَرك وليسا بِعَدَد وَالْجَوَاب أَنهم قد استدلوا على الانحصار بِأَن الْكمّ الْمُنْفَصِل مركب من متفرقات والمتفرقات مُفْرَدَات والمفردات أحاد وَالْوَاحد إِمَّا أَن يُؤْخَذ من حَيْثُ هُوَ وَاحِد فَقَط أَو من حَيْثُ إِنَّه إِنْسَان أَو حجر فَإِن أَخذ من حَيْثُ إِنَّه وَاحِد فَقَط لم يكن الْحَاصِل من اجْتِمَاع أَمْثَاله إِلَّا الْعدَد وَإِن أَخذ من حَيْثُ إِنَّه إِنْسَان أَو حجر فَإِنَّهُ لَا يُمكن اعْتِبَار كَون الأناسي الْحَاصِلَة من اجْتِمَاع الْإِنْسَان الْوَاحِد وَبِاعْتِبَار كَون الْأَحْجَار الْحَاصِلَة من اجْتِمَاع الْحجر الْوَاحِد كميات مُنْفَصِلَة إِلَّا عِنْد اعْتِبَار كَونهَا مَعْدُودَة بالآحاد الَّتِي فِيهَا فَهِيَ إِنَّمَا تكون كميات مُنْفَصِلَة من حَيْثُ كَونهَا مَعْدُودَة بالآحاد الَّتِي فِيهَا فَلَيْسَ الْكمّ مُنْفَصِلا إِلَّا الْعدَد وَمَا عداهُ إِنَّمَا يكون كَمَا مُنْفَصِلا بِوَاسِطَة وَهُوَ الْمَطْلُوب.
وَذهب بعض النَّاس إِلَى أَن القَوْل كم مُنْفَصِل غير قار الــذَّات كَمَا أَن الْعدَد كم مُنْفَصِل قار الــذَّات كَمَا سَيَجِيءُ وَالْحق أَن القَوْل إِنَّمَا يكون لأجل الْكَثْرَة الَّتِي فِيهِ ولولاها لم يكن كَمَا فَهُوَ كم مُنْفَصِل بِالْعرضِ وَأما الْجِسْم مَعَ سطحه فَهُوَ أَيْضا كم مُنْفَصِل بِالْعرضِ وَإِن كَانَ كل وَاحِد من جزئيه كَمَا مُتَّصِلا بِالــذَّاتِ وَكَذَا الْحَال فِي السَّطْح مَعَ خطه.
ثمَّ اعْلَم أَن الْكمّ الْمُتَّصِل إِن كَانَ ذَا امتداد وَاحِد وَهُوَ الْخط أَو ذَا امتدادين وَهُوَ السَّطْح أَو ذَا امتدادات ثَلَاثَة وَهُوَ الْجِسْم التعليمي وَهَذِه الْأَقْسَام الثَّلَاثَة للكم الْمُتَّصِل القار الــذَّات أَي مُجْتَمع الاجزاء. وَأما الْكمّ الْمُتَّصِل الْغَيْر القار الــذَّات فَهُوَ الزَّمَان كَمَا حققنا فِي الزَّمَان. فالكم الْمُتَّصِل على نَوْعَيْنِ قار الــذَّات وَغير قار الــذَّات ثمَّ قار الــذَّات ثَلَاثَة الْخط والسطح والجسم التعلمي وَفِي هِدَايَة الْحِكْمَة وينقسم إِلَى كم مُنْفَصِل كالعدد وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَن الْكَاف للتمثيل وَهُوَ يَقْتَضِي تعدد أَقسَام الْمثل لَهُ وَهُوَ الْكمّ الْمُنْفَصِل وَقد ذكرُوا أَنه منحصر فِي الْعدَد فالكاف لَيْسَ بِصَحِيح. وتوجيهه أَن الْكَاف للْبَيَان لَا للتشبيه كَمَا فِي قَول ابْن الْحَاجِب كَمَا مَعَ غير الطّلب وَيُمكن أَن يُقَال إِن التَّمْثِيل بِاعْتِبَار أَنْوَاع الْعدَد لَا بِاعْتِبَار أَنْوَاع الْكمّ الْمُنْفَصِل حَتَّى لَا يَصح فَالْمُرَاد من قَوْله كالعدد كالخمسة والستة وَغير ذَلِك - قَالَ الشَّارِح الْقَدِيم لَعَلَّ المُصَنّف تبع فِي ذَلِك مَا قَالَه بعض الْمُتَقَدِّمين من أَن الْكمّ الْمُنْفَصِل إِمَّا قار وَهُوَ الْعدَد أَو غير قار وَهُوَ القَوْل فَإِن أجزاءه لَا تُوجد مَعًا وَلَيْسَ بَينهَا حد مُشْتَرك فصح التَّمْثِيل وَقد مر جَوَابه آنِفا.

الماهية

الماهية:
[في الانكليزية] Essence ،quiddity
[ في الفرنسية] Essence ،quiddite
هي مأخوذة عن ما هو بإلحاق ياء النسبة وحذف إحدى الياءين للتخفيف ثم التعليل كمثل مرمي وإلحاق التاء للنقل من الوصفية إلى الاسميّة. وقيل ألحق ياء النسبة بما هو وحذف الواو وألحق تاء التأنيث. ولو قيل بأنّها مأخوذة عما هي لكان أقلّ إعلالا. وفي صحة إلحاق ياء النسبة بما هو على ما هو قاعدة اللغة نظر، ولا يوجد له نظير. قال المولوي عصام الدين في حاشية شرح العقائد وغيره وإنّي أظنّ أنّ لفظ الماهية منسوب إلى لفظ ما بإلحاق ياء النسبة إلى لفظ ما ومثل لفظ ما إذا أريد به لفظ يلحقه الهمزة فأصله مائية أي لفظ يجاب به عن السّؤال بما قلبت همزته هاء لما بينهما من قرب المخرج، كما يقال في إيّاك هيّاك. ويؤيّده أنّ الكيفية اسم لما يجاب به عن السّؤال بكيف أخذ بإلحاق ياء النسبة وتاء النقل من الوصفية إلى الاسمية بكيف، والكمية اسم لما يجاب به عن السّؤال بكم حصل بإلحاق ياء النسبة والتاء بلفظ كم وتشديد كمّ حين إرادة لفظة على ما يقتضيه قانون إرادة نفس اللفظ بالثنائي الصحيح.
ثم الماهية عند المنطقيين بمعنى ما به يجاب عن السؤال بما هو. وعند المتكلّمين والحكماء بمعنى ما به الشيء هو، وتحقيق هذا التعريف سبق في لفظ الحقيقة، وبين المعنيين عموم من وجه لتحقّق الأول فقط في الجنس بالقياس إلى النوع والثاني فقط في الماهيات الجزئية كالشخص، وكذا الحال في الصنف أيضا واجتماعهما في الماهية النوعية بالقياس إلى النوع والماهية بالمعنى الثاني لا يكون إلّا نفس الشيء. اعلم إن كان لها ثبوت وتحقّق مع قطع النظر عن اعتبار العقل يسمّى ماهية حقيقية أي ثابتة في نفسه الأمر وإن لم تكن كذلك تسمّى ماهية اعتبارية أي كائنة بحسب اعتبار العقل فقط، كما إذا اعتبر الواضع عدة أمور فوضع بإزائها اسما. واعلم أيضا أنّ الماهية والحقيقة والــذات قد تطلق على سبيل الترادف، والحقيقة والــذات تطلقان غالبا على الماهية مع اعتبار الوجود الخارجي، كلّية كانت أو جزئيّة، والجزئية تسمّى هوية. وأمّا إطلاقهما على الحقيقة كليّة كانت أو جزئية على سبيل الترادف كما مرّ فبناء على تفسيرها بما به الشيء هو هو. قال مرزا زاهد في حاشية شرح المواقف:
وللماهية معنى آخر يفهم من كلام الشيخ في إلهيات الشفاء حيث قال: كلّ بسيط فإنّ ماهيته ذاتــه لأنّه ليس هناك شيء قابل لماهيّته وصورته أيضا ذاتــه، لأنّه لا تركيب فيه. وأمّا المركّبات فلا صورتها ذاتــها ولا ذاتــها ماهيّتها. أمّا الصورة فظاهر أنّها جزء منها. وأمّا الماهية فهي ما به هي هي وإنّما ما هي هي بكون الصورة مقارنة للمادة وهو أزيد من معنى الصورة والمركّب ليس هذا المعنى أيضا، بل هو مجموع الصورة والمادة. قال هذا ما هو المركّب والماهية هذا التركيب الجامع للصورة والمادة والوحدة الحادثة منهما لهذا الواحد انتهى.
واعلم أيضا أنّ الماهية والــذات والحقيقة معقولات ثانية لأنّها عوارض تلحق المعقولات الأولى من حيث هي في العقل، ولم يوجد في الأعيان ما يطابقها، مثلا المعقول من الحيوان الإنسان ويعرض له أنّه ماهية وليس في الأعيان شيء هو ماهية بل في الأعيان فرس أو إنسان وهي أي الماهية مغايرة لجميع ما عداها من العوارض اللاحقة لازمة كانت أو مفارقة، وأمّا كونها ماهية فبــذاتــها فإنّ الانسان إنسان بــذاتــه لا بشيء آخر ينضمّ إليه، والإنسان واحد لا بــذاتــه بل بضمّ صفة الوحدة إليه، فالإنسان من حيث هو هو من غير التفات إلى أن يقارنه شيء أو لا، بل يلتفت إلى مفهومه من حيث هو هو يسمّى المطلق والماهية بلا شرط، وإن أخذ مع المشخّصات واللواحق يسمّى مخلوطا والماهية بشرط شيء وهما موجودان في الخارج، وإن أخذ بشرط العراء عن المشخّصات واللواحق يسمّى الماهية المجرّدة وبشرط لا شيء وذلك غير موجود في الخارج، وقيل توجد في الذهن عند القائل بالوجود الذهني، وقيل لا لأنّ وجودها في الذهن من العوارض واللواحق فلا تكون مجرّدة عن جميعها، وقيل توجد لأنّ الذهن يمكنه تصوّر كلّ شيء حتى عدم نفسه ولا حجر في التصورات أصلا، فلا يمتنع أن يعقل الذهن الماهية المجرّدة. وقيل إنّ شرط تجرّدها عن الأمور الخارجية وجدت في الذهن وإنّ شرط تجرّدها مطلقا فلا وفيه نظر، فإنّ كون الشيء موجودا في الذهن ليس من العوارض الذهنية إذ هي ما جعله الذهن قيدا فيه أي في الشيء بأن يعتبر الذهن لذلك الشيء عارضا له، ويلاحظ فيه. وهذا الذي فرضناه موجودا في الذهن عرض له في نفس الأمر كونه في الذهن من غير أن يعتبره عارضا له ويلاحظ فيه.
اعلم أنّ هذا ليس تقسيما للماهية إلى الأقسام الثلاثة حتى يلزم تقسيم الشيء إلى نفسه وإلى غيره لأنّ الماهية المطلقة عين المقسم، بل بيان اعتبارات الماهية بالقياس إلى العوارض وهو الظاهر من عبارات القوم. وفي شرح التجريد إنّه تقسيم لحال الماهية إلى الاعتبارات الثلاثة وهو خلاف الظاهر. وقيل إنّه تقسيم ما يطلق عليه الماهية فليس بشيء إذ ليس المقصود بيان إطلاقاتها. اعلم أنّ الماهية إمّا بسيطة أي غير مركّبة من أجزاء بالفعل أو مركّبة وتنتهي إلى البسيط إذ لا بدّ في المركّب من أمور كلّ واحد منها حقيقة واحدة أي متصفة بالوحدة بالفعل وإلّا لكان مركّبا من أمور غير متناهية وهو محال، وكلاهما تارة يعتبران بالقياس إلى العقل وتارة بالقياس إلى الخارج فالبسيط العقلي ما لا يتركّب من أجزاء بالفعل في العقل كالأجناس العالية والفصول، والبسيط الخارجي ما لا تركّب فيه في الخارج كالمفارقات من العقول والنفوس فإنها بسيطة في الخارج وإن كانت مركّبة في العقل بناء على كون الجوهر جنسا لها. والمركّب العقلي ما يكون مركّبا من أجزاء بالفعل في العقل كالمفارقات والمركّب الخارجي ما يتركّب منها في الخارج كالست. ثم المركّب إمّا ذات إن كان قائما بنفسه أو صفة إن كان قائما بغيره. والأوّل يقوم بعض أجزائه ببعض آخر منها إذ لا بدّ في تركيب الماهية الحقيقية من حاجة الأجزاء بعضها إلى بعض إذ لو استغنى كلّ عن الآخر لم يحصل منهما حقيقة ماهية واحدة حقيقية كالحجر الموضوع بجنب الإنسان. والثاني أي المركّب الذي هو صفة يقوم بثالث لامتناع قيامة بجزئه فإمّا أن يقوم أجزاؤه كلها بذلك الثالث الذي هو غير المركّب وأجزائه ابتداء لكن يكون قيام بعضها به شرطا لقيام بعضها الآخر حتى يتصوّر كون ذلك المركّب واحدا حقيقيا لا اعتباريا، وهذا على تقدير امتناع قيام العرض بالعرض، أو يقوم جزء منه بذلك الثالث ويقوم الجزء الآخر منه بالجزء القائم به فيكون قيام الجزء الآخر بالثالث بالواسطة. وهذا على تقدير جواز قيام العرض بالعرض.
فائدة:
إنّما يحكم بتركّب الماهية إذا علم أنّها مشاركة لغيرها في ذاتــي مخالفة له أي لذلك الغير في ذاتــي آخر لا بأن يشتركا في ذاتــي ويختلفا بعارض ثبوتي أو سلبي لجواز كون ذلك الــذاتــي تمام ماهيتهما ولا بأن يختلفا في ذاتــي مع الاشتراك في عارض ثبوتي أو سلبي.
واعلم أنّ المشتركين في ذاتــي إذا اختلفا في لوازم الماهية دلّ ذلك على التركيب.
فائدة:
أجزاء الماهية إن صدق بعضها على بعض فمتصادقة سواء كانت متساوية أولا، بل متداخلة. وإن لم يصدق بعضها على بعض فمتباينة. فالمتساوية كالحسّاس والمتحرّك بالإرادة إذا اعتبر تركّب ماهية ما منهما.
والمتداخلة إمّا أن يكون بينهما عموم وخصوص مطلقا وحينئذ إمّا أن يقوّم العام الخاص وهذا في الماهيات الاعتبارية نحو الجسم الأبيض، فإنّ العقل يعتبر منهما ماهية واحدة أو يقوّم الخاص العام نحو الحيوان الناطق، فإنّ الناطق لكونه فصلا هو المقوّم للحيوان وإمّا عموم وخصوص من وجه نحو الحيوان الأبيض وهذا أيضا في الماهيات الاعتبارية، لأنّ الماهية الحقيقية يمتنع أن يكون بين أجزائها عموم من وجه. وأمّا المباينة فإمّا أن يعتبر الشيء مع علّة ما من العلل أو مع معلول أو مع ما ليس علّة ولا معلولا بالقياس إليه، والأول إمّا معتبر مع الفاعل كالعطاء فإنّه اسم لفائدة اعتبرت إضافتها مع الفاعل أو مع القابل نحو الفطومة وهي التقعّر الذي في الأنف اعتبر فيها الشيء بالإضافة إلى قابله، أو مع الصورة نحو الأفطس وهو الأنف الذي فيه تقعير وهو يجري مجرى الصورة، فإنّ المراد بالعلّة أعم من الحقيقة أو الشبيه بها أو مع الغاية نحو الخاتم فإنّه حلقة تزيّن بها في الأصبع، وذلك التزيين هو الغاية المقصودة من تلك الحلقة. والثاني وهو المعتبر بالنسبة إلى المعلول نحو الخالق والرازق ونحوهما مما اعتبر فيه الشيء مقيسا إلى معلوله. والثالث إمّا متشابهة في الماهية كأجزاء العشرة هي الوحدات المتوافقة الحقيقة أو متخالفة في الماهية، وهي إمّا متمايزة عقلا لا حسّا كالجسم المركّب من الهيولى والصورة، أو خارجا أي حسّا كأعضاء البدن وكالخلقة المركّبة من اللون والشكل المتمايزة في الحسّ، فإنّ الهيئات الشكلية محسوسة تبعا، وأيضا الأجزاء إمّا أن تكون وجودية بأسرها أي لا يكون في مفهوماتها سلب أو لا يكون كذلك، والوجودية إمّا حقيقية أي غير إضافية كالجسم المركّب من الهيولى والصورة والإنسان المركّب من الروح والجسد تركيبا اعتباريا، أو إضافية نحو الأقرب فإنّ مفهومه مركّب من القرب والزيادة فيه وكلاهما إضافيان، أو ممتزجة من الحقيقية والإضافية كالسرير المركّب من قطع الخشب وهي موجودات حقيقية ومن ترتيب مخصوص فيما بينهما باعتبار يتحصل السرير وأنّه أمر نسبي لا يستقلّ بالمعقولية، والثاني وهو ما لا يكون بأسرها وجودية نحو القديم فإنّه موجود لا أوّل له، فقد تركّب مفهومه من وجودي وعدمي، وأمّا العدمي المحض فغير معقول لأنّ تعدّد العدم ليس بــذاتــه بل بالإضافة إلى الملكات. فالمفهوم الوجودي وهو النسبة إلى الملكة ملحوظة في التراكيب من العدمات.
واعلم أنّ هذه الأقسام المذكورة في هذين المعنيين إنّما هي في الماهية على الإطلاق حقيقية كانت أو اعتبارية. وأمّا إذا اعتبرنا الماهية الحقيقية فلا تكون أجزاؤها إلّا موجودة فتكون وجودية قطعا والنسبة بين أجزاء الماهية الحقيقية قد يمتنع على بعض الوجوه المذكورة في التقسيم الأوّل كالعموم من وجه، وكالمساواة على ما قيل من امتناع تركّب الماهية الحقيقية الواحدة وحدة حقيقية من أمرين متساويين.
فائدة:
هل الماهية مجعولة بجعل جاعل أم لا، فيه ثلاثة مذاهب. الأوّل أنّها غير مجعولة مطلقا. الثاني أنّها مجعولة مطلقا. الثالث أنّ الماهية المركّبة مجعولة بخلاف البسيطة، وتحرير محلّ النزاع على ما هو التحقيق هو أنّهم بعد الاتفاق على أنّ الماهيات الممكنة محتاجة في كونها موجودة إلى الفاعل وإلّا لم تكن ممكنة، اختلفوا في أنّ الماهيات في حدّ ذواتها مع قطع النظر عن الوجود وما يتبعها والعدم وما يلزمها أثر للفاعل. ومعنى التأثير استتباع المؤثّر الأثر حتى لو ارتفع المؤثّر ارتفع الأثر بالكلية فيكون الوجود انتزاعيا محضا. وكذا كون الماهية تلك الماهية انتزاعي محض وإليه ذهب الأشعري والإشراقيون القائلون بعينية الوجود أم لا، بل الماهيات في حدّ ذواتها ماهيات والتأثير والجعل باعتبار كونها موجودة وما يتبع الوجود.
ومعنى التأثير جعل شيء شيئا وهو الجعل المركّب فيكون الاتصاف بالوجود حقيقيا، سواء كان موجودا أو معدوما وإليه ذهب جمهور المتكلّمين القائلون بزيادة الوجود، وقد سبق في لفظ الجعل ولفظ الحقيقة ما يوضّح هذا. بقي هاهنا شيء وهو أنّ مرتبة علمه تعالى مقدّمة على الجعل، فالماهيات في مرتبة العلم متميّزة متكثّرة من غير تعلّق الجعل، فكيف يقال إنّ الماهيات في أنفسها أثر الجعل اللهم إلّا أن يقال إنّ ذلك التكثّر والتعدّد بسبب العلم فيكون أنفسها مجعولة بالجعل العلمي، وإن لم تكن مجعولة بالجعل الخارجي. هذا كله ما يستفاد من شرح المواقف وحواشيه.
Learn Quranic Arabic from scratch with our innovative book! (written by the creator of this website)
Available in both paperback and Kindle formats.