Current Dictionary: All Dictionaries

Search results for: احتياج

علم معرفة كيفية تحمل القرآن

علم معرفة كيفية تحمل القرآن
اعلم أن حفظ القرآن فرض كفاية على الأمة لئلا ينقطع عدد التواتر فيه وتعليمه أيضا فرض كفاية وهو من أفضل القرب وأوجه التحمل في القرآن السماع من لفظ الشيخ والقراءة عليه والسماع عليه بقراءة غيره والقراءة على الشيخ هي المسئلة سلفا وخلفا وأما السماع منه فلم يأخذ به أحد من القراء لــاحتياجــهم إلى التمرن في الأداء واكتفاء الصحابة بالسماع فلنزول القرآن على لغتهم وعدم احتياجــهم إلى التمرن لفصاحتهم.

علم الأحاجي والأغلوطات

علم الأحاجي والأغلوطات من فروع اللغة والصرف والنحو
والأحاجي جمع أحجية كالأضحية كلمة مخالفة المعنى.
وهو علم يبحث فيه عن الألفاظ المخالفة لقواعد العربية بحسب الظاهر وتطبيقها عليها إذ لا يتيسر إدراجها فيها بمجرد القواعد المشهورة.
وموضوعه الألفاظ المذكورة من الحيثية المذكورة.
ومباديه مأخوذة من العلوم العربية.
وغرضه تحصيل ملكة تطبيق الألفاظ التي تتراءى بحسب الظاهر مخالفة لقواعد العرب.
وغايته: حفظ القواعد العربية عن تطرق الاختلال.
والــاحتياج إلى هذا العلم: من حيث أن ألفاظ العرب قد يوجد فيها ما يخالف قواعد العلوم العربية بحسب الظاهر بحيث لا يتيسر إدراجه فيها بمجرد معرفة تلك القواعد فاحتيج إلى هذا الفن.
وللزمخشري المتوفى سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة تأليف لطيف في هذا الفن سماه الحاجات.
وللشيخ علم الدين علي بن محمد السخاوي الدمشقي المتوفى سنة ثلاث وأربعين وستمائة شرح هذا المتن الدقيق التزم فيه أن يعقب كل أحجية في الزمخشري بلغزين من نظمه.
وأبو المعالي سعد بن علي الوراق الحطيري المتوفى سنة ثمان وستين وخمسمائة صنف فيه أيضا والسادسة والثلاثون التي تعرف بالملطية من المقامات الحريرية في هذا المعنى فمنها للمثال: يا من سما بذكاء. في الفضل وأرى الزناد. ماذا يماثل قولي. جوع أمد بزاد. يا ذا الذي فاق فضلا. ولم يدنسه شين. ما مثل قول الحاجي. ظهر أصابته عين.
فطريق معرفة المماثلة فيه: أن تنظر جوع أمد بزاد فتقابله بطوامير لأن طوى مثل الجوع في المعنى ومير مثل أمد بزاد لأن مير الإمداد بالزاد وكذا تقابل ظهر أصابته عين بقولك: مطاعين فتجد المطا الظهر وعين الرجل أصيب بالعين.
فإذا تركت الألفاظ بغير تقسيم يظهر لك معنى آخر وهو أن الطوامير الكتب والواحد طومار والمطاعين جمع مطعان وهو كثير الطعن وعليه فقس.

الإله

الإله
التحقيق اللغوي
مادة كلمة (الإله) : الهمزة واللام والهاء، وقد جاء في معاجم اللغة من هذه المادة ما يأتي بيانه فيما يلي: (1)
[ألهتُ إلى فلان] : سكنت إليه
[ألهَ الرجل يأله] إذا فرغ من أمرٍ نزل به فألهه أي أجاره
[ألِه الرجلُ إلى الرجل] : اتجه إليه لشدة شوقه إليه.
[اله الفصيل] إذا ولع بأمّه
[أله الإهة والُوهَة] عبد.
وقيل (الإله) مشتق من (لاه يليه ليهاً] : أي احتجب ويتبين من التأمل في هذه المعاني المناسبة التي جعلت "اله ياله إلهة" تستعمل بمعنى العبادة – (أي التأله) – (الاله) بمعنى المعبود:
1- أن أول ما ينشأ في ذهن الإنسان من الحافز على العبادة والتأله يكون ما أتاه احتياج المرء وافتقاره. وما كان الإنسان ليخطر بباله أن يعبد أحداً ما لم يظن فيه أنه قادر على أن يسد خلته، وأن ينصره على النوائب ويؤويه عند الآفات، وعلى أن يسكن من روعه في حال القلق والاضطراب.
2- وكذلك أن اعتقاد المرء أن أحداً ما قاض للحاجات ومجيب للدعوات، لستلزم أن يعده أعلى منه منزلة وأسمى مكانة، وألا يعترف بعلوه في المنزلة فحسب، بل أن يعترف كذلك بعلوه وغلبته في القوة والأيد.
3- ومن الحق كذلك أن ما تقضى به حاجات المرء غالباً حسب قانون الأسباب والمسببات في هذه الدنيا، ويقع جل عمله في قضاء الحاجات تحت سمع المرء وبصره، وفي حدود لا تخرج من دائرة علمه، لا ينشئ في نفس المرء شيئاً من النزوع إلى عبادته أبداً، خذ لذلك مثلاً أن رجلاً يحتاج إلى مال ينفقه في بعض حاجته، فيأتي رجلاً آخر يطلب منه عملاً أو وظيفة فيجيبه الرجل إلى طلبه ويقلده عملاً، ثم يأجره على عمله، فإن الرجل لا يخطر له ببال أصلاً – فضلاً عن أن يعتقد – أن الرجل يستحق العبادة من قبله، لما علم بل رأى بأمّ عينه كل المنهاج الذي بلغ به غايته وعرف الطريقة التي اتخذها الرجل لقضاء حاجته. فإن تصور العبادة لا يمكن أن يخطر ببال المرء إلا إذا كان شخص المعبود وقوّته من وراء حجاب الغيب، وكانت مقدرته على قضاء الحوائج تحت أستار الخفاء. من ها هنا قد اختيرت للمعبود كلمة تتضمن معاني الاحتجاب والحيرة والوله مع اشتمالها على معنى الرفعة والعلوّ.
4- ورابع الأربعة أنه من الأمور الطبيعية التي لا مندوحة عنها أن يتجه الإنسان في شوق وولع إلى من يظن فيه أنه قادر على أن يقضي حاجته إذا احتاج، وعلى أن يؤويه إذا نابته النوائب، ويهدئ أعصابه عند القلق. فتبين من ذلك كله أن التصورات التي قد أطلقت من أجلها كلمة (الإله) على المعبود هي: قضاء الحاجة والإجارة والتهدئة والتعالي والهيمنة وتملك القوى التي يرجى بها أن يكون المعبود قاضياً للحاجات مجيراً في النوازل وأن يكون متوارياً عن الأنظار يكاد يكون سراً من الأسرار لا يدركه الناس، وأن يفزع إليه الإنسان ويولع به.


تصور الإله عند أهل الجاهلية:
ويجمل بنا بعد هذا البحث اللغوي أن ننظر ماذا كانت تصورّات العرب والأمم القديمة في باب الألوهية التي جاء القرآن بإبطالها.
يقول سبحانه وتعالى
1- (واتخذوا من دون الله آلهةً ليكونوا لهم عزاً) (مريم:81)
(واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم يُنصرون) (يس: 74)
يتبين من هاتين الآيتين الكريمتين أن الذين كان يحسبهم أهل الجاهلية آلهة لأنفسهم كانوا يظنون بهم أنهم أولياؤهم وحماتهم في النوائب والشدائد وأنهم يكونون بمأمن من الخوف والنقض إذا احتموا بجوارهم.
2- (فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لمّا جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب) (هود: 101)
(والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون. أمواتٌ غير أحياءٍ وما يشعرون أيّان يبعثون. إلهكم إلهٌ واحدٌ) (النحل: 20-22)
(ولا تدع مع الله إلهاً آخر، لا إله إلا هو (1)) (القصص: 88)
(وما يتّبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون) (يونس: 66) وتتجلى من هذه الآيات بضعة أمور، أحدها أن الذين كان أهل الجاهلية يتخذونهم آلهة لهم كانوا يدعونهم عند الشدائد ويستغيثون بهم؛ والثاني: أن آلهتهم أولئك لم يكونوا من الجن أو الملائكة أو الأصنام فحسب بل كانوا كذلك أفراداً من البشر قد ماتوا من قبل، كما يدل عليه قوله تعالى: "أمواتٌ غير أحياء وما يشعرون أيان يُبعثون" دلالة واضحة والثالث: أنهم كانوا يزعمون أن آلهتهم هذه يسمعون دعاءهم ويقدرون على نصرهم.
ولابد للقارئ في هذا المقام من أن يكون على ذكر من مفهوم الدعاء، ومن وضعية النصرة التي يرجوها الإنسان من الإله فالمرء إذا كان أصابه العطش مثلاً فدعا خادمه وأمره بإحضار الماء أو إذا أصيب بمرض فدعا الطبيب لمداواته، ولا يصحّ أن يطلق على طلب الرجل للخادم أو للطبيب حكم "الدعاء" وكذلك ليس من معناه أن الرجل قد اتخذ الخادم أو الطبيب إلهاً له. وذلك أن كل ما فعله الرجل جار على قانون العلل والأسباب ولا يخرج عن دائرة حكمه. ولكنه إذا استغاث بولي أو وثن – وقد أجهده العطش أو المرض- بدلاً من أن يدعو الخادم أو الطبيب، فلا شك أنه دعاه لتفريج الكربة واتخذه إلهاً. فإنه دعا ولياً قد ثوى في قبر يبعد عنه بمئات من الأميال، فكأني له يراه سميعاً بصيراً ويزعم أن له نوعاً من السلطة على عالم الأسباب مما يجعله قادراً على ان يقوم بإبلاغه الماء أو شفائه من المرض، وكذلك إذا دعا وثناً في مثل هذه الحال يلتمس منه الماء أو الشفاء، فكأنه يعتقد أن الوثن حكمه نافذ على الماء أو الصحة أو المرض، مما يقدر به أن يتصرف في الأسباب لقضاء حاجته تصرفاً غيبياً خارجاً عن قوانين الطبيعة. وصفوة القول أن التصور الذي لأجله يدعو الإنسان الإله ويستغيثه ويتضرع إليه هو لا جرم تصور كونه مالكاً للسلطة المهيمنة على قوانين الطبيعة وللقوى الخارجة عن دائرة نفوذ قوانين الطبيعة. 3- (ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرَّفنا الآيات لعلهم يرجعون. فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهةً بل ضلّوا عنهم وذلك إفكُهم وما كانوا يفترون) (الأحقاف: 27-28)
(ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون، أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمان بضرٍّ لا تغن عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون) (يس: 22-23)
(والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زُلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون) (الزمر: 3)
(ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) (يونس: 18) فيتجلى من هذه الآيات الكريمة أمور عديدة منها أن أهل الجاهلية ما كانوا يعتقدون في آلهتهم أن الألوهية قد توزعت فيما بينهم، فليس فوقهم إله قاهر، بل كان لديهم تصور واضح لإله قاهر كانوا يعبرون عنه بكلمة (الله) في لغتهم. وكانت عقيدتهم الحقيقة في شأن سائر الآلهة أن لهم شيئاً من التدخل والنفوذ في ألوهية ذلك الإله الأعلى، وأن كلمتهم تُتَلقى عنده بالقبول وأنه يمكن أن تتحقق أمانينا بواسطتهم ونستدر النفع ونتجنب المضار باستشفاعهم. ولمثل هذه الظنون كانوا يتخذونهم أيضاً آلهة مع الله تعالى. ومن هنا يتبين أن الإنسان عن اتخذ أحداً شافعاً له عند الله ثم أصبح يدعوه ويستعين به ويقوم بآداب التبجيل والتعظيم ويقدم له القربات والنذور، فكل ذلك على ما اصطلح عليه أهل الجاهلية اتخاذه إياه إلهاً. (1)
4- (وقال الله: لا تتخذوا إلهين اثنين، إنما هو إله واحدٌ فإياي فارهبون) (النحل: 51)
(ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئاً) (الأنعام: 80)
(إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) (هود: 54) ويتضح من هذه الآيات الحكيمة، أن أهل الجاهلية كانوا يخافون من قبل آلهتهم أنهم إن أسخطوا آلهتهم على أنفسهم لسبب من الأسباب أو حرموا عنايتهم بهم وعطفهم عليهم نابتهم نوائب المرض والقحط والنقص في الأنفس والأموال ونزلت بهم نوازل أخرى.
5- (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو) (التوبة: 31)
(أرأيت من اتخذ إلهه هواه، أفأنت تكون عليه وكيلا) (الفرقان: 43)
(وكذلك زيّن لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم) (الأنعام: 137)
(أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) (الشورى: 21)
وفي الآيات يقف المتأمل على معنى آخر لكلمة (الإله) يختلف كل الاختلاف عن كل ما تقدم ذكره من معانيها، فليس ههنا شيء من تصور السلطة المهيمنة على قوانين الطبيعة، فالذي اتّخذ إلهاً هو إما واحد من البشر أو نفس الإنسان نفسه، ولم يتخذ ذلك إلهاً من حيث أن الناس يدعونه أو يعتقدون فيه أنه يضرهم وينفعهم، أو أنه يستجار به، بل قد اتخذوه إلهاً من حيث تلقوا أمره شرعاً لهم، وائتمروا بأمره وانتهوا عما نهى عنه، واتبعوه فيما حلله وحرمه، وزعموا ان له الحق في أن يأمر وينهى بنفسه، وليس فوقه سلطة قاهرة يحتاج إلى الرجوع والاستناد إليها. فالآية الأولى تبين لنا كيف اتخذت اليهود والنصارى أحبارهم ورهبانهم أرباباً وآلهة من دون الله، كما بين ذلك الحديث النبوي الشريف فيما رواه الإمام الترمذي وابن جرير من طرق عن عدي بن حاتم رضي الله عنه "أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي عنقه صليب من ذهب وهو يقرأ هذه الآية، قال، فقلت: إنهم لم يعبدوهم، فقال: بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم".
وأما الآية الثانية فمعناها واضح كل الوضوح، وذلك أن من يتبع هوى النفس ويرى أمره فوق كل أمر فقد اتخذ نفسه إلهاً له في واقع الأمر. أما الآيتان التاليتان بعدهما فإنه وإن وردت فيهما كلمة (الشركاء) مكان (الإله) ، فالمراد بالشرك هو الإشراك بالله تعالى في الألوهية. ففي هاتين الآيتين دلالة واضحة على أن الذين يرون أن ما وضعه رجل أو طائفة من الناس من قانون أو شرعة أو رسم هو قانون شرعي من غير أن يستند إلى أمر من الله تعالى، فهم يشركون ذلك الشارع بالله تعالى في الألوهية.
ملاك الأمر في باب الألوهية
إن جميع ما تقدم ذكره من المعاني المختلفة لكلمة (الإله) يوجد فيما بينها ارتباط منطقي لا يخفى على المتأمل المستبصر. فالذي يتخذ كائناً ما ولياً له ونصيراً وكاشفاً عنه السوء، وقاضياً لحاجته ومستجيباً لدعائه وقادراً على أن ينفعه ويضره، كل ذلك بالمعاني الخارجة عن نطاق السنن الطبيعية، يكون السبب لاعتقاده ذلك ظنه فيه أن له نوعاً من أنواع السلطة على نظام هذا العالم. وكذلك من يخاف أحداً ويتقيه ويرى أن سخطه يجر عليه الضرر ومرضاته تجلب له المنفعة، لا يكون مصدر اعتقاده ذلك وعمله إلا ما يكون في ذهنه من تصور أن له نوعاً من السلطة على هذا الكون. ثم أن الذي يدعو غير الله ويفزع إليه في حاجاته بعد إيمانه بالله العلي الأعلى، فلا يبعثه على ذلك إلا اعتقاده فيه أن له شركاً في ناحية من نواحي السلطة الألوهية. وعلى غرار ذلك من يتخذ حكم أحد من دون الله قانوناً ويتلقى أوامره ونواهيه شريعة متبعة فإنه أيضاً يعترف بسلطته القاهرة. فخلاصة القول أن أصل الألوهية وجوهرها هو السلطة سواء أكان يعتقدها الناس من حيث أن حكمها على هذا العالم حكم مهيمن على قوانين الطبيعة، أو من حيث أن الإنسان في حياته الدنيا مطيع لأمرها وتابع لإرشادها، وأن أمرها في حد ذاته واجب الطاعة والإذعان.
استدلال القرآن وهذا هو تصور السلطة الذي يجعله القرآن الكريم أساساً يأتي به من البراهين والحجج على إنكار ألوهية غير الله، وإثبات الألوهية لله تعالى وحده. فالذي يستدل به القرآن في هذا الشأن هو انه لا يملك جميع السلطات والصلاحيات في السماوات والأرض إلا الله. فالخلق مختص به، والنعمة كلها بيده، والمر له وحده، والقوة والحول في قبضته، وكل ما في السماوات والأرض قانت له ومطيع لأمره طوعاً وكرهاً، ولا سلطة لأحد سواه ولا ينفذ فيها الحكم لأحد غيره، وما من أحد دونه يعرف أسرار الخلق والنظم والتدبير، أو يشاركه في صلاحيات حكمه. ومن ثم لا إله في حقيقة الأمر إلا هو، وإذ لم يكن في الحقيقة إله آخر من دون الله، فكل ما تأتونه من الأفعال معتقدين غيره إلهاً باطل من أساسه، سواء أكان ذلك دعاءكم إياه واستجارتكم له أم كان خوفكم إياه ورجاءكم منه، أم كان اتخاذكم إياه شافعاً لدى الله، أم كان إطاعتكم له وامتثالكم لأمره؛ فإن هذه الأواصر والعلاقات التي قد عقدتموها مع غير الله، يجب أن تكون مختصة بالله سبحانه لأنه هو الذي يملك السلطة دون غيره.
وأما الأسلوب الذي يستدل به القرآن الكريم في هذا الباب، فدونك بيانه في كلامه البليغ المعجز:
(وهو الذي في السماء إلهٌ وفي الأرض إلهٌ وهو الحكيم العليم) (الزخرف: 84)
(أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون) (والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يُخْلَقون) (إلهكم إلهٌ واحدٌ) (النحل: 17، 20، 22)
(يا أيُّها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالقٍ غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو، فأنى تؤفكون) (فاطر: 3)
(قل أرأيتم عن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إلهٌ غير الله يأتيكم به) (الأنعام: 46) (وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحُكم وإليه ترجعون. قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياءٍ أفلا تسمعون. قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من إلهٌ غير الله يأتيكم بليلٍ تسكنون فيه أفلا تبصرون) (القصص: 7-72)
(قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثال ذرةٍ في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير. ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) (سبأ: 22:23)
(خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كلٌ يجري لأجلٍ مسمى) (الزمر: 5)
(خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواجٍ يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاثٍ ذلكم الله ربُّكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تُصرفون) (الزمر: 6)
(أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماءً فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإلهٌ مع الله بل هم قومٌ يعدلون. أمن جعل الأرض قراراً وجعل خلالها أنهاراً وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزاً. أإلهٌ مع الله بل أكثرهم لا يعلمون، أمّن يُجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض. أإلهٌ مع الله قليلاً ما تذكرون. أمّن يهديكم في ظلمات البرِّ والبحر ومن يرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يُشركون. أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإلهٌ مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) (النمل: 60-64)
(الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريكٌ في الملك وخلق كل شيءٍ فقدره تقديراً. واتخذوا من دونه آلهةً لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياةً ولا نشوراً) (الفرقان: 2: 3) (بديع السماوات والأرض أنّى يكون له ولدق ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيءٍ وهو بكل شيءٍ عليم. ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل) (الأنعام: 101 – 102)
(ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله، ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب إنّ القوة لله جميعاً) (البقرة: 165)
(قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ما خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات) (ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة) (الأحقاف: 4، 5)
(لو كان فيهما آلهةٌ إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون. لا يُسئل عما يفعلُ وهُم يُسئلون) (الأنبياء: 22-23)
(ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض) (المؤمنون: 91)
(قل لو كان معه آلهةٌ كما يقولون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً. سبحانه وتعالى عمّا يقولن علوّاً كبيراً) (الإسراء: 42 – 43)

ففي جميع هذه الآيات من أولها إلى آخرها لا تجد إلا فكرة رئيسية واحدة ألا وهي أن كلاً من الألوهية والسلطة تستلزم الأخرى وأنه لا فرق بينهما من حيث المعنى والروح. فالذي لا سلطة له، لا يمكن أن يكون إلهاً ولا ينبغي أن يتخذ إلهاً. وأما من يملك السلطة فهو الذي يجوز أن يكون غلهاً وهو وحده ينبغي أن يتخذ إلهاً. ذلك بأن جميع حاجات المرء التي تتعلق بالإله أو التي يضطر المرء لأجلها أن يتخذ أحداً إلهاً له لا يمكن قضاء شيء منها من دون وجود السلطة. ولذلك لا معنى لألوهية من لا سلطة له، فإن ذلك أيضاً مخالف للحقيقة، ومن النفخ في الرماد أن يرجع إليه المرء ويرجو منه شيئاً.
والأسلوب الذي يستدل به القرآن واضعاً بين يديه هذه الفكرة الرئيسية، يمكن القارئ أني فهم مقدماته ونتائجه حق الفهم بالترتيب الآتي: 1- إن أعمال قضاء الحاجة وكشف الضرر والإجارة والتوفيق والنصر والرقابة والحماية وإجابة الدعوات التي قد تهاونتم بها وصغرتم من شأنها، ما هي بأعمال هينة في حقيقة الأمر، بل الحق أن صلتها وثيقة بالقوى والسلطات التي تتولى أمر الخلق والتدبير في هذا الكون فإنكم إن تأملتم في المنهاج الذي تقضى به حوائجكم التافهة الحقيرة، عرفتم أن قضاءها مستحيل من غير أن تتحرك لأجله عوامل لا تحصى في ملكوت الأرض والسماء خذوا لذلك مثلاً كأساً من الماء تشربونها أو حبة من القمح تأكلونها فما أدركوا إذ تعمل كل من الشمس والأرض والرياح والبحار قبل أن تتهيأ لكم هذه وتصل إلى أيديكم. فالحق أنه لا تتطلب إجابة دعائكم وقضاء حاجتكم وما إليها من الشؤون سلطة هينة، بل يتطلب ذلك سلطة يقتضيها ويستلزمها خلق السماوات والأرض وتحريك السيارات وتصريف الرياح وإنزال الأمطار وبكلمة موجزة يقتضيها ويتطلبها تدبير نظام هذا الكون بأسره.
2- وهذه السلطة غير قابلة للتجزئة، فلا يمكن أبداً أن تكون السلطة في أمر الخلق بيد وفي أمر الرزق بيد أخرى، وأن تكون الشمس مسخرة لهذا وتكون الأرض مذللة لذاك. كما لا يمكن أن يكون الإنشاء في يد والمرض والشفاء في يد أخرى، والموت والحياة بيد ثالثة. فإنه لو كان الأمر كذلك ما أمكن لنظام هذا الكون أن تقوم له قائمة. فما لابدّ منه أن تكون جميع السلطات والصلاحيات بيد حاكم واحد يرجع إليه كل ما في السماوات والأرض. فإنّ نظام هذا العالم يقتضي أن يكون الأمر كذلك وهو في الواقع كذلك: 3- وإذ كانت السلطة كلها بيد الحاكم الواحد ولم يكن لأحد غيره نقير منها ولا قطمير، فالألوهية أيضاً مخصوصة به لا محالة، وخالصة له دون غيره ولا شريك له فيها. فلا يملك أحد من دونه أن يغيثك أو يستجيب دعاءك أو يجيرك أو يكون حامياً لك ونصيراً أو لياً ووكيلاً، أو يملك لك شيئاً من النفع أو الضر. إذاً لا إله لكم غير الله بمعنى من تلك المعاني التي قد تخطر ببالكم، حتى إنه لا يمكن أن يكون أحداً إلهاً لكم بأن له دالة عند حاكم هذا الكون وتتقبل شفاعته لديه، لمكانه من التقرب عنده. كلا بل ليس في وسع أحد أن يتصدى لأمر من أمور حكمه وتدبيره، ولا يستطيع أحد أن يتدخل في شيء من شؤونه، وكذلك قبول الشفاعة أو رفضها متوقف على مشيئته وإرادته، وليس لأحد من القوة والنفوذ ما يجعل شفاعته مقبول لديه. 4- وما يقتضيه توحد السلطة العليا أن يكون جميع ضروب الحكم والأمر راجعة إلى مسيطر قاهر واحد، وإلاّ ينتقل منه جزء من الحكم إلى غيره. فإنه إذا لم يكن الخلق إلا له ولم يكن له شريك فيه، وإذا كان هو الذي يرزق الناس ولم تكن لأحد من دونه يد في الأمر، إذا كان هو القائم بتدبير نظام هذا الكون وتسيير شؤونه ولم يكن له في ذلك شريك، فما يتطلبه العقل ألاَّ يكون الحكم والأمر والتشريح إلا بيده كلك ولا مبرّر لأن يكون أحد شريكاً له في هذه الناحية أيضاً. وكما أنّه من الخطأ أن يكون أحد غيره مجيباً لدعوة الداعي وقاضياً لحاجة المحتاج، ومجيراً للمضطر في دائرة ملكوته في السموات والأرض، فمن الخطأ والباطل كذلك أن يكون أحد غيره حاكماً مستقلاً بنفسه، وآمراً مستبداً بحكمه، وشارعاً مطلق اليد في تشريعه، إن الخلق والرزق والاحياء والإنامة، وتسخير الشمس والقمر، وتكوير الليل والنهار والقضاء والقدر، والحكم والملك، والأمر والتشريع.. كل أولئك وجوه مختلفة للسلطة الواحدة، ومظاهر شتى للحكم الواحد، والحكم والسلطة لا يقبل شيء منهما التجزئة والتقسيم البتة. فالذي يعتقد أمر كائن ما من دون الله مما يجب إطاعته والإذعان له بغير سلطان من عند الله، فإنه يأتي من الشرك بمثل ما يأتي به الذي يدعو غير الله ويسأله. وكذلك الذي يدعي أنه مالك الملك، والمسيطر القاهر، والحاكم المطلق بالمعاني السياسية (1) ، فإن دعواه هذه كدعوى الألوهية ممن ينادي بالناس: "إني وليكم وكفيلكم وحاميكم وناصركم"، ويريد بكل ذلك المعاني الخارجة عن نطاق السنن الطبيعية. ألم تر أنه بينما جاء في القرآن أن الله تعالى لا شريك له في الخلق وتقدير الأشياء وتدبير نظام العالم، جاء معه أن الله له الحكم وله الملك ليس له شريك في الملك، مما يدل دلالة واضحة على أن الألوهية تشتمل على معاني الحكم والملك أيضاً، وأنه مما يستلزمه توحيد الإله ألا يشرك بالله تعالى في هذه المعاني كذلك. وقد فصل القول في ذلك أكثر مما تقدم فيما يلي من الآيات:
(قلْ اللهمّ مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك من تشاءُ وتعز من تشاء وتذل من تشاء) (آل عمران: 26)
(قل أعوذ برب الناس. ملك الناس. إله الناس) (الناس: 1-3)
وقد صرح القرآن بالأمر بأكثر من كل ما سبق في (سورة غافر) حيث جاء:
(يوم هم بارزون، لا يخفى على الله منهم شيء، لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) (غافر: 16)
أي يوم يكون الناس قد انقشعت الحجب عنهم، ولا يخفى على الله خافية من أمرهم، ينادي المنادي: لمن الملك اليوم؟ ولا يكون الجواب إلا أن الملك لله الذي غلبت سلطته جميع الخلق، وأحسن ما يفسر هذه الآية ما رواه الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر (وما قد روا الله حق قدره، والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة، والسموات مطويات بيمينه، سبحانه وتعالى عما يشركون) ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هكذا بيده ويحركها، يقبل بها ويدبر، يمجد الرب نفسه، أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا العزيز، أنا الكريم، فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبرُ حتى قلنا: ليخرَّنَّ به.

التشبيه في القرآن

التشبيه في القرآن
- 1 - أرى واجبا علىّ قبل الحديث عن التشبيه في القرآن الكريم، أن أتحدث قليلا عن بعض نظرات للأقدمين في هذا الباب، لا أوافقهم عليها، ولا أرى لها قيمة في التقدير الفنى السليم.
فمما اعتمد عليه القدماء في عقد التشبيه العقل، يجعلونه رابطا بين أمرين أو مفرّقا بينهما، وأغفلوا في كثير من الأحيان وقع الشيء على النفس، وشعورها به سرورا أو ألما، وليس التشبيه في واقع الأمر سوى إدراك ما بين أمرين من صلة في وقعهما على النفس، أما تبطن الأمور، وإدراك الصلة التى يربطها العقل وحده فليس ذلك من التشبيه الفنى البليغ، وعلى الأساس الذى أقاموه استجادوا قول ابن الرومى:
بذل الوعد للأخلاء سمحا ... وأبى بعد ذاك بذل العطاء
فغدا كالخلاف، يورق للعين، ويأبى الإثمار كل الإباء
وجعلوا الجامع بين الأمرين جمال المنظر وتفاهة المخبر، وهو جامع عقلى، كما نرى، لا يقوم عليه تشبيه فنى صحيح، ذلك أن من يقف أمام شجرة الخلاف أو غيرها من
الأشجار، لا ينطبع في نفسه عند رؤيتها سوى جمالها ونضرة ورقها وحسن أزهارها، ولا يخطر بباله أن يكون لتلك الشجرة الوارفة الظلال ثمر يجنيه أو لا يكون، ولا يقلل من قيمتها لدى رائيها، ولا يحط من جمالها وجلالها، ألا يكون لها بعد ذلك ثمر شهى، فإذا كانت تفاهة المخبر تقلل من شأن الرجل ذى المنظر الأنيق، وتعكس صورته منتقصة في نفس رائيه، فإن الشجرة لا يقلل من جمالها لدى النفس عدم إثمارها، وبهذا اختلف الوقع لدى النفس بين المشبّه والمشبه به، ولذلك لا يعد من التشبيه الفنى المقبول.
وقبل الأقدمون من التشبيه ما عقدت الحواس الصلة بينهما، وإن لم تعقدها النفس، فاستجادوا مثل قول الشاعر يصف بنفسجا:
ولازورديّة تزهو بزرقتها ... بين الرياض على حمر اليواقيت
كأنها فوق قامات ضعفن بها ... أوائل النار في أطراف كبريت فليس ثمة ما يجمع بين البنفسج وعود الكبريت، وقد بدأت النار تشتعل فيه، سوى لون الزرقة التى لا تكاد تبدأ حتى تختفى في حمرة اللهب، وفضلا عن التفاوت بين اللونين، فهو في البنفسج شديد الزرقة، وفي أوائل النار ضعيفها، فضلا عن هذا التفاوت نجد الوقع النفسى للطرفين شديد التباين، فزهرة البنفسج توحى إلى النفس بالهدوء والاستسلام وفقدان المقاومة، وربما اتخذت لذلك رمزا للحب، بينما أوائل النار في أطراف الكبريت تحمل إلى النفس معنى القوة واليقظة والمهاجمة، ولا تكاد النفس تجد بينهما رابطا. كما استجادوا كذلك قول ابن المعتز:
كأنا وضوء الصبح يستعجل الدجى ... نطير غرابا ذا قوادم جون
قال صاحب الإيضاح: «شبه ظلام الليل حين يظهر فيه ضوء الصبح بأشخاص الغربان، ثم شرط قوادم ريشها بيضاء؛ لأن تلك الفرق من الظلمة تقع في حواشيها، من حيث يلى معظم الصبح وعموده، لمع نور، يتخيل منها في العين كشكل قوادم بيض». وهكذا لم ير ابن المعتز من الدجى وضوء الصباح سوى لونيها، أما هذا الجلال الذى يشعر به في الدجى، وتلك الحياة التى يوحى بها ضوء الصبح، والتى عبّر القرآن عنها بقوله: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (التكوير 18).- فمما لم يحس به شاعرنا، ولم يقدره نقادنا، وأين من جلال هذا الكون الكبير، ذرة تطير؟!
وقبلوا من التشبيه ما كان فيه المشبه به خياليّا، توجد أجزاؤه في الخارج دون صورته المركبة، ولا أتردد في وضع هذا التشبيه بعيدا عن دائرة الفن؛ لأنه لا يحقق الهدف الفنى للتشبيه، فكيف تلمح النفس صلة بين صورة ترى، وصورة يجمع العقل أجزاءها من هنا وهنا، وكيف يتخذ المتخيل مثالا لمحسوس مرئى، وقبل الأقدمون لذلك قول الشاعر:
وكأن محمرّ الشقيق ... إذا تصوّب أو تصعّد
أعلام ياقوت نشر ... ن على رماح من زبرجد
ألا ترى أن هذه الأعلام من الياقوت المنشورة على رماح الزّبرجد، لم تزدك عمق شعور بمحمر الشقيق، بل لم ترسم لك صورته إذا كنت جاهله، فما قيمة التشبيه إذا وما هدفه؟! وسوف أتحدث عن الآية الكريمة التى فيها هذا اللون من التشبيه لندرك سره وقيمته.
هذا، ولن نقدّر التشبيه بنفاسة عناصره، بل بقدرته على التصوير والتأثير، فليس تشبيه ابن المعتز للهلال حين يقول:
انظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر وتلمس شبه له بهذا الزّورق الفضى المثقل بحمولة العنبر، مما يرفع من شأنه، أو ينهض بهذا التّشبيه الذى لم يزدنا شعورا بجمال الهلال، ولا أنسا برؤيته، ولم يزد على أن وضع لنا إلى جانب الهلال الجميل صورة شوهاء متخيلة، وأين الزورق الضخم من الهلال النحيل، وإن شئت فوازن بين هذه الصورة التى رسمها ابن المعتز للهلال، وتلك الصورة التى تعبر عن الإحساس البصرى والشعور النفسى معا، حينما تحدّث القرآن عن هذا الهلال، فقال: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (يس 39). فهذا العرجون القديم أقدر على تصوير القمر كما تراه العين وكما تحسّ به النفس أكثر من تصوير الزورق الفضى له، كما سنرى.
- 2 - التشبيه لمح صلة بين أمرين من حيث وقعهما النفسى، وبه يوضح الفنان شعوره نحو شىء ما، حتى يصبح واضحا وضوحا وجدانيّا، وحتى يحس السامع بما أحس المتكلم به، فهو ليس دلالة مجردة، ولكنه دلالة فنية، ذلك أنك تقول: ذاك رجل لا ينتفع بعلمه، وليس فيما تقول سوى خبر مجرد عن شعورك نحو قبح هذا الرجل، فإذا قلت إنه كالحمار يحمل أسفارا، فقد وصفت لنا شعورك نحوه، ودللت على احتقارك له وسخريتك منه.
والغرض من التشبيه هو الوضوح والتأثير، ذلك أن المتفنن يدرك ما بين الأشياء من صلات يمكن أن يستعين بها في توضيح شعوره، فهو يلمح وضاءة ونورا في شىء ما، فيضعه بجانب آخر يلقى عليه ضوءا منه، فهو مصباح يوضح هذا الإحساس الوجدانى، ويستطيع أن ينقله إلى السامع.
ليس من أغراض التشبيه إذا ما ذكره الأقدمون من «بيان أن وجود المشبه ممكن وذلك في كل أمر غريب يمكن أن يخالف فيه ويدعى امتناعه» . وقد استشهدوا على هذا الغرض بقول المتنبى:
فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال
وليس في هذا البيت تشبيه فنّى مقبول، فليس الأثر الذى يحدثه المسك في النفس سوى الارتياح لرائحته الذكية، ولا يمر بالخاطر أنه بعض دم الغزال، بل إن هذا الخاطر إذا مرّ بالنفس قلّل من قيمة المسك ومن التّلذذ به، وهذه الصورة التى جاء بها المتنبى ليوضح إحساسه نحو سموّ فرد على الأنام، ليست قوية مضيئة، تلقى أشعتها على شعوره، فتضيئه لنا، فإن تحول بعض دم الغزال إلى مسك ليس بظاهرة قريبة مألوفة، حتى تقرب إلى النفس ظاهرة تفوق الممدوح على الأنام، كما أن ظاهرة تحول الممدوح غير واضحة، ومن ذلك كله يبدو أن الرابط هنا عقلى لا نفسى وجدانى.
وليس من أغراضه ما ذكره الأقدمون أيضا من الاستطراف، فليس تشبيه فحم فيه جمر موقد ببحر من المسك موجه الذهب- تشبيها فنيّا على هذا المقياس الذى وضعناه، فإن بحر المسك ذا الموج الذهبى، ليس بهذا المصباح الوهاج الذى ينير الصورة ويهبها نورا ووضوحا.
ولما كان هدف التشبيه الإيضاح والتأثير أرى الأقدمين قد أخطئوا حينما عدّوا البليغ من التشبيه ما كان بعيدا غريبا نادرا، ولذلك عدّوا قوله:
وكأنّ أجرام النجوم لوامعا ... درر نثرن على بساط أزرق
أفضل من قول ذى الرمة:
كحلاء في برج، صفراء في نعج  ... كأنها فضة قد مسها ذهب
«لأن الأول مما يندر وجوده دون الثانى، فإن الناس أبدا يرون في الصياغات فضة قد موهت بذهب ولا يكاد يتفق أن يوجد درر قد نثرن على بساط أزرق» .
وذلك قلب للأوضاع، وبعد عن مجال التشبيه الفنى الذى توضع فيه صورة قوية تبعث الحياة والقوة في صورة أخرى بجوارها، وبرغم أن التشبيهين السالفين حسّيان أرى التشبيه الثانى أقوى وأرفع، ولست أرمى إلى أن يكون التشبيه مبتذلا، فإن الابتذال لا يثير النفس، فيفقد التشبيه هدفه، ولكن أن يكون في قرب التشبيه ما يجعل الصورة واضحة مؤثرة كما سنرى.
- 3 - ليس الحس وحده هو الذى يجمع بين المشبه والمشبه به في القرآن، ولكنه الحس والنفس معا، بل إن للنفس النصيب الأكبر والحظ الأوفى.
والقرآن حين يشبه محسوسا بمحسوس يرمى أحيانا إلى رسم الصورة كما تحس بها النفس، تجد ذلك في قوله سبحانه يصف سفينة نوح: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ (هود 42). ألا ترى الجبال تصور للعين هذه الأمواج الضخمة، وتصور في الوقت نفسه، ما كان يحس به ركاب هذه السفينة وهم يشاهدون هذه الأمواج، من رهبة وجلال معا، كما يحس بهما من يقف أمام شامخ الجبال. وقوله تعالى يصف الجبال يوم القيامة: وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (القارعة 5). فالعهن المنفوش يصور أمامك منظر هذه الجبال، وقد صارت هشة لا تتماسك أجزاؤها، ويحمل إلى نفسك معنى خفتها ولينها. وقوله تعالى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (يس 39). فهذا القمر بهجة السماء وملك الليل، لا يزال يتنقل في منازله حتى يصبح بعد هذه الاستدارة المبهجة، وهذا الضوء الساطع الغامر، يبدد ظلمة الليل، ويحيل وحشته أنسا- يصبح بعد هذا كله دقيقا نحيلا محدودبا لا تكاد العين تنتبه إليه، وكأنما هو في السماء كوكب تائه، لا أهمية له، ولا عناية بأمره، أو لا ترى في كلمة العرجون ووصفهما بالقديم ما يصور لك هيئة الهلال في آخر الشهر، ويحمل إلى نفسك ضآلة أمره معا. وقوله تعالى يصف نيران يوم القيامة: إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (المرسلات 32، 33)، فالقصر وهو الشجر الضخم، والجمال الصفر توحى إلى النفس بالضخامة والرهبة معا، وصور لنفسك شررا في مثل هذا الحجم من الضخامة يطير.
ويرمى أحيانا إلى اشتراك الطرفين في صفة محسوسة، ولكن للنفس كذلك نصيبها فى اختيار المشبه به الذى له تلك الصفة، وحسبى أن أورد هنا آيات ثلاث تتبين فيها هذا الذى أشرنا إليه. فالقرآن قد شبه نساء الجنة، فقال: فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (الرحمن 56 - 58). وقال: وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (الصافات 48). وقال: وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (الواقعة 22، 23).
فليس في الياقوت والمرجان واللؤلؤ المكنون لون فحسب، وإنما هو لون صاف حىّ فيه نقاء وهدوء، وهى أحجار كريمة تصان ويحرص عليها، وللنساء نصيبهن من الصيانة والحرص، وهن يتخذن من تلك الحجارة زينتهن، فقربت بذلك الصلة واشتد الارتباط، أما الصلة التى تربطهن بالبيض المكنون، فضلا عن نقاء اللون، فهى هذا الرفق والحذر الذى يجب أن يعامل به كلاهما، أو لا ترى في هذا الكون أيضا صلة تجمع بينهما، وهكذا لا تجد الحس وحده هو الرابط والجامع، ولكن للنفس نصيب أى نصيب.
وحينا يجمع بين الطرفين المحسوسين معنى من المعانى لا يدرك بإحدى الحواس، وقلّ ذلك في القرآن الكريم الذى يعتمد في التأثير أكثر اعتماد على حاسة البصر، ومن القليل قوله سبحانه: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ (الأعراف 179).
وصفة ضلال الأنعام من أبرز الصفات وأوضحها لدى النفس. وكثر في القرآن إيضاح الأمور المعنوية بالصور المرئية المحسوسة، تلقى عليها أشعة الضوء تغمرها فتصبح شديدة الأثر، وها هو ذا يمثل وهن ما اعتمد عليه المشركون من عبادتهم غير الله وهنا لن يفيدهم فائدة ما، فهم يعبدون ويبذلون جهدا يظنونه مثمرا وهو لا يجدى، فوجد في العنكبوت ذلك الحيوان الذى يتعب نفسه في البناء، ويبذل جهده في التنظيم، وهو لا يبنى سوى أوهن البيوت وأضعفها، فقرن تلك الصورة المحسوسة إلى الأمر المعنوى، فزادته وضوحا وتأثيرا قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (العنكبوت 41).
وها هو ذا يريد أن يحدثنا عن أعمال الكفرة، وأنها لا غناء فيها، ولا ثمرة ترجى منها، فهى كعدمها فوجد في الرماد الدقيق، لا تبقى عليه الريح العاصفة، صورة تبين ذلك المعنى أتم بيان وأوفاه، فقال سبحانه: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (إبراهيم 18).
وليس في القرآن سوى هذين اللونين من التشبيه: تشبيه المحسوس بالمحسوس، وتشبيه المعقول بالمحسوس، أما قوله سبحانه: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (الصافات 64، 65). فالذى سمح بأن يكون المشبه به خياليّا، هو ما تراكم على الخيال بمرور الزمن من أوهام رسمت في النفس صورة رءوس الشياطين في هيئة بشعة مرعبة، وأخذت هذه الصورة يشتد رسوخها بمرور الزمن، ويقوى فعلها في النفس، حتى كأنها محسوسة ترى بالعين وتلمس باليد، فلما كانت هذه الصورة من القوة إلى هذا الحد ساغ وضعها في موضع التصوير والإيضاح، ولا نستطيع أن ننكر ما لهذه الصورة من تأثير بالغ في النفس، ومما جرى على نسق هذه الآية قوله تعالى: فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ (النمل 10). ففي الخيال صورة قوية للجان، تمثله شديد الحركة لا يكاد يهدأ ولا يستقر.
والتشبيه في القرآن تعود فائدته إلى المشبه تصويرا له وتوضيحا، ولهذا كان المشبه به دائما أقوى من المشبه وأشد وضوحا، وهنا نقف عند قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (النور 35). فقد يبدو للنظرة العجلى أن المشبه وهو نور الله أقوى من مصباح هذه المشكاة، ولكن نظرة إلى الآية الكريمة ترى أن النور المراد هنا هو النور الذى يغمر القلب، ويشرق على الضمير، فيهدى إلى سواء السبيل، أو لا ترى أن القلب ليس في حاجة إلى أكثر من هذا المصباح، يلقى عليه ضوءه، فيهتدى إلى الحق، وأقوم السبل، ثم ألا ترى في اختيار هذا التشبيه إيحاء بحالة القلب وقد لفه ظلام الشك، فهو متردد قلق خائف، ثم لا يلبث نور اليقين أن يشرق عليه، فيجد الراحة والأمن والاستقرار، فهو كسارى الليل يخبط فى الظلام على غير هدى، حتى إذا أوى إلى بيته فوجد هذا المصباح في المشكاة، وجد الأمن سبيله إلى قلبه، واستقرت الطمأنينة في نفسه، وشعر بالسرور يغمر فؤاده.
وإذا تأملت الآية الكريمة رأيتها قد مضت تصف ضوء هذا المصباح وتتأنق في وصفه، بما يصور لك قوته وصفاءه، فهذا المصباح له زجاجة تكسب ضوءه قوة، تجعله يتلألأ كأنه كوكب له بريق الدر ولمعانه، أما زيت هذا المصباح فمن شجرة مباركة قد أخذت من الشمس بأوفى نصيب، فصفا لذلك زيتها حتى ليكاد يضيء ولو لم تمسسه نار. ألا ترى أن هذا المصباح جدير أن يبدد ظلمة الليل، ومثله جدير أن يبدد ظلام الشك، ويمزق دجى الكفر والنفاق. وقد ظهر بما ذكرناه جمال هذا التشبيه ودقته وبراعته.
- 4 - أول ما يسترعى النظر من خصائص التشبيه في القرآن أنه يستمد عناصره من الطبيعة، وذلك هو سر خلوده، فهو باق ما بقيت هذه الطبيعة، وسر عمومه للناس جميعا، يؤثر فيهم لأنهم يدركون عناصره، ويرونها قريبة منهم، وبين أيديهم، فلا تجد في القرآن تشبيها مصنوعا يدرك جماله فرد دون آخر، ويتأثر به إنسان دون إنسان، فليس فيه هذه التشبيهات المحلية الضيقة مثل تشبيه ابن المعتز:
كأن آذريونها ... والشمس فيه كالية
مداهن من ذهب ... فيها بقايا غالية
مما لا يستطيع أن يفهمه على وجهه، ويعرف سر حسنه، إلا من كان يعيش في مثل حياة ابن المعتز، وله من أدوات الترف مثل أدواته.
تشبيهات القرآن تستمد عناصرها من الطبيعة، انظر إليه يجد في السراب وهو ظاهرة طبيعية يراها الناس جميعا، فيغرهم مرآها، ويمضون إلى السراب يظنونه ماء، فيسعون إليه، يريدون أن يطفئوا حرارة ظمئهم، ولكنهم لا يلبثون أن تملأ الخيبة قلوبهم، حينما يصلون إليه بعد جهد جهيد، فلا يجدون شيئا مما كانوا يؤمّلون، إنه يجد في هذا السراب صورة قوية توضح أعمال الكفرة، تظن مجدية نافعة، وما هى بشيء، فيقول: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً (النور 39).
ويجد في الحجارة تنبو على الجسو ولا تلين، ويشعر عندها المرء بالنبو والجسوة، يجد فيها المثال الملموس لقسوة القلوب، وبعدها عن أن تلين لجلال الحق، وقوة منطق الصدق، فيقول: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً (البقرة 74). أو لا ترى أن القسوة عند ما تخطر بالذهن، يخطر إلى جوارها الحجارة الجاسية القاسية.
ويجد في هذا الذى يعالج سكرات الموت، فتدور عينه حول عواده في نظرات شاردة تائهة، صورة تخطر بالذهن لدى رؤية هؤلاء الخائفين الفزعين من المضى إلى القتال وأخذهم بنصيب من أعباء الجهاد، فيقول: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ (الأحزاب 18، 19).
ويجد في الزرع وقد نبت ضئيلا ضعيفا ثمّ لا يلبث ساقه أن يقوى، بما ينبت حوله من البراعم، فيشتد بها ساعده، ويغلظ، حتى يصبح بهجة الزارع وموضع إعجابه، يجد في ذلك صورة شديدة المجاورة لصورة أصحاب محمد، فقد بدءوا قلة ضعافا ثمّ أخذوا في الكثرة والنماء، حتى اشتد ساعدهم، وقوى عضدهم، وصاروا قوة تملأ قلب محمد بهجة، وقلب الكفار حقدا وغيظا فقال: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ (الفتح 29).
ويجد في أعجاز النخل المنقعر المقتلع عن مغرسه، وفي الهشيم الضعيف الذاوى صورة قريبة من صورة هؤلاء الصرعى، قد أرسلت عليهم ريح صرصر تنزعهم عن أماكنهم، فألقوا على الأرض مصرّعين هنا وهناك، فيقول: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (القمر 19، 20). ويقول: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (القمر 31).
فأنت في هذا تراه يتخذ الطبيعة ميدانا يقتبس منها صور تشبيهاته، من نباتها وحيوانها وجمادها، فمما اتخذ مشبها به من نبات الأرض العرجون، وأعجاز النخل والعصف المأكول، والشجرة الطيبة، والشجرة الخبيثة، والحبة تنبت سبع سنابل، وهشيم المحتظر، والزرع الذى أخرج شطأه. ومما اتخذ مشبها به من حيوانها الإنسان في أحوال مختلفة والعنكبوت والحمار، والكلب، والفراش، والجراد، والجمال، والأنعام، ومما اتخذ مشبها به من جمادها العهن المنفوش، والصيب، والجبال، والحجارة، والرماد، والياقوت، والمرجان، والخشب، ومن ذلك ترى أن القرآن لا يعنى بنفاسة المشبه به، وإنما يعنى العناية كلها باقتراب الصورتين في النفس، وشدة وضوحها وتأثيرها.
هذا ولا يعكر على ما ذكرناه من استمداد القرآن عناصر التشبيه من الطبيعة، ما جاء فيه من تشبيه نور الله بمصباح وصفه بأنه في زجاجة كأنها كوكب درىّ؛ لأن هذا المصباح قد تغير وتحول، فإن المراد تشبيه نور الله بالمصباح القوى، والمصباح باق ما بقى الإنسان في حاجة إلى نور يبدد به ظلام الليل.
ومن خصائص التشبيه القرآنى، أنه ليس عنصرا إضافيّا في الجملة، ولكنه جزء أساسى لا يتم المعنى بدونه، وإذا سقط من الجملة انهار المعنى من أساسه، فعمله في الجملة أنه يعطى الفكرة في صورة واضحة مؤثرة، فهو لا يمضى إلى التشبيه كأنما هو عمل مقصود لذاته، ولكن التشبيه يأتى ضرورة في الجملة، يتطلبه المعنى ليصبح واضحا قويّا، وتأمل قوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (البقرة 18). تجد فكرة عدم سماعهم الحق وأنهم لا ينطقون به، ولا ينظرون إلى الأدلة التى تهدى إليه، إنما نقلها إليك التشبيه في صورة قوية مؤثرة، كما تدرك شدة الفزع والرهبة التى ألمت بهؤلاء الذين دعوا إلى الجهاد، فلم يدفعهم إيمانهم إليه في رضاء وتسليم، بل ملأ الخوف نفوسهم من أن يكون الموت مصيرهم، وتدرك ذلك من قوله سبحانه: يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (الأنفال 6). وتفهم اضطراب المرأة وقلقها، وعدم استقرارها على حال، حتى لتصبح حياتها مليئة بالتعب والعناء- من قوله سبحانه: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ (النساء 129).
وتفهم مدى حب المشركين لآلهتهم من قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ (البقرة 165). وهكذا تجد للتشبيه مكانه في نقل الفكرة وتصويرها، وقل أن يأتى التشبيه في القرآن بعد أن تتضح الفكرة نوع وضوح كما فى قوله تعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ (الأعراف 171). وإذا أنت تأملت أسلوب الآية الكريمة وجدت هذا التعبير أقوى من أن يقال: وإذ صار الجبل كأنه ظلة، لما فى كلمة «نتق» من تصوير انتزاع الجبل من الأرض تصويرا يوحى إلى النفس بالرهبة والفزع، ولما في كلمة «فوقهم» من زيادة هذا التصوير المفزع وتأكيده فى النفس، وذلك كله يمهد للتشبيه خير تمهيد، حتى إذا جاء مكن للصورة في النفس، ووطد من أركانها. ومع ذلك ليس التشبيه في الآية عملا إضافيا، بل فيه إتمام المعنى وإكماله، فهو يوحى بالإحاطة بهم، وشمولهم، والقرب منهم قرب الظلة من المستظل بها، وفي ذلك ما يوحى بخوف سقوطه عليهم.
ومن خصائص التشبيه القرآنى دقته، فهو يصف ويقيد حتى تصبح الصورة دقيقة واضحة أخاذة، وخذ مثلا لذلك قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (الجمعة 5).
فقد يتراءى أنه يكفى في التشبيه أن يقال: مثلهم كمثل الحمار الذى لا يعقل، ولكن الصورة تزداد قوة والتصاقا والتحاما، حين يقرن بين هؤلاء وقد حملوا التوراة، فلم ينتفعوا بما فيها، وبين الحمار يحمل أسفار العلم ولا يدرى مما ضمته شيئا، فتمام الصورتين يأتى من هذا القيد الذى جعل الصلة بينهما قوية وثيقة.
وقوله تعالى: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (المدثر 49 - 51). فربما بدا أنه يكفى في تصوير إعراضهم وصفهم بأنهم كالحمير، ولكنه في دقته لا يكتفى بذلك، فهو يريد أن يصور نفرتهم من الدعوة، وإسراعهم في إبعاد أنفسهم عنها، إسراعا يمضون فيه على غير هدى، فوصف الحمر بأنها مستنفرة تحمل نفسها على الهرب، وتحثها عليه، يزيد في هربها وفرارها أسد هصور يجرى خلفها، فهى تتفرق في كل مكان، وتجرى غير مهتدية فى جريها، أو لا ترى في صورة هذه الحمر وهى تجد في هربها لا تلوى على شىء، تبغى الفرار من أسد يجرى وراءها، ما ينقل إليك صورة هؤلاء القوم معرضين عن التذكرة، فارين أمام الدعوة لا يلوون على شىء، سائرين على غير هدى، ثم ألا تبعث فيك هذه الصورة الهزء بهم والسخرية.
ومن ذلك وصفه الخشب بأنها مُسَنَّدَةٌ فى قوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ (المنافقون 4). فهى ليست خشبا قائمة في أشجارها لما قد يكون لها من جمال في ذلك الوضع، وليست موضوعة فى جدار؛ لأنها حينئذ تؤدى عملا، وتشعر بمدى فائدتها، وليست متخذا منها أبواب ونوافذ، لما فيها من الحسن والزخرف والجمال، ولكنها خشب مسندة قد خلت من الجمال، وتوحى بالغفلة والاستسلام والبلاهة.
ولم يكتف في تشبيه الجبال يوم القيامة بالعهن، بل وصفها بالمنفوش، إذ قال: وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (القارعة 5). للدقة في تصوير هشاشة الجبال، كما لم يكتف في تشبيه الناس يخرجون يوم القيامة بأنهم كالجراد بل وصفه بالمنتشر، فقال: يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (القمر 7). حتى يكون دقيقا فى تصوير هذه الجموع الحاشدة، خارجة من أجداثها منتشرة في كل مكان تملأ الأفق، ولا يتم هذا التصوير إلا بهذا الوصف الكاشف.
ومن خصائص التشبيه القرآنى المقدرة الفائقة في اختيار ألفاظه الدقيقة المصورة الموحية، تجد ذلك في تشبيه قرآنى، وحسبى أن أشير هنا إلى بعض أمثلة لهذا الاختيار.
نجد القرآن قد شبه بالجبال في موضعين، فقال: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ (هود 42). وقال: وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (الشورى 32). ولكنك تراه قد آثر كلمة الجبال عند الموج، لما أنها توحى بالضخامة والجلال معا، أما عند وصف السفن فقد آثر كلمة الأعلام، جمع علم بمعنى جبل، وسر إيثارها هو أن الكلمة المشتركة بين عدة معان تتداعى هذه المعانى عند ذكر هذه الكلمة، ولما كان من معانى العلم الراية التى تستخدم للزينة والتجميل، كان ذكر الأعلام محضرا إلى النفس هذا المعنى، إلى جانب إحضارها صورة الجبال، وكان إثارة هذا الخاطر ملحوظا عند ذكر السفن الجارية فوق البحر، تزين سطحه، فكأنما أريد الإشارة إلى جلالها وجمالها معا، وفي كلمة الأعلام وفاء بتأدية هذا المعنى أدق وفاء.
وشبه القرآن الموج في موضعين، فقال: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ (هود 42). وقال: وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (لقمان 32). وسر هذا التنويع أن الهدف في الآية الأولى يرمى إلى تصوير الموج عاليا ضخما، مما تستطيع كلمة الجبال أن توحى به إلى النفس، أما الآية الثانية فتصف قوما يذكرون الله عند الشدة، وينسونه لدى الرخاء، ويصف موقفا من مواقفهم كانوا فيه خائفين مرتاعين، يركبون سفينة تتقاذفها الأمواج، ألا ترى أن الموج يكون أشد إرهابا وأقوى تخويفا إذا هو ارتفع حتى ظلل الرءوس، هنالك يملأ الخوف القلوب، وتذهل الرهبة النفوس، وتبلغ القلوب الحناجر، وفي تلك اللحظة يدعون الله مخلصين له الدين، فلما كان المقام مقام رهبة وخوف، كان وصف الموج بأنه كالظلل أدق في تصوير هذا المقام وأصدق.
وعلى طريقة إيثار كلمة الأعلام على الجبال التى تحدثنا عنها، آثر كلمة القصر على الشجر الضخم؛ لأن الاشتراك في هذه الكلمة بين هذا المعنى، ومعنى البيت الضخم يثير المعنيين في النفس معا فتزيد الفكرة عن ضخامة الشرر رسوخا في النفس.
وآثر القرآن كلمة بُنْيانٌ فى قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (الصف 4). لما تثيره في النفس من معنى الالتحام والاتصال والاجتماع القوى، وغير ذلك من معان ترتبط بما ذكرناه، مما لا يثار فى النفس عند كلمة حائط أو جدار مثلا.
واختار القرآن كلمة «لباس»، فى قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ (البقرة 187). لما توحى به تلك الكلمة من شدة الــاحتياج، كــاحتياج المرء للباس، يكون مصدر راحة، وعنوان زينة معا.
ومن مميزات التشبيه القرآنى أيضا أن المشبه قد يكون واحدا ويشبه بأمرين أو أكثر، لمحا لصلة تربط بين هذا الأمر وما يشبهه، تثبيتا للفكرة في النفس.
أو لمحا لها من عدة زوايا، ومن ذلك مثلا تصوير حيرة المنافقين واضطراب أمرهم، فإن هذه الحيرة يشتد تصورها لدى النفس، إذا هى استحضرت صورة هذا السارى قد أوقد نارا تضيء طريقه، فعرف أين يمشى ثمّ لم يلبث أن ذهب الضوء، وشمل المكان ظلام دامس، لا يدرى السائر فيه أين يضع قدمه، ولا كيف يأخذ سبيله، فهو يتخبط ولا يمشى خطوة حتى يرتد خطوات. أو إذا استحضرت صورة هذا السائر تحت صيّب من المطر قد صحبه ظلمات ورعد وبرق، أما الرعد فمتناه فى الشدة إلى درجة أنه يود اتقاءه بوضع أصابعه إذا استطاع في أذنه، وأما البرق فيكاد يخطف البصر، وأما الظلمات المتراكمة فتحول بين السائر وبين الاهتداء إلى سواء السبيل. وتجد تعدّد هذا التشبيه في قوله سبحانه: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً ... أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ .... (البقرة 17 - 19).
ومن النظر إلى الفكرة من عدّة زوايا، أنه حينا ينظر إلى أعمال الكافرين من ناحية أنها لا أثر لها ولا نتيجة، فيرد إلى الذهن حينئذ هذا الرماد الدقيق لا يقوى على البقاء أمام ريح شديدة لا تهدأ حتى تبدأ؛ لأنها في يوم عاصف، ألا ترى هذه الريح كفيلة بتبديد ذرّات هذا الغبار شذر مذر، وأنها لا تبقى عليه ولا تذر، وكذلك أعمال الكافرين، لا تلبث أن تهب عليها ريح الكفر، حتى تبددها ولا تبقى عليها، وللتعبير عن ذلك جاء قوله سبحانه: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي
يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ
(إبراهيم 18).
وحينا ينظر إليها من ناحية أنها تغر أصحابها فيظنونها نافعة لهم، مجدية عليهم، حتى إذا جاءوا يوم القيامة لم يجدوا شيئا، ألا ترى في السراب هذا الأمل المطمع، ذا النهاية المؤيسة، ولأداء هذا المعنى قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً (النور 39). وحينا ينظر إليها من ناحية ما يلم بصاحبها من اضطراب وفزع، عند ما يجد آماله في أعماله قد انهارت، ألا تظلم الدنيا أمام عينيه ويتزلزل كيانه كهذا الذى اكتنفه الظلام في بحر قد تلاطمت أمواجه، وأطبقت ظلمة السحاب على ظلمة الأمواج، ألا يشعر هذا الرجل بمصيره اليائس، وهلاكه المحتوم، ألا يصور لك ذلك صورة هؤلاء الكفار عند ما يجيئون إلى أعمالهم، فلا يجدون لها ثوابا ولا نفعا، ولتصوير ذلك جاء قوله سبحانه: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (النور 40).
- 5 - ويهدف التشبيه في القرآن إلى ما يهدف إليه كلّ فنّ بلاغىّ فيه، من التأثير في العاطفة، فترغب أو ترهب، ومن أجل هذا كان للمنافقين والكافرين والمشركين نصيب وافر من التشبيه الذى يزيد نفسيتهم وضوحا، ويصور وقع الدعوة على قلوبهم، وما كانوا يقابلون به تلك الدعوة من النفور والإعراض.
يصور لنا حالهم وقد استمعوا إلى دعوة الداعى، فلم تثر فيهم تلك الدعوة رغبة فى التفكير فيها، لمعرفة ما قد تنطوى عليه من صدق، وما قد يكون فيها من صواب، بل يحول بينهم وبين ذلك الكبر والأنفة، وما أشبههم حينئذ بالرجل لم يسمع عن الدعوة شيئا، ولم يطرق أذنه عنها نبأ، بل ما أشبههم بمن في أذنه صمم، فهو لا يسمع شيئا مما يدور حوله، وبمن أصيب بالبكم، فهو لا ينطق بصواب اهتدى إليه، وبمن أصيب بالعمى، فهو لا يرى الحق الواضح، وبذلك شبههم القرآن، فقال: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (الجاثية 7، 8)، وقال: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (البقرة 171).
أما ما يشعرون به عند ما يسمعون دعوة الحق فضيق يملأ صدورهم، ويئودهم حمله، كهذا الضيق الذى يشعر به المصعد في جبل، فهو يجر نفسه ويلهث من التعب والعناء، وهكذا صور الله ضيق صدورهم بقوله: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (الأنعام 125).
وما دام هؤلاء القوم لا يستخدمون عقولهم فيما خلقت له، ولم تصغ آذانهم إصغاء من يسمع ليتدبر، فقد وجد القرآن في الأنعام شبيها لهم يقرنهم بها، ويعقد بينهم وبينها وثيق الصلات، فقال: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (الأعراف 179). وأنت ترى في هذا التشبيه كيف مهد له التمهيد الصالح، فجعل لهم قلوبا لا يفقهون بها، وأعينا لا يبصرون بها، وآذانا لا يسمعون بها، ألا ترى نفسك بعدئذ مسوقا إلى إنزالهم منزلة البهائم، فإذا ورد هذا التشبيه عليك، وجد في قلبك مكانا، ولم تجد فيه بعدا ولا غرابة، بل ينزل بهم حينا عن درجة الأنعام، فيراهم خشبا مسندة.
وحينا يريد أن يصورهم، وقد جدوا في الهرب والنفرة من تلك الدعوة الجديدة، فيقول: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (المدثر 49 - 51). وقد تحدثنا عن هذا التشبيه فيما مضى.
أما هذا الذى آمن ثمّ كفر، وانسلخ عن الإيمان واتبع هواه، فقد عاش مثال الذلة والهوان، وقد وجد القرآن في الكلب شبها يبين عن خسته وحقارته، ومما يزيد في الصلة بين الاثنين أن هذا المنسلخ يظل غير مطمئن القلب، مزعزع العقيدة، مضطرب الفؤاد، سواء أدعوته إلى الإيمان، أم أهملت أمره، كالكلب يظل لاهثا، طردته وزجرته، أم تركته وأهملته، قال: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (الأعراف 175، 176).
ولم ينس القرآن تصوير حيرتهم، واضطراب نفسيتهم، ولمح في اضطرابهم صلة بينهم وبين من استوقد نارا، ثم ذهب الله بنوره وبين السائر تحت صيّب منهمر، فيه ظلمات ورعد وبرق.
وصوّر وهن ما يعتمد عليه من يتخذ من دون الله أولياء بوهن بيت العنكبوت، وحين أراد أن يتحدث عن أن هؤلاء الأولياء لن يستفيد منهم عابدوهم بشيء، رأى في هذا الذى يبسط كفه إلى الماء، يريد وهو على تلك الحال أن ينقل الماء إلى فيه، وما هو ببالغه، شبيها لهم فقال: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ (الرعد 14).
وتعرض لأعمال الكفرة كما سبق أن ذكرنا، ولصدقاتهم التى كان جديرا بها أن تثمر وتزهر، ويفيدوا منها لولا أن هبت عليها ريح الشرك فأبادتها، كما تهب الريح الشديدة البرد بزرع كان ينتظر إثماره فأهلكته: مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (آل عمران 117).
وهناك طائفة من التشبيهات ترتبط بيوم القيامة، لجأ إليها القرآن للتصوير والتأثير معا، فإذا أراد القرآن أن يبين قدرة الله على أن يأتى بذلك اليوم، بأسرع مما يتصور المتصورون لجأ إلى أسرع ما يراه الرائى، فاتخذه مثلا يؤدى إلى الهدف المراد، فيقول: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (النحل 77).
ويقرب أمر البعث إلى الأذهان بتوجيه النظر إلى بدء الإنسان، وأن هذا البعث صورة من هذا البدء، فيقول: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (الأعراف 29). وبتوجيه النظر إلى هذا السحاب الثّقال يسوقه الله لبلد ميت، حتى إذا نزل ماؤه دبت الحياة في أوصال الأرض، فخرج الثمر منها يانعا، وهكذا يخلق الله الحياة في الموتى، قال سبحانه:
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (الأعراف 57).
وإذا جاء يوم القيامة استيقظ الناس لا يشعرون بأنه قد مضى عليهم حين من الدهر طويل منذ فارقوا حياتهم، ويورد القرآن من التشبيه ما يصور هذه الحالة النفسية، فيقول: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (يونس 45). وإذا نظرت إلى قوة التشبيه مقترنة بقوله: يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ أدركت مدى ما يستطيع أن يحدثه في النفس من أثر. وقد كرر هذا المعنى في موضع آخر يريد أن يثبته في النفس ويؤكده فقال: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (النازعات 42 - 46).
ها هم أولاء قد بعثوا، خارجين من أجداثهم في كثرة لا تدرك العين مداها، وماذا يستطيع أن يرسم لك تلك الصورة، تدل على الغزارة والحركة والانبعاث، أفضل من هذا التشبيه الذى أورده القرآن حين قال: خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (القمر 7، 8).
وحينا يصوّرهم ضعافا يتهافتون مسرعين إلى الداعى كى يحاسبهم، فيجد في الفراش صورتهم، فيقول: الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (القارعة 1 - 4). ولا أخال أحدا لم ير الفراش يسرع إلى الضوء، ويتهافت عليه في ضعف وإلحاف معا، ولقد تناول القرآن إسراعهم مرة أخرى، فشبههم بهؤلاء الذين كانوا يسرعون في خطوهم، ليعبدوا أنصابا مقامة، وتماثيل منحوتة، كانوا متحمسين في عبادتها، يقبلون عليها في رغبة واشتياق، فيقول: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (المعارج 43).
ويتناول المجرمين، فيصوّر ما سوف يجدونه يومئذ من ذلة وخزى، ويرسم وجوههم، وقد علتها الكآبة: كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (يونس 27). أما طعامهم فمن شجرة الزقوم، يتناولونها فيحسون بنيران تحرق أمعاءهم فكأنما طعموا نحاسا ذائبا أو زيتا ملتهبا، وإذا ما اشتد بهم الظمأ واستغاثوا قدمت إليهم مياه كهذا النحاس والزيت تشوى وجوههم، قال تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (الدخان 43 - 46). وقال سبحانه: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ (الكهف 29). ألا ترى التشبيه يثير في النفس خوفا وانزعاجا.
ويصور آكل الربا يوم القيامة صورة منفرة منه، مزرية به، فهل رأيت ذلك الذى أصابه مس من الشيطان، فهو لا ينهض واقفا حتى يسقط، ولا يقوم إلّا ليقع، ذلك مثل آكل الربا: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا (البقرة 275).
ولعب التشبيه دورا في تصوير يوم القيامة، وما فيه من الجنة والنار، ففي ذلك الحين، تفقد الجبال تماسكها، وتكون كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (القارعة 5). وتفقد السماء نظام جاذبيتها، فتنشق، ويصبح الجوّ ذا لون أحمر كالورد: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (الرحمن 37). وأما جهنم فضخامتها وقوة لهبها مما لا يستطيع العقل تصوره، ومما لا يمكن أن تقاس إليها تلك النيران التى نشاهدها في حياتنا، وحسبك أن تعلم أن شررها ليس كهذا الشرر الذى يشبه الهباءة اليسيرة، وإنما هو شرر ضخم ضخامة غير معهودة، وهنا يسعف التشبيه، فيمد الخيال بالصورة، حين يجعل لك هذا الشرر كأنه أشجار ضخمة تتهاوى، أو جمال صفر تتساقط: إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (المرسلات 32، 33). وأما الجنة ففي سعة لا يدرك العقل مداها، ولا يستطيع التعبير أن يحدها، أو يعرف منتهاها، ويأتى التشبيه ممدا في الخيال، كى يسبح ما يشاء أن يسبح، فيقول: وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ (الحديد 21).
وهكذا ترى التشبيه يعمل على تمثيل الغائب حتى يصبح حاضرا، وتقريب البعيد النائى حتى يصير قريبا دانيا. ولجأ القرآن إلى التشبيه يصور به فناء هذا العالم الذى نراه مزدهرا أمامنا، عامرا بألوان الجمال، فيخيل إلينا استمراره وخلوده، فيجد القرآن في الزرع يرتوى من الماء فيصبح بهيجا نضرا، يعجب رائيه، ولكنه لا يلبث أن يذبل ويصفر، ويصبح هشيما تذروه الرياح- يجد القرآن في ذلك شبها لهذه الحياة الدنيا، ولقد أوجز القرآن مرة في هذا التشبيه وأطنب، ليستقر معناه في النفس، ويحدث أثره في القلب، فقال مرة: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (الكهف 45). وقال مرة أخرى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ
كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً
(الحديد 20). وقال مرة ثالثة: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (يونس 24).
ولما كان للمال أثره في الحياة الاجتماعية، لعب التشبيه دوره في التأثير في النفس، كى تسمح ببذله في سبيل تخفيف أعباء المجتمع، فقرر مضاعفة الثواب على ما يبذل في هذه الناحية، فقال في موضع: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (البقرة 265). فلهذا التشبيه أثره في دفع النفس إلى بذل المال راضية مغتبطة، كما يغتبط من له جنة قد استقرت على مرتفع من الأرض، ترتوى بما هى فى حاجة إليه من ماء المطر، وتترك ما زاد عن حاجتها، فلا يظل بها حتى يتلفها، كما يستقر في المنخفضات، فجاءت الجنة بثمرها مضاعفا، وفي مرة أخرى رأى مضاعفة جزاء الحسنة كمضاعفة الثمرة، لهذا الذى يبذر حبة قمح، فتخرج عودا يحمل سبع سنابل، فى كل سنبلة مائة حبة: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (البقرة 261).
وحاط القرآن هذه المضاعفة بشرط ألا يكون الإنفاق عن رياء، وهنا نقف أمام هذا التشبيه القرآنى الذى سيق تصويرا لمن يتصدق لا عن باعث نفسى، نتبين إيحاءاته، ونتلمس وجه اختياره، إذ يقول سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (البقرة 264). أرأيت هذا الحجر الصلد قد غطته قشرة رقيقة من التراب فخاله الرائى صالحا للزرع والإنبات، ولكن وابل المطر لم يلبث أن أزال هذه القشرة فبدا الحجر على حقيقته، صلدا لا يستطيع أحد أن يجد فيه موضع خصب، ولا تربة صالحة للزراعة، ألا ترى في اختيار كلمة الصفوان هنا ما يمثل لك هذا القلب الخالى من الشعور الإنسانى النبيل، والعطف على أبناء جنسه عطفا ينبع من شعور حى صادق، ولكن الصدقة تغطيه بثوب رقيق حتى يخاله الرائى، قلبا ينبض بحب الإنسانية، ويبنى عليه كبار الآمال فيما سوف يقدمه للمجتمع من خير، ولكن الرياء والمن والأذى لا تلبث أن تزيل هذا الغشاء الرقيق، فيظهر القلب على حقيقته قاسيا صلبا لا يلين.
- 6 - وتأتى الكاف في القرآن أحيانا لا لهذا التشبيه الفنى الخالص، بل لإيقاع التساوى بين أمرين، ومن أمثلة هذا الباب قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (التوبة 68، 69). وقوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا (المزمل 15، 16). فهو يعقد موازنة بينهم وبين من سبقهم، ويبين لهم الوجوه التى يتفقون فيها معهم، ولا ينسى أن يذكر ما أصاب سابقيهم، وإلى هنا يقف، تاركا لهم أن يصلوا بأنفسهم إلى ما ينتظرهم من العواقب، وإنها لطريقة مؤثرة في النفس حقّا، أن تضع لها شبيها، وتتركها تصل بنفسها إلى النتيجة في سكينة وهدوء، لا أن تقذف بها في وجهها، فربما تتمرد وتثور.
ومن كاف التساوى أيضا قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ (النساء 163). وقد يلمح في ذلك الرغبة في إزالة الغرابة عن نفوس السامعين، واستبعادهم نزول الوحى على الرسول، فالقرآن يقرنه بمن لا يشكّون فى رسالته، ليأنسوا بدعوة النبى، وقد يكون في هذا التساوى مثار للتهكم، كما فى قوله تعالى: لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ (الأنعام 94). أو مثار للاستنكار، كما في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ (العنكبوت 10). فسر الاستنكار كما ترى هو تسوية عذاب الناس بعذاب الله. وقد تأتى الكاف وسيلة للإيضاح، وتقوم هى وما بعدها مقام المثال للقاعدة، وغير خاف ما للمثل يضرب من التأثير والإقناع، ومن ذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (آل عمران 10، 11)، فجاء بآل فرعون مثالا لأولئك الذين لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا، ومن كاف الإيضاح قوله سبحانه: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ، وقوله: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي.

أعوز

(أعوز) الشَّيْء عز فَلم يُوجد وَالرجل افْتقر وَالشَّيْء فلَانا قل عِنْده مَعَ احْتِيَاجــه إِلَيْهِ والدهر فلَانا أَدخل عَلَيْهِ العوز وَالْمَطْلُوب فلَانا أعجزه

السلَّة

(السلَّة) الْمرة من السل يُقَال أتيناهم عِنْد السلَّة أَي عِنْد استلال السيوف وَالسَّرِقَة يُقَال (الْخلَّة تَدْعُو إِلَى السلَّة) الْفقر أَو الِــاحْتِيَاج يَدْعُو إِلَى السّرقَة وشقوق فِي الأَرْض تسرق المَاء وَمن الْفرس دَفعته فِي السّير أَو السباق والسل (ج) سلال

(السلَّة) نَبَات شائك ينْبت فِي الصَّحرَاء من الفصيلة الصليبية

حاج

حاج
الحَاجَة إلى الشيء: الفقر إليه مع محبّته، وجمعها: حَاجٌ وحاجات وحوائج، وحَاجَ يَحُوجُ: احتاج، قال تعالى: إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها [يوسف/ 68] ، وقال:
حاجَةً مِمَّا أُوتُوا [الحشر/ 9] ، والحَوْجَاء:
الحاجة ، وقيل: الحاج ضرب من الشّوك.

حاج

1 حَاجَ, (S, Msb, K,) aor. ـُ (S, Msb,) inf. n. حَوْجٌ; (S, K;) and ↓ احتاج, (S, K,) inf. n. اِحْتِيَاجٌ; (K;) and ↓ أَحْوَجَ; (S, Msb, K;) [the second of which is the most common;] the last, irreg. [for by rule it should be أَحَاجَ]; (MF;) are syn.; (S, Msb, * K;) and حَاجَ, aor. ـِ inf. n. حَيْجٌ, signifies the same; (M, TA;) He, or it, wanted, needed, or required. (KL, TA.) You say, حاج إِلَيْهِ, (M, TA,) and اليه ↓ احتاج, and احتاجهُ, He, or it, wanted, needed, or required, him, or it. (TA.) [And in like manner, أَنْ يَفْعَلَ كَذَا ↓ احتاج He wanted, needed, required, or found it necessary, to do, or that he should do, such a thing.] And إِلَى فُلَانٍ ↓ اُحْتِيجَ [Such a one was wanted, or needed]. (JK in art. خل.) b2: Also حاج, aor. and inf. n. as above, He desired, sought, or sought after. (TA.) b3: And حاج and ↓ احتاج He was, or became, poor, or in poverty or want or need. (TA.) 2 حوّج بِهِ الطَّرِيقُ, inf. n. تَحْوِيجٌ, i. q. عَوَّجَ [The road led him aside]. (K.) b2: حَوَّجْتُ لَهُ, (K,) inf. n. as above, (TA,) I forsook my way in, or in respect of, love of him. (K.) 4 أَحْوَجَ: see 1.

A2: It is also transitive. (Msb.) You say, أَحْوَجَهُ إِلَيْهِ غَيْرُهُ [Another made him to want, or be in need of, him, or it]. (S.) And أَحْوَجَنِى

إِلَيْكُمْ زَمَانُ السُّوْءِ [Evil time, or evil fortune, made me to be in need of thee]. (A.) And لَا أَحْوَجَنِى

اللّٰهُ إِلَى فُلَانٍ [May God not cause me to want such a one]. (A.) And أُحْوِجْتُ إِلَيْهِ [I was caused to want him, or it]. And أَحْوَجَهُ اللّٰهُ إِلَى كَذَا [God caused him to want such a thing]. (Msb.) 5 تحوّج He sought an object of want, or what he wanted; (K;) or one object of want after another. (TA.) And خَرَجَ يَتَحَوَّجُ He went forth seeking, or seeking leisurely, or time after time, what he wanted, of the means of his subsistence. (A, TA.) And تحوّج إِلَى الشَّىْءِ He wanted the thing, and desired it. (L, TA.) 8 إِحْتَََاَ see 1, in five places. b2: Also احتاج إِلَيهِ He inclined to him. (K.) حَاجٌ: see حَاجَةٌ.

A2: Also A certain kind of thorny plant or tree. (S, K.) See art. حيج.

حَوْجٌ Safety; freedom from evil, harm, or the like: so in the phrase حَوْجًا لَكَ [God grant safety to thee]: (K:) said to a person stumbling. (TA.) حُوجٌ Poverty. (K.) حَاجَةٌ (S, K, &c.) and ↓ حَائِجَةٌ, (AA, IDrd, &c.,) of which latter the former is a contraction, (Kh in the 'Eyn, TA,) or the latter word is unused [except as an epithet, as will be seen below], and ↓ حَوْجَآءُ, (S, K, &c.,) are syn. words, of which the meaning is well known: (S, K, TA:) Want; need; necessity, or necessitude; exigency: (TA:) [whence,] اِبْنُ حَاجَةً one who is constantly in want, or need: (Har p. 143:) حَاجَةٌ is a more general term than فَقْرٌ; or each of these terms is more general than the other in some respects, and more particular in others: (TA:) and the former signifies also a thing wanted, needed, or required; an object of want, of need, or of exigence; a want; a needful, or requisite, thing, affair, or business: (A, TA:) [and a thing to be done, an affair, or a business:] pl. ↓ حَاجٌ, [or rather this is a coll. gen. n., of which حَاجَةٌ is the n. un.,] and حَاجَاتٌ, [which is of more frequent occurrence,] (S, Msb, K,) and حِوَجٌ, [which is of rare occurrence,] (S, K,) and حَوَائِجُ, (S, Msb, K,) which is anomalous, (S, K,) and was disapproved by As, and pronounced by him to be post-classical, but he disapproved it only because of its being anomalous, (S,) and he is said to have retracted his assertion of its being post-classical, (TA,) for it is of frequent occurrence in the [classical] language of the Arabs, (S,) in their verses and in the traditions: (IB, TA:) it seems as though formed from the sing. حَائِجَةٌ, (S, K,) which some assert to have been not used; or, accord. to some, it may be pl. of حَوْجَآءُ, changed from the regular form of حَوَاجٍ, [originally حَوَاجِىُ,] like صَحَارٍ, by putting the [elided] ى before the ج, agreeably with what is often done in the language of the Arabs. (TA.) You say, قَضَى حَاجَتَهُ [He accomplished his want]: (TA:) a phrase which signifies [also] he did his business; meaning he eased nature. (ISk, TA.) And خُذْ حَاجَتَكَ مِنَ الطَّعَامِ [Take what thou wantest, or requirest, of the food]. (A.) And فِى نَفْسِى حَاجَةٌ and ↓ حَائِجَةٌ and ↓ حَوْجَآءُ [In my mind is a want]. (AA, TA.) And لِى عِنْدَ فُلَانٍ حَاجَةٌ [I want a thing of such a one]. (TA.) [When the thing wanted, or not wanted, is mentioned, or referred to by a pronoun, the subst. denoting it, or the pronoun referring to it, is preceded by إِلَى, as in the sayings لِى حَاجَةٌ إِلَى كَذَا I have a want of such a thing, and مَا لِى إِلَيْهِ حَاجَةٌ I have not any want of it, and مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ What is the reason of thy want of it, or thy wanting it?] You say also, وَلَا لَوْجَآءُ إِلَّا قَضَاهَا ↓ مَا بَقِىَ فِى حَوْجَآءُ There remained not in his bosom a want but he accomplished it. (TA.) [The dim. of حَوْجَآءُ is ↓ حُوَيْجَآءُ: whence the saying,] ↓ مَا لِى فِيهِ حَوْجَآءُ وَلَا لُوَيْجَآءُ ↓ وَلَا لَوْجَآءُ وَلَا حُوَيْجَآءُ I have no want, [nor any little want,] with respect to him, or it. (Lh, S, K.) [See also حَوْجَآءُ, below.] In the phrase حُجْ حُجَيَّاكَ [Seek the little thing that thou wantest], it seems that the second and third radical letters of the latter word [originally حُوَيْجَآءَكَ] have been transposed [and that حُجَيْوَآءَكَ has been then changed into حُجَيَّاكَ]. (IDrd, AAF, TA.) b2: مَا تَرَكْتُ مِنْ حَاجَةٍ وَلَا دَاجَةٍ I left not any act of disobedience to which I was enticed. (TA from a trad. [But see دَاجَةٌ in art. دوج.]) حَوْجَآءُ: see حَاجَةٌ, in four places: b2: and see (??) b3: You say also, (??) (??) (??) There is not in my bosom any doubt re-(??) him, or it. (Th, S, K.) And لَيْسَ فِى (??) (??) ↓ أَمْرِكَ حُوَيْجَآءُ [There is not (??) of thine affair, or (??) وَلَا لَوْجَآءَ, like the phrase (??) بَيْضَآءُ, i. e. I spoke to him, and he return (??) not a bad word nor a good one. (ISk, S, K.) حُوَيْجَآءُ: see حَاجَةٌ, in two places: b2: and see حَوْجَآءُ. b3: You say also, خُذْ حُوَيْجَآءَ مِنَ الأَرْضِ Take thou a different and winding road of the land. (K.) حَائِجَةٌ: see حَاجَةٌ, in two places. b2: You say also حَاجَةٌ حَائِجَةٌ and ↓ حَاجَةٌ حَوْجَآءُ A great want; a thing much wanted. (TA.) مُحْوِجٌ A man in want, needy, indigent, or poor; (Msb, TA;) [as also ↓ مُحْتَاجٌ:] the pl., by rule, should be مُحْوِجُونَ because it is an epithet applied to a rational being; but the pl. used is مَجَاوِيجُ: some, however, reject this, and assert that it has not been heard [as a classical word]: (Msb:) ISd thinks that محاويج is pl. of ↓ مِحْوَاجٌ, if the latter word have been used: (TA:) the vulgar say مَحَاوِجُ [as pl. of مُحْوِجٌ], meaning مُحْتَاجُونَ. (Mgh.) مِحْوَاجٌ: see the next preceding paragraph.

مُحْتَاجٌ: see the next preceding paragraph.

الفَتْح على الإمام

الفَتْح على الإمام: هو تلقينه عند احتياجــه إليه ممن يقتديه، وهو المراد في قول أنس رضي الله عنه: "كنا نفتح على الأئمة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، وفي قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا استطعتم الإمام فأطْعموه". 

الرّديف

الرّديف:
[في الانكليزية] Homonym
[ في الفرنسية] Homonyme
مثل الكريم عند شعراء العجم عبارة عن كلمة أو أكثر توضع قبل القافية بشكل مكرّر، لها معنى واحد، والشعر إذا كان مشتملا على الرّديف فيسمّى المردّف، وليس الرّديف عند الشعراء العرب معتبرا. ثم إنّ الرّديف على نوعين:

الأوّل: الكلمة تكون تامّة مثل البيت وترجمته:
أيها الحبيب لقد أخذت القلب من العبد (منّي) وما أحسن أخذ القلب من العبد (منّي) والثاني: حرف بدلا من الكلمة التّامة.
والمقصود حرف مفيد للمعنى مثل ضمير المخاطب (ت) أو الغائب (ش) أو المتكلّم (م) ومثاله في البيت وترجمته:
أيّها الملك، السّماء مرتبتك وأمّا عند أعتابك وضعت الشمس رأسها، والفلك دار حول رأسك كذا في جامع الصنائع ورسالة (عبد الرحمن) الجاميّ.

ويقول في منتخب تكميل الصناعة: هذا التعريف المذكور هو على القول المشهور، ويقول صاحب معيار الأشعار: المختار في تعريف الرّديف هو تكرار اللّفظ وليس للمعنى اعتبار ما. فإذا كان الرّديف في كلّ القصيدة بمعنى واحد أو بمعان مختلفة أو بعضها له معنى وبعضها الآخر لا معنى له، والسّبب أنّه قد يكون للفظ معنى وهو منفرد وأحيانا قد يكون الرّديف جزءا من كلمة. وكل ذلك جائز.

وقال أيضا: في الرديف ليس للمقدار اعتبار، فلو كان المصراع مشتملا على القافية والرّديف فهو جائز. وكذلك في القلّة أيضا لا أهمية لذلك. وقال أيضا: كلّ ما جاء بعد الرّوي والوصل فالأولى أن تحسب الجملة من الرديف. وهذا عكس المتعارف عليه. وقال شمس قيس (الرازي) في تعريف الرّديف: يجب أن يكون الشّعر محتاجا للرديف سواء من ناحية المعنى أو الوزن. وهذا موضع بحث لأنّه قال هو نفسه في آخر المبحث: إذا كانت كلمة الرّديف ليست متمكنة في موضعها فلا يكون الشعر من حيث المعنى بحاجة إليها وهذا عيب.
فإذن معلوم أنّه على تقدير عدم الــاحتياج يبقى الرّديف على حاله إلّا أنّه يتضمّن عيبا.
وهذا مناف لقول الأول، إلّا إذا قلنا بأنّ المراد هو تعريف الرّديف الذي لا عيب فيه، وليس مطلق رديف.
واعلم بأنّ الشعر المشتمل على القافية يقال له مقفّى، والمشتمل على القافية والرّديف فهو المقفّى المردّف بفتح الراء وتشديد الدال.
وفي الشعر المقفّى المردّف كما أنّ عدم اختلاف القافية واجب فهكذا عدم اختلاف الرّديف أيضا واجب، ولو أنّ الرّديف ليس واجبا في الأصل بل مستحسن. انتهى كلامه.

علم المنطق

علم المنطق
ويسمى علم الميزان أيضا وهو: علم يتعرف منه كيفية اكتساب المجهولات التصورية والتصديقية من معلوماتها.
وموضوعه: المعقولات الثانية من حيث الإيصال إلى المجهول أو النفع فيه.
والغرض منه: عصمة الذهن عن الخطأ في الفكر.
ومنفعته: الإصابة في جميع العلوم.
قال في الكشف: الغرض منه ومنفعته ظاهران من الكتب المبسوطة في المنطق كذا قال في مفتاح السعادة انتهى.
والمنطق لكون حاكما على جميع العلوم في الصحة والسقم والقوة والضعف وأجلها نفعا وأعظمها سماه أبو نصر الفارابي: رئيس العلوم.
ولكونه آلة في تحصيل العلوم الكسبية النظرية والعملية لا مقصودا بالذات سماه الشيخ الرئيس ابن سينا بخادم العلوم.
وحكى أبو حيان في تفسيره البحر: إن أهل المنطق بجزيرة الأندلس كانوا يعبرون عن المنطق بالمفعل تحررا عن صولة الفقهاء حتى إن بعض الوزراء أراد أن يشتري لابنه كتابا من المنطق فاشتراه خفية خوفا منهم مع أنه أصل كل علم وتقويم كل ذهن انتهى.
قال الغزالي: من لم يعرف المنطق فلا ثقة له في العلوم أصلا حتى روي عن بعضهم أنه فرض كفاية وعن بعضهم فرض عين بناء على أن معرفة الله تعالى بطريق البرهان واجبة وإنها لا تتم إلا بعلم المنطق فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب قال القائل:
إن رمت إدراك العلوم بسرعة ... فعليك بالنحو القويم ومنطق
هذا الميزان العقول مرجح ... والنحو إصلاح اللسان بمنطق
قال في كشف الظنون: قال الشيخ أبو علي بن سينا: المنطق نعم العون على إدراك العلوم كلها وقد رفض هذا العلم وجحد منفعته من لم يفهمه ولا اطلع عليه عداوة لما جهل وبعض الناس ربما يتوهم أنه يشوش العقائد مع أنه موضوع للاعتبار والتحرير.
وسبب هذا التوهم أن من الأغبياء الأغمار الذين لم تؤدبهم الشريعة من اشتغل بهذا العلم واستضعف حجج بعض العلوم واستخف بها وبأهلها ظنا منه أنها برهانية لطيشه وجهله بحقائق العلوم ومراتبها فالفساد لا من العلم.
قالوا: ويستغنى عنه المؤيد من الله تعالى ومن علمه ضروري ويحتاج إليه من عداهما.
فإن قلت: إذا كان الــاحتياج بهذه المرتبة فما بال الأئمة المقتدى بهم كمالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل رحمهم الله لم ينقل عنهم الاشتغال به وإنما هو من العلوم الفلسفية وقد شنع العلماء على من عربها وأدخلها في علوم الإسلام ونقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية الحنبلي رحمه الله أنه كان يقول: ما أظن الله تعالى يغفل عن المأمون العباسي ولا بد أن يعاقبه بما أدخل على هذه الأمة.
فجوابه إن ذلك مركوز في جبلاتهم السليمة وفطرتهم المستقيمة ولم يفتهم إلا العبارات والاصطلاحات كما ذكر في علم النحو.
وأصول المنطق تسعة على المشهور:
الأول: باب الكليات الخمس:.
الثاني: باب التعريفات.
الثالث: باب التصديقات.
الرابع: باب القياس.
الخامس: البرهان.
السادس: الخطابة.
السابع: الجدل.
الثامن: المغالطة.
التاسع: الشعر هذا خلاصة ما في العلمي حاشية شرح هداية الحكمة الميبذية وشرح حكمة العين وغيرها.
والكتب المصنفة في المنطق كثيرة منها: إيساغوجي وبحر الفرائد وتيسير الفكر وجامع الدقاق والشمسية غرة النجاة والقواعد الجلية ولوامع الأفكار والمطالع ومجل النظر ومعيار الأفكار وناظر العين ونخبة الفكر وغير ذلك انتهى ما في الكشف وكشاف اصطلاحات الفنون. ومن كتبه المرقاة للشيخ الفاضل فضل إمام الخير آبادي وهو مختصر مفيد وعليه شرح لحفيده المولوي عبد الحق.
وتهذيب المنطق للتفتازاني والصغرى والكبرى بالفارسية للسيد السند الشريف الجرجاني رحمه الله إلى غير ذلك.
قال بعضهم: والذي أجاب به شيخ الإسلام من كون المنطق مرتكزا في نفوسهم جواب ضعيف لا يخفى ضعفه على من يعقل ويعرف مقاصد الشريعة الغراء انتهى.
أقول: ارجع إلى كتاب رد المنطقيين لابن تيمية رحمه الله واعلم أن جواباته كثيرة وكلها صواب حق لا يسع ذكرها هذا المقام وهذا الجواب أيضا صواب يعرفه من منحه الله طبعا سليما لا اعوجاج فيه وصاحب القلب الصحيح والفكر السليم لا يحتاج إلى علم المنطق بل يصدر عنه العلم المطابق له من غير درية بهذا الفن كما يصدر الكلام الموزون ممن لا يعلم بعلم العروض والقافية ولا يحسن تقطيعات الأشعار ويقول نظما كثيرا وينظم قصائد طويلة ولا يعرف أوزان الشعر ولا بحوره فأي استبعاد في كون المنطق مرتكزا في نفوس بعض العباد الصحيح الفؤاد السلم المراد.
وقد اختلف أهل العلم في أن المنطق من العلم أم لا فتدبر.
قال ابن خلدون في بيان هذا العلم: هو قوانين يعرف بها الصحيح من الفاسد في الحدود والمعرفة للماهيات والحجج المفيدة للتصديقات وذلك أن الأصل في الإدراكات إنما هو المحسوسات بالحواس الخمس وجميع الحيوانات مشتركة في هذا الإدراك من الناطق وغيره
وإنما يتميز الإنسان عنها بإدراك الكليات وهي مجردة من المحسوسات وذلك بأن يحصل في الخيال من الأشخاص المتفقة صورة منطبقة على جميع تلك الأشخاص المحسوسة هي الكلي ثم ينظر الذهن بين تلك الأشخاص المتفقة وأشخاص أخرى توافقها في بعض فيحصل له صورة تنطبق أيضا عليهما باعتبار ما اتفقا فيه ولا يزال يرتقي في التجريد إلى الكل الذي لا يجد كليا آخر معه يوفاقه فيكون لأجل ذلك بسيطا. وهذا مثل ما يجرد من أشخاص الإنسان صورة النوع المنطبقة عليها ثم ينظر بينه وبين الحيوان ويجرد صورة الجنس المنطبقة عليهما ثم بينهما وبين النبات إلى أن ينتهي إلى الجنس العالي وهو الجوهر فلا يجد كليا يوافقه في شيء فيقف العقل هنالك عن التجريد.
ثم إن الإنسان لما خلق الله له الفكر الذي به يدرك العلوم والصنائع وكان العلم إما تصور للماهيات ويعني به إدراك ساذج من غير حكم معه.
وأما تصديقا أي: حكما بثبوت أمر لأمر فصار سعي الفكر في تحصل المطلوبات.
إما بأن تجمع تلك الكليات بعضها إلى بعض على جهة التأليف فتحصل صورة في الذهن كلية منطبقة على أفراد في الخارج فتكون تلك الصورة الذهنية مفيدة لمعرفة ماهية تلك الأشخاص
وإما بأن يحكم بأمر على أمر فيثبت له ويكون ذلك تصديقا وغايته في الحقيقة راجعة إلى التصور لأن فائدة ذلك إذا حصل إنما هي معرفة حقائق الأشياء التي هي مقتضى العلم.
وهذا السعي من الفكر قد يكون بطريق صحيح. وقد يكون بطريق فاسد فاقتضى ذلك تمييز الطريق الذي يسعى به الفكر في تحصيل المطالب العلمية ليتميز فيها الصحيح من الفاسد فكان ذلك قانون المنطق.
وتكلم فيه المتقدمون أول ما تكلموا به جملا جملا ومتفرقا ولم تهذب طرقه ولم تجمع مسائله حتى ظهر في يونان أرسطو فهذب مباحثه ورتب مسائله وفصوله وجعله أول العلوم الحكمية وفاتحتها ولذلك يسمى بالمعلم الأول وكتابه المخصوص بالمنطق يسمى النص وهو يشمل على ثمانية كتب أربعة منها في صورة القياس وأربعة في مادته.
وذلك إن المطالب التصديقية على أنحاء:
فمنها ما يكون المطلوب فيه اليقين بطبعه.
ومنها ما يكون المطلوب فيه الظن وهو على مراتب فينظر في القياس من حيث المطلوب الذي يفيده وما ينبغي أن تكون مقدماته بذلك الاعتبار ومن أي جنس يكون من العلم أو من الظن وقد ينظر في القياس لا باعتبار مطلوب مخصوص بل من جهة إنتاجه خاصة.
ويقال للنظر الأول: إنه من حيث المادة ونعني به المادة المنتجة للمطلوب المخصوص من يقين أو ظن ويقال للنظر الثاني: إنه من حيث الصورة وإنتاج القياس على الإطلاق فكانت لذلك كتب المنطق ثمانية.
الأول: في الأجناس العالية التي ينتهي إليها تجريد المحسوسات وهي التي ليس فوقها جنس ويسمى كتاب المقولات.
والثاني: في القضايا التصديقية وأصنافها ويسمى: كتاب العبارة.
والثالث: في القياس وصورة إنتاجه على الإطلاق ويسمى كتاب القياس وهذا آخر النظر من حيث الصورة.
ثم الرابع: كتاب البرهان وهو النظر في القياس المنتج لليقين وكيف يجب أن تكون مقدماته يقينية ويختص بشروط أخرى لإفادة اليقين مذكورة فيه مثل كونها ذاتية وأولية وغير ذلك وفي هذا الكتاب الكلام في المعرفات والحدود إذ المطلوب فيها إنما هو اليقين لوجوب المطابقة بين الحد والمحدود لا تحتمل غيرها فلذلك اختصت عند المتقدمين بهذا الكتاب.
والخامس: كتاب الجدل وهو القياس المفيد قطع المشاغب وإفحام الخصم وما يجب أن يستعمل فيه من المشهورات ويختص أيضا من جهة إفادته لهذا الغرض بشروط أخرى من حيث إفادته لهذا الغرض وهي مذكورة هناك وفي هذا الكتاب يذكر المواضع التي يستنبط منها صاحب القياس قياسه ومنه عكوس القضايا.
والسادس: كتاب السفسطة: وهو القياس الذي يفيد خلاف الحق ويغالط به المناظر صاحبه وهو فاسد وهذا إنما كتب ليعرف به القياس المغالطي فيحذر منه.
والسابع: كتاب الخطابة وهو القياس المفيد ترغيب الجمهور وحملهم على المراد منهم وما يجب أن يستعمل في ذلك من المقالات.
والثامن: كتاب الشعر وهو القياس الذي يفيد التمثيل والتشبيه خاصة للإقبال على الشيء أو النفرة عنه وما يجب أن يستعمل فيه من القضايا التخييلية هذه هي كتب المنطق الثمانية عند المتقدمين.
ثم أن حكماء اليونانيين بعد أن تهذبت الصناعة ورتبت رأوا أنه لا بد من الكلام في الكليات الخمس المفيدة للتصور فاستدركوا فيها مقالة تختص بها مقدمة بين يدي الفن فصارت تسعا وترجمت كلها في الملة الإسلامية وكتبها وتداولها فلاسفة الإسلام بالشرح والتلخيص كما فعله الفارابي وابن سينا ثم ابن رشد من فلاسفة الأندلس ولابن سينا كتاب الشفا استوعب فيه علوم الفلسفة السبعة كلها.
ثم جاء المتأخرون فغيروا اصطلاحات المنطق والحقوا بالنظر في الكليات الخمس ثمرته وهي: الكلام في الحدود والرسوم نقولها من كتاب البرهان وحدقوا كتاب المقولات لأن نظر المنطقي فيه بالعرض لا بالذات وألحقوا في كتاب العبارة الكلام في العكس لأنه من توابع الكلام في القضايا ببعض الوجوه ثم تكلموا في القياس من حيث إنتاجه للمطالب على العموم لا بحسب المادة وحدقوا النظر فيه بحسب المادة وهي الكتب الخمسة: البرهان والجدول والخطابة والشعر والسفسطة وربما يلم بعضهم باليسير منها إلماما وأغفلوها كأن لم تكن وهي المهم المعتمد في الفن.
ثم تكلموا فيما وضعوه من ذلك كلاما مستبحرا نظروا فيه من حيث أنه فن برأسه لا من حيث أنه آلة للعلوم فطال الكلام فيه واتسع.
وأول من فعل ذلك الإمام فخر الدين بن الخطيب ومن بعده فضل الدين الخونجي وعلى كتبه معتمد المشارقة لهذا العهد وله في هذه الصناعة كتاب كشف الأسرار وهو طويل واختصر فيها مختصر الموجز وهو حسن في التعليم ثم مختصر المجمل في قدر أربعة أوراق أخذ بمجمامع الفن وأصوله فتداوله المتعلمون لهذا العهد فينتفعون به وهجرت كتب المتقدمين وطرقهم كأن لم تكن وهي ممتلئة من ثمرة المنطق وفائدته كما قلناه والله الهادي للصواب انتهى كلام ابن خلدون.
قال في مدينة العلوم:
وقد صح بشهادة أهل التواريخ والندماء أن أول من دون المنطق أرسطو وقد بذل ملك زمانه في مقابلة ذلك خمسمائة ألف دينار وأدر عليه في كل سنة مائة وعشرين ألف دينار.
وقيل: أنه تنبه لوضعه وترتيبه من نظم كتاب إقليدس في الهندسة ثم إن أرسطو بعدما دون المنطق صارت كتبه مخزونة في أبنية ولاية موره من بلاد الروم عند ملك من ملوك اليونان ولما رغب الخليفة المأمون في علوم الأوائل أرسل إلى الملك المذكور وطلب الكتب فلم يرسل فغضب المأمون وجمع العساكر وبلغ الخبر إلى الملك فجمع البطاريق وشاورهم في الأمر فقالوا:
إن أردت الكسر في دين المسلمين وتزلزل عقائدهم فلا تمنعهم عن الكتب فاستحسن الملك فأرسلها إلى المأمون فجمع المأمون مترجمي مملكته كحنين بن إسحاق وثابت ابن قرة وغيرهما فترجموها بتراجم مختلفة بحيث لا يوافق ترجمة أحدهم ترجمة الآخر فبقيت التراجم غير محررة إلى أن التمس منصور بن نوح الساماني من أبي نصر الفارابي أن يحررها ويخصها ففعل كما أراد ولهذا لقب بالمعلم الثاني وكانت كتبه في خزانة الكتب المبنية بأصبهان المسماة بصوان الحكمة إلى زمان السلطان مسعود لكن كانت غير مبيضة لأن الفارابي كان غير ملتفت إلى جمع التصانيف ونشرها بل غلب عليه السياحة ثم إن الشيخ أبا علي تقرب عند السلطان مسعود بسبب الطب حتى استوزره واستولى على تلك الخزانة وأخذ ما في تلك الكتبولخص منها كتاب الشفا وغير ذلك من تصانيفه وقد اتفق إن احترقت تلك الكتب فاتهم أبو علي بأنه أحرقها لينقطع انتساب تلك العلوم عن أربابها ويختص بنفسه لكن هذا كلام الحساد الذين ليس لهم هاد.
واعلم أن الأوائل من الملوك كانوا يهتمون بجمع الكتب وخزانتها فحدثت في الإسلام خزائن ثلاث:
إحداها: بمدينة دار السلام ببغداد وكانت فيها من الكتب ما لا يحصى كثرة وقد ذهب الكل في وقعة تاتار ببغداد.
وثانيتها: خزانة الفاطميين بمصر وكانت من أعظم الخزائن وأكثرها جمعا للكتب النفيسة ولما انقضت دولتهم باستيلاء الملك صلاح الدين على مصر فاشترى القاضي الفاضل أكثر كتب هذه الخزانة ووقفها على مدرسته بمصر فبقيت فيها إلى أن استولت عليها الأيدي فلم يبق منها إلا القليل.
وثالثتها: خزانة بني أمية بالأندلس وكانت من أجل خزائن الكتب أيضا ولما انقرضت دولتهم باستيلاء ملوك الطوائف على الأندلس ذهب كلها.
أو من الكتب المبسوطة في المنطق: البحر الخضم ومنطق الشفاء لأبي علي بن سينا كتبه بلا مطالعة كتاب وكان يكتب كل يوم خمسين ورقة من حفظه وله كتاب النجاة والقانون والإشارات.
ومنها كتاب بيان الحق ومطالع الأنوار والمناهج كلها في المنطق والحكمة للأمور كان شافعيا وكتاب كشف الأسرار لمحمد بن عبد الملك الخونجي وهو صاحب الموجز في المنطق ومن الكتب اللطيفة التلويحات والمطارحات لأبي الفتوح يحيى بن حنش الملقب بشهاب الدين السهروردي الحكيم المقتول وقيل اسمه عمر.
ومنها: الملخص وشرح الإشارات للرازي والمعتبر لأبي البركات البغدادي اليهودي أولا في أكثر عمره والمهتد إلى الإسلام في آخر عمره أتى في المعتبر بأقسام الحكمة غير الرياضي وهو أحسن كتاب في هذا الشأن في هذا الزمان استولت عليه آفات لو وضع واحد منها على رضوى لتخلخلت أصولها الرواسخ وتدكدكت رؤوسها الشوامخ وذلك أنه عمى وطرش وبرص وتجذم فنعوذ بالله من نقمة لا تطيقها الأبدان ومن زوال العافية وتقلب الإحسان
ولما أحس بالموت أوصى من يتولاه أن يكتب على قبره: هذا قبر أوحد الزمان أبي البركات ذي العبر صاحب المعتبر فسبحان من لا يغلبه غالب ولا ينجو من قضائه متحيل ولا هارب نسأل الله في حياتنا العافية وفي مماتنا حسن العاقبة رب قد أحسنت فيما مضى فلك أن تحسن فيما بقي ولم يتحقق تاريخ وفاته إلا أنه كان في أوسط المائة السادسة.
ومنها جامع الدقائق للكاتبي وتنزيل الأفكار وحواشي ملخص الرازي له أيضا وإن أردت بلوغ الغاية في المنطق فعليك بتعديل الميزان وهو أحد أقسام تعديل العلوم لصدر الشريعة وقد كشف في هذا الكتاب عن غوامض طالما تحير فيها عقول الأقدمين وأبرز قواعد لم يهتد إليها أحد من الأوحدين ومع هذا فهو لعلوم الشريعة أبو عذرها وابن بجدتها وكتب المنطق أكثر من أن تحصى وأجل من أن تستقصي انتهى حاصله.
علم مواسم السنة
قال الأرنيقي: إن لكل أمة من الأمم ولكل طائفة من الأقوام مواسم وأعياد يعينون لكل منها شغلا مخصوصا فالعلم المذكور يعرف به أعياد كل قوم وإنها من السنة في أي يوم ويعرف شغل أهلها في ذلك ومن جملة ذلك يوم النيروز والمهرجان عند أهل الفارس وكان أهل القبط يأتي ملكهم في يوم النيروز ويرصدون من الليل فيقدمون رجلا حسن الاسم والوجه طيب الرائحة فيقف على الباب حتى يصبح فإذا أصبح دخل على الملك بغير أذن فيقف عنده.
فيقول له الملك: ما اسمك؟ ومن أين أنت أقبلت؟ وأين تريد؟ ولأي شيء وردت وما معك؟
فيقول: أنا المنصور واسمي المبارك ومن قبل الله أقبلت والملك السعيد أردت وبالهنا والسلامة وردت ومعي السنة الجديدة ثم يجلس ويدخل بعده رجل معه طبق من فضة وفيه حنطة وشعير وجلبان وذرة وحمص وسمسم وأرز من كل سبع سنابل وسبع حبات وقطعة سكر ودينار فيضع الطبق بين يدي الملك ثم يدخل عليه الهدايا ويبتدئ من الوزير ثم الناس على قدر مراتبهم ثم يقدم الملك برغيف كبير مصنوع من تلك الحبوب فيأكل منه ويطعم من حضره ثم يقول: هذا يوم جديد من شهر جديد من عام جديد من زمان جديد يحتاج أن يجدد فيه ما أخلقه الزمان وأحق الناس بالفضل والإحسان الرأس لفضله على سائر الأعضاء ثم يخلع على وجوه دولته ويصلهم ويصرف عليهم ما حمل إليه من الهدايا.
وكان من عادة الفرس في عيدهم أن يدهن الملك بدهن البان تبركا ويلبس القصب والوشي ويضع على رأسه تاجا فيه صورة الشمس ويكون أول من يدخل عليها المؤبد بطبق عليه أترجة وقطعة سكر ونبق وسفرجل وتفاح وعناب وعنقود عنب أبيض وسبع باقات آس ثم يدخل الناس مثل الأول على طبقاتهم ومن عادتهم في يوم النيروز أنهم: يجمعون بين سبع أشياء أول أسمائهن سينات يأكلونها هي السكر والسفرجل السمسم والسحاق والسذاب والسقنقور وعادات الناس في الأعياد خارجة عن التعداد انتهى.
قلت: وقد ذكر الشيخ الإمام العلامة المقريزي في كتاب الخطط والآثار كثيرا من أعيادهم وبسط في بيان ذلك ولكن الشرع الشريف قد ورد بإبطال كل عيد للناس على اختلاف فرقهم وقبائلهم وعشائرهم إلا ما وردت به السنة المطهرة من الجمعة والعيدين والحجج وعليه عمل المسلمين إلى الآن.
ولشيخ الإسلام أحمد بن تيمية رضي الله عنه كتاب سماه اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم في رد أعياد الأقوام ونهي المسلمين عن اعتياد عادات هؤلاء الطعام وفي الحديث من تشبه بقوم فهو منهم والتشبه يشمل كل شبه يكون في الأعياد والأخلاق وهيأت اللبس والآكل والركوب والبناء والكلام وقد تساهل الناس المسلمون اليوم في التحرز عن التشبه إلى الغاية وشابهوا الكفار وأهل الكتاب في مراسمهم ومواسهم إلى النهاية إلا من عصمه الله وقليل ما هم وتأويل هذا الحديث يستدعي بسطا تاما وليس هذا موضع بيان المسائل والأحكام فعليك بالنظر في اقتضاء الصراط المستقيم يتضح لك الحق مما هو باطل في دين الإسلام وبالله التوفيق.

ضَرَر

ضَرَر
من (ض ر ر) الأذى والضيق.
ضَرَر
: ( {الضَّرُّ، ويُضَمّ) لُغَتَانِ: (ضِدّ النَّفْع) .
(أَو) الضَّرّ (بالفَتْح: مَصْدَر، وبالضَّم: اسْمٌ) .
وَقيل: هما لُغَتَانِ كالشُّهْد والشَّهْدِ، فإِذا جَمَعْتَ بَين الضَّرّ والنَّفْعِ فتحتَ الضادَ، وإِذا أَفردْتَ} الضُّرَّ ضَمَمْتَ إِذا لم تستعملْه مصدرا، كَقَوْلِك: {ضَرَرْتُ} ضَرّاً، هاكذا تَسْتَعمِله العربُ، كَذَا فِي لحنِ العَوامّ للزُبَيْدِيّ.
وَقَالَ أَبو الدُّقَيْشِ: كُلُّ مَا كَانَ من سُوءِ حَال وفَقْرٍ أَو شِدّةٍ فِي بَدَنٍ فَهُوَ {ضُرٌّ، وَمَا كَانَ ضِدّ النَّفْع فَهُوَ} ضَرٌّ.
يُقَال: ( {ضَرَّهُ) } يَضُرُّه! ضَرّاً، (و) {ضَرَّهُ (بِهِ،} وأَضَّرَّهُ) ، {إِضْرَاراً،} وأَضَرَّ بِهِ ( {وضَارَّهُ} مُضَارَّةً، {وضِرَاراً) ، بالكَسْر بمعْنًى، والاسمُ} الضَّرَرُ، فِعْلُ واحِد، {والضِّرارُ فِعْلُ اثْنينِ، وَبِه فُسِّرَ الحديثُ: (لَا} ضَرَرَ وَلَا {ضِرارَ) أَي لَا} يَضُرُّ الرَّجلُ أَخاهُ فيَنْقُصه شَيْئاً من حقّه، وَلَا يُجَازِيه على إِضْرارِه بإِدخالِ {الضَّرَرِ عَلَيْهِ. وَقيل: هُما بِمَعْنى، وتكرارُهما للتّأْكِيدِ.
} والمُضارّة فِي الوَصِيّة: أَن لَا تُمْضَى أَو يُنْقَصَ بعضُها، أَو يُوصَى لغَيْرِ أَهْلِهَا، وَنَحْو ذالِك ممّا يُخَالِف السُّنّةَ.
( {والضّارُورَاءُ: القَحْطُ، والشِّدَّةُ،} والضَّرَرُ، وسُوءُ الْحَال) ، هاكذا فِي النُّسخ الَّتِي بأَيدينا، وَالصَّوَاب: {والضَّرَرُ: سُوءُ الحالِ، كَمَا فِي اللِّسَانِ وَغَيره (} كالضَّرِّ) ، بالفَتْح أَيضاً، ( {والتَّضِرَّةِ) ، بِكَسْر الضادِ (} والتَّضُرَّةِ) ، بضمّها، الأَخيرة مثَّلَ بهَا سيبويهِ، وفسَّرها السِّيرَافِيّ.
وَجمع الضَّرْ بالفَتْح. {أَضُرٌّ، كأَشُدّ، قَالَ عَدِيُّ بنُ زَيْدٍ العِبَادِيّ:
وخِلالَ} الأَضُرِّ جَمٌّ من العَيْ
شِ يُعَفِّي كُلُومَهُنّ البَواقِي
(و) {الضَّرَرُ: (النِّقْصَانُ يَدْخُلُ فِي الشَّيْءِ) ، يُقَال: دَخَلَ عَلَيْهِ} ضَرَرٌ فِي مالِه.
( {والضَّرّاءُ) ، بِالْمدِّ: (الزَّمَانَةُ) ، وَمِنْه الضَّرِيرُ بمعنَى الزَّمِنِ.
(و) } الضَّرّاءُ، نقيضُ السَّرّاءِ، وَفِي الحَدِيث: (ابْتُلِينَا {بالضَّرّاءِ فصَبَرْنَا، وابْتُلِينَا بالسَّرَّاءِ فلَمْ نَصْبِرْ) ، قَالَ ابنُ الأَثِيرِ:} الضَّرّاءُ: الحالةُ الَّتِي {تَضُرّ، وَهِي نَقِيضُ السَّرّاءِ، وهما بناءَانِ للمؤنّث، وَلَا مُذَكَّر لَهما، وَهِي: (الشِّدَّةُ) والفقرُ والعذابُ.
(و) قَوْله تَعَالَى: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَآء} وَالضَّرّاء} (الْأَنْعَام: 42) ، قيل: {الضَّرّاءُ: (النَّقْصُ فِي الأَمْوَالِ والأَنْفُسِ،} كالضَّرَّةِ! والضَّرَارَةِ) ، بفتحهما، ونقلَ الجوهَرِيّ عَن الفَرّاءِ قَالَ: لَو جُمِعَ {الضَّرّاءُ والبَأْساءُ على} أَضُرٍّ وأَبْؤُسٍ، كَمَا يُجْمَع النَّعْماءُ بِمَعْنى النِّعْمَة على أَنْعُمٍ لجازَ.
وَقَالَ أَبو الهَيْثَم: {الضَّرَّةُ: شِدَّةُ الحَال فَعْلَةٌ من} الضَّرِّ.
( {والضَّرِيرُ) ، كأَمِير: الرجُلُ (الذّاهِبُ البَصَرِ) ، ومصدره} الضَّرَارَةُ، (ج: {أَضِرَّاءُ) ، وَهُوَ مَجَاز، وَمِنْه حَديثُ البَرَاءِ: (فجَاءَ ابنُ أُمِّ مَكْتُوم يَشْكُو} ضَرَارَتَهُ) {والضَّرَارَةُ هُنَا: العَمَى، وَهِي من} الضَّرّ: سُوءِ الحَالِ.
(و) من المَجَاز: {الضَّرِيرُ: (المَرِيضُ المَهْزُول) ، والجَمْع كالجمع، (وهِيَ بِهَاءٍ) ، يُقَال: رجلٌ} ضَرِيرٌ، وامرأَةٌ {ضَرِيرَةٌ: أَضَرَّ بهما المَرَضُ.
(وكُلُّ مَا خالَطَه} ضَرٌّ) فَهُوَ {ضَرِيرٌ (} كالمَضْرُورِ) .
(و) من الْمجَاز: {الضَّرِيرُ: (الغَيْرَةُ) ، يُقَال: مَا أَشَدّ} ضَرِيرَهُ عَلَيْهَا، أَي غَيْرَته، وإِنّه لَذُو ضَرِيرٍ على امرأَتِه، أَي غَيْرَةٍ.
(و) الضَّرِيرُ: ( {المُضَارَّةُ) ، اسْم لَهَا، وأَكثرُ مَا يُسْتَعْمَل فِي الغَيْرَةِ كَمَا تقدّم.
(و) الضَّرِيرُ: (حَرْفُ الوَادِي) ، يُقَال: نَزَلَ فُلانٌ على أَحَدِ} - ضَرِيرَيِ الوَادِي، أَي على أَحَدِ جانِبَيْه، وَقَالَ غيرُه: بإِحْدَى ضَفَّتَيْه، وهما {ضَرِيرَانِ. قَالَ أَوسُ بنُ حَجَر:
وَمَا خَلِيجٌ من المَرُّوتِ ذُو شُعَب
يَرْمِي الضَّرِيرَ بخُشْبِ الطَّلْحِ والضّالِ
وَالْجمع} أَضِرَّةٌ.
(و) الضَّرِيرُ: (النَّفْسُ، وبَقِيَّةُ الجِسْمِ) ، قَالَ العَجّاج:
حَامِي الحُمَيّا مَرِس الضَّرِيرِ
وَيُقَال: نَاقَةٌ ذاتُ ضَرِيرٍ، إِذا كانَت شديدَةَ النَّفْس بطِيئَةَ اللُّغُوب، وَقيل: الضَّرِيرُ: بَقِيَّةُ النَّفْسِ.
(و) الضَّرِيرُ: (الصَّبْرُ) ، يُقَال: إِنّه لذُو ضَرِيرٍ، أَي صَبْرٍ على الشَّرّ ومُقَاساةٍ لَهُ، وَقَالَ الأَصمعيّ: إِنه لَذُو ضَرِيرٍ على الشَّرِّ والشِّدّةِ، إِذا كانَ ذَا صَبْر عَلَيْهِ ومُقَاساةٍ، وأَنشد:
وهَمّامُ بنُ مُرَّةَ ذُو ضَرِيرِ
يُقَال: ذالك فِي النّاسِ والدّوَابّ، إِذا كانَ لَهَا صَبْرٌ على مُقاساةِ الشَّرِّ، وَقَالَ جَرِيرٌ:
طَرَقَتْ سَوَاهِمَ قد أَضَرَّ بهَا السُّرَى
نَزَحَتْ بأَذْرُعِهَا تَنَائِفَ زُورَا
مِنْ كُلّ جُرْشُعَةِ الهَوَاجِرِ زَادَها
بُعْدُ المَفاوِزِ جُرْأَةً {وضَرِيراً
أَي من كُلّ ناقَةٍ ضَخْمَةٍ قويّةٍ فِي الهَوَاجِرِ، لَهَا عليْهَا جُرْأَةٌ وصَبْرٌ، والسَّواهِمُ: المَهْزُولَةُ.
(و) } الضَّرِيرُ من النّاس والدّوابّ: (الصَّبُورُ) على كلّ شيْءٍ.
( {والاضْطِرَارُ: الــاحْتِيَاجُ إِلى الشَّيْءِ) .
(و) قد (} اضطَرَّهُ إِليْهِ) أَمْرٌ: (أَحْوَجَه وأَلْجَأَه، {فاضطُرَّ، بضَمّ الطّاءِ) ، بِنَاؤُه افتعل، جُعِلَت التّاءُ طاءً؛ لأَنّ التاءَ لم يَحْسُن لَفْظُه مَعَ الضَّاد.
(والاسمُ: الضَّرَّةُ) ، بالفَتْحِ، قَالَ دُرَيْدُ بنُ الصِّمَّةِ:
وتُخْرِجُ مِنْهُ} ضَرَّةُ القَوْمِ مَصْدَقاً
وطُولُ السُّرَى دُرِّيَّ عَضْبٍ مُهَنَّدِ
أَي تَلأْلُؤ عَضْبٍ.
وَفِي حَدِيث عليّ رَضِي الله عَنهُ رَفعه: (أَنّه نَهَى عَن بَيْعِ {المُضْطَرِّ) . قَالَ ابنُ الأَثِيرِ: وهاذا يكون من وَجْهَيْن: أَحدُهما: أَن يُضْطَرّ إِلى العَقْدِ من طريقِ الإِكراهِ عَلَيْهِ، قَالَ: وهاذا بَيْعٌ فاسدٌ لَا يَنْعَقِد. وَالثَّانِي: أَنْ} يُضْطَرَّ إِلى البَيْع لدَيْنٍ رَكِبَه، أَو مَؤُونةٍ تُرْهِقُه، فيَبِيع مَا فِي يَده بالوَكْسِ {للضَّرُورَةِ، وهاذا سبيلُه فِي حقّ الدِّينِ والمُرُوءَةِ أَن لَا يُبَايَع على هاذا الوَجْه، ولاكن يُعان ويُقْرَض إِلى المَيْسَرَة، أَو تُشْتَرَى سِلْعَتَه بقيمَتِها، فإِنْ عُقِدَ البيعُ مَعَ} الضّرورةِ على هَذَا الْوَجْه صَحَّ وَلم يُفْسَخ مَعَ كَراهةِ أَهْلِ العِلْمِ لَهُ، ومعنَى البَيْعِ هُنَا الشّراءُ أَو المُبَايَعَةُ أَو قَبولُ البيعِ، انْتهى.
وقولُه عزّ وجلّ: {فَمَنِ {اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} (الْبَقَرَة: 45) ، أَي فَمن أُلْجِىءَ إِلى أَكْلِ المَيْتَةِ، وَمَا حُرِّم، وضُيِّقَ عَلَيْهِ الأَمرُ بالجُوعِ، وأَصلُه من} الضَّرَرِ، وَهُوَ الضِّيقُ.
( {والضَّرُورَةُ: الحَاجَةُ) ، ويُجْمَع على} الضَّرُوراتِ، ( {كالضّارُورَةِ،} والضّارُورِ، {والضّارُوراءِ) ، الأَخِيرانِ نقلهُما الصّاغانيّ، وأَنشد فِي اللّسَان على} الضّارُورَةِ:
أَثِيبِي أَخَا {ضَارُورَةٍ أَصْفَقَ العِدَا
عليهِ وقَلَّتْ فِي الصَّدِيقِ أَواصِرُهْ
وَقَالَ اللَّيْث:} الضَّرُورَةُ: اسمٌ لمصدرِ {الاضْطِرارِ، تَقول: حَمَلَتْنِي} الضَّرُورَةُ على كَذَا وَكَذَا.
قلت: فعلَى هاذا، الضَّرُورَةُ {والضَّرَّةُ: كِلَاهُمَا اسمانِ، فَكَانَ الأَوْلَى أَن يَقُول المُصَنّف:} كالضَّرّةِ {والضَّرُورَة، ثمّ يَقُول: وَهِي أَيضاً الحاجةُ، الخ، كَمَا لَا يَخْفَى.
وَفِي حَدِيث سَمُرَةَ: (يُجْزِىءُ من} الضّارُورَةِ صَبُوحٌ أَو غَبُوقٌ) أَي إِنّمَا يَحِلُّ {للمُضْطَرِّ من المَيْتَةِ أَنْ يأْكلَ مِنْهَا مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ غَداءً أَو عشَاء، وَلَيْسَ لَهُ أَن يَجْمعَ بَينهمَا.
(} والضَّرَرُ) ، محركةً: (الضِّيقُ) ، يُقَال: مَكَان ذُو ضَرَرٍ، أَي ذُو ضِيق.
(و) {الضَّرَرُ أَيضاً: (الضَّيِّقُ) ، يُقَال: مكانٌ ضَرَرٌ، أَي ضَيِّقٌ.
(و) الضَّرَرُ: (شَفَا الكَهْفِ) ، أَي حَرْفُه.
(} والمُضِرُّ: الدّانِي) من الشيْءِ، قَالَ الأَخْطَل:
ظَلَّتْ ظِبَاءُ بنِي البَكّاءِ رَاتِعَةً
حتّى اقْتُنِصْنَ على بُعْدٍ! وإِضْرَارِ وَفِي حَدِيث مُعاذ: (أَنّه كاني صَلّي {فأَضَرَّ بهِ غُصْنٌ، فمَدّ يَدَه فكَسَرَه) أَي دَنَا مِنْهُ دُنُوّاً شَدِيداً فآذاه.
} وأَضَرَّ بالطَّرِيقِ: دنَا مِنْهُ وَلم يُخَالِطْه.
( {وأَضَرَّ السَّيْلُ من الحَائِطِ، والسَّحابُ إِلى الأَرْضِ) ، إِذا (دَنَيَا) ، سَيْلٌ} مُضِرٌّ، وسَحابٌ {مُضِرٌّ، وكلّ مَا دَنَا دُنُوّاً} مُضِرّاً فقد {أَضَرّ.
(و) رُوِيَ عَن النّبيّ صلَّى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم: (أَنه قِيل لَهُ: أَنَرَى رَبَّنَا يَوْمَ القِيَامَة؟ فَقَالَ:} أَتُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ فِي غيرِ سَحاب؟ قَالُوا: لَا. قَالَ:: {فإِنَّكُم3 لَا {تُضَارّون فِي رُؤْيَته} ) ، تبَارك وَتَعَالَى، قَالَ أَبو مَنْصُور: رُوِيَ هَذَا الحَرفُ بِالتَّشْدِيدِ، من} الضُّرِّ، أَي لَا يَضُرّ بعضُكُم بَعْضًا، ورُوِي تُضَارُون بِالتَّخْفِيفِ من الضَّيْرِ، وَالْمعْنَى وَاحِد.
قَالَ الجوهريّ: وبعضُهم يَقُول: لَا {تَضَارُّونَ، بِفَتْح التاءِ، أَي لَا تَضَامُّونَ، ويروى: (لَا تَضَامُّونَ) فِي رُؤْيَته (تَضامّاً يَدْنُو بعضُكُم من بَعْضٍ) فيُزاحِمُه، وَيَقُول لَهُ: أَرِنِيهِ، كَمَا يَفْعَلُون عِنْد النَّظَرِ إِلى الهِلالِ، ولاكن ينفرُ كلُّ مِنْهُم برُؤْيَتِه.
ويروى: لَا تُضَامُونَ، بالتَّخْفِيف، وَمَعْنَاهُ: لَا يَنَالُكُم ضَيْمٌ فِي رُؤْيته، أَي تَرَوْنَه حتَّى تَسْتَوُوا فِي الرُّؤْيَةِ، فَلَا يضِيمُ بعضُكُم بَعْضًا.
(أَو من} ضَارَّهُ {ضِرَاراً} ومُضَارَّةً، إِذا خالَفَه) ، قَالَ نابغةُ بني جَعْدَةَ:
وخَصْمَيْ! ضِرَارٍ ذَوَا تُدْرَإِ
مَتَى يأْتِ سِلْمُهما يَشْغَبَا
أَي لَا تَتَنازَعُون وَلَا تَخْتَلِفُون وَلَا تَتَجَادَلُون فِي صِحَّةِ النَّظرِ إِليه لوُضوحِه وظُهُورِه.
قَالَه الزَّجّاجُ: قَالَ الأَزْهَرِيّ: ومعنَى هاذِه الأَلفَاظِ وإِن اخْتَلَفَتْ متقاربةٌ، وكلُّ مَا رُوِيَ فِيهِ فَهُوَ صَحِيحٌ، وَلَا يَدْفَعُ لَفْظٌ مِنْهَا لَفظاً، وَهُوَ من صِحَاح أَخبارِ سَيِّدنا رسولِ الله صلّى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وسلّم وغُرَرِهَا، وَلَا يُنكِرُها إِلاّ مُبْتَدِعٌ صاحِبُ هَوًى.
(و) يُقَال: (رجلٌ {ضِرُّ} أَضْرارٍ) ، بِالْكَسْرِ، أَي شديدُ أَشِدّاءَ، وكذالك صِلُّ أَصْلالٍ، وضِلُّ أَضْلالٍ: (داهِيَةٌ فِي رَأْيِه) ، قَالَ أَبو خِرَاشٍ:
والقَوْمُ أَعْلَمُ لَو قُرْطٌ أُرِيدَ بِها
لَكَانَ عُرْوَةُ فِيهَا ضِرَّ أَضْرارِ
أَي لَا يستنقذه ببَأْسِه وحِيَلِه. وعُروةُ أَخو أَبِي خِراشٍ.
( {والضَّرّتانِ: الأَلْيَةُ من جانِبَيْ عَظْمِها) ، وهما الشَّحْمَتَان، وَفِي الْمُحكم: اللَّحْمَتَان اللَّتَانِ تَنْهَدِلاَنِ مِنْ جَانِبَيْها.
(و) } الضَّرَّتانِ: (زَوْجَتاكَ، وكلّ) واحدةٍ مِنْهُمَا ( {ضَرَّةٌ للأُخْرَى، وهُنَّ ضَرائِرُ) ، نادِرٌ، قَالَ أَبو ذُؤَيْبٍ يَصِف قُدُوراً:
لَهُنَّ نَشِيجٌ بالنَّشِيلِ كأَنَّهَا
} ضَرَائِرُ حِرْمِيّ تَفَاحَشَ غارُهَا
(والاسمُ الضِّرُّ، بِالْكَسْرِ، و) يُقَال: (تَزَوَّجَ على {ضِرٍّ} وضُرٍّ) ، بِالْكَسْرِ والضّمّ، حَكَاهُمَا أَبو عبد الله الطُّوالُ (أَي {مُضَارَّةٍ بَين امرأَتَيْنِ أَو ثَلاثٍ) .
وحَكَى كُراع: تَزوّجتُ المَرْأَةَ على} ضِرٌّ كُنّ لَهَا، فإِذا كَانَ كذالك فَهُوَ مَصْدَرٌ على طَرْح الزَّائِد، أَو جَمْعٌ لَا واحدَ لَهُ.
(و) {الإِضْرارُ: التَّزْوِيجُ على} ضَرَّةٍ، وَفِي الصّحاح: أَن يَتَزَوَّجَ الرجلُ على ضَرَّةٍ، وَمِنْه قيل: (رَجُلٌ {مُضِرٌّ، وامرأَةٌ} مُضِرٌّ! ومُضِرَّةٌ) . فرَجلٌ {مُضِرٌّ، إِذا كَانَ لَهُ} ضَرائِرُ، وامرأَةٌ مُضِرٌّ، إِذا كَانَ لَهَا {ضَرَّةٌ، وسُمِّيَتَا} ضَرَّتَيْن لأَنّ كلَّ واحدةٍ منهُمَا {تُضَارُّ صاحبَتَها، وكُرِهَ فِي الإِسْلاَم أَن يُقَال لَهَا:} ضَرَّةٌ، وَقيل: جَارَةٌ، كذالك جاءَ فِي الحَدِيث.
( {والضَّرَّةُ) ، بِالْفَتْح: (شِدَّةُ الحالِ، والأَذِيَّةُ) ، نَقله الصاغانيّ، وَهُوَ قولُ أَبي الهَيْثَمِ، قَالَ: فَعْلَةٌ من الضَّرّ.
(و) } الضَّرَّةُ: (الخِلْفُ) ، قَالَ طَرَفَةُ يَصف نَعْجَةً:
مِنَ الزَّمِرَات أَسْبَلَ قَادِمَاهَا
{وضَرَّتُهَا مُرَكَّنَةٌ دَرُورُ
(و) قيل:} الضَّرَّةُ: (أَصْلُ الثَّدْيِ) .
(و) {الضَّرّةُ أَيضاً: (اللَّحْمَةُ) الّتي (تَحْتَ الإِبْهَامِ) ، وَقيل: أَصلُهَا.
(أَو) هِيَ (باطِنُ الكَفِّ) حِيَالَ الخِنْصَرِ تُقَابِل الأَلْيَةَ فِي الكَفِّ.
(و) قيل:} الضَّرَّةُ: لَحْمُ الضَّرْعِ، والضَّرْعُ يُذَكّر ويُؤَنَّث، يُقَال: {ضَرَّةٌ شَكْرَى، أَي مَلأَى من اللَّبَنِ.
وَقيل:} الضَّرَّةُ: أَصْل الضَّرْع الَّذِي لَا يَخْلُو من اللَّبَنِ، أَو لَا يَكاد يَخْلُو مِنْهُ.
وَقيل: هِيَ (الضَّرْعُ كُلُّه) مَا خلا الأَطْباءَ، وَلَا يُسمَّى بذالك إِلاّ أَن يكونَ فِيهِ لَبَنٌ.
(و) {الضَّرَّةُ: (مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الوَطْءُ من لَحْمِ باطِنِ القَدَمِ ممّا يَلِي الإِبْهَامَ، ج) ذالك كلّه (} ضَرائِرُ) ، وَهُوَ جَمْعٌ نَادِر، وأَنشد ثَعْلَب:
وصارَ أَمْثَالَ الغَفَا {- ضَرَائِرِي
إِنما عَنَى} بالضَّرَائِرِ أَحَدَ هاذِه الأَشْيَاءِ المتقدِّمَةِ.
(و) {الضَّرَّةُ: (المالُ تَعْتَمِدُ عليهِ وَهُوَ لغَيْرِك) من الأَقَارِب.
(و) يُقَال: عَلَيْهِ} ضَرَّتانِ من ضَأْنٍ ومَعْزٍ.! الضَّرَّةُ: (القِطْعَةُ من المَال والإِبِلِ والغَنَمِ) .
وَقيل: هُوَ الكَثِيرُ من الماشِيَةِ خاصّةً دون العَيْنِ. ورَجلٌ {مُضِرٌّ: لَهُ} ضَرَّةٌ من مالٍ، وَقَالَ الجَوْهَرِيّ: {المُضِرّ: الَّذِي يَرُوحُ عَلَيْهِ} ضَرَّةٌ من المالِ، قَالَ الأَشْعَرُ الرَّقبَان الأَسَدِيّ جاهليّ، يهجو ابنَ عمّه رِضْوان:
بحَسْبِكَ فِي القَوْمِ أَن يَعْلَمُوا
بأَنَّكَ فيهمْ غَنِيٌّ {مُضِرّ
(} وأَضَرَّ) : يَعْدُو: (أَسْرَعَ) ، وَقيل: أَسرعَ بعضَ الإِسراعِ، هاذه حِكَايَةُ أَبي عُبَيْدٍ، قَالَ الطُّوسِيّ: وَقد غَلِطَ، إِنّمَا هُوَ أَصَرَّ، بالصَّاد، وَقد تقدّمت الإِشارَةُ إِليه.
(و) {أَضَرَّهُ (على الأَمرِ: أَكْرَهَهُ) ، نَقله الصاغانيّ.
(} والمِضْرَارُ من النِّسَاءِ والإِبِلِ والخَيْلِ: الَّتِي تَنِدُّ وتَرْكَبُ شِدْقَهَا من النّشَاطِ) ، عَن ابنِ الأَعرابِيّ، وأَنشد:
إِذْ أَنْتَ {مِضْرَارٌ جَوَادُ الحُضْرِ
أَغْلَظُ شَيْءٍ جانِبا بقُطْرِ
(} وضُرٌّ، بالضَّمّ: ماءٌ) مَعْرُوف، قَالَ أَبو خِرَاشٍ:
نُسَابِقُهُمْ على رَصَفٍ وضُرَ
كدَابِغَةٍ وقدْ نَغِلَ الأَدِيمُ
( {وضِرَارٌ، ككِتَابٍ: ابنُ الأَزْوَرِ) ، وَاسم الأَزْورِ مالكُ بنُ أَوْسٍ الأَسَدِيّ، كَانَ بطلاً شَاعِرًا، لَهُ وِفادَةٌ، وَهُوَ الَّذِي قَتلَ مالِكَ بن نُوَيْرَة بأَمْرِ خالدِ بنِ الْوَلِيد، وأَبْلَى يَوْمَ اليَمَامَةِ بَلاءً عَظِيما، حَتَّى قُطِعَت ساقاه، فجعَل يحبو ويُقاتِل، وتَطَؤُه الخيلُ حَتَّى مَاتَ، قَالَه الواقِدِيّ، وَقيل: قُتِل بأَجْنَادِين، وَقيل: تُوفِّيَ بِالْكُوفَةِ زَمَنَ عمر، وَقيل: شَهِدَ فَتْحَ دِمَشْق، ثمَّ نَزلَ حَرّانَ، لَهُ روايَة قَليلَة، قلت: ومشْهَدُه الْآن بحَلَبَ مَشْهُور، ذَكَرَه النّجم الغَزّيّ.
(و) } ضِرَارُ (بنُ الخَطّابِ) بنِ مِرْدَاس القُرَشِيّ الفِهْرِيّ، أَحدُ الأَشْرافِ والشُّعَرَاءِ المَعْدُودِينَ، والأَبطال المَذْكُورِين، وَمن مُسْلِمَةِ الفَتْحِ، وَقَالَ الزُّبَيْر: ضِرَارٌ رَئِيسُ بني فِهْر، وَقيل: شَهِدَ فُتُوحَ الشّام.
(و) ضِرَارُ (بنُ القَعْقَاعِ) : أَخو عَوْف، لَهُ وِفَادَةٌ، حديثُهُ عِنْد ابْن ابنِه زَيْد بن بِسْطَام.
(و) ضِرَارُ (بنُ مُقَرِّن) المُزَنِيّ، كَانَ مَعَ خالِدٍ لمّا فَتَح الحِيرَة، وَهُوَ عاشِرُ عَشْرة إِخْوَةٍ.
(صحابِيُّون) رَضِي الله عَنْهُم أَجمعين.
وَمِمَّا يسْتَدرك عَلَيْهِ:
النّافِعُ {الضّارُّ، من أَسمائه تعالَى الحُسْنَى، وَهُوَ الَّذِي يَنفَعُ مَن يَشاءُ من خَلْقِه،} ويَضُرّه، حَيْثُ هُوَ خالقُ الأَشياءِ كلِّهَا خَيْرِهَا وشَرِّها ونَفْعِهَا {وضَرِّهَا.
} والضُّرُّ بالضّمّ: الهُزَالُ، وَهُوَ مَجاز، وَبِه فسّر بعضٌ قولَه: {أَنّى مَسَّنِىَ {الضُّرُّ} (الْأَنْبِيَاء: 83) .
} والمَضَرَّةُ: خِلافُ المَنْفَعَةِ.
{والضّرّاءُ: السَّنَةُ.
} والضَّرَّةُ {والضَّرَارَةُ} والضَّرَرُ: وَهُوَ النُّقْصان.
{والضَّرَرُ: الزَّمَانَةُ، وَبِه فُسِّر قولُه تَعَالَى: {غَيْرُ أُوْلِى} الضَّرَرِ} (النِّسَاء: 95) ، أَي غيرُ أُولِي الزَّمَانَةِ. وَقَالَ ابنُ عَرَفَة: أَي غيرُ مَنْ بِهِ عِلّةٌ {تَضُرُّه وتَقْطَعُه عَن الجِهَادِ. وَهِي} الضَّرارَةُ أَيضاً، يُقَال: ذالك فِي البَصَرِ وَغَيره.
{والضُّرُّ: بالضَّمّ حالُ} الضَّرِيرِ، نقلَه الصّاغانيّ.
{والضَّرائِرُ: المَحَاوِيجُ، وقَوْلُ الأَخْطَلِ:
لِكُلِّ قَرَارَةٍ مِنْهَا وفَجَ
أَضَاةٌ ماؤُهَا} ضَرَرٌ يَمُورُ
قَالَ ابنُ الأَعْرَابِيّ: ماؤُهَا ضَرَرٌ، أَي ماءٌ نَمِيرٌ فِي ضِيقٍ، وأَراد أَنّه غَزِيرٌ كثيرٌ فمَجارِيه تَضِيقُ بِهِ وإِن اتَّسَعَتْ.
وَقَالَ الأَصْمَعِيّ، فِي قَول الشّاعر:
بمُنْسَحَّةِ الآباطِ طَاحَ انْتقَالُهَا
بأَطْرَافِها والعِيسُ بَاقٍ {ضَرِيرُهَا
قَالَ: ضَرِيرُهَا: شِدَّتُها، حَكَاهُ الباهِلِيّ عَنهُ.
وَقَول مُلَيْح الهُذَلِيّ:
وإِنّي لأَقْرِي الهَمَّ حتّى يَسُوءَنِي
بُعَيْدَ الكَرَى مِنْه} ضَرِيرٌ مُحَافِلُ
أَراد: مُلازمٌ شدِيدٌ.
وَقَالَ الفَرّاءُ: سَمِعْتُ أَبا ثَرْوَانَ يَقُول: مَا {يَضُرُّكَ عَلَيْهَا جارِيَةً، أَي مَا يَزِيدُكَ. قَالَ: وَقَالَ الكِسَائِيّ: سَمِعْتُهم يَقُولُونَ: مَا يَضُرُّكَ على الضَّبِّ صَبْراً، وَمَا يَضِيرُكَ، أَي مَا يَزِيدُك.
وَقَالَ ابْن الأَعرابيّ: مَا يَزِيدُكَ عَلَيْهِ شَيْئاً، وَمَا يَضُرُّكَ عَلَيْهِ شَيْئاً، واحِدٌ.
وَقَالَ ابنُ السِّكِّيتِ فِي أَبواب النَّفْيِ يُقَال: لَا يَضُرُّكَ عَلَيْهِ رَجُلٌ، أَي لَا تَجِدُ رَجُلاً يَزِيدُك على مَا عندَ هاذا الرَّجلِ من الكِفَايَة.
وَلَا يَضُرُّكَ عَلَيْهِ حَمْلٌ، أَي لَا يَزِيدُك.
قلْت: وأَوردَه الزّمَخْشَرِيّ فِي المَجَاز.
وَيُقَال: هُوَ فِي} ضَرَرِ خَيْرٍ، وإِنّه لفي طَلَفَةِ خَيْر وضَفَّةِ خَيْرٍ، وَفِي طَثْرَةِ خَيْر، وصَفْوَةٍ من العَيْشِ.
{والضَّرائِرُ: الأُمورُ المُخْتَلِفَة، على التَّشْبِيهِ بضَرَائِرِ النّساءِ لَا يَتَّفِقْنَ، الوَاحِدة} ضَرَّةٌ، وَمِنْه حَديث عَمْرِو بنِ مُرَّةَ: (عِنْد اعْتِكارِ {الضَّرائِرِ) .
} والضَّرَّتان: حَجَرَا الرَّحَى، وَفِي المُحْكَم: الرَّحَيانِ.
وناقَةٌ ذَاتُ {ضَرِيرٍ:} مُضِرَّةٌ بالإِبِلِ فِي شِدَّة سَيْرِهَا، وَبِه فُسِّر قولُ أُمَيَّة بنِ عائِذَ الهُذَلِيّ:
تُبَارِي ضَرِيسَ أُولاَتِ {الضَّرِيرِ
وتَقْدُمُهُنّ عَنُوداً عَنُونَا
} وأَضَرَّ عَلَيْهِ: أَلَحَّ.
{وأَضَرَّ الفَرَسُ على فَأْسِ اللِّجَامِ: أَزَمَ عَلَيْهِ، مثْل أَضَزَّ، بالزاي، وَهُوَ مجَاز.
وأَضَرَّ فلانٌ على السيرِ الشَّدِيدِ، أَي صَبَرَ.
ومحمّدُ بنُ بِشْرٍ} - الضِّرَارِيّ، عَن أَبَانِ بنِ عبدِ اللَّهِ البَجَليّ، وَعنهُ عبدُ الجَبَّار بن كَثيرٍ التَّمِيمِيّ.
وأَبو صَالح محمّدُ بنُ إِسماعيلَ الضِّرَارِيّ، عَن عبد الرزّاق.
ومُعَاذَةُ بنتُ عبدِ اللَّهِ بنِ {الضُّرَيْرِ، كزُبَيْر: الَّتِي كَانَ ابنُ سَلُولٍ يُكْرِهُها على البِغَاءِ، فَنزلت الْآيَة، قَالَه الْحَافِظ.
} وضِرَارُ بنُ عِمْرَانَ البُرْجُمِيّ، وضِرَارُ بنُ مُسْلِمٍ البَاهِلِيّ: تابِعيّانِ.
وأَبُو مُعَاوِيَةَ! الضَّرِير: هُوَ محمّدُ بنُ حازِمٍ التَّمِيمِيّ، عَن الأَعْمَشِ، حافظٌ مُتْقِنٌ.

الواحديّة

الواحديّة:
[في الانكليزية] Monism
[ في الفرنسية] Monisme
بياء النسبة هي عند الحكماء عبارة عن عدم قسمة الواجب لذاته إلى الجزئيات. قال مرزا زاهد في حاشية شرح المواقف في أبحاث الوجود: الحكماء عبّروا عن عدم قسمة الواجب لذاته إلى الأجزاء بالأحدية كما عبّروا عن عدم قسمته إلى الجزئيات بالواحدية، وربّما عبّروا عنه بأنّه ليس له سبب منه، كما عبّروا عن عدم احتياجــه إلى الفاعل، والغاية والمحل والمادة بأن ليس له سبب وسبب له وسبب فيه وسبب عنه انتهى كلامه. وعند الصوفية عبارة عن مجلى ظهرت الذات فيها صفة والصفة ذاتا، فبهذا الاعتبار ظهر كلّ من الأوصاف عين الأخرى.
فالمنتقم فيها عين الله والله عين المنتقم والمنتقم المنعم عين الله والله المنعم، وكذلك إذا ظهرت الواحدية في النعمة نفسها عينها كانت النعمة التي هي الرحمة عين النقمة والنقمة التي هي العذاب عين النعمة، كلّ هذا باعتبار ظهور الذات في الصفات وفي آثارها، فكلّ شيء مما ظهر فيه الذات بحكم الواحدية هو عين الآخر ولكن باعتبار التجلّي الواحدي لا باعتبار إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، وذلك هو التجلّي الإلهي.
اعلم أنّ الفرق بين الأحدية والواحدية والألوهية أنّ الأحدية لا يظهر فيها شيء من الأسماء والصفات والواحدية يظهر فيها الأسماء والصفات مع مؤثّراتها لكن بحكم الذات لا بحكم اقترانها، فكلّ منها فيه عين الآخر، والألوهية تظهر فيها الأسماء والصفات بحكم ما يستحقّه كلّ واحد من الجميع ويظهر فيها أنّ المنعم ضدّ المنتقم والمنتقم ضدّ المنعم، وكذلك باقي الأسماء والصفات حتى الأحدية فإنّها تظهر في الألوهية بما يقتضيه حكم الأحدية، والواحدية بما يقتضيه حكم الواحدية، فيشتمل الألوهية بمجلاها أحكام جميع المجالي، فهي مجلى أعطى كلّ ذي حقّ حقّه، والأحدية مجلى كان الله ولم يكن معه شيء، والواحدية مجلى قوله وهو الآن على ما عليه كان. قال الله تعالى كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ. فلذا كانت الأحدية أعلى من الواحدية لأنّها ذات محض وكانت الألوهية أعلى من الأحدية لأنّها أعطت الأحدية حقّها، إذ حكم الألوهية إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، فكانت أعلى الأسماء وأجمعها وأعزّها وفضلها على الأحدية كفضل الكلّ على الجزء، وفضل الأحدية على باقي المجالى الذاتية كفضل الأصل على الفرع وفضل الواحدية على باقي المجالي كفضل الجمع على الفرق، كذا في الإنسان الكامل.

المثلي

المثلي:
[في الانكليزية] Equal ،similar
[ في الفرنسية] Pareil ،semblable ،similaire
المنسوب إلى المثل بالكسر وهو عند الفقهاء ما يوجد له مثل في الأسواق بلا تفاوت بين أجزائه يعتدّ به كالمكيل والموزون والعددي المتقارب كالجوز والبيض والباذنجان والاجر واللّبن، وغير المثلي بخلافه كالحيوانات والعروض والعقار والعددي المتفاوت ويسمّى بالقيمي أيضا وبالعين أيضا كما يسمّى المثلي بالدّين كما وقع في شروح مختصر الوقاية في كتاب الشفعة والإجارة والغصب، وليس المراد بالكيلي والوزني والعددي ما يكال أو يوزن أو يعدّد عند البيع، بل ما يكون مقابلته بالثمن مبنيا على الكيل أو الوزن أو العدد ولا يختلف بالصنعة، فإنّه إذا قيل هذا الشيء قفيز بدرهم أو منّ بدرهم أو عشرة بدرهم فإنّما يقال إذا لم يكن فيه تفاوت، وإذا لم يكن فيه تفاوت كان مثليا. وإنّما قلنا ولا يختلف بالصنعة حتى لو اختلف كالقمقمة والقدر لا يكون مثليا، ثم ما لا يختلف بالصنعة إمّا غير مصنوع أو مصنوع لا يختلف كالدراهم والدنانير والفلوس فكلّ ذلك مثلي. وإذا عرفت هذا عرفت حكم المصنوعات، فكلّ ما يقال يباع من هذا الثوب ذراع بكذا فهذا إنّما يقال فيما لا يكون فيه تفاوت وهو ما يجوز فيه السّلم فإنّه يعرف ببيان طوله وعروضه ورقعته أي جوهره. وقد فصّل الفقهاء المثليات وذوات القيم ولا احتياج إلى ذلك، فما يوجد له مثل في الأسواق بلا تفاوت يعتدّ به فمثلي، وما ليس كذلك فمن ذوات القيم كذا في شرح الوقاية في كتاب الغصب. فعلى هذا يكون اللحم مثليا مع أنّه عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى قيمي في الصحيح كما في الخزانة، وكذا التراب والصابون والسكنجبين ينبغي أن تكون من ذوات الأمثال مع أنّها من ذوات القيم على ما في جامع الرموز. وعند زفر العدديات كلّها من ذوات القيم. وفي الفصول العمادية أنّ العددي المتقارب وكلّما يكال أو يوزن وليس في تبعيضه مضرة فهو مثلي. وقال الإمام أبو اليسر ليس كلّ مكيل ولا موزون مثليا إنّما المثلي ما يكون متقاربا وما يكون متفاوتا فليس بمثلي والمكيلات والموزونات والعدديات سواء، والذرعيات يجب أن تكون كذلك. وفي المحيط جعل الذرعيات من ذوات القيم. واعلم أنّ في تفاصيل المثليات اختلافات كثيرة تطلب من المطولات كذا في البرجندي.

المباينة

المباينة:
[في الانكليزية] Different integers
[ في الفرنسية] Nombres entiers differents
هي عند المحاسبين والمهندسين كون العددين الصحيحين بحيث لا يعدّهما غير الواحد كالسبعة والتسعة فإنّه لا يعدّهما إلّا الواحد فهما متباينان. وقيد الصحيح بناء على عدم جريانها في الكسور ويقابله الاشتراك والمشاركة لأنّه كون العددين بحيث يعدّهما غير الواحد. ولذا قيل في تحرير أقليدس الأعداد المشتركة هي التي يعدّها جميعا غير الواحد والأعداد المتباينة هي التي لا يعدّها جميعا غير الواحد انتهى. وهذا في الأعداد. وأمّا في المقادير خطوطا كانت أو سطوحا أو أجساما فالمراد بكونها مشتركة أن يعدّها مقدار ما أعمّ من أن يعتبر فيه أنّه منطق أو أصم، وبكونها متباينة أن لا يكون كذلك بأن لا يوجد لها مقدار ما يعدّها، فالاثنان والأربعة متشاركان، وكذا جذر الاثنين وجذر الثمانية. وأمّا جذر الخمسة وجذر العشرة فمتباينان وهذا في الخطوط هو التشارك والتباين في الطول ثم في الخطوط نوع آخر منهما لا يتصوّر مثله في الأجسام ولم يعتبر في السطوح لعدم الانضباط أو لعدم الــاحتياج وهو التشارك، والتباين في القوة أي المربع فالخطوط المشتركة في القوة هي التي تكون متباينة في الطول وتكون مربعاتها مشتركة مثل جذر ثلاثة وجذر ستة، والمتباينة في القوة هي التي لا تكون لها ولا لمربعاتها الاشتراك مثل جذر اثنين وجذر جذر خمسة؛ فالمخطوط إن كانت منطقة أي يعبّر عنها بعدد فهي متشاركة، وإن كانت أصم فهي إمّا متشاركة كجذر اثنين وجذر ثمانية، فإنّ الأول نصف الثاني أو متباينة كجذر خمسة وجذر عشرة، والخطوط الصّمّ في المرتبة الأولى بالنسبة إلى المنطقة متباينة في الطول مشتركة في القوة كجذر عشرة مع خمسة، وفيما بعد المرتبة الأولى بالنسبة إليها متباينة في الطول والقوة جميعا كخمسة وجذر جذر عشرة، هكذا يستفاد من تحرير أقليدس وحواشيه. وعند المنطقيين كون المفهومين بحيث لا يصدق أحدهما على كلّ ما صدق عليه الآخر كالإنسان والحجر ويسمّى تباينا كلّيا ومباينة كلّية أيضا. والمباينة الجزئية ويسمّى بالتباين الجزئي أيضا صدق كلّ واحد من المفهومين بدون الآخر في الجملة، وقد مرّ في لفظ الكلّي تحقيقه. وفي بعض حواشي شرح المطالع قال كلّ مفهومين متصادقين على شيء واحد سواء كان تصادقهما عليه في زمان واحد أو في زمانين، وعلى كلا التقديرين سواء كان تصادقهما عليه من جهة واحدة أو من جهتين ليسا متباينين فلا تكون الكلّيات الخمس متباينة، وكذا مثل النائم والمستيقظ والأب والابن وغير ذلك. وقد تطلق المباينة على كون المفهومين غير متشاركين في ذاتي ويجيء في لفظ النسبة.
اعلم أنّ قيد العددين في المتباينة التي هي مصطلح المحاسبين ليس للاحتراز عن أكثر من العددين بل هو بيان لأقلّ ما يوجد فيه المباينة، وكذا الحال في قيد المفهومين في قول المنطقيين كون المفهومين الخ.

علم الأحاجي والأغلوطات من فروع اللغة والصرف والنحو

علم الأحاجي والأغلوطات من فروع اللغة والصرف والنحو
الأحاجي: جمع أحجية، كأضحية: كلمة مخالفة المعنى.
وهو: علم يبحث فيه عن الألفاظ المخالفة لقواعد العربية، بحسب الظاهر وتطبيقها عليها.
إذ لا يتيسر إدراجها بمجرد القواعد المشهورة.
وموضوعه: الألفاظ المذكورة من الحيثية المذكورة.
ومباديه: مأخوذة من العلوم العربية.
وغرضه: تحصيل ملكة تطبيق الألفاظ التي يتراءى بحسب الظاهر مخالفة لقواعد العرب.
وغايته: حفظ القواعد العربية عن تطرق الاختلال.
والــاحتياج إلى هذا العلم من حيث أن ألفاظ العرب قد يوجد فيها بما يخالف قواعد العلوم العربية بحسب الظاهر، بحيث لا يتيسر إدراجه فيها بمجرد معرفة تلك القواعد، فاحتيج إلى هذا الفن.
وللعلامة، جار الله: محمود بن عمر الزمخشري.
المتوفى 538، سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة.
تأليف: لطيف في هذا الفن.
سماه: (المحاجات).
وللشيخ، علم الدين: علي بن محمد السخاوي، والدمشقي.
المتوفى: سنة 643، ثلاث وأربعين وستمائة.
شرح هذا المتن.
التزم فيه: أن يعقب كل أحجيتي الزمخشري بلغزين، من نظمه.
وأبو المعالي: سعد بن علي الوراق، الخطيري.
المتوفى: سنة 568، ثمان وستين وخمسمائة.
صنف فيه أيضا.
والسادسة والثلاثون: التي تعرف: (بالملطية من المقامات الحريرية).
في هذا المعنى.
فمنها للمثال:
(شعر)
يا من سما بذكاء * في الفضل واري الزناد
ماذا يماثل قولي * جوع أمد بزاد
(شعر)
يا ذا الذي فاق فضلا * ولم يدنسه شين
ما مثل قول المحاجي * ظهر أصابته عين
فطريق معرفة المماثلة فيه أن تنظر (جوع أمد بزاد) فتقابله (بطوامير)، لأن طوى: مثل الجوع، في المعنى.
و (مير) : مثل (أمد بزاد)، لأن المير: الإمداد بالزاد.
وكذلك تقابل (ظهر أصابته عين) بقولك: (مطاعين فتجد المطا الظهر)، (وعين الرجل أصيب بالعين).
فإذا تركت الألفاظ بغير تقسيم يظهر لك معنى آخر: وهو أن الطوامير الكتب، والواحد: طومار.
والمطاعين: جمع مطعان، وهو: كثير الطعن، عليه فقس.

الصّوم

الصّوم:
[في الانكليزية] Fast
[ في الفرنسية] Jeune
بالفتح وسكون الواو في اللغة الإمساك عن الفعل مطعما كان أو كلاما أو مشيا كما في المفردات، أو ترك الإنسان الأكل كما في المغرب. وعند الفقهاء ترك الأكل والشرب والوطء من زمان الصبح إلى المغرب مع النّيّة.
فالترك كفّ النفس عن هذه الأفعال فلا يشكل بما فعل نسيانا، فإنه لا ينقض الصوم. ويرد عليه أنّ ترك الاحتقان والإنزال بالتقبيل ونحوهما شرط في الصوم وجعلها داخلة في الأشياء الثلاثة تكلّف، والأولى هو ترك المفطرات.
وفيه أنّه يلزم حينئذ الدور إذ المفطرات هي مفسدات الصوم. ثم المراد بالوطء الوطء الكامل فلا يشتمل وطئ بهيمة أو ميتة بلا إنزال كما في النظم. والمراد بالصبح أول زمان الصبح الصادق أو انتشاره على الخلاف، وهذا أوسع، والأول أحوط. والمراد بالمغرب زمان غيبوبة تمام جرم الشمس بحيث تظهر الظلمة في جهة الشرق، فإنّه قال صلّى الله عليه وسلّم (إذا أقبل الليل من هنا فقد أفطر الصائم)، أي إذا وجدت الظلمة حسّا في جهة الشرق فقد دخل في وقت الفطر، أو صار مفطرا في الحكم لأنّ الليل ليس طرفا لليوم. وإنّما أدّى الأمر بصورة الخبر ترغيبا في تعجيل الإفطار كما في فتح الباري. وقولهم مع النّيّة أي قصد طاعة الله في جزء من أجزاء الوقت المعتبر شرعا، فخرج إمساك الكافر والحائض والنفساء والمجنون إذ لا يتصوّر قصد الطاعة منهم، ولا يخرج إمساك الصبي لصحة قصد الطاعة منه وفيه إشارة إلى أنّ صوم ساعة ممّا يتقرّب إلى الله تعالى، وإلى أنّ النّية لا بدّ أن تتجدّد في كل يوم لجميع الصيامات، وهذا بلا خلاف سوى رمضان فإنّه يصحّ بنية واحدة عند زفر، وإلى أنّ من نوى أولا ثم بم يخطر بباله العدم إلى المغرب يكون صائما بالإجماع كمن لم ينو صوما ولا فطرا وهو يعلم أنّه من رمضان لم يكن صائما على الأظهر، هكذا يستفاد من جامع الرموز والبرجندي.

وثمة خلاف بين العلماء: هل الصوم أفضل أم الصلاة؟ فالجمهور على أنّ الصلاة أفضل بسبب الحديث: «واعلموا أنّ خير أعمالكم الصلاة» رواه أبو داود وغيره.
وأمّا في فضيلة الصوم فقد وردت أحاديث كثيرة. ففي صحيح البخاري: «الصوم لي، وأنا أجزي به»، وفي الموطّأ لمالك: «كلّ حسنة لابن آدم بعشر حسنات إلى سبعمائة إلّا الصوم فإنّه لي وأنا أجزي به».

وقال أيضا: الصوم لي. والحال أنّ جميع العبادات له. والمقصود من هذه العبارة زيادة تشريف وتكريم. وقيل أيضا: إنّ عبادة الصوم لم يقم بها أحد لغير الله تعالى، فلم يتعبّد الكفار ولا عبدة الأوثان بعبادة الصوم المعهود عندنا، وإن كانوا يقومون بما يشبه الصلاة والسجود ونثر الأموال وزيارة الأصنام والطواف حولها وأمثال ذلك. وكذلك لا مجال للرّياء في الصوم وهو الشّرك الأصغر. أي أنّ فعل الصوم الذي هو الإمساك، وأمّا إن قال: أنا صائم فالرّياء في القول وليس في نفس فعل الصوم.

وقالوا: إنّ الامتناع عن الطعام والشّراب والجماع هو من أوصاف الربوبية، وحين يتقرّب العبد إلى ربّه بما هو من صفاته سبحانه. لذا أضاف الصوم إلى نفسه هكذا في مدارج النبوة. وعند أهل الحقيقة هو الإمساك عن الغير بنعت الفردية كما في شرح القصيدة الفارضية. وفي الإنسان الكامل أمّا الصوم فإشارة إلى الامتناع عن استعمال مقتضيات البشرية ليتّصف بصفات الصّمدية. فعلى قدر ما يمتنع أي يصوم عن مقتضيات البشرية تظهر آثار الحقّ فيه. وكونه شهرا كاملا إشارة إلى الــاحتياج في ذلك إلى مدّة الحياة الدنيا جميعها، فلا تقول إنّي وصلت فلا أحتاج إلى ترك مقتضيات البشرية. فينبغي للعبد أن يلتزم الصوم وهو ترك مقتضيات البشرية ما دام في دار الدنيا ليفوز بالتمكّن من حقائق الذات الإلهية انتهى.

ويقول في مجمع السلوك: الصوم على ثلاث مراتب:

صوم العوام: الذي هو عبارة عن ترك الأكل والشرب والجماع.

وصوم الخواص: الذي هو عبارة عن امتناع السّمع والبصر واليد والقدم وسائر الجوارح عن المعاصي حتى لا تبدر منه معصية بأيّ عضو من أعضائه وإلّا فلا. وصوم خواص الخواص: فهو عبارة عن منع القلب عن الهمم الدنية والأذكار الدنيوية وجميع ما سوى الله تعالى. 

علم التفسير

علم التفسير
وهو: علم باحث عن معنى نظم القرآن، بحسب الطاقة البشرية، وبحسب ما تقتضيه القواعد العربية.
ومباديه: العلوم العربية، وأصول الكلام، وأصول الفقه، والجدل،... وغير ذلك من العلوم الجمة.
والغرض منه: معرفة معاني النظم.
وفائدته: حصول القدرة على استنباط الأحكام الشرعية، على وجه الصحة.
وموضوعه: كلام الله - سبحانه وتعالى - الذي هو: منبع كل حكمة، ومعدن كل فضيلة.
وغايته: التوصل إلى فهم معاني القرآن، واستنباط حكمه، ليفاز به إلى السعادة الدنيوية، والأخروية.
وشرف العلم وجلالته، باعتبار شرف موضوعه وغايته، فهو أشرف العلوم، وأعظمها.
هذا ما ذكره: أبو الخير، وابن صدر الدين.
وذكر العلامة الفناري، في تفسير الفاتحة، فصلا مفيدا في تعريف هذا العلم، ولا بأس بإيراده، إذ هو مشتمل على لطائف التعريف.
قال مولانا: قطب الدين الرازي، في: (شرحه للكشاف) : هو ما يبحث فيه عن مراد الله - سبحانه وتعالى - من قرآنه المجيد، ويرد عليه: أن البحث فيه ربما كان عن أحوال الألفاظ، كمباحث: القراءات، وناسخية الألفاظ، ومنسوخيتها، وأسباب نزولها، وترتيب نزولها،... إلى غير ذلك.
فلا يجمعها حده، وأيضا يدخل في البحث في الفقه الأكبر، والأصغر، عما يثبت بالكتاب، فإنه بحث عن مراد الله - تعالى - من قرآنه، فلا يمنعه حده، فكان الشارح التفتازاني إنما عدل عنه لذلك، إلى قوله:
هو: العلم الباحث عن: أحوال ألفاظ كلام الله - سبحانه وتعالى، من حيث: الدلالة على مراد الله - تعالى -.
ويرد على مختاره أيضا: وجوه.
الأول: أن البحث المتعلق بألفاظ القرآن، ربما لا يكون بحيث يؤثر في المعنى المراد بالدلالة والبيان، كمباحث علم القراءة، عن أمثال التفخيم، والإمالة، إلى ما لا يحصى، فإن علم القراءة: جزء من علم التفسير، أفرز عنه لمزيد الاهتمام إفراز الكحالة من الطب، والفرائض من الفقه، وقد خرج بقيد الحيثية، ولم يجمعه، فإن قيل: أراد تعريفه بعد إفراز علم القراءة، قلنا: فلا يناسب الشرح المشروح للبحث في التفسير، عما لا يتغير به المعنى في مواضع لا تحصى.
الثاني: أن المراد بالمراد، إن كان المراد بمطلق الكلام، فقد دخل العلوم الأدبية، وإن كان مراد الله - تعالى - بكلامه، فإن أريد مراده في نفس الأمر، فلا يفيده بحث التفسير، لأن طريقه غالبا: إما رواية الآحاد، أو الدراية بطريق العربية، وكلاهما ظني كما عرف، ولأن فهم كل واحد بقدر استعداده.
ولذلك أوصى المشايخ - رحمهم الله - في الإيمان: أن يقال: آمنت بالله، وبما جاء من عنده، على مراده، وآمنت برسول الله، وبما قاله على مراده، ولا يعين بما ذكره أهل التفسير.
ويكرر ذلك: علم الهدى، في تأويلاته، وإن أريد مراد الله - سبحانه وتعالى - في زعم المفسر، ففيه: حزازة من وجهين:
الأول: كون علم التفسير بالنسبة إلى كل مفسر إلى كل أحد شيئا آخر، وهذا مثل ما اعترض، أي التفتازاني على حد الفقه، لصاحب (التنقيح)، وظن وروده، وإلا فإني أجيب عنه: بأن التعدد ليس في حقيقته النوعية، بل في جزئياتها المختلفة، باختلاف القوابل.
وأيضا، ذكر الشيخ: صدر الدين القونوي، في تفسير: (مالك يوم الدين..) أن جميع المعاني المفسر بها لفظ القرآن رواية أو دراية صحيحتين، مراد الله - سبحانه وتعالى -، لكن بحسب المراتب والقوابل، لا في حق كل أحد.
الثاني: أن الأذهان تنساق بمعاني الألفاظ، إلى ما في نفس الأمر على ما عرف، فلا بد لصرفها عنه، من أن يقال من حيث الدلالة على ما يظن أنه مراد الله - سبحانه وتعالى -.
الثالث: أن عبارة العلم الباحث في المتعارف، ينصرف إلى الأصول، والقواعد، أو ملكتها، وليس لعلم التفسير قواعد يتفرع عليها الجزئيات، إلا في مواضع نادرة، فلا يتناول غير تلك المواضع، إلا بالعناية.
فالأَوْلَى أن يقال: علم التفسير: معرفة أحوال كلام الله - سبحانه وتعالى - من حيث: القرآنية، ومن حيث: دلالته على ما يعلم أو يظن أن مراد الله - سبحانه وتعالى - بقدر الطاقة الإنسانية، فهذا يتناول أقسام البيان بأسرها. انتهى كلام الفناري بنوع تلخيص.
ثم أورد فصولا: في تقسيم هذا الحد إلى: تفسير، وتأويل، وبيان الحاجة إليه، وجواز الخوض فيهما، ومعرفة وجوههما، المسماة: بطونا، أو ظهرا، وبطنا، وحدا، فمن أراد الاطلاع على حقائق علم التفسير، فعليه مطالعته، ولا ينبؤه مثل خبير.
ثم إن المولى: أبا الخير، أطال في (طبقات المفسرين).
ونحن أشرنا: إلى من ليس لهم تصنيف فيه، من مفسري الصحابة، والتابعين، إشارة إجمالية، والباقي مذكور عند ذكر كتابه.
أما المفسرون من الصحابة، فمنهم:
الخلفاء الأربعة.
وابن مسعود.
وابن عباس.
وأبي بن كعب.
وزيد بن ثابت.
وأبو موسى الأشعري.
وعبد الله بن الزبير.
وأنس بن مالك.
وأبو هريرة.
وجابر.
وعبد الله بن عمرو بن العاص، - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين -.
ثم اعلم: أن الخلفاء الأربعة، أكثر من روي عنه: علي بن أبي طالب، والرواية عن الثلاثة، في ندرة جدا.
والسبب فيه: تقدم وفاتهم، وأما علي - رضي الله عنه - فروي عنه الكثير.
عن ابن مسعود، أنه قال: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، ما منها حرف إلا وله ظهر وبطن، وإن عليا - رضي الله تعالى عنه - عنده من الظاهر والباطن.
وأما بن مسعود - رضي الله تعالى عنهم -، فروي عنه أكثر مما روي عن علي - رضي الله تعالى عنه -.
مات: بالمدينة، سنة 32، اثنتين وثلاثين.
وأما ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -.
المتوفى: سنة 68، ثمان وستين، بالطائف.
فهو ترجمان القرآن، وحبر الأمة، ورئيس المفسرين، دعا له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل).
وقد ورد عنه: في التفسير، ما لا يحصى كثرة، لكن أحسن الطرق عنه: طريقة: علي بن أبي طلحة الهاشمي.
المتوفى: سنة 143، ثلاث وأربعين ومائة.
واعتمد على هذه البخاري في (صحيحه).
ومن جيد الطرق عنه: طريق: قيس بن مسلم الكوفي.
المتوفى: سنة 120، عشرين ومائة.
عن عطاء بن السائب.
وطريق: ابن إسحاق صاحب (السير).
وأوهى طريقته: طريق الكلبي، عن أبي صالح.
والكلبي: هو: أبو النصر: محمد بن السائب.
المتوفى: بالكوفة، سنة 146، ست وأربعين ومائة.
فإن انضم إليه رواية: محمد بن مروان السدي الصغير.
المتوفى: سنة 186، ست وثمانين ومائة.
فهي سلسلة الكذب.
وكذلك: طريق: مقاتل بن سليمان بن بشر الأزدي.
المتوفى: سنة 150، خمسين ومائة.
إلا أن الكلبي: يفضل عليه، لما في مقاتل من المذاهب الرديئة.
وطريق: الضحاك بن مزاحم الكوفي.
المتوفى: سنة 102، اثنتين ومائة.
عن: ابن عباس منقطعة، فإن الضحاك لم يلقه.
وإن انضم إلى ذلك: رواية: بشر بن عمارة، فضعيفة ضعف بشر.
وقد أخرج عنه:
ابن جرير.
وابن أبي حاتم.
وإن كان من رواية: جرير عن الضحاك، فأشد ضعفا، لأن جريرا شديد الضعف، متروك.
وإنما أخرج منه:
ابن مردويه.
وأبو الشيخ: ابن حبان.
دون: ابن جرير.
وأما: أبي بن كعب.
المتوفى: سنة 20، عشرين، على خلاف فيه.
فعنه نسخة كبيرة.
يرويها: أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عنه، وهذا إسناد صحيح.
وهو أحد الأربعة الذين جمعوا القرآن، على عهد رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -.
وكان أقرأ الصحابة، وسيد القراء.
ومن الصحابة: من ورد عنه اليسير من التفسير، غير هؤلاء، منهم:
أنس بن مالك بن النضر.
المتوفى: بالبصرة، سنة 91، إحدى وتسعين.
وأبو هريرة: عبد الرحمن بن صخر، على خلاف.
المتوفى: بالمدينة، سنة 57، سبع وخمسين.
وعبد الله بن عمر بن الخطاب.
المتوفى: بمكة المكرمة، سنة 73، ثلاث وسبعين.
وجابر بن عبد الله الأنصاري.
المتوفى: بالمدينة، سنة 74، أربع وسبعين.
وأبو موسى: عبد الله بن قيس الأشعري.
المتوفى: سنة 44، أربع وأربعين.
وعبد الله بن عمرو بن العاص السهمي.
المتوفى: سنة 63، ثلاث وستين.
وهو: أحد العبادلة الذين استقر عليهم أمر العلم، في آخر عهد الصحابة.
وزيد بن ثابت الأنصاري.
وأما المفسرون من التابعين، فمنهم:
أصحاب ابن عباس.
وهم علماء مكة المكرمة - شرفها الله تعالى -.
ومنهم:
مجاهد بن حبر المكي.
المتوفى: سنة 103، ثلاث ومائة.
قال: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة.
واعتمد على تفسيره: الشافعي، والبخاري.
وسعيد بن جبير.
المتوفى: سنة 94، أربع وتسعين.
وعكرمة، مولى: ابن عباس.
المتوفى: بمكة، سنة 105، خمس ومائة.
وطاووس بن كيسان اليماني.
المتوفى: بمكة، سنة 106، ست ومائة.
وعطاء بن أبي رباح المكي.
المتوفى: سنة 114، أربع عشرة ومائة.
ومنهم:
أصحاب ابن مسعود.
وهم: علماء الكوفة.
كعلقمة بن قيس.
المتوفى: سنة 102، اثنتين ومائة.
والأسود بن يزيد.
المتوفى: سنة 75، خمس وسبعين.
وإبراهيم النخعي.
المتوفى: سنة 95، خمس وتسعين.
والشعبي.
المتوفى: سنة 105، خمس ومائة.
ومنهم:
أصحاب: زيد بن أسلم.
كعبد الرحمن بن زيد.
ومالك بن أنس.
ومنهم:
الحسن البصري.
المتوفى: سنة 121، إحدى وعشرين ومائة.
وعطاء بن أبي سلمة ميسرة الخراساني.
المتوفى: سنة...
ومحمد بن كعب القرظي.
المتوفى: سنة 117، سبع عشرة ومائة.
وأبو العالية: رفيع بن مهران الرياحي.
المتوفى: سنة 90، تسعين.
والضحاك بن زاحم.
وعطية بن سعيد العوفي.
المتوفى: سنة 111، إحدى عشرة ومائة.
وقتادة بن دعامة السدوسي.
المتوفى: سنة 117، سبع عشرة ومائة.
وربيع بن أنس السدي.
ثم بعد هذه الطبقة:
الذين صنفوا كتب التفاسير، التي تجمع أقوال الصحابة، والتابعين:
كسفيان بن عيينة.
ووكيع بن الجراح.
وشعبة بن الحجاج.
ويزيد بن هارون.
وعبد الرزاق.
وآدم بن أبي إياس.
وإسحاق بن راهويه.
وروح بن عبادة.
وعبد الله بن حميد.
وأبي بكر بن أبي شيبة.
... وآخرين.
وسيأتي ذكر كتبهم.
ثم بعد هؤلاء: طبقة أخرى، منهم:
عبد الرزاق.
وعلي بن أبي طلحة.
وابن جرير.
وابن أبي حاتم.
وابن ماجة.
والحاكم.
وابن مردويه.
وأبو الشيخ: ابن حبان.
وابن المنذر ... في آخرين.
ثم انتصبت طبقة بعدهم:
إلى تصنيف: تفاسير مشحونة بالفوائد، محذوفة الأسانيد، مثل:
أبي إسحاق الزجاج.
وأبي علي الفارسي.
وأما:
أبو بكر النقاش.
وأبو جعفر النحاس.
فكثيرا ما استدرك الناس عليهما.
ومثل: مكي بن أبي طالب.
وأبي العباس المهدوي.
ثم ألف في التفسير طائفة من المتأخرين:
فاختصروا الأسانيد، ونقلوا الأقوال بتراء، فدخل من هنا الدخيل، والتبس الصحيح بالعليل، ثم صار كل من سنح له قول يورده، ومن خطر بباله شيء يعتمده، ثم ينقل ذلك خلف عن سلف، ظانا أن له أصلا، غير ملتفت إلى تحرير ما ورد عن السلف الصالح، ومن هم القدوة في هذا الباب.
قال السيوطي: رأيت في تفسير قوله - سبحانه وتعالى -: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين)، نحو: عشرة أقول، مع أن الوارد عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وجميع الصحابة، والتابعين: ليس غير اليهود والنصارى.
حتى قال ابن أبي حاتم: لا أعلم في هذا اختلافا من المفسرين.
ثم صنف بعد ذلك: قوم برعوا في شيء من العلوم.
ومنهم: من ملأ كتابه بما غلب على طبعه من الفن، واقتصر فيه على: ما تمهر هو فيه، كأن القرآن انزل لأجل هذا العلم لا غير، مع أن فيه تبيان كل شيء.
فالنحوي: تراه ليس له هم إلا الإعراب، وتكثير الأوجه المحتملة فيه، وإن كانت بعيدة، وينقل قواعد النحو، ومسائله، وفروعه، وخلفياته:
كالزجاج.
والواحدي في: (البسيط).
وأبي حيان في: (البحر والنهر).
والإخباري: ليس له شغل إلا القصص واستيفاؤها، والأخبار عمن سلف، سواء كانت صحيحة أو باطلة.
ومنهم:
الثعلبي.
والفقيه: يكاد يسرد فيه الفقه جميعا، وربما استطرد إلى إقامة أدلة الفروع الفقهية، التي لا تعلق لها بالآية أصلا، والجواب عن أدلة المخالفين:
كالقرطبي.
وصاحب: (العلوم العقلية).
خصوصا:
الإمام: فخر الدين الرازي.
قد ملأ تفسيره: بأقوال الحكماء، والفلاسفة، وخرج من شيء إلى شيء، حتى يقضي الناظر العجب.
قال أبو حيان في (البحر) : جمع الإمام الرازي في تفسيره أشياء كثيرة طويلة، لا حاجة بها في علم التفسير.
ولذلك قال بعض العلماء: فيه كل شيء إلا التفسير.
والمبتدع: ليس له قصد إلا تحريف الآيات، وتسويتها على مذهبه الفاسد، بحيث أنه لو لاح له شاردة من بعيد اقتنصها، أو وجد موضعا له فيه أدنى مجال سارع إليه.
كما نقل عن البلقيني، أنه قال: استخرجت من (الكشاف) اعتزالا بالمناقيش، منها:
أنه قال في قوله - سبحانه وتعالى -: (فمن زحزح عن النار، وأدخل الجنة فقد فاز)، أي: فوز أعظم من دخول الجنة، أشار به إلى عدم الرؤية.
والملحد: فلا تسأل عن كفره، وإلحاده في آيات الله - تعالى -، وافترائه على الله - تعالى - ما لم يقله.
كقول بعضهم (إن هي إلا فتنتك) : ما على العباد أضر من ربهم.
وينسب هذا القول إلى صاحب: (قوت القلوب)، أبي طالب المكي.
ومن ذلك القبيل: الذين يتكلمون في القرآن بلا سند، ولا نقل عن السلف، ولا رعاية للأصول الشرعية، والقواعد العربية.
كتفسير: محمود بن حمزة الكرماني.
في مجلدين.
سماه: (العجائب، والغرائب).
ضمنه: أقوالا، هي عجائب عند العوام، وغرائب عما عهد عن السلف، بل هي أقوال منكرة، لا يحل الاعتقاد عليها، ولا ذكرها، إلا للتحذير.
من ذلك قول من قال في (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا) : إنه الحب والعشق.
ومن ذلك قولهم في (ومن شر غاسق إذا وقب) : إنه الذكر إذا قام.
وقولهم في (من ذا الذي يشفع عنده) : معناه: (من ذل)، أي: من الذل، و(ذي) : إشارة إلى النفس، و(يشف) : من الشفاء، جواب: مَنْ، و(عِ) : أمر من الوعي.
وسئل البلقيني: عمن فسر بهذا؟ فأفتى بأنه: ملحد.
وأما: كلام الصوفية في القرآن، فليس بتفسير.
قال ابن الصلاح في (فتاواه) : وجدت عند الإمام الواحدي، أنه قال: صنف السلمي (حقائق التفسير)، إن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير، فقد كفر.
قال النسفي في (عقائده) : النصوص تحمل على ظواهرها، والعدول عنها، إلى معان يدعيها أهل الباطن، إلحاد.
وقال التفتازاني في (شرحه) : سميت الملاحدة: باطنية، لادعائهم أن النصوص ليست على ظواهرها، بل لها معان باطنة.
وقال: وأما ما يذهب إليه بعض المحققين، من أن النصوص على ظواهرها، ومع ذلك فيها إشارات خفية، إلى دقائق تنكشف على أرباب السلوك، يمكن التطبيق بينها، وبين الظواهر المرادة، فهو من كمال العرفان، ومحض الإيمان.
وقال تاج الدين، عطاء الله، في (لطائف المنن) : اعلم: أن تفسير هذه الطائفة لكلام الله - سبحانه وتعالى -، وكلام رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - بالمعاني الغريبة، ليست إحالة الظاهر عن ظاهره، ولكن ظاهر الآية مفهوم، منه ما جلبت الآية له، ودلت عليه في عرف اللسان، وثَمَّ أفهام باطنة تفهم عند الآية والحديث، لمن فتح الله - تعالى - قلبه.
وقد جاء في الحديث: (لكل آية ظهر وباطن...).
فلا يصدنك عن تلقي هذه المعاني منهم، أن يقول لك ذو جدل: هذا إحالة لكلام الله - تعالى -، وكلام رسول الله، فليس ذلك بإحالة؛ وإنما يكون إحالة، لو قال: لا معنى للآية إلا هذا.
وهم يقولون ذلك، بل يفسرون الظواهر على ظواهرها، مرادا بها موضوعاتها. انتهى.
قال صاحب (مفتاح السعادة) : الإيمان بالقرآن هو: التصديق بأنه كلام الله - سبحانه وتعالى -، قد أنزل على رسوله محمد - صلى الله تعالى عليه وسلم -، بواسطة جبرائيل - عليه السلام -، وأنه دال على صفة أزلية له - سبحانه وتعالى -، وأن ما دل هو عليه بطريق القواعد العربية، مما هو مراد الله - سبحانه وتعالى - حق لا ريب فيه، ثم تلك الدلالة على مراده - سبحانه وتعالى - بواسطة القوانين الأدبية، الموافقة للقواعد الشرعية، والأحاديث النبوية، مراد الله - سبحانه وتعالى -.
ومن جملة ما علم من الشرائع: أن مراد الله - سبحانه وتعالى - من القرآن، لا ينحصر في هذا القدر، لما قد ثبت في الأحاديث: (إن لكل آية ظهرا وبطنا..).
وذلك المراد الآخر لما لم يطلع عليه كل أحد، بل من أعصى فهما وعلما، من لدنه - تعالى - يكون الضابط في صحته: أن لا يرفع ظاهر المعاني المنفهمة، عن الألفاظ بالقوانين العربية، وأن لا يخالف القواعد الشرعية، ولا يباين إعجاز القرآن، ولا يناقض النصوص الواقعة فيها، فإن وجد هذه الشرائط، فلا يطعن فيه، وإلا فهو بمعزل عن القبول.
قال الزمخشري: من حق تفسير القرآن أن يتعاهد بقاء النظم على حسنه، والبلاغة على كمالها، وما وقع به التحدي سليما من القادح، وأما الذين تأيدت فطرتهم النقية، بالمشاهدات الكشفية، فهم القدوة في هذه المسالك، ولا يمنعون أصلا عن التوغل في ذلك.
ثم ذكر ما وجب على المفسر من الآداب، وقال:
ثم اعلم: أن العلماء - كما بينوا في التفسير شرائط - بينوا أيضا في المفسر شرائط، لا يحل التعاطي لمن عري عنها، أو هو فيها راجل، وهي: أن يعرف خمسة عشر علما، على وجه الإتقان، والكمال:
اللغة، والنحو، والتصريف، والاشتقاق، والمعاني، والبيان، والبديع، والقراآت، وأصول الدين، وأصول الفقه، وأسباب النزول، والقصص، والناسخ والمنسوخ، والفقه، والأحاديث المبينة لتفسير المجمل والمبهم، وعلم الموهبة، وهو: علم يورثه الله - سبحانه وتعالى - لمن عمل بما علم، وهذه العلوم التي لا مندوحة للمفسر عنها، وإلا فعلم التفسير لا بد له من التبحر في كل العلوم.
ثم إن تفسير القرآن ثلاثة أقسام:
الأول: علم لم يطلع الله - سبحانه وتعالى - عليه أحدا من خلقه، وهو: ما استأثر به من علوم أسرار كتابه، من معرفة: كنه ذاته، ومعرفة حقائق أسمائه، وصفاته، وهذا لا يجوز لأحد الكلام فيه.
والثاني: ما أطلع الله - سبحانه وتعالى - نبيه عليه من أسرار الكتاب، واختص به، فلا يجوز الكلام فيه، إلا له - عليه الصلاة والسلام -، أو لمن أذن له.
قيل: وأوائل السور من هذا القسم، وقيل: من الأول.
والثالث: علوم علمها - الله تعالى - نبيه، مما أودع كتابه من المعاني الجلية، والخفية، وأمره بتعليمها.
وهذا ينقسم إلى قسمين:
منه: ما لا يجوز الكلام فيه، إلا بطريق السمع، كأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والقراآت، واللغات، وقصص الأمم، وأخبار ما هو كائن.
ومنه: ما يؤخذ بطريق النظر، والاستنباط، من الألفاظ، وهو قسمان:
قسم: اختلفوا في جوازه ، وهو: تأويل الآيات المتشابهات.
وقسم: اتفقوا عليه، وهو: استنباط الأحكام الأصلية، والفرعية، والإعرابية، لأن مبناها على الأقيسة.
وكذلك: فنون البلاغة، وضروب المواعظ، والحكم، والإشارات، لا يمتنع استنباطها منه، لمن له أهلية ذلك؛ وما عدا هذه الأمور هو: التفسير بالرأي، الذي نهي عنه.
وفيه خمسة أنواع:
الأول: في التفسير، من غير حصول العلوم، التي يجوز معها التفسير.
الثاني: تفسير المتشابه، الذي لا يعلمه إلا الله - سبحانه وتعالى -.
الثالث: التفسير المقرر للمذهب الفاسد، بأن يجعل المذهب أصلا، والتفسير تابعا له، فيرد إليه بأي طريق أمكن، وإن كان ضعيفا.
الرابع: التفسير بأن مراد الله - سبحانه وتعالى - كذا على القطع، من غير دليل.
الخامس: التفسير بالاستحسان والهوى.
وإذا عرفت هذه الفوائد، وإن أطنبنا فيها، لكونها رأس العلوم، ورئيسها.
فاعلم: أن كتب التفاسير كثيرة، ذكرنا منها هاهنا ما هو مسطور في هذا السفر على ترتيبه.
(الإبانة، في تفسير آية الأمانة).
(الإتقان، في علوم القرآن).
(أبين الحصص، في أحسن القصص).
(أحكام القرآن).
كثيرة.
(إرشاد العقل السليم).
لأبي مسعود.
(إرشاد ابن برجان).
(أسباب النزول).
سبق كتبه في فنه.
(إعراب القرآن).
مر ذكر كتبه في فنه.
(أسئلة القرآن).
(إعجاز القرآن).
(إغاثة اللهف، تفسير الكهف).
(أقاليم التعاليم).
(أقسام القرآن).
(الإقناع).
في تفسير: آية الانتصار.
للزمخشري، من أبي المنير.
(الانتصاف، شرح الكشاف).
(الإنصاف، في الجمع بين: الثعلبي والكشاف).
(أنوار التنزيل).
للبيضاوي.
ومتعلقاته.
(أنوار ابن مقسم).
(إيجاز البيان).
(الإيجاز في الناسخ والمنسوخ).
(الإيضاح).
فيه أيضا.
(بحار القرآن).
(بحر الحقائق).
(بحر الدرر).
(بحر العلوم).
(البرهان، في علوم القرآن).
(البرهان، في تفسير القرآن).
(بحر البحور).
(البرهان، في تناسب السور).
(البرهان، في إعجاز القرآن).
(بسيط الواحدي).
(بصائر ذوي التمييز).
(بصائر).
فارسي.
(البيان، في تأويلات القرآن).
(البيان، في مبهمات القرآن).
(البيان، في علوم القرآن).
(البيان، في شواهد القرآن).
(تاج المعاني).
(تاج التراجم).
(تأويلات القرآن).
(تأويلات الماتريدي).
(التبصرة في التفسير).
(تبصير الرحمن).
(التبيان، في إعراب القرآن).
(التبيان، في تفسير القرآن).
(التبيان، في أقسام القرآن).
(التبيان، في مسائل القرآن).
(التبيان، في متشابه القرآن).
(تبيين القرآن).
(تحف الأنام).
(تحقيق البيان).
(التحبير، في علوم التفسير).
(ترجمان القرآن).
(الترجمان في التفسير).
(تعداد الآي).
(التعظيم والمنة).
(تعلق الآي).
علم التفسير: أي تفسير القرآن
هو: علم باحث عن معنى نظم القرآن بحسب الطاقة البشرية وبحسب ما تقتضيه القواعد العربية.
ومباديه: العلوم العربية وأصول الكلام وأصول الفقه والجدل وغير ذلك من العلوم الجمة.
والغرض منه: معرفة معاني النظم بقدر الطاقة البشرية.
وفائدته: حصول القدرة على استنباط الأحكام الشرعية على وجه الصحة والاتعاظ بما فيه من القصص والعبر والاتصاف بما تضمنه من مكارم الأخلاق إلى غير ذلك من الفوائد التي لا يمكن تعدادها لأنه بحر لا تنقضي عجائبه وسبحانه من أنزله وأرشد به عباده.
وموضوعه: كلام الله - سبحانه وتعالى - الذي هو: منبع كل حكمة ومعدن كل فضيلة.
وغايته: التوصل إلى فهم معاني القرآن واستنباط حكمه ليفاز به إلى السعادة الدنيوية والأخروية وشرف العلم وجلالته باعتبار شرف موضوعه وغايته فهو أشرف العلوم وأعظمها هذا ما ذكره أبو الخير وابن صدر الدين والأرتيقي.
قال في: كشاف اصطلاحات الفنون: علم التفسير: علم يعرف به نزول الآيات وشؤونها وأقاصيصها والأسباب النازلة فيها ثم ترتيب مكيها ومدنيها ومحكمها ومتشابهها وناسخها ومنسوخها وخاصها وعامها ومطلقها ومقيدها ومجملها ومفسرها وحلالها وحرامها ووعدها ووعيدها وأمرها ونهيها وامتثالها وغيرها.
قال أبوحيان: التفسير: علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها وأحكامها الإفرادية والتركيبية ومعانيها التي يحمل عليه حالة التركيب وتتمات ذلك.
وقال الزركشي: التفسير: علم يفهم به كتاب الله المنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحكمه واستمداد ذلك من علم اللغة والنحو والتصريف وعلم البيان وأصول الفقه والقراءات وأما وجه الحاجة إليه فقال بعضهم: اعلم أن من المعلوم أن الله تعالى إنما خاطب خلقه بما يفهمونه ولذلك أرسل كل رسول بلسان قومه وأنزل كتابه على لغتهم وإنما احتيج إلى التفسير لما سيذكر بعد تقرير قاعدة وهي: أن كل من وضع من البشر كتاب فإنما وضعه ليفهم بذاته من غير شرح وإنما احتيج إلى الشروح لأمور ثلاثة:
أحدها: كمال فضيلة المصنف فإنه بقوته العلمية بجمع المعاني الدقيقة في اللفظ الوجيز فربما عسر فهم مراده فقصد بالشروح ظهور تلك المعاني الدقيقة من ههنا كان شرح بعض الأئمة لتصنيفه أدل على المراد من شرح غيره له"
وثانيها: إغفاله بعض متممات المسئلة أو شروطها اعتمادا على وضوحها أو لأنها من علم آخر فيحتاج الشارح لبيان المتروك ومراتبه.
وثالثها: احتمال اللفظ لمعان مختلفة كما في المجاز والاشتراك ودلالة الالتزام فيحتاج الشارح إلى بيان غرض المصنف وترجيحه وقد يقع في التصانيف ما لا يخلو عنه بشر من السهو والغلط أو تكرار الشيء أو حذف المهم أو غير ذلك فيحتاج الشارح للتنبيه على ذلك وإذا تقرر هذا فنقول:
إن القرآن إنما نزل بلسان عربي في زمن فصحاء العرب وكانوا يعلمون ظاهره وأحكامه أما دقائق باطنه فإنما كانت تظهر لهم بعد البحث والنظر مع سؤالهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الأكثر كسؤالهم لما نزل: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} فقالوا:
وأينا لم يظلم نفسه ففسره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشرك واستدل عليه {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وغير ذلك مما سألوا عنه - صلى الله عليه وسلم - ونحن محتاجون إلى ما كانوا يحتاجون إليه مع أحكام الظاهر لقصورنا عن مدارك أحكام اللغة بغير تعلم فنحن أشد احتياجــا إلى التفسير.
وأما شرفه: فلا يخفى قال الله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} .
وقال الأصبهاني: شرفه من وجوه:
أحدها: من جهة الموضوع: فإن موضوعه كلام الله تعالى الذي ينبوع كل حكمة ومعدن كل فضيلة.
وثانيها: من جهة الغرض: فإن الغرض منه الاعتصام بالعروة الوثقى والوصول إلى السعادة الحقيقية التي هي الغاية القصوى.
وثالثها: من جهة شدة الحاجة: فإن كل كمال ديني أو دنيوي مفتقر إلى العلوم الشرعية والمعارف الدينية وهي متوقفة على العلم بكتاب الله تعالى.
واختلف الناس في تفسير القرآن: هل يجوز لكل أحد الخوض فيه؟ فقال قوم: لا يجوز لأحد أن يتعاطى تفسير شيء من القرآن وأن كان عالما أديبا متسعا في معرفة الأدلة والفقه والنحو والأخبار والآثار، وليس له إلا أن ينتهي إلى ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك.
ومنهم من قال: يجوز تفسيره لمن كان جامعا للعلوم التي يحتاج المفسر إليها وهي خمسة عشر علما: اللغة والنحو والتصريف والاشتقاق والمعاني والبيان والبديع وعلم القراءات: لأنه يعرف به كيفية النطق بالقرآن وبالقراءات يرجح بعض الوجوه المحتملة على بعض وأصول الدين: أي الكلام وأصول الفقه وأسباب النزول والقصص إذ بسبب النزول يعرف معنى الآية المنزلة فيه بحسب ما أنزلت فيه والناسخ والمنسوخ ليعلم المحكم من غيره والفقه والأحاديث المبينة لتفسير المبهم والمجمل وعلم الموهبة وهو علم يورثه الله لمن عمل بما علم وإليه الإشارة بحديث: من عمل بما علم أورثه الله تعالى علم ما لم يعلم.
قال البغوي والكواشي وغيرهما: التأويل صرف الآية إلى معنى موافق لما قبلها وما بعدها تحتملها الآية غير مخالف للكتاب والسنة غير محظور على العلماء بالتفسير كقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} .
وقيل: أغنياء وفقراء.
وقيل: نشاطا أو غير نشاط.
وقيل: أصحاء ومرضى وكل ذلك سائغ والآية تحتمله.
وأما التأويل المخالف للآية والشرخ فمحظور لأنه تأويل الجاهلين مثل تأويل الروافض قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} أنهما علي وفاطمة {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} يعني الحسن والحسين. انتهى.
وذكر العلامة الفناري في: تفسير الفاتحة فصلا مفيدا في تعريف هذا العلم ولا بأس بإيراده اذ هو مشتمل على لطائف التعريف.
قال قطب الدين الرازي في شرحه ل: الكشاف: هو ما يبحث فيه عن مراد الله - سبحانه وتعالى - من قرآنه المجيد ويرد عليه أن البحث فيه ربما كان عن أحوال الألفاظ: كمباحث القراءات وناسخية الألفاظ ومنسوخيتها وأسباب نزولها وترتيب نزولها إلى غير ذلك فلا يجمعها أحده.
وأيضا يدخل فيه البحث في الفقه الأكبر والأصغر عما يثبت بالكتاب فإنه بحث عن مراد الله تعالى من قرآنه فلا يمنعه أحد فكان الشارح التفتازاني إنما عدل عنه لذلك إلى قوله: هو العلم الباحث عن أحوال الألفاظ كلام الله - سبحانه وتعالى - من حيث الدلالة على مراد الله وترد على مختاره أيضا وجوه:
الأول: أن البحث المتعلق بألفاظ القرآن ربما لا يكون بحيث يؤثر في المعنى المراد بالدلالة والبيان: كمباحث علم القراءة عن أمثال التفخيم والإمالة إلى ما لا يحصى فإن علم القراءة جزء من علم التفسير أفرز عنه لمزيد الاهتمام إفراز الكحالة من الطب والفرائض من الفقه.
وقد خرج بقيد الحيثية ولم يجمعه فإن قيل: أراد تعريفه بعد إفراز علم القراءة
قلنا: فلا يناسب الشرح المشروح للبحث في التفسير عما لا يتغير به المعنى في مواضع لا تحصى
الثاني: أن المراد بالمراد إن كان المراد بمطلق الكلام فقد دخل العلوم الأدبية وإن كان مراد الله تعالى بكلامه.
فإن أريد مراده في نفس الأمر فلا يفيده بحث التفسير لأن: طريقه غالبا إما رواية الآحاد أو الدراية بطريق العربية وكلاهما ظني كما عرف ولأن فهم كل أحد بقدر استعداده ولذلك أوصى المشائخ - رحمهم الله - في الإيمان أن يقال: آمنت بالله وبما جاء من عنده على مراده وآمنت برسول الله وبما قاله على مراده ولا يعين بما ذكره أهل التفسير ويكرر ذلك على الهدي في تأويلاته.
وإن أريد مراد الله - سبحانه وتعالى - في زعم المفسر ففيه خرازة من وجهين:
الأول: كون علم التفسير بالنسبة إلى كل مفسر بل إلى كل أحد شيئا آخر وهذا مثل ما اعترض على حد الفقه لصاحب: التنقيح وظن وروده وإلا فإني أجيب عنه بأن التعدد ليس في حقيقته النوعية بل في جزئياتها المختلفة باختلاف القوابل.
وأيضا ذكر الشيخ صدر الدين القونوي في تفسير: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} : أن جميع المعاني المفسر بها لفظ القرآن رواية أو دراية صحيحتين مراد الله - سبحانه وتعالى - لكن بحسب المراتب والقوابل لا في حق كل أحد.
الثاني: أن الأذهان تنساق بمعاني الألفاظ إلى ما في نفس الأمر على ما عرف فلا بد لصرفها عنه من أن يقال من حيث الدلالة على ما يظن أنه مراد الله سبحانه وتعالى.
الثالث: أن عبارة العلم الباحث في المتعارف ينصرف إلى الأصول والقواعد أو ملكتها وليس لعلم التفسير قواعد يتفرع عليها الجزئيات إلا في مواضع نادرة فلا يتناول غير تلك المواضع إلا بالعناية فالأولى: أن يقال علم التفسير معرفة أحوال كلام الله سبحانه وتعالى من حيث القرآنية ومن حيث دلالته على ما يعلم أو يظن أنه مراد الله سبحانه وتعالى بقدر الطاقة الإنسانية فهذا يتناول أقسام البيان بأسرها. انتهى كلام الفناري بنوع تلخيص.
ثم أورد فصولا في تقسيم هذا الحد إلى تفسير وتأويل وبيان الحاجة إليه وجواز الخوض فيهما ومعرفة وجوههما المسماة بطونا أو ظهرا أو بطنا فمن أراد الإطلاع على حقائق علم التفسير فعليه بمطالعته ولا ينبؤه مثل خبير.
ثم إن أبا الخير أطال في ذكر: طبقات المفسرين ونحن أشرنا إلى من ليس لهم تصنيف فيه من مفسري الصحابة والتابعين إشارة جمالية والباقي مذكور عند ذكر كتابه.
أما المفسرون من الصحابة فمنهم: الخلفاء الأربعة وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري وعبد الله بن الزبير وأنس بن مالك وأبو هريرة وجابر وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم.
ثم اعلم أن الخلفاء الأربعة أكثر من روي عنه علي بن أبي طالب والرواية عن الثلاثة في ندرة جدا والسبب فيه تقدم وفاتهم وأما علي رضي الله عنه فروي عنه الكثير وروي عن ابن مسعود أنه قال إن القرآن أنزل على سبعة أحرف ما منها حرف إلا وله ظهر وبطن وإن عليا - رضي الله عنه - عنده من الظاهر والباطن.
وأما ابن مسعود فروي عنه أكثر مما روي عن علي مات بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين.
وأما ابن عباس المتوفى سنة ثمان وستين بالطائف فهو: ترجمان القرآن وحبر الأمة ورئيس المفسرين دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل".
وقد روي عنه في التفسير ما لا يحصى كثرة لكن أحسن الطرق عنه طريق علي بن أبي طلحة الهاشمي المتوفى سنة ثلاث وأربعين ومائة واعتمد على هذه البخاري في صحيحه.
ومن جيد الطرق عنه طريق قيس بن مسلم الكوفي المتوفى سنة عشرين ومائة عن عطاء بن السائب.
وطريق ابن إسحاق صاحب: السير.
وأوهى طريقة طريق الكلبي عن أبي صالح والكلبي: هو أبو النصر محمد بن السائب المتوفى بالكوفة سنة ست وأربعين ومائة فإن انضم إليه رواية محمد بن مروان السدي الصغير المتوفى سنة ست وثمانين ومائة فهي سلسلة الكذب وكذلك طريق مقاتل بن سليمان بن بشر الأزدي المتوفى سنة خمسين ومائة إلا أن الكلبي يفضل عليه لما في مقاتل من المذاهب الردية وطريق ضحاك بن مزاحم الكوفي المتوفى سنة اثنتين مائة عن ابن عباس منقطعة فإن الضحاك لم يلقه وإن انضم إلى ذلك رواية بشر بن عمارة فضعيفة لضعف بشر وقد أخرج عنه ابن جرير وابن أبي حاتم وإن كان من رواية جرير عن الضحاك فأشد ضعفا لأن جريرا شديد الضعف متروك وإنما أخرج عنه ابن مردويه وأبو الشيخ ابن حبان دون ابن جرير وأما أبي ابن كعب المتوفى سنة عشرين على خلاف فيه فعن نسخة كبيرة يرويها أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عنه وهذا إسناد صحيح وهو أحد الأربعة الذي جمعوا القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أقرأ الصحابة وسيد القراء.
ومن الصحابة من ورد عنه اليسير من التفسير غير هؤلاء منهم أنس بن مالك بن النضر المتوفى بالبصرة سنة إحدى وتسعين.
وأبو هريرة عبد الرحمن بن صخر على خلاف المتوفى بالمدينة سنة سبع وخمسين.
وعبد الله بن عمر بن الخطاب المتوفى بمكة المكرمة سنة ثلاث وسبعين.
وجابر بن عبد الله الأنصاري المتوفى بالمدينة سنة أربع وسبعين.
وأبو موسى عبد الرحمن بن قيس الأشرعي المتوفى سنة أربع وأربعين.
وعبد الله بن عمرو بن العاص السهمي المتوفى سنة ثلاث وستين وهو أحد العبادلة الذين استقر عليهم أمر العلم في آخر عهد الصحابة.
وزيد بن ثابت الأنصاري كاتب النبي - صلى الله عليه وسلم - المتوفى سنة خمس وأربعين
وأما المفسرون من التابعين فمنهم أصحاب ابن عباس وهم: علماء مكة المكرمة - شرفها الله تعالى.
ومنهم: مجاهد بن جبر المكي المتوفى سنة ثلاث ومائة قال: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة واعتمد على تفسيره الشافعي والبخاري.
وسعيد بن جبير المتوفى سنة أربع وتسعين.
وعكرمة مولى ابن عباس المتوفى بمكة سنة خمس ومائة.
وطاووس بن كيسان اليماني المتوفى بمكة سنة ست ومائة.
وعطاء بن أبي رباح المكي المتوفى سنة أربع عشرة ومائة. ومنهم أصحاب ابن مسعود وهم علماء الكوفة.
كعلقمة بن قيس المتوفى سنة اثنتين ومائة والأسود بن يزيد المتوفى سنة خمس وسبعين.
وإبراهيم النخعي المتوفى سنة خمس وتسعين.
والشعبي المتوفى سنة خمس ومائة.
ومنهم: أصحاب زيد بن أسلم كعبد الرحمن بن زيد ومالك بن أنس.
ومنهم: الحسن البصري المتوفى سنة إحدى وعشرين ومائة وعطاء بن أبي سلمة ميسرة الخراساني ومحمد بن كعب القرظي المتوفى سنة سبع عشرة ومائة وأبو العالية رفيع بن مهران الرياحي المتوفى سنة تسعين والضحاك بن مزاحم وعطية بن سعيد العوفي المتوفى سنة إحدى عشرة ومائة وقتادة بن دعامة السدوسي المتوفى سنة عشرة ومائة والربيع بن أنس والسدي
ثم بعد هذه الطبقة الذين صنفوا كتب التفاسير التي تجمع أقوال الصحابة والتابعين كسفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح وشعبة بن الحجاج ويزيد بن هارون وعبد الرزاق وآدم بن أبي إياس وإسحاق بن راهويه وروح بن عبادة وعبد لله بن حميد وأبي بكر بن أبي شيبة وآخرين.
ثم بعد هؤلاء طبقة أخرى منهم: عبد الرزاق علي بن أبي طلحة وابن جرير وابن أبي حاتم وابن ماجة والحاكم وابن مردويه وأبو الشيخ ابن حبان وابن المنذر في آخرين.
ثم انتصبت طبقة بعدهم إلى تصنيف تفاسير مشحونة بالفوائد محذوفة الأسانيد مثل: أبي أسحق الزجاج وأبي علي الفارسي.
وأما أبو بكر النقاش وأبو جعفر النحاس فكثيرا ما استدرك الناس عليهما ومثل مكي بن أبي طالب وأبي العباس المهدوي.
ثم ألف في التفسير طائفة من المتأخرين فاختصروا الأسانيد ونقلوا الأقوال بترا فدخل من هنا الدخيل والتبس الصحيح بالعليل ثم صار كل من سنح له قول يورده ومن خطر بباله شيء يعتمده ثم ينقل ذلك خلف عن سلف ظانا أن له أصلا غير ملتفت إلى تحرير ما ورد عن السلف الصالح ومن هم القدوة في هذا الباب.
ثم صنف بعد ذلك قوم برعوا في شيء من العلوم ومنهم من ملأ كتابه بما غلب على طبعه من الفن واقتصر فيه على ما تمهر هو فيه وكان القرآن أنزل لأجل هذا العلم لا غير مع أن فيه تبيان كل شيء.
فالنحوي تراه ليس له إلا الإعراب وتكثير الأوجه المحتملة فيه وإن كانت بعيدة وينقل قواعد النحو ومسائله وفروعه وخلافياته ك: الزجاج و: الواحدي في البسيط وأبي حيان في: البحر والنهر.
والإخباري ليس له شغل إلا القصص واستيفاؤها والأخبار عن سلف سواء كانت صحيحة أو باطلة ومنهم الثعلبي.
والفقيه يكاد يسرد فيه الفقه جميعا وربما استطرد إلى إقامة أدلة الفروع الفقهية التي لا تعلو لها بالآية أصلا والجواب عن الأدلة للمخالفين كالقرطبي.
وصاحب العلوم العقلية خصوصا الإمام فخر الدين الرازي قد ملأ تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة وخرج من شيء إلى شيء حتى يقضي الناظر العجب قال أبو حيان في البحر: جمع الإمام الرازي في تفسيره أشياء كثيرة طويلة لا حاجة بها في علم التفسير ولذلك قال بعض العلماء فيه: كل شيء إلا التفسير وللمبتدع ليس له قصد إلا تحريف الآيات وتسويتها على مذهبه الفاسد بحيث أنه لو لاح له شاردة من بعيد اقتنصها أو وجد موضعا له فيه أدنى مجال سارع إليه كما نقل عن البلقيني أنه قال: استخرجت من: الكشاف اعتزالا بالمناقيش منها أنه قال في قوله - سبحانه وتعالى -: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} أي فوز أعظم من دخول الجنة أشار به إلى عدم الرؤية والملحد لا تسأل عن كفره وإلحاده في آيات الله تعالى وافترائه على الله تعالى ما لم يقله كقول بعضهم: {ِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} وما علي العباد أضر من ربهم وينسب هذا القول إلى صاحب قوت القلوب أبي طالب المكي.
ومن ذلك القبيل الذين يتكلمون في القرآن بلا سند ولا نقل عن السلف ولا رعاية للأصول الشرعية والقواعد العربية كتفسير محمود بن حمزة الكرماني في مجلدين سماه: العجائب والغرائب ضمنه أقوالا هي: عجائب عند العوام وغرائب عما عهد عن السلف بل هي أقوال منكرة لا يحل الاعتقاد عليها ولا ذكرها إلا للتحذير من ذلك قول من قال في: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} إنه الحب والعشق ومن ذلك قولهم في: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} إنه الذكر إذا قام وقولهم: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ} معناه من ذل أي من الذل وذي إشارة إلى النفس ويشف من الشفاء جواب من وع أمر من الوعي.
وسئل البلقيني عمن فسر بهذا؟ فأفتى بأنه ملحد.
وأما كلام الصوفية في القرآن فليس بتفسير.
قال ابن الصلاح في فتاواه: وجدت عن الإمام الواحدي أنه قال: صنف السلمي حقائق التفسير إن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر.
قال النسفي في: عقائده: النصوص تحمل على ظواهرها والعدول عنها إلى معان يدعيها أهل الباطن إلحادا وقال التفتازاني في: شرحه: سميت الملاحدة باطنية لادعائهم أن النصوص ليست على ظواهرها بل لها معان باطنة لا يعلمها إلا المعلم وقصدهم بذلك نفي الشريعة بالكلية.
وقال: وأما ما يذهب إليه بعض المحققين من النصوص على ظواهرها ومع ذلك فيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف على أرباب السلوك يمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة فهو من كمال الإيمان ومحض العرفان.
وقال تاج الدين عطاء الله في: لطائف المنن: اعلم أن تفسير هذه الطائفة لكلام الله - سبحانه وتعالى - وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالمعاني الغريبة ليست إحالة الظاهر عن ظاهره ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جلبت الآية له ودلت عليه في عرف اللسان وثم أفهام باطنة تفهم عند الآية والحديث لمن فتح الله تعالى قلبه.
وقد جاء في الحديث: لكل آية ظهر وبطن ولكل حرف حد ولكل حد مطلع فلا يصدنك عن تلقي هذه المعاني منهم أن يقول لك ذو جدل: هذا إحالة كلام الله - تعالى - وكلام رسوله فليس ذلك بإحالة وإنما يكون إحالة لو قال: لا معنى للآية إلا هذا وهم لا يقولون ذلك بل يفسرون الظواهر على ظواهرها مرادا بها موضوعاتها. انتهى. قال في: كشاف اصطلاحات الفنون: أما الظهر والبطن ففي معناهما أوجه ثم ذكرها قال: قال بعض العلماء: لكل آية ستون ألف فهم فهذا يدل على أن في فهم المعاني من القرآن مجالا متسعا وأن المنقول من ظاهر التفسير ليس ينتهي الإدراك فيه بالنقل والسماع لا بد منه في ظاهر التفسير لتتقى به مواضع اللغط ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط ولا يجوز التهاون في حفظ التفسير الظاهر بل لا بد منه أولا إذ لا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر وإن شئت الزيادة فارجع إلى: الإتقان. انتهى.
قال صاحب مفتاح السعادة: الإيمان بالقرآن هو التصديق بأنه كلام الله - سبحانه وتعالى - قد أنزل على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - بواسطة جبريل - عليه السلام - وأنه دال على صفة أزلية له - سبحانه وتعالى - وأن ما دل هو عليه بطريق القواعد العربية مما هو مراد الله - سبحانه وتعالى - حق لا ريب فيه ثم تلك الدلالة على مراده - سبحانه وتعالى - بواسطة القوانين الأدبية الموافقة للقواعد الشرعية والأحاديث النبوية مراد الله سبحانه وتعالى.
ومن جملة ما علم من الشرائع أن مراد الله - سبحانه - من القرآن لا ينحصر في هذا القدر لما قد ثبت في الأحاديث أن لكل آية ظهرا وبطنا وذلك المراد الآخر لما لم يطلع عليه كل أحد بل من أعطي فهما وعلما من لدنه تعالى يكون الضابط في صحته أن لا يرفع ظاهر المعاني المنفهمة عن الألفاظ بالقوانين العربية وأن لا يخالف القواعد الشرعية ولا يباين إعجاز القرآن ولا يناقض النصوص الواقعة فيها فإن وجد فيه هذه الشرائط فلا يطعن فيه وألا فهو بمعزل عن القبول.
قال الزمخشري: من حق تفسير القرآن أن يتعاهد بقاء النظم على حسنه والبلاغة على كمالها وما وقع به التحدي سليما من القادح وأما الذين تأيدت فطرتهم النقية بالمشاهدات الكشفية فهم القدوة في هذه المسالك ولا يمنعون أصلا عن التوغل في ذلك ثم ذكر ما وجب على المفسر من آداب.
وقال: ثم اعلم أن العلماء كما بينوا في التفسير شرائط بينوا في المفسر أيضا شرائط لا يحل التعاطي لمن عري عنها وهو فيها راجل وهي: أن يعرف خمسة عشر علما على وجه الإتقان والكمال: اللغة والنحو والتصريف والاشتقاق والمعنى والبيان والبديع والقراءات وأصول الدين وأصول الفقه وأسباب النزول والقصص والناسخ والمنسوخ والفقه والأحاديث المبينة لتفسير المجمل والمبهم وعلم الموهبة وهو: علم يورثه الله - سبحانه وتعالى - لمن عمل بما علم وهذه العلوم التي لا مندوحة للمفسر عنها وإلا فعلم التفسير لا بد له من التبحر في كل العلوم.
ثم إن تفسير القرآن ثلاثة أقسام:
الأول: علم ما لم يطلع الله تعالى عليه أحدا من خلقه وهو ما استأثر به من علوم أسرار كتابه من معرفة كنه ذاته ومعرفة حقائق أسمائه وصفاته وهذا لا يجوز لأحد الكلام فيه.
والثاني: ما أطلع الله - سبحانه وتعالى - نبيه عليه من أسرار الكتاب واختص به فلا يجوز الكلام فيه إلا له عليه الصلاة والسلام أو لمن أذن له قيل: وأوائل السور من هذا القسم وقيل: من الأول.
والثالث علوم علمها الله تعالى نبيه مما أودع كتابه من المعاني الجلية والخفية وأمره بتعليمها وهذا ينقسم إلى قسمين: منه ما لا يجوز الكلام فيه إلا بطريق السمع: كأسباب النزول والناسخ والمنسوخ والقرآن واللغات وقصص الأمم وأخبار ما هو كائن.
ومنه ما يؤخذ بطريق النظر والاستنباط من الألفاظ وهو قسمان:
قسم اختلفوا في جوازه وهو: تأويل الآيات المتشابهات.
وقسم اتفقوا عليه وهو: استنباط الأحكام الأصلية والفرعية والإعرابية: لأن مبناها على الأقيسة وكذلك فنون البلاغة وضروب المواعظ والحكم والإشارات لا يمتنع استنباطها منه لمن له أهلية ذلك وما عدا هذه الأمور هو التفسالمسمى ب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ثم تفسير هذا العبد القاصر المسمى ب: فتح البيان في مقاصد القرآن وقد طبع - بحمد الله تعالى - بمطبعتنا ببلدة بهوبال وكان المصروف في وليمة طبعه عشرين ألف ربية وسارت به الركبان من بلاد الهند إلى بلاد العرب والعجم ورزق القبول من علماء الكتاب والسنة القاطنين ببلد الله الحرام ومدينة نبيه - عليه الصلاة والسلام - ومحدثي اليمن وصنعاء والقدس والمغرب وغير هؤلاء ولله الحمد كل الحمد على ذلك.
فصل
قال ابن خلدون في: بيان علوم القرآن من التفسير والقراءات:
أما التفسير فاعلم أن القرآن نزل بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه وكان ينزل جملا جملا وآيات آيات لبيان التوحيد والفروض الدينية بحسب الوقائع منها: ما هو في العقائد الإيمانية ومنها: ما هو في أحكام الجوارح ومنها: ما يتقدم ومنها: ما يتأخر ويكون ناسخا له وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبين المجمل ويميز الناسخ من المنسوخ ويعرفه أصحابه فعرفوه وعرفوا سبب نزول الآيات ومقتضى الحال منها منقولا عنه كما علم من قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} : أنها نعي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمثال ذلك ونقل ذلك عن الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - وتداول ذلك التابعون من بعدهم ونقل ذلك عنهم ولم يزل ذلك متناقلا بين الصدر الأول والسلف حتى صارت المعارف علوما ودونت الكتب فكتب الكثير من ذلك ونقلت الآثار الواردة فيه عن الصحابة والتابعين وانتهى ذلك إلى الطبري والواقدي والثعالبي وأمثال ذلك من المفسرين فكتبوا فيه ما شاء الله أن يكتبوه من الآثار.
ثم صارت علوم اللسان صناعية من الكلام في موضوعات اللغة وأحكام الإعراب والبلاغة في التراكيب فوضعت الدواوين في ذلك بعد أن كانت ملكات للعرب لا يرجع فيها إلى نقل ولا كتاب فتنوسي ذلك وصارت تتلقى من كتب أهل اللسان فاحتيج إلى ذلك في تفسير القرآن لأنه بلسان العرب وعلى منهاج بلاغتهم وصار التفسير على صنفين: تفسير نقلي مسند إلى الآثار المنقولة عن السلف وهي: معرفة الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول ومقاصد الآي وكل ذلك لا يعرف إلا بالنقل عن الصحابة والتابعين وقد جمع المتقدمون في ذلك وأوعوا إلا أن كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغث والسمين والمقبول والمردود والسبب في ذلك: أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية وإذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدونه منهم وهم أهل التوراة من اليهود من تبع دينهم من النصارى وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب ومعظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهودية فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها مثل: أخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان والملاحم وأمثال ذلك وهؤلاء مثل: كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وأمثالهم فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم وفي أمثال هذه الأغراض أخبار موقوفة عليهم وليست مما يرجع إلى الأحكام فيتحرى في الصحة التي يجب بها العمل ويتساهل المفسرون في مثل ذلك وملئوا كتب التفسير بهذه المنقولات وأصلها كما قلنا عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ير بالرأي الذي نهى عنه وفيه خمسة أنواع:
الأول: التفسير من غير حصول العلوم التي يجوز معها.
التفسير الثاني: تفسير المتشابه الذي لا يعلمه ألا الله - سبحانه وتعالى -.
الثالث: التفسير المقرر للمذهب الفاسد بأن يجعل المذهب أصلا والتفسير تابعا له فيرد إليه بأي طريق أمكن وإن كان ضعيفا.
والرابع: التفسير بأن مراد الله - سبحانه وتعالى - كذا على القطع من غير دليل.
الخامس: التفسير بالاستحسان والهوى.
وإذا عرفت هذه الفوائد وإن أطنبنا فيها لكونه رأس العلوم ورئيسها فاعلم أن كتب التفاسير كثيرة ذكرنا منها في كتابنا: الإكسير في أصول التفسير ما هو مسطور في: كشف الظنون وزدنا عليه أشياء على ترتيب حروف الهجاء.
قال في: مدينة العلوم: والكتب المصنفة في التفسير ثلاثة أنواع: وجيز ووسيط وبسيط.
ومن الكتب الوجيزة فيه: زاد المسيرة لابن الجوزي و: الوجيز للواحدي و: تفسير الواضح للرازي و: تفسير الجلالين إذ عمل نصفه الآخر جلال الدين المحلى وكمله جلال الدين السيوطي والشهير لأبي حيان ومن الكتب المتوسطة: الوسيط للواحدي و: تفسير الماتريدي و: تفسير التيسير لنجم الدين النسفي و: تفسير الكشاف للزمخشري و: تفسير الطيبي و: تفسير البغوي و: تفسير الكواشي و: تفسير البيضاوي و: تفسير القرطبي و: تفسير سراج الدين الهندي و: تفسير مدارك التنزيل لأبي البركات النسفي.
ومن الكتب المبسوطة: البسيط للواحدي و: تفسير الراغب للأصفهاني وتفسير أبي حيان المسمى ب: البحر و: التفسير الكبير للرازي و: تفسير العلامي ورأيته في أربعين مجلدا و: تفسير ابن عطية الدمشقي و: تفسير الخرقي نسبة إلى بائع الخرق والثياب و: تفسير الحوفي و: تفسير القشيري1 و: تفسير ابن عقيل وتفسير السيوطي المسمى ب: الدر المنثور في التفسير المأثور و: تفسير الطبري ومن التفاسير: إعراب القرآن للسفاقسي. انتهى.
قلت: ومن الحسن التفاسير المؤلفة في هذا الزمان الأخير تفسير شيخنا الإمام المجتهد العلامة قاضي القضاة بصنعاء اليمن محمد بن علي الشوكاني المتوفى سنة خمس وخمسين ومائتين وألف الهجرية المسمى بفتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ثم تفسير هذا العبد القاصر المسمى بفتح البيان في مقاصد القرآن وقد طبع - بحمد الله تعالى - بمطبعتنا ببلدة بهوبال وكان المصروف في وليمة طبعه عشرين ألف ربية وسارت به الركبان من بلاد الهند إلى بلاد العرب والعجم ورزق القبول من علماء الكتاب والسنة القاطنين ببلد الله الحرام ومدينة نبيه - عليه الصلاة والسلام - ومحدثي اليمن وصنعاء والقدس والمغرب وغير هؤلاء ولله الحمد كل الحمد على ذلك.
فصل
قال ابن خلدون في: بيان علوم القرآن من التفسير والقراءات:
أما التفسير فاعلم أن القرآن نزل بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه وكان ينزل جملا جملا وآيات آيات لبيان التوحيد والفروض الدينية بحسب الوقائع منها: ما هو في العقائد الإيمانية ومنها: ما هو في أحكام الجوارح ومنها: ما يتقدم ومنها: ما يتأخر ويكون ناسخا له وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبين المجمل ويميز الناسخ من المنسوخ ويعرفه أصحابه فعرفوه وعرفوا سبب نزول الآيات ومقتضى الحال منها منقولا عنه كما علم من قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} : أنها نعي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمثال ذلك ونقل ذلك عن الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - وتداول ذلك التابعون من بعدهم ونقل ذلك عنهم ولم يزل ذلك متناقلا بين الصدر الأول والسلف حتى صارت المعارف علوما ودونت الكتب فكتب الكثير من ذلك ونقلت الآثار الواردة فيه عن الصحابة والتابعين وانتهى ذلك إلى الطبري والواقدي والثعالبي وأمثال ذلك من المفسرين فكتبوا فيه ما شاء الله أن يكتبوه من الآثار.
ثم صارت علوم اللسان صناعية من الكلام في موضوعات اللغة وأحكام الإعراب والبلاغة في التراكيب فوضعت الدواوين في ذلك بعد أن كانت ملكات للعرب لا يرجع فيها إلى نقل ولا كتاب فتنوسي ذلك وصارت تتلقى من كتب أهل اللسان فاحتيج إلى ذلك في تفسير القرآن لأنه بلسان العرب وعلى منهاج بلاغتهم وصار التفسير على صنفين: تفسير نقلي مسند إلى الآثار المنقولة عن السلف وهي: معرفة الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول ومقاصد الآي وكل ذلك لا يعرف إلا بالنقل عن الصحابة والتابعين وقد جمع المتقدمون في ذلك وأوعوا إلا أن كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغث والسمين والمقبول والمردود والسبب في ذلك: أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية وإذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدونه منهم وهم أهل التوراة من اليهود من تبع دينهم من النصارى وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب ومعظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهودية فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها مثل: أخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان والملاحم وأمثال ذلك وهؤلاء مثل: كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وأمثالهم فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم وفي أمثال هذه الأغراض أخبار موقوفة عليهم وليست مما يرجع إلى الأحكام فيتحرى في الصحة التي يجب بها العمل ويتساهل المفسرون في مثل ذلك وملئوا كتب التفسير بهذه المنقولات وأصلها كما قلنا عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك إلا أنهم بعد صيتهم وعظمة أقدارهم لما كانوا عليه من المقامات في الدين والملة فتلقيت بالقبول من يومئذ لما رجع الناس إلى التحقيق والتمحيض.
وجاء أبو محمد بن عطية من المتأخرين بالغرب فلخص تلك التفاسير كلها وتحرى ما هو أقرب إلى الصحة منها ووضع ذلك في كتاب متداول بين أهل المغرب والأندلس حسن المنحى.
وتبعه القرطبي في تلك الطريقة على منهاج واحد في كتاب آخر مشهور بالمشرق.
والصنف الآخر من التفسير وهو: ما يرجع إلى اللسان من معرفة اللغة والإعراب والبلاغة في تأدية المعنى بحسب المقاصد والأساليب وهذا الصنف من التفسير قل أن ينفرد عن الأول إذ الأول هو المقصود بالذات وإنما جاء هذا بعد أن صار اللسان وعلومه صناعة نعم قد يكون في بعض التفاسير غالبا ومن أحسن ما اشتمل عليه هذا الفن من التفاسير كتاب: الكشاف للزمخشري من أهل خوارزم العراق إلا أن مؤلفه من أهل الاعتزال في العقائد فيأتي بالحجاج على مذاهبهم الفاسدة حيث تعرض له في أي في القرآن من طرق البلاغة فصار بذلك للمحققين من أهل السنة انحراف عنه وتحذير للجمهور من مكامنه مع إقرارهم برسوخ قدمه فيما يتعلق باللسان والبلاغة وإذا كان الناظر فيه واقفا مع ذلك على المذاهب السنية محسنا للحجاج عنها فلا جرم أنه مأمون من غوائله فلتغتنم مطالعته لغرابة فنونه في اللسان ولقد وصل إلينا في هذه العصور تأليف لبعض العراقيين وهو شرف الدين الطيبي من أهل توريز من عراق العجم شرح فيه كتاب الزمخشري هذا وتتبع ألفاظه وتعرض لمذاهبه في الاعتزال بأدلة تزيفها وتبين أن البلاغة إنما تقع في الآية على ما يراه أهل السنة لا على ما يراه المعتزلة فأحسن في ذلك ما شاء مع إمتاعه في سائر فنون البلاغة - وفوق كل ذي علم عليم -. انتهى كلامه
فصل
قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} وقال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"ستكون فتن", قيل: وما المخرج منها؟ قال: "كتاب الله: فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم" أخرجه الترمذي وغيره.
وقال أبو مسعود: من أراد العلم فعليه بالقرآن فإن فيه خير الأولين والآخرين أخرجه سعيد بن منصور في سننه قال البيهقي: أراد به أصول العلم.
وقال بعض السلف: ما سمعت حديثا إلا التمست له آية من كتاب الله تعالى
وقال سعيد بن جبير: ما بلغني حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم وآله وسلم - على وجهه إلا وجدت مصداقه في كتاب الله أخرجه ابن أبي حاتم.
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنزل في هذا القرآن كل علم وميز لنا فيه كل شيء ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لو أغفل شيئا لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة" أخرجه أبو الشيخ في كتاب: العظمة.
وقال الشافعي: جميع ما حكم به النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو ما فهمه من القرآن قلت: ويؤيد قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه" رواه بهذا اللفظ الطبراني في الأوسط من حديث عائشة رضي الله عنها.
وقال الشافعي أيضا: ليست تنزل بأحد في الدين نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها لا يقال: إن من الأحكام ما ثبت ابتداء بالسنة لأن ذلك مأخوذ من كتاب الله تعالى في الحقيقة لأن الله تعالى أوجب علينا اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في غير موضع من القرآن وفرض علينا الأخذ بقوله دون من عداه ولهذا نهى عن التقليد وجميع السنة شرح للقرآن وتفسير للفرقان.
قال الشافعي مرة بمكة المكرمة: سلوني عما شئتم أخبركم عنه من كتاب الله.
فقيل له: ما تقول في المحرم يقتل الزنبور.
فقال: بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ثم روى عن حذيفة بن اليمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بسنده أنه قال: "اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر" ثم روى عن عمر بن الخطاب أنه أمر بقتل المحرم الزنبور ومثل ذلك حكاية ابن مسعود في لعن الواشمات وغيرهن واستدلاله بالآية الكريمة المذكورة وهي معروفة رواها البخاري.
ونحوه حكاية المرأة التي كانت لا تتكلم إلا بالقرآن وهي:
أنها قال عبد الله بن المبارك: خرجت قاصدا بيت الله الحرام وزيارة مسجد النبي - عليه الصلاة والسلام - فبينما أنا سائر في الطريق وإذا بسواد فمررت به وإذا هي عجوز عليها درع من صوف وخمار من صوف فقلت: السلام عليك ورحمة الله وبركاته فقالت: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} فقلت لها يرحمك الله تعالى ما تصنعين في هذا المكان؟
فقالت: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ} فقلت: أنها ضالة عن الطريق فقلت: أين تريدين؟
فقالت: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} فعلمت أنها قضت حجها وتريد بيت المقدس فقلت: أنت مذ كم في هذا المكان؟
فقالت: ثلاث ليال سويا فقلت أما أرفعك طعاما.
فقالت: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فقلت لها ليس هذا شهر رمضان.
فقالت: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} فقلت لها قد أبيح لنا الإفطار في السفر.
فقالت: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} فقلت لها لم لا تكلميني مثل ما أكلمك به فقالت: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} فقلت لها: من أي الناس أنت؟
فقالت: {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} فقلت لها: قد أخطأت فاجعلني في حل. فقالت: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم قلت لها: هل لك أن أحملك على ناقتي وتلحقي القافلة؟
قالت: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} فأنخت مطيتي لها.
فقالت: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} فغضضت بصري عنها فقلت: اركبي فلما أرادت أن تركب نفرت الناقة بها ومزقت ثيابها.
فقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} فقلت لها: اصبري حتى أعقلها.
فقالت: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} فشددت لها الناقة وقلت لها: اركبي فلما ركبت قالت: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} فأخذت بزمام الناقة وجعلت أسعى وأصيح طربا.
فقالت لي: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} فجعلت أمشي وأترنم بالشعر.
فقالت: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} فقلت: ليس هو بحرام.
قالت: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} فطرقت عنها ساعة فقلت لها: هل لك ربع؟
قالت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} فسكت عنها ولم أكملها حتى أدركت بها القافلة فقلت: لها هذه القافلة فمن لك فيها؟
فقالت: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فعلمت أن لها أولادا ومالا فقلت لها: ما شأنهم في الحاج؟
قالت: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} فعلمت أنهم أدلاء الركب فقصدت بي القبابات والعمارات فقلت: من لك فيها؟
فقالت: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} فناديت: يا إبراهيم يا موسى يا يحيى فجاءوني بالتلبية فإذا هم شبان كأنهم الأقمار قد أقبلوا فلما استقر بهم الجلوس قالت لهم: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ} فقام أحدهم فاشترى طعاما فقدموه بين يدي وقالت:
{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} فقلت لهم: طعامكم هذا علي حرام حتى تخبروني بامرأتكم هذه فقالوا: هذه لها أربعون سنة ما تتكلم إلا بالقرآن مخافة أن تزل في كلامها فيسخط الله عليها - فسبحان الله القادر على كل شيء -. انتهت الحكاية1 وهي تدل على أن القرآن الكريم فيه كل شيء.
قال بعض السلف: ما من شيء إلا ويمكن استخراجه من القرآن لمن فهمه الله حتى أن بعضهم استنبط عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثا وستين سنة من قوله تعالى في سورة المنافقين: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} فإنها رأس ثلاث وستين وعقبها بالتغابن ليظهر التغابن في فقده.
قال المرسي: جمع القرآن وعلوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به ثم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلا ما استأثر به سبحانه ثم ورث عنه معظم ذلك سادة الصحابة وأعلامهم مثل الخلفاء الأربعة وابن مسعود وابن عباس حتى قال: لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله ثم ورث عنهم التابعون بإحسان ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم وتقال أهل العلم وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه فنوعوا علمه وقامت كل طائفة بفن من فنونه فاعتزم قوم بضبط لغاته وتحرير كلماته ومعرفة مخارج حروفه وعدد كلماته وآياته وسوره وأجزائه وأنصافه وأرباعه وعدد سجداته والتعليم عند كل عشر آيات إلى غير ذلك من حصر الكلمات المتشابهات والآيات المتماثلات من غير تعرض لمعانيه ولا تدبر لما أودع فيه فسموا: القراء.
واعتنى النحاة بالمعرب منه والمبني من الأسماء والأفعال والحروف العاملة وغيرها وأوسعوا الكلام في الأسماء وتوابعها وضروب الأفعال واللازم والمتعدي ورسوم خط الكلمات وجميع ما يتعلق به حتى إن بعضهم أعرب مشكله وبعضهم أعربه كلمة كلمة.
واعتنى المفسرون بألفاظه فوجدوا منه لفظا يدل على معنى واحد ولفظا يدل على معنيين ولفظا يدل على أكثر فأجروا الأول على حكمه وأوضحوا معنى الخفي منه وخاضوا في ترجيح أحد محتملات ذي المعنيين والمعاني وأعمل كل منهم فكره وقال بما اقتضاه نظره.
واعتنى الأصوليون بما فيه من الأدلة العقلية والشواهد الأصلية والنظرية مثل قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة فاستنبطوا منه أدلة على وحدانية الله ووجوده وبقائه وقدمه وقدرته وعلمه وتنزيهه عما لا يليق به وسموا هذا العلم ب: أصول الدين
وتأملت طائفة منهم معاني خطابه وإن منها ما يقتضي العموم ومنها ما يقتضي الخصوص إلى غير ذلك فاستنبطوا منه أحكام اللغات من الحقيقة والمجاز وتكلموا في التخصيص والإضمار والنص والظاهر والمجمل والمحكم والمتشابه والأمر والنهي والنسخ إلى غير ذلك من أنواع الأقيسة واستصحاب الحال والاستقراء وسموا هذا الفن: أصول الفقه.
وأحكمت طائفة صحيح النظر وصادق الفكر فيما فيه من الحلال والحرام وسائر الأحكام فابتنوا أصوله وفروعه وبسطوا القول في ذلك بسطا حسنا وسموه ب: علم الفروع وب: الفقه أيضاً.
وتلمحت طائفة ما فيه من قصص القرون السابقة والأمم الخالية ونقلوا أخبارهم ودونوا آثارهم ووقائعهم حتى ذكروا بدء الدنيا أول الأشياء حتى سموا ذلك بالتاريخ والقصص.
وتنبه آخرون لما فيه من الحكم والأمثال والمواعظ التي ترقق قلوب الرجال وتكاد تدكدك شوامخ الجبال فاستنبطوا مما فيه من الوعد والوعيد والتحذير والتبشير وذكر الموت والمعاد والنشر والحشر والحساب والعقاب والجنة والنار فصولا من المواعظ وأصولا من الزواجر فسموا بذلك: الخطباء والوعاظ.
واستنبط قوم مما فيه من أصول التعبير مثل ما ورد في قصة يوسف في البقرات السمان وفي منامي صاحبي السجن وفي رؤياه الشمس والقمر والنجوم ساجدة وسموه: تعبير الرؤيا
واستنبطوا تفسير كل رؤيا من الكتاب فإن عز عليهم إخراجها منه فمن السنة التي هي شارحة للكتاب فإن عسر فمن الحكم والأمثال.
ثم نظروا إلى اصطلاح العوام في مخاطبتهم وعرف عادمهم الذي أشار إليه القرآن بقوله: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} .
وأخذ قوم مما في آية المواريث من ذكر السهام وأربابها وغير ذلك: علم الفرائض واستنبطوا منها من ذكر النصف والثلث والربع والسدس والثمن حساب الفرائض ومسائل العول1 واستخرجوا منها أحكام الوصايا. ونظر قوم إلى ما فيه من الآيات الدالة على الحكم الباهرة في الليل والنهار والشمس والقمر ومنازله والنجوم والبروج غير ذلك فاستخرجوا منه علم المواقيت.
ونظر الكتاب والشعراء إلى ما فيه من جلالة اللفظ وبديع النظم وحسن السياق والمبادئ والمقاطع والمخالص والتلوين في الخطاب والإطناب والإيجاز وغير ذلك فاستنبطوا منه المعاني والبيان والبديع.
ونظر فيه أرباب الإشارات وأصحاب الحقيقة فلاح لهم من ألفاظه معان ودقائق جعلوا لها أعلاما اصطلحوا عليها من الفناء والبقاء والحضور والخوف والهيبة والأنس والوحشة والقبض والبسط وما أشبه ذلك.
هذه الفنون التي أخذتها الملة الإسلامية منه وقد احتوى على علوم أخر مثل: الطب والجلد والهيئة والهندسة والجبر والمقابلة والنجامة وغير ذلك.
أما الطب: فمداره على حفظ نظام الصحة واستحكام القوة وغير ذلك وإنما يكون باعتدال المزاج بتفاعل الكيفيات المتضادة وقد جمع ذلك في آية واحدة وهي قوله: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} وعرفنا فيه بما يعيد نظام الصحة بعد اختلاطه وحدوث الشفاء للبدن بعد إعلاله في قوله: {شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} ثم زاد على طب الأجساد بطب القلوب: {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} .
وأما الهيئة: ففي تضاعيف سور من الآيات التي ذكر فيها من ملكوت السموات والأرض وما بث في العالم العلوي والسفلي من المخلوقات.
وأما الهندسة: ففي قوله تعالى: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ} {لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} فإن فيه القاعدة الهندسية وهي: أن الشكل المثلث لا ظل له.
وأما الجدل: فقد حوت آياته من البراهين والمقدمات والنتائج والقول بالموجب والمعارضة وغير ذلك شيئا كثيرا ومناظرة إبراهيم أصل في ذلك عظيم.
وأما الجبر والمقابلة: فقد قيل: أن أوائل السور فيها ذكر مدد أعوام وأيام وتواريخ أمم سابقة وإن فيها تاريخ بقاء هذه الأمة وتاريخ هذه الدنيا وما مضى وما بقي مضروب بعضها في بعض.
وأما النجامة: ففي قوله: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} فقد فسره ابن عباس بذلك وفيه أصول الصنائع وأسماء الآلات التي تدعو الضرورة إليها فمن الصنائع: الخياطة في قوله: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ} والحدادة في قوله: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} وقوله: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} والبناء في آيات
والنجارة: {أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ} .
والغزل: {َقَضَتْ غَزْلَهَا} .
والنسج: {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً} .
والفلاحة: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} وفي آيات أخر.
والصيد في آيات.
والغوص: {كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً} .
والصياغة: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً} . والزجاجة: {صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} و: {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} .
والفخارة: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} .
والملاحة: {أَمَّا السَّفِينَةُ} الآية.
والكتابة: {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} وفي آيات أخر.
والخبز والعجن: {أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً} .
والطبخ: {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} .
والغسل والقصارة: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} و {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} وهم القصارون.
والجزارة: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} والبيع والشراء في آيات كثيرة.
والصبغ {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} و {بِيضٌ وَحُمْرٌ} .
والحجارة: {وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً} والكيالة والوزن في آيات كثيرة.
والرمي: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} .
وفيه من أسماء الآلات وضرب المأكولات والمشروبات والمنكوحات وجميع ما وقع ويقع في الكائنات ما يحقق معنى قوله: ما فرطنا في الكتاب من شيء. انتهى كلام المرسي ملخصا مع زيادات.
قال السيوطي في: الإكليل: وأنا أقول: قد اشتمل كتاب الله العزيز على كل شيء أما أنواع العلوم فليس منها باب ولا مسئلة هي أصل إلا وفي القرآن ما يدل عليها وفيه علم عجائب المخلوقات وملكوت السموات والأرض وما في الأفق الأعلى وتحت الثرى وبدء الخلق وأسماء مشاهير الرسل والملائكة وعيون أخبار الأمم السابقة: كقصة آدم مع إبليس في إخراجه من الجنة.
وفي الولد الذي سماه عبد الحارث ورفع إدريس وغرق قوم نوح.
وقصة عاد الأولى والثانية وقوم تبع ويونس وأصحاب الرس وثمود والناقة وقوم لوط وقوم شعيب الأولين والآخرين فإنه أرسل مرتين وقصة موسى في ولادته وإلقائه في اليم وقتله القبطي ومسيره إلى مدين وتزوجه ابنة شعيب وكلامه تعالى بجانب الطور ومجيئه إلى فرعون وخروجه وإغراق عدوه وقصة العجل والقوم الذين خرج بهم وأخذتهم الصاعقة وقصة القتيل وذبح البقرة وقصته في قتل الجبارين وقصته مع الخضر والقوم ساروا في سرب من الأرض إلى الصين وقصة طالوت وداود مع جالوت وفتنته وقصة سليمان وخبره مع ملكة سبأ وفتنته وقصة القوم الذي خرجوا فرارا من الطاعون فأماتهم الله ثم أحياهم وقصة إبراهيم في مجادلة قومه ومناظرة نمرود وقصة وضعه ابنه إسماعيل مع أمه بمكة وبنائه البيت وقصة الذبيح وقصة يوسف وما أبسطها وأحسنها قصصا وقصة مريم وولادتها عيسى وإرساله ورفعه وقصة زكريا وابنه يحيى وقصة أيوب وذي الكفل وقصة ذي القرنين ومسيره إلى مطلع الشمس ومغربها وبناء السد وقصة أهل الكهف وقصة أصحاب الرقيم وقصة بخت نصر وقصة الرجلين اللذين لأحدهما الجنة وقصة أصحاب الجنة وقصة مؤمن آل يس وقصة أصحاب الفيل وقصة الجبار الذي أراد أن يصعد إلى السماء. انتهى.
وبقيت قصص لم يشر إليها السيوطي منها: قصة قتل قابيل أخاه هابيل وقصة دفن هابيل بدلالة الغراب وقصة وصية يعقوب بنيه إلى غير ذلك قال: وفيه من شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعوة إبراهيم وبشارة عيسى وبعثه وهجرته.
ومن غزواته: غزوة بدر في سورة الأنفال وأحد في آل عمران وبدر الصغرى فيها والخندق في الأحزاب والنضير في الحشر والحديبية في الفتح وتبوك في براءة وحجة الوداع في المائدة.
ونكاحة زينب بنت جحش وتحريم سرية وتظاهر أزواجه عليه وقصة الإفك وقصة الإسراء وانشقاق القمر وسحر اليهود.
وفيه بدء خلق الإنسان إلى موته وكيفية الموت وقبض الروح وما يفعل بها بعد عودها إلى السماء وفتح الباب للمؤمنة وإلقاء الكافرة وعذاب القبر والسؤال فيه ومقر الأرواح وأشراط الساعة الكبرى العشرة وهي: نزول عيسى وخروج الدجال ويأجوج ومأجوج والدابة والدخان ورفع القرآن وطلوع الشمس من مغربها وغلق باب التوبة والخسف وأحوال البعث: من نفخ الصور للفزع وللصعق وللقيام والحشر والنشر وأهوال الموقف وشدة الشمس وظل العرش والصراط والميزان والحوض والحساب لقوم ونجاه آخرين.
ومنه: شهادة الأعضاء وإيتاء الكتب بالأيمان والشمائل وخلف الظهر والشفاعة أي بالإذن. والجنة1 وأبوابها وما فيها من الأنهار والأشجار والثمار والحلي والأواني والدرجات ورؤية الله تعالى.
والنار2 وما فيها من الأودية وأنواع العقاب وأصناف العذاب والزقوم والحميم إلى غير ذلك مما لو بسط لجاء في مجلدات
وفي القرآن جميع أسمائه تعالى الحسنى كما ورد في الحديث وفيه من أسمائه مطلقا ألف اسم
وفيه: من أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - جملة أي سبعون اسما ذكرها السيوطي في آخر: الإكليل.
وفيه: شعب الإيمان البضع والسبعون.
وفيه: شرائع الإسلام الثلاثمائة وخمسة عشر وفيه: أنواع الكبائر وكثير من الصغائر وفيه تصديق كل حديث روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال الحسن البصري: أنزل الله مائة وأربعة كتب أودع علومها أربعة منها: التوارة والإنجيل والزبور والفرقان ثم أودع علوم الثلاثة الفرقان ثم أودع علوم الفرقان المفصل ثم أودع علوم الفصل فاتحة الكتاب فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع الكتب المنزلة. أخرجه البيهقي.
قلت: ولذلك كانت قراءتها في كل ركعة من الصلاة وإن كان مأموما واجبة عند أهل المعرفة بالحق وكانت السبع المثاني والقرآن العظيم وقد وردت أحاديث كثيرة في فضلها ما خلا ما صرح بوضعها أهل النقد من علم الحديث وقد فسرها جماعة من أهل العلم مفردة بالتأليف وأبسطوا القول فيها وأجملوا واستنبط الفخر الرازي الإمام منها عشرة آلاف مسئلة كما صرح بذلك في أول: تفسيره الكبير وكل ذلك يدل على عظم مرتبة الكتاب العزيز ورفعة شأن الفرقان الكريم قال الشافعي - رحمه الله -: جميع ما تقول الأئمة شرح للسنة وجميع السنة شرح للقرآن.
قلت: ولذا كان الحديث والقرآن أصلي الشرع لا ثالث لهما وقول الأصوليين أن أدلة الشرع وأصوله أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس تسامح ظاهر كيف وهما كفيلان لحكم كل ما حدث في العالم ويحدث فيه إلى يوم القيامة دلت على ذلك آيات من الكتاب العزيز وآثار من السنة المطهرة وإلى ذلك ذهب أهل الظاهر وهم الذين قال فيهم رسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق" الحديث قال بعض السلف: ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - من شيء إلا وهو في القرآن أو فيه أصله قرب أو بعد فهم من فهم وعمي منه من عمي وكذا كل ما حكم أو قضى به. انتهى.
فإذا كانت السنة شرحا للكتاب فماذا يقال من فضل الكتاب نفسه وكفى له شرفا أنه كلام ربنا الخلاق الرزاق المنعم بلا استحقاق أنزله حكما عدلا جامعا للعلوم والفضائل كلها والفنون بأسرها والفواضل والمحاسن والمكارم والمحامد والمناقب والمراتب بقلها وكثرها لا يساويه كتاب ولا يوازيه خطاب وهذه جملة القول فيه.
وقد أكثر الناس التصنيف في أنواع علوم القرآن وتفاسيرها وألف الشيخ الحافظ جلال الدين السيوطي - رحمه الله - في جملة من أنواعه: كأسباب النزول والمعرب والمبهمات ومواطن الورود وغير ذلك وما من كتاب منها إلا وقد فاق الكتب المؤلفة في نوعه ببديع اختصاره وحسن تحريره وكثرة جمعه.
وقد أفرد الناس في أحكامه كتبا: كالقاضي إسماعيل والبكر بن العلاء وأبي بكر الرزاي والكيا الهراسي وأبي بكر بن العربي وابن الفرس والموزعي وغيرهم وكل منهم أفاد وأجاد وجمع فأبدع وأوعى.
وللسيوطي في ذلك كتاب: الإكليل في استنباط التنزيل أورد فيه كل ما استنبط منه واستدل به عليه من مسئلة فقهية أو أصولية أو اعتقادية فاشدد بذلك الكتاب يديك وعض عليه بناجذيك.
وألفت أنا في الأحكام خاصة كتاب: نيل المرام من تفسير آيات الأحكام وبالجملة فعلوم الكتاب لا تحصى وتفاسيره لا تستقصى وفنونه لا تتناهى وبركاته لا تقف عند حد وأنواره لا ترسم برسم ولا تحد بحد.
وإذا تقرر ذلك عرفت أن العلوم التي ذكرناها في هذا الكتاب كلها موجودة في ذلك الكتاب دلالة وإشارة منطوقا أو مفهوما مفسرا أو مجملا ولا يعرفها إلا من رسخ قدمه في الكمال وسبح فهمه في بحار العلم بالتفصيل والإجمال والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
Learn Quranic Arabic from scratch with our innovative book! (written by the creator of this website)
Available in both paperback and Kindle formats.