Current Dictionary: All Dictionaries

Search results for: مدى

الْمَدّ

(الْمَدّ) السَّيْل وَكَثْرَة المَاء والــمدى يُقَال بيني وَبَينه قدر مد الْبَصَر وارتفاع النَّهَار وَيُقَال أَتَيْته مد النَّهَار وَمد الضُّحَى وارتفاع مَاء الْبَحْر على الشاطئ ضد الجزر

(الْمَدّ) مكيال قديم اخْتلف الْفُقَهَاء فِي تَقْدِيره بِالْكَيْلِ الْمصْرِيّ فقدره الشَّافِعِيَّة بِنصْف قدح وَقدره الْمَالِكِيَّة بِنَحْوِ ذَلِك وَهُوَ رَطْل وَثلث عِنْد أهل الْحجاز وَعند أهل الْعرَاق رطلان (ج) أَمْدَاد ومداد
الْمَدّ: بِالضَّمِّ الرطل وَثلث الرطل وَقَالَ الْفَاضِل المدقق قرء كَمَال الْمَدّ هُوَ نصف الصَّاع وَقيل هُوَ ربع الصَّاع انْتهى. وبالفتح فِي اللُّغَة كشيدن وحروف الْمَدّ حُرُوف الْعلَّة الساكنة الَّتِي تكون حَرَكَة مَا قبلهَا مُوَافقَة لَهَا ومجموعها فِي قَوْله تَعَالَى: {ونوحيها} . وَأَصْحَاب التجويد ذكرُوا أَقسَام الْمَدّ بِأَنَّهُ إِذا اتَّصل بِأحد هَذِه الْحُرُوف الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة حرف مشدد نَحْو أتحاجوني أَو حرف سَاكن نَحْو الْآن. أَو حرف وقف عَلَيْهِ نَحْو مَالك يَوْم الدّين. يمد مدا وَيُسمى الأول عدلا وضروريا. وَالثَّانِي سَاكِنا ولازما. وَالثَّالِث عارضا ووقفيا. وَإِذا اتَّصل بأحدها همزَة متحركة فالمد نَوْعَانِ. فَإِذا اجْتمع حرف الْمَدّ والهمزة المتحركة فِي كلمة وَاحِدَة نَحْو أُولَئِكَ يُسمى مُتَّصِلا وَهَذَا الْمَدّ وَاجِب. وَإِذا كَانَا فِي كَلِمَتَيْنِ بِحَيْثُ يُوجد حرف الْمَدّ فِي آخر الْكَلِمَة الأولى والهمزة المتحركة فِي أول الْكَلِمَة الْأُخْرَى نَحْو بِمَا أنزل يُسمى مُنْفَصِلا وَهُوَ لَيْسَ بِوَاجِب بل يجوز فِيهِ الْمَدّ بِمِقْدَار ثَلَاث ألفات. والتوسط بِمِقْدَار أَلفَيْنِ وَالْقصر بِمِقْدَار ألف وَاحِد. وَإِذا اجْتمعت الهمزتان وَالْأولَى مِنْهُمَا متحركة وَالثَّانيَِة سَاكِنة ثمَّ قلبت الثَّانِيَة بِحرف الْعلَّة على وفْق حَرَكَة الْهمزَة الأولى فالمد وَاجِب قدر ألف وَيُسمى بَدَلا نَحْو آمنا وآتينا وَإِذا اتَّصل بضمير الْمُذكر الْوَاحِد الْغَائِب همزَة متحركة وتحرك مَا قبل ذَلِك الضَّمِير فالمد جَائِز وَيُسمى ضمير يَا نحور بِهِ أحدا - لَهُ أسرى - بِخِلَاف مَا إِذا وَقع السَّاكِن قبله فَلَا يجوز الْمَدّ نَحْو نوحيه إِلَيْك. وَإِذا اجْتمعت الواوان أَو الياءان من كَلِمَتَيْنِ وَالْأولَى مِنْهُمَا حرف مد وَالْأُخْرَى متحركة يمد بِحَيْثُ يظْهر الْمدَّة وَتسَمى تبعيا نَحْو قَالُوا وجدنَا - رَأَيْت الَّذِي يكذب. ثمَّ اعْلَم أَن الْحُرُوف المقطعات الْمصدر بهَا بعض السُّور إِذا كَانَ على ثَلَاثَة أحرف أوسطه حرف مد يجب الْمَدّ أَيْضا نَحْو نون والقلم - ق وَالْقُرْآن الْمجِيد. وَإِنَّمَا قيدوا ذَلِك الْحَرْف بِكَوْنِهِ على ثَلَاثَة أحرف وأوسطه حرف مد ليخرج عَن هَذَا الحكم الْحَرْف (الثنائي) كيا من يس وحا من حم - (والثلاثي) الَّذِي لم يكن أوسطه حرف مد كألف من الم أما عين من كهيعص وحم عسق فللقراء فِيهِ ثَلَاثَة أوجه (الْمَدّ) لمناسبة مَا قبله وَمَا بعده (والتوسط) للْفرق بَين حرف الْمَدّ واللين (وَالْقصر) لعدم وجود الشَّرْط وَهُوَ كَون أوسطه حرف وَيخْتَلف الْقُرَّاء فِي حد طول هَذِه المدات فبعضهم يمدونها بِمِقْدَار ثَلَاث ألفات وَبَعْضهمْ بِمِقْدَار أَربع ألفات إِلَّا مد الْبَدَل والتبعي فَلَا خلاف فِي طولهَا على مَا ذكرُوا.

الطوَال

(الطوَال) المفرط الطول
(الطوَال) الطول ومدى الدَّهْر يُقَال لَا ُأكَلِّمهُ طوال الدَّهْر والعمر يُقَال طَال طوالك

(الطوَال) الطَّوِيل

الشَّافِعِي

الشَّافِعِي: هُوَ الإِمَام الثَّانِي فِي الِاجْتِهَاد بعد سراج الْأمة الإِمَام الْهمام الْأَعْظَم أبي حنيفَة رَضِي الله عَنْهُمَا، وَقد كتب عَنهُ قدوة السالكين وزبدة العارفين الشَّيْخ فريد الدّين الْعَطَّار قدس سره وأنور مرقده فِي كتاب (تذكرة الْأَوْلِيَاء) يَقُول: إِن فضائله وشمائله ومناقبه ومجاهداته خَارِجَة عَن حد الْوَصْف، درس فِي الْحرم الشريف ثَلَاثَة عشر سنة وَكَانَ يَقُول: ((سلوني عَمَّا شِئْتُم)) وَقد أفتى هُوَ فِي سنّ الْخَامِسَة عشر من الْعُمر.
وَأحمد بن حَنْبَل رَحمَه الله تَعَالَى الَّذِي كَانَ إِمَام الدُّنْيَا، ويحفظ ثَلَاثمِائَة ألف حَدِيث وَمَعَ كل هَذِه العظمة أصبح تلميذا لَهُ يدْخل عَلَيْهِ، وَقد قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ رَحمَه الله، إِذا وزنا عقل الشَّافِعِي مَعَ عقول جَمِيع الْخلق لرجح عقل الشَّافِعِي. وَالشَّافِعِيّ مَعَ كل هَذِه الْمرتبَة والمنقبة كَانَ تلميذا ل (مُحَمَّد بن الْحسن) الَّذِي كَانَ تلميذا للْإِمَام أَبُو حنيفَة، وَإِذا أردْت أَن تعرف مدى علم هَذَا الرجل فَمَا عَلَيْك سوى الرُّجُوع إِلَى (طَالب الْعلم) . (انْتهى) . وقبة الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى قبَّة عَظِيمَة الْبناء وَاسِعَة الفضاء وَفِي رَأس ميل الْقبَّة سفينة صَغِيرَة من حَدِيد، وَأنْشد بعض الشُّعَرَاء لما زار الْقبَّة وَرَأى ذَلِك الْميل والسفينة فِي رَأسه:
(قبَّة مولَايَ قد علاها ... لعظم مقدارها السكينَة ... )
(لَو لم يكن تحتهَا بحار ... مَا كَانَ من فَوْقهَا السَّفِينَة ... ) 

التصوير بالاستعارة

التصوير بالاستعارة
اقتصر الأقدمون عند ما تحدثوا عن الاستعارة في القرآن على ذكر أنواعها، من استعارة محسوس لمحسوس بجامع محسوس أو بجامع عقلى، ومن استعارة محسوس لمعقول، ومن استعارة معقول لمعقول أو لمحسوس، ومن استعارة تصريحية أو مكنية، ومن مرشحة أو مجردة، إلى غير ذلك من ألوان الاستعارة، وهم يذكرون هذه الألوان، ويحصون ما ورد في القرآن منها، ويقفون عند ذلك فحسب، وبعضهم يزيد فيجرى الاستعارة، ظانا أنه بذلك قد أدى ما عليه، من بيان الجمال الفنى في هذا اللون من التصوير، ولم أر إلا ما ندر من وقوف بعضهم يتأمل بعض هذه اللمحات الفنية المؤثرة، وليس مثل هذه الدراسة بمجد في تذوق الجمال وإدراك أسراره، ومن الخير أن نتبين الأسرار التى دعت إلى إيثار الاستعارة على الكلمة الحقيقة.
وإذا أنت مضيت إلى الألفاظ المستعارة رأيتها من هذا النوع الموحى؛ لأنها أصدق أداة تجعل القارئ يحس بالمعنى أكمل إحساس وأوفاه، وتصور المنظر للعين، وتنقل الصوت للأذن، وتجعل الأمر المعنوى ملموسا محسّا، وحسبى أن أقف عند بعض هذه الألفاظ المستعارة الموحية، نتبين سر اختيارها:
قال سبحانه: وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (الكهف 99). فكلمة يَمُوجُ لا تقف عند حد استعارتها لمعنى «الاضطراب» بل إنها تصور للخيال هذا الجمع الحاشد من الناس، احتشادا ألا تدرك العين مداه، حتى صار هذا الحشد الزاخر كبحر، ترى العين منه ما تراه في البحر الزاخر من حركة وتموّج واضطراب، ولا تأتى كلمة يَمُوجُ إلا موحية بهذا المعنى، ودالة عليه. وقال سبحانه: قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً (مريم 4). وهنا لا تقف كلمة اشْتَعَلَ عند معنى انتشر فحسب، ولكنها تحمل معنى دبيب الشيب في الرأس في بطء وثبات، كما تدب النار في الفحم مبطئة، ولكن في دأب واستمرار، حتى إذا تمكنت من الوقود اشتعلت في قوة لا تبقى ولا تذر، كما يحرق الشيب ما يجاوره من شعر الشباب، حتى لا يذر شيئا إلا التهمه، وأتى عليه، وفي إسناد الاشتعال إلى الرأس ما يوحى بهذا الشمول الذى التهم كل شىء في الرأس. وقد تحدثنا فيما مضى عما توحى به كلمة تنفس، من إثارة معنى الحياة التى تغمر الكون عند مطلع الفجر.
وقال تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (يس 37). فكلمة نَسْلَخُ تصور للعين انحسار الضوء عن الكون قليلا قليلا، ودبيب الظلام إلى هذا الكون في بطء، حتى إذا تراجع الضوء ظهر ما كان مختفيا من ظلمة الليل. وقال تعالى: وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (الذاريات 41، 42).
ففي العقم ما يحمل إلى النفس معنى الإجداب الذى تحمله الريح معها.
وكثر في القرآن أخذ الكلمات الموضوعة للأمور المحسوسة، يدل بها على معقول معنوى، يصير به كأنه ملموس مرئى، فضلا عن إيحاءات الكلمة إلى النفس، خذ مثلا قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (آل عمران 187). ألا ترى أن كلمة (نبذ)، فضلا عن أنها تدل على الترك، توحى إلى نفس القارئ معنى الإهمال والاحتقار، لأن الذى (ينبذ) وراء الظهر إنما هو الحقير المهمل. وقوله تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ (الأنبياء 18). فكلمة القذف توحى بهذه القوة التى يهبط بها الحق على الباطل، وكلمة فَيَدْمَغُهُ توحى بتلك المعركة التى تنشب بين الحق والباطل، حتى يصيب رأسه ويحطمه، فلا يلبث أن يموت وتأمل قوة التعبير بالظلمات والنور يراد بهما الكفر والإيمان، فى قوله تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ (إبراهيم 1). وجمع الظلمات يصور لك إلى أى مدى ينبهم الطريق أمام الضال، فلا يهتدى إلى الحق، وسط هذا الظلام المتراكم.
ومن ذلك قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ (البقرة 237). فإنك تشعر في كلمة العقدة بهذا الربط القلبى، الذى يربط بين قلبى الزوجين. ويطول بى القول إذا أنا وقفت عند كل استعارة، من هذا اللون وحسبى أن أشير إلى بعض نماذجه كقوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (الحجر 94). فكلمة الصدع بمعنى الجهر توحى بما سيكون من أثر هذه الدعوة الجديدة، من أنها ستشق طريقها إلى القلوب وتحدث في النفوس أثرا قويّا، وقوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا (آل عمران 103). فأى صلة متينة ذلك الدين الذى يربطك بالله، يثير هذا المعنى في نفسك هذا التعبير القوى المصور: حبل الله.
وقوله تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (الشعراء 224، 225). وقوله تعالى: لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً (آل عمران 99). وقوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ (الأنعام 68). وتأمل جمال أَفْرِغْ فى قوله سبحانه: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً (الأعراف 126). وما يثيره في نفسك من الطمأنينة التى يحس بها من هدأ جسمه بماء يلقى عليه، وهذه الراحة تشبهها تلك الراحة النفسية، ينالها من منح هبة الصبر الجميل، ومن الدقة القرآنية في استخدام الألفاظ المستعارة أنه استخدم أَفْرِغْ وهى توحى باللين والرفق وعند حديثه عن الصبر، وهو من رحمته، فإذا جاء إلى العذاب استخدم كلمة (صب) فقال: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (الفجر 13). وهى مؤذنة بالشدة والقوة معا.
وتأمل كذلك قوة كلمة زُلْزِلُوا فى قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (البقرة 214). ولو أنك جهدت في أن تضع كلمة مكانها ما استطاعت أن تؤدى معنى هذا الاضطراب النفسى العنيف.
وقد تحدثنا فيما مضى عن جمال التعبير في قوله تعالى: يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ (البقرة 27). وقوله سبحانه: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ (البقرة 7). وقد يستمر القرآن في رسم الصورة المحسوسة بما يزيدها قوة تمكّن لها في النفس، كما ترى ذلك في قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (البقرة 16). فقد أكمل صورة الشراء بالحديث عن ربح التجارة والاهتداء في تصريف شئونها.
وقد يحتاج المرء إلى تريث يدرك به روعة التعبير، كما تجد ذلك في قوله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (النحل 112). فقد يبدو أن المناسبة تقضى أن يقال: فألبسها الله لباس الجوع، ولكن إيثار الذوق هنا؛ لأن الجوع يشعر به ويذاق، وصح أن يكون للجوع لباس؛ لأن الجوع يكسو صاحبه بثياب الهزال والضنى والشحوب.
وقد يشتد وضوح الأمر المعنوى في النفس، ويقوى لديها قوة تسمح بأن يكون أصلا يقاس عليه، كما ترى ذلك في قوله سبحانه: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (الحاقة 11). فهنا كان الطغيان المؤذن بالثورة والفوران أصلا يشبه به خروج الماء عن حده، لما فيه من فورة واضطراب، وعلى هذا النسق جاء قوله تعالى: وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (الحاقة 6). فهذه الريح المدمرة يشبه خروجها عن حدها العتوّ والجبروت.
وقد يجسم القرآن المعنى، ويهب للجماد العقل والحياة، زيادة في تصوير المعنى وتمثيله للنفس، وذلك بعض ما يعبر عنه البلاغيون بالاستعارة المكنية، ومن أروع هذا التجسيم قوله سبحانه: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ (الأعراف 154). ألا تحس بالغضب هنا وكأنه إنسان يدفع موسى ويحثه على الانفعال والثورة، ثم سكت وكفّ عن دفع موسى وتحريضه، ومن تعقيل الجماد قوله سبحانه: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (فصلت 11). وفي ذلك التعبير ما يدل على خضوعهما واستسلامهما، وقوله سبحانه: فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ (الكهف 77). وكأنما الجدار لشدة وهنه وضعفه يؤثر الراحة لطول ما مر به من زمن. وقوله تعالى: وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (الملك 6 - 8). فهذا التميز من الغيظ يشعر بشدة ما جناه أولئك الكفرة، حتى لقد شعر به واغتاظ منه هذا الذى لا يحس.
وعلى هذا النسق قوله سبحانه: كَلَّا إِنَّها لَظى نَزَّاعَةً لِلشَّوى تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (المعارج 15 - 17). ألا تحس في هذا التعبير كأن النار تعرف أصحابها
بسيماهم، فتدعوهم إلى دخولها ومنه قوله تعالى: حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ (يونس 24). وفي ذلك ما يشعرك بالحياة التى تدب في الأرض، حين تأخذ زخرفها وتتزين.
هذا وقد كثر الحديث عن قوله سبحانه: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ (الإسراء 24). ورووا ما يفهم منه أن أبا تمام قلد هذا التعبير فقال:
لا تسقنى ماء الملام، فإننى ... صبّ قد استعذبت ماء بكائى
حتى إنه يروى أن أحدهم أرسل إليه زجاجة يطلب منه فيها شيئا من ماء الملام، فقال أبو تمام: حتى تعطينى ريشة من جناح الذل. قيل: فاستحسنوا منه ذلك. وعندى أن ليس الأمر على ما ذكروه، وأن هذا التعبير كناية عن الرفق في معاملة الوالدين، وأخذهما باللين والرقة، كما تقول: «واخفض لهما الجناح ذلا» ولكن لما كان ثمة صلة بين الجناح بمعنى جانب الإنسان وبين الذل، إذ إن هذا الجانب هو مظهر الغطرسة حين يشمخ المرء بأنفه، ومظهر التواضع حين يتطامن- أجازت هذه الصلة إضافة الجناح للذل لا على معنى الملكية، فلسنا بحاجة إلى تشبيه الذل بطائر نستعير جناحه، ولكنا بحاجة إلى استعارة الجناح للجانب، وجمال ذلك هنا في أن اختيار كلمة الجناح في هذا الموضع يوحى بما ينبغى أن يظلّ به الابن أباه من رعاية وحب، كما يظل الطائر صغار فراخه.
وبما ذكرناه يبدو أن بيت أبى تمام لم يجر على نسق الآية الكريمة، فليس هناك صلة ما بين الماء والملام تجيز هذه الإضافة، ولا سيما أن إيحاء الكلمات فى الجملة لا تساعد أبا تمام على إيصال تجربته إلى قارئه، فليس في سقى الماء ما يثير ألما، ولو أنه قال: لا تجر عنى غصص الملام، لاستطاع بذلك أن يصور لنا شعوره تصويرا أدقّ وأوفى، لما تثيره هاتان اللفظتان في النفس من المشقة والألم.
*** 

مصر فى القرآن

مصر فى القرآن
أشار القرآن إلى مصر مرات عدّة، ففيها جرى معظم حوادث قصة يوسف، وإلى فرعونها أرسل موسى، وقد كررت قصته كثيرا، ولم يؤرخ القرآن لمصر، ولكنه أشار إلى النواحى التى ترتبط بهدفه من الهداية والإرشاد. وقد أثبت القرآن ما كان لمصر من عظمة ومجد وغنى، فقد قال على لسان موسى: وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا (يونس 88).
كما أشار إلى عظمة ما كان لها من ملك ضخم فوق سطح الأرض، ترمقه الأمم بعين الإكبار والإجلال، حين قال على لسان هذا المصرى الذى آمن بموسى: يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ
الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ
(غافر 29).
أما فرعون فإنه معتز بملك مصر، وبأنهارها التى تجرى تحت قصوره، وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (الزخرف 51)، وإذا كانت مصر بهذه العظمة والجلال فلا جرم كان فرعون يشعر في نفسه بعلو لا يسامى، وجلال لا يقارب، ولذا أكثر القرآن من وصفه بالعلو في الأرض، وانتهى الأمر بالفراعنة في مصر إلى أن ادعوا الألوهية، ولهذا قال فرعون عند ما دعاه موسى إلى عبادة الله: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (الشعراء 29). وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (القصص 38). وبهذا بلغ فرعون مدى الطغيان الذى لا طغيان بعده، ولما أرسل إليه موسى وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (القصص 39).
وأثبت القرآن على فرعون وملئه أنهم قوم عالون فاسقون ظالمون، ولعل سبب وصفهم بذلك أنهم لم يؤمنوا بالله، ولم يتركوا اتخاذ فرعون إلها، فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (هود 97). ورفض فرعون وملؤه اتباع موسى لأمور:
أولها: أن موسى وهارون بشران، لا يمتازان عنهم بشيء ما، فضلا عن أقومهما يعبدون فرعون، ويتخذونه إلها، فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (المؤمنون 47). بل رأى فرعون أنه خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (الزخرف 52).
فقد كان بلسان موسى عقدة تحول بينه وبين الإفصاح في يسر، ورأى فرعون أنه مما كان يعزز دعوى موسى في الرسالة أن لو كان ملكا متوجا، أو عزّز بملائكة تؤيده، فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (الزخرف 53).
ثانيها: أنهم رأوا في اتباع موسى وهارون نزولا من مكانة الرئاسة التى كانوا يستمتعون فيها بحقوق ومزايا سوف يفقدونها إذا اتبعوهم، إذ يصبحون من السوقة والأتباع، قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (يونس 78).
ثالثها: أنهم رأوا صلة وثقى بين الأرض التى نبتوا فيها وترعرعوا عليها، وبين التقاليد والعقائد التى ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، ورأوا في الخروج على تلك التقاليد والعقائد اغترابا عن وطن توارثوه، ووجدوا أنهم إذا آمنوا بموسى فكأنهم أخرجوا من أوطانهم، وقد كرّر القرآن فكرتهم هذه في مواضع عدّة منه، فقال على لسان فرعون يخاطب موسى: قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (طه 57).
وقال على لسانه، يخاطب الملأ حوله يريد أن يثيرهم ضد موسى: قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (الشعراء 34، 35).
وأصر المصريون تعنتا على ألا يؤمنوا بموسى وإلهه، برغم ما نزل بمصر من محن أنذرهم بها موسى، وكانوا يتطيرون به وبقومه، ويحدثنا القرآن عما نزل بمصر يومئذ من البلاء في قوله: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (الأعراف 130 - 135).
والظاهر أن موسى لم يدع الشعب المصرى إلى اتباعه، ولكنه مضى رأسا إلى فرعون يدعوه إلى دينه، مؤملا بعد هدايته أن يقتدى به قومه فيؤمنوا، ولم يوجه موسى دعوته إلى غير فرعون، وإن كان السحرة قد آمنوا به بعد أن اعتقدوا أن قوة خارقة هى التى أمدّته.

موازنات

موازنات
أقصد بعقد هذه الموازنات أن نتبين الدقة القرآنية في تصوير المعنى تصويرا ينقل إلى النفس الفكرة نقلا أمينا، ولكنى لا أريد أن أعقد كل ما يمكن من الموازنات، فذلك ما لم يتيسر لى القيام به إلى اليوم، فضلا عن أنه فوق طاقتى، وكل ما أريده الآن هو عرض ما أمكننى من هذه الموازنات، راجيا أن أوفق إلى الإكثار منها، بقدر ما أستطيعه في قابل الطبعات إن شاء الله.
1 - قال تعالى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (يس 39).
وقال ابن المعتز:
ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا ... مثل القلامة قد قدّت من الظفر
وقال أيضا:
انظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر
وقال أيضا:
انظر إلى حسن هلال بدا ... يهتك من أنواره الحندسا
كمنجل قد صيغ من فضة ... يحصد من زهر الدجى نرجسا
وقال السرىّ الرفاء:
وكأن الهلال نون لجين ... غرّقت في صحيفة زرقاء
وقال أيضا:
ولاح لنا الهلال كشطر طوق ... على لبّات زرقاء اللباس
تتحدث هذه النصوص كلها عن الهلال، ولكى ندرك الفرق في القيمة بين هذه النصوص بعضها وبعض، نتبين معنى كل نص منها، لنرى أيها أدق وأوفى:
أما الآية الكريمة فإنها تتحدث عن تلك التنقلات التى تحدث للقمر بقدرة الله، فبينا هو وليد، إذا به ينمو رويدا رويدا، حتى يصبح بدرا مكتملا، ثم يعود أدراجه، وينقص قليلا قليلا، حتى يعود كعود الكباسة القديم، دقيقا معوجا لا يكاد يرى، ولا يؤبه له، بعد أن كان ملء البصر، وملء الفؤاد، وأنت بذلك ترى أن التشبيه الذى جاء في الآية كان له نصيب في أداء المعنى، ولم يجئ بعد أن استوفى المعنى تمامه، وكان دقيقا أتم دقة، فى أداء المعنى وتصويره كاملا.
أما بيت ابن المعتز الأول، فإن التشبيه الذى أورده لا دخل له أصلا في الفكرة التى يريد نقلها إلى قارئه، فإن كون الهلال مثل قلامة الظفر لا دخل له في أنه كاد يفضحهم، بل على العكس يقلل من شأن الفكرة ويضعفها، فإن هذا الهلال الضئيل الذى يشبه قلامة الظفر، خليق به ألا يكون له أثر ما في تبديد ظلمة الليل المتكاثفة، وخليق به ألا يفضحهم ولا يبين عن مكانهم، وبذلك ترى أن الصلة ليست وثيقة بين شطرى البيت، ولا بين التشبيه والفكرة التى جاء من أجلها.
وفي بيته الثانى سبق أن بينا وجوه النقص فيه ، وتحدثنا عن أن نفاسة المشبّه به لا ترفع من شأن التشبيه، ولا تستر ما فيه من ضعف، وذكرنا أن انتزاع الصورة من
الخيال لا يزيد المشبه وضوحا، ولا يمنحه قوة.
أما بيته الثالث فضعيف متهالك، لم يصور الهلال كما تراه العين، ولا كما تحس به النفس، ففضلا عن غفلة ابن المعتز عما يبعثه الهلال الجديد من آمال جديدة في النفس، ووقوفه عند حد التصوير البصرى لم يوفق في هذا التصوير، فإن الهلال في نظر العين هادئ ساكن، والمنجل في يد الحاصد متحرك في سرعة، فكيف نتخيل الهلال منجلا يحصد، وهو لم يتحرك، ثم ما الصلة بين زهر الدجى وبين النرجس، وكيف يحصد الهلال هذا الزهر، والزهر باق في مكانه لا ينمحى ولا يزول، والعهد بما يحصد أن يتخلى عن مكانه. ومن ذلك ترى نقص التشبيه وقصوره.
واقتصر السّرى الرفاء على التصوير البصرى أيضا ثمّ فاتته الدقة عند ما جعل هذه النون من اللجين غريقة في صحيفة زرقاء، فصور لنفسك أى قدر هذه التى تشبه بها السماء، وتأمل أهناك سبب يدعو إلى جعل هذه النون غريقة في تلك القدر الضخمة؟! فالغريق يعلو، ويهبط، ويبدو، ويختفى، مما لا تراه العين في الهلال الهادى المطمئن.
وانظر، أتجد في بيته الثانى تشبيها زادك شعورا بالهلال عند ما جعله نصف طوق فضلا عن عدم دقته؟! وتأمل أى صلة تربط بين السماء ولبة فتاة تلبس ثيابا زرقاء؟!. وبذلك العرض الموجز تتبين الفرق بين تشبيه القرآن الدقيق المصور وبين تلك التشبيهات الضعيفة العرجاء.
2 - وأطال القدماء في الموازنة بين قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ (البقرة 179). وقولهم: «القتل أنفى للقتل». قالوا: وفضله عليه من وجوه:
أولها: أن الآية الكريمة أقل حروفا من كلامهم.
وثانيها: النص على المطلوب وهو ثبوت الحياة، بخلاف قولهم لأنه إنما يدل على المطلوب باللزوم، من جهة أن نفى القتل يستلزم ثبوت الحياة.
وثالثها: أن تنكير حياة يفيد تعظيما لمنعهم عما كانوا عليه من قتل جماعة بواحد.
ورابعها: اطراده، بخلاف قولهم، فإن القتل ينفى القتل إذا كان على وجه القصاص المشروع، وقد يكون أدعى للقتل، كما إذا وقع ظلما، كقتلهم غير القاتل، وظاهر العبارة يحتمل المعنيين بخلاف القصاص.
وخامسها: أن فيه تكريرا غيره أبلغ منه، ومتى كان التكرير كذلك فهو مقصر عن أقصى طبقات البلاغة.
وسادسها: استغناؤه عما ذكره أكثر من حذفه، وهو (من) بعد أفعل التفضيل الواقع خبرا.
وسابعها: أن القصاص سبب للموت الذى هو ضد الحياة، فما في الآية ملحق بالطباق.
وثامنها: سلامة الآية الكريمة من لفظ القتل المشعر بالوحشة، وتاسعها ظهور العدل في كلمة القصاص.
3 - وتحدث الشعراء عن الصبح، فقال السرى الرفاء:
انظر إلى الليل، كيف تصدعه ... راية صبح مبيضة العذب
كراهب جن للهوى طربا ... فشق جلبابه من الطرب
وقال الشريف الرضى:
وكأنما أولى الصباح وقد بدا ... فوق الطويلع راكب متلثم
وأذاع بالظلماء فتق واضح ... كالطعنة النجلاء يتبعها دم
وقال أيضا:
وليلة خضتها على عجل ... وصبحها بالظلام معتصم تطلع الفجر من جوانبها ... وانفلتت من عقالها الظلم
وقال أيضا:
والصبح قد أخذت أنامل كفه ... فى كل جيب للظلام مزرر
فكأنما في الغرب راكب أدهم ... يحتثه في الشرق راكب أشقر
وليس كل ذلك الشعر بباعث إلى نفسك الشعور بما في الصبح من يقظة وحياة، كما يبعثه إلى نفسك تلك الكلمة القرآنية المختارة: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (التكوير 18).
فإنها تحمل إليك معنى الحياة التى دبت في الكون بعد طول هجوعه، واليقظة التى شملته بعد رقاد وهمود، ويصور لك الوجود، وقد بدأ يفتح عينيه وينهض من سبات، أما هذه الأبيات من الشعر فإنها وقفت تتلمس لهذه الظاهرة الكونية شبيها بصريا، وقد أخفقت جميعها في هذا التصوير البصرى، فشعر السرى الرفاء تلمس للصبح مثيلا، فوجد في الراية ذات العذبات البيض شبيها له، ولا شىء يجمع بين المشبه والمشبه به سوى هذا اللون الأبيض، أما الإحساس النفسى فلا دخل له في الربط بين هذين الطرفين، ثم جعل السرى الليل راهبا، ولا ندرى كيف يدفع الهوى راهبا إلى الجنون وهو راهب، وليت شعرى ما الذى يبدو من الراهب إذا شق ثوبه؟! وإذا كان الراهب أسود اللون فهل يبدو تحت جلبابه سوى السواد، وشق الثوب من مجنون إنما يكون في سرعة لا تمثل ضوء الصباح الزاحف في بطء.
أما شعر الشريف الرضى الأول فقد أجهدت ذهنى في أن أربط صلة بين الصبح والراكب المتلثم، فلم أجد رابطا ذا قيمة يصل بينهما، ولماذا اختار الشاعر الراكب دون الماشى؟ وما لون هذا الراكب؟ وعلى أى شىء يركب؟ وهل الصبح كمتلثم يظل متلثما، ثم يبدى صفحة وجهه دفعة واحدة؟ وما الصورة التى ترتسم في ذهنك لهذا الصبح المتلثم الراكب؟ وهل هيئة الصبح تشبه هيئة راكب متلثم؟ وفيم؟
كل هذه أسئلة تخرج منها بوهن الصلة بين الصبح وهذه الصورة التى يرسمها الشاعر، وفي البيت الثانى يصور لك هذا الصبح، وما فيه من جمال وروعة، تبعث فى النفس حب الجمال لهذه الطبيعة الباسمة المشرقة- صورة دامية بشعة، تثير فى النفس الخوف والألم والنفور، صورة طعنة نجلاء يقطر منها الدم، وسبب ذلك إغفال الجانب النفسى الشعورى من الشاعر عند التشبيه، والوقوف عند حد اللون الذى يربط لون الصبح بتلك الآلة الحادة الطاعنة، وذلك الضوء الأحمر الحى تزجيه الشمس بين يديها، ولون قطرات الدماء، ألا ما أعظم الفرق بين الشعورين! وما أقوى أن يتنافرا، حتى لا يجمع بينهما رباط! وأخطأ الشريف الرضى التوفيق أيضا عند ما وصف الصبح يسفر بعد ظلام الليل، وإن كانت هذه الصورة في بعض نواحيها أضوأ من صاحبتها، عند ما قال:
«تطلع الصبح من جوانبها»، ففي هذا التصوير نوع من الحياة، ولكنه بعيد كل البعد عن أن يصور حياة تكون كما صورتها الآية الكريمة، أما باقى الصورة التى ترسمها الأبيات فقد أخطأت في رسم هذه الظاهرة الطبيعية، فإن الشعر يصور لك أن الصبح لم يلبث أن أطل من الأفق، حتى مضى الليل مسرعا يهرول في جريه، كأنما قد أسفر الصبح ومضى الليل بين غمضة عين وانتباهتها، وذلك تصوير غير دقيق، لأن الليل ينحسر قليلا قليلا عن الصبح، حتى يتم أسفاره، كما أن النهار ينحسر قليلا قليلا، تاركا الكون لظلام الليل، وعبر القرآن عن ذلك في قوله سبحانه: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (يس 37). فاستخدم كلمة السلخ لتوحى بما ذكرناه.
وعاد في شعره الثالث إلى الراكب، لا يلمح من جمال الصبح وبهجته سوى لونه، ونقدنا لهذا الشعر هو ما سبق أن أوضحناه.
4 - ووصف الرسول كتاب الله، كما وصف الله كتابه في القرآن، فقال النبى:
«إن أحسن الحديث كتاب الله، قد أفلح من زينة الله في قلبه، وأدخله في الإسلام بعد الكفر، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنه أصدق الحديث وأبلغه » وقال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (الزمر 23). وأنت ترى الفرق واضحا بين قوة الكلامين، والمنهجين، والاتجاهين.
5 - وصاغ أبو بكر جملة على مثال الجملة القرآنية، فقال من خطبة له:
«واعلموا أن أكيس الكيس التقى » على مثال قوله تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى (البقرة 197)، ولا ريب أن النص القرآنى، يصور تلك الرحلة التى ينتقل فيها الإنسان من الحياة الدنيا إلى الآخرة، وهى رحلة تنتهى بحياة خالدة يحتاج المرء فيها إلى زاد يعيش عليه، فتصوير التقوى بأنها خير زاد يوحى بذلك كله، كما يوحى بالحاجة إليها، كما يحتاج المسافر إلى ما يتزود به في غربته، ولم تزد جملة أبى بكر على أن وصفت التقوى بأنها أحكم ما يتصف به العقلاء، فلم توح الجملة إلى النفس بما أوحت به جملة القرآن. 6 - ومن كتاب أرسله أبو عبيدة ومعاذ بن جبل إلى عمر بن الخطاب: «إنّا نحذرك يوما تعنو فيه الوجوه وتجب فيه القلوب »، وقد وصف القرآن هذا اليوم، فقال: رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (النور 37)، وكلمة «التقلب» فى الآية أشد دلالة على ما يصيب القلوب من الفزع والاضطراب في ذلك اليوم، من الوجيب، فضلا عما فى النص القرآنى من خلوصه من تكرير «فيه» الواردة في الرسالة.
7 - وعند ما يتأثر الشاعر القرآن، يبدو الفرق واضحا بين الأصل والتقليد، وأصغ إلى حسان يقول:
وهل يستوى ضلال قوم تسفهوا ... عمى، وهداة يهتدون بمهتد
أخذه من قوله سبحانه: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ (الرعد 16). فأنت ترى حسان يوازن بين ضلّال وهداة، وليس الفرق بينهما من الوضوح والقوة كالفرق بين الأعمى والبصير، والظلمات والنور، فالفرق هنا واضح ملموس، يشعر به الناس جميعا، حتى إذا اطمأنت النفس إلى هذا الفرق، وآمنت بأن هناك بونا شاسعا بينهما، انتقلت من ذلك إلى تبين مدى ما بين الضال والمهتدى من فرق بعيد.
8 - وقال حسان أيضا في رثاء رسول الله:
عزيز عليه أن يحيدوا عن الهدى ... حريص على أن يستقيموا ويهتدوا
أخذه من قوله تعالى: عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (التوبة 128). وقوة الآية القرآنية تبدو في إظهار نتيجة الحيد عن الهدى، وهى الهلاك والعذاب، وفي ذلك من التخويف لهم ما فيه، فهو يبرز هذه النتيجة كأنها حقيقة واقعة، تؤلم الرسول، وتثقل عليه، وتبدو هذه القوة أيضا في تعميم الحرص، فهو حريص على هدايتهم، حريص على خيرهم، حريص على أن يظفروا فى الآخرة بالثواب والنعيم المقيم، وكل ذلك وأكثر منه يفهم من قوله: «حريص عليكم»، أما حسان فقد خصص ولم يطلق.
9 - وقال حسان في غزوة بدر:
سرنا وساروا إلى بدر لحينهم ... لو يعلمون يقين العلم ما ساروا
دلاهمو بغرور، ثم أسلمهم ... إن الخبيث لمن ولاه غرار
وقال: إنى لكم جار، فأوردهم ... شر الموارد، فيه الخزى والعار ثم التقينا، فولوا عن سراتهم ... من منجدين، ومنهم فرقة غاروا
يستوحى ذلك من قوله تعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (الأنفال 48). وتأمل التصوير القوى البارع في القرآن لتزيين الشيطان أعمال الكافرين لهم، فإن القرآن قد نقل ذلك الحديث الذى أوحى به الشيطان إلى أوليائه وكيف ملأ قلبهم بالغرور، وهنا يجمل حسان، بينما يفصل القرآن، وفي هذا التفصيل سر الحياة، تلك الحياة التى ترينا الشيطان ناكصا على عقبيه، عند ما تراءت الفئتان، يبرأ من هؤلاء الذين غرهم بخداعه، وأسلمهم إلى الموت بكذبه وإيهامه، وهذه الحياة هى التى تنقص شعر حسان.
10 - وتأمل الفرق في الأسلوب، عند ما حور النابغة الجعدى أسلوب القرآن قليلا، فقال:
الحمد لله، لا شريك له ... من لم يقلها فنفسه ظلما
المولج الليل في النهار، وفي اللي ... ل نهارا، يفرج الظلما
فقد حور قوله سبحانه: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ (الحج 61). فحذف المولج، وتقديم في الليل، وتنكير نهارا، والمجيء بجملة «يفرج الظلما»، كل ذلك أضعف أسلوب الشاعر، وباعد بينه وبين الأسلوب القوى للقرآن.
11 - وخذ قول الشاعر:
فإنك لا تدرى بأية بلدة ... تمت، ولا ما يحدث الله في غد
المستمد من قوله تعالى: وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ (لقمان 34)، تر التعميم في الآية الكريمة أكسبها فخامة وقوة، والتعبير بتكسب فيه تصريح بعجز النفس عن أن تعرف ما تعمله هى نفسها في الغد، وذلك ما لا تجده عند الشاعر الذى عمم فيما يحدثه الله في غد، ولم يكن لهذا التعميم ما للتخصيص من قوة التعجيز.
12 - وهذا الشعر الذى ينسب إلى حمزة في غزوة بدر، يتحدث عن الكفار:
أولئك قوم قتلوا في ضلالهم ... وخلوا لواء غير محتضر النصر
لواء ضلال قاد إبليس أهله ... فخاس بهم، إن الخبيث إلى غدر
فقال لهم إذ عاين الأمر واضحا: ... برئت إليكم، ما بى اليوم من صبر
فإنى أرى ما لا ترون، وإننى ... أخاف عقاب الله، والله ذو قسر
فقدمهم للحين، حتى تورطوا ... وكان بما لم يخبر القوم ذا خبر وهو يستوحى كحسان قوله تعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ... (الأنفال 48) فأى فرق شاسع بين الأسلوبين وبين التصويرين، فالأسلوب في الشعر متهاو ضعيف، بينما هو في الآية قوى رائع، يصور الشيطان وقد ملأ أفئدتهم إعجابا بأعمالهم، فاغتروا بها، وتكاد تستمع إلى وسوسته، وهو يؤكد لهم أنه لا غالب لهم اليوم من الناس ما دام جارا لهم، وتتخيله موليا الأدبار بعد أن تراءت الفئتان، وبدت أمام عينيه الهزيمة، فيسلم قومه إلى القتل، ويفر غادرا بهم، ويرن فى أذنك براءته منهم، معللا ذلك بأنه يرى ما لا يرون، وبأنه يخاف الله، وفي ذلك التصوير من التهكم بهم ما فيه.
أما الشعر فبيّن الضعف، يصف اللواء بأنه غير محتضر النصر. وقوله: إذ عاين الأمر واضحا، ليس بأسلوب شعرى. والفرق قوى بين: والله شديد العقاب، وقوله:
والله ذو قسر، وأنت ترى أنه برغم أن المعنى قد أوضحه القرآن، لم يستطع الشاعر أن ينهض إلى مستوى رفيع.
... وللباقلانى منهج في الموازنة، يبين به فضل كتاب الله، هو «أن تنظر أولا في نظم القرآن، ثم في شىء من كلام النبى صلّى الله عليه وسلم، فتعرف الفصل بين النظمين، والفرق بين الكلامين، فإن تبين لك الفصل، ووقعت على جلية الأمر، وحقيقة الفرق، فقد أدركت الغرض، وصادفت المقصد، وإن لم تفهم الفرق، ولم تقع على الفصل، فلا بدّ لك من التقليد، وعلمت أنك من جملة العامة، وأن سبيلك سبيل من هو خارج عن أهل اللسان »، ثم أورد الباقلانى بعض خطب الرسول وكتبه، وعلق عليها بقوله: «ولا أطول عليك، وأقتصر على ما ألقيته إليك، فإن كان لك في الصنعة خطر ... فما أحسب أن يشتبه عليك الفرق بين براعة القرآن، وبين ما نسخناه لك من كلام الرسول صلّى الله عليه وسلم في خطبه ورسائله، وما عساك تسمعه من كلامه، ويتساقط إليك من ألفاظه، وأقدر أنك ترى بين الكلامين بونا بعيدا، وأمدا مديدا، وميدانا واسعا، ومكانا شاسعا  ... ».
«فإذا أردت زيادة في التبيين ... فتأمل (هداك الله) ما ننسخه لك من خطب الصحابة والبلغاء، لتعلم أن نسجها ونسج ما نقلنا من خطب النبى صلّى الله عليه وسلم واحد وسبكها سبك غير مختلف، وإنما يقع بين كلامه وكلام غيره ما يقع من التفاوت بين كلام الفصيحين، وبين شعر الشاعرين ... فإذا عرفت أن جميع كلام الآدمى منهاج، ولجملته طريق، وتبينت ما يمكن فيه من التفاوت- نظرت إلى نظم القرآن نظرة أخرى، وتأملته مرة ثانية، فترى بعد موقعه وعالى محله وموضعه  ... » ثم يورد بعض خطب البلغاء وكتبهم، ويقول: «تأمل ذلك وسائر ما هو مسطر من الأخبار المأثورة عن السلف وأهل البيان واللسن، والفصاحة والفطن ... فسيقع لك الفضل بين كلام الناس وبين كلام رب العالمين، وتعلم أن نظم القرآن يخالف نظم كلام الآدميين ... فإن خيل إليك، أو شبه عليك، وظننت أنه يحتاج أن يوازن بين نظم الشعر والقرآن، لأن الشعر أفصح من الخطب، وأبرع من الرسائل وأدق مسلكا من جميع أصناف المحاورات ... فتأمل ما نرتبه ينكشف لك الحق: إذا أردنا تحقيق ما ضمناه لك فمن سبيلنا أن نعمد إلى قصيدة متفق على كبر محلها وصحة نظمها، وجودة بلاغتها ومعانيها، وإجماعهم على إبداع صاحبها فيها، مع كونه من الموصوفين بالتقدم في الصناعة، والمعروفين بالحذق في البراعة، فنقفك على مواضع خللها، وعلى تفاوت نظمها، وعلى اختلاف فصولها، وعلى كثرة فضولها، وعلى شدة تعسفها، وبعض تكلفها، وما تجمع من كلام رفيع يقرن بينه، وبين كلام وضيع، وبين لفظ سوقى يقرن بلفظ ملوكى  ... » ثم عرض تطبيقا على منهجه معلقة امرئ القيس، وأخذ يبين ما فيها من مجال النقص، ووجوه العيب، ثم قال: «وقد بينا لك أن هذه القصيدة ونظائرها تتفاوت في أبياتها تفاوتا بينا في الجودة والرداءة، والسلاسة والانعقاد، والسلامة والانحلال، والتمكن والتسهل، والاسترسال والتوحش والاستكراه، وله شركاء في نظائرها، ومنازعون فى محاسنها، ومعارضون في بدائعها، ولا سواء كلام ينحت من الصخر تارة، ويذوب تارة، ويتلون تلون الحرباء، ويختلف اختلاف الأهواء، ويكثر في تصرفه اضطرابه، وتتقاذف به أسبابه، وبين قول يجرى في سبكه على نظام، وفي رصفه على منهاج، وفي وضعه على حد، وفي صفائه على باب، وفي بهجته ورونقه على طريق، مختلفه مؤتلف، ومؤتلفه متحد، ومتباعده متقارب وشارده مطيع، ومطيعه شارد، وهو على متصرفاته واحد، لا يستصعب في حال، ولا يتعقد في شأن ».
ذلك هو منهج الباقلانى في الموازنات.
... وإن مجال الموازنات لمتسع بين القرآن والشعر عند ما يكون الموضوع واحدا، فقد تحدث القرآن والشعر عن كثير من الغزوات ولم يستطع الشعر برغم تقليده في كثير من الأحيان للقرآن أن يصل إلى السمو القرآنى، وأن يتناول شتى الأغراض التى تنتظم شئون الجماعة الإسلامية، فى حين أن الشعر الذى تحدث عن هذه الغزوات ضعيف في جملته لا يخرج عن أغراض الشعر المعروفة يومئذ من مدح أو هجاء أو فخر أو رثاء. 

كل زمان

كل زمان
من (ك ل ل) كلمة تفيد الإستغراق لإفراد ما تضاف إليه أو أجزائه، ومن (ز م ن) الوقت قليله وكثيرة ومدة الدنيا كلها، فيكون المعنى الخالد الذكر على مدى الأيام بأعماله الصالحة.

الأَحَاسِنُ

الأَحَاسِنُ:
كأنه جمع أحسن، والكلام فيه كالكلام في أحاسب المذكور قبله: وهي جبال قرب الأحسن، بين ضريّة واليمامة، وقال أبو زياد:
الأحاسن من جبال بني عمرو بن كلاب، قال السري بن حاتم:
كأن لم يكن من أهل علياء باللّوى ... حلول، ولم يصبح سوام مبرّح
لوى برقة الخرجاء ثم تيامنت ... بهم نيّة عنّا، تشبّ فتنزح
تبصّرتهم، حتى إذا حال دونهم ... يحاميم، من سود الأحاسن، جنّح
يسوق بهم رأد الضّحى متبذّل ... بعيد الــمدى، عاري الذراعين، شحشح
سبتك بمصقول ترقّ غروبه، ... وأسحم، زانته ترائب وضّح
من الخفرات البيض، لا يستفيدها ... دنيّ، ولا ذاك الهجين المطرّح

أُحُدٌ

أُحُدٌ:
بضم أوله وثانيه معا: اسم الجبل الذي كانت عنده غزوة أحد، وهو مرتجل لهذا الجبل، وهو جبل أحمر، ليس بذي شناخيب، وبينه وبين المدينة قرابة ميل في شماليّها، وعنده كانت الوقعة الفظيعة التي قتل فيها حمزة عمّ النبي، صلى الله عليه وسلم، وسبعون من المسلمين، وكسرت رباعية النبي، صلى الله عليه وسلم، وشجّ وجهه الشريف، وكلمت شفته، وكان يوم بلاء وتمحيص، وذلك لسنتين وتسعة أشهر وسبعة أيام من مهاجرة النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو في سنة ثلاث، وقال عبيد الله بن قيس الرّقيّات:
يا سيّد الظاعنين من أحد! ... حيّيت من منزل، ومن سند
ما إن بمثواك غير راكدة ... سفع، وهاب، كالفرخ ملتبد
وفي الحديث: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: أحد جبل يحبّنا ونحبّه، وهو على باب من أبواب الجنة. وعير جبل يبغضنا ونبغضه، وهو على باب من أبواب النار. وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، أنه قال: خير الجبال أحد والأشعر وورقان. وورد محمد بن عبد الملك الفقعسي إلى بغداد، فحنّ إلى وطنه وذكر أحدا وغيره من نواحي المدينة، فقال:
نفى النوم عنّي، فالفؤاد كئيب، ... نوائب همّ، ما تزال تنوب
وأحراض أمراض ببغداد جمّعت ... عليّ، وأنهار لهنّ قسيب
وظلّت دموع العين تمرى غروبها، ... من الماء، دارأت لهنّ شعوب
وما جزع من خشية الموت أخضلت ... دموعي، ولكنّ الغريب غريب
ألا ليت شعري، هل أبيتنّ ليلة ... بسلع، ولم تغلق عليّ دروب؟
وهل أحد باد لنا وكأنّه ... حصان، أمام المقربات، جنيب!
يخبّ السّراب الضّحل بيني وبينه، ... فيبدو لعيني تارة، ويغيب
فإن شفائي نظرة، إن نظرتها ... إلى أحد، والحرّتان قريب
وإني لأرعى النّجم، حتى كأنني، ... على كل نجم في السماء، رقيب
وأشتاق للبرق اليمانيّ، إن بدا، ... وأزداد شوقا أن تهبّ جنوب
وقال ابن أبي عاصية السّلمي، وهو عند معن بن زائدة باليمن، يتشوّق المدينة:
أهل ناظر من خلف غمدان مبصر ... ذرى أحد، رمت الــمدى المتراخيا
فلو أنّ داء اليأس بي، وأعانني ... طبيب بأرواح العقيق شفانيا
وكان الياس بن مضر قد أصابه السّلّ، وكانت العرب تسمّي السّل داء اليأس.

أَرْسَنَاسُ

أَرْسَنَاسُ:
بالفتح ثم السكون، وفتح السين المهملة، ونون، وألف، وسين أخرى: اسم نهر في بلاد الروم، يوصف ببرودة مائه، عبره سيف الدولة ليغزو، فقال المتنبي يمدح سيف الدولة ويصف خيله:
حتى عبرن بأرسناس سوابحا، ... ينشرن فيه عمائم الفرسان
يقمصن، في مثل الــمدى، من بارد ... يذر الفحول، وهنّ كالخصيان
والماء، بين عجاجتين، مخلّص ... تتفرّقان، به، وتلتقيان

البَرَدَانُ

البَرَدَانُ:
بالتحريك: مواضع كثيرة، قال أبو الحسن العمراني: أنشدني جار الله العلامة، يعني أبا القاسم الزمخشري، وكنت أناوله الجمد المدقوق فيشربه إذ دخل عليه بعض الكبراء فقال لي: إن ذلك يضرّه، فذكرت له ذلك، فقال:
ألا إن في قلبي جوى، لا يبلّه ... قويق ولا العاصي ولا البردان
قال هذا آخر ما سمعته من كلامه وإنشاده، وهذه أسماء أنهار بالشام، تذكر إن شاء الله تعالى.
والبردان أيضا: عين بأعلى نخلة الشامية من أرض تهامة، وبها عينان: البردان وتنضب، قال نصر:
البردان جبل مشرف على وادي نخلة قرب مكة، وفيها قال ابن ميّادة:
ظلّت بروض البردان تغتسل، ... تشرب منها نهلات وتعل
وقال الأصمعي: البردان ماء بنجد لبني عقيل ابن عامر بينهم وبين هلال بن عامر، وقال أبو زياد: البردان في أقصى بلاد بني عقيل وأول بلاد مهرة، وأنشد:
ظلّت بروض البردان تغتسل
والبردان أيضا: ماء لبني نصر بن معاوية بالحجاز لبني جشم، فيه شيء قليل لبطن منهم يقال لهم بنو عصيمة، يزعمون أنهم من اليمن وأنهم ناقلة في بني جشم، وقال عميرة بن جعيل بن عمرو بن مالك بن الحارث بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب:
ألا يا ديار الحيّ بالبردان! ... خلت حجج بعدي لهنّ ثمان
فلم يبق منها غير نؤي مهدّم، ... وغير أوار، كالرّكيّ دفان
والبردان أيضا: ماء بالسماوة دون الجناب وبعد الحني من جهة العراق. والبردان أيضا: ماء للضّباب قرب دارة جلجل، عن ابن دريد.
والبردان أيضا قال الأصمعي: من جبال الحمى الذّهلول ثم البردان، وهو ماء ملح، كثير النخل.
والبردان أيضا: من قرى بغداد على سبعة فراسخ منها، قرب صريفين، وهي من نواحي دجيل، وقال أبو المنذر هشام بن محمد: سميت البردان التي فوق بغداد بردانا لأن ملوك الفرس كانوا إذا أتوا بالسّبي فنفوا منه شيئا قالوا: برده أي اذهبوا به إلى القرية، وكانت القرية بردان فسميت بذلك، كذا قال. قلت أنا: وتحقيق هذا أن برده بالفارسية هو الرقيق المجلوب في أول إخراجه من بلاد الكفر، ولعل هذه القرية كانت منزل الرقيق فسمّيت بذلك، لأنهم يلحقون الدال والألف والنون في بعض ما يجعلونه وعاء للشيء، كقولهم لوعاء الثياب:
جامه دان، ولوعاء الملح: نمكدان، وما أشبه ذلك، ثم وقفت على كتاب الموازنة لحمزة فوجدته
قد ذكر قريبا مما قلته، فإنه قال: البردان تعريب برده دان، وكان بخت نصّر لما سبى اليهود أنزلهم هناك إلى أن ورد عليه أمر الملك لهراسف من بلخ بما يصنع بهم، وفيه يقول جحظة:
ادفع ورود الهمّ عنك بقهوة ... مخزونة في حانة الخمّار
جازت مدى الأعمار، فهي كأنها ... عند المذاق تزيد في الأعمار
يسعى بها خنث الجفون منعّم، ... في خدّه ماء النضارة جار
في رقّة البردان بين مزارع، ... محفوفة ببنفسج وبهار
بلد يشبّه صيفه بخريفه، ... رطب الأصائل بارد الأسحار
وينسب إليها جماعة، منهم: أبو الحسن محمد بن أحمد ابن محمد بن الحسن بن الحسين بن علي البرداني، توفي في ذي القعدة سنة 469، وابنه أبو علي كان فاضلا، توفي سنة 498. والبردان أيضا بالكوفة، وكان منزل وبرة بن رومانس، وقال هشام: هو وبرة الأصغر ابن رومانس بن معقّل بن محاسن بن عمرو ابن عبد ودّ بن عوف بن كنانة بن عوف بن عذرة ابن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة أخو النعمان بن المنذر لأمّه، فمات ودفن بهذا الموضع، فلذلك يقول مكحول بن حرثة يرثيه:
ألا يا عين جودي، باندفاق، ... على مردى قضاعة بالعراق
فما الدّنيا بباقية لحيّ، ... ولا حيّ على الدنيا بباق
لقد تركوا على البردان قبرا، ... وهمّوا للتفرّق بانطلاق
وقال ابن الكلبي: مات في طريقه إلى الشام فيجوز ان يكون البردان الذي بالسماوة، وقد ذكر. والبردان أيضا: نهر بثغر طرسوس مجيئه من بلاد الروم ويصبّ في البحر على ستة أميال من طرسوس، ولا أعرف بالشام موضعا أو نهرا يقال له البردان غيره، فهو الذي عناه الزمخشري. والبردان أيضا: نهر يسقي بساتين مرعش وضياعها، مخرجه من أصل جبل مرعش ويسمى هذا الجبل الأقرع، وذكر هذين النهرين أحمد بن الطيّب السّرخسي. والبردان أيضا سيح البردان: موضع باليمامة فيه نخل، عن ابن أبي حفصة.

البُرْدَانِ:
بالضم ثم السكون، تثنية برد: غديران بنجد بينهما حاجز، يبقى ماؤها شهرين وثلاثة، وقيل: هما ضفيرتان من رمل، قال القتّال الكلابي:
سمعت وأصحابي بذي النّخل نازلا، ... وقد يشعف النفس الشعاع حبيبها
دعاء بذي البردين من أمّ طارق، ... فيا عمرو! هل تبدو لنا فتجيبها؟
ويوم البردين من أيام العرب، وهو يوم الغبيط ظفرت به بنو يربوع ببني شيبان، فقال مالك بن نويرة:
فأقررت عيني يوم ظلّوا، كأنهم ... ببطن الغبيط خشب أثل مسنّد
صريع عليه الطّير، تنقر عينه، ... وآخر مكبول بمال مقيّد
لدن غدوة، حتى أتى الليل دونهم، ... ولا تنتهي عن ملئها منهم يد
وأصبح منهم، بعد فلّ، لقاؤنا ... بقيقاءة البردين، فلّ مطرّد
بَرَدٌ:
بفتحتين: موضع في قول بدر بن حزّان الفزاري:
ما اضطرّك الحرز من ليلى إلى برد، ... تختاره معقلا عن جشّ أعيار
وقال الفضل بن العباس اللهبي:
عوجا على ربع سعدى كي نسائله، ... عوجا فما بكما غيّ ولا بعد
إنّي إذا حلّ أهلي، من ديارهم، ... بطن العقيق وأمست دارها برد
تجمعنا نيّة، لا الخلّ واصلة ... سعدى، ولا دارنا من دارهم صدد
ووجدت في أشعار بني أسد المقروء تصنيفها على أبي عمرو الشيباني يروي بالفتح ثم الكسر في قول المغترف المالكي حيث قال:
سائلوا عن خيلنا ما فعلت ... ببني القين وعن جنب برد
وقال نصر: برد جبل في أرض غطفان يلي الجناب، وقيل: هو ماء لبني القين، ولعلهما موضعان.

بَرْذَعَة

بَرْذَعَة:
وقد رواه أبو سعد بالدال المهملة، والعين مهملة عند الجميع: بلد في أقصى أذربيجان، قال حمزة: برذعة معرب برده دار، ومعناه بالفارسية موضع السبي، وذلك أن بعض ملوك الفرس سبى سبيا من وراء أرمينية وأنزلهم هناك، وقال هلال بن المحسن: برذعة قصبة أذربيجان، وذكر ابن الفقيه أن برذعة هي مدينة أرّان، وهي آخر حدود أذربيجان، كان أول من أنشأ عمارتها قباذ الملك، وهي في سهل من الأرض، عمارتها بالآجر والجص، وقال صاحب كتاب الملحمة: مدينة برذعة طولها تسع وسبعون درجة وثلاثون دقيقة، وعرضها خمس وأربعون درجة في الإقليم السادس، طالعها الحوت ثلاث عشرة درجة، كفّ الخضيب في درجة طالعها وقلب العقرب في خامسها ويد الجوزاء في رابعها وسرّة الجوزاء في رابعها بالحقيقة، وذكر أبو عون في زيجه: برذعة في الإقليم الخامس، طولها ثلاث وسبعون درجة، وعرضها ثلاث وأربعون درجة، وقال الإصطخري: برذعة مدينة كبيرة جدّا أكثر من فرسخ في فرسخ، وهي نزهة خصبة كثيرة الزرع والثمار جدّا، وليس ما بين العراق وخراسان بعد الرّيّ وأصبهان مدينة أكبر ولا أخصب ولا أحسن موضعا من مرافق برذعة، ومنها على أقلّ من فرسخ موضع يسمى الأندراب ما بين كرنة ولصوب ويقطان أكثر من مسيرة يوم، مشتبكة البساتين والباغات، كلها فواكه، وفيها الفندق الجيد أجود من فندق سمرقند، وبها شاه بلّوط أجود من شاه بلوط الشام، ولهم فواكه تسمى الروقال في تقدير الغبيراء، حلو الطعم إذا أدرك، وفيه مرارة قبل أن يدرك، وببرذعة تين يحمل من لصوب يفضّل على جميع أجناسه، ويرتفع منها من الإبريسم شيء كثير مستحدث من توت مباح لا مالك له، يجهز منه إلى فارس وخوزستان جهازا واسعا. وعلى ثلاثة فراسخ من برذعة نهر الكرّ فيه الشورماهي الذي يحمل إلى الآفاق مملّحا، وهو نوع من السمك، ويرتفع من نهر الكرّ سمك أيضا يقال له الدّواقن والعشب، وهما سمكان يفضّلان على أجناس السمك بتلك النواحي. وببرذعة باب يسمّى باب الأكراد تقوم عنده سوق تسمى الكرّكّي في يوم الأحد
يكون مقدارها فرسخا في فرسخ، يجتمع فيها الناس كل يوم الأحد من كل أسبوع من كل وجه وأوب حتى من العراق، وهو أكبر من سوق كورسره، وقد غلب على هذا اليوم اسم الكرّكّي حتى إن كثيرا منهم إذا عدّ أيام الأسبوع قال:
الجمعة والسبت والكرّكي والاثنين والثلاثاء حتى يعد أيام الأسبوع. وبيت ما لهم في المسجد الجامع على رسم الشام، فإن بيوت الأموال بالشام في مساجدها، وهو بيت مال مرصّص السطح وعليه باب حديد وهو على تسع أساطين، ودار الإمارة بجنب الجامع في المدينة والأسواق في ربضها، قلت: هذه صفة قديمة فأما الآن فليس من ذلك كله شيء، وقد لقيت من أهل برذعة بأذربيجان من سألته عن بلده فذكر أن آثار الخراب بها كثيرة وليس بها الآن إلا كما يكون في القرى ناس قليل وحال مضطرب وصعلكة ظاهرة وضرّ باد ودور متهدّمة وخراب مستول عليهم، فسبحان من يحيل ولا يحول ويزيل ولا يزول وله في خلقه تدبير لا يظهر لأحد من خلقه سرّ المصلحة. ومن برذعة إلى جنزة، وهي كنجة، تسعة فراسخ، وقال مسلم ابن الوليد يرثي يزيد بن مزيد وكان قد مات ببرذعة سنة 135:
قبر ببرذعة، استسرّ ضريحه ... خطرا، تقاصر دونه الأخطار
أجل تنافسه الحمام، وحفرة ... نفست عليها وجهك الأحجار
أبقى الزمان على معدّ، بعده، ... حزنا، لعمر الدّهر ليس يعار
نفضت بك الآمال أحلاس الغنى، ... واسترجعت نزّاعها الأمصار
سلكت بك العرب السبيل إلى العلى، ... حتى إذا بلغ الــمدى بك حاروا
فاذهب، كما ذهبت غوادي مزنة ... أثنى عليها السّهل والأوعار
وأما فتحها فقد قالوا: سار سلمان بن ربيعة الباهلي في أيام عثمان بن عفان، رضي الله عنه، بعد فتح بيلقان إلى برذعة فعسكر على الثّرثور، وهو نهر منها على أقل من فرسخ، فأغلق أهلها دونه أبوابها فشنّ الغارات في قراها، وكانت زروعها مستحصدة فصالحوه على مثل صلح البيلقان، فدخلها وأقام بها ووجّه خيله ففتحت بلادا أخر، وينسب إلى برذعة جماعة من الأئمة، منهم مكّيّ بن أحمد بن سعدويه البرذعي أحد المحدثين المكثرين والرّحالين المحصّلين، سمع بدمشق أحمد بن عمير ومحمد بن يوسف الهروي وبأطرابلس أبا القاسم عبد الله بن الحسن بن عبد الرحمن البزّاز وببغداد أبا القاسم البغوي وأبا محمد صاعدا وبغيرها أبا يعلى محمد بن الفضل بن زهير وأبا عروبة وأبا جعفر الطحاوي وعبد الحكم بن أحمد المصري ومحمد بن أحمد بن رجاء الحنفي ومحمد بن عمير الحنفي بمصر وعرس بن فهد الموصلي، روى عنه الأستاذ أبو الوليد حسان بن محمد الفقيه والحاكم أبو عبد الله وأبو الفضل نصر بن محمد بن أحمد بن يعقوب العطّار الرّسّي، وكان نزل نيسابور سنة 330 فأقام بها ثم خرج إلى ما وراء النهر سنة 350، وكتب بخراسان ما يتحير فيه الإنسان كثرة، وتوفي بالشاش سنة 354، وسعيد بن عمرو بن عمّار أبو عثمان الأزدي، سمع بدمشق أبا زرعة الدمشقي وأبا يعقوب الجوزجاني وأبا سعيد الأشجّ ومسلم بن الحجاج الحافظ ومحمد بن يحيى الذهلي وأبا زرعة وأبا حاتم الرازيّين ومحمد بن إسحاق الصاغاني وغيرهم، روى
عنه محمد بن يوسف بن إبراهيم وأبو عبد الله أحمد ابن طاهر بن النجم الميانجي وغيرهما، وقال حفص بن عمر الأردبيلي: جلس سعيد بن عمرو البرذعي في منزله وأغلق بابه وقال: ما أحدّث الناس فإن الناس قد تغيّروا، فاستعان عليه أصحاب الحديث بمحمد بن مسلم بن واره الرازي فدخل عليه وسأله أن يحدثهم، فقال: ما أفعل، فقال: بحقي عليك إلّا حدّثتهم، فقال: وأيّ حق لك عليّ؟ فقال: أخذت يوما بركابك، فقال: قضيت حقّا لله عليك وليس لك عليّ حقّ، فقال: إن قوما اغتابوك فرددت عنك، فقال: هذا أيضا يلزمك لجماعة المسلمين، قال:
فإني عبرت بك يوما في ضيعتك فتعلّقت بي إلى طعامك فأدخلت على قلبك سرورا، فقال: أما هذه فنعم، فأجابه إلى ما أراد، وعبد العزيز بن الحسن البرذعي الحافظ العابد أبو بكر من الرّحّالة، سمع بدمشق محمد بن العباس بن الدّرفس وبمصر محمد بن أحمد الحافظ وأبا يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن يونس البغدادي المنجنيقي وبالموصل أحمد بن عمر الموصلي، وأظنه أبا يعلى لأنه يروي عن غسّان بن الربيع، روى عنه أبو علي الحسين بن علي بن يزيد الحافظ وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن يحيى المزكّي وأبو محمد عبد الله بن سعيد الحافظ، وقال الحاكم أبو عبد الله في تاريخه: عبد العزيز بن الحسن أبو بكر البرذعي العابد، وهو من الغرباء الرّحّالة الذين وردوا على أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة فائتمنه أبو بكر على حديثه لزهده وورعه وصار المفيد بنيسابور في حياة أبي بكر وبعد وفاته، ثم خرج سنة 318 من نيسابور إلى رباط فراوة فأقام به مدة ثم سكن نسا إلى أن توفي بها سنة 323. وجوّ برذعة: أرض لبني نمير باليمامة في جوف الرّمل، فيها نخل.

الحِمَى

الحِمَى:
بالكسر، والقصر، وأصله في اللغة الموضع فيه كلأ يحمى من الناس أن يرعوه أي يمنعونهم، يقال:
حميت الموضع إذا منعت منه، وأحميته إذا جعلته حمى لا يقرب، والحمى يمدّ ويقصر، فمن مدّه جعله من حامى يحامي محاماة وحماء، وقال الأصمعي:
الحمى من حمى ثوبه، وحجة من مده قولهم: نفسي لك الفداء والحماء، ويكتب المقصور منه بالياء
والألف لأنه قد حكي في تثنيته حموان وهو شاذ، وقال الأصمعي: الحمى حميان حمى ضريّة وحمى الرّبذة، قال المؤلف: ووجدت أنا حمى فيد وحمى النير وحمى ذي الشرى وحمى النقيع، فأما حمى ضرية فهو أشهرها وأسيرها ذكرا، وهو كان حمى كليب بن وائل فيما زعم لي بعض أهل بادية طيّء، قال: ذلك مشهور عندنا بالبادية يرويه كابرنا عن كابر، قال: وفي ناحية منه قبر كليب معروف أيضا إلى اليوم، وهو سهل الموطئ كثير الخلّة، وأرضه صلبة ونباته مسمنة، وبه كانت ترعى إبل الملوك، وحمى الربذة أيضا أراده رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بقوله: لنعم المنزل الحمى، لولا كثرة حيّاته، وهو غليظ الموطئ كثير الحموض، تطول عنه الأوبار وتنفتق الخواصر ويرهل اللحم، وحمى فيد، قال ثعلب: الحمى حمى فيد إذا كان في أشعار أسد وطيء، فأما في أشعار كلب فهو حمى بلادهم قريب من المدينة بينها وبين عرب، قال أعرابيّ:
سقى الله حيّا بين صارة والحمى، ... حمى فيد، صوب المدجنات المواطر
أمين، وردّ الله من كان منهم ... إليهم، ووقّاهم صروف المقادر
كأني طريف العين، يوم تطالعت ... بنا الرّمل سلّاف القلاص الضوامر
أقول لفقّام بن زيد: أما ترى ... سنا البرق يبدو للعيون النواظر؟
فإن تبك للوجد الذي هيّج الجوى ... أعنك، وإن تصبر فلست بصابر
وحمى النّير، بكسر النون، وقد ذكر في موضعه، قال الخطيم العكلي:
وهل أرين بين الحفيرة والحمى، ... حمى النير، يوما، أو بأكثبة الشعر
جميع بني عمرو الكرام وإخوتي، ... وذلك عصر قد مضى قبل ذا العصر
ويروى حمى بن عوى، وكلاهما بالدّهناء. حمى الشّرى ذكر في الشرى. حمى النقيع، بالنون، ذكر في النقيع، قال الشافعي، رضي الله عنه، في تفسير قول النبي، صلى الله عليه وسلم: لا حمى إلا لله ولرسوله، كان الشريف من العرب في الجاهلية إذا نزل بلدا في عشيرته استعوى كلبا لخاصّة به مدى عوائه فلم يرعه معه أحد وكان شريكا في سائر المرابع حوله، قال: فنهى أن يحمى على الناس حمى كما كان في الجاهلية، وقوله: إلا لله ولرسوله يقول إلا لخيل المرسلين وركابهم المرصدة للجهاد كما حمى عمر النقيع لنعم الصدقة والخيل المعدّة في سبيل الله، وللعرب في الحمى أشعار كثيرة ما يعنون بها إلّا حمى ضرية، قال أعرابيّ:
ومن كان لم يغرض، فإني وناقتي ... بنجد إلى أرض الحمى غرضان
أليفا هوى، مثلان في سرّ بيننا، ... ولكننا في الجهر مختلفان
تحنّ فتبدي ما بها من صبابة، ... وأخفي الذي لولا الأسى لقضاني
وقال أعرابيّ آخر:
ألا تسألان الله أن يسقي الحمى؟ ... بلى فسقى الله الحمى والمطاليا
فإني لأستسقي لثنتين بالحمى، ... ولو تملكان البحر ما سقتانيا
وأسأل من لاقيت: هل مطر الحمى؟ وهل يسألن أهل الحمى كيف حاليا؟
وقال أعرابيّ آخر:
خليليّ! ما في العيش عيب لو اننا ... وجدنا لأيام الحمى من يعيدها
ليالي أثواب الصبا جدد لنا، ... فقد أنهجت هذي عليها جديدها

اللفيف من الدال

باب اللفيف


ما أوَّله الدّالُ
الدو: مَوْضِعٌ بالبادِيَةِ صَحْرَاءُ كالرّاحَةِ.
والدويةُ: المَفَازَةُ المَلْسَاءُ، وكذلك الدّاوِيَةُ. ورَجُل دَوي ودُوِّي: مَنْسُوْبٌ إلى الدو. وأرْض دَوِئةٌ: خالِيَةٌ.
وُيقال للحَمِيْرِ: بَنَاتُ الدَّو.
ودَوى الرجُلُ في البِلادِ: دارَ فيها وجاءَ وذَهَبَ. ودَوِيَ الرَّجُلُ يَدْوى دَوىً: وهو الذاء الباطِنُ، ورَجُلٌ دَو وامْرأة دَوِيَةٌ، ويقولونَ: دَوى في المَرأةِ والرجُلِ. والدوَاءُ: الشفَاءُ، داويتُه مُدَاوَاةً ودِوَاءً، وأدَأتَ يا فلان وأدْوَأتَ: أي في صَدْرِكَ الداءُ والغِش. والدوَاءُ: الأزْمُ. وصَنْعَةُ الفَرَسِ، داويتُه: أي صَنَعْتُه.
وأدْوَأته بكذا وأدَأتُه: أي اتَّهَمْتُه. والداءُ: اسْمُ كُلِّ مَرَضٍ ظاهِرٍ؛ حَتّى الحُمْقُ داءٌ. ورَجُلٌ داءٌ وامْرأةٌ داءَةٌ: ذَوَا داءٍ. وقد داءَ يَدَاءُ داءً. وبَرِئْتُ إليكَ من كُل داء تَدْءآه الإبِلُ. وشَفَةٌ داءَة. وداء دَوِي: شَدِيْدُ.
وداءُ الذئْبِ: الجُوْعُ. والدوى: الحُمْقُ. والضَنى أيضاً. والرجُلُ الأحْمَقُ أيضاً. والدَأيُ: جَمْعُ الدأيَةِ وهي فَقَارُ الكاهِلِ، والجَمِيْعُ الدأيَاتُ.
ويُقال للغُرَابِ: ابْنُ دَايَةٍ؛ لأنَّه يَحْضُنُ فِرَاخَه دُوْنَ دلأم. وقيل: لأنه يَقَعُ على دَأيَةِ البَعِيْرِ الدَّبِر فَيَنْقُرُها. وفي مَثَلٍ: " جاؤوا به غُرَيَبَ ابْنِ دَايَةٍ " للخَبَرِ الذي لا أصْلَ له. والدوَايَةُ: ما يَغْشَى الماءَ الرّاكِدَ واللَبَنَ الرّائِبَ، وُيقال: دِوَايَةٌ أيضاً. واللبَنُ داوٍ ومُدو. وماء دَوِي: مُتَغَيرٌ. وادَّويت: أكَلْتُ الدوَايَةَ. ودَاوَيت الفَرَسَ: سَقَيْته الدُّوَايَةَ. والدَّوى: اللَّبَنُ نَفْسُه. والدُّوَايَةُ - أيضاً -: ما يَبِسَ على الفَمِ من الريْقِ. والدأدَأةُ: صَوْتُ وَقْعِ الحِجَارَةِ في المَسِيْلِ. واللزُوْقُ بالأرْضِ.
وتَدَأدَأ الخَبَرُ: أبْطَأ وتَأخَّرَ. وتَدَأدَأ القَوْمُ: تَزَاحَمُوا. والدَّأدَاءُ: ما اسْتَوى من الأرْضِ. وثَلاثُ لَيَالٍ من آخِرِ الشهْرِ، وجَمْعُها دَءادِى. ولَيْلَة دَأدَأةٌ: وهي أشَدُّ اللَيَالِي ظُلْمَةً. وقيل: واحِدُ الدَءادِئ دُؤْدُؤَةٌ. وتَدَأدَأ الرجُلُ: إذا مالَ عن شَيْءٍ فَتَرَجَّحَ، يُقال: تَدَأدَأ. ودَأدَأتُه: حَرَّكْتُه. والدوْدَاةُ: أرْجُوْحَةُ الصّبْيَانِ، والجَميعُ الدَّوَادي. وطَرِيْقُ النَّعَمِ.
ومَوْضِعُ اخْتِلَافِ الناسِ والجُرَذِ. وأثَرُ النَّمْلِ. ودَوْدَاةُ القَوْمِ: ضَوْضَأتهم. والدَئْدَاءُ: ضَرْبٌ من العَدْوِ.
والدُوَادُ: الرَّجُلُ السَّرِيْعُ، وبه كُنِّيَ أبو دُوَادٍ. وهو - أيضاً -: صِغَارُ الدُّوْدِ، ومَثَلٌ: " أحْقَرُ من دُوَادَةٍ ". وفي الحَدِيثِ: " إنَّ المُؤَذنِيْنَ لا يَدَادُوْنَ " أي لا تَأكُلُهُمْ الديْدَانُ. ودادَ الطَعَامُ وأدَادَ ودَودَ. والددُ: اللهْو والتَعِبُ، يُقال: دَداً ودَدٌ ودَدٍ ودَدَن، وفي الحَدِيث: " ما أنَا من دَدٍ ولا دَدٌ مِني ". وهو - أيضاً -: الحِيْن من الدهْرِ. والدَوَاةُ: مَعْرُوفَةٌ، وجَمْعُها دُوِي ودَوىً، وثَلاثُ دَوَيَاتٍ. وقِشْرَةُ الحَنْظَلَةِ والعِنَبَةِ والبِطَيْخَةِ.
ويقولونَ: دَائَيْتُ بَيْنَ القَوْمِ: أي أصْلَحْتُ. ودَأيْتُ له أدْأى دَأياً: خَتَلْته، وحُكِيَ: الذَئْبُ يَدْأى للغَزَالِ.
والدّاوي من الطَّعَامِ والشرَابِ: الكَثِيْرُ. والمُدَوِّيةُ من العُشْبِ: الأرْضُ الوافِرَةُ الكَلإ لم يؤكل منها شَيْء. وادوَيت ما في الإنَاءِ ادِّوَاءً: إذا أخَذْتَه بأجْمَعِه. وأمْرٌ مُدَوٍّ: مُظْلِمٌ. والمُدَوي: السَّحَابُ المُرْتَجِسُ. ودَوّى الفَحْلُ تَدْوِيَةً: سَمِعْتَ لهَدِيْرِه دَوِّياً. وما بها دَوي: أي أحَدٌ، ودُوِّي: مِثْله، ودُوْوِي.


ما أوَّلُه الألِف
إدا يَأدُو أدْواً: خَتَلَ، وفي مَثَلٍ: " الذِّئْبُ يَأدُو للغَزَالِ يَأكُلُه ". والأدْوُ: الحَدْوُ والسوْقُ. ومَخْضُ السقَاءِ وتَحْرِيْكُه. والمَشْيُ السرِيْعُ.
والأوْدُ: مَصْدَرُ آدَ يَؤُوْدُ، أدْتُ العُوْدَ أؤُوْدُه فانْآدَ: أي عُجْتُه فانْعَاجَ. ومنه التأوُّدُ. والأوَدُ والأوْدَاءُ - بوَزْنِ أعْوَج وعَوْجَاءَ -. وآدَني: أثْقَلَني؛ يَؤُوْدُني. وتَأدّاه - أيضاً -: أثْقَلَه. وسَمِعْتُ أويدَ القَوْمِِ: أي أزِيْزَهم وحِسَّهم. وفلانٌ لا يَؤُوْدُني بخيْرٍ وبشَر: أي لا يُرِيْدُني. وأدْتُ عليه: عَطَفْت عليه.
وآدَ النَّهَارُ: رَجَعَ فَيْءُ العَشِيِّ. وقيل: ذَهَبَ. وأوِدَ الطَرِيْقُ: عَوِجَ، وآدَ: كذلك. وأوْدُ: مَوْضِع بالبادِيَةِ.
والأيْدُ والأدُ: القُوةُ، ورَجُلٌ آدٌ وقَوْم آدُوْنَ. والأيِّدُ: القَوِي. والتَّأيِيْدُ: مَصْدَرُ أيدْتُه، وأنا مُؤيد له: أي قَوِي عليه.
وآدَيْتُه: أي أعَنْتُه وساعَدْتُه. واسْتَأدَيْتُ عليه: اسْتَعْدَيْتُ. وإيَادُ كُلِّ شَيْءٍ: ما يَقْوى به من جانِبَيْهِ. وإيَادُ العَسْكَرِ: المَيْمَنَةُ والمَيْسَرَةُ.
وإيَادُ بنُ مَعَد: من اليَمَنِ.
والإيَادُ: كالهَدَفِ والأرْضِ المُرْتَفِعَةِ والجَبَلِ. وتَأيَّدْتُ عن كذا: سَكَتُّ عنه. وأذى فلانٌ ما عليه تَأدِيَةً وأدَاءً. وهو آدى للأمانة. فأما الأدَاةُ فألِفُها واوٌ، وجَمْعُها أدَوَاتٌ وأداً. ورَجُل مُؤْدٍ: عامِلُ أداةِ السلاَح.
والإدَاءُ في الرمْلِ: نَحْوُ الوادي الواسِعِ.
والإدَاوَةُ: مَطْهَرَةُ الماء والجَميعُ الأدَاوى. وأدَدُ: جَدُّ مَعَد بن عَدْنان. وأد بن طابِخَةَ: جَد تَمِيْمٍ. والإدُّ: الأمْرُ العَظِيْمُ. وأدتْ فلاناً داهِيَةٌ تَؤُده أدةً. وواحِدُ الإدَادِ: إدةٌ. وواحِدُ الإدَادِ: إد. وهو بإدَائِه: أي بإزَائه.
وسِقَاء أدِى: صَغِيْرٌ. ودَلْو أدِيَةٌ: لا يَسِيْلُ منها شَيْءٌ. وأدتِ الإبِلُ تَؤُدُّ أداً: إذا حَنتْ إلَى أوْطَانِهَا.
وهو بمِيْدَاءِ ذاكَ: أي بحِذَائِه. وقيل: مُنْتَهاه وقَدْرُه وجِهَتُه. والمِيْدَاءُ: مُجْتَمَعُ الطرِيْقِ؛ كالمِيْتَاءِ. وهم على أدِيةٍ من أمْرِهم: أي قَصْدٍ. وتَآدى القَوْمُ تَآدِياً: أي تَتَابَعُوا. وما يُؤادِيني: أي ما يُوَاتِيْني. وأخَذَ للأمْرِ أدِيهُ: أي أهْبَتَه، وهو من أدِيْتُ: أي تَهَيَّأتُ. وتَآدَيْتُ للصلاةِ: تَهَيأت لها؛ وكأنه أخْذُ الأدَاةِ لها، والأدِيُّ: المُسْتَعِد المُنْطَلِقُ الخفِيْفُ. وماء أدِي: أي قَلِيْلٌ. وأدَى السقَاءُ يَأدِي أدِياً: إذا خَثَرَ لِيَرُوْبَ. وأدَى اللبَنُ يَأدُوْ: خَرَجَ زُبْدُه؛ أدُواً. وأدَتِ الثمَرَةُ تَأدُو: وهو اليُنُوْعُ والنضْجُ.
والأدِيةُ من النسَاءِ: الربْعَةُ، وهُن أدِياتٌ. وقَطَعَ اللهُ أدَيْ فلانٍ وَيدَيْهِ: بمعنى. ورَجُل أدِي: رَفِيْقُ اليَدِ.
وأدَيات: اسْمُ مَوْضِع.


ما أولُهُ الواوُ
وَدَأته فَتَوَدأ: أي سَوْيتُه فَتَسَوى. واسْتَودَيتُ له بحَقه: أي اعْتَرَفْت وأقْرَرْتُ، وأصْلُه في الديَةِ. ووَدى فلان فلاناً: أدى دِيته. والاتدَاءُ: أخْذُ الديَةِ. وما أدرِي أين سكعَ وأين ودَأ: أي ذَهبَ. ووَدأته: دَفَنته.
وتَوَدأت عليه الأرض: اشتَمَلَتْ، وكذلك كُل شَيءٍ استَولَى على شيءٍ. والمُوَدأةُ: المَهْلَكَةُ. والداهِيَةُ. وتَوَدأ في البِلادِ: تَغَيبَ. ووَدِئَ خَبَرُه: انْقَطَعَ. والمَوْؤُوْدَةُ: الوَئيْدُ، وَأدَ يَئدُ وَأداً؛ وهو دَفْنُ البِنْتِ حَيةً.
والرَئيْدُ: دَوِي يُسْمعُ صَوْتُه من بَعِيْدٍ، وكذلك الوَأدُ. ورِز وَأد: شَدِيْدٌ. والوأدُ والوَئيْدُ: الثقلُ، ومنه المَوْؤوْدَةُ: أي أثْقِلَتْ بالترَاب. ومنه اتَّئِدْ: أي تَرَزنْ.
والتؤَدَة: التمَهل والتأني، يقال: اتئدْ وتَوَأدْ.
والمُوْدِي: الهالِكُ - لا يُهْمَزُ -، يُقال: أوْدى به المَوْتُ. واسْمُ الهَلاَكِ: الوَدى.
والتوْدِيَةُ: خُشَيْبَةٌ تُشَد على أطْبَاءِ الناقَةِ لئلا يَرْضها الفَصِيْلُ، وَدَيْتُ الناقَةَ بتَوْدِيَةٍ، وجَمْعُها تَوَادٍ.
والتَوْدِيَةُ من الرجَالِ: مِثْلُ الدِّرْحَايَةِ في القِصَرِ.
والوادي: كُلُ مَفْرَجٍ بَيْنَ جِبَالٍ أو إكَامٍ يكونُ مَسْلَكاً للسيْلِ، والجَميعُ الأوْدِيَةُ. وُيقال: أوْدَاةٌ؛ للأوْدِيَةِ. وفي مَثَلٍ: " حُلَّ بوَادِيْكَ " أي ضُيِّقَ عليك ونَزَلَ بكَ ماتَكْرَهُ. والوَدِي: فَسِيْلُ النَّخْلِ الذي يُقْلَعُ للغَرْسِ، الواحِدَةُ وَدِيَّةٌ، وجَمْعُه وَدَايَا. وُيقال للحِمَارِ إذا أنْعَظَ: وَدَى؛ فهو وادٍ، وأوْدَى: قَلِيْل. وقيل وَدَي: قَطَرَ. والوَدِيْ: الماءُ الذي يَخْرُجُ رَقِيْقاً أبْيَضَ على أثَرِ البَوْلِ، والوَدِيُ: لُغَةٌ فيه. والوَدْيُ - بوَزْنِ الرمْيَ -: مَصْدَرٌ.
والوَد: مَصْدَر المَوَدةِ، وهو الوِدَادُ والوُدُّ. والوَدَادَةُ: مَصْدَرُ وَدِدْتُ أوَد؛ من الأمْنِيَّةِ. ومن المَوَدةِ: يَوَد مَوَدةً. وهو وُدّكَ ووَدِيْدُكَ ووِدكَ. والأوُد: جَمْعُ الود، وهم الأصْدِقَاءُ أيضاً؛ واحِدُهم وِد. والوُدَدَاءُ: جَمْعُ الوَدِيْدِ. وإَّنه لَيَتَوَدَّدُ أنْ يكونَ ذاكَ: أي يَوَدُ. والوَدُ: الوَلَدُ، وتَصْغِيْرُه وُتَيْدٌ، وَدَدْتُ الوَدَّ أوُدُّهُ وَدّاً: إذا وَتَدْتَه. وصَنَمٌ كانَ لقَوْمِ نُوْحٍ - عليه السلَامُ -، وفيه ثَلاثُ لُغَاتٍ. وعَبْدُ وُد: مَعْرُوفٌ في قُرَيْشٍ.
والوَد: الذي في شَحْمَةِ الأذُنِ مما يَلي الصُّدْغَيْنِ. واسْمُ جَبَلٍ مَعْرُوْفٍ.


ما أوَلُه الياء
اليَدُ: الجَارِحَةُ؛ مَعْرُوفَة، وجَمْعُه أيْدٍ، ويُقال: يَدَاً - بوَزْنِ رَحَاً - وَيد - بوَزْنِ يَم -. والنَعْمَةُ السابِغَةُ، وجَمْعُها أيادٍ ويَدِي. ويُثَنَى يَدَيَانِ على الأصْلِ. وَيدُ الفَأسِ: نِصَابُها، والقَوْسِ: سِيَتُها. وَيدُ الدهْرِ: أي مَدى زَمَانِه. وأنصارُ الرَّجُلِ وجَمَاعَةُ قَوْمِه. وجاهُهُ وقَدْره. ويَدُ الشمَالِ: مِلْكُها. وهذه الضَّيْعَةُ في يَدي: أي مِلْكي. وَيدِيَ فلان من يَدِه: أي شَلتْ. ورَجُل مَيْدِي: مَقْطُوْعُ اليَدِ. وأيْدَيْت على فلانٍ يَداً بَيْضَاءَ: أي مِنةً. وهو ذُو مالٍ يَيْدي به وَيبُوْعُ: أي يَبْسطُ به يَدَيْه وباعَهُ.
و" ذَهَبَ القَوْمُ أيْدِي سَبَا " و " أيَادِي سَبَا: أي مُتَفَرِّقِيْنَ في كُل وجه.
والنَسْبَةُ إلى اليَدِ: يَدِي.
وثَوْبُ الصبَا يَدِي: أي واسِع، وقيل: جَدِيْد كأنما رُفِعَتْ عنه الأيْدِي ساعَتَئِذٍ، وقيل: بل الأيْدي تَتَعَاوَرُه. وتُجْمَعُ اليَدُ أيْدِيْنَ. ولا يَدَ لي بفلانٍ: أي لا طاقَةَ. وما لي به يَدَانِ. وقَوْلُه: يُوْدِي الكَرِيْمَ فَيَحْيى بَعْدَ إيْدَاءِ يُوْدِي: يَصْطَنِعُ يَداً من المَعْرُوْفِ، يُقال: أيْدى يُوْدِي وَيدى يَيْدي. ويادَيْتُه مُيَادَاةً: أي جازَيْته يَداً بيَدٍ.
فأما قَوْلُه: فإنكَ قد مَلأتَ يَداً وشاما يُرِيْدُ: اليَمَنَ. وأخَذَ بهم يَدَ البَحْرِ: أي طَرِيْقَه. ويقولونَ: ابْتَعتُها اليَدَيْنِ: أي بثَمَنَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أرْخَص وأغْلى.
ولَقِيْتُه أولَ ذاتِ يَدَيْنِ أي أولَ شَيْءٍ. وخُذْه آثِرَ ذي يَدَيْنِ وذاتِ يدين.
وفي المَثَل: " لأنْتَ أضعفُ من يَدٍ في رَحِمٍ ".
و" سُقِطَ في يَدِه ": نَدِمَ.
وهو أطْوَلُ يَداً من فلانٍ: أي أسْخى منه. وَيدِي لمَنْ شاءَ أنْ يُخَاطِرَني. وألْقى يَداً في عَمَلِ كذا: إذا أخَذَ فيه فابْتَدَأ. وقَوْلُه عَز وجَلَّ: " حَتَّى يُعْطُوا الجزْيَةَ عن يَدٍ وهُمْ صاغِرُوْنَ " أي يُعْطُونَها كَمَلاً لا يَقْطَعُوْنَها. ورَجُلٌ يَدِي: رَفِيْقُ اليَدَيْنِ. وَيدُ القَمِيْصِ: كُمُّه. وقَوْلُه عَزوجَل: " فَرَدُّوا أيْدِيَهم في أفْوَاهِهم " أي عَضوا عليها غَيْظاً.
وَيدٌ وَيدَة: بمعنىً.
وهُمْ عَلَيَّ يَدٌ واحِدَةٌ: أي مُجْتَمِعُوْنَ.
وأعْطَى فلانٌ يَدَه وبِيَدِه: اسْتَسْلَمَ وذَلَّ.
وبايَعْتُه يَداً بِيَدٍ: أي نَقْداً.

دِمَشْقُ الشّام

دِمَشْقُ الشّام:
بكسر أوله، وفتح ثانيه، هكذا رواه الجمهور، والكسر لغة فيه، وشين معجمة، وآخره قاف: البلدة المشهورة قصبة الشام، وهي جنة الأرض بلا خلاف لحسن عمارة ونضارة بقعة وكثرة فاكهة ونزاهة رقعة وكثرة مياه ووجود مآرب، قيل: سميت بذلك لأنهم دمشقوا في بنائها أي أسرعوا، وناقة دمشق، بفتح الدال وسكون الميم: سريعة، وناقة دمشقة اللحم: خفيفة، قال الزّفيان:
وصاحبي ذات هباب دمشق
قال صاحب الزيج: دمشق طولها ستون درجة، وعرضها ثلاث وثلاثون درجة ونصف، وهي في الإقليم الثالث، وقال أهل السير: سمّيت دمشق بدماشق بن قاني بن مالك بن أرفخشد بن سام بن نوح، عليه السلام، فهذا قول ابن الكلبي، وقال في موضع آخر: ولد يقطان بن عامر سالف وهم السلف وهو الذي بنى قصبة دمشق، وقيل: أول من بناها بيوراسف، وقيل: بنيت دمشق على رأس ثلاثة آلاف ومائة وخمس وأربعين سنة من جملة الدهر الذي يقولون إنه سبعة آلاف سنة، وولد إبراهيم الخليل، عليه السلام، بعد بنائها بخمس سنين، وقيل:
إن الذي بنى دمشق جيرون بن سعد بن عاد بن إرم ابن سام بن نوح، عليه السلام، وسماها إرم ذات العماد، وقيل: إن هودا، عليه السلام، نزل دمشق وأسس الحائط الذي في قبلي جامعها، وقيل: إن العازر غلام إبراهيم، عليه السلام، بنى دمشق وكان حبشيّا وهبه له نمرود بن كنعان حين خرج إبراهيم من النار، وكان يسمّى الغلام دمشق فسماها باسمه،
وكان إبراهيم، عليه السلام، قد جعله على كلّ شيء له، وسكنها الروم بعد ذلك، وقال غير هؤلاء:
سميت بدماشق بن نمرود بن كنعان وهو الذي بناها، وكان معه إبراهيم، كان دفعه إليه نمرود بعد أن نجّى الله تعالى إبراهيم من النار، وقال آخرون: سميت بدمشق بن إرم بن سام بن نوح، عليه السلام، وهو أخو فلسطين وأيلياء وحمص والأردنّ، وبنى كلّ واحد موضعا فسمي به، وقال أهل الثقة من أهل السير: إن آدم، عليه السلام، تكان ينزل في موضع يعرف الآن ببيت انات وحوّاء في بيت لهيا وهابيل في مقرى، وكان صاحب غنم، وقابيل في قنينة، وكان صاحب زرع، وهذه المواضع حول دمشق، وكان في الموضع الذي يعرف الآن بباب الساعات عند الجامع صخرة عظيمة يوضع عليها القربان فما يقبل منه تنزل نار تحرقه وما لا يقبل بقي على حاله، فكان هابيل قد جاء بكبش سمين من غنمه فوضعه على الصخرة فنزلت النار فأحرقته، وجاء قابيل بحنطة من غلّته فوضعها على الصخرة فبقيت على حالها، فحسد قابيل أخاه وتبعه إلى الجبل المعروف بقاسيون المشرف على بقعة دمشق وأراد قتله، فلم يدر كيف يصنع فأتاه إبليس فأخذ حجرا وجعل يضرب به رأسه فلما رآه أخذ حجرا فضرب به رأس أخيه فقتله على جبل قاسيون، وأنا رأيت هناك حجرا عليه شيء كالدم يزعم أهل الشام أنه الحجر الذي قتله به، وأن ذلك الاحمرار الذي عليه أثر دم هابيل، وبين يديه مغارة تزار حسنة يقال لها مغارة الدم، لذلك رأيتها في لحف الجبل الذي يعرف بجبل قاسيون.
وقد روى بعض الأوائل أن مكان دمشق كان دارا لنوح، عليه السلام، ومنشأ خشب السفينة من جبل لبنان وأنّ ركوبه في السفينة كان من عين الجرّ من ناحية البقاع، وقد روي عن كعب الأحبار:
أن أوّل حائط وضع في الأرض بعد الطوفان حائط دمشق وحرّان، وفي الأخبار القديمة عن شيوخ دمشق الأوائل: أن دار شدّاد بن عاد بدمشق في سوق التين يفتح بابها شأما إلى الطريق وأنه كان يزرع له الريحان والورد وغير ذلك فوق الأعمدة بين القنطرتين قنطرة دار بطّيخ وقنطرة سوق التين، وكانت يومئذ سقيفة فوق العمد، وقال أحمد بن الطيب السرخسي: بين بغداد ودمشق مائتان وثلاثون فرسخا.
وقالوا في قول الله عز وجل: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ 23: 50، قال: هي دمشق ذات قرار وذات رخاء من العيش وسعة ومعين كثيرة الماء، وقال قتادة في قول الله عز وجل والتين قال: الجبل الذي عليه دمشق، والزيتون: الجبل الذي عليه بيت المقدس، وطور سينين: شعب حسن، وهذا البلد الأمين: مكة، وقيل: إرم ذات العماد دمشق، وقال الأصمعي: جنان الدنيا ثلاث: غوطة دمشق ونهر بلخ ونهر الأبلّة، وحشوش الدنيا ثلاثة:
الأبلّة وسيراف وعمان، وقال أبو بكر محمد بن العباس الخوارزمي الشاعر الأديب: جنان الدنيا أربع: غوطة دمشق وصغد سمرقند وشعب بوّان وجزيرة الأبلّة، وقد رأيتها كلها وأفضلها دمشق، وفي الأخبار: أنّ إبراهيم، عليه السلام، ولد في غوطة دمشق في قرية يقال لها برزة في جبل قاسيون، وعن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: إنّ عيسى، عليه السلام، ينزل عند المنارة البيضاء من شرقي دمشق، ويقال: إنّ المواضع الشريفة بدمشق التي يستجاب فيها الدعاء مغارة الدم في جبل قاسيون،
ويقال: إنها كانت مأوى الأنبياء ومصلّاهم، والمغارة التي في جبل النّيرب يقال: إنها كانت مأوى عيسى، عليه السلام، ومسجدا إبراهيم، عليه السلام، أحدهما في الأشعريّين والآخر في برزة، ومسجد القديم عند القطيعة، ويقال: إن هنا قبر موسى، عليه السلام، ومسجد باب الشرقي الذي قال النبي، صلى الله عليه وسلّم: إن عيسى، عليه السلام، ينزل فيه، والمسجد الصغير الذي خلف جيرون يقال إنّ يحيى بن زكرياء، عليه السلام، قتل هناك، والحائط القبلي من الجامع يقال إنه بناه هود، عليه السلام، وبها من قبور الصحابة ودورهم المشهورة بهم ما ليس في غيره من البلدان، وهي معروفة إلى الآن.
قال المؤلف: ومن خصائص دمشق التي لم أر في بلد آخر مثلها كثرة الأنهار بها وجريان الماء في قنواتها، فقلّ أن تمرّ بحائط إلّا والماء يخرج منه في أنبوب إلى حوض يشرب منه ويستقي الوارد والصادر، وما رأيت بها مسجدا ولا مدرسة ولا خانقاها إلّا والماء يجري في بركة في صحن هذا المكان ويسحّ في ميضأة، والمساكن بها عزيزة لكثرة أهلها والساكنين بها وضيق بقعتها، ولها ربض دون السور محيط بأكثر البلد يكون في مقدار البلد نفسه، وهي في أرض مستوية تحيط بها من جميع جهاتها الجبال الشاهقة، وبها جبل قاسيون ليس في موضع من المواضع أكثر من العبّاد الذين فيه، وبها مغاور كثيرة وكهوف وآثار للأنبياء والصالحين لا توجد في غيرها، وبها فواكه جيدة فائقة طيبة تحمل إلى جميع ما حولها من البلاد من مصر إلى حرّان وما يقارب ذلك فتعمّ الكل، وقد وصفها الشعراء فأكثروا، وأنا أذكر من ذلك نبذة يسيرة، وأما جامعها فهو الذي يضرب به المثل في حسنه، وجملة الأمر أنه لم توصف الجنة بشيء إلا وفي دمشق مثله، ومن المحال أن يطلب بها شيء من جليل أعراض الدنيا ودقيقها إلا وهو فيها أوجد من جميع البلاد، وفتحها المسلمون في رجب سنة 14 بعد حصار ومنازلة، وكان قد نزل على كلّ باب من أبوابها أمير من المسلمين فصدمهم خالد بن الوليد من الباب الشرقي حتى افتتحها عنوة، فأسرع أهل البلد إلى أبي عبيدة بن الجرّاح ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل ابن حسنة، وكان كل واحد منهم على ربع من الجيش، فسألوهم الأمان فأمنوهم وفتحوا لهم الباب، فدخل هؤلاء من ثلاثة أبواب بالأمان، ودخل خالد من الباب الشرقي بالقهر، وملكوهم وكتبوا إلى عمر ابن الخطاب، رضي الله عنه، بالخبر وكيف جرى الفتح، فأجراها كلها صلحا.
وأما جامعها فقد وصفه بعض أهل دمشق فقال:
هو جامع المحاسن كامل الغرائب معدود إحدى العجائب، قد زوّر بعض فرشه بالرخام وألّف على أحسن تركيب ونظام، وفوق ذلك فصّ أقداره متفقة وصنعته مؤتلفة، بساطه يكاد يقطر ذهبا ويشتعل لهبا، وهو منزه عن صور الحيوان إلى صنوف النبات وفنون الأغصان لكنها لا تجنى إلا بالأبصار ولا يدخل عليها الفساد كما يدخل على الأشجار والثمار بل باقية على طول الزمان مدركة بالعيان في كلّ أوان، لا يمسها عطش مع فقدان القطر ولا يعتريها ذبول مع تصاريف الدهر، وقالوا: عجائب الدنيا أربع: قنطرة سنجة ومنارة الإسكندرية وكنيسة الرّها ومسجد دمشق، وكان قد بناه الوليد بن عبد الملك بن مروان، وكان ذا همّة في عمارة المساجد، وكان الابتداء بعمارته في سنة 87، وقيل سنة 88، ولما أراد بناءه جمع نصارى دمشق وقال لهم: إنّا نريد أن نزيد في مسجدنا كنيستكم، يعني كنيسة يوحنا، ونعطيكم 30- 2 معجم البلدان دار صادر
كنيسة حيث شئتم وإن شئتم أضعفنا لكم الثمن، فأبوا وجاءوا بكتاب خالد بن الوليد والعهد وقالوا:
إنّا نجد في كتبنا أنه لا يهدمها أحد إلا خنق، فقال لهم الوليد: فأنا أول من يهدمها، فقام وعليه قباء أصفر فهدم وهدم الناس ثم زاد في المسجد ما أراده واحتفل في بنائه بغاية ما أمكنه وسهل عليه إخراج الأموال وعمل له أربعة أبواب: في شرقيه باب جيرون وفي غربيه باب البريد وفي القبلة باب الزيادة وباب الناطفانيين مقابله وباب الفراديس في دبر القبلة، وذكر غيث بن علي الأرمنازي في كتاب دمشق على ما حدثني به الصاحب جمال الدين الأكرم أبو الحسن علي بن يوسف الشيباني، أدام الله أيامه:
أن الوليد أمر أن يستقصى في حفر أساس حيطان الجامع، فبينما هم يحفرون إذ وجدوا حائطا مبنيّا على سمت الحفر سواء فأخبروا الوليد بذلك وعرّفوه إحكام الحائط واستأذنوه في البنيان فوقه، فقال: لا أحب إلا الإحكام واليقين فيه ولست أثق بإحكام هذا الحائط حتى تحفروا في وجهه إلى أن تدركوا الماء فإن كان محكما مرضيّا فابنوا عليه وإلا استأنفوه، فحفروا في وجه الحائط فوجدوا بابا وعليه بلاطة من حجر مانع وعليها منقور كتابة، فاجتهدوا في قراءتها حتى ظفروا بمن عرّفهم أنه من خط اليونان وأن معنى تلك الكتابة ما صورته: لما كان العالم محدثا لاتصال أمارات الحدوث به وجب أن يكون له محدث لهؤلاء كما قال ذو السنين وذو اللحيين فوجدت عبادة خالق المخلوقات حينئذ أمر بعمارة هذا الهيكل من صلب ماله محبّ الخير على مضي سبعة آلاف وتسعمائة عام لأهل الأسطوان فإن رأى الداخل إليه ذكر بانيه بخير فعل والسلام، وأهل الأسطوان:
قوم من الحكماء الأول كانوا ببعلبك، حكى ذلك أحمد بن الطيب السرخسي الفيلسوف، ويقال: إن الوليد أنفق على عمارته خراج المملكة سبع سنين وحملت إليه الحسبانات بما أنفق عليه على ثمانية عشر بعيرا فأمر بإحراقها ولم ينظر فيها وقال: هو شيء أخرجناه لله فلم نتبعه، ومن عجائبه أنه لو عاش الإنسان مائة سنة وكان يتأمله كل يوم لرأى فيه كل يوم ما لم يره في سائر الأيام من حسن صنائعه واختلافها، وحكي أنه بلغ ثمن البقل الذي أكله الصنّاع فيه ستة آلاف دينار، وضج الناس استعظاما لما أنفق فيه وقالوا: أخذ بيوت أموال المسلمين وأنفقها فيما لا فائدة لهم فيه، قال: فخاطبهم وقال بلغني أنكم تقولون وتقولون وفي بيت مالكم عطاء ثماني عشرة سنة إذا لم تدخل لكم فيها حبة قمح، فسكت الناس، وقيل: إنه عمل في تسع سنين، وكان فيه عشرة آلاف رجل في كل يوم يقطعون الرخام، وكان فيه ستمائة سلسلة ذهب، فلما فرغ أمر الوليد أن يسقّف بالرصاص فطلب من كل البلاد وبقيت قطعة منه لم يوجد لها رصاص إلا عند امرأة وأبت أن تبيعه إلا بوزنه ذهبا فقال: اشتروه منها ولو بوزنه مرتين، ففعلوا فلما قبضت الثمن قالت: إني ظننت أن صاحبكم ظالم في بنائه هذا، فلما رأيت إنصافه فأشهدكم أنه لله! وردّت الثمن، فلما بلغ ذلك إلى الوليد أمر أن يكتب على صفائح المرأة لله ولم يدخله فيما كتب عليه اسمه، وأنفق على الكرمة التي في قبلته سبعين ألف دينار، وقال موسى بن حمّاد البربري: رأيت في مسجد دمشق كتابة بالذهب في الزجاج محفورا سورة:
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ 102: 1 إلى آخرها، ورأيت جوهرة حمراء ملصقة في القاف التي في قوله تعالى: حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ 102: 2، فسألت عن ذلك: فقيل لي إنه كانت للوليد بنت وكانت هذه الجوهرة لها فماتت فأمرت أمها أن تدفن
هذه الجوهرة معها في قبرها، فأمر الوليد بها فصيرت في قاف المقابر من: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ 102: 1- 2، ثم حلف لأمها أنه قد أودعها المقابر فسكتت.
وحكى الجاحظ في كتاب البلدان قال: قال بعض السلف ما يجوز أن يكون أحد أشدّ شوقا إلى الجنة من أهل دمشق لما يرونه من حسن مسجدهم، وهو مبنيّ على الأعمدة الرخام طبقتين، الطبقة التحتانية أعمدة كبار والتي فوقها صغار في خلال ذلك صورة كلّ مدينة وشجرة في الدنيا بالفسيفساء الذهب والأخضر والأصفر، وفي قبليّه القبّة المعروفة بقبة النسر، ليس في دمشق شيء أعلى ولا أبهى منظرا منها، ولها ثلاث منائر إحداها، وهي الكبرى، كانت ديدبانا للروم وأقرت على ما كانت عليه وصيّرت منارة، ويقال في الأخبار: إن عيسى، عليه السلام، ينزل من السماء عليها، ولم يزل جامع دمشق على تلك الصورة يبهر بالحسن والتنميق إلى أن وقع فيه حريق في سنة 461 فأذهب بعض بهجته، وهذا ما كان في صفته، قال أبو المطاع بن حمدان في وصف دمشق:
سقى الله أرض الغوطتين وأهلها، ... فلي بجنوب الغوطتين شجون
وما ذقت طعم الماء إلّا استخفني ... إلى بردى والنّيربين حنين
وقد كان شكّي في الفراق يروعني، ... فكيف أكون اليوم وهو يقين؟
فو الله ما فارقتكم قاليا لكم، ... ولكنّ ما يقضى فسوف يكون
وقال الصّنوبري:
صفت دنيا دمشق لقاطنيها، ... فلست ترى بغير دمشق دنيا
تفيض جداول البلّور فيها ... خلال حدائق ينبتن وشيا
مكللة فواكههنّ أبهى ال ... مناظر في مناظرنا وأهيا
فمن تفاحة لم تعد خدّا، ... ومن أترجّة لم تعد ثديا
وقال البحتري:
أمّا دمشق فقد أبدت محاسنها، ... وقد وفى لك مطريها بما وعدا
إذا أردت ملأت العين من بلد ... مستحسن وزمان يشبه البلدا
يمسي السحاب على أجبالها فرقا، ... ويصبح النبت في صحرائها بددا
فلست تبصر إلا واكفا خضلا، ... أو يانعا خضرا أو طائرا غردا
كأنما القيظ ولّى بعد جيئته، ... أو الربيع دنا من بعد ما بعدا
وقال أبو محمد عبد الله بن أحمد بن الحسين بن النّقّار يمدح دمشق:
سقى الله ما تحوي دمشق وحيّاها، ... فما أطيب اللذات فيها وأهناها!
نزلنا بها واستوقفتنا محاسن ... يحنّ إليها كلّ قلب ويهواها
لبسنا بها عيشا رقيقا رداؤه، ... ونلنا بها من صفوة اللهو أعلاها
وكم ليلة نادمت بدر تمامها ... تقضّت، وما أبقت لنا غير ذكراها
فآها على ذاك الزمان وطيبه، ... وقلّ له من بعده قولتي واها!
فيا صاحبي إمّا حملت رسالة ... إلى دار أحباب لها طاب مغناها
وقل ذلك الوجد المبرِّح ثابت، ... وحرمة أيام الصّبا ما أضعناها
فإن كانت الأيام أنست عهودنا، ... فلسنا على طول الــمدى نتناساها
سلام على تلك المعاهد، إنها ... محطّ صبابات النفوس ومثواها
رعى الله أياما تقضّت بقربها، ... فما كان أحلاها لديها وأمراها!
وقال آخر في ذمّ دمشق:
إذا فاخروا قالوا مياه غزيرة ... عذاب، وللظامي سلاف مورّق
سلاف ولكن السراجين مزجها، ... فشاربها منها الخرا يتنشق
وقد قال قوم جنة الجلد جلّق، ... وقد كذبوا في ذا المقال ومخرقوا
فما هي إلا بلدة جاهليّة، ... بها تكسد الخيرات والفسق ينفق
فحسبهم جيرون فخرا وزينة، ... ورأس ابن بنت المصطفى فيه علّقوا
قال: ولما ولي عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، قال: إني أرى في أموال مسجد دمشق كثرة قد أنفقت في غير حقها فأنا مستدرك ما استدركت منها فردت إلى بيت المال، أنزع هذا الرخام والفسيفساء وأنزع هذه السلاسل وأصيّر بدلها حبالا، فاشتدّ ذلك على أهل دمشق حتى وردت عشرة رجال من ملك الروم إلى دمشق فسألوا أن يؤذن لهم في دخول المسجد، فأذن لهم أن يدخلوا من باب البريد، فوكل بهم رجلا يعرف لغتهم ويستمع كلامهم وينهي قولهم إلى عمر من حيث لا يعلمون، فمروا في الصحن حتى استقبلوا القبلة فرفعوا رؤوسهم إلى المسجد فنكس رئيسهم رأسه واصفرّ لونه، فقالوا له في ذلك فقال: إنّا كنّا معاشر أهل رومية نتحدث أن بقاء العرب قليل فلما رأيت ما بنوا علمت أن لهم مدّة لا بدّ أن يبلغوها، فلما أخبر عمر بن عبد العزيز بذلك قال: إني أرى مسجدكم هذا غيظا على الكفار، وترك ما همّ به، وقد كان رصّع محرابه بالجواهر الثمينة وعلّق عليه قناديل الذهب والفضة.
وبدمشق من الصحابة والتابعين وأهل الخير والصلاح الذين يزارون في ميدان الحصى، وفي قبلي دمشق قبر يزعمون أنه قبر أمّ عاتكة أخت عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وعنده قبر يروون أنه قبر صهيب الرومي وأخيه، والمأثور أن صهيبا بالمدينة، وأيضا بها مشهد التاريخ في قبلته قبر مسقوف بنصفين وله خبر مع عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، وفي قبلي الباب الصغير قبر بلال بن حمامة وكعب الأحبار وثلاث من أزواج النبي، صلى الله عليه وسلّم، وقبر فضّة جارية فاطمة، رضي الله عنها، وأبي الدرداء وأمّ الدرداء وفضالة بن عبيد وسهل بن الحنظليّة وواثلة ابن الأسقع وأوس بن أوس الثقفي وأمّ الحسن بنت جعفر الصادق، رضي الله عنه، وعليّ بن عبد الله بن العباس وسلمان بن عليّ بن عبد الله بن العباس وزوجته أم الحسن بنت عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، وخديجة بنت زين العابدين وسكينة بنت الحسين، والصحيح أنها بالمدينة، ومحمد بن عمر بن عليّ بن أبي طالب، وبالجابية قبر أويس القرني، وقد زرناه بالرّقّة، وله مشهد بالإسكندرية وبديار بكر
والأشهر الأعرف أنه بالرقة لأنه قتل فيما يزعمون مع عليّ بصفّين، ومن شرقي البلد قبر عبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب، وهذه القبور هكذا يزعمون فيها، والأصحّ الأعرف الذي دلّت عليه الأخبار أن أكثر هؤلاء بالمدينة مشهورة قبورهم هناك، وكان بها من الصحابة والتابعين جماعة غير هؤلاء، قيل إن قبورهم حرثت وزرعت في أول دولة بني العباس نحو مائة سنة فدرست قبورهم فادّعى هؤلاء عوضا عما درس، وفي باب الفراديس مشهد الحسين بن عليّ، رضي الله عنهما، وبظاهر المدينة عند مشهد الخضر قبر محمد بن عبد الله بن الحسين بن أحمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، رضي الله عنه، وبدمشق عمود العسر في العليين يزعمون أنهم قد خرّبوه وعمود آخر عند الباب الصغير في مسجد يزار وينذر له، وبالجامع من شرقيه مسجد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ومشهد عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، ومشهد الحسين وزين العابدين، وبالجامع مقصورة الصحابة وزاوية الخضر، وبالجامع رأس يحيى بن زكرياء، عليه السلام، ومصحف عثمان بن عفان، رضي الله عنه، قالوا إنه خطه بيده، ويقولون إن قبر هود، عليه السلام، في الحائط القبلي، والمأثور أنه بحضرموت، وتحت قبة النسر عمودان مجزّعان زعموا أنهما من عرش بلقيس، والله أعلم، والمنارة الغربية بالجامع هي التي تعبّد فيها أبو حامد الغزّالي وابن تومرت ملك الغرب، قيل إنها كانت هيكل النار وإن ذؤابة النار تطلع منها، وسجد لها أهل حوران، والمنارة الشرقية يقال لها المنارة البيضاء التي ورد أن عيسى بن مريم، عليه السلام، ينزل عليها، وبها حجر يزعمون أنه قطعة من الحجر الذي ضربه موسى بن عمران، عليه السلام، فانبجست منه اثنتا عشرة عينا، ويقال إن المنارة التي ينزل عندها عيسى، عليه السلام، هي التي عند كنيسة مريم بدمشق، وبالجامع قبة بيت المال الغربية يقال إن فيها قبر عائشة، رضي الله عنها، والصحيح أن قبرها بالبقيع، وعلى باب الجامع المعروف بباب الزيادة قطعة رمح معلّقة يزعمون أنها من رمح خالد ابن الوليد، رضي الله عنه، وبدمشق قبر العبد الصالح محمود بن زنكي ملك الشام وكذلك قبر صلاح الدين يوسف بن أيوب بالكلاسة في الجامع.
وأما المسافات بين دمشق وما يجاورها فمنها إلى بعلبكّ يومان وإلى طرابلس ثلاثة أيام وإلى بيروت ثلاثة أيام وإلى صيدا ثلاثة أيام وإلى أذرعات أربعة أيام وإلى أقصى الغوطة يوم واحد وإلى حوران والبثنيّة يومان وإلى حمص خمسة أيام وإلى حماة ستة أيام وإلى القدس ستة أيام وإلى مصر ثمانية عشر يوما وإلى غزّة ثمانية أيام وإلى عكا أربعة أيام وإلى صور أربعة أيام وإلى حلب عشرة أيام، وممن ينسب إليها من أعيان المحدّثين عبد العزيز بن أحمد ابن محمد بن سلمان بن إبراهيم بن عبد العزيز أبو محمد التميمي الدمشقي الكناني الصوفي الحافظ، سمع الكثير وكتب الكثير ورحل في طلب الحديث، وسمع بدمشق أبا القاسم صدقة بن محمد بن محمد القرشي وتمّام بن محمد وأبا محمد بن أبي نصر وأبا نصر محمد بن أحمد بن هارون الجندي وعبد الوهاب ابن عبد الله بن عمر المرّي وأبا الحسين عبد الوهاب ابن جعفر الميداني وغيرهم، ورحل إلى العراق فسمع محمد بن مخلّد وأبا عليّ بن شاذان وخلقا سواهم، ونسخ بالموصل ونصيبين ومنبج كثيرا، وجمع جموعا، وروى عنه أبو بكر الخطيب وأبو نصر الحميدي وأبو القاسم النسيب وأبو محمد الأكفاني
وأبو القاسم بن السمرقندي وغيرهم، وكان ثقة صدوقا، قال ابن الأكفاني: ولد شيخنا عبد العزيز بن الكناني في رجب سنة 389، وبدأ بسماع الحديث في سنة 407، ومات في سنة 466، وقد خرّج عنه الخطيب في عامّة مصنفاته، وهو يقول: حدثني عبد العزيز بن أبي طاهر الصوفي، وأبو زرعة عبد الرحمن ابن عمرو بن عبد الله بن صفوان بن عمرو البصري الدمشقي الحافظ المشهور شيخ الشام في وقته، رحل وروى عن أبي نعيم وعفان ويحيى بن معين وخلق لا يحصون، وروى عنه من الأئمة أبو داود السجستاني وابنه أبو بكر بن أبي داود وأبو القاسم بن أبي العقب الدمشقي وعبدان الأوزاعي ويعقوب بن سفيان الفسوي، ومات سنة 281، وينسب إليها من لا يحصى من المسلمين، وألّف لها الحافظ ابن عساكر تاريخا مشهورا في ثمانين مجلدة، وممن اشتهر بذلك فلا يعرف إلا بالدمشقي، يوسف بن رمضان بن بندار أبو المحاسن الدمشقي الفقيه الشافعي، كان أبوه قرقوبيّا من أهل مراغة، وولد يوسف بدمشق وخرج منها بعد البلوغ إلى بغداد، وصحب أسعد الميهني وأعاد له بعض دروسه، ثم ولي تدريس النظامية ببغداد مدّة وبنيت له مدرسة بباب الأزج، وكان يذكر فيها الدرس، ومدرسة أخرى عند الطّيوريّين ورحبة الجامع، وانتهت إليه رياسة أصحاب الشافعي ببغداد في وقته، وحدث بشيء يسير عن أبي البركات هبة الله بن أحمد البخاري وأبي سعد إسماعيل بن أبي صالح، وعقد مجلس التذكير ببغداد، وأرسله المستنجد إلى شملة أمير الأشتر من قهستان، فأدركته وفاته وهو في الرسالة في السادس والعشرين من شوال سنة 563.

رُوَاوَةُ

رُوَاوَةُ:
بضم أوّله، وتكرير الواو، بوزن زرارة:
موضع في جبال مزينة، قال ابن السكيت: رواوة والمنتضى وذو السلائل أودية بين الفرع والمدينة، قال كثيّر:
وغيّر آيات ببرق رواوة ... تنائي اللّيالي والــمدى المتطاول
ظللت بها تغضي على حدّ عبرة، ... كأنّك من تجريبك الدّهر جاهل
وقال ابن هرمة:
حيّ الدّيار بمنشد فالمنتضى، ... فالهضب هضب رواوتين إلى لأى
ثنّاه لإقامة الوزن، وهم يفعلون ذلك كثيرا جدّا

السَّوَادُ

السَّوَادُ:
موضعان: أحدهما نواحي قرب البلقاء سميت بذلك لسواد حجارتها فيما أحسب، والثاني يراد به رستاق العراق وضياعها التي افتتحها المسلمون على عهد عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، سمي بذلك لسواده بالزروع والنخيل والأشجار لأنّه حيث تاخم جزيرة العرب التي لا زرع فيها ولا شجر كانوا إذا خرجوا من أرضهم ظهرت لهم خضرة الزروع والأشجار فيسمونه سوادا كما إذا رأيت شيئا من بعد قلت ما ذلك السواد، وهم يسمون الأخضر سوادا والسواد أخضر، كما قال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب وكان أسود فقال:
وأنا الأخضر من يعرفني؟ ... أخضر الجلدة من نسل العرب
فسموه سوادا لخضرته بالزروع والأشجار، وحدّ السواد من حديثة الموصل طولا إلى عبّادان ومن العذيب بالقادسيّة إلى حلوان عرضا فيكون طوله مائة وستين فرسخا، وأما العراق في العرف فطوله يقصر عن طول السواد وعرضه مستوعب لعرض السواد لأنّ أوّل العراق في شرقي دجلة العلث على حدّ طسوج بزرجسابور، وهي قرية تناوح حربى موقوفة على العلوية، وفي غربي دجلة حربى ثمّ تمتد إلى آخر أعمال البصرة من جزيرة عبّادان، وكانت تعرف بميان روذان معناه بين الأنهر، وهي من كورة بهمن أردشير، فيكون طوله مائة وخمسة وعشرين فرسخا، يقصر عن طول السواد بخمسة وثلاثين فرسخا، وعرضه كالسواد ثمانون فرسخا، قال قدامة: يكون ذلك منكسرا عشرة آلاف فرسخ وطول الفرسخ اثنا عشر ألف ذراع بالذراع المرسلة ويكون بذراع المسافة وهي الذراع الهاشمية تسعة آلاف ذراع، فيكون الفرسخ إذا ضرب في مثله اثنين وعشرين ألفا وخمسمائة جريب، فإذا ضربت في عشرة آلاف بلغت مائتي ألف ألف وعشرين ألف جريب يسقط منها بالتخمين آكامها وآجامها وسباخها ومجاري أنهارها ومواضع مدنها وقراها ومدى ما بين طرقها الثلث فيبقى مائة ألف ألف وخمسون ألف ألف جريب، يراح منها النصف على ما فيها من الكرم والنخل والشجر والعمارة الدائمة المتصلة مع التخمين بالتقريب على كلّ جريب قيمة ما يلزمه للخراج درهمان وذلك أقلّ من العشر على أن
يضرب بعض ما يؤخذ منها من أصناف الغلّات ببعض فيبلغ ذلك مائة ألف ألف وخمسين ألف ألف درهم مثاقيل، هذا سوى خراج أهل الذمّة وسوى الصدقة، فإن ذلك لا مدخل له في الخراج، وكانت غلّات السواد تجري على المقاسمة في أيّام ملوك فارس إلى ملك قباذ بن فيروز فإنّه مسحه وجعل على أهله الخراج، وقال الأصمعي: السواد سوادان: سواد البصرة دستميسان والأهواز وفارس، وسواد الكوفة كسكر إلى الزاب وحلوان إلى القادسية، وقال أبو معشر: إن الكلدانيين هم الذين كانوا ينزلون بابل في الزمن الأوّل، ويقال: إن أوّل من سكنها وعمّرها نوح، عليه السلام، حين نزلها عقيب الطوفان طلبا للرفاء فأقام بها وتناسلوا فيها وكثروا من بعد نوح وملّكوا عليهم ملوكا وابتنوا بها المدائن واتصلت مساكنهم بدجلة والفرات إلى أن بلغوا من دجلة إلى أسفل كسكر ومن الفرات إلى ما وراء الكوفة، وموضعهم هذا هو الذي يقال له السواد، وكانت ملوكهم تنزل بابل، وكان الكلدانيّون جنودهم، فلم تزل مملكتهم قائمة إلى أن قتل دارا، وهو آخر ملوكهم، ثمّ قتل منهم خلق كثير فذلوا وانقطع ملكهم، وقد ذكرت بابل في موضعها، وقال يزيد بن عمر الفارسي: كانت ملوك فارس تعدّ السواد اثني عشر استانا وتحسبه ستين طسوجا، وتفسير الاستان اجارة، وترجمة الطسوج ناحية، وكان الملك منهم إذا عني بناحية من الأرض عمّرها وسمّاها باسمه، وكانوا ينزلون السواد لما جمع الله في أرضه من مرافق الخيرات وما يوجد فيها من غضارة العيش وخصب المحلّ وطيب المستقرّ وسعة ميرها من أطعمتها وأوديتها وعطرها ولطيف صناعتها، وكانوا يشبهون السواد بالقلب وسائر الدنيا بالبدن، وكذلك سموه دل إيرانشهر أي قلب إيرانشهر، وإيرانشهر: الإقليم المتوسط لجميع الأقاليم، قال:
وإنّما شبهوه بذلك لأن الآراء تشعّبت عن أهله بصحة الفكر والرويّة كما تتشعّب عن القلب بدقائق العلوم ولطائف الآداب والأحكام، فأمّا من حولها فأهلها يستعملون أطرافهم بمباشرة العلاج، وخصب بلاد إيرانشهر بسهولة لا عوائق فيها ولا شواهق تشينها ولا مفاوز موحشة ولا براري منقطعة عن تواصل العمارة والأنهار المطردة من رساتيقها وبين قراها مع قلّة جبالها وآكامها وتكاثف عمارتها وكثرة أنواع غلّاتها وثمارها والتفاف أشجارها وعذوبة مائها وصفاء هوائها وطيب تربتها مع اعتدال طينتها وتوسط مزاجها وكثرة أجناس الطير والصيد في ظلال شجرها من طائر بجناح وماش على ظلف وسابح في بحر، قد أمنت ممّا تخافه البلدان من غارات الأعداء وبواثق المخالفين مع ما خصّت به من الرافدين دجلة والفرات إذ قد اكتنفاها لا ينقطعان شتاء ولا صيفا على بعد منافعهما في غيرها فإنّه لا ينتفع منهما بكثر فائدة حتى يدخلاها فتسيح مياههما في جنباتها وتنبطح في رساتيقها فيأخذون صفوه هنيئا ويرسلون كدره وأجنه إلى البحر لأنّهما يشتغلان عن جميع الأراضي التي يمرّان بها ولا ينتفع بهما في غير السواد إلّا بالدوالي والدواليب بمشقة وعناء، وكانت غلات السواد تجري على المقاسمة في أيّام ملوك الفرس والأكاسرة وغيرهم إلى أن ملك قباذ بن فيروز فإنّه مسحه وجعل على أهله الخراج، وكان السبب في ذلك أنّه خرج يوما متصيّدا فانفرد عن أصحابه بصيد طرده حتى وغل في شجر ملتفّ وغاب الصيد الذي اتبعه عن بصره فقصد رابية يتشوّفه فإذا تحت الرابية قرية كبيرة، ونظر إلى بستان قريب منه فيه نخل ورمّان
وغير ذلك من أصناف الشجر وإذا امرأة واقفة على تنّور تخبز ومعها صبيّ لها كلّما غفلت عنه مضى الصبي إلى شجرة رمّان مثمرة ليتناول من رمّانها فتعدو خلفه وتمنعه من ذلك ولا تمكّنه من أخذ شيء منه، فلم تزل كذلك حتى فرغت من خبزها والملك يشاهد ذلك كلّه، فلمّا لحق به أتباعه قصّ عليهم ما شاهده من المرأة والصبيّ ووجّه إليها من سألها عن السبب الذي من أجله منعت ولدها من أن يتناول شيئا من الرّمّان فقالت: للملك فيه حصّة ولم يأتنا المأذون بقبضها وهي أمانة في أعناقنا ولا يجوز أن نخونها ولا أن نتناول ممّا بأيدينا شيئا حتى يستوفي الملك حقّه، فلمّا سمع قباذ ذلك أدركته الرّقّة عليها وعلى الرعيّة وقال لوزرائه: إن الرعية معنا لفي بليّة وشدّة وسوء حال بما في أيديهم من غلاتهم لأنهم ممنوعون من الانتفاع بشيء من ذلك حتى يرد عليهم من يأخذ حقنا منهم، فهل عندكم حيلة نفرّج بها عنهم؟
فقال بعض وزرائه: نعم، يأمر الملك بالمساحة عليهم ويأمر أن يلزم كلّ جريب من كل صنف بقدر ما يحصّ الملك من الغلّة فيؤدّى ذلك إليه وتطلق أيديهم في غلاتهم ويكون ذلك على قرب مخارج المير وبعدها من الممتارين، فأمر قباذ بمساحة السواد وإلزام الرعية الخراج بعد حطيطة النفقة والمؤونة على العمارة والنفقة على كري الأنهار وسقاية الماء وإصلاح البريدات وجعل جميع ذلك على بيت المال فبلغ خراج السواد في السنة مائة ألف ألف وخمسين ألف ألف درهم مثاقيل، فحسنت أحوال الناس ودعوا للملك بطول البقاء لما نالهم من العدل والرفاهية، وقد ذكرنا المشهور من كور السواد في المواضع التي قضى بها الترتيب حسب وضع الكتاب، وقد وقع اختلاف مفرط بين مساحة قباذ ومساحة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ذكرته كما وجدته من غير أن أحقّق العلة في هذا التفاوت الكبير: أمر عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، بمسح السواد الذي تقدّم حدّه لم يختلف صاحب هذه الرواية فيه فكان بعد أن أخرج عنه الجبال والأودية والأنهار ومواضع المدن والقرى ستة وثلاثين ألف ألف جريب فوضع على جريب الحنطة أربعة دراهم وعلى جريب الشعير درهمين وعلى جريب النخل ثمانية دراهم وعلى جريب الكرم والشجر ستة دراهم وحتم الجزية على ستمائة ألف إنسان وجعلها طبقات، الطبقة العالية ثمانية وأربعون درهما والوسطى أربعة وعشرون درهما والسّفلى اثنا عشر درهما، فجبى السواد مائة ألف ألف وثمانية وعشرين ألف ألف درهم، وقال عمر بن عبد العزيز: لعن الله الحجّاج! فإنّه ما كان يصلح للدنيا ولا للآخرة، فإن عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، جبى العراق بالعدل والنصفة مائة ألف ألف وثمانية وعشرين ألف ألف درهم، وجباه زياد مائة ألف ألف وخمسة وعشرين ألف ألف درهم، وجباه ابنه عبيد الله أكثر منه بعشرة آلاف ألف درهم، ثمّ جباه الحجاج مع عسفه وظلمه وجبروته ثمانية عشر ألف ألف درهم فقط وأسلف الفلاحين للعمارة ألفي ألف فحصل له ستة عشر ألف ألف، قال عمر بن عبد العزيز: وها أنا قد رجع إليّ على خرابه فجبيته مائة ألف ألف وأربعة وعشرين ألف ألف درهم بالعدل والنصفة وإن عشت له لأزيدنّ على جباية عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، وكان أهل السواد قد شكوا إلى الحجاج خراب بلدهم فمنعهم من ذبح البقر لتكثر العمارة، فقال شاعر:
شكونا إليه خراب السّواد، ... فحرّم جهلا لحوم البقر
وقال عبد الرحمن بن جعفر بن سليمان: مال السواد ألف ألف ألف درهم، فما نقص ممّا في يد السلطان منه فهو في يد الرعية، وما نقص من يد الرعية فهو في بيت مال السلطان، قالوا: وليس لأهل السواد عهد إلّا الحيرة وأليس وبانقيا فلذلك يقال لا يصحّ بيع أرض السواد دون الجبل لأنّها فيء للمسلمين عامّة إلّا أراضي بني صلوبا وأرض الحيرة، قالوا: وكتب عمر بن الخطّاب إلى سعد بن أبي وقّاص حين افتتح السواد: أمّا بعد فقد بلغني كتابك تذكر أن الناس قد سألوك أن تقسم بينهم ما أفاء الله عليهم، وإن أتاك كتابي فانظر ما أجلب عليه العسكر بخيلهم وركابهم من مال وكراع فاقسمه بينهم بعد الخمس واترك الأنهار والأرض بحالها ليكون ذلك في عطيات المسلمين فإنّك إذا قسمتها بين من حضر لم يبق لمن بعدهم شيء، وسئل مجاهد عن أرض السواد فقال: لا تباع ولا تشترى لأنّها فتحت عنوة ولم تقسم فهي فيء للمسلمين عامة، وقيل: أراد عمر قسمة السواد بين المسلمين فأمر أن يحصوا فوجدوا الرجل يصيبه ثلاثة من الفلاحين فشاور أصحاب رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، في ذلك فقال عليّ، رضي الله عنه:
دعهم يكونوا مادّة للمسلمين، فبعث عثمان بن حنيف الأنصاري فمسح الأرض ووضع الخراج ووضع على رؤوسهم ما بين ثمانية وأربعين درهما وأربعة وعشرين درهما واثني عشر درهما، وشرط عليهم ضيافة المسلمين وشيئا من برّ وعسل، ووجد السواد ستة وثلاثين ألف ألف جريب فوضع على كل جريب درهما وقفيزا، قال أبو عبيد: بلغني أن ذلك القفيز كان مكوّكا لهم يدعى السابرقان، وقال يحيى بن آدم: وهو المحتوم الحجاجيّ، وقال محمد ابن عبد الله الثقفي: وضع عمر، رضي الله عنه، على كلّ جريب من السواد، عامرا كان أو غامرا يبلغه الماء، درهما وقفيزا وعلى جريب الرطبة خمسة دراهم وخمسة أقفزة وعلى جريب الكرم عشرة دراهم وعشرة أقفزة، ولم يذكر النخل، وعلى رؤوس الرجال ثمانية وأربعين وأربعة وعشرين واثني عشر درهما، وحتم عثمان بن حنيف على رقاب خمسمائة ألف وخمسين ألف علج بأخذ الجزية، وبلغ الخراج في ولايته مائة ألف ألف درهم، ومسح حذيفة بن اليمان سقي الفرات، ومات بالمدائن، والقناطر المعروفة بقناطر حذيفة منسوبة إليه، وذلك لأنّه نزل عندها، وكان ذراعه وذراع ابن حنيف ذراع اليد وقبضة وإبهاما ممدودة.

شِبْدَازُ

شِبْدَازُ:
بكسر أوّله، وسكون ثانيه ثمّ دال مهملة، وآخره زاي، ويقال شبديز، بالياء المثناة من تحت:
موضعان أحدهما قصر عظيم من أبنية المتوكّل بسرّ من رأى، والآخر منزل بين حلوان وقرميسين في لحف جبل بيستون سمي باسم فرس كان لكسرى، عن نصر، وقال مسعر بن المهلهل: وصورة شبديز على فرسخ من مدينة قرميسين، وهو رجل على فرس من حجر عليه درع لا يخرم كأنّه من الحديد يبين زرده والمسامير المسمرة في الزرد لا شك من نظر إليه يظن أنّه متحرّك، وهذه الصورة صورة أبرويز على فرسه شبديز وليس في الأرض صورة تشبهها، وفي الطاق الذي فيه هذه الصورة عدة صور من رجال ونساء ورجّالة وفرسان وبين يديه رجل في زيّ فاعل على رأسه قلنسوة وهو مشدود الوسط بيده بيل كأنّه يحفر به الأرض والماء يخرج من تحت رجليه، وقال أحمد بن محمد الهمذاني: ومن عجائب قرميسين وهي إحدى عجائب الدنيا صورة شبديز وهي في قرية يقال لها خاتان ومصوره قنطوس بن سنمّار، وسنمار هو الذي بنى الخورنق بالكوفة، وكان سبب صورته في هذه القرية أنّه كان أزكى الدواب وأعظمها خلقة وأظهرها خلقا وأصبرها على طول الركض، وكان ملك الهند أهداه إلى الملك أبرويز فكان لا يبول ولا يروث ما دام عليه سرجه ولجامه ولا ينخر ولا يزبد، وكانت استدارة حافره ستة أشبار، فاتفق أن شبديز اشتكى وزادت شكواه وعرف أبرويز ذلك وقال: لئن أخبرني أحد بموته لأقتلنه، فلمّا مات شبديز خاف صاحب خيله أن يسأله عنه فلا يجد بدّا من إخباره بموته فيقتله، فجاء إلى البهلبند مغنيه، ولم يكن فيما تقدّم من الأزمان ولا ما تأخر أحذق منه بالضرب بالعود والغناء، قالوا: كان لأبرويز ثلاث خصائص لم تكن لأحد من قبله:
فرسه شبديز وسريته شيرين ومغنيه بهلبند، وقال: اعلم أن شبديز قد نفق ومات وقد عرفت ما أوعد به الملك من أخبره بموته فاحتل لي حيلة ولك كذا وكذا، فوعده الحيلة، فلمّا حضر بين يدي الملك غناه غناء ورّى فيه عن القصة إلى أن فطن الملك وقال له:
ويحك مات شبديز! فقال: الملك يقوله، فقال له:
زه ما أحسن ما تخلصت وخلّصت غيرك! وجزع عليه جزعا عظيما فأمر قنطوس بن سنمّار بتصويره فصوّره على أحسن وأتمّ تمثال حتى لا يكاد يفرق بينهما إلّا بإدارة الروح في جسدهما، وجاء الملك ورآه فاستعبر باكيا عند تأمّله إيّاه وقال: لشدّ ما نعى إلينا أنفسنا هذا التمثال وذكّرنا ما نصير إليه من فساد حالنا، ولئن كان في الظاهر أمر من أمور الدنيا يدلّ على أمور الآخرة إن فيه لدليلا على الإقرار بموت جسدنا وانهدام بدننا وطموس صورتنا ودروس أثرنا للبلى الذي لا بدّ منه مع الإقرار بالتأثير الذي لا سبيل إليه أن يبقى من جمال صورتنا، وقد أحدث لنا وقوفنا على هذا التمثال ذكرا لما تصير إليه حالنا وتوهمنا وقوف الواقفين عليه بعدنا حتى كأننا بعضهم ومشاهدون لهم، قال: ومن عجائب هذا التمثال أنّه لم ير مثل صورته صورة ولم يقف عليه أحد منذ صوّر من أهل الفكر اللطيف والنظر الدقيق إلّا استراب بصورته وعجب منها، حتى لقد سمعت كثيرا من هذا الصنف يحلفون أو يقاربون اليمين أنّها ليست من صنعة العباد وأن لله تعالى خبيئة سوف يظهرها يوما، قال: وسمعت بعض فقهاء المعتزلة يقول لو أن رجلا خرج من فرغانة القصوى وآخر من سوس الأبعد قاصدين النظر إلى صورة شبديز ما عنفا على ذلك، قال: وأنت إذا فكّرت في أمر صورة
شبديز وجدتها كما ذكر هذا المعتزلي، فإن كان من صنعة الآدميين فقد أعطي هذا المصوّر ما لم يعط أحد من العالمين، فأي شيء أعجب أو أظرف أو أشد امتناعا من أنه سخرت له الحجارة كما يريد، ففي الموضع الذي يحتاج أن يكون أسود اسودّ وفي الموضع الذي يحتاج أن يكون أحمر احمرّ وكذلك سائر الألوان، والذي يظهر لي أن الأصباغ التي فيه معالجة بصنف من المعالجات، ثمّ صوّر شيرين جارية أبرويز أيضا قريبة من شبديز وصوّر نفسه أيضا راكبا فرسا لبيقا، وقد ذكر هذه القصة خالد الفيّاض في شعر قاله وهو:
والملك كسرى شهنشاه تقنّصه ... سهم بريش جناح الموت مقطوب
إذ كان لذّته شبديز يركبه، ... وغنج شيرين والدّيباج والطّيب
بالنّار آلى يمينا شدّ ما غلظت ... أن من بدا فنعى الشبديز مصلوب
حتى إذا أصبح الشبديز منجدلا، ... وكان ما مثله في الخيل مركوب
ناحت عليه من الأوتار أربعة ... بالفارسيّة نوحا فيه تطريب
ورنّم البهلبند الوتر فالتهبت ... من سحر راحته اليمنى شآبيب
فقال: مات! فقالوا: أنت فهت به ... فأصبح الحنث عنه وهو مجذوب
لولا البهلبند والأوتار تندبه ... لم يستطع نعي شبديز المرازيب
أخنى الزّمان عليهم فاجرهدّ بهم، ... فما يرى منهم إلّا الملاعيب
وقال أبو عمران الكسروي يذكره:
وهم نقروا شبديز في الصّخر عبرة، ... وراكبه برويز كالبدر طالع
عليه بهاء الملك والوفد عكّف ... يخال به فجر من الأفق ساطع
تلاحظه شيرين واللّحظ فاتن، ... وتعطو بكفّ حسّنتها الأشاجع
يدوم على كرّ الجديدين شخصه، ... ويلفى قويم الجسم واللون ناصع
واجتاز بعض الملوك هناك ونزل وشرب وأعجبه الموضع فاستدعى خلوقا وزعفرانا فخلّق وجه شبديز وشيرين والملك، فقال بعض الشعراء:
كاد شبديز أن يحمحم لمّا ... خلّق الوجه منه بالزّعفران
وكأنّ الهمام كسرى وشيري ... ن مع الشيخ موبذ الموبذان
من خلوق قد ضمّخوهم جميعا ... أصبحوا في مطارف الأرجوان
وقال ابن الفقيه: أنشدني أبو محمد العبدي الهمذاني لنفسه في صورة شبديز:
من ناظر معتبر أبصرت ... مقلته صورة شبديز
تأمّل الدّنيا وآثارها ... في ملك الدّنيا أبرويز
يوقن أنّ الدّهر لا يأتلي ... يلحق موطوءا بمهزوز
أبعد كسرى اعتاض من ملكه ... مخطّ رسم ثمّ مرموز
يغبط ذو ملك على عيشة ... رنق يعانيها بتوفيز
وقال آخر يذكر شبديز وأبرويز:
شبديز منحوت صخر بعد بهجته ... للناظرين، فلا جري ولا خبب
عليه برويز مثل البدر منتصبا ... للنّاظرين، فلا يجدي ولا يهب
وربّما فاض للعافين من يده ... سحائب، ودقها المرجان والذّهب
فلا تزال مدى الأيّام صورته ... تحنّ شوقا إليها العجم والعرب
قلت: وعندي أشعار وأراجيز اكتفيت منها بهذا القدر تجنّبا للإطالة.
Learn Quranic Arabic from scratch with our innovative book! (written by the creator of this website)
Available in both paperback and Kindle formats.