Current Dictionary: All Dictionaries

Search results for: تقييدي

التركيب

التركيب: كالترتيب لكن ليس لبعض الأشياء فيه نسبة إلى بعض بالتقدم والتأخر.
التركيب:
[في الانكليزية] Synthesis ،composition ،combination
[ في الفرنسية] Synthese ،composition ،combinaison
بالكاف لغة الجمع. وعرفا مرادف التأليف وهو جعل الأشياء المتعدّدة بحيث يطلق عليها اسم الواحد، ولا تعتبر في مفهومه النسبة بالتقديم والتأخير كما عرفت في لفظ الترتيب بخلاف التأليف فإنه تعتبر فيه المناسبة بين الأجزاء لأنه مأخوذ من الإلفة، صرّح بذلك السيّد الشريف في حاشية الكشاف. هكذا في شرح التهذيب لليزدي. فالمركّب على هذا هو مجموع الأشياء المتعدّدة المأخوذة بالحيثية المذكورة. وفي بعض كتب الصرف هذا معنى مطلق التركيب. وأمّا التركيب في اصطلاح الصرفيين فهو جمع حرفين أو حروف بحيث يطلق عليها اسم الكلمة انتهى. فالمركّب على هذا هو الكلمة التي فيها حرفان أو أكثر.
والتركيب عند النحاة مقابل الإفراد، وكذا عند المنطقيين، لكن بين الاصطلاحين فرقا يجيء بيانه في لفظ المفرد.
اعلم أنّ النحاة قالوا إن كان بين جزئي المركّب وهما اللفظان إسناد سمّي مركّبا إسناديا وجملة، فإن كان ما بينهما إسنادا أصليا مقصودا لذاته سمّي كلاما. فالجملة أعمّ من الكلام.
وإن لم يكن بينهما إسناد فإمّا أن تكون بينهما نسبة تقييديــة بأن يكون أحد الجزءين قيدا للآخر يسمّى مركبا تقييديــا، فإن كان أحدهما مضافا والآخر مضافا إليه سمّي مركبا إضافيا، وإن كان أحدهما موصوفا والآخر صفة سمّي مركبا توصيفيا. وأمّا المصادر والصفات مع فاعلها فإنها في حكم المركّبات الــتقييديــة لكون إسنادها أيضا غير تام ويجيء ما يؤيّد هذا في بيان الإسناد التام وغير التام. وإمّا أن لا تكون بينهما نسبة تقييديــة أيضا ويسمّى مركّبا غير تقييدي. فالمركّب الغير الــتقييدي ما ليس فيه نسبة إسنادية ولا تقييديــة أصلا، لا في الحال ولا قبل التركيب، فخرج تأبّط شرا علما، إذ فيه نسبة قبل العلمية، وكذا نحو عبد الله علما، بخلاف بخت نصّر، فإنّ نصر قبل تركيبه مع بخت أيضا علم، فليست فيه نسبة أصلا.
والمفهوم من الضوء شرح المصباح أنّ المركّب الــتقييدي هو التوصيفي حيث قال في تعريف الكلام: التأليف إمّا على وجه التعداد كخمسة عشر أو الإضافة نحو غلام زيد أو التقييد أعني التوصيف نحو الرجل الذاهب أو غير ذلك انتهى. ثم المركّب الغير الــتقييدي إمّا أن يركب تركيبا به يصير في حكم الكلمة الواحدة معدودا في الأسماء أو لا. الثاني نحو بزيد ومنك، والأول إن تضمن الجزء الثاني منه حرفا سواء كان حرف عطف نحو خمسة عشر فإنه في الأصل خمسة وعشر أو غيره كحرف الجر نحو بيت بيت أي بيت منته إلى بيت، أو ملصق به يسمّى مركّبا تضمنيا. وإن لم يتضمن له سمّي مركبا مزجيا وامتزاجيا وذا المزاج أيضا كما في شرح التسهيل. والمزجي وإن كان مختوما بويه كسيبويه وعمرويه يسمّى مركّبا صوتيا. وفي الفوائد الضيائية في بحث أسماء العدد قال خمسة عشر مركّب امتزاجي. قال المولوي عصام الدين في حاشيته: الصواب أن يقال هو مركّب تضمني انتهى.
اعلم أنّ نحو ضاربة وبصري وسيضرب ونحوها مما يعدّ لشدة الامتزاج كلمة واحدة عرفا ليس من المركب بل هو داخل في المفرد على الصحيح، وإن جعله البعض داخلا في المركّب المزجي كما يجيء في لفظ المفرد، فيصح ما قالوا من أنّ الموجود من أقسام المزجي هو المركّب من اسمين حقيقة كبعلبك، فإن بعل اسم صنم وبك اسم سلطان فركّبا وجعلا اسما واحدا وسمّي به البلد الذي كانا فيه، كذا في الفوائد الضيائية. أو حكما كسيبويه فإنّ ويه حكاية صوت غير موضوع لمعنى، لكنه في حكم الاسم حيث أجري مجرى الأسماء المبنية. وسيب اسم بني مع كلمة ويه فجعلا اسما واحدا. وكذا عمرويه وسعدويه، كذا في الصراح. أو من اسم وفعل نحو بخت نصر فإنّ بخت معرب بوخت بمعنى الابن ونصر اسم صنم وهو ماض من باب التفعيل. هذا غاية جهدي في هذا المقام مستنبطا من الإرشاد واللباب والكافية وشروحها وغيرها، أو من فعل واسم نحو تأبّط شرا، فإنّ تأبط ماض من باب التفعل من الإبط يعني (در بغل گرفت بدي را) فإنّه مبني في الأحوال الثلاث. وكذا كل جملة يسمّى بها مثل برق نحره وذرّى حبا كذا في الصراح.
فائدة:
في الرضي ما يكون تركيبه للعلمية ضربان: إمّا أن يكون في الجزء الأخير قبل التركيب سبب البناء أو لا. فإن كان فالأشهر إبقاء الجزء الأخير على البناء، ويجوز إعراب ما لا ينصرف وتجوز على قلة إضافة الصدر إلى العجز كما جاءت في معد يكرب، فيجيء في المضاف إليه الصرف وتركه. وفيه أيضا وإن حذف حرف الجر أو العطف قبل العلمية فبناء الجزءين أولى بعد الجزءين، ويجوز إعراب الثاني مع منع الصرف مع التركيب، وتجوز فيه الإضافة أيضا مع صرف الثاني وتركه. وكذا كلّ ما يتضمن فيه الثاني حرفا يجوز فيه الأوجه الثلاثة بعد العلمية. وفي المنهل المركّب المتضمن للحرف نحو خمسة عشر قيل إنّه يحكى. وقيل يعرب غير منصرف. وفي شرح التسهيل ذو المزج قسمان أحدهما مختوم بغير ويه كمعديكرب ويجوز فيه ثلاث لغات.
الأولى أن يبنيا معا تشبيها له بخمسة عشر.
والثانية إعراب الثاني مع منع الصرف وهو الفصيح. والثالثة الإضافة. هكذا ذكر المولوي عبد الحكيم في حاشية حاشية الفوائد الضيائية في بحث غير المنصرف.
قال المنطقيون اللفظ المركّب يسمّى قولا ومؤلّفا. فهذه الألفاظ الثلاثة مترادفة بحسب الاصطلاح المشهور. وربّما يفرّق بين المركب والمؤلّف فيقال بتثليث القسمة. اللفظ إمّا أن لا يدلّ جزؤه على شيء أصلا وهو المفرد، أو يدلّ. فإمّا أن يدلّ على جزء معناه وهو المؤلّف أو لا على جزء معناه وهو المركّب، وهذا هو المنقول عن بعض المتأخرين. وقيل إنهم عرفوا المؤلّف بما عرّف به المركّب في المشهور، وهو ما تقصد بجزء منه الدلالة على بعض ما يقصد به حين ما يقصد به، والمركّب بما يدلّ جزؤه لا على جزء المعنى. وعلى هذا لا تكون القسمة حاصرة لخروج مثل الحيوان الناطق علما، إذ لا يدخل في المفرد وهو ظاهر ولا في المؤلّف لعدم الدلالة على جزء ما يقصد به، ولا في المركّب لأنه الذي يدلّ جزؤه لا على جزء معناه، اللهم إلّا أن يزاد في تعريف المركّب ويقال بأنه ما يدلّ جزؤه لا على جزء معناه دلالة مقصودة، أو ينقص من تعريف المؤلّف ويقال هو ما يدلّ جزؤه لا على جزء معناه مطلقا أي سواء كانت دلالته مقصودة أو لا. ويطلق المركب أيضا على الأعمّ من الملفوظ والمعقول كما يطلق على الملفوظ.
التقسيم
المركّب إمّا تام ويسمّى كلاما وهو ما يفيد. فإن احتمل الصدق والكذب سمّي قضية وخبرا وإن لم يحتمل، فإن دلّ على طلب الفعل دلالة أوليّة فهو مع الاستعلاء أمر إن كان المطلوب غير كفّ وإن كان كفا فهو نهي، وإلّا فهو التنبيه، ويندرج فيه التمني والنداء والقسم والتّرجي. ومنهم من عدّ التمني والنداء والاستفهام من أقسام الطلب كالأمر والنهي.
وقد يقسم المركب إلى الخبر والإنشاء المتناول للطلب والتنبيه. وإمّا ناقص ويسمّى غير كلام وهو ما لا يفيد. فإمّا أن يكون الثاني فيه قيدا للأول أو لا. والأول المركّب الــتقييدي وهو إمّا مركب من اسمين أضيف أولهما إلى الثاني أو وصف به، أو من اسم متقدّم وفعل متأخر وقع صفة له أو صلة له، إذ لو تقدّم الفعل أو تأخّر ولم يكن صفة ولا صلة كان المركّب منهما كلاما. والثاني غير تقييدي كالمركّب من اسم وأداة أو فعل وأداة. هذا كله خلاصة ما في شرح المطالع وحاشيته للسيد الشريف.
وفي الجرجاني المركّب ما تقصد بجزء منه الدلالة على جزء معناه. وللمفرد من حيث هو إطلاقات أربعة: فتارة يراد به ما يقابل المثنى والمجموع فيقال هذا مفرد أي ليس مثنى ولا مجموعا، وتارة ما يقابل المضاف أو شبهه فيقال هذا مفرد أي ليس بمضاف ولا شبهه، وتارة ما يقابل الجملة أو شبهها فيقال هذا مفرد أي ليس بجملة ولا شبهها، وتارة ما يقابل المركّب كما مرّ. وينقسم المركّب على خمسة أقسام: مركّب إضافي كغلام زيد، ومركّب تعدادي كخمسة عشر، ومركّب مزجي كبعلبك، ومركّب صوتي كسيبويه، ومركّب إسنادي كقام زيد وزيد قائم انتهى.
والتركيب عند أهل التعمية يطلق على قسم من الأعمال التسهيلية وهو الإتيان بلفظ مركّب بحسب المعنى الشّعري ومفرد بحسب المعنى المعمائي، وهو المعنى المراد وليس اللفظ، ومثاله التعمية باسم مرشد في هذا البيت:
بما أنّ محبته هيأت مكانا لها في قلب الناس فيا جامي تعال نحو ذلك الجاذب للناس كذا في رسالة للمولوي عبد الرحمن الجامي. وعند المحاسبين يطلق على قسم من النسبة، وعلى كون العدد بحيث يعدّه غير الواحد كالأربعة تعدّها الاثنان والستة يعدها الثلاثة، وكذا الاثنان ويقابله الأوليّة، وهي كون العدد بحيث لا يعده غير الواحد كالثلاثة والخمسة والسبعة كذا في شرح المواقف في بحث الكيفيات المختصة بالكميات. فالعدد قسمان أول ومركّب، وتطلق المركب عندهم أيضا على كلّ من الفرد والزوج إذا لم يكن أوّلا أي في أول الأعداد كالأربعة والثلاثة، ويجيء في لفظ العدد. وعلى مقابل المفرد يفسّر بعدد مرتبته اثنتان فصاعدا كخمسة عشر فإنها الآحاد والعشرات، ويفسّر المفرد بعدد مرتبته واحدة فحسب كخمسة وخمسين وخمسمائة، كذا في ضابط قواعد الحساب. وقد يفسّر المفرد بما يعبّر عنه باسم واحد سواء كان خطّا أو سطحا كثلاثة أو جذر ثلاثة. فعلى هذا المركّب ما يعبّر عنه باسمين ويسمّى ذا الاسمين سواء كان خطّا أو سطحا كثلاثة وجذر ثلاثة مجموعين على ما في حواشي تحرير أقليدس.

الصدْق

(الصدْق) الْكَامِل من كل شَيْء يُقَال رمح صدق مستو صلب وَرجل صدق اللِّقَاء ثَبت فِيهِ

(الصدْق) مُطَابقَة الْكَلَام للْوَاقِع بِحَسب اعْتِقَاد الْمُتَكَلّم والصلابة والشدة وَيُقَال رجل صدق وَامْرَأَة صدق وَالْأَمر الصَّالح لَا شية فِيهِ من نقص أَو كذب وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيز {وَقل رب أدخلني مدْخل صدق وأخرجني مخرج صدق}
الصدْق: وَالتَّحْقِيق الْحقيق والتدقيق الأنيق مَا ذكره السَّيِّد السَّنَد الشريف قدس سره فِي حَوَاشِيه على المطول بقوله. قَوْله: وَذكر بَعضهم أَنه لَا فرق بَين النِّسْبَة فِي الْمركب الإخباري وَغَيره الْإِبَانَة إِلَى آخِره إِن أَرَادَ أَنه لَا فرق بَينهمَا أصلا إِلَّا فِي التَّعْبِير فَالْفرق بِوُجُوب علم الْمُخَاطب بِالنِّسْبَةِ الــتقييديــة دون الإخبارية يُبطلهُ قطعا وَإِن أَرَادَ أَنه لَا فرق بَينهمَا يَخْتَلِفَانِ بِهِ فِي الِاحْتِمَال وَعَدَمه. وَهَذَا مُنَاسِب لما مر من أَن احْتِمَال الصدْق وَالْكذب من خَواص الْخَبَر فِي الْمَشْهُور وَلَا يجْرِي فِي غَيره وكاف فِي إِثْبَات مَا قَصده من شُمُول الِاحْتِمَال للمركبات الــتقييديــة والخبرية فَذَلِك الْفرق بَاطِل لَا طائل تَحْتَهُ لِأَن احْتِمَال الصدْق وَالْكذب فِي الْخَبَر إِنَّمَا هُوَ بِالنّظرِ إِلَى نفس مَفْهُومه مُجَردا عَن اعْتِبَار حَال الْمُتَكَلّم والمخاطب بل عَن خُصُوصِيَّة الْخَبَر أَيْضا ليندرج فِي تَعْرِيفه الْأَخْبَار الَّتِي يتَعَيَّن صدقهَا أَو كذبهَا نظرا إِلَى خصوصياتها كَقَوْلِنَا النقيضان لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يرتفعان والضدان يَجْتَمِعَانِ.
فَإِن الأول يجب صدقه ويستحيل كذبه فِي الْوَاقِع وَعند الْعقل أَيْضا إِذا لاحظ مَفْهُومه الْمَخْصُوص. وَالثَّانِي: بِالْعَكْسِ لكنهما إِذا جردا عَن خصوصيتهما ولوحظ مَاهِيَّة مفهومهما أَعنِي ثُبُوت شَيْء لشَيْء أَو سلبه عَنهُ احتملا الصدْق وَالْكذب على السوية. فَإِذا قيل إِن المركبات الــتقييديــة تحتملهما الْمركب الخبري كَانَ مَعْنَاهُ على قِيَاس الْخَبَر أَن النِّسْبَة التقيدية من حَيْثُ ماهيتها مُجَرّدَة عَن الْعَوَارِض والخصوصيات تحْتَمل الصدْق وَالْكذب. وَالظَّاهِر أَن كَون تِلْكَ النِّسْبَة مَعْلُومَة للمخاطب مِمَّا لَا مدْخل لَهُ فِي نفي ذَلِك الِاحْتِمَال فَإِن الْأَخْبَار البديهية مَعْلُومَة لكل وَاحِد مَعَ كَونهَا مُحْتَملَة لَهما وَكَذَلِكَ كَون معلومية تِلْكَ النّسَب مستفادة من نفس اللَّفْظ بِخِلَاف النِّسْبَة الخبرية فَإِن معلوميتها إِنَّمَا تستفاد من خَارج اللَّفْظ لَا يجدي نفعا فِيمَا نَحن بصدده لِأَن الْأَحْكَام الثَّابِتَة للماهيات من حَيْثُ ذواتها لَا تخْتَلف بتبدل أحوالها وَاخْتِلَاف عوارضها _ فَظهر بِمَا ذكرنَا أَن قَوْله وَظَاهر أَن النِّسْبَة الْمَعْلُومَة من حَيْثُ هِيَ مَعْلُومَة لَا تحْتَمل الصدْق وَالْكذب مِمَّا لَا يُغني من الْحق شَيْئا لِأَنَّهُ إِن أَرَادَ أَن النِّسْبَة الْمَعْلُومَة من حَيْثُ هِيَ مَعْلُومَة لَا تحتملها عِنْد الْعَالم بهَا فَمُسلم لَكِن الْمُدَّعِي أَن النِّسْبَة من حَيْثُ ذَاتهَا وماهيتها تحتملهما وَأَيْنَ أَحدهمَا من الآخر _ وَإِن أَرَادَ أَن النِّسْبَة الْمَعْلُومَة للمخاطب لَا تحْتَمل الصدْق وَالْكذب أصلا فَهُوَ فَاسد لما مر بل الْحق أَن يُقَال إِن النِّسْبَة الذهنية فِي المركبات الخبرية تشعر من حَيْثُ هِيَ هِيَ بِوُقُوع نِسْبَة أُخْرَى خَارِجَة عَنْهَا فَلذَلِك احتملت عِنْد الْعقل مطابقتها أَو لَا مطابقتها. (وَأما النِّسْبَة) فِي المركبات الــتقييديــة فَلَا إِشْعَار لَهَا من حَيْثُ هِيَ هِيَ بِوُقُوع نِسْبَة أُخْرَى خَارِجَة عَنْهَا تطابقها أَو لَا تطابقها _ بل رُبمَا أشعرت بذلك من حَيْثُ إِن فِيهَا إِشَارَة إِلَى نِسْبَة خبرية بَيَان ذَلِك إِنَّك إِذا قلت زيد فَاضل فقد اعْتبرت بَينهمَا نِسْبَة ذهنية على وَجه تشعر بذاتها بِوُقُوع نِسْبَة أُخْرَى خَارِجَة عَنْهَا وَهِي أَن الْفضل ثَابت لَهُ فِي نفس الْأَمر لَكِن النِّسْبَة الذهنية لَا تَسْتَلْزِم هَذِه الخارجية استلزاما عقليا فَإِن كَانَت النِّسْبَة الخارجية الْمشعر بهَا وَاقعَة كَانَت الأولى صَادِقَة وَإِلَّا فكاذبة. وَإِذا لاحظ الْعقل تِلْكَ النِّسْبَة الذهنية من حَيْثُ هِيَ جوز مَعهَا كلا الْأَمريْنِ على السوَاء وَهُوَ معنى الإحتمال. وَأما إِذا قلت يَا زيد الْفَاضِل فقد اعْتبرت بَينهمَا نِسْبَة ذهنية على وَجه لَا تشعر من حَيْثُ هِيَ بِأَن الْفضل ثَابت لَهُ فِي الْوَاقِع بل من حَيْثُ إِن فِيهَا إِشَارَة إِلَى معنى قَوْلك زيد فَاضل إِذْ الْمُتَبَادر إِلَى الأفهام أَن لَا يُوصف شَيْء إِلَّا بِمَا هُوَ ثَابت لَهُ فالنسبة الخبرية تشعر من حَيْثُ هِيَ بِمَا يُوصف بِاعْتِبَارِهِ بالمطابقة واللامطابقة أَي الصدْق وَالْكذب فَهِيَ من حَيْثُ هِيَ مُحْتَملَة لَهما.
وَأما الــتقييديــة فَإِنَّهَا تُشِير إِلَى نِسْبَة خبرية والإنشائية تَسْتَلْزِم نِسْبَة خبرية فهما بذلك الِاعْتِبَار يحتملان الصدْق وَالْكذب. وَأما بِحَسب مفهوميتهما فكلا فصح أَن الْحق مَا هُوَ الْمَشْهُور من كَون الإحتمال من خَواص الْخَبَر انْتهى.
قَوْله: إِن أَرَادَ أَنه لَا فرق بَينهمَا أصلا. أَي إِن أَرَادَ نفي الْفرق مُطلقًا إِلَّا بِأَنَّهُ إِلَى آخِره فَحِينَئِذٍ يكون الْمُسْتَثْنى مُتَّصِلا.
قَوْله: وَإِن أَرَادَ أَنه لَا فرق بَينهمَا يَخْتَلِفَانِ بِهِ أَي إِن أَرَادَ نفي الْفرق الْخَاص أَي الْفرق الَّذِي بِهِ يَخْتَلِفَانِ فِي الِاحْتِمَال وَعَدَمه. وَلَا يخفى عَلَيْك أَن قَوْله إِلَّا بِأَنَّهُ إِلَى آخِره يكون حِينَئِذٍ مُسْتَثْنى مُنْقَطِعًا وَالْقصر إضافيا.
قَوْله: وَهَذَا مُنَاسِب أَي حَال كَون هَذَا المُرَاد مناسبا لما مر إِلَى آخِره لِأَن غَرَض ذَلِك الْبَعْض إِثْبَات مَا هُوَ خلاف الْمَشْهُور فَعَلَيهِ أَن يُرِيد أَن بَينهمَا لَيْسَ فرقا بِهِ يَخْتَلِفَانِ فِي الصدْق وَالْكذب فَإِن الْمَشْهُور أَن بَينهمَا فرقا بِهِ يَخْتَلِفَانِ فيهمَا.
قَوْله: فَذَلِك الْفرق جَزَاء الشَّرْط أَعنِي قَوْله وَإِن أَرَادَ أَي إِن أَرَادَ أَنه لَا فرق بَينهمَا يَخْتَلِفَانِ بِهِ فِي الِاحْتِمَال وَعَدَمه فَذَلِك الْفرق بِوُجُوب علم الْمُخَاطب لَا طائل تَحْتَهُ فَإِن الْمُفِيد إِثْبَات الْفرق الَّذِي بِهِ يَخْتَلِفَانِ فِي الِاحْتِمَال وَعَدَمه.
قَوْله: لِأَن احْتِمَال الصدْق وَالْكذب يَعْنِي أَنه لَا يلْزم من الْفرق الَّذِي بَينه وَهُوَ وجوب علم الْمُخَاطب بِالنِّسْبَةِ فِي الْمركب الــتقييدي دون الخبري أَن يكون بَينهمَا فرق بِهِ يكون للمركب الخبري احْتِمَال الصدْق وَالْكذب دون الــتقييدي لِأَن الِاحْتِمَال وَعَدَمه لَيْسَ إِلَّا بِالنّظرِ إِلَى مَفْهُوم الْخَبَر وَلَا مدْخل لعلم الْمُتَكَلّم والمخاطب فِيهِ _ وَكَذَا حَال الْمركب الــتقييدي بل عَن خُصُوصِيَّة الْخَبَر أَي بل مُجَردا عَن خُصُوصِيَّة الْخَبَر أَيْضا.
قَوْله: ليندرج فِي تَعْرِيفه أَي تَعْرِيف الْخَبَر.
قَوْله: فَإِذا قيل يَعْنِي لما ثَبت أَنه لَا دخل لعلم الْمُتَكَلّم أَو الْمُخَاطب فِي احْتِمَال الْخَبَر الصدْق أَو الْكَذِب بل الْخَبَر يحتملهما بِالنّظرِ إِلَى مَفْهُومه مُجَردا عَن حَال الْمُتَكَلّم أَو الْمُخَاطب قَوْله: وَالظَّاهِر إِلَى آخِره يَعْنِي إِن قلت أَن بَينهمَا فرقا بِأَن النِّسْبَة الــتقييديــة تكون مَعْلُومَة للمخاطب والخبرية مَجْهُولَة فَأَقُول وَالظَّاهِر إِلَى آخِره.
قَوْله: وَكَذَلِكَ كَون معلومية تِلْكَ النّسَب إِلَى آخِره يَعْنِي إِن قلت إِن بَينهمَا فرقا بِأَن معلومية النّسَب الــتقييديــة مستفادة من نفس اللَّفْظ بِخِلَاف النِّسْبَة الخبرية. أَقُول: كَذَلِك كَون معلومية تِلْكَ النّسَب إِلَى آخِره.
قَوْله: فَإِن الْأَخْبَار البديهية إِلَى آخِره يَعْنِي لَو كَانَ لعلم الْمُخَاطب مدْخل فِي نفي ذَلِك الِاحْتِمَال لما كَانَت الْأَخْبَار البديهية مُحْتَملَة لَهما.
قَوْله: فِيمَا نَحن بصدده أَي من إِثْبَات الْفرق بَينهمَا بِهِ يَخْتَلِفَانِ فِي الِاحْتِمَال وَعَدَمه.
قَوْله: لِأَن الْأَحْكَام الثَّابِتَة أَي كالاحتمال وَعَدَمه فِيمَا نَحن فِيهِ.
قَوْله: لَا يحْتَمل الصدْق وَالْكذب أصلا أَي لَا من حَيْثُ إِنَّهَا مَعْلُومَة عِنْد الْعَالم بهَا وَلَا من حَيْثُ ذَاتهَا وماهياتها.
قَوْله: لما مر أَي من أَن الْأَخْبَار البديهية إِلَى آخِره.
قَوْله: فَلذَلِك احتملت أَي النِّسْبَة الذهنية.
قَوْله: مطابقتها أَو لَا مطابقتها أَي مُطَابقَة النِّسْبَة الذهنية لنسبة أُخْرَى خَارِجَة فَيكون للْخَبَر احْتِمَال الصدْق وَالْكذب بِخِلَاف الْمركب الــتقييدي.
قَوْله: رُبمَا أشعرت بذلك أَي بِوُقُوع نِسْبَة أُخْرَى خَارِجَة عَنْهَا تطابقها أَو لَا تطابقها.
قَوْله: من حَيْثُ إِن فِيهَا إِشَارَة إِلَى نِسْبَة خبرية وَهِي تشعر بِوُقُوع نِسْبَة أُخْرَى خَارِجَة عَنْهَا فالنسبة الــتقييديــة من هَذِه الْحَيْثِيَّة تحْتَمل الْمُطَابقَة واللامطابقة.
قَوْله: والإنشائية تَسْتَلْزِم نِسْبَة خبرية لِأَن اضْرِب مثلا يسْتَلْزم قَوْلنَا اطلب مِنْك الضَّرْب أَو أَنْت مَأْمُور بِالضَّرْبِ _ هَذِه الْحَوَاشِي من تعليقاتي على تِلْكَ الْحَوَاشِي الشَّرِيفَة الشريفية وَلَا أَزِيد على هَذَا فِي إِظْهَار الصدْق وَبَيَانه _ وَللَّه در الصائب رَحمَه الله تَعَالَى.
شعر:
(إِن إِظْهَار الصدْق يبْعَث على الْعَذَاب ... فَإِذا مَا ارْتَفع قَول الْحق يصبح وَاقعا)
الصدْق: فِي اللُّغَة (راستي) وَخلاف الْكَذِب. وَفِي اصْطِلَاح أَرْبَاب التصوف الصدْق قَول الْحق فِي مَوَاطِن الْهَلَاك. وَقيل هُوَ إِن تصدق فِي مَوضِع لَا ينجيك عَنهُ إِلَّا الْكَذِب. وَقَالَ الْقشيرِي رَحمَه الله الصدْق أَن لَا يكون فِي أحوالك شوب وَلَا فِي اعتقادك ريب وَلَا فِي أعمالك عيب.
ثمَّ اعْلَم أَن الصدْق يُطلق على ثَلَاثَة معَان الأول الْحمل فَيُقَال هَذَا صَادِق عَلَيْهِ أَي مَحْمُول عَلَيْهِ وَالثَّانِي التحقق كَمَا يُقَال هَذَا صَادِق فِيهِ أَي مُتَحَقق وَالثَّالِث مَا يُقَابل الْكَذِب. وَفِي تعريفيهما اخْتِلَاف فَذهب الْجُمْهُور إِلَى أَن صدق الْخَبَر مُطَابقَة الحكم للْوَاقِع وَكذب الْخَبَر عدم مُطَابقَة الحكم لَهُ. وَالْمرَاد بالواقع الْخَارِج وَالْخَارِج هَا هُنَا بِمَعْنى نفس الْأَمر فَالْمَعْنى أَن صدق الْخَبَر مُطَابقَة حكمه للنسبة الخارجية أَي نفس الأمرية وَكذبه عدم تِلْكَ الْمُطَابقَة. فَالْمُرَاد بالخارج فِي النِّسْبَة الخارجية نفس الْأَمر لَا كَمَا ذهب إِلَيْهِ السَّيِّد السَّنَد قدس سره فِي حَوَاشِيه على المطول أَن المُرَاد بِهِ مَا يرادف الْأَعْيَان. وَمعنى كَون النِّسْبَة خارجية أَن الْخَارِج ظرف لنَفسهَا لَا لوجودها حَتَّى يرد أَن النِّسْبَة لكَونهَا من الْأُمُور الاعتبارية لَا وجود لَهَا فِي الْخَارِج فَلَا يَصح توصيفها بالخارجية فَهِيَ كالوجود الْخَارِجِي فَإِن مَعْنَاهُ أَن الْخَارِج ظرف لنَفس الْوُجُود لَا لوُجُوده فَهِيَ أَمر خارجي لَا مَوْجُود خارجي كَمَا أَن الْوُجُود أَمر خارجي لَا مَوْجُود خارجي وَإِنَّمَا تركنَا هَذِه الْإِرَادَة لِأَنَّهَا لَا تجْرِي فِي النِّسْبَة الَّتِي أطرافها أُمُور ذهنية فَإِن الْخَارِج لَيْسَ ظرفا لأطرافها فضلا عَن أَن يكون ظرفا لَهَا فَيلْزم أَن لَا يكون الْأَخْبَار الدَّالَّة على تِلْكَ النِّسْبَة مَوْصُوفَة بِالصّدقِ لعدم الْخَارِج لمدلولاتها فضلا عَن الْمُطَابقَة فالخارج فِي النِّسْبَة الخارجية بِمَعْنى نفس الْأَمر.
وَلَا يذهب عَلَيْك أَن الْخَارِج فِي قَوْلهم النِّسْبَة لَيست خارجية مَا يرادف الْأَعْيَان لَا بِمَعْنى نفس الْأَمر لِأَن النّسَب مَوْجُودَة فِي نفس الْأَمر. فَمَعْنَى أَن النِّسْبَة خارجية أَن الْخَارِج بِمَعْنى نفس الْأَمر ظرف لنَفسهَا. وَمعنى قَوْلهم النِّسْبَة لَيست خارجية أَن الْخَارِج بِمَعْنى الْأَعْيَان لَيْسَ ظرفا لوجودها هَذَا هُوَ التَّحْقِيق الْحقيق فِي هَذَا الْمقَام.
وَالْخَبَر عِنْدهم منحصر فِي الصَّادِق والكاذب. وَعند النظام من الْمُعْتَزلَة وَمن تَابعه صدق الْخَبَر عبارَة عَن مُطَابقَة حكم الْخَبَر لاعتقاد الْمخبر سَوَاء كَانَ ذَلِك الِاعْتِقَاد مطابقا للْوَاقِع أَو لَا. وَكذب الْخَبَر عدم مُطَابقَة حكمه لاعتقاد الْمخبر سَوَاء كَانَ مطابقا للْوَاقِع أَو لَا. وَالْمرَاد بالاعتقاد الحكم الذهْنِي الْجَازِم أَو الرَّاجِح فَيشْمَل الْيَقِين واعتقاد الْمُقَلّد وَالظَّن. وَهُوَ أَيْضا يَقُول بانحصار الْخَبَر فِي الصدْق وَالْكذب وَلَكِن لَا يخفى على المتدرب أَنه يلْزم أَن لَا يكون الْمَشْكُوك على مذْهبه صَادِقا وَلَا كَاذِبًا لِأَن الشَّك عبارَة عَن تَسَاوِي الطَّرفَيْنِ والتردد فيهمَا من غير تَرْجِيح فَلَيْسَ فِيهِ اعْتِقَاد وَلَا جازم وَلَا رَاجِح فَلَا يكون صَادِقا وَلَا كَاذِبًا فَيلْزم من بَيَانه مَا لَا يَقُول بِهِ. والجاحظ من الْمُعْتَزلَة أنكر انحصار الْخَبَر فِي الصدْق وَالْكذب لِأَنَّهُ يَقُول إِن صدق الْخَبَر مُطَابقَة حكمه للْوَاقِع والاعتقاد جَمِيعًا وَالْكذب عدم مطابقته لَهما مَعَ الِاعْتِقَاد بِأَنَّهُ غير مُطَابق وَالْخَبَر الَّذِي لَا يكون كَذَلِك لَيْسَ بصادق وَلَا كَاذِب عِنْده وَهُوَ الْوَاسِطَة بَينهمَا.
وتفصيل هَذَا الْمُجْمل أَن غَرَضه ان الْخَبَر إِمَّا مُطَابق للْوَاقِع أَو لَا وكل مِنْهُمَا إِمَّا مَعَ اعْتِقَاد أَنه مُطَابق أَو اعْتِقَاد أَنه غير مُطَابق أَو بِدُونِ ذَلِك الِاعْتِقَاد فَهَذِهِ سِتَّة أَقسَام. وَاحِد مِنْهَا صَادِق وَهُوَ المطابق للْوَاقِع مَعَ اعْتِقَاد أَنه مُطَابق. وَوَاحِد كَاذِب وَهُوَ غير المطابق لَهُ مَعَ اعْتِقَاد أَنه غير مُطَابق. وَالْبَاقِي لَيْسَ بصادق وَلَا كَاذِب. فَفِي الصدْق وَالْكذب ثَلَاثَة مَذَاهِب. مَذْهَب الْجُمْهُور، وَمذهب النظام، وَمذهب الجاحظ وَاتَّفَقُوا على انحصار الْخَبَر فِي الصَّادِق والكاذب خلافًا للجاحظ. وَالْحق مَا ذهب إِلَيْهِ الْجُمْهُور لِأَن النظام تمسك بقوله تَعَالَى {إِذا جَاءَك المُنَافِقُونَ قَالُوا نشْهد أَنَّك لرَسُول الله وَالله يعلم أَنَّك لرَسُوله وَالله يشْهد أَن الْمُنَافِقين لَكَاذِبُونَ} فَإِنَّهُ تَعَالَى حكم عَلَيْهِم بِأَنَّهُم كاذبون فِي قَوْلهم إِنَّك لرَسُول الله مَعَ أَنه مُطَابق للْوَاقِع فَلَو كَانَ الصدْق عبارَة عَن مُطَابقَة الْخَبَر للْوَاقِع لما صَحَّ هَذَا.
وَالْجَوَاب أَنا لَا نسلم أَن التَّكْذِيب رَاجع إِلَى قَوْلهم إِنَّك لرَسُول الله بِسَنَدَيْنِ أَحدهمَا أَنه لم لَا يجوز أَن يكون رَاجعا إِلَى الْخَبَر الْكَاذِب الَّذِي تضمنه قَوْلهم نشْهد وَهُوَ أَن شهادتنا هَذِه من صميم الْقلب وخلوص الِاعْتِقَاد وَلَا شكّ أَن هَذَا الْخَبَر غير مُطَابق للْوَاقِع لكَوْنهم الْمُنَافِقين الَّذين يَقُولُونَ بأفواههم مَا لَيْسَ فِي قُلُوبهم. اللَّهُمَّ احفظنا من شرور أَنْفُسنَا وأنفسهم.
وَالثَّانِي أَنه لم لَا يجوز أَن يكون التَّكْذِيب رَاجعا إِلَى الْخَبَر الْكَاذِب الَّذِي تضمنه قَوْلهم نشْهد أَيْضا لكنه هَا هُنَا هُوَ أَن أخبارنا هَذَا شَهَادَة مَعَ مواطأة الْقلب وموافقته - وَإِن سلمنَا أَن التَّكْذِيب رَاجع إِلَى قَوْلهم إِنَّك لرَسُول الله لَكنا نقُول إِنَّه رَاجع إِلَيْهِ بِاعْتِبَار أَنه مُخَالف للْوَاقِع فِي اعْتِقَادهم لَا لِأَنَّهُ مُخَالف لاعتقادهم حَتَّى ثَبت مَا ادَّعَاهُ النظام.
وَلَا يخفى عَلَيْك أَن التَّكْذِيب لَيْسَ براجع إِلَى نشْهد لِأَنَّهُ إنْشَاء - والصدق وَالْكذب من أَوْصَاف الْأَخْبَار لَا غير وَلِهَذَا قُلْنَا إِنَّه رَاجع إِلَى الْخَبَر الَّذِي تضمنه نشْهد فَافْهَم. وَالْجَوَاب القالع لأصل التَّمَسُّك أَن التَّكْذِيب رَاجع إِلَى حلف الْمُنَافِقين وزعمهم أَنهم لم يَقُولُوا لَا تنفقوا على من عِنْد رَسُول الله حَتَّى يَنْفضوا من حوله. كَمَا يشْهد بِهِ شَأْن النُّزُول لما ذكر فِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن زيد بن أَرقم أَنه قَالَ كنت فِي غزَاة فَسمِعت عبد الله بن أبي ابْن سلول يَقُول لَا تنفقوا على من عِنْد رَسُول الله حَتَّى يَنْفضوا من حوله وَلَو رَجعْنَا إِلَى الْمَدِينَة ليخرجن الْأَعَز مِنْهَا الْأَذَل. فَذكرت ذَلِك لِعَمِّي فَذكره للنَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فدعاني فَحَدَّثته فَأرْسل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى عبد الله بن أبي وَأَصْحَابه فَحَلَفُوا أَنهم مَا قَالُوا فَكَذبنِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَصدقه فَأَصَابَنِي هم لم يُصِبْنِي مثله قطّ فَجَلَست فِي الْبَيْت فَقَالَ لي عمي مَا أردْت إِلَى أَن كَذبك رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ومقتك فَأنْزل الله {إِذا جَاءَك المُنَافِقُونَ} الْآيَة فَبعث إِلَيّ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَرَأَ فَقَالَ إِن الله صدقك يَا زيد انْتهى. اعْلَم أَن قَوْلهم لَا تنفقوا خطاب للْأَنْصَار أَي لَا تنفقوا على فُقَرَاء الْمُهَاجِرين حَتَّى يَنْفضوا أَي يتفرقوا وَرُوِيَ أَن أَعْرَابِيًا نَازع أَنْصَارِيًّا فِي بعض الْغَزَوَات على مَاء فَضرب الْأَعرَابِي رَأسه بخشبة فَشَكا إِلَى ابْن أبي فَقَالَ {لَا تنفقوا} الْآيَة ثمَّ قَالَ وَلَو رَجعْنَا من عِنْده أَي من الْمَكَان الَّذِي فِيهِ مُحَمَّد الْآن إِلَى الْمَدِينَة ليخرجن الْأَعَز مِنْهَا الْأَذَل - أَرَادَ ذَلِك الْأَذَل بالأعز نَفسه وَبِالْأَذَلِّ جناب الرسَالَة الْأَعَز نَعُوذ بِاللَّه من ذَلِك. وَمَا ذهب إِلَيْهِ الجاحظ أَيْضا بَاطِل لِأَنَّهُ تمسك بقوله تَعَالَى {افترى على الله كذبا أم بِهِ جنَّة} بِأَن الْكفَّار حصروا أَخْبَار النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بالحشر والنشر فِي الافتراء وَالْأَخْبَار حَال الْجُنُون وَلَا شكّ أَنهم أَرَادوا بالأخبار حَال الْجُنُون غير الْكَذِب لأَنهم جعلُوا هَذَا الْأَخْبَار قسيم الْكَذِب إِذْ الْمَعْنى أكذب أم أخبر حَال الْجنَّة. وقسيم الشَّيْء يحب أَن يكون غَيره فَثَبت أَن هَذَا الْأَخْبَار غير الْكَذِب. وَأَيْضًا غير الصدْق عِنْدهم لأَنهم لم يُرِيدُوا بِهِ الصدْق لأَنهم لم يعتقدوا صدقه فَكيف يُرِيدُونَ صدقه. - وَالْجَوَاب أَن هَذَا التَّمَسُّك مَرْدُود. أما أَولا فَلِأَن هَذَا الترديد إِنَّمَا هُوَ بَين مُجَرّد الْكَذِب وَالْكذب مَعَ شناعة أُخْرَى. وَأما ثَانِيًا فَلِأَن هَذَا الترديد بَين الافتراء وَعَدَمه يَعْنِي افترى على الله كذبا أم لم يفتر لكِنهمْ عبروا عَن عدم الافتراء بِالْجنَّةِ لِأَن الْمَجْنُون يلْزمه أَن لَا افتراء لَهُ لِأَن الافتراء بِشَهَادَة أَئِمَّة اللُّغَة وَاسْتِعْمَال الْعَرَب عبارَة عَن الْكَذِب عَن عمد وَلَا عمد للمجنون فَذكرُوا الْمَلْزُوم وَأَرَادُوا اللَّازِم فَالثَّانِي أَعنِي أم بِهِ جنَّة لَيْسَ قسيما للكذب بل هُوَ قسيم لما هُوَ أخص من الْكَذِب أَعنِي الافتراء فَيكون هَذَا حصرا للْخَبَر الْكَاذِب فِي نوعيه أَعنِي الْكَذِب من عمد وَالْكذب لَا عَن عمد.
وَاعْلَم إِن افترى بِفَتْح الْهمزَة أَصله افترى بهمزتين أَولهمَا استفهامية مَفْتُوحَة وَالثَّانيَِة همزَة وصل مَكْسُورَة حذفت الثَّانِيَة للتَّخْفِيف وأبقيت الأولى لِأَنَّهَا عَلامَة الِاسْتِفْهَام بِخِلَاف الثَّانِيَة فَإِنَّهَا همزَة الْوَصْل. وَقد يُطلق الصدْق على الْخَبَر المطابق للْوَاقِع وَالْكذب على الْخَبَر الْغَيْر المطابق لَهُ. فَإِن قلت، إِن احْتِمَال الصدْق وَالْكذب من خَواص الْخَبَر أم يجْرِي فِي غَيره أَيْضا من المركبات، قلت لَا يجْرِي ذَلِك فِي الِاحْتِمَال فِي المركبات الإنشائية بالِاتِّفَاقِ.
وَأما فِي غَيرهَا فَعِنْدَ الْجُمْهُور أَنه من خَواص الْخَبَر لَا يجْرِي فِي غَيره من المركبات الــتقييديــة وَذكر صدر الشَّرِيعَة رَحمَه الله أَنه يجْرِي فِي الْأَخْبَار والمركبات الــتقييديــة جَمِيعًا لِأَنَّهُ لَا فرق بَين النِّسْبَة فِي الْمركب الإخباري والــتقييدي إِلَّا بالتعبير عَنْهَا بِكَلَام تَامّ فِي الْمركب الإخباري كَقَوْلِنَا زيد إِنْسَان أَو فرس. وبكلام غير تَامّ فِي الْمركب الــتقييدي كَمَا فِي قَوْلنَا يَا زيد الْإِنْسَان أَو الْفرس وأيا مَا كَانَ فالمركب إِمَّا مُطَابق فَيكون صَادِقا أَو غير مُطَابق فَيكون كَاذِبًا فيا زيد الْإِنْسَان صَادِق وَيَا زيد الْفرس كَاذِب وَيَا زيد الْفَاضِل مُحْتَمل. وَالْحق مَا ذهب إِلَيْهِ الْجُمْهُور بِالنَّقْلِ وَالْعقل. أما الأول فَمَا ذكره الشَّيْخ عبد القاهر رَحمَه الله تَعَالَى أَن الصدْق وَالْكذب إِنَّمَا يتوجهان إِلَى مَا قصد الْمُتَكَلّم إثْبَاته أَو نَفْيه وَالنِّسْبَة الــتقييديــة لَيست كَذَلِك. وَأما الثَّانِي فَإِن احْتِمَال الصدْق وَالْكذب إِنَّمَا يتَصَوَّر فِي النِّسْبَة المجهولة وَعلم الْمُخَاطب بِالنِّسْبَةِ فِي الْمركب الــتقييدي دون الإخباري وَاجِب بِالْإِجْمَاع.
.
صدق الْمُشْتَقّ على شَيْء يسْتَلْزم ثُبُوت مَأْخَذ الِاشْتِقَاق لَهُ: لِأَن لفظ الْمُشْتَقّ مَوْضُوع بِإِزَاءِ ذَات مَا مَوْصُوف بمأخذ الِاشْتِقَاق فَلهَذَا صَار حمل الِاشْتِقَاق فِي قُوَّة حمل التَّرْكِيب أَعنِي حمل هُوَ ذُو هُوَ. وَالْجَوَاب عَن المغالطة بِالْمَاءِ المشمس وَالْإِمَام الْحداد وأضح بِأَدْنَى تَأمل. فَإِن مَأْخَذ المشمس هُوَ التشميس الَّذِي هُوَ مصدر مَجْهُول من التفعيل لَا الشَّمْس والحداد الَّذِي بِمَعْنى صانع الْحَدِيد مأخذه مَا هُوَ بِمَعْنى صنع الْحَدِيد لَا الْحَدِيد بِمَعْنى (آهن) مَعَ أَن الْكَلَام فِي الْمُشْتَقّ الْحَقِيقِيّ لَا الصناعي. وَتَقْرِير المغالطة أَن المشمس مُشْتَقّ صَادِق على المَاء ومأخذه وَهُوَ الشَّمْس لَيْسَ بِثَابِت لَهُ وَكَذَا الْحداد مُشْتَقّ يصدق على ذَات مَا وَلَا يَتَّصِف بمأخذه وَهُوَ الْحَدِيد.
صدق الْمُشْتَقّ على مَا يصدق عَلَيْهِ الْمُشْتَقّ الآخر لَا يسْتَلْزم صدق المبدأ على المبدأ: فَإِن الضاحك والمتعجب يصدقان على الْإِنْسَان وَلَا يصدق الضحك على التَّعَجُّب. نعم إِذا كَانَ بَين المبدئين ترادف واتحاد فِي الْمَفْهُوم يسْتَلْزم الصدْق الأول الصدْق الثَّانِي كالتفسير والتبيين أَو كَانَ أحد المشتقين بِمَنْزِلَة الْجِنْس للْآخر كالمتحرك والماشي فَإِنَّهُ يَصح أَن يُقَال الْمَشْي حَرَكَة مَخْصُوصَة فَافْهَم.

المفرد

المفرد:
[في الانكليزية] Singular ،simple ،particular
[ في الفرنسية] Simple ،singulier ،particulier
بتخفيف الراء المفتوحة من الإفراد يطلق على معان. منها مقابل المركّب وعرّفه أهل العربية بأنّه اللفظ بكلمة واحدة، واللفظ ليس بمعنى التلفظ بل بمعنى الملفوظ، أي الذي لفظ. فالمعنى أنّ المفرّد هو الذي لفظ بكلمة أي صار ملفوظا بتلفّظ كلمة واحدة، ومآله أنّه لفظ هو كلمة واحدة، فإن ما يصير ملفوظا بتلفّظ كلمة واحدة لا بدّ أن يكون كلمة واحدة.
والمراد من الكلمة اللغوية ومعنى الواحدة التي ضمّت إلى الكلمة معلوم عرفا، فإنّ ضرب مثلا كلمة واحدة في عرف اللغة بخلاف ضرب زيد فلا حاجة إلى تفسير الكلمة الواحدة لغة بما لم يشتمل على لفظين موضوعين، ولا خفاء في اعتبار قيد الوضع في الحدّ لكونه قسما من اللفظ الموضوع فلا يرد على الحدّ المهملات.
على أنّا لا نسلّم إطلاق الكلمة على المهمل في عرف اللغة فلا يرد ما أورد المحقّق التفتازاني من أنّه إن أريد الكلمة اللغوية على ما يشتمل الكلام والزائد على حرف وإن كان مهملا على ما صرّح به في المنتهى لم يطرد، وإن أريد الكلمة النحوية لزم الدور، غاية ما يقال إنّه تفسير لفظي لمن يعرف مفهوم الكلمة ولا يعرف أنّ لفظ المفرد لأيّ معنى وضع انتهى كلامه.
وعرّف المركّب بأنّه اللفظ بأكثر من كلمة واحدة ومحصّله لفظ هو أكثر من كلمة واحدة، فنحو نضرب وأخواته مفرد إذ يعدّ حرف المضارعة مع ما بعده كلمة واحدة عرفا. فعند النحويين لا يمتنع دلالة جزء الكلمة الواحدة على شيء في الجملة، وعبد الله ونحوه من المركّبات الإضافية وبعلبك ونحوه من المركّبات المزجية، وتأبّط شرا ونحوه من المركّبات الإسنادية مركّبات وإن كانت أعلاما لكونها أكثر من كلمة واحدة عرفا هكذا في العضدي وحاشية السّيّد السّند في المبادئ. وقال المحقّق التفتازاني: وهذا يشكّل بما أطبق عليه النحاة من أنّ العلم اسم وكلّ اسم كلمة وكلّ كلمة مفرد، فيلزم أن يكون عبد الله ونحوه علما مفردا. والجواب أنّ المفرد المأخوذ في حدّ الكلمة غير المفرد بهذا المعنى انتهى. وكأنّه بمعنى ما لا يدلّ جزؤه على جزء معناه. والذي يسنح بخاطري أنّ إطباقهم على أنّ العلم اسم كإطباقهم على أنّ الأصوات أسماء، فإنّهم لما رأوها مشاركة للكلمات في كثرة الدوران على الألسنة في المحاورات نزّلوها منزلة الأسماء المبنية وضبطوها في المبنيات، فاسمية الأعلام المركّبة تكون من هذا القبيل أيضا. وبالجملة فالعلم المفرد اسم حقيقة والمركّب اسم حكما لأنّ معناه معنى الاسم.
اعلم أنّ المفهوم مما سبق حيث اعتبرت الوحدة العرفية أنّ مثل الرجل وقائمة وبصري وسيضرب ونحوها مفردة، لكنه يخالف ما وقع في شروح الكافية والضوء حيث عرّف اللفظ المفرد بما لا يدلّ جزؤه على جزء معناه حال كونه جزءا، وأخرج منه المركّبات مطلقا كلامية أو غيرها، وكذا مثل الرجل وقائمة وبصري وسيضرب وضربت وضربنا ونحوها مما يعد لشدّة الامتزاج كلمة واحدة، وكأنّ للمفرد عندهم معنيين فلا مخالفة، لكن في كون المعنيين من مصطلحات النحاة نظرا، إذ قد صرّح في العضدي أنّ المعنى الثاني للمفرد وهو ما لا يدلّ جزؤه على جزء معناه من مصطلحات المنطقيين. وقال المحقّق التفتازاني في حاشيته إنّه لا يمتنع عند النحاة دلالة جزء الكلمة الواحدة على شيء في الجملة. فنحو يضرب وأخواته مفرد عندهم ويؤيّده ما في الفوائد الضيائية حيث قال: ولا يخفى على الفطن العارف بالغرض من علم النحو أنّه لو كان الأمر بالعكس بأن يجعل نحو عبد الله علما مركّبا، ونحو قائمة وبصري مفردا لكان أنسب انتهى. وقال المولوي عبد الغفور في حاشيته: الغرض من النحو معرفة أحوال اللفظ وتصحيح إعرابه، فإهمال جانب اللفظ والميل إلى جانب المعنى لا يلائم ذلك الغرض، ولا يخفى أنّ ذلك الإهمال لا يجري في كلّ ما يعدّ لشدّة الامتزاج لفظة واحدة وأعرب بإعراب بل فيما أعرب بإعرابين كعبد الله انتهى.
قال المنطقيون المفرد هو اللفظ الموضوع الذي لا يقصد بجزء منه الدلالة على جزء معناه، سواء لم يكن له جزء كهمزة الاستفهام أو كان له جزء ولم يدلّ على معنى كزيد أو كان له جزء دالّ على معنى ولا يكون ذلك المعنى جزء المعنى المقصود كعبد الله علما، فإن العبد معناه العبودية وهو ليس جزء المعنى المقصود وهو الذات المشخّصة وكذا لفظ الله، أو كان له جزء دالّ على جزء المعنى المقصود ولم يكن دلالته مقصودة كالحيوان الناطق علما لإنسان فإنّ معناه حينئذ الماهية الإنسانية مع التشخّص والحيوان فيه مثلا دالّ على جزء الماهية الإنسانية. لكن ليست تلك الدلالة مقصودة حال العلمية، بل المقصود هو الذّات المشخّصة، ويقابله المركّب تقابل العدم والملكة وهو ما يقصد بجزء منه الدلالة على جزء معناه كرامي الحجارة وقائمة وبصري ويضرب ونحوها، وإنّما لم يجعلوا مثل عبد الله علما مركّبا كما جرت عليه كلمة النحاة لأنّ نظرهم في الألفاظ تابع للمعاني فيكون إفرادها وتركيبها تابعين لوحدة المعاني وكثرتها بخلاف النّحاة، فإنّ نظرهم إلى أحوال الألفاظ، وقد جرى على مثله علما أحكام المركّبات حيث أعرب بإعرابين كما إذا قصد بكل واحد من جزئه معنى على حدّة. لا يقال تعريف المركّب غير جامع وتعريف المفرد غير مانع لأنّ مثل الحيوان الناطق بالنظر إلى معناه البسيط التضمّني أو الالتزامي ليس جزؤه مقصود الدلالة على جزء ذلك المعنى فيدخل في حدّ المفرد، ويخرج عن حدّ المركّب لأنّا نقول المراد بالدلالة في تعريف المركّب هي الدلالة في الجملة وبعدم الدلالة في المفرد انتفاؤها من سائر الوجوه، فالمركّب ما يكون جزؤه مقصود الدلالة بأيّ دلالة كانت على جزء ذلك المعنى، وحينئذ يندفع النقض لأنّ مثل الحيوان الناطق وإن لم يدل جزؤه على جزء المعنى البسيط التضمني لكنّه يدلّ على جزء المعنى المطابقي، ويلزمهم أنّ نحو ضارب ومخرج وسكران مما لا ينحصر من الألفاظ المشتقة مركّب لأنّ جوهر الكلمة جزء منه، وما ضمّ إليه من الحروف والحركات جزء وكلّ من الجزءين يدلان على معنى مختصّ به. واعتذر الجمهور عنه بأنّ المراد بالأجزاء ألفاظ أو حروف أو مقاطع مسموعة مترتّبة متقدّم بعضها على بعض، والمادة مع الهيئة ليست كذلك، وأنت خبير بأنّ هذا إرادة ما لا يفهم من اللفظ ولا نعني بفساد الحدّ سوى هذا.

التقسيم:
المفرد عند النحاة إما اسم أو فعل أو حرف وقد سبق تحقيقه في لفظ الاسم. وقال المنطقيون المفرد إمّا اسم أو كلمة أو أداة لأنّه إمّا أن يدلّ على معنى وزمان بصيغته ووزنه وهو الكلمة، أو لا يدلّ، ولا يخلو إمّا أن يدلّ على معنى تام أي يصحّ أن يخبر به وحده عن شيء وهو الاسم وإلّا فهو الأداة، وقد علم بذلك حدّ كلّ واحد منها. وإنّما أطلق المعنى في حدّ الكلمة دون الاسم ليدخل فيه الكلمات الوجودية فإنّها لا تدلّ على معان تامة. وقيد الزمان بالصيغة ليخرج عنه الأسامي الدّالّة على الزمان بجوهرها ومادّتها كلفظ الزمان واليوم وأمس وأسماء الأفعال، وإنّما كان دلالتها على الزمان بالصيغة والوزن لاتحاد المدلولات الزمانية باتحاد الصيغة، وإن اختلفت المادة كضرب وذهب واختلافها باختلافها، وإن اتحدت المادة كضرب ويضرب، ولا يلزم حينئذ كونها مركّبة لأنّ المعنى من المركّب كما عرفت أن يكون هناك أجزاء مرتّبة مسموعة وهي ألفاظ أو حروف، والهيئة مع المادة ليست كذلك، فلا يلزم التركيب. وهاهنا نظر لأنّ الصيغة هي الهيئة الحاصلة باعتبار ترتيب الحروف وحركاتها وسكناتها، فإن أريد بالمادة مجموع الحروف فهي مختلفة باختلاف الصيغة، وإن أريد بها الحروف الأصلية فربما تتّحد والزمان مختلف كما في تكلّم يتكلّم وتغافل يتغافل على أنّه لو صحّ ذلك فإنّما يكون في اللغة العربية، ونظر المنطقي يجب أن لا يختص بلغة دون أخرى، فربما يوجد في لغات أخر ما يدلّ على الزمان باعتبار المادة. وإنّما زيد وحده في حدّ الاسم لإخراج الأداة إذ قد يصحّ أن يخبر بها مع ضميمة كقولنا زيد لا قائم. والكلمة إمّا حقيقية إن دلّت على حدث ونسبة ذلك الحدث إلى موضوع ما وزمان تلك النسبة كضرب وقعد، وإمّا وجودية إن دلّت على الأخيرين فقط يعني أنّها لا تدلّ على معنى قائم بمرفوعها بل على نسبة شيء ليس هو مدلولها إلى موضوع ما، بل ذلك الشيء خارج عن مدلولها، وهذا معنى تقرير الفاعل على صفة وعلى الزمان ككان فإنّه لا يدلّ على الكون مطلقا بل على كون الشيء شيئا لم يذكر بعد، أي لم يذكر ما دام لم يذكر كان، وهذا التقسيم عند الجمهور. وأمّا الشيخ فقد قسّم اللفظ المفرد على أربعة أقسام وهو أنّ اللفظ إمّا أن يدلّ على المعنى دلالة تامة أو لا.
فإن دلّ فلا يخلو إمّا أن يدلّ على زمان فيه معناه من الأزمنة الثلاثة وهو الكلمة أو لا يدلّ عليه وهو الاسم، وإمّا لا يدلّ على المعنى دلالة تامة، فإمّا أن يدلّ على الزمان فهي الكلمة الوجودية أو لا يدلّ فهو الأداة، فالأدوات نسبتها إلى الأسماء كنسبة الكلمات الوجودية إلى الأفعال في عدم كونها تامّات الدلالات. لا يقال من الأسماء ما لا يصحّ أن يخبر به أو عنه أصلا كبعض المضمرات المتصلة مثل غلامي وغلامك. ومنها ما لا يصحّ إلّا مع انضمام كالموصولات فانتقض بها حدّ الاسم والأداة عكسا وطردا على كلا القولين لأنّا نقول: لمّا أطلق الألفاظ فوجد بعضها يصلح لأن يصير جزءا من الأقوال التامة والــتقييديــة النافعة في هذا الفنّ وبعضها لا، فنظر أهل هذا الفنّ في الألفاظ من جهة المعنى. وأمّا نظر النحاة فمن جهة نفسها فلا يلزمه تطابق الاصطلاحين عند تغاير جهتي النّظرين فاندفع النقوض لأنّ الألفاظ المذكورة إن صحّ الإخبار بها أو عنها فهي أسماء وأفعال وإلّا فأدوات. غاية ما في الباب أنّ الأسماء بعضها باصطلاح النحاة أدوات باصطلاح المنطقيين ولا امتناع في ذلك.
فائدة:
كلّ كلمة عند المنطقيين فعل عند العرب بدون العكس أي ليس كلّ فعل عندهم كلمة عند المنطقيين فإنّ المضارع الغير الغائب فعل عندهم وليس كلمة لكونه مركّبا والكلمة من أقسام المفرد، وإنّما كان مركّبا لأنّ المضارع المخاطب والمتكلّم يدلّ جزء لفظه على جزء معناه، فإنّ الهمزة تدلّ على المتكلّم المفرد والنون على المتكلّم المتعدّد والتاء على المخاطب وكذا الحال في الماضي الغير الغائب هكذا قال الشيخ. وقال أيضا الاسم المعرب مركّب لدلالة الحركة الإعرابية على معنى زائد، وقد بالغ بعض المتأخّرين وقال: لا كلمة في لغة العرب إلّا أنّها مركّبة وزعم أنّ ألفاظ المضارعة مركّبة من اسمين أو اسم وحرف لأنّ ما بعد حرف المضارعة ليس حرفا ولا فعلا وإلّا لكان إمّا ماضيا أو أمرا أو مضارعا، ومن الظاهر أنّه ليس كذلك، فتعيّن أن يكون اسما وحرف المضارعة إمّا حرف أو اسم. وتحقيق ذلك من وظائف أهل العربية.
فائدة:
وجه التسمية بالأداة لأنّها آلة في تركيب الألفاظ، وأمّا بالكلمة فلأنّها من الكلم وهو الجرح لأنّها لمّا دلّت على الزمان وهو متجدّد منصرم فيكلم الخاطر بتغيّر معناها، وأمّا بالاسم فلأنّه أعلى مرتبة من سائر الألفاظ فيكون مشتملا على معنى السّموّ وهو العلوّ، وأمّا بالكلمة الوجودية فلأنّها ليس مفهومها إلّا ثبوت النسبة في زمان، هذا كلّه خلاصة ما في شرح المطالع وشرح الشمسية وحواشيهما. وأيضا ينقسم المفرد إلى مضمر وعلم مسمّى بالجزئي الحقيقي في عرف المنطقيين ومتواطئ ومشكّك ومنقول ومرتجل ومشترك ومجمل وكلّي وجزئي ومرادف ومباين. ومنها ما يقابل الجملة فيتناول المثنى والمجموع والمركّبات الــتقييديــة أيضا. قال في العضدي ويسمّي النحويون غير الجملة مفردا أيضا بالاشتراك بينه وبين غير المركّب، انتهى.
قال المولوي عبد الحكيم في حاشية شرح الشمسية: هذان المعنيان للمفرد حقيقيان. ومنها ما يقابل المثنى والمجموع أعني الواحد فالتقابل بينهما تقابل التضاد إذ المفرد وجودي مفسّر باللفظ الدّال على ما يتّصف بالوحدة وليس أمرا عدميا وإلّا لكان تعريف المثنى والمجموع بما ألحق بآخر مفرده إلى آخره دوريا، وما يقال من أنّ التقابل بينهما بالعرض كالتّقابل بين الواحد والكثير فليس بشيء، وكذا ما يقال من أنّ التقابل بينهما هو التضايف لأنّه لا يمكن تعقّل كلّ واحد منهما إلّا بالقياس إلى الآخر، هكذا ذكر المولوي عبد الحكيم وأحمد جند في حاشية شرح الشمسية. والمراد أنّ التقابل لكلّ واحد معتبر في هذا الاطلاق دون التقابل بالمجموع من حيث هو مجموع، ولا يلزم منه أن يكون للمفرد معنيان أحدها ما يقابل المثنى والثاني ما يقابل المجموع، فإنّ المفرد هاهنا بمعنى الواحد كما عرفت، كذا قيل. ومنها ما يقابل المضاف أعني ما ليس بمضاف، فالتقابل بينهما تقابل الإيجاب والسّلب وشموله بهذا المعنى للمركّب الــتقييدي والخبري والإنشائي لا يستلزم استعماله فيها، إذ لا يجب استعمال اللفظ في جميع أفراد معناه، إنّما اللازم جواز الإطلاق وهو غير مستبعد. كيف وقد قال الشيخ ابن الحاجب: والمضاف إليه كلّ اسم نسب إليه شيء بواسطة حرف الجر لفظا أو تقديرا، فأدخل مررت في قولنا مررت بزيد في المضاف، وجعل التقابل بينهما تقابل العدم والملكة باعتبار قيد عما من شأنه أن يكون مضافا مع مخالفته لظاهر العبارة لا يدفع الشمول المذكور على ما وهم لأنّ الإضافة من شأن المركّبات المذكورة باعتبار جنسه أعني اللفظ الموضوع، كذا ذكر المولوي عبد الحكيم في حاشية شرح الشمسية. وقال أيضا هذه المعاني الأربعة مستعملة بين أرباب العلوم والأوّلان منها حقيقيان والأخيران مجازيان انتهى. ومورد القسمة في المعنيين الاوّلين هو اللفظ الموضوع وفي الأخيرين هو الاسم إذ كلّ واحد منهما مع مقابله من خواصّ الاسم كذا ذكر أحمد جند في حاشية شرح الشمسية. أقول فعلى هذا لا يشتمل للمركّب الــتقييدي والخبري والإنشائي إذ المركّب ليس باسم بل اسمان أو اسم وفعل كما لا يخفى. ثم قال: وقيل المراد بما يقابل المضاف ما لا يكون مضافا ولا شبه مضاف انتهى. وفي بعض حواشي الكافية أنّ المفرد في باب النداء يستعمل في ما يقابل المضاف وشبهه انتهى. وكذا في باب لا التي لنفي الجنس كما يستفاد من الحاشية الهندية وغيرها من شروح الكافية. ومنها ما يقابل الجملة وشبهها والمضاف، ومشابه الجملة هو اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبّهة واسم التفضيل والمصدر وكلّ ما فيه معنى الفعل، وهذا المعنى هو المراد بالمفرد الواقع في قول النحاة التمييز قد يرفع الإبهام عن مفرد وقد يرفعه عن نسبة، هكذا يستفاد من الفوائد الضيائية والحاشية الهندية. وفي غاية التحقيق أنّ المفرد هاهنا بمعنى ما يقابل النسبة الواقعة في الجملة وشبهها أو المضاف انتهى، والمآل واحد. ومنها العلم الغير المشترك بين اثنين فصاعدا بأن يكون مختصا بالواحد اسما كان أو لقبا أو كنية كما صرّح في بعض الحواشي المعلّقة على شرح النخبة. وفي شرح النخبة أيضا إشارة إلى ذلك في فصل الأخير. ومنها عدد مرتبته واحدة كالثلاثة والعشرة والمائة والألف ونحوها ويقابله المركّب وهو عدد مرتبته اثنتان فصاعدا كخمسة عشر فإنّها الآحاد والعشرات وكمائة وخمسة وعشرين فإنّها ثلاث مراتب آحاد وعشرات ومئات كذا في ضابطة قواعد الحساب. وهذا المعنى من مصطلحات المحاسبين. ومنها ما يعبّر عنه باسم واحد ويقابله المركّب بمعنى ما يعبّر عنه باسمين كما في لفظ المركّب. ومنها قسم من الكسر مقابل للكسر المكرّر. ويطلق المفرد أيضا على قسم من الجسم الطبيعي وهو ما لا يتركّب من الأجسام ويقابله المؤلّف، وعلى قسم من الأعضاء مقابل للمركّب ويسمّى بسيطا أيضا، وعلى قسم من الأمراض مقابل للمركّب، وعلى قسم من الحركة، وعلى قسم من المجاز اللغوي، وعلى قسم من التشبيه ونحو ذلك.
فإطلاقه في الأكثر على سبيل التقييد يقال تشبيه مفرد ومجاز مفرد وجسم مفرد، فتطلب معانيه من باب الموصوفات.
المفرد: ما لا يدل جزؤه على جزء معناه.

مركب

المركب: هو ما أريد بجزء لفظه الدلالة على جزء معناه، وهي خمسة: مركب إسنادي، كقام زيد، ومركب إضافي، كغلام زيد، ومركب تعدادي، كخمسة عشر، ومركب مزجي، كبعلبك، ومركب صوتي، كسيبويه.

المركب التام: ما يصح السكوت عليه، أي لا يحتاج في الإفادة إلى لفظ آخر ينتظره السامع، مثل احتياج المحكوم عليه إلى المحكوم به، وبالعكس سواء، أفاد إفادة جديدة، كقولنا: السماء فوقنا.

المركب الغير التام: ما لا يصح السكوت عليه؛ والمركب الغير التام إما تقييدي، إن كان الثاني قيدًا للأول، كالحيوان الناطق، وإما غير تقييدي، كالمركب من اسم وأداة، نحو: في الدار، أو كلمة وأداة، نحو: قد قام، من: قد قام زيد.
"اعلم" أن المركب التام، المحتمل للصدق والكذب، يسمى من حيث اشتماله على الحكم: قضية، ومن حيث احتماله الصدق والكذب، جزءًا، ومن حيث إفادة الحكم: إخبارًا، ومن حيث إنه جزء من الدليل: مقدمة، ومن حيث يطلب من الدليل: مطلوبًا، ومن حيث يحصل من الدليل: نتيجة، ومن حيث يقع في العلم ويسأل عنه: مسألة، فالذات واحدة، فاختلاف العبارات باختلاف الاعتبارات.

الصّدق

الصّدق:
[في الانكليزية] Truth ،correctness
[ في الفرنسية] Verite ،justesse
بالكسر وسكون الدال هو ضدّ الكذب وقد سبق في لفظ الحق، وهو مشترك بين صدق المتكلّم وصدق الخبر، ولا يجري في المركّبات الغير الخبرية من الــتقييديــة والإنشائية. فصدق المتكلّم مطابقة خبره للواقع وكذبه عدمها.
وصدق الخبر مطابقة الخبر للواقع وكذبه عدمها والمشهور أنّ وصف الخبر بالمطابقة للواقع وصف له بحال متعلّقه، فإنّ المطابق للواقع أي النسبة الخارجية التي هي حالة بين الطرفين مع قطع النظر عن تعلّقهما الأمر الذهني المتعلق بالخبر، فمطابقة ذلك الأمر الذهني للواقع بأن يكونا ثبوتيين أو سلبيين صدق وعدمها كذب. والمحقق التفتازاني ذهب إلى أنّ المطابق له هو النسبة المعقولة التي هي جزء مدلول الخبر، أعني الوقوع واللاوقوع من حيث إنّها معقولة. فاثنينية المطابق والمطابق بالاعتبار حيث قال: بيان ذلك أنّ الكلام الذي دلّ على وقوع نسبة بين شيئين إمّا بالثبوت بأنّ هذا ذاك أو بالنفي بأنّ هذا ليس ذاك. فمع النظر عمّا في الذهن من النسبة لا بدّ أن يكون [بينهما نسبة ثبوتية أو سلبية لأنّه إمّا أن يكون] هذا ذاك، أو لم يكن، فمطابقة هذه النسبة الحاصلة في الذهن المفهوم من الكلام لتلك النسبة الواقعة الخارجية بأن تكونا ثبوتيتين أو سلبيتين صدق وعدمها كذب. وهذا معنى مطابقة الكلام للواقع والخارج وما في نفس الأمر. فإذا قلت أبيع وأردت به الإخبار الحالي فلا بدّ من وقوع بيع خارج حاصل بغير هذا اللفظ تقصد مطابقته لذلك الخارج، بخلاف بعت الإنشائي فإنّه لا خارج له تقصد مطابقته بل البيع يحصل في الحال بهذا اللفظ، وهذا اللفظ موجد له. ولا يقدح في ذلك أنّ النسبة من الأمور الاعتبارية دون الخارجية للفرق الظاهر بين قولنا القيام حاصل لزيد في الخارج وحصول القيام له أمر متحقّق موجود في الخارج فإنّا لو قطعنا النظر عن إدراك الذّهن وحكمه فالقيام حاصل له.
وهذا معنى وجود النسبة الخارجية انتهى.
وقال السيّد السند إنّ المطابق للواقع هو الإيجاب والسلب، ومطابقتهما للواقع أي الأمر الخارجي هو التوافق في الكيف بأن يكونا ثبوتيين أو سلبيين، ولكلّ وجهة هو مولّيها.
وهذا الذي ذكر من تفسير الصدق والكذب مذهب الجمهور. هذا كله خلاصة ما في الأطول.
والصدق والحقّ يتشاركان في المورد ويتفارقان بحسب الاعتبار، فإنّ المطابقة بين الشيئين تقتضي نسبة كل واحد منهما إلى الآخر بالمطابقة لأنّ المفاعلة تكون من الطرفين، فإذا طابقا فإن نسبنا الواقع إلى الاعتقاد كان الواقع مطابقا بالكسر والاعتقاد مطابقا بالفتح فتسمّى هذه المطابقة القائمة بالاعتقاد حقّا، وإن عكسنا النسبة كان الأمر بالعكس فتسمّى هذه المطابقة القائمة بالاعتبار صدقا. وإنما اعتبر هكذا لأنّ الحقّ والصدق حال القول والاعتقاد دون حال الواقع. والصدق في القول هو مجانبة الكذب. وفي الفعل الإتيان به وترك الانصراف عنه قبل تمامه. وفي النيّة العزم والجزم والإقامة عليه حتى يبلغ الفعل، هكذا في كليات أبي البقاء. وقال النّظّام ومن تابعه: صدق الخبر مطابقته لاعتقاد المخبر ولو خطاء أي ولو كان ذلك الاعتقاد غير مطابق للواقع، والكذب عدمها أي عدم مطابقته لاعتقاد المخبر ولو خطاء، وصدق المتكلّم مطابقة خبره للاعتقاد وكذبه عدمها. والمراد بالاعتقاد معناه الغير المشهور وهو التصديق الشامل للظّنّ والعلم وغيرهما، إذ لو حمل على المشهور وهو الجزم القابل للتشكيك لخرج مطابقة الخبر لعلم المخبر عن حدّ الصدق، ولدخل في حدّ الكذب. فقول القائل السماء تحتنا معتقدا ذلك صدق، وقولنا السماء فوقنا غير معتقد كذب. والخبر [المعلوم] المعتقد والمظنون صادق والموهوم والمشكوك كاذبان فإنّهما لا يطابقان اعتقاد المخبر لانتفائه. وليس لك أن تقول المراد عدم مطابقة الاعتقاد مع وجوده ولا اعتقاد له في المشكوك لأنّه ينافي ما هو مذهب النّظّام من انحصار الخبر في الصادق والكاذب، ولا أن تقول الخبر المشكوك ليس بخبر لأنّه لا تصديق له بل لمدلوله لأنّا نقول الدلالة على الحكم كاف في كون الكلام خبرا. فالخبر ما يدلّ على التصديق سواء تخلّف المدلول أو لا، ولولا ذلك لم يوجد خبر كاذب على هذا المذهب لأنّ الخبر الكاذب ما خالف مدلوله اعتقاد المخبر فلا اعتقاد للمخبر بخبره ولا تصديق به فلا يكون كاذبا، لأنّه مختصّ بالخبر. واحتج النّظّام بقوله تعالى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ كذّبهم في قولهم إنّك لرسول الله مع مطابقته للخارج لأنّه لم يطابق اعتقادهم.
والجواب أنّ المعنى لكاذبون في الشهادة.
وقال الجاحظ صدق الخبر مطابقته للواقع مع الاعتقاد بأنّه مطابق وكذبه عدم مطابقته للواقع مع اعتقاد أنّه غير مطابق، وغيرهما ليس بصدق ولا كذب وهو المطابقة مع اعتقاد اللامطابقة أو بدون الاعتقاد، وعدم المطابقة مع اعتقاد المطابقة أو بدون الاعتقاد. فكلّ من الصدق والكذب بتفسيره أخصّ منه بتفسير الجمهور والنّظّام لأنّه اعتبر في كلّ منهما جمع الأمرين الذين اكتفوا بواحد منهما. وصدق المتكلّم مطابقة خبره للواقع والاعتقاد وكذبه عدمها. واستدلّ الجاحظ بقوله تعالى أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ، فإنّ الكفّار حصروا أخبار النبي عليه السلام بالحشر والنّشر في الافتراء والأخبار حال الجنّة على سبيل منع الخلو؛ ولا شكّ أنّ المراد بالثاني غير الكذب لأنّه قسيمه، وغير الصدق لأنّهم اعتقدوا عدمه. وردّ بأنّ المعنى أم لم يفتر فعبّر عنه أي عن عدم الافتراء بالجنّة لأنّ المجنون يلزمه أن لا افتراء له لأنّ الكذب عن عمد ولا عمد للمجنون، فيكون هذا حصرا للخبر الكاذب في نوعيه أعني الكذب عن عمد والكذب لا عن عمد.
فائدة:
اعلم أنّ المشهور فيما بين القوم أنّ احتمال الصدق والكذب من خواص الخبر لا يجري في غيره من المركبات المشتملة على نسبة. وذكر بعضهم أنّه لا فرق بين النسبة في المركّب الأخباري وغيره إلّا بأنّه إن عبّر عنها بكلام تام يسمّى خبرا وتصديقا كقولنا: زيد انسان أو فرس، وإلّا يسمّى مركّبا تقييديــا وتصوّرا كما في قولنا يا زيد الإنسان أو الفرس. وأيا ما كان فالمركّب إمّا مطابق فيكون صادقا أو غير مطابق فيكون كاذبا. فيا زيد الإنسان صادق ويا زيد الفرس كاذب ويا زيد الفاضل محتمل. وردّه المحقّق التفتازاني بما حاصله أنّه إن أراد هذا البعض أنّه لا فرق بينهما أصلا فليس بصحيح لوجوب علم المخاطب بالنسبة في المركّب الــتقييدي دون الأخباري، حتى قالوا إنّ الأوصاف قبل العلم بها أخبار كما أنّ الأخبار بعد العلم بها أوصاف. وإن أراد أنّه لا فرق بينهما بحسب احتمال الصدق والكذب فكذلك لما ذكره الشيخ من أنّ الصدق والكذب إنّما يتوجهان إلى ما قصده المتكلّم إثباته أو نفيه، والنسبة [الوصفية] ليست كذلك. ولو سلّم فإطلاق الصدق والكذب على المحرك الغير التام مخالف لما هو المعتمد في تفسير الألفاظ، أعني اللغة والعرف. وإن أراد تجديد اصطلاح فلا مشاحة فيه. قال السيّد السّند: والحقّ أن يقال إنّ النّسب الذهنية في المركّبات الخبرية تشعر من حيث هي هي بوقوع نسب أخرى خارجة عنها، فلذلك احتملت عند العقل مطابقتها ولا مطابقتها وأمّا النّسب في المركّبات الــتقييديــة فلا إشعار لها من حيث هي هي بوقوع نسب أخرى تطابقها أو لا تطابقها، بل ربما أشعرت بذلك من حيث إنّ فيها إشارة إلى نسب خبرية. بيان ذلك أنّك إذا قلت زيد فاضل فقد اعتبرت بينهما نسبة ذهنية على وجه تشعر بذاتها بوقوع نسبة أخرى خارجة عنها وهي أنّ الفضل ثابت له في نفس الأمر، لكن تلك النسبة الذهنية لا تستلزم هذه الخارجية استلزاما عقليا. فإن كانت النسبة الخارجية المشعر بها واقعة كانت الأولى صادقة وإلّا كاذبة. وإذا لاحظ العقل تلك النّسبة الذهنية من حيث هي هي جوّز معها كلا الأمرين على السّواء، وهو معنى الاحتمال. وأمّا إذا قلت يا زيد الفاضل فقد اعتبرت بينهما نسبة ذهنية على وجه لا تشعر من حيث هي أنّ الفضل ثابت له في الواقع بل من حيث إنّ فيها إشارة إلى معنى قولك زيد فاضل، إذ المتبادر إلى الأفهام أن لا يوصف شيء إلّا بما هو ثابت له. فالنّسبة الخبرية تشعر من حيث هي بما يوصف باعتباره بالمطابقة واللامطابقة أي الصدق والكذب، فهي من حيث هي محتملة لهما. وأمّا الــتقييديــة فإنّها تشير إلى نسبة خبرية والإنشائية تستلزم نسبا خبرية، فهما بذلك الاعتبار تحتملان الصدق والكذب. وأمّا بحسب مفهوميهما فلا. وقال صاحب الأطول التحقيق الذي يعطيه الفكر العميق والذّكاء الدقيق أنّ النسبة التي لها خارج هي التي تكون حاكية عن نسبة. فمعنى ثبوت الخارج [لها] ليس إلّا كونه محكيّا، ونسب الإنشاءات ليست حاكية بل محضرة لتطلّب وجودها أو عدمها أو معرفتها أو يتحسّر على فوتها إلى غير ذلك، وكذا نسب الــتقييديــات ليست حاكية بل محضرة لتتعين به ذات. ومعنى مطابقتها للخارج أن يكون حكايتها على ما هو عليه فلا خارج للإنشاء هذا.
والصدق عند أهل الميزان يستعمل أيضا لمعنيين آخرين، فإنّه قد يستعمل في المفردات وما في حكمها من المركّبات الــتقييديــة، ومعناه حينئذ الحمل، ويستعمل بعلى فيقال الكاتب صادق على الإنسان أي محمول عليه. وقد يستعمل في القضايا ومعناه حينئذ الوجود والتحقّق في الواقع، ويستعمل بفي فيقال هذه القضية صادقة في نفس الأمر أي متحقّقة فيها، حتى إذا قيل كلّما صدق كل ج ب بالضرورة صدق كل ج ب دائما كان معناه كلّما تحقّق في نفس الأمر مضمون القضية الأولى تحقّق فيها مضمون الثانية. والفرق بين الصدق بهذا المعنى وبين الصدق بمعنى مطابقة حكم القضية للواقع كما هو مآل المعنى الأول يظهر في القضية التي تتحقّق نسبتها في الاستقبال، فإنّ هذه القضية صادقة في الحال بمعنى مطابقة حكمها وليست بصادقة بمعنى عدم تحقّق نسبتها، إذ لم تتحقّق النسبة بعد، بل سوف تتحقّق. هكذا يستفاد ممّا حقّقه السيّد السّند في حواشي شرح المطالع.
وعند أهل السلوك هو استواء السّرّ والعلانية وذلك بالاستقامة مع الله تعالى ظاهرا وباطنا سرّا وعلانية، وتلك الاستقامة بأن لا يخطر بباله إلّا الله. فمن اتّصف بهذا الوصف أي استوى عنده الجهر والسّر وترك ملاحظة الخلق بدوام مشاهدة الحقّ يسمّى صديقا، كذا في مجمع السلوك. وقيل الصدق قول الحقّ في مواطن الهلاك. وقيل أن تصدق في موضع لا ينجّيك منه إلّا الكذب. قال القشيري: الصدق أن لا يكون في أحوالك شيب ولا في اعتقادك ريب ولا في أعمالك عيب، كذا في الجرجاني.

الحكم

(الحكم) الْعلم والتفقه وَالْحكمَة يُقَال الصمت حكم وَالْقَضَاء

(الحكم) من أَسمَاء الله تَعَالَى وَالْحَاكِم وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيز {أفغير الله أَبْتَغِي حكما} وَمن يخْتَار للفصل بَين المتنازعين وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيز {وَإِن خِفْتُمْ شقَاق بَينهمَا فَابْعَثُوا حكما من أَهله وَحكما من أَهلهَا} وَيُقَال رجل حكم مسن وهم حِكْمَة
الحكم: بِضَم الْحَاء وَسُكُون الْكَاف أثر الشَّيْء الْمُتَرَتب عَلَيْهِ. وَفِي الْعرف إِسْنَاد أَمر إِلَى أَمر آخر إِيجَابا أَو سلبا. فَخرج بِهَذَا مَا لَيْسَ بِحكم كالنسبة الــتقييديــة. وَفِي اللُّغَة تَوْجِيه الْكَلَام نَحْو الْغَيْر للإفهام ثمَّ نقل إِلَى مَا يَقع بِهِ الْخطاب. وَلِهَذَا قَالُوا إِن مُرَاد الْأُصُولِيِّينَ بخطاب الله تَعَالَى هُوَ الْكَلَام اللدني.

وَالْحكم المصطلح عِنْد الْأُصُولِيِّينَ: هُوَ أثر حكم الله الْقَدِيم فَإِن إِيجَاب الله تَعَالَى قديم وَالْوُجُوب حكمه وأثره. وَالتَّفْصِيل فِي كتب الْأُصُول وَفِي التَّلْوِيح أَن إِطْلَاق الحكم على خطاب الشَّارِع وعَلى أَثَره وعَلى الْأَثر الْمُتَرَتب على الْعُقُود والفسوخ بالاشتراك اللَّفْظِيّ. ومرادهم بالمحكوم عَلَيْهِ من وَقع الْخطاب لَهُ وبالمحكوم بِهِ مَا تعلق بِهِ الْخطاب كَمَا يُقَال حكم الْأَمِير على زيد بِكَذَا.
وَيعلم من التَّوْضِيح فِي بَاب الحكم أَن مورد الْقِسْمَة الحكم بِمَعْنى الْإِسْنَاد أَي إِسْنَاد الشَّارِع أمرا إِلَى أَمر فِيمَا لَهُ تعلق بِفعل الْمُكَلف من حَيْثُ هُوَ مُكَلّف صَرِيحًا كالنص أَو دلَالَة كالإجماع وَالْقِيَاس. فَفِي جعل الْوُجُوب وَالْملك وَنَحْو ذَلِك أقساما للْحكم بِهَذَا الْمَعْنى تسَامح ظَاهر.

وَفِي اصْطِلَاح الْمَعْقُول: يُطلق على أَرْبَعَة معَان: الأول: الْمَحْكُوم بِهِ. وَالثَّانِي: النِّسْبَة الإيجابية أَو السلبية. وَالثَّالِث: التَّصْدِيق أَي إذعان أَن النِّسْبَة وَاقعَة أَو لَيست بواقعة. وَالرَّابِع: الْقَضِيَّة من حَيْثُ إِنَّهَا مُشْتَمِلَة على الرابط بَين الْمَعْنيين. وَتَحْقِيق أَن الحكم فِي الْقَضِيَّة الشّرطِيَّة إِمَّا فِي الْجَزَاء أَو بَين الشَّرْط وَالْجَزَاء فِي الْقَضِيَّة الشّرطِيَّة بِمَا لَا مزِيد عَلَيْهِ فَإِن أردْت الِاطِّلَاع عَلَيْهِ فَارْجِع إِلَيْهَا.
وَاعْلَم أَن الحكم بِمَعْنى التَّصْدِيق هُوَ الإذعان كَمَا مر. ثمَّ مُتَعَلق الإذعان عِنْد الْمُتَقَدِّمين من الْحُكَمَاء هُوَ النِّسْبَة الَّتِي هِيَ جُزْء أخير من الْقَضِيَّة الَّتِي هِيَ من قبيل الْمَعْلُوم عِنْدهم - وَعند الْمُتَأَخِّرين مِنْهُم مُتَعَلق الإذعان هُوَ وُقُوع النِّسْبَة أَو لَا وُقُوعهَا الَّذِي هُوَ جُزْء أخير من الْقَضِيَّة فللقضية عِنْد الْمُتَقَدِّمين ثَلَاثَة أَجزَاء. وَعند الْمُتَأَخِّرين أَرْبَعَة كَمَا سَيَجِيءُ مفصلا فِي النِّسْبَة الْحكمِيَّة إِن شَاءَ الله تَعَالَى - وَالْحكم هُوَ إِدْرَاك أَن النِّسْبَة وَاقعَة أَو لَيست بواقعة. والإدراك إِمَّا من مقولة الانفعال أَو الكيف فَالْحكم كَذَلِك وَانْظُر فِي الْإِدْرَاك حَتَّى يزِيد لَك الْإِدْرَاك.
وَاعْلَم أَن الإِمَام الرَّازِيّ مُتَرَدّد فِي كَون الحكم إدراكا أَو فعلا وَلم يذهب إِلَى تركيب التَّصْدِيق مَعَ فعلية الحكم كَمَا هُوَ الْمَشْهُور. نعم أَنه ذهب إِلَى تركيب التَّصْدِيق وَلِهَذَا قَالَ أفضل الْمُتَأَخِّرين مَوْلَانَا عبد الْحَكِيم رَحمَه الله فِي حَوَاشِيه على حَوَاشِي السَّيِّد السَّنَد الشريف الشريف قدس سره على شرح الشمسية قَوْله إِذا أردْت تقسيمه على مَذْهَب الإِمَام أَي على القَوْل بالتركيب فَلَا يرد أَن الإِمَام لَا يَقُول بِكَوْن الحكم إدراكا مَعَ أَنه قد نقل الْبَعْض أَن الإِمَام مُتَرَدّد فِي كَون الحكم إدراكا أَو فعلا. وَفِي حصر التَّقْسِيم على هذَيْن الْوَجْهَيْنِ إِشَارَة إِلَى بطلَان القَوْل بتركيب التَّصْدِيق مَعَ فعلية الحكم كَمَا هُوَ الْمَشْهُور من الإِمَام انْتهى.

فَالْحكم: الَّذِي هُوَ جُزْء التَّصْدِيق عِنْد الإِمَام هُوَ الْإِدْرَاك الْمَذْكُور لَا غير. وَيُؤَيِّدهُ أَن الحكم حكمان حكم هُوَ مَعْلُوم بِمَعْنى وُقُوع النِّسْبَة أَو لَا وُقُوعهَا وَهُوَ جُزْء أخير للقضية المعقولة وَحكم هُوَ علم بِمَعْنى إِدْرَاكه وَهُوَ تَصْدِيق عِنْد الْحُكَمَاء وَشَرطه فِي مَذْهَب مستحدث وَشطر أخير وتصور عِنْد الإِمَام لكنه إذعاني فيكتسب من الْحجَّة نظرا إِلَى الْجُزْء الْأَعْظَم من المبادئ فَلَا يُنَافِيهِ اكتسابه من الْمُعَرّف نظرا إِلَى جُزْء إذعاني فَافْهَم واحفظ فَإِنَّهُ من الْجَوَاهِر المكنونة. وَعند الأصولين الحكم خطاب الله تَعَالَى الْمُتَعَلّق بِأَفْعَال الْمُكَلّفين باقتضاء الْفِعْل أَو التّرْك أَو بالتخير فِي الْفِعْل وَالتّرْك. والاقتضاء الطّلب وَهُوَ إِمَّا طلب الْفِعْل جَازِمًا كالإيجاب. أَو غير جازم كالندب. أَو طلب التّرْك جَازِمًا كالتحريم. أَو غير جازم كالكراهة التحريمية -. وَالْمرَاد بالتخيير الْإِبَاحَة - وَفِي التَّوْضِيح وَقد زَاد الْبَعْض أَو الْوَضع ليدْخل الحكم بالسببية والشرطية وَنَحْوهمَا.

اعْلَم أَن الْخطاب نَوْعَانِ: إِمَّا تكليفي وَهُوَ الْمُتَعَلّق بِأَفْعَال المتكلفين بالاقتضاء أَو التَّخْيِير وَإِمَّا وضعي وَهُوَ الْخطاب بِالْوَضْعِ بِأَن يكون هَذَا سَبَب ذَلِك أَو شطر ذَلِك كالدلوك سَبَب لصَلَاة الظّهْر وَالطَّهَارَة شَرط لَهَا - فَلَمَّا ذكر أحد النَّوْعَيْنِ وَهُوَ التكليفي وَجب ذكر النَّوْع الآخر وَهُوَ الوضعي وَالْبَعْض لم يذكر الوضعي لِأَنَّهُ دَاخل فِي الِاقْتِضَاء أَو التَّخْيِير لِأَن الْمَعْنى من كَون الدلوك سَببا للصَّلَاة أَنه إِذا وجد الدلوك وَجَبت الصَّلَاة حِينَئِذٍ وَالْوُجُوب من بَاب الِاقْتِضَاء لَكِن الْحق هُوَ الأول لِأَن الْمَفْهُوم من الحكم الوضعي تعلق شَيْء بِشَيْء آخر وَالْمَفْهُوم من الحكم التكليفي لَيْسَ هَذَا وَلُزُوم أَحدهمَا للْآخر فِي صُورَة لَا يدل على اتحادهما انْتهى.
الحكم:
[في الانكليزية] Verdict ،judgement ،gouvernment ،power
[ في الفرنسية] Verdict ،jugement ،gouvernement ،pouvoir
بالضم وسكون الكاف يطلق بالاشتراك أو الحقيقة والمجاز على معان. منها إسناد أمر إلى آخر إيجابا أو سلبا. وهذا المعنى عرفي، وحاصله أنّ الحكم نفس النسبة الخبرية التي إدراكها تصديق إيجابية كانت أو سلبية، وقد يعبّر عن هذا المعنى بوقوع النسبة ولا وقوعها، وقد يعبّر عنه بقولنا إنّ النسبة واقعة أو ليست بواقعة، وهذا المعنى من المعلومات فليس بتصوّر ولا تصديق لأنهما نوعان مندرجان تحت العلم. فالإسناد بمعنى مطلق النسبة والإيجاب الوقوع. والسلب اللاوقوع. واحترز بهما عمّا سوى النسبة الخبرية. وتوضيحه أنّه قد حقّق أنّ الواقع بين زيد والقائم هو الوقوع نفسه أو اللاوقوع كذلك، وليس هناك نسبة أخرى مورد الإيجاب والسلب، وأنّه قد يتصوّر هذه النسبة في نفسها من غير اعتبار حصولها أو لا حصولها في نفس الأمر، بل باعتبار أنّها تعلّق بين الطرفين تعلّق الثبوت أو الانتفاء، وتسمّى نسبة حكمية، ومورد الإيجاب والسلب ونسبة ثبوتية أيضا نسبة العام إلى الخاص أعني الثبوت لأنّه المتصوّر أولا، وقد تسمّى سلبية أيضا إذا اعتبر انتفاء الثبوت. وقد يتصوّر باعتبار حصولها أو لا حصولها في نفس الأمر، فإن تردّد فهو الشك وإن أذعن بحصولها أو لا حصولها فهو التصديق. فالنسبة الثبوتية تتعلّق بها علوم ثلاثة اثنان تصوّريان أحدهما لا يحتمل النقيض وهو تصوّرها في نفسها من غير اعتبار حصولها ولا حصولها. وثانيهما يحتمله. والثالث تصديقي فقد ظهر أنّ المعنى المذكور للحكم ليس أمرا مغايرا للوقوع واللاوقوع. وأنّ معنى قولنا نسبة أمر بأمر وإسناد أمر إلى أمر تعلّق أمر بأمر وقوعا كان أو لا وقوعا إن كان الإيجاب والسلب بمعنى الوقوع واللاوقوع، وإن أريد بالإيجاب والسّلب إدراك أنّ النسبة واقعة أو ليست بواقعة. فمعناه تعلّق أمر بأمر سواء كان موردا للإيجاب أو موردا للسلب، فإنّ الإيجاب والسّلب يطلق على كلا هذين المعنيين، كما صرّح بذلك المحقق التفتازاني في حاشية العضدي. وأنّ معنى قولنا إدراك أنّ النسبة واقعة أو ليست بواقعة ادراك أنّ النسبة الثبوتية واقعة في نفس الأمر أو ليست بواقعة فيها. ثم هذا التقرير على مذهب من يقول إنّ الحكم ليس من مقولة الفعل. وأما من يقول بأنّ الحكم من مقولة الفعل كالإمام الرازي والمتأخرين من المنطقيين فالمناسب عندهم في تفسير الحكم بإسناد أمر إلى آخر إيجابا أو سلبا أن يقال إنّ الإسناد لغة بمعنى تكيه دادن چيزي به چيزى،- إضافة شيء إلى شيء- وفي العرف ضم أمر إلى آخر، بحيث يفيد فائدة تامّة. وقد يطلق بمعنى مطلق النسبة. فعلى الأول قولنا إيجابا أو سلبا بيان لنوعه، وعلى الثاني يفيد لإخراج ما سوى النسبة الخبرية، والإيجاب لازم كردن والسلب ربودن كما في الصراح. وبالجملة فالمناسب على هذا أن يفسّر الإسناد والإيجاب والسلب بمعان منبئة عن كون الحكم فعلا. ولا يراد بالضم وبالنسبة التعلّق بين الطرفين وبالإيجاب والسلب الوقوع [فعلا] واللاوقوع، إذ لو أريد ذلك لم يبق الحكم فعلا، وعلى هذا القياس قولنا الحكم هو الإيجاب والسّلب أو الإيقاع والانتزاع أو النفي والإثبات فإنها مفسّرة بالمعاني اللغوية المنبئة عن كون الحكم فعلا.
فالحكم على هذا إمّا جزء من التصديق كما ذهب إليه الإمام أو شرط له كما هو مذهب المتأخرين من المنطقيين، ويجيء في لفظ التصديق زيادة تحقيق لهذا.
ومنها نفس النسبة الحكمية على ما صرّح به الچلپي في حاشية الخيالي بعد التصريح بالمعنى الأول. وهذا المعنى إنّما يكون مغايرا للأول عند المتأخرين الذاهبين إلى أنّ أجزاء القضية أربعة: المحكوم عليه وبه ونسبة تقييديــة مسمّاة بالنسبة الحكمية ووقوع تلك النسبة أولا وقوعها الذي إدراكه هو المسمّى بالتصديق.
وأما عند المتقدمين الذاهبين إلى أنّ أجزاء القضية ثلاثة: المحكوم عليه وبه والنسبة التامة الخبرية التي إدراكها تصديق فلا يكون مغايرا للمعنى الأول، لما عرفت من أنّ النسبة الحكمية ليست أمرا مغايرا للنسبة الخبرية.
ومنها إدراك تلك النسبة الحكمية
ومنها إدراك وقوع النسبة أولا وقوعها المسمّى بالتصديق، وهذا مصطلح المنطقيين والحكماء وقد صرّح بكلا هذين المعنيين الچلپي أيضا في حاشية الخيالي. والتغاير بين هذين المعنيين أيضا إنما يتصوّر على مذهب المتأخرين. قالوا الفرق بين إدراك النسبة الحكمية وإدراك وقوعها أولا وقوعها المسمّى بالحكم هو أنّه ربّما يحصل إدراك النسبة الحكمية بدون الحكم، فإنّ المتشكّك في النسبة الحكمية متردّد بين وقوعها ولا وقوعها، فقد حصل له إدراك النسبة قطعا ولم يحصل له إدراك الوقوع واللاوقوع المسمّى بالحكم فهما متغايران قطعا. وأجيب بأنّ التردّد لا يتقوم حقيقة ما لم يتعلّق بالوقوع أو اللاوقوع فالمدرك في الصورتين واحد والتفاوت في الإدراك بأنّه إذعاني أو تردّدي. وبالجملة فيتعلّق بهذا المدرك علمان علم تصوّري من حيث إنّه نسبة بينهما وعلم تصديقي باعتبار مطابقته للنسبة التي بينهما في نفس الأمر، وعدم مطابقته إياها على ما مرّت الإشارة إليه في المعنى الأول. وأما على مذهب القدماء فلا فرق بين العبارتين إلّا بالتعبير. فمعنى قولنا إدراك النسبة وإدراك الوقوع واللاوقوع على مذهبهم واحد إذ ليس نسبة سوى الوقوع واللاوقوع، وهي النسبة التامة الخبرية. وأمّا النسبة الــتقييديــة الحكمية المغايرة لها فممّا لا ثبوت له كما عرفت. فعلى هذا إضافة الوقوع واللاوقوع إلى النسبة بيانية. لكنّ هذا الإدراك نوعان: إذعاني وهو المسمّى عندهم بالحكم المرادف للتصديق وغير إذعاني وتسميته بالحكم عندهم محتمل غير معلوم، ويؤيد هذا ما ذكر السيّد السّند والمولوي عبد الحكيم في حواشي شرح الشمسية. وحاصله أنّ معنى قولنا إدراك وقوع النسبة أولا وقوعها ليس أن يدرك معنى الوقوع أو اللاوقوع مضافا إلى النسبة، فإنّ إدراكهما بهذا المعنى ليس حكما بل هو إدراك مركّب تقييدي من قبيل الإضافة، بل معناه أن يدرك أنّ النسبة واقعة ويسمّى هذا الإدراك حكما إيجابيا، أو أن يدرك أنّ النسبة ليست بواقعة ويسمّى هذا الإدراك حكما سلبيا، أعني معناه أن يدرك أنّ النسبة المدركة بين الطرفين أي المحكوم عليه والمحكوم به واقعة بينهما في حدّ ذاتها مع قطع النظر عن إدراكنا إيّاها أو ليست بواقعة كذلك، وهو الإذعان بمطابقة النسبة الذهنية لما في نفس الأمر أو في الخارج، أعني للنسبة مع قطع النظر عن إدراك المدرك بل من حيث إنها مستفادة من البداهة أو الحسّ أو النظر. فمآل قولنا إنّ النسبة واقعة أو ليست بواقعة.
وقولنا إنّها مطابقة واحدة والمراد به الحالة الإجمالية التي يقال لها الإذعان والتسليم المعبّر عنه بالفارسية بگرويدن لا إدراك هذه القضية، فإنّه تصوّر تعلّق بما يتعلّق به التصديق يوجد في صورة التخييل والوهم ضرورة أنّ المدرك في جانب الوهم هو الوقوع واللاوقوع، إلّا أنّها ليست على وجه الإذعان والتسليم فظهر فساد ما توهّمه البعض من أنّ الشكّ والوهم من أنواع التصديق، ولا التفصيل المستفاد من ظاهر اللفظ لأنّه خلاف الوجدان، ولاستلزامه ترتّب تصديقات غير متناهية. فقد ظهر أنّ الحكم إدراك متعلّق بالنسبة التامة الخبرية فإنّها لمّا كانت مشعرة بنسبة خارجية كان إدراكها على وجهين من حيث إنّها متعلّقة بالطرفين رابطة بينهما كما في صورة الشكّ مثلا. ومن حيث إنّها كذلك في نفس الأمر كما في صورة الإذعان. وهذا هو الحكم والتصديق.
وإنما قيل كون الحكم بمعنى إدراك وقوع النسبة أولا وقوعها يشعر بأنّ المراد بالنسبة النسبة الحكمية لا النسبة التامة الخبرية لأنّ الحكم على تقدير كونها تامة هو إدراك نفسها ليس بشيء عند التحقيق، وإنّ أجزاء القضية ثلاثة المحكوم عليه وبه والنسبة التامة الخبرية وهي نسبة واحدة هي اتحاد المحمول بالموضوع، أو عدم اتحاده به، وهو الحقّ عند المحققين، لا كما ذهب إليه المتأخرون من أنّ أجزاءها أربعة: المحكوم عليه وبه والنسبة الحكمية ووقوعها أولا وقوعها وأنّ الاختلاف بين التصوّر والتصديق بحسب الذات والمتعلّق، فإنّ التصوّر لا يتعلّق عندهم به التصديق، فالتصديق عندهم إدراك متعلّق بوقوع النسبة أولا وقوعها والتصوّر إدراك متعلّق بغير ذلك. والحق عند المحققين أنّ التصوّر يتعلّق بما يتعلّق به التصديق أيضا، فلا امتياز بين التصور والتصديق إلّا بحسب الذات واللوازم كاحتمال الصدق والكذب دون المتعلق.
واعلم أنّه ذكر السّيد الشريف أنّه يجوز أن يفسّر الحكم بالتصديق فقط وأن يفسّر بالتصديق والتكذيب، وهذا بناء على أنّ إذعان أنّ النسبة ليست بواقعة إذعان بأنّ النسبة السلبية واقعة.
فعلى هذا يجوز أن يعرف الحكم بإدراك الوقوع فقط وأن يعرف بإدراك الوقوع واللاوقوع معا.
التقسيم
الحكم سواء أخذ بمعنى التصديق أو بمعنى النسبة الخبرية ينقسم إلى شرعي وغير شرعي. فالشرعي ما يؤخذ من الشرع بشرط أن لا يخالف القطعيات بالنسبة إلى فهم الآخذ سواء كان مما يتوقف على الشرع بأن لا يدرك لولا خطاب الشارع كوجوب الصلاة، أو لم يكن كوجوده تعالى وتوحيده، وهو ينقسم إلى ما لا يتعلّق بكيفية عمل ويسمّى أصليا واعتقاديا وإلى ما يتعلّق بها ويسمّى عمليا وفرعيا، وغير الشرعي ما لا يؤخذ من الشرع كالأحكام العقلية المأخوذة من مجرّد العقل، والاصطلاحية المأخوذة من الاصطلاح. وأكثر ما ذكرنا هو خلاصة ما ذكره المولوي عبد الحكيم في حاشية الخيالي في الخطبة وحاشية شرح الشمسية.
ومنها المحكوم عليه.
ومنها المحكوم به. قال الچلپي في حاشية المطول في بحث التأكيد: إطلاق الحكم على المحكوم به متعارف عند النحاة كإطلاقه على المحكوم عليه انتهى. وهكذا ذكر السيّد الشريف في حاشية المطول.
ومنها نفس القضية على ما ذكر الچلپي أيضا في حاشية الخيالي، وهذا كما يطلق التصديق على القضية.
ومنها القضاء كما يجيء في لفظ الديانة.

وما ذكره الغزالي حيث قال: الحكم والقضاء والقدر: هو توجّه الأسباب لجانب المسبّبات هو الحكم المطلق. وهو سبحانه وتعالى مسبب لجميع الأسباب المجمل منه والمفصّل، وعن الحكم يتفرع القضاء والقدر. فإذن: التدبير الإلهي هو أصل لوضع الأسباب لكي تتوجه نحو مسبّبات وهو الحكم الإلهي. وقيام الأسباب الكلية وظهورها مثل الأرض والسّماء والكواكب والحركات المتناسبة لها وغير ذلك مما لا يتغيّر ولا يتبدّل حتى يحين وقتها فذلك هو القضاء. ثم توجّه الأسباب هذه للأحوال والحركات المتناسبة والمحدودة والمقدّرة لجانب الأسباب، وحددت ذلك لحظة بلحظة فهو القدر.

إذن فالحكم: هو التدبير الأزلي كله وأمره كلمح البصر. والقضاء: وضع كلّ الأسباب الكلية الدائمة.

والقدر: هو توجيه هذه الأسباب الكلية لمسبباتها المعدودة بعدد معين فلا تزيد ولا تنقص. وكذا ذكر المولوي عبد الحق المحدّث في ترجمة المشكاة في باب الإيمان بالقدر.
ومنها خطاب الله تعالى المتعلّق بأفعال المكلّفين. هكذا نقل عن الأشعري. وهذا المعنى مصطلحات الأصوليين.
والخطاب في اللغة توجيه الكلام نحو الغير ثم نقل إلى الكلام الذي يقع به التخاطب، وبإضافته إلى الله تعالى خرج خطاب من سواه إذ لا حكم إلّا حكمه ووجوب طاعة النبي عليه السلام وأولي الأمر والسيّد إنّما هو بإيجاب الله تعالى إياها. والمراد بالخطاب هاهنا ليس المعنى اللغوي، اللهم إلّا أن يراد بالحكم المعنى المصدري، بل المراد به المعنى المنقول من الكلام المذكور لكن لا مطلقا بل الكلام النفسي، لأنّ اللفظي ليس بحكم بل دال عليه سواء أريد بالكلام الذي يقع به التخاطب الكلام الذي من شأنه التخاطب فيكون الكلام خطابا به أزليا كما هو رأي الأشعري من قدم الحكم والخطاب بناء على أزلية تعلّقات الكلام وتنوعه في الأزل أمرا أو نهيا أو غيرهما، أو أريد به معناه الظاهر المتبادر أي الكلام الذي يقع به التخاطب بالفعل، وهو الكلام الذي قصد منه إفهام من هو متهيئ لفهمه كما ذهب إليه ابن القطّان من أنّ الحكم والخطاب حادثان بناء على حدوث تعلّقات الكلام وعدم تنوّعه في الأزل، وهذا معنى ما قال إنّ الحكم والخطاب حادثان بل جميع أقسام الكلام مع قدمه فهو لا يسمّى الكلام في الأزل خطابا. ومعنى تعلقه بأفعال المكلّفين تعلّقه بفعل من أفعالهم لا بجميع أفعالهم على ما يوهم إضافة الجمع من الاستغراق، وإلّا لم يوجد حكم أصلا إذ لا خطاب يتعلّق بجميع الأفعال فيشمل خواص النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضا كإباحة ما فوق الأربع من النساء.
لا يقال إذا كان المراد بالخطاب الكلام النفسي ولا شكّ أنّه صفة واحدة فيتحقّق خطاب واحد متعلّق بجميع الأفعال لأنّا نقول الكلام وإن كانت صفة واحدة لكن ليس خطابا إلّا باعتبار تعلّقه، وهو متعدّد بحسب المتعلّقات، فلا يكون خطاب واحد متعلقا بالجميع، وخرج بقوله المتعلّق بأفعال المكلّفين الخطابات المتعلّقة بأحوال ذاته وصفاته وتنزيهاته وغير ذلك ممّا ليس بفعل المكلّف كالقصص. واعترض على الحدّ بأنه غير مانع إذ يدخل فيه القصص المبينة لأفعال المكلّفين وأحوالهم والأخبار المتعلّقة بأعمالهم كقوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ مع أنّها ليست أحكاما.
وأجيب بأنّ الحيثية معتبرة في الحدود، فالمعنى الحكم خطاب الله متعلّق بفعل المكلّفين من حيث هو فعل المكلّف وليس تعلّق الخطاب بالأفعال في صور النقض من حيث إنّها أفعال المكلّفين هذا لكن اعتبار حيثية التكليف فيما يتعلّق به خطاب الإباحة بل الندب والكراهة موضع تأمّل. ولذا أراد البعض في الحدّ قولنا بالاقتضاء أو التخيير للاحتراز عن الأمور المذكورة وكلمة أو لتقسيم المحدود دون الحدّ.
ومعنى الاقتضاء الطلب. وهو إمّا طلب الفعل مع المنع عن الترك وهو الإيجاب، أو طلب الترك مع المنع عن الفعل وهو التحريم، أو طلب الفعل بدون المنع عن الترك وهو الندب، أو طلب الترك بدون المنع عن الفعل وهو الكراهة. ومعنى التخيير عدم طلب الفعل والترك وهو الإباحة.
إن قيل إذا كان الخطاب متعلّقا بأفعال المكلّفين في الأزل كما هو رأي الأشعري يلزم طلب الفعل والترك من المعدوم وهو سفه. قلت السفه إنّما هو طلب الفعل أو الترك عن المعدوم حال عدمه. وأمّا طلبه منه على تقدير وجوده فلا، كما إذا قدّر الرجل ابنا فأمره بطلب العلم حين الوجود لكن بقي أنّه يلزم خروج الخطاب الوضعي من الحدّ، مع أنّه حكم فإنّ الخطاب نوعان: تكليفي وهو المتعلّق بأفعال المكلفين بالاقتضاء، والتخيير، ووضعي وهو الخطاب باختصاص شيء بشيء وذلك على ثلاثة أقسام:
سببي كالخطاب بأنّ هذا سبب لذلك كالدلوك للصلاة، وشرطي كالخطاب بأنّ هذا شرط لذلك كالطهارة للصلاة، ومانعي أي هذا مانع لذلك كالنجاسة للصلاة. فأجاب البعض عنه بأنّ خطاب الوضع ليس بحكم، وإن جعلها غيرنا حكما إذ لا مشاحة في الاصطلاح ولو سلّم أنّه حكم فلا نسلّم خروجه عن الحدّ إذ المراد من الاقتضاء والتخيير أعمّ من التصريحي والضمني، والخطاب الوضعي من قبيل الضمني إذ معنى سببية الدلوك وجوب الصلاة عند الدلوك.
ومعنى شرطية الطهارة وجوبها في الصلاة أو حرمة الصلاة بدونها. ومعنى مانعية النجاسة حرمة الصلاة معها أو وجوب إزالتها حالة الصلاة، وكذا في جميع الأسباب والشروط والموانع. وبعضهم زاد قيدا في التعريف ليشتمله، فقال بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع، أي وضع الشارع وجعله. فإن قلت الحكم يتناول القياس المحتمل للخطأ فكيف ينسب إلى الله تعالى؟ قلت الحاكم في المسألة الاجتهادية هو الله تعالى إلّا أنه لم يحكم إلّا بالصواب.
فالحكم المنسوب إليه هو الحق الذي لا يحوم حوله الباطل، وما وقع من الخطأ للمجتهد فليس بحكم حقيقة بل ظاهرا وهو معذور في ذلك.
قال صدر الشريعة بعضهم عرّف الحكم الشرعي بهذا التعريف المذكور، فإذا كان هذا التعريف للحكم فمعنى الشرعي ما يتوقّف على الشرع فيكون قيدا مخرجا لوجوب الإيمان ونحوه. وإذا كان تعريفا للحكم الشرعي فمعنى الشرعي ما ورد به خطاب الشارع لا ما يتوقّف على الشرع، وإلّا لكان الحدّ أعمّ من المحدود لتناوله مثل وجوب الإيمان. ومعنى الحكم في قولنا الحكم الشرعي على هذا إسناد أمر إلى آخر، وإلّا لزم تكرار قيد الشرعي. وقال الآمدي الحكم خطاب الشارع لفائدة شرعية. قيل إن فسّر الآمدي الفائدة الشرعية بمتعلّق الحكم فدور، ولو سلّم أن لا دور فلا دليل عليه في اللفظ. وإن فسّرها بما لا تكون حسّية ولا عقلية على ما يشعر به كلامه حيث قال: هذا القيد احتراز عن خطابه بما لا يفيد فائدة شرعية كالإخبار عن المحسوسات والمعقولات، وردّ على طرد الحدّ إخبار الشارع بالمغيبات كقوله تعالى: وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فزيد قيد يختصّ به ليخرج ما أورد عليه إذ لا تحصل تلك الفائدة إلّا بالاطلاع على الخطاب لأنّ فائدة الإخبار عن المغيّبات قد يطّلع عليها لا من خطاب الشرع، إذ لكل خبر مدلول خارجي قد يعلم وقوعه بطريق آخر كالإحساس في المحسوسات والضرورة، والاستدلال في المعقولات والإلهام، مثلا في المغيبات فإن للخبر لفظا ومعنى ثابتا في نفس المتكلم يدلّ عليه اللفظ فيرتسم في نفس السامع، هو مفهوم الطرفين والحكم، ومتعلقا لذلك المعنى هو النسبة المتحققة في نفس الأمر بين الطرفين يشعر اللفظ بوقوعه في الخارج. لكن الإشعار بوقوعه لا يستلزم وقوعه بل قد يكون واقعا فيكون الخبر صادقا وقد لا يكون فيكون كاذبا، بخلاف الحكم بالمعنى المذكور فإنّه إنشاء والإنشاء له لفظ ومعنى يدلّ عليه لكن ليس لمعناه متعلّق يقصد الإشعار والإعلام به، بل إنّما يقصد به الإشعار بنفس ذلك المعنى الثابت في النفس كالطّلب مثلا في الإنشاءات الطلبية.
ومثل هذا المعنى لا يعلم إلّا باللفظ توقيفا، أي بطريق جعل السامع واقفا على ثبوته في النفس، فيختصّ بالخطاب الدال عليه. فمثل قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ إن قصد به الإعلام بنسبة واقعة سابقة كان خبرا فلا يكون حكما بالمعنى المذكور، وإن قصد به الإعلام بالطلب القائم بالنفس كان إنشاء فيكون حكما. قيل هاهنا دور إذ معرفة الخطاب المفيدة فائدة مختصّة به موقوفة على تصوّر الفائدة المختصّة ضرورة توقّف الكلام على تصوّر أجزائه، وهي متوقّفة على الخطاب فيلزم الدور. قيل جوابه أنّ المتوقّف على الخطاب حصول الفائدة، وما توقّف عليه الخطاب تصوّرها وحصول الشيء غير تصوّره فلا دور. قيل لا حاجة إلى زيادة القيد بل الحدّ مطّرد ومنعكس لا غبار عليه وذلك بأن تفسّر الفائدة الشرعية بتحصيل ما هو حصولها بخطاب الشارع دون ما هو حاصل في نفسه ولو في المستقبل، ورد به خطاب الشرع أم لا، لكنه يعلم بخطابه كالمغيّبات، فإنّ الإخبار عنها لا يحصلها بل يفيد العلم بها.
لكن بقي بعد شيء وهو أنّ مثل قوله تعالى فَنِعْمَ الْماهِدُونَ ونِعْمَ الْعَبْدُ يدخل في الحدّ وليس بحكم.
ومنها الأثر الثابت بالشيء كما وقع في الهادية حاشية الكافية في بحث المعرب. وفي العارفية حاشية شرح الوقاية في بيان الوضوء كون الحكم بمعنى الأثر الثابت بالشيء إنما هو من أوضاع الفقهاء واصطلاحات المتأخرين انتهى. وفي التوضيح يطلقون الحكم على ما ثبت بالخطاب كالوجوب والحرمة مجازا بطريق إطلاق اسم المصدر على المفعول كالخلق على المخلوق. لكن لما شاع فيه صار منقولا اصطلاحيا وهو حقيقة اصطلاحية انتهى.
وحاصل هذا أنّ الحكم عند الفقهاء هو أثر خطاب الشارع.
ومنها الأثر المترتّب على العقود والفسوخ كملك الرقبة أو المتعة أو المنفعة المترتّب على فعل المكلّف وهو الشراء. وفي التلويح في باب الحكم إطلاق الحكم في الشرع على خطاب الشارع وعلى الأثر المترتّب على العقود والفسوخ إنّما هو بطريق الاشتراك انتهى. فعلم من هذا أنّ إطلاق الحكم على الأثر الثابت بالشيء ليس من أوضاع الفقهاء كما ذكره صاحب العارفية، اللهم إلّا أن يراد بالشيء خطاب الشارع أو العقود والفسوخ. نعم إطلاقه بهذا المعنى شائع في عرفهم وعرف غيرهم.
قال المولوي عصام الدين في حاشية الفوائد الضيائية: تفسير الحكم بالأثر المترتّب على الشيء مما أتى به أقوام بعد أقوام وإن لم أعثر على مأخذه في أفانين الكلام انتهى.
ومنها الخاصة كما وقع في الحاشية الهندية في بحث المعرب. قال في الهادية هذا من قبيل ذكر اللازم وإرادة الملزوم لأنّ حكم الشيء أي أثره لا يكون إلّا مختصا به ضرورة استحالة توارد المؤثّرين على أثر واحد.
تقسيم
ما يطلق عليه لفظ الحكم شرعا على ما اختاره صدر الشريعة في التوضيح هو ما حاصله أنّ الحكم إمّا حكم بتعلّق شيء بشيء أو لا. فإن لم يكن فالحكم إمّا صفة لفعل المكلّف أو أثر له. فإن كان أثرا كالملك فلا بحث هاهنا عنه، وإن كان صفة فالمعتبر فيه اعتبارا أوليا إمّا المقاصد الدنيوية أو الأخروية.
فالأول ينقسم الفعل بالنظر إليه تارة إلى صحيح وباطل وفاسد وتارة إلى منعقد وغير منعقد، وتارة إلى نافذ وغير نافذ، وتارة إلى لازم وغير لازم، والثاني إمّا أصلي أو غير أصلي.
فالأصلي إمّا أن يكون الفعل أولى من الترك أو الترك أولى من الفعل، أو لا يكون أحدهما أولى. فالأوّل إن كان مع منع الترك بدليل قطعي ففرض أو بظني فواجب، وإلّا فإن كان الفعل طريقة مسلوكة في الدين فسنة، وإلّا فندب. والثاني إن كان مع منع الفعل فحرام وإلّا فمكروه. والثالث مباح وغير الأصلي رخصة. وإن كان حكما بتعلّق شيء بشيء فالمتعلّق إن كان داخلا فركن، وإلّا فإن كان مؤثّرا فيه فعلّة، وإلّا فإن كان موصلا إليه في الجملة فسبب، وإلّا فإن توقّف الشيء عليه فشرط، وإلّا فعلامة. وإنّما قلنا هذا تقسيم ما يطلق عليه لفظ الحكم شرعا إذ لو أريد بالحكم خطاب الشارع أو أثره لا يشمل الحكم نحو الملك لأنّ الملك إنّما ثبت بفعل المكلّف لا الخطاب. فالمقصود هاهنا بيان أقسام ما يطلق عليه لفظ الحكم في الشرع. فإنّ التحقيق أنّ إطلاق الحكم على خطاب الشرع وعلى أثره وعلى الأثر المترتّب على العقود والفسوخ إنّما هو بطريق الاشتراك، هكذا ذكر في التلويح في باب الحكم. ومثل هذا تقسيمهم العلّة إلى سبعة أقسام كما يجيء في محله.
اعلم أنّ أفعال المكلّف اثنا عشر قسما لأنّ ما يأتي به المكلّف إن تساوى فعله وتركه فمباح، وإلّا فإن كان فعله أولى فمع المنع عن الترك واجب وبدونه مندوب. وإن كان تركه أولى فمع المنع عن الفعل بدليل قطعي حرام وبدليل ظنّي مكروه كراهة التحريم، وبدون المنع عن الفعل مكروه كراهة التنزيه، هذا على رأي محمد. وأمّا على رأيهما فهو أنّ ما يكون تركه أولى من فعله فهو مع المنع عن الفعل حرام، وبدونه مكروه كراهة التنزيه إن كان إلى الحلّ أقرب، بمعنى أنّه لا يعاقب فاعله لكن يثاب تاركه أدنى ثواب، ومكروه كراهة التحريم إن كان إلى الحرام أقرب، بمعنى أنّ فاعله يستحق محذورا دون العقوبة بالنار. ثم المراد بالواجب ما يشمل الفرض أيضا لأنّ استعماله بهذا المعنى شائع عندهم كقولهم الزكاة واجبة والحج واجب، بخلاف إطلاق الحرام على المكروه تحريما فإنه ليس بشائع. والمراد بالمندوب ما يشمل السّنة الغير المؤكّدة والنفل.
وأمّا السّنة المؤكّدة فهي داخلة في الواجب على الأصح، فصارت الأقسام ستة، ولكلّ منها طرفان، فعل أي الإيقاع، وترك أي عدم الفعل، فيصير اثنا عشر قسما، هكذا في التلويح وحواشيه.
خاتمة
قد عرفت أنّ الحكم عند الأصوليين هو نفس خطاب الله تعالى. فالإيجاب هو نفس معنى قوله افعل وهو قائم بذاته سبحانه، وليس للفعل من الإيجاب المتعلّق به صفة حقيقية قائمة به تسمّى وجوبا. فإنّ القول لفظيا كان أو نفسيا ليس لمتعلّقه منه صفة حقيقية، أي لا يحصل لما يتعلّق به القول بسبب تعلّقه به صفة موجودة لأنّ القول يتعلّق بالمعدوم كما يتعلّق بالموجود. فلو اقتضى تعلّقه تلك الصفة لكان المعدوم متصفا بصفة حقيقية، وهو أي معنى قوله افعل إذ أنسب إلى الحاكم تعالى لقيامه به يسمّى إيجابا، وإذا نسب إلى ما فيه الحكم وهو الفعل لتعلّقه به يسمّى وجوبا، فالإيجاب والوجوب متّحدان بالذات لأنّهما ذلك المعنى القائم بذاته تعالى المتعلّق بالفعل مختلفان بالاعتبار لأنّه باعتبار القيام إيجاب وباعتبار التعلّق وجوب، وكذا الحال في التحريم والحرمة وترتّب الوجوب على الإيجاب بأن يقال أوجب الفعل، فوجب مبني على التغاير الاعتباري، فلا ينافي الاتّحاد الذاتي. وهذا كما قيل التعليم والتعلّم واحد بالذات واثنان بالاعتبار لأنّ شيئا واحدا وهو إسباق ما إلى اكتساب مجهول بمعلوم يسمّى بالقياس إلى الذي يحصل فيه تعلّما، وبالقياس إلى الذي يحصل منه تعليما، كالتّحرّك والتّحريك. فلذلك الاتحاد ترى الأصوليين يجعلون أقسام الحكم الوجوب والحرمة تارة والإيجاب والتحريم أخرى ومرة الوجوب والتحريم. قيل ما ذكرتم إنما يدلّ على أنّ الفعل من حيث تعلّق به القول لم يتصف بصفة حقيقية يسمّى وجوبا، لكن لم لا يجوز أن يكون صفة اعتبارية هي المسمّاة بالوجوب، أعني كونه حيث تعلّق به الإيجاب، بل هذا هو الظاهر، فيكون كلّ من الموجب والواجب متصفا بما هو قائم به. ولا شكّ أنّ القائم بالفعل ما ذكرناه لا نفس القول، وإن كانت هناك نسبة قيام باعتبار التعلّق. ولو ثبت أنّ الوجوب صفة حقيقية لتمّ المراد إذ ليس هناك صفة حقيقية سوى ما ذكر إلّا أنّ الكلام في ذلك.
واعلم أنّ النزاع لفظي إذ لا شكّ في خطاب نفساني قائم بذاته تعالى متعلّق بالفعل يسمّى إيجابا مثلا، وفي أنّ الفعل بحيث يتعلّق به ذلك الخطاب الإيجابي يسمّى وجوبا. فلفظ الوجوب إن أطلق على ذلك الخطاب من حيث تعلقه بالفعل كان الأمر على ما سبق، ولا يلزم المسامحة في وصف الفعل حينئذ بالوجوب، وإن أطلق على كون الفعل تعلّق به ذلك الخطاب لم يتحدا بالذات، وتلزم المسامحة في عباراتهم حيث أطلق أحدهما على الآخر. هذا كله خلاصة ما في العضدي وحواشيه. 

النّسبة

النّسبة:
[في الانكليزية] Proportion ،rate ،relation
[ في الفرنسية] Proportion ،rapport ،relation
بالكسر وسكون السين هي تطلق على معان. منها قياس شيء إلى شيء، وبهذا المعنى يقال النّسب بين القضايا والمفردات منحصرة في أربع: المباينة الكلّية والمساواة والعموم مطلقا ومن وجه على ما سبق في لفظ الكلّي. وفي شرح النخبة في بيان المعروف والشاذّ اعلم أنّ النّسبة تعتبر تارة بحسب الصدق وتارة بحسب الوجود كما في القضايا وتارة بحسب المفهوم كما يقال المفهومان إن لم يتشاركا في ذاتيّ فمتباينان، وإلّا فإن تشاركا في جميع الذاتيات فمتساويان كالحدّ والمحدود، وإن تشارك أحدهما الآخر في ذاتياته دون العكس فبينهما عموم مطلق، وإن تشاركا في بعضها فعموم وخصوص من وجه انتهى. وقد سبق في لفظ الشّاذ ما يوضحه، وبهذا المعنى يقول المحاسبون النّسب بين الأعداد منحصرة في أربع: التماثل والتداخل والتوافق والتباين. ومنها قياس كمية أحد العددين إلى كمية الآخر والعدد الأول يسمّى منسوبا ومقدّما والعدد الثاني يسمّى منسوبا إليه وتاليا وعليه اصطلاح المهندسين والمحاسبين كما في شرح خلاصة الحساب.
وأقول في توضيحه لا يخفى أنّه إذا قيل هذا العدد بالقياس إلى ذلك العدد كم هو يجاب بأنّه نصفه أو ثلثه أو مثلاه أو ثلاثة أمثاله ونحو ذلك لأنّ كم بمعنى چند والكمية بمعنى چندكي، فلا يجاب بأنّه موافق له أو مباين ونحو ذلك.
فالنّسبة في قولهم نسبة التباين ونسبة التوافق مثلا بالمعنى الأول أي بمعنى القياس والإضافة والتعلّق كما مرّ وإن خفي عليك الأمر بعد فاعتبر ذلك بقولك أين عدد چند است از ان عدد فإنّ معناه هو نصفه أو ثلثه ونحو ذلك، وليس معناه أهو موافق له أو مباين له، فالنسبة بهذا المعنى منحصرة في نسبة الجزء أو الأجزاء إلى الكلّ وعكسه. وبالجملة فالنسبة عندهم قياس أحد العددين إلى الآخر من حيث الكمية لا مطلقا، مثلا إذا قسنا الخمسة إلى العشرة باعتبار الكمية فالنّسبة الحاصلة من هذا القياس هي نسبة النصف فالمراد بالقياس المعنى الحاصل بالمصدر أي ما حصل بالقياس. وإنّما قلنا ذلك إذ الظاهر من إطلاقاتهم أنّ المنسوب والمنسوب إليه العدد لا الكمية فإنّهم يقولون نسبة هذا العدد إلى ذلك العدد كذا، وأقسم هذا العدد على كذا أو أنسبه إليه ونحو ذلك، كقولهم الأربعة المتناسبة أربعة أعداد نسبة أولها إلى ثانيها كنسبة ثالثها إلى رابعها، ثم أقول وهذا في النسبة العددية. وأمّا في المقدار فيقال النّسبة قياس كمية أحد المقدارين إلى كمية الآخر إلى آخره، لكن هذا ليس بجامع لجميع أنواع النّسب المقدارية كما سيتضح ذلك؛ والحدّ الجامع حدّد به المتقدّمون على ما ذكر في حاشية تحرير أقليدس بأنّها أيّة قدر أحد المقدارين المتجانسين عند الآخر، وبقيد آية خرجت الإضافة في اللون ونحوه. وتفسير هذا القول إنّ النّسبة هي المعنى الذي في كمية المقادير الذي يسأل عنه بأيّ شيء. وقيل هي إضافة ما في القدر بين مقدارين متجانسين، والمقادير المتجانسة هي التي يمكن أن يفضل التضعيف على بعض كالخط مع الخط والسطح مع السطح والجسم مع الجسم، لا كالخط مع السطح أو مع الجسم ونحوه فإنّه لا يفضله بالتضعيف، ومآل القولين إلى أمر واحد.
اعلم أنّه لما كانت الأعداد إنّما يتألّف من الواحد فالنّسب التي لبعضها إلى بعض تكون لا محالة بحيث بعد كلا المنتسبين إمّا أحدهما أو ثالث أقل منهما حتى الواحد وهي النّسب العددية والمقادير التي نوعها واحد كالخطوط مثلا أو السطح فلها إمّا نسب عددية تقتضي تشارك تلك المقادير كأربعة وخمسة وكجذر اثنين وجذر ثمانية، فإنّ نسبة الأول إلى الثاني كنسبة اثنين إلى الأربعة أو نسب تختصّ بها وهي التي تكون بحيث لا يعد المنتسبين أحدهما ولا شيء غيرهما وهو يقتضي التباين بين تلك المقادير كجذر عشرة وجذر عشرين، فالنسب المقدارية أعمّ من النسب العددية فاحفظ ذلك فإنّه عظيم النفع. وبالجملة فالنّسبة العددية منحصرة في نسبة الجزء أو الأجزاء إلى الكل وعكسه كما سلف بخلاف نسب المقادير فإنّها أعم فتأمّل، هكذا يستفاد من حواشي تحرير أقليدس.

التقسيم:
اعلم أنّ النسبة قد تكون بسيطة وقد تكون مؤلّفة وقد تكون مساواة منتظمة ومضطربة. قال في تحرير أقليدس وحاشيته ما حاصله إنّ المقادير إذا توالت سواء كانت على نسبة واحدة أو لم تكن فإنّ نسبة الطرفين متساوية للمؤلّفة من النسب التي بين المتوالية كمقادير اب ج د فإنّ النسبة المؤلّفة من النسب الثلاث التي بين اب وب ج وج د هي متساوية لنسبة اد فنسبة الطرفين ك: آد إذا اعتبرت من غير اعتبار الأوساط فهي النسبة البسيطة، وإذا اعتبرت مع الأوساط فإن اعتبرت من حيث تألّفت منها فهي المؤلّفة، وإن اعتبرت من حيث تألّفت منها لكن رفع اعتبار الأوساط من البين فهي نسبة المساواة ولا فرق بين النسبة البسيطة والمساواة إلّا بعدم اعتبار الأوساط في البسيطة مطلقا وعدم الاعتبار بعد وجوده في المساواة.
وبالجملة فنسبة السدس مثلا إذا اعتبر كونها حاصلة من ضرب الثلث في النصف ومؤلّفة منهما كانت نسبة مؤلّفة، وبعد اعتبار كونها مؤلّفة منهما إذا رفع اعتبار الأوساط من البين فهي نسبة المساواة وإذا لم تعتبر كونها حاصلة من ضرب الثلث في النصف فهي نسبة بسيطة، والنسبة المثناة هي الحاصلة بضربها في نفسها كنصف النصف الحاصل من ضرب النصف في نفسه، والنسبة المثلثة هي الحاصلة من ضرب مربع تلك النّسبة في تلك النّسبة، وعلى هذا القياس النسبة المربّعة والمخمّسة والمسدّسة ونحوها، والمثناة والمثلثة وغيرهما أخص من المؤلّفة مطلقا لأنّه كلما كانت الأجزاء المعتبرة أي النّسب التي هي بين المقادير المتوالية كلّها متساوية كانت المؤلّفة مثناة أو مثلثة أو غيرهما، والنسبة المؤلّفة والنسبة المنقسمة قد ذكرتا في لفظ التأليف ولفظ التجزئة.
ثم نسبة المساواة قد تكون منتظمة وقد تكون مضطربة، فالمساواة المنتظمة هي أن تكون مؤلّفة من أجزاء متساوية على الولاء أي الترتيب والتناظر كالمؤلّفة في صنف من مقدار من نصف وثلث وخمس، وفي صنف آخر من مقدار آخر كذلك على الترتيب. والمساواة المضطربة هي أن تكون مؤلّفة من أجزاء متساوية على التناظر لا على الولاء كالمؤلّفة في صنف من نصف وثلث وخمس في صنف آخر من ثلث ونصف وخمس أو من خمس ونصف وثلث ونحو ذلك فالمنتظمة والمضطربة لا توجد إلّا عند كون الصنفين من المقادير بخلاف مطلق المساواة فإنّ المعتبر في مطلق المساواة نسبة الأطراف دون الأوساط. والنسب المتوالية أن يكون كلّ واحد من الحدود المتوسطة بين الطرفين مشتركا بين نسبتين من تلك النسب، فإذا كانت المقادير ثلاثة كانت النسب نسبتين وإذا كانت أربعة كانت النسب ثلاثا وعلى هذا المثال يكون عدد النسب أبدا أقل من عدد المقادير بواحد مثلا في المثال المذكور أربعة مقادير والنسب ثلاثة متوالية فإنّ نسبة الطرفين كنسبة اإلى ب ونسبة ب إلى ج ونسبة ج إلى د فحدودها المتوسطة هي ب ج وكلّ منهما مشتركة بين نسبتين منها، فإنّ ب مأخوذ في النسبة الأولى والثانية وج مأخوذ بين الثانية والثالثة، فإذا أخذ نسبة اإلى ب ونسبة ج إلى د كانت النسبتان غير متواليتين لعدم اشتراك الحدود. هذا وتسمّى النّسب المتوالية متصلة كما تسمّى الغير المتوالية منفصلة، ومن النّسب المتصلة النّسب التي بين الأجناس الجبرية وبين الأعداد الثلاثة المتناسبة، ومن المنفصلة النّسب التي بين الأعداد الأربعة المتناسبة. ثم عدد الأعداد المتناسبة إن كان فردا كالثلاثة المتناسبة والخمسة المتناسبة تسمّى تلك الأعداد متناسبة الفرد ونسبها لا تكون إلّا متصلة أي متوالية، وإن كان زوجا كالأربعة المتناسبة والستة المتناسبة تسمّى متناسبة الزوج ونسبها قد تكون متصلة وقد تكون منفصلة، وتناظر النسب وتناسبها وتشابهها هو الاتحاد فيها، انتهى ما حاصلهما. وهذا الذي ذكر إنّما هو في المقادير وعليه فقس البساطة والتأليف والمساواة وغيرها في الأعداد.
واعلم أيضا أنّ إبدال النسبة ويسمّى تبديل النسبة أيضا عندهم عبارة عن اعتبار نسبة المقدّم إلى المقدّم والتالي إلى التالي. مثلا قسنا الخمسة إلى العشرة فالخمسة حينئذ مقدّم والعشرة تال، ثم قسنا الأربعة إلى الثمانية فالأربعة مقدّم والثمانية تال. فإذا قسنا الخمسة المقدّم إلى الأربعة المقدّم الآخر وقسنا العشرة التالي إلى الثمانية التالي الآخر فهذا القياس يسمّى بالإبدال والتبديل وتفضيل النسبة عندهم أربعة أقسام. الأول أن تعتبر نسبة فضل المقدّم على التالي إلى التالي وهذا هو المتعارف المشهور في الكتب، مثلا المقدّم ثمانية والتالي ستة وفضل المقدّم على التالي اثنان فإذا اعتبرنا نسبة الاثنين إلى الستة كان ذلك تفضيل النسبة.
والثاني أن تعتبر فضل التالي على المقدّم إلى المقدّم. والثالث أن تعتبر نسبة فضل المقدّم على التالي إلى المقدّم. والرابع أن تعتبر نسبة فضل التالي على المقدّم إلى التالي. وقلب النسبة عندهم هو أن تعتبر نسبة المقدّم إلى فضله على التالي وأمثلة الجميع ظاهرة. هذا خلاصة ما ذكر عبد العلي البرجندي في شرح بيست باب وحاشيته. وغيره في حاشية تحرير اقليدس القلب عكس التفضيل ولا فرق بين أن ينسب المقدّم إلى التفاضل أو التالي إليه أو يكون الفضل للمقدّم أو للتالي كما في التفضيل انتهى.
فقد بان من هذا أنّ القلب أيضا أربعة أقسام، وعكس النسبة وخلافها عندهم جعل المقدّم تاليا في النسبة والتالي مقدّما فيها. مثلا إذا كان المقدّم ثمانية والتالي ستة فإذا قسنا الستة إلى الثمانية فقد صار الأمر بالعكس أي صار الستة مقدّما والثمانية تاليا، وتركيب النسبة عندهم هو اعتبار نسبة مجموع المقدّم والتالي إلى التالي. قال في حاشية تحرير اقليدس لا فرق في التركيب بين أن ينسب المجموع إلى المقدّم والتالي انتهى. وقدر النسبة قد مرّ ذكرها. ومنها ما هو قسم من العرض وهو عرض يكون مفهومه معقولا بالقياس إلى الغير أي لا يتقرّر معناه في الذهن إلّا مع ملاحظة الغير أي أمر خارج عنه وعن حامله لا أنّه يتوقّف عليه فخرج الإضافة عنه سواء كان مفهومه النسبة كالإضافة وتسمّى بالنسبة المكرّرة أيضا أو معروضا لها كالوضع والملك والأين والمتى والفعل والانفعال، فأقسام النسبة سبعة. وإنّما سمّي نسبة لشدة اقتضاء مفهومه إياها وإن لم يكن بعض أقسامه نفس النسبة، هكذا ذكر شارح المواقف والمولوي عبد الحكيم في حاشيته.
ومنها تعلّق إحدى الكلمتين بالأخرى وتسمّى إسنادا أيضا، فإن كانت بحيث تفيد المخاطب فائدة تامة تسمّى نسبة تامة وإسنادا أصليا، وهي إمّا نسبة إيجاب أو سلب كما مرّ في الخبر أي القضية أو غيرها كما في الإنشاء، فإنّ النسبة في أضرب مثلا هي طلب الضرب، وإن كانت بحيث لا تفيد المخاطب فائدة تامة تسمّى نسبة غير تامة وإسنادا غير أصلي، كالنسبة الــتقييديــة في الصفة والموصوف والمضاف والمضاف إليه، هكذا يستفاد من المطول وحواشيه في بيان وجه انحصار علم المعاني في الأبواب الثمانية عقيب ذكر تعريف علم المعاني، وقد مرّ في لفظ الإسناد وفي لفظ المركّب ما يوضح هذا، وهذا المعنى من مصطلحات أهل العربية كما أنّ المعنيين الآتيين من مصطلحات أهل المعقول.
ومنها الوقوع واللاوقوع أي ثبوت شيء لشيء وتسمّى نسبة ثبوتية وانتفاء شيء عن شيء وتسمّى نسبة سلبية وغير ثبوتية، وبعبارة أخرى هي الإيجاب والسلب فإنّهما قد يستعملان بمعنى الوقوع واللاوقوع، أي ثبوت شيء لشيء وانتقائه عنه كما وقع في حاشية العضدي للتفتازاني، والشيء الأول يسمّى منسوبا ومحكوما به، والشيء الثاني يسمّى منسوبا إليه ومحكوما عليه وإدراك تلك النسبة يسمّى حكما. ثم النسبة باعتبار كونها حالة بين الشيئين ورابطة لأحدهما إلى الآخر مع قطع النظر عن تعقل الشيئين تسمّى نسبة خارجية وهي جزء مدلول القضية الخارجية، وباعتبار تعقّلها بأنها حالة بين الشيئين تسمّى نسبة ذهنية ومعقولة، وهي جزء مدلول القضية المعقولة وكلاهما من الأمور الاعتبارية كما مرّ في لفظ الصدق. ومنها مورد الوقوع واللاوقوع ومورد الإيجاب والسلب ويسمّى نسبة حكمية ونسبة تقييديــة، وبالنسبة بين بين وهي رابطة بالعرض على ما قال المولوي عبد الحكيم في حاشية القطبي في روابط القضايا، الرابط بالذات أي بلا واسطة هو الوقوع واللاوقوع. وأمّا النسبة الحكمية بمعنى مورد الوقوع واللاوقوع فإنّما هي رابطة بالعرض انتهى. ثم النسبة بالمعنى الأول متفق عليها بين القدماء والمتأخّرين، وبالمعنى الثاني من تدقيقات متأخّري الفلاسفة، قالوا أجزاء القضية أربعة: المحكوم عليه وبه والنسبة الحكمية والوقوع واللاوقوع. قال أبو الفتح في حاشية الحاشية الجلالية في مباحث القضايا في بيان الروابط: النزاع بين الفريقين ليس في مجرّد إثبات النسبة الحكمية وعدم إثباتها، بل في أمر آخر أيضا هو معنى النسبة التي يتعلّق بها الإدراك الحكمي وهي الوقوع واللاوقوع، فإنّهما على رأي القدماء صفتان للمحمول ومعناهما اتحاد المحمول مع الموضوع وعدم اتحاده معه، فمعنى قولك زيد قائم أنّ مفهوم القائم متّحد مع زيد. ومعنى قولك زيد ليس بقائم أنّه ليس متحدا معه. وعلى رأي المتأخّرين صفتان للنسبة الحكمية وهي عبارة عن اتحاد المحمول مع الموضوع ومعناهما المطابقة لما في نفس الأمر وعدمها. فمعنى المثال الأول أنّ اتحاد القائم مع زيد مطابق لما في نفس الأمر، ومعنى المثال الثاني أنّه ليس مطابقا له وأنت إذا تأمّلت علمت أنّه ليس في القضية بعد تصوّر الطرفين إلّا إدراك نسبة واحدة هي نسبة المحمول إلى الموضوع بمعنى اتحاده معه أو عدم اتحاده معه على وجه الإذعان، وقد مرّ توضيح هذا في لفظ الحكم. ثم المشهور في تفسير وقوع النسبة ولا وقوعها على مذهب المتأخّرين أنّهما بمعنى مطابقتهما لما في نفس الأمر وعدم مطابقتهما له كما مرّ، ويؤيّده كلام الشيخ في الشفاء حيث قال: والتصديق هو أن يحصل في الذهن هذه الصورة مطابقة لما في نفس الأمر، والتكذيب يخالف ذلك. ولا يخفى أنّه خلاف ما يتبادر من لفظ وقوع النسبة أو لا وقوعها، ومن ألفاظ القضايا، والأظهر أن يفسّر ثبوتها في نفس الأمر بمعنى صحّة انتزاعها عن الموضوع أو المحمول أو كليهما وعدم ثبوتها في نفس الأمر بهذا المعنى أيضا انتهى.

القضيّة

القضيّة:
[في الانكليزية] Proposition
[ في الفرنسية] Proposition
بالفتح عند المنطقيين ويسمّى خبرا وتصديقا أيضا كما وقع في شرح المطالع والعضدي، وهو قول يصحّ أن يقال لقائله إنّه صادق فيه أو كاذب. فالقول أعمّ من الملفوظ والمعقول، هو جنس يشتمل الأقوال التامة والناقصة. وإنّما اعتبر صحّة أن يقال لقائله الخ إذ لا يلزم أن يقال بالفعل لقائله إنّه صادق فيه أو كاذب ولا يرد قول المجنون والنائم زيد قائم لأنّ كلّا منهما في نفس الأمر وإن كان صادقا أو كاذبا في كلامه، إلّا أنّه لا يقال لهما إنّه صادق أو كاذب في العرف، لأنّ كلّا منهما ملحق بألحان الطيور ليس بخبر ولا إنشاء، نصّ عليه في التلويح وقد سبق تحقيق التعريف أيضا في لفظ الخبر والصدق أيضا.
وتحقيق أجزاء القضية بأنّها ثلاثة أو أربعة قد مرّ في لفظ الحكم.
التقسيم
القضية إمّا حملية أو شرطية. قالوا إن كان المحكوم عليه والمحكوم به قضيتين عند التحليل أي عند حذف ما يدلّ على العلاقة بينهما من النسبة الحكمية سمّيت شرطية وإلّا سمّيت حملية.
وإنّما قيد بالتحليل لأنّ طرفي الشرطية ليسا قضيتين عند التركيب لانتفاء احتمال الصدق والكذب عنهما حينئذ، بل عند التحليل لأنّا إذا قلنا إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود وحذفنا إن والفاء الموجبتين للربط بقي الشمس طالعة والنهار موجود وهما قضيتان. وفيه أنّهما لا يصيران قضيتين عند التحليل ما لم يتحقّق الحكم فيهما، ولا يدفعه أن يراد بالقضيتين القضيتان بالقوة إذ حينئذ يلزم استدراك قيد التحليل. وأجيب بأنّ المراد قضيتان بالقوة القريبة من الفعل. وأورد عليه أنّ قولنا زيد عالم نقيضه زيد ليس بعالم حملية مع أنّ طرفيها قضيتان.
وأجيب بأنّ المراد بالقضية هاهنا ما ليس بمفرد ولا في قوة المفرد وهو ما يمكن أن يعبّر عنه بمفرد، وأقلها أن يقال هذا ذاك أو هو هو أو الموضوع المحمول ونحو ذلك، بخلاف الشرطية إذ لا يقال فيها إنّ هذه القضية تلك القضية، بل يقال إن تحقّقت هذه القضية تحقّقت تلك، أو يقال إمّا أن يتحقّق هذه القضية أو تلك القضية.
وفيه أنّه يمكن أن يعبّر فيها أيضا بالمفرد وأقلّه أنّ هذا ملزوم لذلك أو معاند له. والتحقيق الذي لا يحوم حوله اشتباه هو أن يقال القضية إن لم يوجد في شيء من طرفيها نسبة فهي حملية، كقولك: الإنسان حيوان، وإن وجدت فإن كانت مما لا يصلح أن تكون تامّة كأن تكون النسبة تقييديــة كقولنا: الحيوان الناطق جسم ضاحك، أو امتزاجية ونحو ذلك فهي أيضا حملية. وإن كانت مما لا يصلح أن تكون تامة فإمّا أن يوجد في أحد طرفيها فهي أيضا حملية كقولنا زيد أبوه قائم لأنّه لا بدّ من ملاحظة النسبة إجمالا ليمكن الحكم بالاتحاد. والمراد بالملاحظة الإجمالية أن لا يلتفت إلى النسبة قصدا بل إلى المجموع من حيث المجموع. وإمّا أن يوجد فيهما معا، فإمّا أن تكون ملحوظة إجمالا فهي أيضا حملية كقولنا: زيد قائم يناقضه زيد ليس بقائم، وإمّا أن تكون ملحوظة تفصيلا فيكون القضية حينئذ شرطية لأنّ النسبة ملتفت إليها قصدا، وذلك يستدعي ملاحظة طرفيها مفصّلا فلا يمكن الحكم بالاتّحاد، كقولنا: إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، فظهر أنّ أطراف الحملية إمّا مفردة بالفعل أو بالقوة، فإنّ المشتمل على النسبة الــتقييديــة مطلقا أو الخبرية إذا كانت ملحوظة إجمالا يمكن أن يوضع موضعه مفرد لأنّ دلالته إجمالية، وإنّ أطراف الشرطية لا يمكن أن يوضع المفردات في موضعها إذ لا يمكن أن يستفاد من المفردات ملاحظة المحكوم عليه وبه والنسبة على التفصيل. فإن شئت قلت في التقسيم طرفاها إن كانا مفردين بالفعل أو بالقوة فحملية وإلّا فشرطية. وإن شئت قلت كلّ واحد من طرفيها إن كان مشتملا على نسبة تامة ملحوظة تفصيلا فشرطية وإلّا فحملية، فكأنّ قولهم إن كان المحكوم عليه وبه قضيتين عند التحليل إلى آخره أراد به أنّ كلّ واحد من طرفيها قضية بالقوة ملحوظة تفصيلا، فتكون قضية بالقوة القريبة من الفعل إذ لا يحتاج فيها بعد حذف الروابط إلى شيء سوى الإذعان لتلك النسبة، بخلاف ما إذا لوحظ النسبة إجمالا فإنّه قضية بالقوة البعيدة لاحتياجها إلى ملاحظة النسبة تفصيلا أيضا، هكذا في شرح الشمسية وحواشيه.

عقد الوضع

عقد الوضع:
[في الانكليزية] Position
[ في الفرنسية] Position
عند المنطقيين هو اتصاف ذات الموضوع بوصفه العنواني، كما أنّ عقد الحمل عندهم اتصاف ذات الموضوع بوصف المحمول.
والأول تركيب تقييدي والثاني تركيب خبري.
ومحصّل مفهوم القضية يرجع إلى هذين العقدين، كذا في شرح الشمسية في تحقيق المحصورات.

التّصوّر

التّصوّر:
[في الانكليزية] Representation ،conception
[ في الفرنسية] Representation ،conception ،
يطلق بالاشتراك على العلم بمعنى الإدراك وعلى قسم من العلم المقابل للتصديق ويسمّيه بعضهم بالمعرفة أيضا كما وقع في العضدي والقطبي وحواشيه. وتوضيح هذا المعنى سبق في لفظ التصديق، وسيأتي أيضا في لفظ الحكم. ثم التصوّر بهذا المعنى قد يكون تصوّرا واحدا كتصوّر الإنسان وقد يكون متعددا بلا نسبة كتصوّر الإنسان والكاتب، وقد يكون متعدّدا مع نسبة إمّا تقييديــة أي غير تامّة وهي على قسمين: توصيفية وإضافية كالحيوان الناطق وغلام زيد وإمّا تامة غير خبرية كقولك اضرب، وإمّا خبرية يشكّ فيها أو مرجوح فيها، فإنّ كل ذلك من التصوّرات لخلوّها عن الحكم.
وأمّا أجزاء الشرطية فليس فيها حكم أيضا إلّا فرضا بحذف أدوات الشرط واعتبار كل منها قضية برأسها. فإدراكها ليس تصديقا بالفعل بل بالقوة القريبة منه، وهذا على خلاف مذهب أهل العربية كما سبق في لفظ الإسناد.
فائدة:
العلم الذي هو مورد القسمة إلى التصوّر والتصديق في فواتح كتب المنطق هو العلم المتجدّد الذي لا يكفي فيه مجرّد الحضور بل يتوقّف على حصول مثال المدرك في المدرك، ويقال له العلم الحصولي إذ هو المقصود هناك، فإنّ المعلومات المنطقية لا تتجاوز عنه لا مطلق العلم الشامل له، وللعلم الإشراقي الذي يكفي فيه مجرّد الحضور كعلم الباري تعالى وعلم المجردات المفارقة وعلمنا بأنفسنا، ويقال له العلم الحضوري وإلّا لم ينحصر العلم في التصوّر والتصديق إذ التصوّر هو حصول صورة الشيء في العقل والتصديق يستدعي تصوّرا هكذا. وعلم الباري بجميع الأشياء وعلم المجردات بأنفسها وعلمنا بأنفسنا يستحيل أن يكون بحصول صورة فلا يكون تصوّرا ولا تصديقا، كذا في شرح إشراق الحكمة. ويطلق التصوّر أيضا على الأمر المقصود أي المعلوم التصوّري. قال في المطوّل في بحث الفصل والوصل في شرح قوله الجامع إمّا عقلي بأن يكون بينهما اتّحاد في التصوّر إلخ أي في الأمر المتصوّر إذ كثيرا ما تطلق التصوّرات والتصديقات على المعلومات التصوّرية والتصديقية انتهى كلامه. وتصوّر نزد بلغاء تخيل را نامند- والتّصوّر عند البلغاء يسمّى تخيّلا.-

الإسلام

الإسلام: أحْينا عَلَيه يا حَيُّ- هو الخضوعُ والانقيادُ لما أخبر به سيدنا الرسُول محمد - صلى الله عليه وسلم - قاله السيد.
الإسلام: في "الدر المختار" هو تصديق سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - في جميع ما جاء عن الله تعالى مما علم مجيئه ضرورة أي بداهة.
الإسلام:
[في الانكليزية] Islam
[ في الفرنسية] L'Islam
هو لغة الطاعة والانقياد، ويطلق في الشرع على الانقياد إلى الأعمال الظاهرة، كما بين ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلّا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتى الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت».
وحاصل ذلك أن الإسلام شرعا هو الأعمال الظاهرة من التلفظ بكلمتي الشهادة والإتيان بالواجبات والانتهاء عن المنهيات. وعلى هذا المعنى، هو يغاير الإيمان وينفك عنه، إذ قد يوجد التصديق مع انقياد الباطن بدون الأعمال، وقد يطلق على الأعمال المشروعة، ومنه قوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وخبر أحمد: «أيّ الإسلام أفضل؟ قال:
الإيمان»، وخبر ابن ماجة «قلت ما الإسلام قال تشهد أن لا إله إلّا الله وتشهد أنّ محمدا رسول الله وتؤمن بالأقدار كلها خيرها وشرها حلوها ومرّها»، وعلى هذا هو يغاير الإيمان ولا ينفك عنه، أي عن الإيمان لاشتراطه لصحتها وهي لا تشترط لصحته خلافا للمعتزلة.
وأما الإسلام المأخوذ بالمعنى اللغوي الذي قد يستعمله به أهل الشرع أيضا فبينه وبين الإيمان تلازم في المفهوم، فلا يوجد شرعا إيمان بلا إسلام ولا عكسه وهو الظاهر.
وقيل بينهما ترادف لأن الإسلام هو الخضوع والانقياد للأحكام بمعنى قبولها والإذعان بها، وذلك حقيقة التصديق، فيترادفان. فالإسلام يطلق على ثلاثة معان والإيمان أيضا يطلق شرعا على كلّ من تلك المعاني الثلاثة، وإذا تقرر ذلك فحيث ورد ما يدلّ على تغايرهما كما في قوله تعالى قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا الآية، وكما في بعض الأحاديث، فهو باعتبار أصل مفهوميهما، فإنّ الإيمان عبارة عن تصديق قلبي، والإسلام عبارة عن طاعة وانقياد ظاهر كما صرّح بذلك في شروح صحيح البخاري.
فصحّ ما قاله ابن عباس وغيره في تفسير هذه الآية أنهم لم يكونوا منافقين بل كان إيمانهم ضعيفا، ويدل عليه قوله تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية، الدالّ على أن معهم من الإيمان ما يقبل به أعمالهم، وحينئذ يؤخذ من الآية أنه يجوز نفي الإيمان عن ناقصه. ومما يصرح به قوله عليه الصلاة والسلام: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» وفيه قولان لأهل السنة، أحدهما هذا، والثاني لا ينفى عنه اسم الإيمان من أصله ولا يطلق عليه مؤمن لإيهامه كمال إيمانه، بل يقيّد فيقال: مؤمن ناقص الإيمان، وهذا بخلاف اسم الإسلام فإنه لا ينتفي بانتفاء ركن من أركانه ولا بانتفاء جميعها ما عدا الشهادتين. وكأنّ الفرق أنّ نفيه يتبادر منه إثبات الكفر مبادرة ظاهرة بخلاف نفي الإيمان. وحيث ورد ما يدلّ على اتحادهما كقوله تعالى فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فهو باعتبار تلازم المفهومين أو ترادفهما. ومن هاهنا قال كثيرون إنهما على وزان الفقير والمسكين، فإذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر ودلّ بانفراده على ما يدل عليه الآخر بانفراده، وإن قرن بينهما تغايرا كما في خبر أحمد «الإسلام علانية والإيمان في القلب»، وحيث فسّر الإيمان بالأعمال فهو باعتبار إطلاقه على متعلقاته لما تقرر أنه تصديق بأمور مخصوصة، ومنه: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ، واتفقوا على أنّ المراد به هنا الصلاة ومنه حديث وفد عبد القيس: «هل تدرون ما الإيمان شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن تؤدوا خمسا من المغنم» ففسّر فيه الإيمان بما فسر في حديث جبرائيل الإسلام، فاستفيد منهما إطلاق الإيمان والإسلام على الأعمال شرعا باعتبار أنها متعلقة مفهوميهما المتلازمين وهما التصديق والانقياد، فتأمّل ذلك حق التأمّل لتندفع به عنك الشكوك الواردة هاهنا. وممّا أطلق فيه الإيمان على الأعمال المشروعة ما روي «الإيمان اعتقاد بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان». هذا كله خلاصة ما ذكر ابن الحجر في شرح الأربعين للنووي في شرح الحديث الثاني.
الإسلام:
[في الانكليزية] Name ،noun
[ في الفرنسية] Nom
بالكسر والضمّ لغة بمعنى اللفظ الدال على الشيء كما في قوله: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها، كذا ذكر المولوي عصام الدين في حاشية الفوائد الضيائية. وحاصله أنه يطلق لغة على مقابل المهمل، كما صرّح به في باب منع الصرف. وفي شرح المقاصد: الاسم هو اللفظ المفرد الموضوع للمعنى وهو يعم جميع أنواع الكلمة، والمسمّى هو المعنى الذي وضع الاسم بإزائه، والتسمية هو وضع الاسم للمعنى. وقد يراد به ذكر الشيء باسمه، يقال سمّى زيدا ولم يسم عمروا، ولا خفاء في تغاير الأمور الثلاثة، انتهى. وفي جامع الرموز في جواز اليمين باسم الله تعالى: الاسم عرفا لفظ دال على الذات والصفة معا كالرحمن والرحيم، والله اسم دال على ذات الواجب فهو اسم للذات انتهى. وفي كشف اللغات: الاسم بالكسر والضم، هو بالفارسية: نام، وفي اصطلاح أهل السلوك:
ليس لفظا يدلّ على شيء بالوضع، بل هو اسم الذّات للمسمّى باعتبار الصّفة. والصّفة إمّا وجودية كالعليم والقدير أو عدميّة كالقدوس والسّلام يقول الشاعر:

العارفون الذين يعرفون علمنا يقولون: الصفة والذات هي الاسم انتهى.
اعلم أنه قد اشتهر الخلاف في أنّ الاسم هل هو نفس المسمّى أو غيره، ولا يشكّ عاقل في أنه ليس النزاع في لفظ ف ر س أنه هل هو نفس الحيوان المخصوص أو غيره فإن هذا ممّا لا يشتبه على أحد، بل النزاع في مدلول الاسم أهو الذات من حيث هي هي أم هو الذات باعتبار أمر صادق عليه عارض له ينبئ عنه؛ فلذلك قال الأشعري قد يكون الاسم أي مدلوله عين المسمّى أي ذاته من حيث هي نحو الله، فإنه اسم علم للذات من غير اعتبار معنى فيه، وقد يكون غيره نحو الخالق والرازق ممّا يدلّ على نسبة إلى غيره. ولا شك أنّ تلك النسبة غيره وقد يكون لا هو ولا غيره كالعليم والقدير ممّا يدلّ على صفة حقيقية قائمة بذاته، فإنّ تلك الصفة لا هو ولا غيره عنده فهكذا الذات المأخوذة معها.

قال الآمدي: اتفق العقلاء على المغايرة بين التسمية والمسمّى، وذهب أكثر أصحابنا إلى أن التسمية هي نفس الأقوال الدالة، وإنّ الاسم هو نفس المدلول، ثم اختلف هؤلاء، فذهب ابن فورك وغيره إلى أن كل اسم فهو المسمّى بعينه. فقولك: الله دالّ على اسم هو المسمّى، وكذلك قولك عالم وخالق فإنه يدلّ على ذات الربّ الموصوف بكونه عالما وخالقا. وقال بعضهم من الأسماء ما هو عين كالموجود والذات ومنها ما هو غير كالخالق، فإنّ المسمّى ذاته، والاسم هو نفس الخلق وخلقه غير ذاته، ومنها ما ليس عينا ولا غيرا كالعالم فإن المسمّى ذاته والاسم علمه الذي ليس عين ذاته ولا غيرها. وتوضيح ذلك أنهم لم يريدوا بالتسمية اللفظ وبالاسم مدلوله كما يريدون بالوصف قول الواصف وبالصفة مدلوله، ثم إنّ ابن فورك ومن يوافقه اعتبروا المدلول المطابقي وأرادوا بالمسمّى ما وضع الاسم بإزائه، فأطلقوا القول بأن الاسم نفس المسمّى. والبعض أراد بالمسمّى ما يطلق عليه الاسم، وأخذ المدلول أعمّ من المطابقي واعتبر في أسماء الصفات المعاني المقصودة، فزعم أنّ مدلول الخالق الخلق وأنه غير ذات الخالق بناء على ما تقرّر من أنّ صفات الأفعال غير الموصوف، وأن الصفات التي لا عينه ولا غيره هي التي يمتنع انفكاكها عن موصوفها. ثم إنّ الأشعري أراد بالمسمّى ما يطلق عليه الاسم، أعني الذات، وأعتبر المدلول المطابقي وحكم بغيرية هذا المدلول أو بكونه لا هو ولا غيره باعتبار المدلول التضمني. وذهب المعتزلة إلى أنّ الاسم هو التسمية ووافقهم على ذلك بعض المتأخرين من أصحابنا. وذهب الأستاذ أبو نصر بن أيوب إلى أنّ لفظ الاسم مشترك بين التسمية والمسمّى، فيطلق على كل منهما ويفهم المقصود بحسب القرائن. ولا يخفى عليك أن النزاع على قول أبي نصر في لفظ اس م، وأنها تطلق على الألفاظ فيكون الاسم عين التسمية بالمعنى المذكور، أي القول الدال لا بمعنى فعل الواضع وهو وضع الاسم للمعنى، أو تطلق على مدلولاتها فيكون عين المسمّى، وكلا الاستعمالين ثابت، كما في قولك:

الأسماء والأفعال والحروف، وقوله تعالى:
تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ أي مسمّاه، وقول لبيد: اسم السلام عليكما. وقال الإمام الرازي:
المشهور عن أصحابنا أن الاسم هو المسمّى، وعن المعتزلة أنه التسمية، وعن الغزالي أنه مغاير لهما لأن النسبة وطرفيها مغايرة قطعا، والناس قد طوّلوا في هذه المسألة، وهو عندي فضول لأن الاسم هو اللفظ المخصوص والمسمّى ما وضع ذلك اللفظ بإزائه، فنقول:
الاسم قد يكون غير المسمّى، فإنّ لفظ الجدار مغاير لحقيقة الجدار وقد يكون عينه، فإن لفظ الاسم اسم للفظ دال على معنى مجرّد عن الزمان، ومن جملة تلك الألفاظ لفظ الاسم، فيكون لفظ الاسم اسما لنفسه فاتّحد هاهنا الاسم والمسمّى. قال: فهذا ما عندي، هذا كله خلاصة ما في شرح المواقف والچلپي وما في تعليقات جدّي رحمة الله عليه.
التقسيم
اعلم أنّ الاسم الذي يطلق على الشيء إمّا أن يؤخذ من الذات بأن يكون المسمّى به ذات الشيء وحقيقته من حيث هي، أو من جزئها، أو من وصفها الخارجي، أو من الفعل الصادر عنه؛ ثم أنظر أيّها يمكن في حق الله تعالى، فالمأخوذ من الوصف الخارجي الداخل في مفهوم الاسم فجائز في حقه تعالى، سواء كان الوصف حقيقيا كالعليم، أو إضافيا كالماجد بمعنى العالي، أو سلبيا كالقدوس، وكذا المأخوذ من الفعل كالخالق. وأما المأخوذ من الجزء كالجسم للإنسان فمحال لانتفاء التركيب في ذاته، فلا يتصوّر له جزء حتى يطلق عليه اسمه. أمّا المأخوذ من الذات فمن ذهب إلى جواز تعقّل ذاته جوّز أن يكون له اسم بإزاء حقيقته المخصوصة، ومن ذهب إلى امتناع تعقّلها لم يجوّز لأن وضع الاسم لمعنى فرع تعقله ووسيلة إلى تفهيمه، فإذا لم يمكن أن يعقل ويفهم فلا يتصوّر اسم بإزائه. وفيه بحث لأن الخلاف في تعقّل كنه ذاته ووضع الاسم لا يتوقف عليه إذ يجوز أن يعقل ذاتا ما بوجه ما، ويوضع الاسم لخصوصية ويقصد تفهيمها باعتبار ما لا بكنهها، ويكون ذلك الوجه مصحّحا للوضع وخارجا عن مفهوم الاسم، كما في لفظ الله، فإنه اسم علم له موضوع لذاته من غير اعتبار معنى فيه، كذا في شرح المواقف.
وفي شرح القصيدة الفارضية في علم التصوف: الأسماء تنقسم باعتبار الذات والصفات والأفعال إلى الذاتية، كالله والصفاتية كالعليم والأفعالية كالخالق، وتنحصر باعتبار الأنس والهيبة عند مطالعتها في الجمالية كاللطيف والجلالية كالقهار. والصفات تنقسم باعتبار استقلال الذات بها إلى ذاتية وهي سبعة:
العلم والحياة والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام، وباعتبار تعلّقها بالخلق إلى أفعالية، وهي ما عدا السبعة ولكل مخلوق سوى الإنسان حظ من بعض الأسماء دون الكلّ كحظ الملائكة من اسم السبّوح والقدّوس. ولذا قالوا نحن نسبّح بحمدك ونقدس لك، وحظّ الشيطان من اسم الجبار والمتكبر، ولذلك عصى واستكبر واختص الإنسان بالحظ من جميعها ولذلك أطاع تارة وعصى أخرى وقوله تعالى وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها أي ركّب في فطرته من كل اسم من أسمائه لطيفة وهيّأه بتلك اللطائف للتحقّق بكل الأسماء الجلالية والجمالية، وعبّر عنهما بيديه فقال للإبليس ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ وكلّ ما سواه مخلوق بيد واحدة لأنه إمّا مظهر صفة الجمال كملائكة الرحمة أو الجلال كملائكة العذاب. وعلامة المتحقق باسم من أسماء الله أن يجد معناه في نفسه كالمتحقق باسم الحق علامته أن لا يتغيّر بشيء، كما لم يتغير الحلاج عند قتله تصديقا لتحققه بهذا الاسم انتهى. وفي الإنسان الكامل قال المحققون أسماء الله تعالى على قسمين يعني الأسماء التي تفيد في نفسها وصفا فهي عند النحاة أسماء لغوية: القسم الأول هي الذاتية كالأحد والواحد والفرد والصمد والعظيم والحيّ والعزيز والكبير والمتعال وأشباه ذلك. القسم الثاني هي الصفاتية كالعليم والقادر ولو كانت من الأسماء النفسية وكالمعطي والخلّاق ولو كانت من الأفعالية، انتهى.

فائدة:
اعلم أنّ تسميته تعالى بالأسماء توقيفية، أي يتوقف إطلاقها على الإذن فيه وليس الكلام في أسماء الأعلام الموضوعة في اللغات، إنما النزاع في الأسماء المأخوذة من الصفات والأفعال، فذهب المعتزلة والكرّامية إلى أنها إذ ادلّ العقل على اتصافه تعالى بصفة وجودية أو سلبية جاز أن يطلق عليه اسم يدلّ على اتصافه بها، سواء ورد بذلك الإطلاق إذن شرعي أو لا، وكذا الحال في الأفعال. وقال القاضي أبو بكر من أصحابنا كلّ لفظ دلّ على معنى ثابت لله تعالى جاز إطلاقه عليه بلا توقيف إذا لم يكن إطلاقه موهما لما لا يليق بكبريائه، ولذا لم يجز أن يطلق عليه لفظ العارف، لأن المعرفة قد يراد بها علم تسبقه غفلة، وكذا لفظ الفقيه والعاقل والفطن والطبيب ونحو ذلك. وقد يقال لا بدّ مع نفي ذلك الإيهام من الإشعار بالتعظيم حتى يصحّ الإطلاق بلا توقيف. وذهب الشيخ ومتابعوه إلى أنه لا بدّ من التوقيف وهو المختار، وذلك للاحتياط فلا يجوز الاكتفاء في عدم إيهام الباطل بمبلغ إدراكنا، بل لا بدّ من الاستناد إلى إذن الشرع. فإن قلت من الأوصاف ما يمتنع إطلاقه عليه تعالى مع ورود الشرع بها كالماكر المستهزئ وغيرهما. أجيب بأنه لا يكفي في الإذن مجرّد وقوعها في الكتاب أو السنّة بحسب اقتضاء المقام وسياق الكلام، بل يجب أن يخلو عن نوع تعظيم ورعاية أدب، كذا في شرح المواقف وحواشيه.
والاسم عند أهل الجفر يطلق على سطر التكسير ويسمّى أيضا بالزّمام والحصّة والبرج، كذا في بعض الرسائل. وعند المنطقيين يطلق على لفظ مفرد يصح أن يخبر به وحده عن شيء، ويقابله الكلمة والأداة، ويجيء في لفظ المفرد. وعند النحاة يطلق على خمسة معان:

على ما في المنتخب حيث قال: اسم بالكسر والضم هو السّمة والعلامة على الشيء. وفي اصطلاح النحاة: يطلق الاسم على خمسة أشياء:
1 - الاسم، العلم، مقابل اللّقب والكنية.
2 - كلمة لا تحمل معنى وصفيا، وهي بهذا تقابل الصفة.
3 - كلمة لا تحمل معنى ظرفيا، وهي بهذا تقابل الظرف.
4 - كلمة تحمل معنى حاصل المصدر، وتستعمل كالمصدر.
5 - كلمة بدون إضافة كلمة أخرى إليها تدلّ على معنى ولا تدلّ على أيّ زمان من أزمنة الفعل من الماضي والمضارع والاستقبال، وهي بهذا الاصطلاح تقابل اصطلاح الفعل والحرف.
انتهى.
أما المعنى الأول فيجيء تحقيقه في لفظ العلم، ويطلق أيضا مرادفا للعلم كما يجيء هناك أيضا. وأما المعنى الثاني فقد صرّح به في شروح الكافية في باب منع الصرف في بحث الألف والنون المزيدتين. وأما المعنى الثالث فقد صرّحوا به أيضا هناك، وأيضا وقع في الضوء الظروف بعضها لازم الظرفية فيكون منصوبا أبدا نحو: عند وسوى، وبعضها يستعمل اسما وظرفا كالجهات الستّ، انتهى. وفي العباب ويستعمل إذا اسما صريحا مجرّدا عن معنى الظرفية أيضا، ويصير اسما مرفوع المحل بالابتداء أو مجروره أو منصوبه لا بالظرفية، نحو: إذا يقوم زيد إذا يقعد عمر، أي وقت قيام زيد وقت قعود عمر، فإذا هنا مبتدأ وخبر، انتهى.
فالاسم حينئذ مقابل للظرف بمعنى المفعول فيه. وأما المعنى الرابع فقد ذكر في تيسير القاري شرح صحيح البخاري في باب الاحتكار قال الاحتكار: هو شراء الغلّة في أوان الرّخص، لتباع فيما بعد عند غلائها. والحكرة هي اسم من فعل الاحتكار. وأيضا في جامع الرموز: الشبهة اسم من الاشتباه. وفي الصراح شبهة پوشيدگى كار. الخطأ في ستر العمل.
ثم أقول قال في بحر المعاني في تفسير قوله تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ، الوقود بفتح الواو اسم لما يوقد به النار وهو الحصب وبالضم مصدر بمعنى الالتهاب انتهى. وهكذا في البيضاوي، وهذا صريح في أن الاسم قد يستعمل بمعنى الاسم الذي لا يكون مصدرا، سواء كان بمعنى الحاصل بالمصدر أو لم يكن إذ لا خفاء في عدم كون الوقود هاهنا بمعنى الحاصل بالمصدر، فينتقض الحصر في المعاني الخمسة حينئذ لخروج هذا المعنى من الحصر. وأما المعنى الخامس فشائع وتحقيقه أنهم قالوا الكلمة ثلاثة أقسام، لأنها إمّا أن تستقل بالمفهومية أو لا.
الثاني الحرف، والأول إمّا أن تدلّ بهيئتها على أحد الأزمنة الثلاثة أو لا. الثاني الاسم والأول الفعل، فالاسم ما دلّ على معنى في نفسه غير مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة، والفعل ما دلّ على معنى في نفسه مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة، والحرف ما دلّ على معنى في غيره. والضمير في قولهم في نفسه في كلا التعريفين إمّا راجع إلى ما، والمعنى ما دلّ على معنى كائن في نفس ما دلّ أي الكلمة؛ والمراد بكون المعنى في نفس الكلمة دلالتها عليه من غير حاجة إلى ضمّ كلمة أخرى إليها لاستقلاله بالمفهومية، وإما راجع إلى المعنى وحينئذ يكون المراد بكون المعنى في نفسه استقلاله بالمفهومية وعدم احتياجه في الانفهام إلى كلمة أخرى، فمرجع التوجيهين إلى أمر واحد وهو استقلال الكلمة بالمفهومية أي بمفهومية المعنى منه، وكذا الحال في قولهم في غيره في تعريف الحرف يعني أن الضمير إمّا عائد إلى ما، فيكون المعنى:
الحرف ما دلّ على معنى كائن في غير ما دلّ أي الكلمة لا في نفسه وحاصله أنه لا يدل بنفسه بل بانضمام كلمة أخرى إليها. وإمّا إلى المعنى فيكون المعنى: الحرف ما دلّ على معنى في غيره لا في نفسه بمعنى أنه غير تام في نفسه، أي لا يحصل ذلك المعنى من اللّفظ إلّا بانضمام شيء إليه، فمرجع هذين التوجهين إلى أمر واحد أيضا، وهو أن لا يستقل بالمفهومية.
ثم المعنى قد يكون إفراديا هو مدلول اللّفظ بانفراده وقد يكون تركيبيا يحصل منه عند التركيب فيضاف أيضا إلى اللّفظ، وإن كان معنى اللّفظ عند الإطلاق هو الإفرادي، ويشترك الاسم والفعل والحرف في أن معانيها التركيبية لا تحصل إلّا بذكر ما يتعلّق به من أجزاء الكلام، ككون الاسم فاعلا وكون الفعل مسندا مثلا مشروط بذكر متعلّقه، بخلاف الحرف، فإنّ معناه الإفرادي أيضا لا يحصل بدون ذكر المتعلق.
وتحقيق ذلك أن نسبة البصيرة إلى مدركاتها كنسبة البصر إلى مبصراته. وأنت إذا نظرت في المرآة وشاهدت صورة فيها فلك، هناك حالتان: إحداهما أن تكون متوجها إلى تلك الصورة مشاهدا إياها قصدا جاعلا للمرآة حينئذ آلة في مشاهدتها، ولا شك أن المرآة حينئذ مبصرة في هذه الحالة لكنها ليست بحيث تقدر بإبصارها على هذا الوجه أن تحكم عليها وتلتفت إلى أحوالها. والثانية أن تتوجّه إلى المرآة نفسها وتلاحظها قصدا فتكون صالحة لأن تحكم عليها، وحينئذ تكون الصورة مشاهدة تبعا غير ملتفت إليها، فظهر أن في المبصرات ما يكون تارة مبصرا بالذات وأخرى آلة لإبصار الغير، واستوضح ذلك من قولك قام زيد.
ونسبة القيام إلى زيد إذ لا شك أنك مدرك فيهما نسبة القيام إلى زيد، إلّا أنها في الأول مدركة من حيث أنها حالة بين زيد والقيام وآلة لتعرف حالهما فكأنها مرآة تشاهدهما بها مرتبطا أحدهما بالآخر، ولهذا لا يمكنك أن تحكم عليها أو بها ما دامت مدركة على هذا الوجه.
وفي الثاني مدركة بالقصد ملحوظة في ذاتها بحيث يمكنك أن تحكم عليها وبها؛ فعلى الوجه الأول معنى غير مستقل بالمفهومية، وعلى الثاني معنى مستقل بها. وكما يحتاج إلى التعبير عن المعاني الملحوظة بالذات المستقلة بالمفهومية يحتاج إلى التعبير عن المعاني الملحوظة بالغير التي لا تستقل بالمفهومية.
إذا تمهّد هذا فاعلم أنّ الابتداء مثلا معنى هو حالة لغيره ومتعلّق به، فإذا لاحظه العقل قصدا وبالذات كان معنى مستقلا بنفسه ملحوظا في ذاته صالحا لأن يحكم عليه وبه، ويلزمه إدراك متعلّقه إجمالا وتبعا، وهو بهذا الاعتبار مدلول لفظ الابتداء، ولك بعد ملاحظته على هذا الوجه أن تقيده بمتعلق مخصوص، فتقول مثلا ابتداء سير البصرة ولا يخرجه ذلك عن الاستقلال وصلاحية الحكم عليه وبه وعلى هذا القياس الأسماء اللازمة الإضافة كذو وأولو وفوق وتحت، وإذا لاحظه العقل من حيث هو حالة بين السير والبصرة وجعله آلة لتعرف حالهما كان معنى غير مستقل بنفسه، ولا يصلح أن يكون محكوما عليه ولا محكوما به، وهو بهذا الاعتبار مدلول لفظ من. وهذا معنى ما قيل إنّ الحرف وضع باعتبار معنى عام وهو نوع من النسبة كالابتداء مثلا لكل ابتداء مخصوص معيّن النسبة لا تتعين إلّا بالمنسوب إليه، فما لم يذكر متعلق الحرف لا يتحصّل فرد من ذلك النوع هو مدلول الحرف، لا في العقل، وهو الظاهر، ولا في الخارج لأنّ مدلول الحرف فرد مخصوص من ذلك النوع، أعني ما هو آلة لملاحظة طرفيه ولا شك أنّ تحقق هذا الفرد في الخارج يتوقف على ذكر المتعلق. وما قيل الحرف ما يوجد معناه في غيره وأنّه لا يدلّ على معنى باعتباره في نفسه بل باعتباره في متعلقه، فقد اتضح أنّ ذكر المتعلق للحرف إنما وجب ليتحصّل معناه في الذهن إذ لا يمكن إدراكه إلّا بإدراك متعلقه إذ هو آلة لملاحظته فعدم استقلال الحرف بالمفهومية إنّما هو لقصور ونقصان في معناه، لا لما قيل من أنّ الواضع اشترط في دلالته على معناه الإفرادي ذكر متعلقه، إذ لا طائل تحته لأنّ هذا القائل إن اعترف بأنّ معاني الحروف هي النسب المخصوصة على الوجه الذي قررناه، فلا معنى لاشتراط الواضع حينئذ، لأن ذكر المتعلق أمر ضروري إذ لا يعقل معنى الحرف إلّا به، وإن زعم أنّ معنى لفظة من هو معنى الابتداء بعينه إلّا أنّ الواضع اشترط في دلالة من عليه ذكر المتعلّق ولم يشترط ذلك في دلالة لفظ الابتداء عليه، فصارت لفظة من ناقصة الدلالة على معناها غير مستقلة بالمفهومية لنقصان فيها؛ فزعمه هذا باطل. أمّا أولا فلأنّ هذا الاشتراط لا يتصوّر له فائدة أصلا بخلاف اشتراط القرينة في الدلالة على المعنى المجازي. وأمّا ثانيا فلأنّ الدليل على هذا الاشتراط ليس نصّ الواضع عليه كما توهّم لأنّ في تلك الدعوى خروجا عن الإنصاف، بل هو التزام ذكر المتعلّق في الاستعمال على ما يشهد به الاستقراء، وذلك مشترك بين الحروف والأسماء اللازمة الإضافة.
والجواب عن ذلك بأنّ ذكر المتعلق في الحرف لتتميم الدلالة وفي تلك الأسماء لتحصيل الغاية، مثلا كلمة ذو موضوعة بمعنى الصاحب ويفهم منها هذا المعنى عند الإطلاق، لكنها إنّما وضعت له ليتوصّل بها إلى جعل أسماء الأجناس صفة للمعارف أو للنكرات، فتحصيل هذه الغاية هو الذي أوجب ذكر متعلّقها، فلو لم يذكر لم تحصل الغاية عند إطلاقه بدون ذكر متعلّقه تحكّم بحت. وأمّا ثالثا فلأنّه يلزم حينئذ أن يكون معنى من مستقلا في نفسه صالحا لأن يحكم عليه وبه، إلّا أنّه لا ينفهم منها وحدها، فإذا ضمّ إليها ما يتمّ دلالتها وجب أن يصحّ الحكم عليه وبه وذلك مما لا يقول به من له أدنى معرفة باللغة وأحوالها.
وقيل الحرف ما دلّ على معنى ثابت في لفظ غيره، فاللام في قولنا الرجل مثلا يدل بنفسه على التعريف الذي في الرجل. وفيه بحث لأنّه إن أريد بثبوت معنى الحرف في لفظ غيره أنّ معناه مفهوم بواسطة لفظ الغير أي بذكر متعلّقه، فهذا بعينه ما قرّرناه سابقا، وإن أريد به أنه يشترط في انفهام المعنى منه لفظ الغير بحسب الوضع ففيه ما مرّ، وإن أريد به أنّ معناه قائم بلفظ الغير فهو ظاهر البطلان، وكذا إن أريد به قيامه بمعنى غيره قياما حقيقيا، ولأنه يلزم حينئذ أن يكون مثل السّواد وغيره من الأعراض حروفا لدلالتها على معان قائمة بمعاني ألفاظ غيرها، وإن أريد به تعلقه بمعنى الغير لزم أن يكون لفظ الاستفهام وما يشبهه من الألفاظ الدّالة على معان متعلّقة بمعاني غيرها حروفا، وكلّ ذلك فاسد.
وقيل الحرف ليس له معنى في نفسه بل هو علاقة لحصول معنى في لفظ آخر، وإنّ في قولك في الدار علامة لحصول معنى الظرفية في الدار، ومن في قولك خرجت من البصرة علامة لحصول معنى الابتداء في البصرة، وعلى هذا فقس سائر الحروف وهذا ظاهر البطلان.
ثمّ الاسم والفعل يشتركان في كونهما مستقلين بالمفهومية، إلّا أنهما يفترقان في أنّ الاسم يصلح لأن يقع مسندا ومسندا إليه، والفعل لا يقع إلّا مسندا، فإنّ الفعل ما عدا الأفعال الناقصة كضرب مثلا يدلّ على معنى في نفسه مستقل بالمفهومية وهو الحدث، وعلى معنى غير مستقل هو النسبة الحكمية الملحوظة من حيث أنها حالة بين طرفيها وآلة لتعرف حالهما مرتبطا أحدهما بالآخر. ولما كانت هذه النسبة التي هي جزء مدلول الفعل لا تتحصل إلّا بالفاعل وجب ذكره، كما وجب ذكر متعلّق الحرف، فكما أنّ لفظة من موضوعة وضعا عاما لكل ابتداء معين بخصوصه، كذلك لفظة ضرب موضوعة وضعا عاما لكل نسبة للحدث الذي دلّت عليه إلى فاعل بخصوصها، إلّا أن الحرف لمّا لم يدل إلّا على معنى غير مستقل بالمفهومية لم يقع محكوما عليه ولا محكوما به إذ لا بدّ في كل منهما أن يكون ملحوظا بالذات ليتمكن من اعتبار النسبة بينه وبين غيره، واحتاج إلى ذكر المتعلق رعاية لمحاذات الأفعال بالصور الذهنية، والفعل لمّا اعتبر فيه [الحدث] وضمّ إليه انتسابه إلى غيره نسبة تامة من حيث أنها حالة بينهما وجب ذكر الفاعل لتلك المحاذاة، ووجب أيضا أن يكون مسندا باعتبار الحدث إذ قد اعتبر ذلك في مفهومه وضعا ولا يمكن جعل ذلك الحدث مسندا إليه لأنه على خلاف وضعه. وأمّا مجموع معناه المركّب من الحدث والنسبة المخصوصة فهو غير مستقلّ بالمفهومية فلا يصلح أن يقع محكوما به فضلا عن أن يقع محكوما عليه كما يشهده التأمّل الصادق.
وأمّا الاسم فلما كان موضوعا لمعنى مستقل ولم تعتبر معه نسبة تامة لا على أنه منسوب إلى غيره ولا بالعكس صحّ الحكم عليه وبه.
فإن قلت كما أنّ الفعل يدل على حدث ونسبة إلى فاعل على ما قررته كذلك اسم الفاعل يدلّ على حدث ونسبة إلى ذات، فلم يصح كون اسم الفاعل محكوما عليه دون الفعل؟. قلت لأنّ المعتبر في اسم الفاعل ذات ما من حيث نسب إليه الحدث، فالذات المبهمة ملحوظة بالذات، وكذلك الحدث. وأمّا النسبة فهي ملحوظة لا بالذات، إلّا أنها تقييديــة غير تامة ولا مقصودة أصلية من العبارة تقيدت بها الذات المبهمة وصار المجموع كشيء واحد، فجاز أن يلاحظ فيه تارة جانب الذات أصالة فيجعل محكوما عليه وتارة جانب الوصف أي الحدث أصالة فيجعل محكوما به. وأمّا النسبة التي فيه فلا تصلح للحكم عليها ولا بها، لا وحدها ولا مع غيرها، لعدم استقلالها، والمعتبر في الفعل نسبة تامة تقتضي انفرادها مع طرفيها من غيرها وعدم ارتباطها به، وتلك النسبة هي المقصودة الأصلية من العبارة فلا يتصور أن يجري في الفعل ما جرى في اسم الفاعل، بل يتعيّن له وقوعه مسندا باعتبار جزء معناه الذي هو الحدث.
فإن قلت قد حكموا بأنّ الجملة الفعلية في: زيد قام أبوه محكوما بها. قلت في هذا الكلام يتصور حكمان: أحدهما الحكم بأن أبا زيد قائم، والثاني أن زيدا قائم الأب، ولا شكّ أن هذين الحكمين ليسا بمفهومين منه صريحا بل أحدهما مقصود والآخر تبع، فإن قصد الأول لم يكن زيد بحسب المعنى محكوما عليه بل هو قيد يتعين به المحكوم عليه، وإن قصد الثاني كما هو الظاهر فلا حكم صريحا بين القيام والأب، بل الأب قيد للمسند الذي هو القيام، إذ به يتم مسندا إلى زيد. ألا ترى أنك لو قلت: قام أبو زيد وأوقعت النسبة بينهما لم يرتبط بغيره أصلا، فلو كان معنى قام أبوه ذلك القيام لم يرتبط بزيد قطعا فلم يقع خبرا، ومن ثمّ تسمع النحاة يقولون قام أبوه جملة وليس بكلام، وذلك لتجريده عن إيقاع النسبة بين طرفيه بقرينة ذكر زيد مقدما، وإيراد ضميره فإنها دالة على الارتباط الذي يستحيل وجوده مع الإيقاع، وهذا الذي ذكر من التحقيق هو المستفاد من حواشي العضدي، ومما ذكره السيّد الشّريف في حاشية المطول في بحث الاستعارة التبعية.
ثم إنه لما عرف اشتراك الاسم والفعل في الاستقلال بالمفهومية فلا بد من مميّز بينهما فزيد قيد عدم الاقتران بأحد الأزمنة الثلاثة في حدّ الاسم احترازا عن الفعل، ولا يخرج من الحدّ لفظ أمس وغد والصبوح والغبوق ونحو ذلك، لأنّ معانيها الزمان لا شيء آخر يقترن بالزمان كما في الفعل. ثم المراد بعدم الاقتران أن يكون بحسب الوضع الأول فدخل فيه أسماء الأفعال لأنها جميعا إما منقولة عن المصادر الأصلية سواء كان النقل صريحا نحو رويد فإنه قد يستعمل مصدرا أيضا، أو غير صريح نحو هيهات فإنه وإن لم يستعمل مصدرا إلّا أنّه على وزن قوقاة مصدر قوقى، أو عن المصادر التي كانت في الأصل أصواتا نحو صه، أو عن الظرف، أو الجار والمجرور نحو أمامك زيد وعليك زيد، فليس شيء منها دالة على أحد الأزمنة الثلاثة بحسب الوضع الأول. وخرج عنه الأفعال المنسلخة عن الزمان وهي الأفعال الجوامد كنعم وبئس وعسى وكاد لاقتران معناها بالزمان بحسب الوضع الأول، وكذا الأفعال المنسلخة عن الحدث كالأفعال الناقصة لأنها تامّات في أصل الوضع منسلخات عن الحدث، كما صرح به بعض المحققين في الفوائد الغياثية. وخرج عنه المضارع أيضا فإنه بتقدير الاشتراك بين الحال والاستقبال لا يدلّ إلّا على زمان واحد، فإنّ تعدد الوضع معتبر في المشترك ويعلم من هذا فوائد القيود في تعريف الفعل.

عقد الْحمل

عقد الْحمل: وَهُوَ ثُبُوت الْمَحْمُول للموضوع وَالْعقد الأول تركيب تقييدي توصيفي، وَالثَّانِي تركيب خبري وَمعنى رُجُوعه إِلَى الْعقْدَيْنِ أَنه لَا يتَحَقَّق بدونهما كَمَا يُقَال مرجع الْغَنِيّ إِلَى المَال أَي لَا يتَحَقَّق بِدُونِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا مُحَصل مَفْهُوم الْقَضِيَّة لتجريد النّظر إِلَى خصوصيات القضايا وَإِلَّا فمفهوم الْقَضِيَّة الْكُلية لَا يرجع إِلَى ثُبُوت وصف الْمَوْضُوع لذاته بل إِلَى ثُبُوت وَصفه لكل ذَاته وَمَفْهُوم الْجُزْئِيَّة لَا يرجع إِلَى ثُبُوت وَصفه لذاته بل إِلَى ثُبُوت وَصفه لبَعض ذَاته فَافْهَم.

الجملة

الجملة:
[في الانكليزية] The sum ،the set ،the sentence ،the speach
[ في الفرنسية] La somme ،l'ensemble ،la phrase ،le discours
بالضم لغة المجموع. وعند بعض النحاة هي الكلام. والمشهور أنها أعمّ منه فإنّ الكلام ما تضمن الإسناد الأصلي المقصود لذاته، والجملة ما تضمن الإسناد الأصلي سواء كان مقصودا لذاته أو لا. ويجئ في لفظ الكلام.
وشبه الجملة عندهم هو اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة واسم التفضيل والمصدر، فإنّ هذه الأشياء مع فاعلها ليست بجملة، بل مشابهة لها لتضمنها النسبة، وكذا كلّ ما فيه معنى الفعل نحو حسبك في قولنا:
حسبك زيد رجلا، ونحو يا لزيد في قولك: يا لزيد فارسا، هكذا يستفاد من الفوائد الضيائية وحواشيها وغاية التحقيق والعباب في بحث التمييز. ولا يبعد أن يجعل المنسوب أيضا من شبه الجملة لأنّ حكمه حكم الصفة المشبّهة على ما صرح به في العباب.

وللجملة تقسيمات:
التقسيم الأول
الجملة إما فعلية وهي ما كان صدرها فعلا كقام زيد وكان زيد قائما، وإمّا اسمية وهي ما كان صدرها اسما كزيد قائم وهيهات العقيق وأ قائم الزيدان، وإمّا ظرفية وهي ما كان صدرها ظرفا أو الجار والمجرور فإنّه أيضا ظرف اصطلاحا نحو أعندك زيد، وأ في الدار زيد، وإمّا شرطية وهي ما تشتمل [على] أداة الشرط سواء كانت مركّبة من فعليتين نحو إن تكرمني أكرمك، أو من شرطيتين معنى نحو: إن كان متى كان زيد يكتب فهو يحرّك يده فمتى لم يحرك يده لم يكتب. وقولنا معنى إشارة إلى أنّ الشرط لا يجوز أن يكون جملة شرطية لفظا لأنهم لا يوالون بين حرفي الشرط، فإن أرادوا ذلك أدخلوا كان وأسندوه إلى ضمير الشأن وجعلوا الشرطية خبره، فيكون الجملة فعلية لفظا وشرطية معنى.
ثم المراد بصدر الجملة المسند والمسند إليه أيّهما كان صدرا في الأصل فلا عبرة بما تقدّم عليها من الحروف كهمزة الاستفهام والحروف المشبّهة بالفعل ونحو ذلك. فنحو أقام زيد فعلية وإنّ زيدا قائم اسمية. وكذا نحو كيف جاء زيد وفريقا كذبتم، وإن أحد من المشركين استجارك فعلية، فإنّ هذه الأسماء متأخّرة في النية، هكذا يستفاد من المغني والعباب. إلّا أنّ صاحب المغني لم يعدّ الشرطية قسما على حدة، وقال: الصواب أنها من قبيل الفعلية. ومنهم من عدّ نحو أقائم الزيدان وهيهات العقيق من الفعلية لا من الاسمية. وقال في الضوء شرح المصباح:
والجمل أربع لأن المسند والمسند إليه إمّا أن لم يعرض لهما ما يسلب عنهما صلاحية السكوت عليهما ويخرجهما إلى جملة أخرى أو قد عرض لهما ذلك، والثاني هو الجملة الشرطية والأوّل إمّا أن لا يكون المسند مؤخرا عن المسند إليه لا لفظا ولا تقديرا، أو يكون مؤخّرا عنه إمّا لفظا أو تقديرا، والثاني هو الجملة الاسمية نحو زيد قائم أو قائم زيد، والأول إمّا أن يسدّ مسدّ المسند ظرف أو ما جرى مجراه أو لا، والثاني هو الجملة الفعلية نحو ضرب زيد وأ قائم الزيدان وهيهات الأمر وغير ذلك، والأول هو الجملة الظرفية انتهى.
وقال الزمخشري الأصل أنّ يكون الجمل على ضربين اسمية وفعلية وإليه ذهب ابن الحاجب وصاحب اللّب وابن مالك، وإليه ذهب صاحب الوافي حيث قال: وتنقسم الجملة إلى فعلية ولو ظرفية أو شرطية وإلى اسمية انتهى. وتحقيق ذلك ما وقع في العباب من أنّ هذا التقسيم إقناعي لتفهيم المخاطب وإلّا فهي على الحقيقة على ضربين فعلية واسمية، إلّا أنّ الشرط لمّا خالف الظاهر من حيث جري الجملة فيه مجرى المفرد في امتناعها من أن تستقل بنفسها عدّت مفردا. والظرف لما كان فيه إضمار الفعل ملتزما وناب هو عن الفعل في احتمال ضميره وقيامه مقامه صار في حكم ما ليس من الفعل في شيء انتهى.
فائدة: قد تكون الجملة محتملة للاسمية والفعلية والظرفية ومن أمثلته ما رأيته مذ يومان، فإنّ تفسيره عند الأخفش والزجّاج بيني وبين لقائه يومان، وعند أبي بكر وأبي علي أمد انتفاء الرؤية يومان. وعليهما فالجملة اسمية لا محلّ لها من الإعراب، ومذ خبر على الأول ومبتدأ على الثاني. وقال الكسائي وجماعة المعنى مذ كان يومان فمذ ظرف لما قبلها وما بعدها جملة فعلية حذف فعلها وهي في محل خفض. وقال آخرون المعنى من الزمن الذي هو يومان ومذ مركّبة من حرف الابتداء وذو الطائية واقعة على الزمن وما بعدها جملة اسمية وحذف مبتدأها ولا محل لها لأنها صلة. التقسيم الثاني
الجملة إمّا خبرية أو إنشائية لأنّه إن كان لها خارج تطابقه أو لا تطابقه فخبرية، وإلّا فإنشائية، ويجئ في لفظ الخبر والإنشاء.
التقسيم الثالث
الجملة إمّا صغرى أو كبرى، فالكبرى هي الاسمية التي خبرها جملة نحو زيد قام أبوه وزيد أبوه قائم، والصغرى هي المبنية على المبتدأ كالجملة المخبر بها في المثالين. وقد تكون الجملة صغرى وكبرى باعتبارين نحو زيد أبوه غلامه منطلق، فمجموع هذا الكلام جملة كبرى لا غير وغلامه منطلق صغرى لا غير لأنها خبر وأبوه غلامه منطلق كبرى باعتبار غلامه منطلق وصغرى باعتبار جملة الكلام، وهذا هو مقتضى كلامهم. وقد يقال كما تكون مصدّرة بالمبتدإ تكون مصدّرة بالفعل نحو ظننت زيدا يقوم أبوه. وإنّما قلنا صغرى وكبرى موافقة لهم وإنّما الوجه استعمال فعلى أفعل باللام أو بالإضافة، لكن ربّما استعمل أفعل التفضيل الذي لم يرد به المفاضلة مطابقا مع كونه مجرّدا، فعلى ذلك يتخرّج قول النحويين.
وكذلك قول العروضيين فاصلة كبرى وفاصلة صغرى. وقد يحتمل الكلام الكبرى وغيرها كما في نحو: زيد في الدار إذ يحتمل. تقديره استقر ومستقر.
التقسيم الرابع
الجملة إمّا أن يكون لها محل من الإعراب أو لا، والجمل التي ليس لها محل من الإعراب سبع. الأولى الابتدائية وتسمّى المستأنفة أيضا، وهو أوضح لأنّ الابتدائية تطلق أيضا على الجملة المصدّرة بالمبتدإ، ولو كان لها محل. ثم الجمل المستأنفة نوعان: أحدهما الجمل المفتتح بها النطق كقولك ابتداء زيد قائم، ومنها الجمل المفتتح بها السور. وثانيهما المنقطعة مما قبلها أي التي قطع تعلقها بما قبلها لفظا أو معنى. فالأول نحو مات فلان رحمه الله، فإنّ الجملة الدعائية متعلقة بالأولى من جهة المعنى لا من جهة اللفظ، إذ لا رابط لفظيا يربطها. والثاني نحو أو لم يروا كيف يبدأ الله الخلق ثم يعيده، فالرابط المعنوي مفقود، لأنّ إعادة الخلق لم تقع بعد فيقرروا برؤيتها مع أنّ الرابط اللفظي موجود وهو حرف العطف.
ومن الاستئناف جملة العامل الملغى لتأخّره نحو زيد قائم أظنّ، فأمّا العامل لتوسّطه نحو زيد أظن قائم فمن باب الاعتراض. ويخص أهل البيان الاستئناف بما كان جوابا لسؤال مقدّر.
الثانية المعترضة ويجئ ذكرها. الثالثة التفسيرية وتسمّى بالجملة المفسّرة أيضا وهي الفضلة الكاشفة لحقيقة ما تليه. فبقيد الفضلة خرجت الجملة المفسّرة لضمير الشأن فإنها كاشفة لحقيقة المعنى المراد به، ولها محل بالإجماع لأنّها خبر في الحال أو في الأصل، وكذا خرجت الجملة المفسّرة في باب الاشتغال. فقد قيل إنها تكون ذات محل وهذا القيد أهملوه ولا بدّ منه. وقال الشلوبين إنّ الجملة المفسّرة فهي بحسب ما تفسّره، فهي في نحو زيدا ضربته لا محلّ لها، وفي نحو إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ ونحو زيد الخبز يأكله بنصب الخبز في محل رفع، ولهذا يظهر الرفع إذا قلت آكله. وقد بيّنا أنّ جملة الاشتغال ليست من الجمل التي تسمّى في الاصطلاح جملة مفسّرة وإن حصل فيها تفسير، هكذا ذكر صاحب المغني. وقال في التحفة شرح المغني وفيما ذكره نظر إذ التعريف المذكور غير مانع لصدقه على الجملة الحالية في قولك أسررت إلى زيد النجوى وما جزاء الإحسان إلّا الإحسان، إذ هي فضلة كاشفة لحقيقة ما تليه من النجوى، فيلزم أن لا يكون لها محل من الإعراب. وأيضا لا يخرج بقيد الفضلة الجملة المفسرة في باب الاشتغال في مثل قولنا قام زيد عمروا يضربه لأنها هاهنا مفسّرة للحال، وهي فضلة انتهى. فعلى هذا الجملة المفسّرة هي الكاشفة لحقيقة ما تليه أعمّ من أن يكون لها محل أو لا، ومن أن تكون فضلة أو غيرها. ثم قال صاحب المغني المفسّرة ثلاثة أقسام: مجرّدة من حرف التفسير كقوله تعالى إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فخلقه وما بعده تفسير كمثل آدم لا باعتبار ما يقتضيه ظاهر لفظ الجملة من كونه قدّر جسدا من طين ثم كوّن، بل باعتبار المعنى، أي إنّ شأن عيسى كشأن آدم في الخروج عن مستمر العادة وهو التولّد بين أبوين، ومقرونة بأي كقول الشاعر:
وترمينني بالطرف أي أنت مذنب ومقرونة بأن نحو فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ وقولك كتبت إليه أن افعل [كذا] إن لم يقدّر الباء قبل أن.
اعلم أنّه لا يمتنع كون الجمل الإنشائية مفسّرة بنفسها ويقع ذلك في موضعين: أحدهما أن يكون المفسّر إنشاء أيضا نحو أحسن إلى زيد أعطه ألف دينار. والثاني أن يكون مفردا مؤدّيا معنى الجملة نحو بلغني عن زيد كلام والله لأفعلن كذا. الرابعة المجاب بها القسم نحو وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ.
الخامسة الواقعة جوابا لشرط غير جازم مطلقا أو جازم ولم يقترن بالفاء ولا بإذ الفجائية، فالأول جواب لو ولولا ولمّا وكيف، والثاني جواب إن وما في معناه نحو إن تقم أقم وإن قمت قمت. أما الأول فلظهور الجزم في لفظ الفعل، وأما الثاني فلأنّ المحكوم بموضعه ما يجزم الفعل لا الجملة بأسرها، كذا ذكر صاحب المغني. وفي التحفة شرحه: الحق أنّ جملة جواب الشرط لا محل لها مطلقا لأنّ كل جملة لا تقع موقع المفرد فلا محل لها، وجملة الجواب لا تقع موقع المفرد. السادسة الواقعة صلة لاسم أو حرف. فالأول نحو جاء الذي أبوه قائم فالذي في موضع رفع والصلة لا محل لها. وقيل للموصول وصلته موضع لأنهما ككلمة واحدة، والحق الأول بدليل ظهور الإعراب في نفس الموصول في نحو قوله تعالى أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا برفع أيّ، والثاني نحو أعجبني أن قمت أو ما قمت إذا قلنا بحرفية ما المصدرية. وفي هذا النوع يقال الموصول وصلته في موضع كذا لأنّ الموصول حرف فلا إعراب له لا لفظا ولا تقديرا.
السابعة التابعة لما لا محلّ له نحو قام زيد ولم يقم عمرو إن قدّرت الواو للعطف دون الحال، ولم يثبت عند الجمهور وقوع البيان والبدل جملة كذا ذكر في المغني. وقال شارحه: قد أجازوا في قوله تعالى وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ، أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ، وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ أن يكون جملة أمدكم الثانية بدلا من جملة أمدّكم الأولى، وأجازوا في قول الشاعر:
أقول له ارحل لا تقيمنّ عندنا.
أن يكون لا تقيمن بدلا من ارحل، ولم أر من انتقد ذلك بأنه خلاف مذهب الجمهور، فينبغي تحرير النقل في ذلك انتهى كلامه.
تم صاحب المغني لم يتعرّض للتأكيد والوصف لظهور أمرهما فإنّ التأكيد في الجمل لا خفاء في جوازه نحو زيد قائم زيد قائم، والوصف لا خفاء في امتناعه يشهد بذلك تعريفه. والجمل التي لها محل من الإعراب أيضا سبع. الأولى الواقعة خبرا سواء كان خبرا لمبتدإ أو خبر كان وأنّ ونحو ذلك ومحلّها بحسب اقتضاء العامل من الرفع والنصب. الثانية الواقعة حالا نحو وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ.
الثالثة الواقعة مفعولا ومحلها النصب إن لم تنب عن الفاعل، وهذه النيابة مختصّة بباب القول، نحو ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ لأنّ الجملة التي يراد بها لفظها تنزّل منزلة الأسماء المفردة. قيل وتقع أيضا في الجملة المقرونة بمعلّق نحو علم أقام زيد. وأجاز هؤلاء وقوع هذه فاعلا، وحملوا عليه قوله تعالى: وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ، والصواب خلاف ذلك. وعلى قول هؤلاء فتزاد في الجمل التي لها محل الجملة الواقعة فاعلا.
وتقع الجملة مفعولا في ثلاثة أبواب. أحدها باب ظنّ وأعلم. وثانيها باب التعليق وذلك غير مختص بباب ظن وأعلم، بل هو جائز في كل فعل قلبيّ. ولهذا انقسمت هذه الجملة إلى ثلاثة أقسام: الأول أن تكون في موضع مفعول مقيّد بالجار نحو أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً ويَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ لأنّه يقال فكرت فيه ونظرت فيه وسألت عنه، ولكنها علّقت هاهنا بالاستفهام عن الوصول في اللفظ إلى المفعول، وهي من حيث المعنى مطالبة على معنى ذلك الحرف. وزعم ابن عصفور أنّه لا يعلق فعل غير علم وظن حتى يضمّن معناهما، وعلى هذا فتكون هذه الجملة سادّة مسدّ مفعولين. والثاني أن تكون في موضع المفعول المصرّح نحو عرفت من أبوك لأنك تقول عرفت زيدا.
والثالث أن تكون في موضع مفعولين نحو وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى والثالث باب الحكاية بالقول أو بمرادفه. فالأول نحو قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وهل هي مفعول به أو مفعول مطلق نوعيّ فيه مذهبان. والثاني نوعان:
ما معه حرف التفسير نحو كتبت إليه أن افعل، والجملة في هذا النوع ليست مفعولا إذ لا محلّ لها، وما ليس معه حرف التفسير نحو وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ الآية. والجملة في هذا النوع في محل النصب اتفاقا. فقال الكوفيون النصب بالفعل المذكور. وقال البصريون النصب بقول مقدّر. هكذا ذكر صاحب المغني، والصواب ترك ذكر ما معه حرف التفسير لعدم كونه مفعولا والكلام فيه كذا في التحفة.
فائدة: قد يقع بعد القول جملة محكية ولا عمل للقول فيها نحو أول قولي إني أحمد الله بكسر إنّ إذ الجملة حينئذ خبر. الرابعة المضاف إليها ومحلّها الجر، ولا يضاف إلى الجملة إلّا ثمانية. الأول أسماء الزمان ظروفا كانت أو أسماء. والثاني حيث ويختص بذلك عن سائر أسماء المكان وإضافتها إلى الجملة لازمة بشرط كونها ظرفا. والثالث آية بمعنى علامة. والرابع ذو في قولهم اذهب بذي تسلم، والباء في ذلك ظرفية وذي صفة لزمن محذوف. ثم قال الأكثرون هي بمعنى صاحب فالموصوف نكرة أي اذهب في وقت صاحب سلامة وقيل بمعنى الذي فالموصول معرفة والجملة صلة ولا محل لها. الخامس لدن. والسادس ريث. والسابع قول. والثامن قائل. الخامسة الواقعة بعد الفاء جوابا لشرط جازم. السادسة التابعة لمفرد وهي ثلاثة أنواع. الأول المنعوت بها نحو: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ الثاني المعطوفة بالحرف نحو زيد منطلق وأبوه ذاهب إن قدّرت العطف على الخبر. الثالث المبدلة كقوله ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ. السابعة التابعة لجملة لها محل ويقع ذلك في بابي النسق والبدل خاصة. فالأول نحو زيد قام أبوه وقعد أخوه إذا قدّرت العطف على قام أبوه.
والثاني شرطه كونه أوفى من الأولى بتأدية المعنى، هكذا ذكر صاحب المغني ولعلّ ترك ذكر التأكيد لشهرة أمره، وإلّا ففي الفوائد الضيائية التأكيد اللفظي يجري في الألفاظ كلها أسماء أو أفعالا أو حروفا أو جملا أو مركّبات تقييديــة أو غير ذلك. ثم قال صاحب المغني:
هذا الذي ذكرته من انحصار الجمل التي لها محل في سبع جار على ما قرروه. والحق أنها تسع والذي أهملوه الجملة المستثناة والجملة المسند إليها. أمّا الأولى فنحو لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ، إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ، فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ.

قال ابن خروف: من مبتدأ ويعذّبه الله الخبر والجملة في موضع النصب على الاستثناء المنقطع. وأما الثانية فنحو تسمع بالمعيدي خير من أن تراه إذا لم يقدّر أنّ تسمع بل قدّر تسمع قائما مقام السماع.
فائدة: يقول المعرّبون: الجمل بعد المعارف أحوال وبعد النكرات صفات. وشرحه أن الجمل الخبرية التي لم تستلزم لها ما قبلها إن كانت مرتبطة بنكرة محضة فهي صفة لها أو بمعرفة [محضة] فهي حال عنها، أو بغير المحض منهما فهي محتملة لهما، وكل ذلك بشرط وجود المقتضي وانتفاء المانع. وإن شئت التوضيح الوافي فارجع إلى المغني.
الجملة: عبارة عن مركب من كلمتين أسندت إحداهما إلى الأخرى سواء أفاد نحو زيد قائم أو لا نحو إن تكرمني. فإنه جملة لا تفيد إلا بعد مجيء جوابه، فالجملة أعم من الكلام مطلقا. الجملة المعترضة: التي تتوسط بين أجزاء الجملة المستقلة لتقرير معنى يتعلق بها أو بأحد أجزائها كزيد -طال عمره- قائم.

الاستعارة

الاستعارة: ادعاء معنى الحقيقة في الشيء للمبالغة في التشبيه مع طرح ذكر المشبه من البين، نحو لقيت أسدا يعني رجلا شجاعا، ثم إن ذكر المشبه به مع قرينه سمي استعارة تصريحية وتحقيقية كلقيت أسدا في الحمام.
الاستعارة:
[في الانكليزية] Metaphor
[ في الفرنسية] Metaphore

في اللغة: هو أخذ الشيء بالعارية أو عند الفرس: هو إضافة المشبّه به إلى المشبّه، وهذا خلاف اصطلاح أهل العربية. وهو على نوعين:

أحدها: استعارة حقيقية، والثاني: مجازية.
فالاستعارة الحقيقية هي أن يكون المستعار والمستعار منه ثابتين ومعلومين، وهما نوعان:
ترشيح وتجريد. فالترشيح هو أن يكون المستعار والمستعار منه ثابتين ومعلومين، وأن تراعى فيها لوازم الجانبين. ومثاله:
يا ملك البلغاء إن تجرّد سيف لسانك نلت وطرك وفتحت العالم فالسيف مستعار واللسان مستعار منه، وقد راعى اللوازم للسيف واللسان. وأمّا التجريد فهو أن يراعي جانبا واحدا من اللوازم وأن يكون أحد الموجودات من الأعيان والثاني من الأعراض. ومثاله: من ذلك السكّر الشفهي الذي هو غير مأكول، نأكل في كل لحظة سمّ الغصة.
فالسكر مستعار والشفه مستعار منه. فهنا راعى جانب السكر، والغصة ليست من الأعيان فتؤكل ولم يراع الغصة.
وأمّا المجاز فهو أن يكون كلّ من المشبّه والمشبّه به من الأعراض، يعني أن يكون محسوسا بأحد الحواسّ الظاهرة أو من المتصوّرة أي محسوسا بالحواس الباطنة. أو يكون أحدها عرضا والثاني متصوّرا. ومثاله: حيثما يوجد أحد في الدنيا سأقتله كي لا يرد كلام العشق على لسان أحد. فالكلام عرض والعشق هو من الأشياء التي تصوّر في الذهن. وكلاهما أي الكلام والعشق من المتصوّرات التي لا وجود مادي لها في الخارج.
واعلم أنّ كلّ ما ذكرناه هاهنا عن الحقيقة والمجاز هو على اصطلاح الفرس، وقد أورده مولانا فخر الدين قواس في كتابه. وهذا أيضا مخالف لأهل العربية. كذا في جامع الصنائع. والاستعارة عند الفقهاء والأصوليين عبارة عن مطلق المجاز بمعنى المرادف له. وفي اصطلاح علماء البيان عبارة عن نوع من المجاز، كذا في كشف البزدوي وچلپي المطول. وذكر الخفاجي في حاشية البيضاوي في تفسير قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ الآية الاستعارة تستعمل بمعنى المجاز مطلقا، وبمعنى مجاز علاقته المشابهة، مفردا كان أو مركّبا، وقد تخصّ بالمفرد منه وتقابل بالتمثيل حينئذ كما في مواضع كثيرة من الكشاف. والتمثيل وإن كان مطلق التشبيه غلب على الاستعارة المركّبة، ولا مشاحّة في الاصطلاح انتهى كلامه. والقول بتخصّص الاستعارة بالمفرد قول الشيخ عبد القاهر وجار الله. وأمّا على مذهب السكّاكي فالاستعارة تشتمل التمثيل ويقال للتمثيل استعارة تمثيلية، كذا ذكر مولانا عصام الدين في حاشية البيضاوي. وسيأتي في لفظ المجاز ما يتعلّق بذلك.

قال أهل البيان: المجاز إن كانت العلاقة فيه غير المشابهة فمجاز مرسل وإلّا فاستعارة.
فالاستعارة على هذا هو اللفظ المستعمل فيما شبّه بمعناه الأصلي أي الحقيقي، ولما سبق في تعريف الحقيقة اللغوية أن استعمال اللفظ لا يكون إلّا بإرادة المعنى منه، فإذا أطلق نحو المشفر على شفة الإنسان وأريد تشبيهها بمشفر الإبل في الغلظ فهو استعارة، وإن أريد أنّه إطلاق المقيّد على المطلق كإطلاق المرسن على الأنف من غير قصد إلى التشبيه فمجاز مرسل، فاللفظ الواحد بالنسبة إلى المعنى الواحد يجوز أن يكون استعارة وأن يكون مجازا مرسلا باعتبارين، ولا يخفى أنك إذا قلت: رأيت مشفر زيد، وقصدت الاستعارة، وليس مشفره غليظا، فهو حكم كاذب، بخلاف ما إذا كان مجازا مرسلا. وكثيرا ما يطلق الاستعارة على فعل المتكلّم أعني استعمال اسم المشبّه به في المشبّه. والمراد بالاسم ما يقابل المسمّى أعني اللفظ لا ما يقابل الفعل والحرف. فالاستعارة تكون بمعنى المصدر فيصحّ منه الاشتقاق، فالمتكلّم مستعير واللفظ المشبّه به مستعار، والمعنى المشبّه به مستعار منه، والمعنى المشبّه مستعار له، هكذا في الأطول وأكثر كتب هذا الفن.
وزاد صاحب كشف البزدوي ما يقع به الاستعارة وهو الاتصال بين المحلّين لكن في الاتقان أركان الاستعارة ثلاثة: مستعار وهو اللفظ المشبّه به، ومستعار منه وهو اللفظ المشبّه، ومستعار له وهو المعنى الجامع. وفي بعض الرسائل المستعار منه في الاستعارة بالكناية هو المشبّه على مذهب السكاكي انتهى.
ثم قال صاحب الاتقان بعد تعريف الاستعارة بما سبق، قال بعضهم: حقيقة الاستعارة أن تستعار الكلمة من شيء معروف بها إلى شيء لم يعرف بها، وحكمة ذلك إظهار الخفي وإيضاح الظاهر الذي ليس بجليّ، أو حصول المبالغة أو المجموع. مثال إظهار الخفي: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ فإنّ حقيقته وإنّه في أصل الكتاب فاستعير لفظ الأم للأصل لأن الأولاد تنشأ من الأم كما تنشأ الفروع من الأصول، وحكمة ذلك تمثيل ما ليس بمرئي حتى يصير مرئيا فينتقل السامع من حدّ السّماع إلى حدّ العيان، وذلك أبلغ في البيان. ومثال إيضاح ما ليس بجليّ ليصير جليّا: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِ فإن المراد منه أمر الولد بالذلّ لوالديه رحمة فاستعير للذّلّ أولا جانب ثم للجانب جناح، أي اخفض جانب الذلّ أي اخفض جانبك ذلّا؛ وحكمة الاستعارة في هذا جعل ما ليس بمرئي مرئيا لأجل حسن البيان.
ولمّا كان المراد خفض جانب الولد للوالدين بحيث لا يبقى الولد من الذلّ لهما والاستكانة متمكنا، احتيج في الاستعارة إلى ما هو أبلغ من الأولى، فاستعير لفظ الجناح لما فيه من المعاني التي لا تحصل من خفض الجانب، لأن من يميل جانبه إلى جهة السّفل أدنى ميل صدق عليه أنّه خفض جانبه، والمراد خفض يلصق الجنب بالأرض ولا يحصل ذلك إلّا بذكر الجناح كالطائر. ومثال المبالغة: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً أي فجّرنا عيون الأرض، ولو عبّر بذلك لم يكن فيه من المبالغة ما في الأول المشعر بأن الأرض كلها صارت عيونا. انتهى.

فائدة:
اختلفوا في الاستعارة أهي مجاز لغوي أو عقلي، فالجمهور على أنها مجاز لغوي لكونها موضوعة للمشبّه به لا للمشبّه ولا لأعمّ منهما.
وقيل إنها مجاز عقلي لا بمعنى إسناد الفعل أو معناه إلى ما هو له بتأوّل، بل بمعنى أنّ التصرّف فيها في أمر عقلي لا لغوي لأنها لم تطلق على المشبّه إلّا بعد ادّعاء دخوله في جنس المشبّه به فكان استعمالها فيما وضعت له، لأن مجرد نقل الاسم لو كان استعارة لكانت الأعلام المنقولة كيزيد ويشكر استعارة، وردّ بأن الادعاء لا يقتضي أن تكون مستعملة فيما وضعت له للعلم الضروري بأن الأسد مثلا موضوع للسبع المخصوص، وفي صورة الاستعارة مستعمل في الرجل الشجاع، وتحقيق ذلك أنّ ادعاء دخوله في جنس المشبّه به مبني على أنه جعل أفراد الأسد بطريق التأويل قسمين: أحدهما المتعارف وهو الذي له غاية الجرأة ونهاية القوّة في مثل تلك الجثة وتلك الأنياب والمخالب إلى غير ذلك. والثاني غير المتعارف وهو الذي له تلك الجرأة وتلك القوة، لكن لا في تلك الجثة والهيكل المخصوص، ولفظ الأسد إنما هو موضوع للمتعارف، فاستعماله في غير المتعارف استعمال في غير ما وضع له، كذا في المطول.

وقال صاحب الأطول: ويمكن أن يقال: إذا قلت: رأيت أسدا وحكمت برؤية رجل شجاع يمكن فيه طريقان: أحدهما أن يجعل الأسد مستعارا لمفهوم الرجل الشجاع، والثاني أن يستعمل فيما وضع له الأسد ويجعل مفهوم الأسد آلة لملاحظة الرجل الشجاع، ويعتبر تجوّزا عقليا في التركيب الــتقييدي الحاصل من جعل مفهوم الأسد عنوانا للرجل الشجاع، فيكون التركيب بين الرجل الشجاع ومفهوم الأسد مبنيا على التجوّز العقلي، فلا يكون هناك مجاز لغوي. ألا ترى أنه لا تجوّز لغة في قولنا: لي نهار صائم فقد حقّ القول بأنه مجاز عقلي ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

فائدة:
الاستعارة تفارق الكذب بوجهين: بالبناء على التأويل، وبنصب القرينة على إرادة خلاف الظاهر.
التقسيم
للاستعارة تقسيمات باعتبارات: الأول باعتبار الطرفين أي المستعار منه والمستعار له إلى وفاقية وعنادية، لأن اجتماع الطرفين في شيء إمّا ممكن وتسمّى وفاقية لما بين الطرفين من الموافقة نحو أحييناه في قوله تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ أي ضالّا فهديناه، استعار الإحياء من معناه الحقيقي وهو جعل الشيء حيّا للهداية التي هي الدلالة على طريق يوصل إلى المطلوب؛ والإحياء والهداية مما يمكن اجتماعهما في شيء. وإمّا ممتنع وتسمّى عنادية لتعاند الطرفين كاستعارة الميّت في الآية للضالّ إذ لا يجتمع الموت مع الضلال. ومنها أي من العنادية التهكّمية والتمليحية، وهما الاستعارة التي استعملت في ضدّ معناها الحقيقي أو نقيضه تنزيلا للتضادّ والتناقض منزلة التناسب بواسطة تمليح أو تهكّم نحو: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي أنذرهم، استعيرت البشارة التي هي الإخبار بما يظهر سرورا في المخبر به للإنذار الذي هو ضدّها بإدخال الإنذار في جنس البشارة على سبيل التهكّم، وكذا قولك: رأيت أسدا وأنت تريد جبانا على سبيل التمليح والظرافة. والاستهزاء الثاني باعتبار الجامع إلى قسمين لأن الجامع إمّا غير داخل في مفهوم الطرفين كما في استعارة الأسد للرجل الشجاع، فإن الشجاعة خارجة عن مفهوم الطرفين، وإمّا داخل في مفهوم الطرفين نحو قوله عليه السلام:
«خير الناس رجل يمسك بعنان فرسه كلّما سمع هيعة طار إليها، أو رجل في شعفة في غنيمة له يعبد الله حتى يأتيه الموت». الهيعة الصوت المهيب، والشّعفة رأس الجبل. والمعنى خير الناس رجل أخذ بعنان فرسه واستعدّ للجهاد، أو رجل اعتزل الناس وسكن في رأس جبل في غنم له قليل يرعاها ويكتفي بها في أمر معاشه ويعبد الله حتى يأتيه الموت. استعار الطّيران للعدو والجامع وهو قطع المسافة بسرعة داخل في مفهومهما. وأيضا باعتبار الجامع إمّا عامّية وهي المبتذلة لظهور الجامع فيها نحو: رأيت أسدا يرمي، أو خاصيّة وهي الغريبة أي البعيدة عن العامة. والغرابة قد تحصل في نفس الشّبه كما في قول يزيد بن مسلمة يصف فرسا بأنّه مؤدّب وأنّه إذا نزل عنه صاحبه وألقى عنانه في قربوس سرجه أي مقدّم سرجه وقف على مكانه حتى يعود إليه. قال الشاعر:
واذا احتبى قربوسه بعنانه علك الشكيم إلى انصراف الزائر علك أي مضغ والشكيم اللّجام، وأراد بالزائر نفسه، فاستعار الاحتباء وهو أن يجمع الرجل ظهره وساقيه بثوب أو غيره لوقوع العنان في قربوس السّرج، فصارت الاستعارة غريبة لغرابة التشبيه. وقد تحصل الغرابة بتصرّف في العامّية نحو قوله:
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناق المطيّ الأباطح والأباطح جمع أبطح وهو مسيل الماء فيه دقاق الحصى، أي أخذت المطايا في سرعة المضي. استعار سيلان السيول الواقعة في الأباطح لسير الإبل سيرا سريعا في غاية السرعة المشتملة على لين وسلاسة، والتشبيه فيها ظاهر عامي، وهو السرعة لكن قد تصرف فيه بما أفاده اللطف والغرابة، إذ أسند سالت إلى الأباطح دون المطيّ وأعناقها حتى أفاد أنه امتلأت الأباطح من الإبل، وأدخل الأعناق في السير حيث جعلت الأباطح سائلة مع الأعناق، فجعل الأعناق سائرة إشارة إلى أنّ سرعة سير الإبل وبطؤه إنما يظهران غالبا في الأعناق.
الثالث باعتبار الثلاثة، أي المستعار منه والمستعار له والجامع إلى خمسة أقسام:
الأول استعارة محسوس لمحسوس بوجه محسوس نحو: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً فالمستعار منه هو النار، والمستعار له هو الشيب، والوجه أي الجامع هو الانبساط الذي هو في النار أقوى، والجميع حسّي، والقرينة هو الاشتعال الذي هو من خواص النار، وهو أبلغ مما لو قيل: اشتعل شيب الرأس لإفادته عموم الشيب لجميع الرأس.
والثاني استعارة محسوس لمحسوس بوجه عقلي، نحو: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فالمستعار منه السّلخ الذي هو كشط الجلد عن نحو الشاة، والمستعار له كشف الضوء عن مكان الليل وهما حسّيان، والجامع ما يعقل من ترتّب أمر على آخر، كترتّب ظهور اللحم على الكسط وترتّب ظهور الظلمة على كشف الضوء عن مكان الليل، والترتّب أمر عقلي؛ قال ابن أبي الإصبع: هي ألطف من الأولى.
والثالث استعارة معقول لمعقول بوجه عقلي؛ قال ابن ابي الإصبع: هي ألطف الاستعارات نحو: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا فإن المستعار منه الرقاد أي النوم والمستعار له الموت والجامع عدم ظهور الفعل، والكلّ عقلي.
الرابع استعارة محسوس لمعقول بوجه عقلي نحو: مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ استعير المسّ وهو صفة في الأجسام وهو محسوس لمقاساة الشّدّة، والجامع اللحوق، وهما عقليان.
الخامس استعارة معقول لمحسوس والجامع عقلي نحو: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ المستعار منه التكبّر وهو عقلي والمستعار له كثرة الماء وهو حسّي، والجامع الاستعلاء وهو عقلي أيضا. هذا هو الموافق لما ذكره السكاكي، وزاد الخطيب قسما سادسا وهو استعارة محسوس لمحسوس والجامع مختلف بعضه حسّي وبعضه عقلي، كقولك رأيت شمسا وأنت تريد إنسانا كالشمس في حسن الطلعة ونباهة الشأن، فحسن الطلعة حسّي ونباهة الشأن عقلية ومعنى الحسّي والعقلي قد مرّ في التشبيه الرابع باعتبار اللفظ إلى قسمين لأن اللفظ المستعار إن كان اسم جنس فاستعارة أصلية كأسد وقتل للشجاع والضرب الشديد، وإلّا فاستعارة تبعية كالفعل والمشتقّات وسائر الحروف.
والمراد باسم الجنس ما دلّ على نفس الذّات الصالحة لأن تصدق على كثيرين من غير اعتبار وصف من الأوصاف، والمراد بالذات ما يستقلّ بالمفهومية. وقولنا من غير اعتبار وصف أي من غير اعتبار وصف متعلّق بهذا الذات فلا يتوهّم الإشكال بأنّ الفعل وصف وهو ملحوظ فدخل علم الجنس في حدّ اسم الجنس، وخرج العلم الشخصي والصفات وأسماء الزمان والمكان والآلة. ثم المراد باسم الجنس أعمّ من الحقيقي، والحكمي أي المتأوّل باسم الجنس نحو حاتم فإن الاستعارة فيه أصلية، وفيه نظر لأن الحاتم مأوّل بالمتناهي في الجود فيكون متأوّلا بصفة، وقد استعير من مفهوم المتناهي في الجود لمن له كمال جود فيكون ملحقا بالتبعية دون الأصلية. وأجيب بأنّ مفهوم الحاتم وإن تضمّن نوع وصفية لكنه لم يصر به كليّا بل اشتهر ذاته المشخصة بوصف من الأوصاف خارج عن مدلوله كاشتهار الأجناس بأوصافها الخارجة عن مفهوماتها بخلاف الأسماء المشتقّة فإن المعاني المصدرية المعتبرة فيها داخلة في مفهوماتها الأصلية فلذلك كانت الأعلام المشتهرة بنوع وصفية ملحقة بأسماء الأجناس دون الصفات.
والحاصل أنّ اسم الجنس يدلّ على ذات صالحة للموصوفية مشتهرة بمعنى يصلح أن يكون وجه الشبه، وكذا العلم إذا اشتهر بمعنى، فالاستعارة فيهما أصلية والأفعال والحروف لا تصلح للموصوفية وكذا المشتقات.
وإنما كانت استعارة الفعل وما يشتق منه والحرف تبعية لأنّ الفعل والمشتقات موضوعة بوضعين: وضع المادة والهيئة فإذا كان في استعاراتها لا تتغير معاني الهيئات فلا وجه لاستعارة الهيئة، فالاستعارة فيها إنما هي باعتبار موادّها، فيستعار مصدرها ليستعار موادّها تبعية استعارة المصدر، وكذا إذا استعير الفعل باعتبار الزمان كما يعبر عن المستقبل بالماضي تكون تبعية لتشبيه الضّرب في المستقبل مثلا بالضرب في الماضي في تحقق الوقوع، فيستعار له ضرب، فاستعارة الهيئة ليست بتبعية استعارة المصدر، بل اللفظ بتمامه مستعار بتبعية استعارة الجزء، وكذا الحروف، فإن الاستعارة فيها تجري أولا في متعلق معناها وهو هاهنا ما يعبّر عنها به عند تفسير معانيها، كقولنا: من معناه الابتداء وإلى معناه الانتهاء نحو: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً شبّه ترتّب العداوة والحزن على الالتقاط بترتّب علته الغائية عليه، ثم استعير في المشبه اللّام الموضوعة للمشبّه به فيكون الاستعارة في اللّام تبعا للاستعارة في المجرور.
ثم اعلم أنّ الاستعارة في الفعل على قسمين: أحدهما أن يشبّه الضرب الشديد مثلا بالقتل ويستعار له اسمه ثم يشتق منه قتل بمعنى ضرب ضربا شديدا، والثاني أن يشبّه الضرب في المستقبل بالضرب في الماضي مثلا في تحقق الوقوع فيستعمل فيه ضرب فيكون المعنى المصدري أعني الضرب موجودا في كلّ من المشبّه والمشبّه به، لكنه قيّد في كل واحد منهما بقيد مغاير للآخر فصحّ التشبيه لذلك، كذا أفاده المحقق الشريف. لكن ذكر العلامة عضد الملة والدين في الفوائد الغياثية أنّ الفعل يدلّ على النسبة ويستدعي حدثا وزمانا، والاستعارة متصوّرة في كلّ واحد من الثلاثة، ففي النسبة كهزم الأمير الجند، وفي الزمان كنادى أصحاب الجنّة، وفي الحدث نحو فبشّرهم بعذاب أليم، انتهى؛ وذلك لأن الفعل قد يوضع للنسبة الإنشائية نحو اضرب وهي مشتهرة بصفات تصلح لأن يشبه بها كالوجوب، وقد يوضع للنسبة الإخبارية وهي مشتهرة بالمطابقة واللامطابقة، ويستعار الفعل من أحدهما للآخر كاستعارة رحمه الله لا رحمه، واستعارة فليتبوّأ في قوله عليه السلام «من تبوّأ عليّ الكذب فليتبوّأ مقعده على النار» للنسبة الاستقبالية الخبرية فإنه بمعنى يتبوّأ مقعده من النار، صرّح به في شرح الحديث، وردّه صاحب الأطول بأنّ النسبة جزء معنى الفعل فلا يستعار عنها، بخلاف المصدر فإنه لا يستعار من معناه الفعل بل يستعار من معناه نفس المصدر ويشتق منه الفعل، ولا يمكن مثله في النسبة، فالحقّ عدم جريانها في النسبة كما قاله السيد السّند.

فائدة:
قال الفاضل الچلپي: القوم إنما تعرّضوا للاستعارة التبعية المصرّحة، والظاهر تحقق الاستعارة التبعية المكنيّة كما في قولك: أعجبني الضارب دم زيد، ولعلهم لم يتعرضوا لها لعدم وجدانهم إياها في كلام البلغاء.

فائدة:
لم يقسموا المجاز المرسل إلى الأصلي والتبعي على قياس الاستعارة لكن ربما يشعر بذلك كلامهم. قال في المفتاح: ومن أمثلة المجاز قوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ استعمل قرأت مكان أردت القراءة لكون القراءة مسبّبة من إرادتها استعمالا مجازيا، يعني استعمال المشتقّ بتبعية المشتقّ منه، كذا في شرح بعض رسائل الاستعارة.
الخامس باعتبار المقارنة بما يلائم شيئا من الطرفين وعدمها إلى ثلاثة أقسام: أحدها المطلقة وهي ما لم يقترن بصفة ولا تفريع مما يلائم المستعار له أو المستعار منه، نحو عندي أسد، والمراد بالاقتران بما يلائم الاقتران بما يلائم مما سوى القرينة، وإلّا فالقرينة مما يلائم المستعار له، فلا يوجد استعارة مطلقة، والمراد بالصفة المعنويّة لا النعت النحوي، والمراد بالتفريع ما يكون إيراده فرع الاستعارة سواء ذكر على صورة التفريع وهو تصديره بالفاء أو لا، وثانيها المجرّدة وهي ما قرن بما يلائم المستعار له، وينبغي أن يقيّد ما يلائم المستعار له بأن لا يكون فيه تبعيد الكلام عن الاستعارة وتزييف لدعوى الاتحاد إذ ذكروا أنّ في التجريد كثرة المبالغة في التشبيه كقوله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ فإنّ الإذاقة تجريد اللباس المستعار لشدائد الجوع والخوف بعلاقة العموم لجميع البدن عموم اللباس، ولذا اختاره على طعم الجوع الذي هو أنسب بالإذاقة. وإنما كانت الإذاقة من ملائمات المستعار له مع أنه ليس الجوع والخوف من المطعومات لأنه شاعت الإذاقة في البلايا والشدائد وجرت مجرى الحقيقة في إصابتها، فيقولون ذاق فلان البؤس والضرّ، وأذاقه العذاب، شبّه ما يدرك من أثر الضرّ والألم بما يدرك من طعم المرّ والبشع، واختار التجريد على الترشيح، ولم يقل فكساها الله لباس الجوع والخوف لأن الإدراك بالذوق يستلزم الإدراك باللمس من غير عكس، فكان في الإذاقة إشعار بشدة الإصابة ليست في الكسوة. وثالثها المرشّحة وتسمّى الترشيحية أيضا وهي ما قرن بما يلائم المستعار منه نحو:
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ فإنه استعار الاشتراء للاستبدال والاختيار، ثم فرّع عليها ما يلائم الاشتراء من فوت الرّبح واعتبار التجارة. ثم أنهم لم يلتفتوا إلى ما يقرن بما يلائم المستعار له في الاستعارة بالكناية مع أنه أيضا ترشيح لأنه ليس هناك لفظ يسمّى استعارة، بل تشبيه محض، وكلامهم في الاستعارة المرشّحة التي هي قسم من المجاز لا في ترشيح يشتمل ترشيح الاستعارة والتشبيه المضمر في النفس. وأما عدم التفات السكّاكي فيوهم ما ليس عنده وهو أنّ المرشّحة من أقسام الاستعارة المصرّحة، إذ التحقيق أنّ الاستعارة بالكناية إذا زيد فيها على المكنيّة ما يلائمها تصير مرشّحة عنده، كذا في الاطول.

فائدة:
قال أبو القاسم: تقسيمهم الاستعارة المصرّحة إلى المجردة والمرشحة يشعر بأنّ الترشيح والتجريد إنما يجريان في الاستعارة المصرّح بها دون المكنيّ عنها، والصواب أنّ ما زاد في المكنية على قرينتها أعني إثبات لازم واحد يعدّ ترشيحا لها؛ ثم التجريد والترشيح إنما يكونا بعد تمام الاستعارة، فلا يعدّ قرينة المصرح بها تجريدا ولا قرينة المكني عنها ترشيحا، انتهى.

فائدة:
قال صاحب الأطول: إذا اجتمع ملائمان للمستعار له فهل يتعيّن أحد للقرينة أو الاختيار إلى السامع يجعل أيهما شاء قرينة والآخر تجريدا؟ قال بعض الأفاضل: ما هو أقوى دلالة على الإرادة للقرينة والآخر للتجريد. ونحن نقول أيهما سبق في الدلالة على المراد قرينة والآخر تجريد، كيف لا والقرينة ما نصب للدّلالة على المراد، وقد سبق أحد الأمرين في الدلالة، فلا معنى لنصب اللاحق، والاوجه أنّ كلّا من الملائمين المجتمعين إن صلح قرينة فقرينة، ومع ذلك الاستعارة مجرّدة، ولا تقابل بين المجرّدة ومتعددة القرينة، بل كل متعددة القرينة مجرّدة.

فائدة:
قد يجتمع التجريد والترشيح كقول زهير:
لدى أسد شاكي السلاح مقذّف له لبد أظفاره لم تقلّم ووجه اجتماعهما صرف دعوى الاتحاد إلى المشبّه المقارن بالصفة والتفريع والمشبّه به حتى يستدعى الدعوى ثبوت الملائم للمشبه به أيضا.

فائدة:
الترشيح أبلغ من التجريد والإطلاق ومن جمع الترشيح والتجريد لاشتماله على تحقيق المبالغة في ظهور العينية التي هي توجب كمال المبالغة في التشبيه، فيكون أكثر مبالغة وأتمّ مناسبة بالاستعارة، وكذا الإطلاق أبلغ من التجريد. ومبنى الترشيحية على أن المستعار له عين المستعار منه لا شيء شبيه به.

فائدة:
في شرح بعض رسائل الاستعارة الترشيح يجوز أن يكون باقيا على حقيقته تابعا في الذّكر للتعبير عن الشيء بلفظ الاستعارة ولا يقصد به إلّا تقويتها، كأنّه نقل لفظ المشبه به مع رديفه إلى المشبّه، ويجوز أن يكون مستعارا من ملائم المستعار منه لملائم المستعار له، ويكون ترشيح الاستعارة بمجرد أنه عبّر عن ملائم المستعار له بلفظ موضوع لملائم المستعار منه. هذا ولا يخفى أنّ هذا لا يخصّ بكون لفظ ملائم المستعار منه مستعارا، بل يتحقّق الترشيح بذلك التعبير على وجه الاستعارة كان أو على وجه المجاز المرسل، إمّا للملائم المذكور أو للقدر المشترك بين المشبّه والمشبّه به، وأنّه يحتمل مثل ذلك في التجريد أيضا، ويحتمل تلك الوجوه قوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ حيث استعير الحبل للعهد في أن يكون وسيلة لربط شيء لشيء، وذكر الاعتصام وهو التمسك بالحبل ترشيحا إما باقيا على معناه للوثوق بالعهد أو مجازا مرسلا في الوثوق بالعهد، لعلاقة الإطلاق والتقييد فيكون مجازا مرسلا بمرتبتين، أو في الوثوق، كأنه قيل ثقوا بعهد الله، وحينئذ كلّ من الترشيح والاستعارة ترشيح للآخر.
السادس باعتبار أمر آخر إلى أربعة أقسام:
تصريحية ومكنية وتحقيقية وتخييلية. فالتصريحية وتسمّى بالمصرّحة أيضا هي التي ذكر فيها المشبّه به. والمكنية ما يقابلها وتسمّى الاستعارة بالكناية أيضا. اعلم أنه اتفقت كلمة القوم على أنه إذا لم يذكر من أركان تشبيه شيء بشيء سوى المشبّه وذكر معه ما يخصّ المشبّه به كان هناك استعارة بالكناية واستعارة تخييلية، كقولنا:
أظفار المنيّة أي الموت نشبت بفلان، لكن اضطربت أقوالهم في تشخيص المعنيين اللذين يطلق عليهما هذان اللفظان. ومحصّل ذلك يرجع إلى ثلاثة أقوال: أحدها ما ذهب إليه القدماء وهو أنّ المستعار بالكناية لفظ المشبه به المستعار للمشبه في النفس المرموز إليه بذكر لازمه من غير تقدير في نظم الكلام، وذكر اللازم قرينة على قصده من غرض وإثبات ذلك اللازم للمشبّه استعارة تخييلية. ففي المثال المذكور الاستعارة بالكناية السبع المستعار للمنيّة الذي لم يذكر اعتمادا على أنّ إضافة الأظفار إلى المنيّة تدل على أن السبع مستعار لها.
والاستعارة التخييلية إثبات الأظفار للمنية، فحينئذ وجه تسميتها بالمكنية وبالاستعارة بالكناية ظاهر لأنها استعارة بالمعنى المصطلح ومتلبسة بالكناية بالمعنى اللغوي، أي الخفاء، وكذا تسميتها بالتخييلية لاستلزامها استعارة لازم المشبه به للمشبّه، وتخييل أنّ المشبّه من جنس المشبّه به. وثانيها ما ذهب إليه السكّاكي صريحا حيث قال: الاستعارة بالكناية لفظ المشبّه المستعمل في المشبّه به ادعاء أي بادعاء أنه عينه بقرينة استعارة لفظ هو من لوازم المشبّه به بصورة متوهّمة متخيّلة شبيهة به أثبتت للمشبّه، فالمراد بالمنيّة عنده هو السبع بادعاء السبعية لها وإنكار أن تكون شيئا غير السبع بقرينة إضافة الأظفار التي من خواص السبع إليها. ولا خفاء في أن تسميتها بالاستعارة بالكناية أو المكنية غير ظاهر حينئذ، وفي جعله إياها قسما من الاستعارة التي هي قسم من المجاز، وجعل إضافة الأظفار قرينة الاستعارة نظرا لأنّ لفظ المشبه فيها هو المستعمل في ما وضع له تحقيقا، والاستعارة ليست كذلك. واختار السكّاكي ردّ التبعية إلى المكني عنها بجعل قرينتها استعارة بالكناية وجعلها أي التبعية قرينة لها، على عكس ما ذكره القوم في مثل نطقت الحال من أنّ نطقت استعارة لدلّت والحال قرينة لها. هذا ولكن في كون ذلك مختار السكاكي نظرا لأنه قال في آخر بحث الاستعارة التبعية:
هذا ما أمكن من تلخيص كلام الأصحاب في هذا الفصل، ولو أنهم جعلوا قسم الاستعارة التبعية من قسم الاستعارة بالكناية بأن قلبوا، فجعلوا في قولهم نطقت الحال هكذا الحال التي ذكرها عندهم قرينة الاستعارة بالتصريح استعارة بالكناية عن المتكلّم بواسطة المبالغة في التشبيه على مقتضى المقام، وجعلوا نسبة النطق إليه قرينة الاستعارة، كما تراهم في قولهم: وإذا المنيّة انشبت أظفارها، يجعلون المنيّة استعارة بالكناية عن السبع ويجعلون إثبات الأظفار لها قرينة الاستعارة لكان أقرب إلى الضبط فتدبر، انتهى كلامه. وهو صريح في أنه ردّ التبعية إلى المكْنية على قاعدة القوم، فحينئذ لا حاجة له إلى استعارة قرينة المكنية لشيء حتى تبقى التبعية مع ذلك بحالها، ولا يتقلّل الأقسام بهذا أيضا.
فإن قلت لم يجعل السلف المكنية المشبّه المستعمل في المشبّه به كما اعتبره في هذا الرّدّ، فكيف يتأتى لك توجيه كلامه بأنّ ردّه على قاعدة السلف من غير أن يكون مختارا له؟

قلت: لا شبهة فيما ذكرنا والعهدة عليه في قوله، كما تراهم في قولهم: وإذا المنية أنشبت أظفارها، يجعلون المنية استعارة بالكناية، ولا يضرّنا فيما ذكرنا من توجيه كلامه.
وأما التخييلية عند السكاكي فما سيأتي.
وثالثها ما ذهب إليه الخطيب وهي التشبيه المضمر في النفس الذي لم يذكر شيء من أركانه سوى المشبّه ودل عليه أي على ذلك التشبيه بأن يثبت للمشبه أمر مختصّ بالمشبه به من غير أن يكون هناك أمر متحقق حسّا وعقلا يجري عليه اسم ذلك الأمر، ويسمّى إثبات ذلك الأمر استعارة تخييلية، والمراد بالتشبيه التشبيه اللغوي لا الاصطلاحي، فلا يردّ أن ذكر المشبّه به واجب البتة في التشبيه، وإنما قيل: ودلّ عليه الخ ليشتمل زيدا في جواب من يشبه الأسد؛ وعلى هذا التسمية بالاستعارة غير ظاهر وإن كان كونها كناية غير مخفي. وبالجملة ففي المكنية ثلاثة أقوال، وفي التخييلية قولان: أحدهما قول السكاكي كما يجيء، والآخر قول غيره. وعلى هذا المذهب الثالث كلّ من لفظي الأظفار والمنيّة في المثال المذكور حقيقتان مستعملتان في المعنى الموضوع له، وليس في الكلام مجاز لغوي، وإنما المجاز هو إثبات شيء لشيء ليس هو له، وعلى هذا هو عقلي كإثبات الإنبات للربيع. والاستعارة بالكناية والتخييلية أمران معنويان، وهما فعلا المتكلم، ويتلازمان في الكلام لأن التخييلية يجب أن تكون قرينة للمكنية البتة، وهي يجب أن تكون قرينة للتخيلية البتة.

فائدة:
قال صاحب الأطول: ومن غرائب السوانح وعجائب اللوائح أن الاستعارة بالكناية فيما بين الاستعارات معلومة مبنية على التشبيه المقلوب لكمال المبالغة في التشبيه، فهو أبلغ من المصرّحة، فكما أنّ قولنا السبع كالمنيّة تشبيه مقلوب يعود الغرض منه إلى المشبّه به، كذلك أنشبت المنية أظفارها استعارة مقلوبة استعير بعد تشبيه السبع بالمنية المنية للسبع الادعائي، وأريد بالمنية معناها بعد جعلها سبعا تنبيها على أنّ المنيّة بلغت في الاغتيال مرتبة ينبغي أن يستعار للسبع عنها اسمها دون العكس، فالمنية وضعت موضع السبع، لكن هذا على ما جرى عليه السكاكي.
والتحقيقية هي ما يكون المشبّه متحققا حسّا أو عقلا نحو: رأيت أسدا يرمي، فإنّ الأسد مستعار للرجل الشجاع وهو أمر متحقق حسّا، ونحو: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أي الدين الحقّ وهو أمر متحقق عقلا لا حسّا. أما التخييلية فعند غير السكّاكي ما مرّ، وأما عند السكّاكي فهي استعارة لا تحقّق لمعناها حسّا ولا عقلا، بل معناها صورة وهمية محضة.
ولما كان عدم تحقّق المعنى لا حسّا ولا عقلا شاملا لما لم يتعلّق به توهّم أيضا أضرب عنه بقوله بل معناها إلخ، والمراد بالصورة ذو الصورة فإن الصورة جاءت بهذا المعنى أيضا.
والمراد بالوهمية ما يخترعه المتخيلة بأعمال الوهم إياه فإن للإنسان قوة لها تركيب المتفرّقات وتفريق المركّبات إذا استعملها العقل تسمّى مفكرة وإذا استعملها الوهم تسمّى متخيّلة. ولما كان حصول هذا المعنى المستعار له بأعمال الوهم سمّيت استعارة تخييلية، ومن لم يعرفه قال المناسب حينئذ أن تسمّى توهمية، وعدّ التسمية بتخييلية من أمارات تعسّف السكّاكي وتفسيره، وإنما وصف الوهمية بقوله محضة أي لا يشوبها شيء من التحقق الحسّي والعقليّ للفرق بينه وبين اعتبار السلف، فإن أظفار المنية عندهم أمر متحقق شابه توهّم الثبوت للمنية، وهناك اختلاط توهّم وتحقق بخلاف ما اعتبره فإنه أمر وهميّ محض لا تحقّق له لا باعتبار ذاته ولا باعتبار ثبوته، فتعريفه هذا صادق على لفظ مستعمل في صورة وهمية محضة من غير أن تجعل قرينة الاستعارة، بخلاف تفسير السلف والخطيب فإنها لا تنفك عندهم عن الاستعارة بالكناية. وقد صرّح به حيث مثّل للتخييلية بأظفار المنية الشبيهة بالسبع أهلكت فلانا، والسلف والخطيب إمّا أن ينكروا المثال ويجعلوه مصنوعا أو يجعلوا الأظفار ترشيحا لتشبيه لا استعارة تخييلية. وردّ ما ذكره بأنه يقتضي أن يكون الترشيح استعارة تخييلية للزوم مثل ما ذكره فيه مع أنّ الترشيح ليس من المجاز والاستعارة، وأجيب بأن الأمر الذي هو من خواصّ المشبّه به لمّا قرن في التخييلية بالمشبّه كالمنيّة مثلا حملناه على المجاز وجعلناه عبارة عن أمر متوهّم يمكن إثباته للمشبّه، وفي الترشيح لمّا قرن بلفظ المشبّه به لم يحتج إلى ذلك لأنه جعل المشبّه به هو هذا المعنى مع لوازمه. فإذا قلنا: رأيت أسدا يفترس أقرانه ورأيت بحرا يتلاطم أمواجه، فالمشبه به هو الأسد الموصوف بالافتراس الحقيقي والبحر الموصوف بالتلاطم الحقيقي، بخلاف أظفار المنيّة فإنها مجاز عن الصورة الوهمية ليصحّ إضافتها إلى الوهمية ليصح إضافتها إلى المنيّة.
ومحصّله أنّ حفظ ظاهر إثبات لوازم المشبه به للمشبه يدعو إلى جعل الدالّ على اللازم استعارة لما يصحّ إثباته للمشبّه ولا يحتاج إلى تجوّز في ذلك الإثبات، وليس هذا الداعي في الترشيح لأنه أثبت للمشبّه به فلا وجه لجعله مجازا، ولا يلزم عدم خروج الترشيح عن الاستعارة وعدم زيادته عليها لأنه فرّق بين المقيد والمجموع والمشبّه به هو الموصوف والصفة خارجة عنه لا المجموع المركب منهما، وأيضا معنى زيادته أن الاستعارة تامة بدونه.
ويردّ على هذا أنّ الترشيح كما يكون في المصرّحة يكون في المكنية أيضا ففي المكنية لم يقرن المشبّه به فلا تفرقة هناك، ويمكن أن يفرّق بأن التخييلية لو حملت على حقيقتها لا يثبت الحكم المقصود في الكلام للمكني عنها كما عرفت بخلاف المصرّحة فإن قولنا جاءني أسد له لبد، لو أثبت فيه اللبد الحقيقي للأسد المستعمل في الرجل الشجاع مجازا لم يمنع عن إثبات المجيء للأسد، فإن مآله جاءني رجل شجاع لما شبّهه به لبد، لكنه لا يتم في قوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً فإنه لو أريد الأمر بالاعتصام الحقيقي لفات ما قصد بيانه للعهد، فلا بدّ من جعل الاعتصام استعارة لما يثبت العهد.

فائدة:
التصريحية تعمّ التحقيقية والتخييلية، والكلّ مجاز لغوي ومتباين، هذا عند السكّاكي.
والمكنية داخلة في التحقيقية عند السلف لأنّ اللفظ المستعار المضمر في النفس وهو محقق المعنى. والتصريحية عند الخطيب ترادف التحقيقية وتباين التخييلية لأنها عنده ليست لفظا، فلا تكون محقق المعنى، وكذا تباين المكنية لأنها عنده نفس التشبيه المضمر في النفس فلا تكون محقق المعنى.

فائدة:
في تحقيق قرينة الاستعارة بالكناية ذهب السلف سوى صاحب الكشاف إلى أنّ الأمر الذي أثبت للمشبه من خواصّ المشبه به مستعمل في معناه الحقيقي، وإنما المجاز في الإثبات ويحكمون بعدم انفكاك المكني عنده عنها، وإليه ذهب الخطيب أيضا، وجوّز صاحب الكشاف كون قرينتها استعارة تحقيقية وكذا السكاكي، ووجه الفرق بين ما يجعل قرينة للمكنية ويجعل نفسه تخييلا أو استعارة تحقيقية أو إثباته تخييلا وبين ما يجعل زائدا عليها وترشيحا قوّة الاختصاص بالمشبه به، فأيّهما أقوى اختصاصا وتعلّقا به فهو القرينة وما سواه ترشيح، وكذا الحال بين القرينة والترشيح في الاستعارة المصرّحة، والأظهر أنّ ما يحضر السامع أولا فهو القرينة وما سواه ترشيح، ذلك أن تجعل الجميع قرينة في مقام شدة الاهتمام بالإيضاح، هكذا في شرح بعض رسائل الاستعارة.

فائدة:
في الإتقان أنكر قوم الاستعارة بناء على إنكارهم المجاز، وقوم إطلاقها في القرآن لأن فيها إيهاما للحاجة، ولأنه لم يرد في ذلك إذن الشارع، وعليه القاضي عبد الوهاب المالكي، انتهى. خاتمة
إذا جرى في الكلام لفظة ذات قرينة دالّة على تشبيه شيء بمعناه فهو على وجهين:
أحدهما أن لا يكون المشبّه مذكورا ولا مقدّرا كقولك: لقيت في الحمام أسدا أي رجلا شجاعا، ولا خلاف في أنّ هذا استعارة لا تشبيه. وثانيهما أن يكون المشبّه مذكورا أو مقدّرا وحينئذ فاسم المشبّه به إن كان خبرا عن المشبّه أو في حكم الخبر كخبر باب كان وإنّ والمفعول الثاني لباب علمت والحال والنعت، فالأصح أنه يسمّى تشبيها لا استعارة، لأن اسم المشبّه به إذا وقع هذه المواقع كان الكلام مصوغا لإثبات معناه لما أجري عليه أو نفيه عنه، فإذا قلت زيد أسد فصوغ الكلام لاثبات الأسدية لزيد وهو ممتنع حقيقة، فيحمل على أنه لإثبات شبه من الأسد له، فيكون الإتيان بالأسد لإثبات التشبيه فيكون خليقا بأن يسمّى تشبيها لأن المشبه به إنما جيء به لإفادة التشبيه بخلاف نحو لقيت أسدا، فإنّ الإتيان بالمشبه به ليس لإثبات معناه لشيء بل صوغ الكلام لإثبات الفعل واقعا على الأسد، فلا يكون لإثبات التشبيه، فيكون قصد التشبيه مكنونا في الضمير لا يعرف إلّا بعد نظر وتأمّل.
هذا خلاصة كلام الشيخ في أسرار البلاغة، وعليه جميع المحققين. ومن الناس من ذهب إلى أن الثاني أيضا أعني زيد أسد استعارة لإجرائه على المشبّه مع حذف كلمة التشبيه، والخلاف لفظي مبني على جعل الاستعارة اسما لذكر المشبّه به مع خلوّ الكلام عن المشبّه على وجه ينبئ عن التشبيه أو اسما لذكر المشبّه به لإجرائه على المشبّه مع حذف كلمة التشبيه.
ثم إنه نقل عن أسرار البلاغة أنّ إطلاق الاستعارة في زيد الأسد لا يحسن لأنه يحسن دخول أدوات التشبيه من تغيير بصورة الكلام، فيقال: زيد كالأسد، بخلاف ما إذا كان المشبّه به نكرة نحو زيد أسد، فإنه لا يحسن زيد كأسد، وإلّا لكان من قبيل قياس حال زيد إلى المجهول وهو أسد ما؛ ولهذا يحسن كأنّ زيدا أسد لأن المراد بالخبر العموم فالتشبيه بالنوع لا بفرد، فليس كالتشبيه بالمجهول، وإنما يحسن دخول الكاف بتغيير صورته وجعله معرفة بأن يقال زيد كالأسد، فإطلاق اسم الاستعارة هاهنا لا يبعد، ويقرب الإطلاق مزيد قرب أن يكون النكرة موصوفة بصفة لا تلائم المشبه به نحو فلان بدر يسكن الأرض فإن تقدير أداة التشبيه فيه يحتاج إلى كثرة التغيير، كأن يقال هو كالبدر إلّا أنه يسكن الأرض، وقد يكون في الصلات والصفات التي تجيء في هذا القبيل ما يحول تقدير أداة التشبيه فيه فيشتد استحقاقه لاسم الاستعارة ويزيد قربه منها، كقوله أسد دم الأسد الهزبر خضابه، فإنه لا سبيل إلى أن يقال المعنى إنه كالأسد للتناقض لأن تشبيه بجنس السبع المعروف دليل على أنه دونه أو مثله، وجعل دم الهزبر الذي هو أقوى الجنس خضاب يده دليل على أنه فوقه فليس الكلام مصوغا لإثبات التشبيه بينهما، بل لإثبات تلك الصفة، فالكلام فيه مبني على أنّ كون الممدوح أسدا أمر تقرّر وثبت، وإنما العمل في إثبات الصفة الغريبة. فمحصول هذا النوع من الكلام أنك تدعي حدوث شيء هو من الجنس المذكور إلّا أنه اختص بصفة عجيبة لم يتوهّم جوازها، فلم يكن لتقدير التشبيه فيه معنى. ولقد ضعّف هذا الكلام صاحب الأطول والمطول وقالا الحقّ أن امثال زيد أسد تشبيه مطلقا، هذا إذا كان اسم المشبّه به خبرا عن اسم المشبّه أو في حكم الخبر وإن لم يكن كذلك نحو لقيت من زيد أسدا ولقيني منه أسد فلا يسمّى استعارة بالاتفاق، لأنه لم يجر اسم المشبه به على المشبه لا باستعماله فيه كما في لقيت أسدا ولا بإثبات معناه له كما في زيد أسد على اختلاف المذهبين، ولا يسمّى تشبيها أيضا لأن الإتيان باسم المشبّه به ليس لإثبات التشبيه إذ لم يقصد الدلالة على المشاركة، وإنما التشبيه مكنون في الضمير، لا يظهر إلّا بعد تأمّل خلافا للسكّاكي فإنه يسمّي مثل ذلك تشبيها، وهذا النزاع أيضا لفظي راجع إلى تفسير التشبيه؛ فمن أطلق الدلالة المذكورة في تعريف التشبيه عن كونها لا على وجه التجريد والاستعارة وعن كونها على وجه التصريح سمّاه تشبيها، ومن قيّده لا. قال صاحب الأطول ونحن نقول في لقيت من زيد أسدا تجريد أسد من زيد بجعل زيد أسدا وهذا الجعل يتضمّن تشبيه زيد بالأسد حتى صار أسدا بالغا غاية الجنس حتى تجرّد عنه أسد، لكن هذا التشبيه مكنون في الضمير خفيّ لأن دعوى أسديته مفروغ عنها منزلة منزلة أمر متقرّر لا يشوبه شائبة خفاء، ولا يجعل السكّاكي هذا من التشبيه المصطلح، وكذلك يتضمّن التشبيه تجريد الأسد الحقيقي عنه إذ لا يخفى أن المجرد عنه لا يكون إلّا شبه أسد، فينصرف الكلام إلى تجريد الشّبه فهو في إفادة التشبيه بحكم ردّ العقل إلى التشبيه بمنزلة حمل الأسد على المشبّه فهو الذي سمّاه السكّاكي تشبيها، ولا ينبغي أن ينازع فيه معه؛ وكيف لا وهو أيضا في تقدير المشبّه والأداة كأنه قيل لقيت من زيد رجلا كالأسد، ولا تفاوت في ذلك بينه وبين زيد أسد، انتهى. وهاهنا أبحاث تركناها خوفا من الإطناب.
Learn Quranic Arabic from scratch with our innovative book! (written by the creator of this website)
Available in both paperback and Kindle formats.