Current Dictionary: All Dictionaries

Search results for: أطول

علم البيان

علم البيان
هو: علم يعرف به إيراد المعنى الواحد، بتراكيب مختلفة، في وضوح الدلالة على المقصود، بأن تكون دلالة بعضها أجلى من بعض.
وموضوعه: اللفظ العربي، من حيث وضوح الدلالة على المعنى المراد.
وغرضه: تحصيل ملكة الإفادة، بالدلالة العقلية، وفهم مدلولاتها.
وغايته: الاحتراز عن الخطأ، في تعيين المعنى المراد.
ومباديه: بعضها: عقلية، كأقسام الدلالات، والتشبيهات، والعلاقات، وبعضها: وجدانية، ذوقية، كوجوه التشبيهات، وأقسام الاستعارات، وكيفية حسنها.
وإنما اختاروا في علم البيان: وضوح الدلالة، لأن بحثهم لما اقتصر على الدلالة العقلية، أعني: التضمنية، والالتزامية، وكانت تلك الدلالة خفية، سيما إذا كان اللزوم بحسب العادات، والطبائع، فوجب التعبير عنها بلفظ أوضح.
مثلا: إذا كان المرئي دقيقا في الغاية، تحتاج الحاسة في إبصارها إلى شعاع قوي، بخلاف المرئي، إذا كان جليا، وكذا الحال في الرؤية العقلية، أعني: الفهم، والإدراك.
والحاصل: أن المعتبر في علم البيان: دقة المعاني المعتبرة فيها، من الاستعارات والكنايات، مع وضوح الألفاظ الدالة عليها.
ومن الكتب المفردة فيه:
علم البيان
هو: علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بتراكيب مختلفة في وضوح الدلالة على المقصود بأن تكون دلالة بعضها أجلى من بعض.
وموضوعه: اللفظ العربي من حيث وضوح الدلالة على المعنى المراد.
وغرضه: تحصيل ملكة الإفادة بالدلالة العقلية وفهم مدلولاتها ليختار الأوضح منها مع فصاحة المفردات.
وغايته: الاحتراز من الخطأ في تعيين المعنى المراد بالدلالة الواضحة.
ومباديه: بعضها: عقلية كأقسام الدلالات والتشبيهات والعلاقات المجازية ومراتب الكنايات وبعضها: وجدانية ذوقية كوجوه التشبيهات وأقسام الاستعارات وكيفية حسنها ولطفها وإنما اختاروا في علم البيان وضوح الدلالة لأن بحثهم لما اقتصر على الدلالة العقلية - أعني التضمنية والالتزامية - وكانت تلك الدلالات خفية سيما إذا كان اللزوم بحسب العادات والطبائع وبحسب الألف فوجب التعبير عنهما بلفظ أوضح مثلا إذا كان المرئي دقيقا في الغاية تحتاج الحاسة في إبصارها إلى شعاع قوي بخلاف المرئي إذا كان جليا وكذا الحال في الروية العقلية أعني الفهم والإدراك.
والحاصل: أن المعتبر في علم البيان دقة المعاني المعتبرة فيها من الاستعارات والكنايات مع وضوح الألفاظ الدالة عليها.
قال في: كشاف اصطلاحات الفنون: علم البيان: علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه كذا ذكر الخطيب في: التلخيص وقد احترز به عن ملكة الاقتدار على إيراد المعنى العادي عن الترتيب الذي يصير به المعنى معنى الكلام المطابق لمقتضى الحال بالطرق المذكورة فإنها ليست من علم البيان وهذه الفائدة أقوى مما ذكره السيد السند من أن فيما ذكره القوم تنبيها على أن علم البيان ينبغي أن يتأخر عن علم المعاني في الاستعمال وذلك لأنه يعلم منه هذه الفائدة أيضا فإن رعاية مرابت الدلالة في الوضوح والخفاء على المعنى ينبغي أن يكون بعد رعاية مطابقته لمقتضى الحال فإن هذه كالأصل في المقصودية وتلك فرع وتتمة لها وموضعه: اللفظ البليغ من حيث أنه كيف يستفاد منه المعنى الزائد على أصل المعنى وإن شئت زيادة التوضيح فارجع إلى الــأطول. انتهى.
قال ابن خلدون في: بيان علم البيان: هذا العلم حادث في الملة بعد علم العربية واللغة وهو من العلوم اللسانية لأنه متعلق بالألفاظ وما تفيده ويقصد بها الدلالة عليه من المعاني.
وذلك وأن الأمور التي يقصد المتكلم بها إفادة السامع من كلامه هي: إما تصور مفردات تسند ويسند إليها ويفضي بعضها إلى بعض والدالة على هذه هي المفردات من الأسماء والأفعال والحروف.
وأما تمييز المسندات من المسند إليها والأزمنة ويدل عليها بتغير الحركات وهو الإعراب وأبنية الكلمات وهذه كلها هي صناعة النحو يبقى من الأمور المكتنفة بالواقعات المحتاجة للدلالة أحوال المتخاطبين أو الفاعلين وما يقتضيه حال الفعل وهو محتاج إلى الدلالة عليه لأنه من تمام الإفادة وإذا حصلت للمتكلم فقد بلغ غاية الإفادة في كلامه وإذا لم يشتمل على شيء منها فليس من جنس كلام العرب فإن كلامهم واسع ولكل مقام عندهم مقال يختص به بعد كمال الإعراب والإبانة ألا ترى أن قولهم: زيد جاءني مغاير لقولهم: جاءني زيد من قبل أن المتقدم منهما هو الأهم عند المتكلم.
ومن قال: جاءني زيد أفاد أن اهتمامه بالمجيء قبل الشخص المسند إليه.
ومن قال زيد جاءني أفاد أن اهتمامه بالشخص قبل المجيء المسند.
وكذا التعبير عن أجزاء الجملة بما يناسب المقام من موصول أو مبهم أو معرفة وكذا تأكيد الإسناد على الجملة كقولهم زيد قائم وإن زيدا قائم وإن زيدا القائم متغايرة كلها في الدلالة وإن استوت من طريق الأعراف.
فإن الأول: العادي عن التأكيد إنما يفيد الخالي الذهن.
والثاني: المؤكد بأن يفيد المتردد.
والثالث: يفيد المنكر فهي مختلفة. وكذلك تقول جاءني الرجل ثم تقول مكانه بعينه جاءني رجل إذا قصدت بذلك التنكير تعظيمه وأنه رجل لا يعادله أحد من الرجال ثم الجملة الإسنادية تكون خبرية: وهي التي لها خارج تطابقه أولا وإنشائية: وهي التي لا خارج لها كالطلب وأنواعه ثم قد يتعين ترك العاطف بين الجملتين إذا كان للثانية محل من الإعراب فينزل بذلك منزلة التابع المفرد نعتا وتوكيدا وبدلا بلا عطف أو يتعين العطف إذا لم يكن للثانية محل من الإعراب ثم يقتضي المحل الإطناب والإيجاز فيورد الكلام عليهما ثم قد يدل باللفظ ولا يريد منطوقه ويريد لازمه إن كان مفردا كما تقول:
زيد أسد فلا تريد حقيقة الأسد المنطوقة وإنما تزيد شجاعته اللازمة وتسندها إلى زيد وتسمى هذه استعارة.
وقد تريد باللفظ المركب الدلالة على ملزومه كما تقول: زيد كثير الرماد وتريد به ما لزم ذلك عنه من الجود وقرى الضيف لأن كثرة الرماد ناشئة عنهما فهي دالة عليهما وهذه كلها دلالة زائدة على دلالة الألفاظ المفرد والمركب وإنما هي هيئات وأحوال لواقعات جعلت للدلالة عليها أحوال وهيئات في الألفاظ كل بحسب ما يقتضيه مقامه فاشتمل هذا العلم المسمى ب: البيان على البحث عن هذه الدلالات التي للهيئات والأحوال والمقامات وجعل على ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: يبحث فيه عن هذه الهيئات والأحوال التي تطابق باللفظ جميع مقتضيات الحال ويسمى: علم البلاغة.
والصنف الثاني: يبحث فيه عن الدلالة على اللازم اللفظي وملزومه وهي الاستعارة والكناية كما قلناه ويسمى: علم البيان وألحقوا بهما صنفا آخر وهو النظر في تزيين الكلام وتحسينه بنوع من التنميق إما بسجع يفصله أو تجنيس يشابه بين ألفاظه وترصيع يقطع أوزانه أو تورية عن المعنى المقصود بإيهام معنى أخفى منه لاشتراك اللفظ بينهما وأمثال ذلك ويسمى عندهم: علم البديع.
وأطلق على الأصناف الثلاثة عند المحدثين اسم: البيان وهو: اسم الصنف الثاني لأن الأقدمين أول ما تكلموا فيه ثم تلاحقت مسائل الفن واحدة بعد أخرى.
وكتب فيها جعفر بن يحيى والجاحظ وقدامة وأمثالهم ملاءات غير وافية.
ثم لم تزل مسائل الفن تكمل شيئا فشيئا إلى أن محض السكاكي زبدته وهذب مسائله ورتب أبوابه على نحو ما ذكرناه آنفا من الترتيب وألف كتابه المسمى ب: المفتاح في النحو الصرف والبيان فجعل هذا الفن من بعض أجزائه وأخذه المتأخرون من كتابه ولخصوا منه أمهات هي المتداولة لهذا العهد كما فعله السكاكي في كتاب: التبيان وابن مالك في كتاب: المصباح وجلال الدين القزويني في كتاب: الإيضاح والتلخيص وهو أصغر حجما من الإيضاح.
والعناية به لهذا العهد عند أهل المشرق في الشرح والتعليم منه أكثر من غيره وبالجملة فالمشارقة على هذا الفن أقوم من المغاربة وسببه - والله أعلم -: أنه كمالي في العلوم اللسانية والصنائع الكمالية توجد في العمران والمشرق أوفر عمراناً من المغرب.
أو نقول: لعناية العجم وهو معظم أهل المشرق كتفسير الزمخشري وهو كل مبني على هذا الفن وهو أصله وإنما اختص بأهل المغرب من أصنافه: علم البديع خاصة وجعلوه من جملة علوم الأدب الشعرية وفرعوا له ألقابا وعددوا أبوابا ونوعوا وزعموا أنهم أحصوها من لسان العرب وإنما حملهم على ذلك: الولوع بتزيين الألفاظ.
وأن علم البديع سهل المأخذ وصعبت عليهم مآخذ البلاغة والبيان لدقة أنظارهما وغموض معانيهما فتجافوا عنهما.
ومن ألف في البديع من أهل إفريقية ابن رشيق وكتاب: العمدة له مشهور وجرى كثير من أهل إفريقية والأندلس على منحاه.
واعلم أن ثمرة هذا الفن إنما هي في فهم الإعجاز من القرآن لأن إعجازه في وفاء الدلالة منبه لجميع مقتضيات الأحوال منطوقة ومفهومة وهي أعلى مراتب الكلام مع الكمال فيما يختص بالألفاظ في انتقائها وجودة رصفها وتركيبها وهذا هو الإعجاز الذي تقصر الأفهام عن دركه وإنما يدرك بعض الشيء منه من كان له ذوق بمخالطة اللسان العربي وحصول ملكته فيدرك من إعجازه على قدر ذوقه فلهذا كانت مدارك العرب الذين سمعوه من مبلغه أعلى مقاما في ذلك لأنهم فرسان الكلام وجهابذته والذوق عندهم موجود بأوفر ما يكون وأصحه.
وأحوج ما يكون إلى هذا الفن المفسرون وأكثر تفاسير المتقدمين غفل عنه حتى ظهر جار الله الزمخشري ووضع كتابه في التفسير حيث جاء بأحكام هذا الفن بما يبدي البعض من إعجازه فانفرد بهذا الفضل على جميع التفاسير لولا أنه يؤيد عقائد أهل البدع عند اقتباسها من القرآن بوجوه البلاغة ولأجل هذا يتحاماه كثير من أهل السنة مع وفور بضاعته من البلاغة فمن أحكم عقائد أهل السنة وشارك في هذا الفن بعض المشاركة حتى يقتدر على الرد عليه من جنس كلامه أو يعلم أنه بدعة فيعرض عنها ولا تضر في معتقده فإنه يتعين عليه النظر في هذا الكتاب للظفر بشيء من الإعجاز مع السلامة من البدع - والأهواء والله الهادي من يشاء إلى سواء السبيل -. انتهى كلام ابن خلدون.
وأقول: إن تفسير أبي السعود قد وفى بحق المعاني والبيان والبديع التي في القرآن الكريم على نحو ما أشار إليه ابن خلدون بيد أنه رجل فقيه لا يفسر الكتاب على مناحي السلف ولا يعرف علم الحديث حق المعرفة فجاء الله - سبحانه - بقاضي القضاة محمد بن علي الشوكاني اليمني - رحمه الله - ووفقه لتفسير كتابه العزيز - على طريقة الصحابة والتابعين وحذا حذوهم وميز بين الأقوال الصحيحة والآراء السقيمة وفسر بالأخبار المرفوعة والآثار المأثورة وحل المعضلات وكشف القناع عن وجوه المشكلات إعرابا وقراءة فجزاه الله عنا خير الجزاء.
ثم وفق الله - سبحانه - هذا العبد بتحرير تفسير جامع لهذه كلها على أبلغ أسلوب وأمتن طريقة يغني عن تفاسير الدنيا بتمامها وهو في أربعة مجلدات وسماه: فتح البيان في مقاصد القرآن ولا أعلم تفسيرا على وجه البسيطة يساويه في اللطافة والتنقيح أو يوازيه في الرقة والتصحيح ومن يرتاب في دعواي هذه فعليه بتفاسير المحققين المعتمدين ينظر فيها أولا ثم يرنو في ذلك يتضح له الأمر كالنيرين ويسفر الصبح لذي عينين وبالله التوفيق. قال في: مدينة العلوم: ومن الكتب المفردة فيه: الجامع الكبير لابن أثير الجزري و: نهاية الإعجاز للإمام فخر الدين الرازي - رحمه الله - تعالى -. انتهى.

موازنات

موازنات
أقصد بعقد هذه الموازنات أن نتبين الدقة القرآنية في تصوير المعنى تصويرا ينقل إلى النفس الفكرة نقلا أمينا، ولكنى لا أريد أن أعقد كل ما يمكن من الموازنات، فذلك ما لم يتيسر لى القيام به إلى اليوم، فضلا عن أنه فوق طاقتى، وكل ما أريده الآن هو عرض ما أمكننى من هذه الموازنات، راجيا أن أوفق إلى الإكثار منها، بقدر ما أستطيعه في قابل الطبعات إن شاء الله.
1 - قال تعالى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (يس 39).
وقال ابن المعتز:
ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا ... مثل القلامة قد قدّت من الظفر
وقال أيضا:
انظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر
وقال أيضا:
انظر إلى حسن هلال بدا ... يهتك من أنواره الحندسا
كمنجل قد صيغ من فضة ... يحصد من زهر الدجى نرجسا
وقال السرىّ الرفاء:
وكأن الهلال نون لجين ... غرّقت في صحيفة زرقاء
وقال أيضا:
ولاح لنا الهلال كشطر طوق ... على لبّات زرقاء اللباس
تتحدث هذه النصوص كلها عن الهلال، ولكى ندرك الفرق في القيمة بين هذه النصوص بعضها وبعض، نتبين معنى كل نص منها، لنرى أيها أدق وأوفى:
أما الآية الكريمة فإنها تتحدث عن تلك التنقلات التى تحدث للقمر بقدرة الله، فبينا هو وليد، إذا به ينمو رويدا رويدا، حتى يصبح بدرا مكتملا، ثم يعود أدراجه، وينقص قليلا قليلا، حتى يعود كعود الكباسة القديم، دقيقا معوجا لا يكاد يرى، ولا يؤبه له، بعد أن كان ملء البصر، وملء الفؤاد، وأنت بذلك ترى أن التشبيه الذى جاء في الآية كان له نصيب في أداء المعنى، ولم يجئ بعد أن استوفى المعنى تمامه، وكان دقيقا أتم دقة، فى أداء المعنى وتصويره كاملا.
أما بيت ابن المعتز الأول، فإن التشبيه الذى أورده لا دخل له أصلا في الفكرة التى يريد نقلها إلى قارئه، فإن كون الهلال مثل قلامة الظفر لا دخل له في أنه كاد يفضحهم، بل على العكس يقلل من شأن الفكرة ويضعفها، فإن هذا الهلال الضئيل الذى يشبه قلامة الظفر، خليق به ألا يكون له أثر ما في تبديد ظلمة الليل المتكاثفة، وخليق به ألا يفضحهم ولا يبين عن مكانهم، وبذلك ترى أن الصلة ليست وثيقة بين شطرى البيت، ولا بين التشبيه والفكرة التى جاء من أجلها.
وفي بيته الثانى سبق أن بينا وجوه النقص فيه ، وتحدثنا عن أن نفاسة المشبّه به لا ترفع من شأن التشبيه، ولا تستر ما فيه من ضعف، وذكرنا أن انتزاع الصورة من
الخيال لا يزيد المشبه وضوحا، ولا يمنحه قوة.
أما بيته الثالث فضعيف متهالك، لم يصور الهلال كما تراه العين، ولا كما تحس به النفس، ففضلا عن غفلة ابن المعتز عما يبعثه الهلال الجديد من آمال جديدة في النفس، ووقوفه عند حد التصوير البصرى لم يوفق في هذا التصوير، فإن الهلال في نظر العين هادئ ساكن، والمنجل في يد الحاصد متحرك في سرعة، فكيف نتخيل الهلال منجلا يحصد، وهو لم يتحرك، ثم ما الصلة بين زهر الدجى وبين النرجس، وكيف يحصد الهلال هذا الزهر، والزهر باق في مكانه لا ينمحى ولا يزول، والعهد بما يحصد أن يتخلى عن مكانه. ومن ذلك ترى نقص التشبيه وقصوره.
واقتصر السّرى الرفاء على التصوير البصرى أيضا ثمّ فاتته الدقة عند ما جعل هذه النون من اللجين غريقة في صحيفة زرقاء، فصور لنفسك أى قدر هذه التى تشبه بها السماء، وتأمل أهناك سبب يدعو إلى جعل هذه النون غريقة في تلك القدر الضخمة؟! فالغريق يعلو، ويهبط، ويبدو، ويختفى، مما لا تراه العين في الهلال الهادى المطمئن.
وانظر، أتجد في بيته الثانى تشبيها زادك شعورا بالهلال عند ما جعله نصف طوق فضلا عن عدم دقته؟! وتأمل أى صلة تربط بين السماء ولبة فتاة تلبس ثيابا زرقاء؟!. وبذلك العرض الموجز تتبين الفرق بين تشبيه القرآن الدقيق المصور وبين تلك التشبيهات الضعيفة العرجاء.
2 - وأطال القدماء في الموازنة بين قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ (البقرة 179). وقولهم: «القتل أنفى للقتل». قالوا: وفضله عليه من وجوه:
أولها: أن الآية الكريمة أقل حروفا من كلامهم.
وثانيها: النص على المطلوب وهو ثبوت الحياة، بخلاف قولهم لأنه إنما يدل على المطلوب باللزوم، من جهة أن نفى القتل يستلزم ثبوت الحياة.
وثالثها: أن تنكير حياة يفيد تعظيما لمنعهم عما كانوا عليه من قتل جماعة بواحد.
ورابعها: اطراده، بخلاف قولهم، فإن القتل ينفى القتل إذا كان على وجه القصاص المشروع، وقد يكون أدعى للقتل، كما إذا وقع ظلما، كقتلهم غير القاتل، وظاهر العبارة يحتمل المعنيين بخلاف القصاص.
وخامسها: أن فيه تكريرا غيره أبلغ منه، ومتى كان التكرير كذلك فهو مقصر عن أقصى طبقات البلاغة.
وسادسها: استغناؤه عما ذكره أكثر من حذفه، وهو (من) بعد أفعل التفضيل الواقع خبرا.
وسابعها: أن القصاص سبب للموت الذى هو ضد الحياة، فما في الآية ملحق بالطباق.
وثامنها: سلامة الآية الكريمة من لفظ القتل المشعر بالوحشة، وتاسعها ظهور العدل في كلمة القصاص.
3 - وتحدث الشعراء عن الصبح، فقال السرى الرفاء:
انظر إلى الليل، كيف تصدعه ... راية صبح مبيضة العذب
كراهب جن للهوى طربا ... فشق جلبابه من الطرب
وقال الشريف الرضى:
وكأنما أولى الصباح وقد بدا ... فوق الطويلع راكب متلثم
وأذاع بالظلماء فتق واضح ... كالطعنة النجلاء يتبعها دم
وقال أيضا:
وليلة خضتها على عجل ... وصبحها بالظلام معتصم تطلع الفجر من جوانبها ... وانفلتت من عقالها الظلم
وقال أيضا:
والصبح قد أخذت أنامل كفه ... فى كل جيب للظلام مزرر
فكأنما في الغرب راكب أدهم ... يحتثه في الشرق راكب أشقر
وليس كل ذلك الشعر بباعث إلى نفسك الشعور بما في الصبح من يقظة وحياة، كما يبعثه إلى نفسك تلك الكلمة القرآنية المختارة: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (التكوير 18).
فإنها تحمل إليك معنى الحياة التى دبت في الكون بعد طول هجوعه، واليقظة التى شملته بعد رقاد وهمود، ويصور لك الوجود، وقد بدأ يفتح عينيه وينهض من سبات، أما هذه الأبيات من الشعر فإنها وقفت تتلمس لهذه الظاهرة الكونية شبيها بصريا، وقد أخفقت جميعها في هذا التصوير البصرى، فشعر السرى الرفاء تلمس للصبح مثيلا، فوجد في الراية ذات العذبات البيض شبيها له، ولا شىء يجمع بين المشبه والمشبه به سوى هذا اللون الأبيض، أما الإحساس النفسى فلا دخل له في الربط بين هذين الطرفين، ثم جعل السرى الليل راهبا، ولا ندرى كيف يدفع الهوى راهبا إلى الجنون وهو راهب، وليت شعرى ما الذى يبدو من الراهب إذا شق ثوبه؟! وإذا كان الراهب أسود اللون فهل يبدو تحت جلبابه سوى السواد، وشق الثوب من مجنون إنما يكون في سرعة لا تمثل ضوء الصباح الزاحف في بطء.
أما شعر الشريف الرضى الأول فقد أجهدت ذهنى في أن أربط صلة بين الصبح والراكب المتلثم، فلم أجد رابطا ذا قيمة يصل بينهما، ولماذا اختار الشاعر الراكب دون الماشى؟ وما لون هذا الراكب؟ وعلى أى شىء يركب؟ وهل الصبح كمتلثم يظل متلثما، ثم يبدى صفحة وجهه دفعة واحدة؟ وما الصورة التى ترتسم في ذهنك لهذا الصبح المتلثم الراكب؟ وهل هيئة الصبح تشبه هيئة راكب متلثم؟ وفيم؟
كل هذه أسئلة تخرج منها بوهن الصلة بين الصبح وهذه الصورة التى يرسمها الشاعر، وفي البيت الثانى يصور لك هذا الصبح، وما فيه من جمال وروعة، تبعث فى النفس حب الجمال لهذه الطبيعة الباسمة المشرقة- صورة دامية بشعة، تثير فى النفس الخوف والألم والنفور، صورة طعنة نجلاء يقطر منها الدم، وسبب ذلك إغفال الجانب النفسى الشعورى من الشاعر عند التشبيه، والوقوف عند حد اللون الذى يربط لون الصبح بتلك الآلة الحادة الطاعنة، وذلك الضوء الأحمر الحى تزجيه الشمس بين يديها، ولون قطرات الدماء، ألا ما أعظم الفرق بين الشعورين! وما أقوى أن يتنافرا، حتى لا يجمع بينهما رباط! وأخطأ الشريف الرضى التوفيق أيضا عند ما وصف الصبح يسفر بعد ظلام الليل، وإن كانت هذه الصورة في بعض نواحيها أضوأ من صاحبتها، عند ما قال:
«تطلع الصبح من جوانبها»، ففي هذا التصوير نوع من الحياة، ولكنه بعيد كل البعد عن أن يصور حياة تكون كما صورتها الآية الكريمة، أما باقى الصورة التى ترسمها الأبيات فقد أخطأت في رسم هذه الظاهرة الطبيعية، فإن الشعر يصور لك أن الصبح لم يلبث أن أطل من الأفق، حتى مضى الليل مسرعا يهرول في جريه، كأنما قد أسفر الصبح ومضى الليل بين غمضة عين وانتباهتها، وذلك تصوير غير دقيق، لأن الليل ينحسر قليلا قليلا عن الصبح، حتى يتم أسفاره، كما أن النهار ينحسر قليلا قليلا، تاركا الكون لظلام الليل، وعبر القرآن عن ذلك في قوله سبحانه: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (يس 37). فاستخدم كلمة السلخ لتوحى بما ذكرناه.
وعاد في شعره الثالث إلى الراكب، لا يلمح من جمال الصبح وبهجته سوى لونه، ونقدنا لهذا الشعر هو ما سبق أن أوضحناه.
4 - ووصف الرسول كتاب الله، كما وصف الله كتابه في القرآن، فقال النبى:
«إن أحسن الحديث كتاب الله، قد أفلح من زينة الله في قلبه، وأدخله في الإسلام بعد الكفر، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنه أصدق الحديث وأبلغه » وقال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (الزمر 23). وأنت ترى الفرق واضحا بين قوة الكلامين، والمنهجين، والاتجاهين.
5 - وصاغ أبو بكر جملة على مثال الجملة القرآنية، فقال من خطبة له:
«واعلموا أن أكيس الكيس التقى » على مثال قوله تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى (البقرة 197)، ولا ريب أن النص القرآنى، يصور تلك الرحلة التى ينتقل فيها الإنسان من الحياة الدنيا إلى الآخرة، وهى رحلة تنتهى بحياة خالدة يحتاج المرء فيها إلى زاد يعيش عليه، فتصوير التقوى بأنها خير زاد يوحى بذلك كله، كما يوحى بالحاجة إليها، كما يحتاج المسافر إلى ما يتزود به في غربته، ولم تزد جملة أبى بكر على أن وصفت التقوى بأنها أحكم ما يتصف به العقلاء، فلم توح الجملة إلى النفس بما أوحت به جملة القرآن. 6 - ومن كتاب أرسله أبو عبيدة ومعاذ بن جبل إلى عمر بن الخطاب: «إنّا نحذرك يوما تعنو فيه الوجوه وتجب فيه القلوب »، وقد وصف القرآن هذا اليوم، فقال: رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (النور 37)، وكلمة «التقلب» فى الآية أشد دلالة على ما يصيب القلوب من الفزع والاضطراب في ذلك اليوم، من الوجيب، فضلا عما فى النص القرآنى من خلوصه من تكرير «فيه» الواردة في الرسالة.
7 - وعند ما يتأثر الشاعر القرآن، يبدو الفرق واضحا بين الأصل والتقليد، وأصغ إلى حسان يقول:
وهل يستوى ضلال قوم تسفهوا ... عمى، وهداة يهتدون بمهتد
أخذه من قوله سبحانه: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ (الرعد 16). فأنت ترى حسان يوازن بين ضلّال وهداة، وليس الفرق بينهما من الوضوح والقوة كالفرق بين الأعمى والبصير، والظلمات والنور، فالفرق هنا واضح ملموس، يشعر به الناس جميعا، حتى إذا اطمأنت النفس إلى هذا الفرق، وآمنت بأن هناك بونا شاسعا بينهما، انتقلت من ذلك إلى تبين مدى ما بين الضال والمهتدى من فرق بعيد.
8 - وقال حسان أيضا في رثاء رسول الله:
عزيز عليه أن يحيدوا عن الهدى ... حريص على أن يستقيموا ويهتدوا
أخذه من قوله تعالى: عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (التوبة 128). وقوة الآية القرآنية تبدو في إظهار نتيجة الحيد عن الهدى، وهى الهلاك والعذاب، وفي ذلك من التخويف لهم ما فيه، فهو يبرز هذه النتيجة كأنها حقيقة واقعة، تؤلم الرسول، وتثقل عليه، وتبدو هذه القوة أيضا في تعميم الحرص، فهو حريص على هدايتهم، حريص على خيرهم، حريص على أن يظفروا فى الآخرة بالثواب والنعيم المقيم، وكل ذلك وأكثر منه يفهم من قوله: «حريص عليكم»، أما حسان فقد خصص ولم يطلق.
9 - وقال حسان في غزوة بدر:
سرنا وساروا إلى بدر لحينهم ... لو يعلمون يقين العلم ما ساروا
دلاهمو بغرور، ثم أسلمهم ... إن الخبيث لمن ولاه غرار
وقال: إنى لكم جار، فأوردهم ... شر الموارد، فيه الخزى والعار ثم التقينا، فولوا عن سراتهم ... من منجدين، ومنهم فرقة غاروا
يستوحى ذلك من قوله تعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (الأنفال 48). وتأمل التصوير القوى البارع في القرآن لتزيين الشيطان أعمال الكافرين لهم، فإن القرآن قد نقل ذلك الحديث الذى أوحى به الشيطان إلى أوليائه وكيف ملأ قلبهم بالغرور، وهنا يجمل حسان، بينما يفصل القرآن، وفي هذا التفصيل سر الحياة، تلك الحياة التى ترينا الشيطان ناكصا على عقبيه، عند ما تراءت الفئتان، يبرأ من هؤلاء الذين غرهم بخداعه، وأسلمهم إلى الموت بكذبه وإيهامه، وهذه الحياة هى التى تنقص شعر حسان.
10 - وتأمل الفرق في الأسلوب، عند ما حور النابغة الجعدى أسلوب القرآن قليلا، فقال:
الحمد لله، لا شريك له ... من لم يقلها فنفسه ظلما
المولج الليل في النهار، وفي اللي ... ل نهارا، يفرج الظلما
فقد حور قوله سبحانه: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ (الحج 61). فحذف المولج، وتقديم في الليل، وتنكير نهارا، والمجيء بجملة «يفرج الظلما»، كل ذلك أضعف أسلوب الشاعر، وباعد بينه وبين الأسلوب القوى للقرآن.
11 - وخذ قول الشاعر:
فإنك لا تدرى بأية بلدة ... تمت، ولا ما يحدث الله في غد
المستمد من قوله تعالى: وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ (لقمان 34)، تر التعميم في الآية الكريمة أكسبها فخامة وقوة، والتعبير بتكسب فيه تصريح بعجز النفس عن أن تعرف ما تعمله هى نفسها في الغد، وذلك ما لا تجده عند الشاعر الذى عمم فيما يحدثه الله في غد، ولم يكن لهذا التعميم ما للتخصيص من قوة التعجيز.
12 - وهذا الشعر الذى ينسب إلى حمزة في غزوة بدر، يتحدث عن الكفار:
أولئك قوم قتلوا في ضلالهم ... وخلوا لواء غير محتضر النصر
لواء ضلال قاد إبليس أهله ... فخاس بهم، إن الخبيث إلى غدر
فقال لهم إذ عاين الأمر واضحا: ... برئت إليكم، ما بى اليوم من صبر
فإنى أرى ما لا ترون، وإننى ... أخاف عقاب الله، والله ذو قسر
فقدمهم للحين، حتى تورطوا ... وكان بما لم يخبر القوم ذا خبر وهو يستوحى كحسان قوله تعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ... (الأنفال 48) فأى فرق شاسع بين الأسلوبين وبين التصويرين، فالأسلوب في الشعر متهاو ضعيف، بينما هو في الآية قوى رائع، يصور الشيطان وقد ملأ أفئدتهم إعجابا بأعمالهم، فاغتروا بها، وتكاد تستمع إلى وسوسته، وهو يؤكد لهم أنه لا غالب لهم اليوم من الناس ما دام جارا لهم، وتتخيله موليا الأدبار بعد أن تراءت الفئتان، وبدت أمام عينيه الهزيمة، فيسلم قومه إلى القتل، ويفر غادرا بهم، ويرن فى أذنك براءته منهم، معللا ذلك بأنه يرى ما لا يرون، وبأنه يخاف الله، وفي ذلك التصوير من التهكم بهم ما فيه.
أما الشعر فبيّن الضعف، يصف اللواء بأنه غير محتضر النصر. وقوله: إذ عاين الأمر واضحا، ليس بأسلوب شعرى. والفرق قوى بين: والله شديد العقاب، وقوله:
والله ذو قسر، وأنت ترى أنه برغم أن المعنى قد أوضحه القرآن، لم يستطع الشاعر أن ينهض إلى مستوى رفيع.
... وللباقلانى منهج في الموازنة، يبين به فضل كتاب الله، هو «أن تنظر أولا في نظم القرآن، ثم في شىء من كلام النبى صلّى الله عليه وسلم، فتعرف الفصل بين النظمين، والفرق بين الكلامين، فإن تبين لك الفصل، ووقعت على جلية الأمر، وحقيقة الفرق، فقد أدركت الغرض، وصادفت المقصد، وإن لم تفهم الفرق، ولم تقع على الفصل، فلا بدّ لك من التقليد، وعلمت أنك من جملة العامة، وأن سبيلك سبيل من هو خارج عن أهل اللسان »، ثم أورد الباقلانى بعض خطب الرسول وكتبه، وعلق عليها بقوله: «ولا أطول عليك، وأقتصر على ما ألقيته إليك، فإن كان لك في الصنعة خطر ... فما أحسب أن يشتبه عليك الفرق بين براعة القرآن، وبين ما نسخناه لك من كلام الرسول صلّى الله عليه وسلم في خطبه ورسائله، وما عساك تسمعه من كلامه، ويتساقط إليك من ألفاظه، وأقدر أنك ترى بين الكلامين بونا بعيدا، وأمدا مديدا، وميدانا واسعا، ومكانا شاسعا  ... ».
«فإذا أردت زيادة في التبيين ... فتأمل (هداك الله) ما ننسخه لك من خطب الصحابة والبلغاء، لتعلم أن نسجها ونسج ما نقلنا من خطب النبى صلّى الله عليه وسلم واحد وسبكها سبك غير مختلف، وإنما يقع بين كلامه وكلام غيره ما يقع من التفاوت بين كلام الفصيحين، وبين شعر الشاعرين ... فإذا عرفت أن جميع كلام الآدمى منهاج، ولجملته طريق، وتبينت ما يمكن فيه من التفاوت- نظرت إلى نظم القرآن نظرة أخرى، وتأملته مرة ثانية، فترى بعد موقعه وعالى محله وموضعه  ... » ثم يورد بعض خطب البلغاء وكتبهم، ويقول: «تأمل ذلك وسائر ما هو مسطر من الأخبار المأثورة عن السلف وأهل البيان واللسن، والفصاحة والفطن ... فسيقع لك الفضل بين كلام الناس وبين كلام رب العالمين، وتعلم أن نظم القرآن يخالف نظم كلام الآدميين ... فإن خيل إليك، أو شبه عليك، وظننت أنه يحتاج أن يوازن بين نظم الشعر والقرآن، لأن الشعر أفصح من الخطب، وأبرع من الرسائل وأدق مسلكا من جميع أصناف المحاورات ... فتأمل ما نرتبه ينكشف لك الحق: إذا أردنا تحقيق ما ضمناه لك فمن سبيلنا أن نعمد إلى قصيدة متفق على كبر محلها وصحة نظمها، وجودة بلاغتها ومعانيها، وإجماعهم على إبداع صاحبها فيها، مع كونه من الموصوفين بالتقدم في الصناعة، والمعروفين بالحذق في البراعة، فنقفك على مواضع خللها، وعلى تفاوت نظمها، وعلى اختلاف فصولها، وعلى كثرة فضولها، وعلى شدة تعسفها، وبعض تكلفها، وما تجمع من كلام رفيع يقرن بينه، وبين كلام وضيع، وبين لفظ سوقى يقرن بلفظ ملوكى  ... » ثم عرض تطبيقا على منهجه معلقة امرئ القيس، وأخذ يبين ما فيها من مجال النقص، ووجوه العيب، ثم قال: «وقد بينا لك أن هذه القصيدة ونظائرها تتفاوت في أبياتها تفاوتا بينا في الجودة والرداءة، والسلاسة والانعقاد، والسلامة والانحلال، والتمكن والتسهل، والاسترسال والتوحش والاستكراه، وله شركاء في نظائرها، ومنازعون فى محاسنها، ومعارضون في بدائعها، ولا سواء كلام ينحت من الصخر تارة، ويذوب تارة، ويتلون تلون الحرباء، ويختلف اختلاف الأهواء، ويكثر في تصرفه اضطرابه، وتتقاذف به أسبابه، وبين قول يجرى في سبكه على نظام، وفي رصفه على منهاج، وفي وضعه على حد، وفي صفائه على باب، وفي بهجته ورونقه على طريق، مختلفه مؤتلف، ومؤتلفه متحد، ومتباعده متقارب وشارده مطيع، ومطيعه شارد، وهو على متصرفاته واحد، لا يستصعب في حال، ولا يتعقد في شأن ».
ذلك هو منهج الباقلانى في الموازنات.
... وإن مجال الموازنات لمتسع بين القرآن والشعر عند ما يكون الموضوع واحدا، فقد تحدث القرآن والشعر عن كثير من الغزوات ولم يستطع الشعر برغم تقليده في كثير من الأحيان للقرآن أن يصل إلى السمو القرآنى، وأن يتناول شتى الأغراض التى تنتظم شئون الجماعة الإسلامية، فى حين أن الشعر الذى تحدث عن هذه الغزوات ضعيف في جملته لا يخرج عن أغراض الشعر المعروفة يومئذ من مدح أو هجاء أو فخر أو رثاء. 

اللفيف من الدال

باب اللفيف


ما أوَّله الدّالُ
الدو: مَوْضِعٌ بالبادِيَةِ صَحْرَاءُ كالرّاحَةِ.
والدويةُ: المَفَازَةُ المَلْسَاءُ، وكذلك الدّاوِيَةُ. ورَجُل دَوي ودُوِّي: مَنْسُوْبٌ إلى الدو. وأرْض دَوِئةٌ: خالِيَةٌ.
وُيقال للحَمِيْرِ: بَنَاتُ الدَّو.
ودَوى الرجُلُ في البِلادِ: دارَ فيها وجاءَ وذَهَبَ. ودَوِيَ الرَّجُلُ يَدْوى دَوىً: وهو الذاء الباطِنُ، ورَجُلٌ دَو وامْرأة دَوِيَةٌ، ويقولونَ: دَوى في المَرأةِ والرجُلِ. والدوَاءُ: الشفَاءُ، داويتُه مُدَاوَاةً ودِوَاءً، وأدَأتَ يا فلان وأدْوَأتَ: أي في صَدْرِكَ الداءُ والغِش. والدوَاءُ: الأزْمُ. وصَنْعَةُ الفَرَسِ، داويتُه: أي صَنَعْتُه.
وأدْوَأته بكذا وأدَأتُه: أي اتَّهَمْتُه. والداءُ: اسْمُ كُلِّ مَرَضٍ ظاهِرٍ؛ حَتّى الحُمْقُ داءٌ. ورَجُلٌ داءٌ وامْرأةٌ داءَةٌ: ذَوَا داءٍ. وقد داءَ يَدَاءُ داءً. وبَرِئْتُ إليكَ من كُل داء تَدْءآه الإبِلُ. وشَفَةٌ داءَة. وداء دَوِي: شَدِيْدُ.
وداءُ الذئْبِ: الجُوْعُ. والدوى: الحُمْقُ. والضَنى أيضاً. والرجُلُ الأحْمَقُ أيضاً. والدَأيُ: جَمْعُ الدأيَةِ وهي فَقَارُ الكاهِلِ، والجَمِيْعُ الدأيَاتُ.
ويُقال للغُرَابِ: ابْنُ دَايَةٍ؛ لأنَّه يَحْضُنُ فِرَاخَه دُوْنَ دلأم. وقيل: لأنه يَقَعُ على دَأيَةِ البَعِيْرِ الدَّبِر فَيَنْقُرُها. وفي مَثَلٍ: " جاؤوا به غُرَيَبَ ابْنِ دَايَةٍ " للخَبَرِ الذي لا أصْلَ له. والدوَايَةُ: ما يَغْشَى الماءَ الرّاكِدَ واللَبَنَ الرّائِبَ، وُيقال: دِوَايَةٌ أيضاً. واللبَنُ داوٍ ومُدو. وماء دَوِي: مُتَغَيرٌ. وادَّويت: أكَلْتُ الدوَايَةَ. ودَاوَيت الفَرَسَ: سَقَيْته الدُّوَايَةَ. والدَّوى: اللَّبَنُ نَفْسُه. والدُّوَايَةُ - أيضاً -: ما يَبِسَ على الفَمِ من الريْقِ. والدأدَأةُ: صَوْتُ وَقْعِ الحِجَارَةِ في المَسِيْلِ. واللزُوْقُ بالأرْضِ.
وتَدَأدَأ الخَبَرُ: أبْطَأ وتَأخَّرَ. وتَدَأدَأ القَوْمُ: تَزَاحَمُوا. والدَّأدَاءُ: ما اسْتَوى من الأرْضِ. وثَلاثُ لَيَالٍ من آخِرِ الشهْرِ، وجَمْعُها دَءادِى. ولَيْلَة دَأدَأةٌ: وهي أشَدُّ اللَيَالِي ظُلْمَةً. وقيل: واحِدُ الدَءادِئ دُؤْدُؤَةٌ. وتَدَأدَأ الرجُلُ: إذا مالَ عن شَيْءٍ فَتَرَجَّحَ، يُقال: تَدَأدَأ. ودَأدَأتُه: حَرَّكْتُه. والدوْدَاةُ: أرْجُوْحَةُ الصّبْيَانِ، والجَميعُ الدَّوَادي. وطَرِيْقُ النَّعَمِ.
ومَوْضِعُ اخْتِلَافِ الناسِ والجُرَذِ. وأثَرُ النَّمْلِ. ودَوْدَاةُ القَوْمِ: ضَوْضَأتهم. والدَئْدَاءُ: ضَرْبٌ من العَدْوِ.
والدُوَادُ: الرَّجُلُ السَّرِيْعُ، وبه كُنِّيَ أبو دُوَادٍ. وهو - أيضاً -: صِغَارُ الدُّوْدِ، ومَثَلٌ: " أحْقَرُ من دُوَادَةٍ ". وفي الحَدِيثِ: " إنَّ المُؤَذنِيْنَ لا يَدَادُوْنَ " أي لا تَأكُلُهُمْ الديْدَانُ. ودادَ الطَعَامُ وأدَادَ ودَودَ. والددُ: اللهْو والتَعِبُ، يُقال: دَداً ودَدٌ ودَدٍ ودَدَن، وفي الحَدِيث: " ما أنَا من دَدٍ ولا دَدٌ مِني ". وهو - أيضاً -: الحِيْن من الدهْرِ. والدَوَاةُ: مَعْرُوفَةٌ، وجَمْعُها دُوِي ودَوىً، وثَلاثُ دَوَيَاتٍ. وقِشْرَةُ الحَنْظَلَةِ والعِنَبَةِ والبِطَيْخَةِ.
ويقولونَ: دَائَيْتُ بَيْنَ القَوْمِ: أي أصْلَحْتُ. ودَأيْتُ له أدْأى دَأياً: خَتَلْته، وحُكِيَ: الذَئْبُ يَدْأى للغَزَالِ.
والدّاوي من الطَّعَامِ والشرَابِ: الكَثِيْرُ. والمُدَوِّيةُ من العُشْبِ: الأرْضُ الوافِرَةُ الكَلإ لم يؤكل منها شَيْء. وادوَيت ما في الإنَاءِ ادِّوَاءً: إذا أخَذْتَه بأجْمَعِه. وأمْرٌ مُدَوٍّ: مُظْلِمٌ. والمُدَوي: السَّحَابُ المُرْتَجِسُ. ودَوّى الفَحْلُ تَدْوِيَةً: سَمِعْتَ لهَدِيْرِه دَوِّياً. وما بها دَوي: أي أحَدٌ، ودُوِّي: مِثْله، ودُوْوِي.


ما أوَّلُه الألِف
إدا يَأدُو أدْواً: خَتَلَ، وفي مَثَلٍ: " الذِّئْبُ يَأدُو للغَزَالِ يَأكُلُه ". والأدْوُ: الحَدْوُ والسوْقُ. ومَخْضُ السقَاءِ وتَحْرِيْكُه. والمَشْيُ السرِيْعُ.
والأوْدُ: مَصْدَرُ آدَ يَؤُوْدُ، أدْتُ العُوْدَ أؤُوْدُه فانْآدَ: أي عُجْتُه فانْعَاجَ. ومنه التأوُّدُ. والأوَدُ والأوْدَاءُ - بوَزْنِ أعْوَج وعَوْجَاءَ -. وآدَني: أثْقَلَني؛ يَؤُوْدُني. وتَأدّاه - أيضاً -: أثْقَلَه. وسَمِعْتُ أويدَ القَوْمِِ: أي أزِيْزَهم وحِسَّهم. وفلانٌ لا يَؤُوْدُني بخيْرٍ وبشَر: أي لا يُرِيْدُني. وأدْتُ عليه: عَطَفْت عليه.
وآدَ النَّهَارُ: رَجَعَ فَيْءُ العَشِيِّ. وقيل: ذَهَبَ. وأوِدَ الطَرِيْقُ: عَوِجَ، وآدَ: كذلك. وأوْدُ: مَوْضِع بالبادِيَةِ.
والأيْدُ والأدُ: القُوةُ، ورَجُلٌ آدٌ وقَوْم آدُوْنَ. والأيِّدُ: القَوِي. والتَّأيِيْدُ: مَصْدَرُ أيدْتُه، وأنا مُؤيد له: أي قَوِي عليه.
وآدَيْتُه: أي أعَنْتُه وساعَدْتُه. واسْتَأدَيْتُ عليه: اسْتَعْدَيْتُ. وإيَادُ كُلِّ شَيْءٍ: ما يَقْوى به من جانِبَيْهِ. وإيَادُ العَسْكَرِ: المَيْمَنَةُ والمَيْسَرَةُ.
وإيَادُ بنُ مَعَد: من اليَمَنِ.
والإيَادُ: كالهَدَفِ والأرْضِ المُرْتَفِعَةِ والجَبَلِ. وتَأيَّدْتُ عن كذا: سَكَتُّ عنه. وأذى فلانٌ ما عليه تَأدِيَةً وأدَاءً. وهو آدى للأمانة. فأما الأدَاةُ فألِفُها واوٌ، وجَمْعُها أدَوَاتٌ وأداً. ورَجُل مُؤْدٍ: عامِلُ أداةِ السلاَح.
والإدَاءُ في الرمْلِ: نَحْوُ الوادي الواسِعِ.
والإدَاوَةُ: مَطْهَرَةُ الماء والجَميعُ الأدَاوى. وأدَدُ: جَدُّ مَعَد بن عَدْنان. وأد بن طابِخَةَ: جَد تَمِيْمٍ. والإدُّ: الأمْرُ العَظِيْمُ. وأدتْ فلاناً داهِيَةٌ تَؤُده أدةً. وواحِدُ الإدَادِ: إدةٌ. وواحِدُ الإدَادِ: إد. وهو بإدَائِه: أي بإزَائه.
وسِقَاء أدِى: صَغِيْرٌ. ودَلْو أدِيَةٌ: لا يَسِيْلُ منها شَيْءٌ. وأدتِ الإبِلُ تَؤُدُّ أداً: إذا حَنتْ إلَى أوْطَانِهَا.
وهو بمِيْدَاءِ ذاكَ: أي بحِذَائِه. وقيل: مُنْتَهاه وقَدْرُه وجِهَتُه. والمِيْدَاءُ: مُجْتَمَعُ الطرِيْقِ؛ كالمِيْتَاءِ. وهم على أدِيةٍ من أمْرِهم: أي قَصْدٍ. وتَآدى القَوْمُ تَآدِياً: أي تَتَابَعُوا. وما يُؤادِيني: أي ما يُوَاتِيْني. وأخَذَ للأمْرِ أدِيهُ: أي أهْبَتَه، وهو من أدِيْتُ: أي تَهَيَّأتُ. وتَآدَيْتُ للصلاةِ: تَهَيأت لها؛ وكأنه أخْذُ الأدَاةِ لها، والأدِيُّ: المُسْتَعِد المُنْطَلِقُ الخفِيْفُ. وماء أدِي: أي قَلِيْلٌ. وأدَى السقَاءُ يَأدِي أدِياً: إذا خَثَرَ لِيَرُوْبَ. وأدَى اللبَنُ يَأدُوْ: خَرَجَ زُبْدُه؛ أدُواً. وأدَتِ الثمَرَةُ تَأدُو: وهو اليُنُوْعُ والنضْجُ.
والأدِيةُ من النسَاءِ: الربْعَةُ، وهُن أدِياتٌ. وقَطَعَ اللهُ أدَيْ فلانٍ وَيدَيْهِ: بمعنى. ورَجُل أدِي: رَفِيْقُ اليَدِ.
وأدَيات: اسْمُ مَوْضِع.


ما أولُهُ الواوُ
وَدَأته فَتَوَدأ: أي سَوْيتُه فَتَسَوى. واسْتَودَيتُ له بحَقه: أي اعْتَرَفْت وأقْرَرْتُ، وأصْلُه في الديَةِ. ووَدى فلان فلاناً: أدى دِيته. والاتدَاءُ: أخْذُ الديَةِ. وما أدرِي أين سكعَ وأين ودَأ: أي ذَهبَ. ووَدأته: دَفَنته.
وتَوَدأت عليه الأرض: اشتَمَلَتْ، وكذلك كُل شَيءٍ استَولَى على شيءٍ. والمُوَدأةُ: المَهْلَكَةُ. والداهِيَةُ. وتَوَدأ في البِلادِ: تَغَيبَ. ووَدِئَ خَبَرُه: انْقَطَعَ. والمَوْؤُوْدَةُ: الوَئيْدُ، وَأدَ يَئدُ وَأداً؛ وهو دَفْنُ البِنْتِ حَيةً.
والرَئيْدُ: دَوِي يُسْمعُ صَوْتُه من بَعِيْدٍ، وكذلك الوَأدُ. ورِز وَأد: شَدِيْدٌ. والوأدُ والوَئيْدُ: الثقلُ، ومنه المَوْؤوْدَةُ: أي أثْقِلَتْ بالترَاب. ومنه اتَّئِدْ: أي تَرَزنْ.
والتؤَدَة: التمَهل والتأني، يقال: اتئدْ وتَوَأدْ.
والمُوْدِي: الهالِكُ - لا يُهْمَزُ -، يُقال: أوْدى به المَوْتُ. واسْمُ الهَلاَكِ: الوَدى.
والتوْدِيَةُ: خُشَيْبَةٌ تُشَد على أطْبَاءِ الناقَةِ لئلا يَرْضها الفَصِيْلُ، وَدَيْتُ الناقَةَ بتَوْدِيَةٍ، وجَمْعُها تَوَادٍ.
والتَوْدِيَةُ من الرجَالِ: مِثْلُ الدِّرْحَايَةِ في القِصَرِ.
والوادي: كُلُ مَفْرَجٍ بَيْنَ جِبَالٍ أو إكَامٍ يكونُ مَسْلَكاً للسيْلِ، والجَميعُ الأوْدِيَةُ. وُيقال: أوْدَاةٌ؛ للأوْدِيَةِ. وفي مَثَلٍ: " حُلَّ بوَادِيْكَ " أي ضُيِّقَ عليك ونَزَلَ بكَ ماتَكْرَهُ. والوَدِي: فَسِيْلُ النَّخْلِ الذي يُقْلَعُ للغَرْسِ، الواحِدَةُ وَدِيَّةٌ، وجَمْعُه وَدَايَا. وُيقال للحِمَارِ إذا أنْعَظَ: وَدَى؛ فهو وادٍ، وأوْدَى: قَلِيْل. وقيل وَدَي: قَطَرَ. والوَدِيْ: الماءُ الذي يَخْرُجُ رَقِيْقاً أبْيَضَ على أثَرِ البَوْلِ، والوَدِيُ: لُغَةٌ فيه. والوَدْيُ - بوَزْنِ الرمْيَ -: مَصْدَرٌ.
والوَد: مَصْدَر المَوَدةِ، وهو الوِدَادُ والوُدُّ. والوَدَادَةُ: مَصْدَرُ وَدِدْتُ أوَد؛ من الأمْنِيَّةِ. ومن المَوَدةِ: يَوَد مَوَدةً. وهو وُدّكَ ووَدِيْدُكَ ووِدكَ. والأوُد: جَمْعُ الود، وهم الأصْدِقَاءُ أيضاً؛ واحِدُهم وِد. والوُدَدَاءُ: جَمْعُ الوَدِيْدِ. وإَّنه لَيَتَوَدَّدُ أنْ يكونَ ذاكَ: أي يَوَدُ. والوَدُ: الوَلَدُ، وتَصْغِيْرُه وُتَيْدٌ، وَدَدْتُ الوَدَّ أوُدُّهُ وَدّاً: إذا وَتَدْتَه. وصَنَمٌ كانَ لقَوْمِ نُوْحٍ - عليه السلَامُ -، وفيه ثَلاثُ لُغَاتٍ. وعَبْدُ وُد: مَعْرُوفٌ في قُرَيْشٍ.
والوَد: الذي في شَحْمَةِ الأذُنِ مما يَلي الصُّدْغَيْنِ. واسْمُ جَبَلٍ مَعْرُوْفٍ.


ما أوَلُه الياء
اليَدُ: الجَارِحَةُ؛ مَعْرُوفَة، وجَمْعُه أيْدٍ، ويُقال: يَدَاً - بوَزْنِ رَحَاً - وَيد - بوَزْنِ يَم -. والنَعْمَةُ السابِغَةُ، وجَمْعُها أيادٍ ويَدِي. ويُثَنَى يَدَيَانِ على الأصْلِ. وَيدُ الفَأسِ: نِصَابُها، والقَوْسِ: سِيَتُها. وَيدُ الدهْرِ: أي مَدى زَمَانِه. وأنصارُ الرَّجُلِ وجَمَاعَةُ قَوْمِه. وجاهُهُ وقَدْره. ويَدُ الشمَالِ: مِلْكُها. وهذه الضَّيْعَةُ في يَدي: أي مِلْكي. وَيدِيَ فلان من يَدِه: أي شَلتْ. ورَجُل مَيْدِي: مَقْطُوْعُ اليَدِ. وأيْدَيْت على فلانٍ يَداً بَيْضَاءَ: أي مِنةً. وهو ذُو مالٍ يَيْدي به وَيبُوْعُ: أي يَبْسطُ به يَدَيْه وباعَهُ.
و" ذَهَبَ القَوْمُ أيْدِي سَبَا " و " أيَادِي سَبَا: أي مُتَفَرِّقِيْنَ في كُل وجه.
والنَسْبَةُ إلى اليَدِ: يَدِي.
وثَوْبُ الصبَا يَدِي: أي واسِع، وقيل: جَدِيْد كأنما رُفِعَتْ عنه الأيْدِي ساعَتَئِذٍ، وقيل: بل الأيْدي تَتَعَاوَرُه. وتُجْمَعُ اليَدُ أيْدِيْنَ. ولا يَدَ لي بفلانٍ: أي لا طاقَةَ. وما لي به يَدَانِ. وقَوْلُه: يُوْدِي الكَرِيْمَ فَيَحْيى بَعْدَ إيْدَاءِ يُوْدِي: يَصْطَنِعُ يَداً من المَعْرُوْفِ، يُقال: أيْدى يُوْدِي وَيدى يَيْدي. ويادَيْتُه مُيَادَاةً: أي جازَيْته يَداً بيَدٍ.
فأما قَوْلُه: فإنكَ قد مَلأتَ يَداً وشاما يُرِيْدُ: اليَمَنَ. وأخَذَ بهم يَدَ البَحْرِ: أي طَرِيْقَه. ويقولونَ: ابْتَعتُها اليَدَيْنِ: أي بثَمَنَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أرْخَص وأغْلى.
ولَقِيْتُه أولَ ذاتِ يَدَيْنِ أي أولَ شَيْءٍ. وخُذْه آثِرَ ذي يَدَيْنِ وذاتِ يدين.
وفي المَثَل: " لأنْتَ أضعفُ من يَدٍ في رَحِمٍ ".
و" سُقِطَ في يَدِه ": نَدِمَ.
وهو أطْوَلُ يَداً من فلانٍ: أي أسْخى منه. وَيدِي لمَنْ شاءَ أنْ يُخَاطِرَني. وألْقى يَداً في عَمَلِ كذا: إذا أخَذَ فيه فابْتَدَأ. وقَوْلُه عَز وجَلَّ: " حَتَّى يُعْطُوا الجزْيَةَ عن يَدٍ وهُمْ صاغِرُوْنَ " أي يُعْطُونَها كَمَلاً لا يَقْطَعُوْنَها. ورَجُلٌ يَدِي: رَفِيْقُ اليَدَيْنِ. وَيدُ القَمِيْصِ: كُمُّه. وقَوْلُه عَزوجَل: " فَرَدُّوا أيْدِيَهم في أفْوَاهِهم " أي عَضوا عليها غَيْظاً.
وَيدٌ وَيدَة: بمعنىً.
وهُمْ عَلَيَّ يَدٌ واحِدَةٌ: أي مُجْتَمِعُوْنَ.
وأعْطَى فلانٌ يَدَه وبِيَدِه: اسْتَسْلَمَ وذَلَّ.
وبايَعْتُه يَداً بِيَدٍ: أي نَقْداً.

اللفيف من الصاد

باب اللفيف
ما أَوَّلُه الصاد الصُوى: الحِجَارَةُ المَجْمُوْعَةُ، الواحِدَةُ صُوَّةٌ؛ كأنَّها علامَات، والجَميعُ الأصْوَاءُ. وماءٌ صَوىً: مَجْمُوْعٌ.
وصُوةٌ من السبَاعِ: جَمَاعَةٌ. وصَوِيَتِ الأرْضُ بَعْدَ لِيْنِها: أي غَلُظَتْ. ومنه الصُّوَةُ للمَكانِ المُرْتَفِع الذي فيه غِلَظٌ.
والأصْوَاءُ: القُبُوْرُ، واحِدُها صُوَّةٌ. والصاوي: اليابِسُ، يُقال للنَّخْلَةِ: صَوَتْ تَصْوي صُوِيّاً. وقَوله:
إلى نَخَلاتٍ قد صَوِيْنَ سَمُوْمُ
أي يَبِسْنَ.
والصوى: النَخْلَةُ. والصوّانُ: الحِجَارَةُ فيها صَلَابَةٌ لَوْنُها كَلَوْنِ الأرْضِ، الواحِدَةُ صَوّانَةٌ.
والصاء - مَمْدُوْد - والصاءةُ: الماءُ الذي يَكونُ في السَّلا َكأنَه الصَّدِيْدُ، والصيَاءةُ مِثْلُه. وصَيَّأتَ رَأْسَكَ تَصْيِيْئاً: إذا غَسَلْتَه فلم تُنَقَه وأثَرْت وَسَخَه. والصِّيْئةُ: وَسَخُ الرأْسَ. والصِّئِيُ والصُّئي: الصوْتُ، يُقال: صَأتِ الفَأرَةُ تَصْئِيْ صَئِيّاً. وكذلك الطيْرُ تَصْئِيْ. والسنَوْرُ والكَلْبُ عِنْدَ الضَرْبِ يَصْئِيْنَ. والفَرَسُ الصائي: الذي يُدَقَقُ صَوْتَه، والأنْثى صائيَةٌ، والجميع صَوَاءٍ. ومن أمثالهم: " جاءَ بما صَاءَ وصَمَتَ " في كَثْرَةِ المال.
وصِي اليَمَنِ: لُغَتُهم؛ وهو إدْخالُهم بَيْنَ الألِفِ والألِفِ من " صاحِب " إشْمَامَة الياء. وقيل: هو ضَعْفُ الصوْتِ من غَيْرِ مَرَض.
ويقولون: أزض تَصَايا حَياتُها وتَصَاءى: أي صارَتْ تَضِج من الهَزْلِ والبُؤسَ. والصِّيْصَاءُ؛ ما حَشِفَ من التمْرِ فلم يَعْقِدْ له نَوىً. وما كانَ من الحَب لا لُبَّ له كالبِطِّيْخِ والحَنْظَلِ، والواحِدَةُ صِيْصَاءةٌ. والشيْصُ - أيضاً -: صِيْصَاءةٌ. وصَأْصَأَتِ النخْلَةُ: صارَتْ كذلك، وصئصت وأصَاصَتْ. ونَخْلَةٌ مِصْيَاصٌ ومصِيص. والصاْصَاَةُ: تَحْرِيْكُ الجِرْوِ عَيْنَه قَبْل التَفْتِيْحِ والتَبْصِيْصِ. وقد صَاْصَأ الرجُلُ: ذَل وضَرَعَ. وصَأْصَأْتُ منه: فَرَرْت. وصَأْصأَ الكَلْبُ: فَزعَ. وقيل: حَركَ ذَنَبَه. والصيْصِيَةُ: ما كانَ حِصْناً لكُلِّ شَيْءٍ؛ كصِيْصِيَةِ الثوْرِ لقَرْنِه؛ وصِيْصِيَةِ الديكِ. وكذلك القَلَعَةُ التي يَتَحَصنُوْنَ فيها. وهو صِيْصِيَةُ مالٍ: أي مُصْلِحُه. وعادَ إلى صِيْصِيَتِه: أي أصْلِه. والصوْصُ: اللئيمُ الذي لا خَيْرَ فيه. ويقولون: " أَصُوْصٌ عليها صُوْصٌ "، والأصُوْصُ: الناقَةُ الحائلُ. وُيقال لِيَوْمِ من أيّام العَجُوْزِ: المُصَوْصي. والمُصَاصِي: الذي يَرُدُّ الشيْءَ إلى ما وَرَاءه. والتَصْوِيَةُ للفَحْلِ من الإبلِ والإجْمَامُ: أنْ لا يُحْمَلَ عليه ولا يُعْقَدَ فيه حَبْل ليكونَ أنْشَطَ في الضَرَابِ وأقْوى. والصوَى: الشحْمُ.
وصَوّى لها: أي أضْمَرَ لها، من قَوْلهم: بَعِيْرٌ صاوٍ: ضامر. والمُصَواةُ: المُحَفلَةُ - أيضاً -، صَويْتُها تَصْوِيَةً، وقد صَوِيَتْ تَصْوى صَوى شَدِيداً؛ فهي صَوِيةٌ. والصوى: اللبَأُ نَفْسُه. وقَوْلُه:
مِجَاناً من اللائي يُمَتَّعْنَ بالصَّوى
هو تَيْبِيْسُ الألْبَانِ بالتَّصْوِيَةِ. وصَوِيت: أي قَوِيت. والتصْوِيَةُ: أنْ تَرُد ألْبَانَ الإبل ولا تَحْلُبَها.


ما أوَّلُهُ الألف
الإصُ: الأصلُ، وجَمْعُه آصَاصٌ. وأصَاةُ اللِّسَانِ: حَصَاتُه ورَزَانَتُه. والأصُوْصُ: النْاقَةُ الحائلُ السمِيْنَةُ، ومنه قَوْلُهم: " أَصُوْص عليها صُوْص ". وقيل: هي المُوَثقَةُ الخَلْقِ، وجَمْعُه أُصُص، وقد أصَّتْ تَؤُص.
والرجُلُ اللص: أَصُوْصٌ.
وتأصُوا: اجْتَمَعُوا وتَزَاحَمُوا، وتآصُوا: كذلك. وأصَّ بَعْضُهم بَعْضاً. وجَمَاعاتٌ أصَائصُ. وتَرَكْتُهم أَصِيْصَةً واحِدَةً: أي مُجْتَمِعِيْنَ.
والأصِيْصَةُ من البُيُوْتِ: المُتَقَارِبَةُ. وقد ائْتَصتْ حِلتُهم. وله من فَرَقِه أصِيْصٌ: أي انْقِبَاض وذُعْر.
والأصِيْصُ: البِنَاءُ المُحْكَمُ. والذي يُنْقَلُ عليه الطيْنُ. وشَيْء كهَيْئةِ الجَر له عُرْوَتانِ. ونصْفُ الجَرةِ والخابِيَةِ يُبْذَرُ فيها الريَاحِيْنُ.
والآصِيَةُ: طَعَامٌ مِثْلُ الحَيْسِ من السمْنِ والتَمْرِ. وهي - أيضاً -: الداهِيَةُ اللازِمَةُ.
وأصَى عَلَى الأمْرُ: إذا لم يُمْكِني فَتْحُه، وأصى تَأْصِيَةً: كذلك. وما أشَد ما يَأْصُوْ عَلَي. وإنَ بكَ لآصِيَةً - وجَمْعُها أوَاصِ -: أي داهِيَةً. وما بَيْني وبَيْنَكَ آصِيَة تَأْصِيْكَ عَلَي: أي آصِرَة.
والايَاصي: بمنزلة الأيَاصِرِ.
وأَصِيَ السنَامُ؛ وسَنَامٌ آصٍ: إذا كانَ شَحْمُه مُتَظاهِراً ضَخْماً. وأَصَا النبْتُ يَأصُوْ أُصُواً: أي اتَصَلَ وكَثُرَ.


ما أوَّلُه الواو
الوَصَاةُ: كالوَصِية، والوِصَايَةُ والوِصَاءةُ: مَصْدَرُ الوَصِي، وفِعْلُه أوْصَيْت إيْصَاءً، ووَصيْتُه وأوْصَيْته. والتَوْصِيَةُ في المُبَالَغَةِ؛ وكذلك التوْصَاةُ. والوَصَا: الوَصَاةُ. وفي المَثَل: " إنَ المُوَصَيْنَ بَنُو سَهْوَان ".
وإذا أطاعَ المَرْعى للسائمَةِ فاصابَتْه رَوَاعِدُ قيل: وَصَى لها المَرْعى يَصِيْ وَصْياً ووُصِياً. ووَاصى البَلَدُ بَلَدَ كذا: أي واصَلَه؛ فهو مُوَاص. ووَصَى الشيْءَ بالشَّيْءِ يَصِيْه: أي وَصَلَه. وبَلَد مَوْصِي.
والوَصْوَاصُ: خَرْقٌ في السِّتْرِ ونَحْوِه على مِقْدَارِ عَيْنٍ تَنْظُرُ فيه، وجَمْعُه وَصَاوِصُ. والوَصَاوِصُ: حِجَارَةُ الأيَادِيم الصِّغَار.
ووَصْوَصَ الجِرْوُ: إذا فَتَحَ عَيْنَيْه. ووَصْوَصَتِ المَرْأةُ: ضَيَّقَتْ نِقَابَها. ووَصَاْتُ به الأرْضَ ووَأَصْتُ: أي ضَرَبْت به الأرْضَ. والوَئيْصَةُ: الجَماعَةُ. وتَوَاءَصُوا: أي تَجَمَّعُوا، وكذلك إذا تَزَاحَمُوا على الماء، فهم مُتَوَائِصُوْنَ.
وما أدْري أي الوَئيْصَةِ هُوَ: أيْ أي الخَلْقِ هو. والوَصِيْصُ: الصوْتُ؛ نحو الأصِيْص.


ما أوله الياء
طائرٌ يُسَقى بالعِراقِ: يَوَصِيُ - على فَعَلِي - شِبْهُ الباشَقِ إلأ أنه أطْوَلُ جَنَاحاً وأخْبَثُ صَيْداً. وَيصصَتِ الأرْضُ: أي تَفَتحَتْ بالنبات. ويَصصَ النبْتُ: تَفَتَحَ بالنوْرِ، والجِرْوُ: فَتَحَ عَيْنَيْه، تَيْصِيْصاً. وَيصصَ على القَوْمِ: حَمَلَ عليهم.

اللفيف من الحاء

بَابُ اللَّفيف
ما أوله الحاء
الحاءُ: حَرْفُ هِجَاءٍ، هذه حاءٌ مَكْتُوْبَةٌ، وتَصْغِيرُها: حُيَيَّةٌ.
وحَاءٌ وحَكَمٌ: قَبِيْلَتانِ.
وهذه قَصِيْدَةٌ حاوِيَّةٌ: على الحاءِ.
ويقولونَ: " ابنُ المائِة لاجَا ولاسَا " أي لا مُحْسِنٌ ولا مُسِيْءٌ وقيل: لا يَسْتَطِيْعُ أنْ يقولَ: حا للكَبْشِ عند السِّفَادِ وللغَنَمِ عند السَّقْيِ.
وحَاحَأْتُ له وحاحَيْتُ.
وحَوْ: زَجْرٌ للمَعْزِ، حَوْحَأْتُ به حَوْحَاةً.
وحَيَّ - ثَقِيْلَةٌ -: يُنْدَبُ بها، يقولُ: حَيَّ على الخَيْرِ والغَدَاءِ.
وأمّا الحَيَاةُ: فَتُكْتَبُ بالوِاو ليُعْلَمَ أنَّ الواوَ بَعْدَ الياء.
والمُحَاياةُ: الغِذَاءُ للصَّبِيِّ بما به حَيَاتُه.
وقوله عزَّ وجلَّ: " وَيْسَتْحُيوْنَ نِسَاءكم " أي يَتْرُكُوهُنَّ أحْيَاءً.
وناقَةٌ مُحْيِ ومُحْيِيَةٌ: لا يَمُوْتُ وَلَدُها.
وأتَيْتُكَ وحَيُّ فلانٍ قائمٌ: أي هو حَيٌّ.
ويقولونَ: " أحْيا من ضَبٍّ " أي أَطْوَلُ حَيَاةً.
والحَيَوَانُ: كُلًُّ ذِي رُوْحٍ، وماءٌ في الجَنَّةِ.
والحَيَوَاتُ: بمَنْزِلَةِ الحَيَوانِ. والحَيَّةُ: اشْتِقَاقُها من الحَيَاةِ، وأصْلُها: حَيْوَةٌ. وصاحِبُها: حاءٍ - على فاعِلٍ - وحَوّاءٌ، وسُمِّيَتْ لأنَّها تَتَحَوّى في الْتِوائها. وأرْضٌ مَحْوَاةٌ ومَحْيَاةٌ: كثيرةُ الحَيّاتِ. والحَيُّوْتُ: ذَكَرُ الحَيّاتِ. والحَيَوَاتُ: جَمْعُ الحَيَّةِ.
وهذا حَيٌّ زيدٍ: أي نَفْسُ زَيْدٍ.
ومَكَثَ فلانٌ عندنا حيَّ زيدٍ: أي حَيَاةَ زَيْدٍ.
والحَيَوَانُ: الحَيَاةُ. وما بهذا حَيَوانٌ: أي رُوْحٌ، والحَيَوَاتُ: مِثْلُه. ولا حَيَّ لي: أي لا أَحَدَ لي.
وامْرَأَةُ الرَّجُلِ: أُمُّ الحَيِّ. ويقولون: " أظْلَمُ من حَيَّةٍ.
وحَيِيَ الرَّجُلُ يَحيى: من الحَيَاءِ، واسْتَحْيَيْتُ - بِيائَيْنِ -، ورَجُلٌ حَيِيُّ وامْرَأَةٌ حَيِيَّةٌ، وحَيَا فلانٌ: بمنعنى حَيىَ، كما يُقال بَقي: بمعنى بَقِيَ.
والحَيَا - مَقْصُوْرٌ - حَيَاءُ الرَّبيعِ تَحْيى به الأرْضُ، وتَتَابَعَ علينا حَياً وحَيَيَانِ وأحْيَاءُ من مَطَرٍ. وأحْيَيْتُ الأرْضَ: وَجَدْتُها حَيَّةَ النَّبَاتِ. والحُوَّةُ: حُمْرَةٌ تَضْرِبُ إلى السَّوَادِ، شَفَةٌ حَوّاءُ. وحَيَاءُ الشّاةِ: مَمْدُوْدٌ ومَقْصُورٌ والمَدُّ أَكْثَرُ، وجَمْعُه أحْيِيَةٌ. والحَيُّ: حَيٌ من أحْيَاءِ العَرَبِ.
والمُحَيّا: الوَجْهُ، وهو في الفَرَسِ: حيثُ انْفَرَقَ اللَّحْمُ تحت النّاصِيَةِ فب أعْلى الجَبْهَةِ. والمُحَاياةُ: تَحِيَّةُ القَوْمِ بعضِهم بعضاً. وقَوْلُهم: حيّاكَ اللَّهُ: يَعْني به الاسْتِقْبالَ بالمُحَيّا، واشْتِقَاقُه من الحَيَاةِ أو الحَيَاءِ. وقِيل: أفْرَحَكَ وأضْحَكَكَ. ودائرَةُ المُحَيّى: لاصِقَةٌ بأسْفَلِ النّاصِيَةِ. والتَّحِيّاتُ لله: البَقَاءُ، وقيل المُلْكُ للِه عزَّ وجلَّ. وقيل: السَّلامُ. ورَجَاءُ بن حَيْوَةَ: مَعْروفٌ.
والتَّحَايِيْ: كَواكبُ ثلاثةٌ حِذَاءَ الهَنْعَةِ، الواحِدَةُ: تِحْيَاةٌ. والحَيَّةُ: كَواكبُ ما بين الفَرْقَدَيْنِ وبَنَاتِ نَعْشٍ. والأسَدُ: حَيَّةُ الوادي. وحَوي فلانٌ مالَهُ حَيّاً وحَوَايَةً: جَمَعَه وأحْرَزَه، واحْتَوى عليه. والحَوِيَّةُ: مَرْكَبٌ للمَرْأةِ، وكِسَاءٌ يُحَوّي حَوْلَ سَنَامِ البِعيرِ ثُمَّ يُرْكُبُ، وجَمْعُه حَوَايا. والحَوِيُّ: اسْتِدَارَةُ كلِّ شَيْءٍ كَحَوِيِّ الحَيَّةِ والنُّجُوْمِ إذا اتَّسَقَتْ. والحَوِيَّةُ والحاوِيَةُ والحاوِيَاءُ: الأمْعَاءُ، والجَميعُ: الحَوَايا. وهي أيضاً: التي يُلْقى وَسَطَها النَّوى فَيُمْسِكُها حين يُرْضَحُ لئلاّ يَتَطَايَرَ. والحِوَاءُ: أخْبِيَةٌ تَداني بَعْضُها من بعضٍ، هم أهْلُ حِوَاءٍ واحِدٍ، ومن حَوِيٍّ واحِدٍ، وجَمْعُ الحِوَاءِ: أحْوِيَةٌ.
والحَوَايا: المَسَاطِحُ حول الماءِ لِتَحْبِسَه، والواحِدَةُ: حَوِيَّةٌ. وحَوَيْتُ للماءِ حَوِيّاً، فأنا أحْوِيْه حَيّاً. وقيل: هي البَرَابِخُ. وحَوّا: مَعْروفٌ. ورَجُلٌ حُوّاءةٌ: لا يَبْرَحُ، مُشَبَّهٌ بالنَّبْتِ المُسَطَّحِ على الأرْضِ يُسَمّى الحُوّاءةَ. وهو حُوّاءةُ مالٍ: أي لازِمٌ لها حَسَنُ القِيامِ عليها.
وهذا حُوَيٌ خَبْتٍ واقِعاً: وهو طائرٌ كالعُصْفُورِ أَسْوَدُ البَطْنِ والرَّأْسِ. ويقولون: " ما يَعْرِفُ الحَوَّ من اللَّوِّ والحَيَّ من اللَّيِّ " أي الحَقَّ من الباطِلِ. وتَحَوَّيْتُ: أي تَرَجَّيْتُ الشَّيْءَ ليس لي. والعَنْزُ تُسَمّى: حُوَّةَ - غَيْر مُجْرَاةٍ -؛ اسْمٌ لها تُدْعى به للحَلَبِ.
وحَيَّ - بمعنى حَيَّهَلا -: أي اعْجَلْ. ويُقال للحِمارِ: حَيِّه؛ إذا زَجَرْتَه، وحَيْ وحِيْهِ: مِثْلُه. وحَايِ بِضَانِكَ وحاحِ بها: أي ادْعُها.
ما أوَّلُه الواو
وَحَى يَحِيْ وَحْياً: كَتَبَ يَكْتُبُ، وأنا أَحِيْ، وأنشد:
لِقَدَرٍ كَانَ وَحَاهُ الواحِي وأَوْحى اللَّهُ إليه: بعَثَه، وقيل: ألْهَمَه. ويُقال: أوْحَى لها وَوَحى لها. والإيْحَاءُ: الإِيْمَاءُ والإشَارَةُ. وَوَحَيْتُ لكَ بِخَبَرِ كذا: أي أَخْبَرْت. والوَحِيُّ: من وَحّي يُوَحِّي، في العَجَلَةِ. واسْتَوْحِ لي من فلانٍ ما خَبَرُهُم: أي اسْتَخْبِرْه. واسْتَوْحَيْتُه: أي اسْتَعْجَلْتُه؛ من الوَحا الوَحا. والوَحْوَحَةُ: الصَّوْتُ، وقيل: التَّحَرُّكُ، وكذلك الوَحَاةُ. سَمِعْتُ وَحْيَ القَوْمِ وَوَحَاتَهم: أي جَلَبَتَهم. ووَيْحُ: رَحْمَةٌ لِنَازِلٍ به بَلِيَّةٌ، ويُقال: وَيْحاً مّا؛ كما يُقال: أيّا مّا.
والوَحْوَاحُ: السَّرِيْعُ، وقيل: الكَثيرُ الوَحْوَحَةِ بالصَّوْتِ، وقيل: الحَدِيْدُ النَّفْسِ المُنْكَمِشُ. وجاءَ فلان يُوَحْوِحُ من البّرْدِ: أي يَضْطَرِبُ ويَتَنَفَّسُ. والوَحْوَحُ: ضَرْبٌ من الطَّيْرِ. ويُقال البَقَرِ إذا زُجِرَتْ: وَحْ. والوَحى من الجَبَلِ: سَنَدُه. ولا وَحى عن كذا: أي لا بُدَّ. ويقولونَ: " العِيُّ وَحْيٌ في حَجَر " أي الخَبَرُ لا يُخْبِرُ أَحَداً بشيءٍ فهم مِثْلُه.
ما أوَّلُه الألفُ
الأُحَاحُ: الغَيْظُ. وإذا دُعِيَ الكَبْشُ للسِّفَادِ قيل: أُحُوْ أُحُوْ. ويُقال للمُرْسِلِ السَّهْمِ عند الإصابَةِ: إيْحَا. وأيْحَا: اتْبَاعٌ لِمَرْحى. وآحِ: حِكايَةُ صَوْتِ السّاعِلِ، أنشد:
يقولُ من بَعْدِ السُّعَالِ: آحِ

أُبَاضُ

أُبَاضُ:
بضم الهمزة وتخفيف الباء الموحدة وألف وضاد معجمة: اسم قرية بالعرض، عرض اليمامة، لها نخل لم ير نخل أطول منها. وعندها كانت وقعة خالد ابن الوليد، رضي الله عنه، مع مسيلمة الكذّاب، قال شبيب بن يزيد بن النعمان بن بشير يفتخر بمقامات أبيه:
أتنسون يوم النّعف نعف بزاخة، ... ويوم أباض، إذ عتا كلّ مجرم
ويوم حنين في مواطن قتلة، ... أفأنا لكم فيهن أفضل مغنم
وقال رجل من بني حنيفة في يوم أباض:
فلله عينا من رأى مثل معشر، ... أحاطت بهم آجالهم والبوائق
فلم أر مثل الجيش جيش محمّد، ... ولا مثلنا يوم احتوتنا الحدائق
أكرّ وأحمى من فريقين جمّعوا، ... وضاقت عليهم في أباض البوارق
وقال الراجز:
يوم أباض إذ نسنّ اليزنا، ... والمشرفيّات تقدّ البدنا [1] [1] . قوله اليزنا: اي نسنّ الرمح اليزني المنسوب إلى ذي يزن.
وقال آخر:
كأنّ نخلا من أباض عوجا ... أعناقها، إذ حمّت الخروجا
وأنشد محمد بن زياد الأعرابيّ:
ألا يا جارنا بأباض! إنّا ... وجدنا الريح خيرا منك جارا
تغذّينا، إذا هبّت علينا، ... وتملأ وجه ناظركم غبارا

بَطْن الحُرِّ

بَطْن الحُرِّ:
ضدّ العبد: واد بنجد، قالت امرأة زوّجت في طيء:
لعمري! لقد أشرفت أطول ما أرى، ... وكلّفت نفسي منظرا متعاليا
وقلت: أنارا تؤنسين، وأهلها، ... أم الشّوق أدنى منك يا لبن دانيا؟
وقلت لبطن الحرّ حيث لقيته: ... سقى الله أعلاك الذّهاب الغواديا

الورل

(الورل)
حَيَوَان من الزحافات طَوِيل الْأنف والذنب دَقِيق الخصر لَا عقد فِي ذَنبه كذنب الضَّب وَهُوَ أطول من الضَّب وأقصر من التمساح يكون فِي الْبر وَالْمَاء يَأْكُل العقارب والحيات والحرابي والخنافس وَالْعرب تستخبثه وتستقذره فَلَا تَأْكُله (ج) أورال وورلان وأرول

عَيْنُ أبي نَيْزَرَ

عَيْنُ أبي نَيْزَرَ:
كنية رجل يأتي ذكره، ونيزر، بفتح النون، وياء مثناة من تحت، وزاي مفتوحة، وراء، وهو فيعل من النزارة، وهو القليل، أو من النّزر وهو الإلحاح في السؤال، وروى يونس عن محمد بن إسحاق بن يسار أن أبا نيزر الذي تنسب إليه العين هو مولى عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، كان ابنا للنجاشي ملك الحبشة الذي هاجر إليه المسلمون لصلبه وأن عليّا وجده عند تاجر بمكة فاشتراه منه وأعتقه مكافأة بما صنع أبوه مع المسلمين حين هاجروا إليه، وذكروا أن الحبشة مرج عليها أمرها بعد موت النجاشي وأنهم أرسلوا وفدا منهم إلى أبي نيزر وهو مع علي ليملّكوه عليهم ويتوّجوه ولا يختلفوا عليه، فأبى وقال: ما كنت لأطلب الملك بعد أن من الله عليّ بالإسلام، قال: وكان أبو نيزر من أطول الناس قامة وأحسنهم وجها، قال: ولم يكن لونه كألوان الحبشة ولكنه إذا رأيته قلت هذا رجل عربيّ، قال المبرّد: رووا أن عليّا، رضي الله عنه، لما أوصى إلى الحسن في وقف أمواله وأن يجعل فيها ثلاثة من مواليه وقف فيها عين أبي نيزر والبغيبغة، فهذا غلط لأن وقفه هذين الموضعين كان لسنتين من خلافته، حدثنا أبو محلم محمد بن هشام في إسناده قال: كان أبو نيزر من أبناء بعض الملوك الأعاجم، قال: وصحّ عندي بعد أنه من ولد النجاشي فرغب في الإسلام صغيرا فأتى رسول الله، صلى الله
عليه وسلّم، وكان معه في بيوته، فلما توفي رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، صار مع فاطمة وولدها، رضي الله عنهم، قال أبو نيزر: جاءني عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، وأنا أقوم بالضّيعتين عين أبي نيزر والبغيبغة فقال: هل عندك من طعام؟ فقلت: طعام لا أرضاه لأمير المؤمنين، قرع من قرع الضيّعة صنعته بإهالة سنخة، فقال: عليّ به، فقام إلى الربيع وهو جدول فغسل يديه ثم أصاب من ذلك شيئا ثم رجع إلى الربيع فغسل يديه بالرمل حتى أنقاهما ثم ضمّ يديه كل واحدة منهما إلى أختها وشرب منهما حسى من الربيع ثم قال: يا أبا نيزر إن الأكفّ أنظف الآنية، ثم مسح ندى ذلك الماء على بطنه وقال:
من أدخله بطنه النار فأبعده الله! ثم أخذ المعول وانحدر فجعل يضرب وأبطأ عليه الماء فخرج وقد تنضّح جبينه عرقا فانتكف العرق من جبينه ثم أخذ المعول وعاد إلى العين فأقبل يضرب فيها وجعل يهمهم فانثالت كأنها عنق جزور فخرج مسرعا وقال: أشهد الله أنها صدقة، عليّ بدواة وصحيفة، قال: فعجلت بهما إليه فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تصدّق به عبد الله عليّ أمير المؤمنين، تصدّق بالضيعتين بعين أبي نيزر والبغيبغة على فقراء أهل المدينة وابن السبيل ليقي بهما وجهه حرّ النار يوم القيامة لا تباعا ولا توهبا حتى يرثهما الله وهو خير الوارثين إلا أن يحتاج إليهما الحسن والحسين فهما طلق لهما وليس لأحد غيرهما، قال أبو محلم محمد بن هشام: فركب الحسين دين فحمل إليه معاوية بعين أبي نيزر مائتي ألف دينار فأبى أن يبيع وقال: إنما تصدّق بهما أبي ليقي الله وجهه حرّ النار ولست بائعهما بشيء. وقد ذكرت هذه القصة في البغيبغة وهو كاف فلا يكتب ههنا.

وَجْمَةُ

وَجْمَةُ:
بفتح أوله، وسكون ثانيه، والوجم:
حجارة مركبة بعضها فوق بعض على رؤوس القور والآكام وهي أغلظ وأطول في السماء من الأروم وحجارتها عظام كحجارة الصّبرة ولو اجتمع ألف رجل لم يحركوها، قال ابن السكيت: وجمة جانب فعرى، وفعرى: جبل أحمر تدفع شعابه في غيقة من أرض ينبع، قال كثير عزّة:
أجدّت خفوفا من جنوب كتانة ... إلى وجمة لما استحرّت حرورها

النِّيلُ

النِّيلُ:
بكسر أوله، بلفظ النيل الذي تصبغ به الثياب، في مواضع: أحدها بليدة في سواد الكوفة قرب حلّة بني مزيد يخترقها خليج كبير يتخلج من الفرات الكبير حفره الحجاج بن يوسف وسماه بنيل مصر، وقيل:
إنّ النيل هذا يستمد من صراة جاماسب، ينسب إليه خالد بن دينار النيلي أبو الوليد الشيباني، كان يسكن النيل، حدث عن الحسن العكلي وسالم بن عبد الله ومعاوية بن قرّة، روى عنه الثوري وغيره، وقال محمد بن خليفة السّنبسي شاعر بني مزيد يمدح دبيسا بقصيدة مطلعها:
قالوا هجرت بلاد النيل وانقطعت ... حبال وصلك عنها بعد إعلاق
فقلت: إني وقد أقوت منازلها ... بعد ابن مزيد من وفد وطرّاق
فمن يكن تائقا يهوى زيارتها ... على البعاد فإني غير مشتاق
وكيف أشتاق أرضا لا صديق بها ... إلا رسوم عظام تحت أطباق؟
وإياه عنى أيضا مرجا بن نباه بقوله:
قصدتكم أرجو نوال أكفّكم، ... فعدت وكفّي من نوالكم صفر
فلما أتيت النيل أيقنت بالغنى ... ونيل المنى منكم فلاحقني الفقر
والنيل أيضا: نهر من أنهار الرّقة حفره الرشيد على ضفّة نيل الرّقة، والبليخ: نهر دير زكّى، ولذلك قال الصّنوبري:
كأنّ عناق نهري دير زكّى، ... إذا اعتنقا، عناق متيّمين
وقت ذاك البليخ يد الليالي ... وذاك النيل من متجاورين
وأما نيل مصر فقال حمزة: هو تعريب نيلوس من الرومية، قال القضاعي: ومن عجائب مصر النيل جعله الله لها سقيا يزرع عليه ويستغنى به عن مياه المطر في أيام القيظ إذا نضبت المياه من سائر الأنهار فيبعث الله في أيام المدّ الريح الشمال فيغلب عليه البحر الملح فيصير كالسّكر له حتى يربو ويعم الرّبى والعوالي ويجري في الخلج والمساقي فإذا بلغ الحدّ الذي هو تمام الريّ وحضر زمان الحرث والزراعة بعث الله الريح الجنوب فكبسته وأخرجته إلى البحر الملح وانتفع الناس بالزراعة مما يروى من الأرض، وأجمع أهل العلم أنه ليس في الدنيا نهر أطول من النيل لأن مسيرته شهر في الإسلام وشهران في بلاد النوبة وأربعة أشهر في الخراب حيث لا عمارة فيها إلى أن يخرج في بلاد القمر خلف خطّ الاستواء، وليس في الدنيا نهر يصبّ من الجنوب إلى الشمال إلا هو، ويمتد في أشدّ ما يكون من الحرّ حين تنقص أنهار الدنيا، ويزيد بترتيب وينقص بترتيب بخلاف سائر الأنهار، فإذا زادت الأنهار في سائر الدنيا نقص وإذا نقصت زاد نهاية وزيادة، وزيادته في أيام نقص غيره، وليس في الدنيا نهر يزرع عليه ما يزرع على النيل ولا يجيء من خراج نهر ما يجيء من خراج ما يسقيه النيل، وقد روي عن عمرو بن العاص أنه قال: إن نيل مصر سيد الأنهار سخر الله له كلّ نهر بين المشرق والمغرب أن يمدّ له وذلّله له فإذا أراد الله تعالى أن يجري نيل مصر أمر الله تعالى كلّ نهر أن يمدّه بمائه وفجّر الله تعالى له الأرض عيونا وانتهى جريه إلى ما أراد
الله تعالى، فإذا بلغ النيل نهايته أمر الله تعالى كلّ ماء أن يرجع إلى عنصره ولذلك جميع مياه الأرض تقلّ أيام زيادته، وذكر عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم قال: لما فتح المسلمون مصر جاء أهلها إلى عمرو بن العاص حين دخل بؤونه من شهور القبط فقالوا: أيها الأمير إن لبلدنا هذا سنّة لا يجري النيل إلا بها وذلك أنه إذا كان لاثنتي عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها فأرضينا أبويها وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون ثم ألقيناها في هذا النيل، فقال لهم عمرو: إن هذا لا يكون في الإسلام وإن الإسلام يهدم ما قبله، فأقاموا بؤونه وأبيب ومسرى لا يجري النيل قليلا ولا كثيرا حتى هموا بالجلاء، فلما رأى عمرو ذلك كتب إلى عمر بن الخطاب بذلك فكتب إليه عمر:
قد أصبت، إن الإسلام يهدم ما قبله، وقد بعثت إليك ببطاقة فألقها في داخل النيل إذا أتاك كتابي هذا، وإذا في كتابه: بسم الله الرّحمن الرّحيم، من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى نيل مصر، أما بعد فإن كنت تجري من قبلك فلا تجر، وإن كان الواحد القّهار يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك، قال: فألقى عمرو بن العاص البطاقة في النيل وذلك قبل عيد الصليب بيوم وكان أهل مصر قد تأهبوا للخروج منها والجلاء لأنهم لا تقوم مصلحتهم إلا بالنيل، فأصبحوا يوم الصليب وقد جرى النيل بقدرة الله تعالى وزاد ستة عشر ذراعا في ليلة واحدة وانقطعت تلك السنّة السيئة عن أهل مصر، وكان للنيل سبعة خلجان: خليج الإسكندرية، وخليج دمياط، وخليج منف، وخليج المنهي، وخليج الفيوم، وخليج عرشي، وخليج سردوس، وهي متصلة الجريان لا ينقطع منها شيء، والزروع بين هذه الخلجان متّصلة من أول مصر إلى آخرها، وزروع مصر كلها تروى من ستة عشر ذراعا بما قدّروا ودبروا من قناطرها وجسورها وخلجها، فإذا استوى الماء كما ذكرناه في المقياس من هذا الكتاب أطلق حتى يملأ أرض مصر فتبقى تلك الأراضي كالبحر الذي لم يفارقه الماء قط والقرى بينه يمشى إليها على سكور مهيأة والسفن تخترق ذلك، فإذا استوفت المياه ورويت الأرضون أخذ ينقص في أول الخريف وقد برد الهواء وانكسر الحرّ فكلما نقص الماء عن أرض زرعت أصناف الزروع واكتفت بتلك الشربة لأنه كلما تأخّر الوقت برد الجوّ فلا تنشف الأرض إلى أن يستكمل الزرع فإذا استكمل عاد الوقت يأخذ في الحرّ والصيف حتى ينضج الزروع وينشفها ويكمّلها، فلا يأتي الصيف إلا وقد استقام أمرها فأخذوا في حصادها، وفي ذلك عبرة وآية ودليل على قدرة العزيز الحكيم الذي خلق الأشياء في أحسن تقويم، وقد قال عزّ من قائل:
ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت، وفي النيل عجائب كثيرة وله خصائص لا توجد في غيره من الأنهار، وأما أصل مجراه فيذكر أنه يأتي من بلاد الزنج فيمر بأرض الحبشة مسامتا لبحر اليمن من جهة أرض الحبشة حتى ينتهي إلى بلاد النوبة من جانبها الغربي والبجه من جانبها الشرقي فلا يزال جاريا بين جبلين بينهما قرى وبلدان والراكب فيه يرى الجبلين عن يمينه وشماله وهو بينهما بإزاء الصعيد حتى يصب في البحر، وأما سبب زيادته في الصيف فإن المطر يكثر بأرض الزنجبار وتلك البلاد في هذه الأوقات بحيث ينزل الغيث عندهم كأفواه القرب وتنصبّ المدود إلى هذا النهر من سائر الجهات فإلى أن يصل إلى مصر ويقطع تلك المفاوز يكون القيظ ووجه
الحاجة إليه كما دبره الخالق عز وجل، وقد ذكر الليث بن سعد وغيره قصة رجل من ولد العيص بن إسحاق النبي، عليه السّلام، وتطلّبه مجراه أذكرها بعد إن شاء الله تعالى، قال أميّة: نيل مصر ينبوعه من وراء خط الاستواء من جبل هناك يقال له جبل القمر فإنه يبتدئ في التزيّد في شهر أبيب وهو في الرومية يوليه، والمصريون يقولون: إذا دخل أبيب شرع الماء في الدبيب، وعند ابتدائه في التزيّد تتغير جميع كيفياته ويفسد، والسبب في ذلك مروره بنقائع مياه أجنة يخالطها فيحيلها ويستخرجها معه ويستصحبها إلى غير ذلك مما يحيله، فلا يزال على هذه الحال كما وصفه الأمير تميم بن المعزّ بن إسماعيل فقال:
أما ترى الرعد بكى واشتك ... والبرق قد أومض واستضحكا؟
فاشرب على غيم كصبغ الدُّجى ... أضحك وجه الأرض لما بكى
وانظر لماء النيل في مدّه ... كأنه صندل أو مسّكا
أو كما قال أمية بن أبي الصلت المغربي:
ولله مجرى النيل منها إذا الصّبا ... أرتنا به في مرّها عسكرا مجرا
بشطّ يهزّ السّمهريّة ذبّلا، ... وموج يهزّ البيض هنديّة بترا
ولتميم بن المعز أيضا:
يوم لنا بالنيل مختصر، ... ولكل وقت مسرة قصر
والسّفن تصعد كالخيول بنا ... فيه وجيش الماء منحدر
فكأنما أمواجه عكن، ... وكأنما داراته سرر
وقال الحافظ أبو الحسين محمد بن الوزير في تدرج زيادة النيل إصبعا إصبعا وعظم منفعة ذلك التدرج:
أرى أبدا كثيرا من قليل، ... وبدرا في الحقيقة من هلال
فلا تعجب فكلّ خليج ماء ... بمصر مسبّب لخليج مال
زيادة إصبع في كل يوم ... زيادة أذرع في حسن حال
فإذا بلغ الماء خمسة عشر ذراعا وزاد من السادس عشر إصبعا واحدا كسر الخليج ولكسره يوم معهود فيجتمع الخاصّ والعامّ بحضرة القاضي وإذا كسر فتحت التّرع وهي فوهات الخلجان ففاض الماء وساح وعمّ الغيطان والبطاح وانضمّ أهل القرى إلى أعلى مساكنهم من الضياع والمنازل بحيث لا ينتهي إليهم الماء فتعود عند ذلك أرض مصر بأسرها بحرا عامّا غامر الماء بين جبليها المكتنفين لها وتثبت على هذه الحال حسبما تبلغ الحدّ المحدود في مشيئة الله، وأكثر ذلك يحول حول ثمانية عشر ذراعا ثم يأخذ عائدا في صبّه إلى مجرى النيل ومشربه فينقص عما كان مشرفا عاليا من الأراضي ويستقر في المنخفض منها فيترك كل قرارة كالدرهم ويعمّ الرّبى بالزهر المؤنق والروض المشرق، وفي هذا الوقت تكون أرض مصر أحسن شيء منظرا وأبهاها مخبرا، وقد جوّد أبو الحسن عليّ بن أبي بشر الكاتب فقال:
شربنا مع غروب الشمس شَمْساً ... مشعشعة إلى وقت الطلوع
وضوء الشمس فوق النيل باد ... كأطراف الأسنّة في الدروع
ومن عجائب النيل السمكة الرعّادة وهي سمكة لطيفة مسيّرة من مسّها بيده أو بعود يتصل بيده إليها أو بشبكة هي فيها اعترته رعدة وانتفاض ما دامت في يده أو في شبكته، وهذا أمر مستفيض رأيت جماعة من أهل التحصيل يذكرونه، ويقال إن بمصر بقلة من مسّها ومسّ الرعّادة لم ترتعد يده، والله أعلم، ومن عجائبه التمساح ولا يوجد في بلد من البلدان إلا في النيل، ويقال إنه أيضا بنهر السند إلا أنه ليس في عظم المصري فإذا عضّ اشتبكت أسنانه واختلفت فلم يتخلص الذي وقع فيها حتى يقطعه، وحنك التمساح الأعلى يتحرّك والأسفل لا يتحرك، وليس ذلك في غيره من الدواب، ولا يعمل الحديد في جلده، وليس له فقار بل عظم ظهره من رأسه إلى ذنبه عظم واحد ولا يقدر أن يلتوي أو ينقبض لأنه ليس في ظهره خرز، وهو إذا انقلب لم يستطع أن يتحرك، وإذا أراد الذكر أن يسفد أنثاه أخرجها من النيل وألقاها على ظهرها كما يأتي الرجل المرأة فإذا قضى منها وطره قلبها فإن تركها على ظهرها صيدت لأنها لا تقدر أن تنقلب، وذنب التمساح حادّ طويل وهو يضرب به فربما قتل من تناله ضربته، وربما جرّ بذنبه الثور من الشريعة حتى يلجج به في البحر فيأكله، ويبيض مثل بيض الإوزّ فإذا فقص عن فراخه كان الواحد كالحرذون في جسمه وخلقته ثم يعظم حتى يصير عشرة أذرع وأكثر وهو يبيض وكلما عاش يزيد، وتبيض الأنثى ستين بيضة، وله في فيه ستون سنّا، ويقال إنه إذا أخذ أول سن من جانب حنكه الأيسر ثم علّق على من به حمّى نافض تركته من ساعته، وربما دخل لحم ما يأكله بين أسنانه فيتأذّى به فيخرج من الماء إلى البرّ ويفتح فاه فيجيئه طائر مثل الطّيطوى فيسقط على حنكه فيلتقط بمنقاره ذلك اللحم بأسره فيكون ذلك اللحم طعاما لذلك الطائر وراحة بأكله إياه للتمساح، ولا يزال هذا الطائر حارسا له ما دام ينقي أسنانه، فإذا رأى إنسانا أو صيادا يريده رفرف عليه وزعق ليؤذنه بذلك ويحذره حتى يلقي نفسه في الماء إلى أن يستوفي جميع ما في أسنانه، فإذا أحسّ التمساح بأنه لم يبق في أسنانه شيء يؤذيه أطبق فمه على ذلك الطائر ليأكله فلذلك خلق الله في رأس ذلك الطائر عظما أحدّ من الإبرة فيقيمه في وسط رأسه فيضرب حنك التمساح، ويحكى عنه ما هو أعجب من ذلك، وهو أن ابن عرس من أشد أعدائه، فيقال إن ابن عرس إذا رأى التمساح نائما على شاطئ النيل ألقى نفسه في الماء حتى يبتل ثم يتمرغ في التراب ثم يقيم شعره ويثب حتى يدخل في جوف التمساح فيأكل ما في جوفه وليس للتمساح يد تدفع عنه ذلك، فإذا أراد الخروج بقر بطنه وخرج، وعجائب الدنيا كثيرة وإنما نذكر منها ما نجرّبه عادة ولهذا أمثال ليس كتابنا بصدد شرحها، وقال الشاعر:
أضمرت للنيل هجرانا ومقلية ... مذ قيل لي إنما التمساح في النيل
فمن رأى النيل رأي العين من كشب ... فما رأى النيل إلا في البواقيل
والبواقيل: كيزان يشرب منها أهل مصر، وقال عمرو بن معدي كرب:
فالنيل أصبح زاخرا بمدوده، ... وجرت له ريح الصّبا فجرى لها
عوّدت كندة عادة فاصبر لها، ... اغفر لجانبها وردّ سجالها
وحدّث الليث بن سعد قال: زعموا، والله أعلم،
أن رجلا من ولد العيص يقال له حائذ بن شالوم بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم، عليهما السلام، خرج هاربا من ملك من ملوكهم إلى أرض مصر فأقام بها سنين، فلما رأى عجائب نيلها وما يأتي به جعل الله نذرا أن لا يفارق ساحله حتى يرى منتهاه أو ينظر من أين مخرجه أو يموت قبل ذلك، فسار عليه ثلاثين سنة في العمران ومثلها في غير العمران، وبعضهم يقول خمس عشرة كذا وخمس عشرة كذا، حتى انتهى إلى بحر أخضر فنظر إلى النيل يشقه مقبلا فوقف ينظر إلى ذلك فإذا هو برجل قائم يصلّي تحت شجرة تفّاح، فلما رآه استأنس به فسلم عليه فسأله صاحب الشجرة عن اسمه وخبره وما يطلب، فقال له: أنا حائذ بن شالوم بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم، فمن أنت؟ قال: أنا عمران بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم، فما الذي جاء بك إلى ههنا يا حائذ؟ قال:
أردت علم أمر النيل، فما الذي جاء بك أنت؟ قال:
جاء بي الذي جاء بك، فلما انتهيت إلى هذا الموضع أوحى الله تعالى إليّ أن قف بمكانك حتى يأتيك أمري، قال: فأخبرني يا عمران أي شيء انتهى إليك من أمر هذا النيل وهل بلغك أن أحدا من بني آدم يبلغه؟ قال: نعم بلغني أن رجلا من بني العيص يبلغه ولا أظنه غيرك يا حائذ، فقال له: يا عمران كيف الطريق إليه؟ قال له عمران: لست أخبرك بشيء حتى تجعل بيننا ما أسألك، قال: وما ذاك؟ قال: إذا رجعت وأنا حيّ أقمت عندي حتى يأتي ما أوحى الله لي أن يتوفاني فتدفني وتمضي، قال: لك ذلك عليّ، قال: سر كما أنت سائر فإنه ستأتي دابة ترى أولها ولا ترى آخرها فلا يهولنّك أمرها فإنها دابة معادية للشمس إذا طلعت أهوت إليها لتلتقمها فاركبها فإنها تذهب بك إلى ذلك الجانب من البحر فسر عليه فإنك ستبلغ أرضا من حديد جبالها وشجرها وجميع ما فيها حديد، فإذا جزتها وقعت في أرض من فضة جبالها وشجرها وجميع ما فيها فضة، فإذا تجاوزتها وقعت في أرض من ذهب جميع ما فيها ذهب ففيها ينتهي إليك علم النيل، قال: فودعه ومضى وجرى الأمر على ما ذكر له حتى انتهى إلى أرض الذهب فسار فيها حتى انتهى إلى سور من ذهب وعليه قبّة لها أربعة أبواب وإذا ماء كالفضة ينحدر من فوق ذلك السور حتى يستقرّ في القبة ثم يتفرق في الأبواب وينصبّ إلى الأرض، فأما ثلثاه فيغيض وأما واحد فيجري على وجه الأرض وهو النيل، فشرب منه واستراح ثم حاول أن يصعد السور فأتاه ملك وقال: يا حائذ قف مكانك فقد انتهى إليك علم ما أردته من علم النيل وهذا الماء الذي تراه ينزل من الجنة وهذه القبة بابها، فقال:
أريد أن أنظر إلى ما في الجنة، فقال: إنك لن تستطيع دخولها اليوم يا حائذ، قال: فأي شيء هذا الذي أرى؟ قال: هذا الفلك الذي تدور فيه الشمس والقمر وهو شبه الرحا، قال: أريد أن أركبه فأدور فيه، فقال له الملك: إنك لن تستطيع اليوم ذلك، ثم قال: إنه سيأتيك رزق من الجنة فلا تؤثر عليه شيئا من الدنيا فإنه لا ينبغي لشيء من الجنة أن يؤثر عليه شيء من الدنيا، فبينما هو واقف إذ أنزل عليه عنقود من عنب فيه ثلاثة أصناف: صنف كالزبرجد الأخضر وصنف كالياقوت الأحمر وصنف كاللؤلؤ الأبيض، ثم قال: يا حائذ هذا من حصرم الجنة ليس من يانع عنبها فارجع فقد انتهى إليك علم النيل، فرجع حتى انتهى إلى الدابة فركبها فلما أهوت الشمس إلى الغروب أهوت إليها لتلتقمها فقذفت به إلى جانب البحر الآخر فأقبل حتى انتهى إلى عمران فوجده قد مات في يومه ذلك فدفنه وأقام
على قبره، فلما كان في اليوم الثالث أقبل شيخ كبير كأنه بعض العبّاد فبكى على عمران طويلا وصلى على قبره وترحم عليه ثم قال: يا حائذ ما الذي انتهى إليك من علم النيل؟ فأخبره، فقال: هكذا نجده في الكتاب، ثم التفت إلى شجرة تفاح هناك فأقبل يحدّثه ويطري تفاحها في عينيه، فقال له: يا حائذ ألا تأكل؟ قال: معي رزقي من الجنة ونهيت أن أوثر عليه شيئا من الدنيا، فقال الشيخ: هل رأيت في الدنيا شيئا مثل هذا التفاح؟ إنما هذه شجرة أنزلها الله لعمران من الجنة ليأكل منها وما تركها إلا لك ولو أكلت منها وانصرفت لرفعت، فلم يزل يحسّنها في عينه ويصفها له حتى أخذ منها تفاحة فعضها ليأكل منها فلما عضها عضّ يده ونودي: هل تعرف الشيخ؟
قال: لا! قيل: هذا الذي أخرج أباك آدم من الجنة، أما إنك لو سلمت بهذا الذي معك لأكل منه أهل الدنيا فلم ينفد، فلما وقف حائذ على ذلك وعلم أنه إبليس أقبل حتى دخل مصر فأخبرهم بخبر النيل ومات بعد ذلك بمصر، قال عبيد الله الفقير إليه مؤلف الكتاب: هذا خبر شبيه بالخرافة وهو مستفيض ووجوده في كتب الناس كثير، والله أعلم بصحته، وإنما كتبت ما وجدت.

نَضَادُ

نَضَادُ:
بالفتح، وآخره دال مهملة، من نضدت المتاع إذا رصفته: جبل بالعالية، قال الأصمعي وذكر النير ثم قال: وثم جبل لغنيّ أيضا يقال له نضاد في جوف النير، والنير: لغاضرة قيس، وبشرقيّ نضاد الجثجاثة، ويبنى عند أهل الحجاز على الكسر وعند تميم ينزلونه بمنزلة ما لا ينصرف، قال:
لو كان من حضن تضاءل ركنه، ... أو من نضاد بكى عليه نضاد
وقال كثيّر يصرفه:
كأنّ المطايا تتّقي من زبانة ... مناكد ركن من نضاد ململم
وقال قيس بن زهير العبسيّ من أبيات:
إليك ربيعة الخير بن قرط ... وهوبا للطريف وللتلاد
كفاني ما أخاف أبو هلال ... ربيعة، فانتهت عني الأعادي
تظل جياده يجمزن حولي ... بذات الرّمث كالحدإ الصوادي
كأني، إذ أنخت إلى ابن قرط، ... عقلت إلى يلملم أو نضاد
ويقال له نضاد النير، والنير: جبل، ونضاد أطول موضع فيه وأعظمه، قال ابن دارة:
وأنت جنيب للهوى يوم عاقل، ... ويوم نضاد النير أنت جنيب
ولهم في ذكره أشعار غير قليلة.

مَلاعِ

مَلاعِ:
بوزن قطام، ويروى ملاع معرب لا ينصرف، فأما الأول فهو اسم الفعل من الملع وهو سرعة سير الناقة، والثاني من الأرض المليع وهي الواسعة لا نبات بها، ومن أمثالهم: ذهبت به عقاب ملاع، وقال أبو عبيد: من أمثالهم في الهلاك طارت به العنقاء وأودت به عقاب ملاع، قال: ملاع أرض أضيف إليها العقاب، وقيل هو من نعت العقاب، وقيل هو اسم موضع، وقيل اسم هضبة، وقيل اسم صحراء، وقال أبو عبد الله محمد بن زياد الأعرابي: الملع السرعة في العدو ومنه اشتقّ ملاع، قال أبو محمد بن الأعرابي الأسود: هذا غلط وإنما هي ملاع مثل حذام وقطام، وهي هضبة عقبانها أخبث العقبان، وإياها عنى المسيب بن علس حيث قال:
أنت الوفيّ فما تذمّ، وبعضهم ... يودي بذمته عقاب ملاع
وقال أبو زياد: ومن مياه بني نمير الملاعة ولها هضبة لا نعلم بنجد هضبة أطول منها وهي تذكّر وتؤنث فيقال ملاع وملاعة، قال: والملاع الجبل، والملاعة الماءة التي عنده، قال: وفيها مثل من أمثال العرب يقولون: أبصر من عقاب ملاع.

مَرْيُوطُ

مَرْيُوطُ:
قرية من قرى مصر قرب الإسكندرية ساحلية تضاف إليها كورة من كور الحوف الغربي، قال ابن زولاق: ذكر بعضهم أنه كشف الطوال الأعمار فلم يجد أطول أعمارا من سكان مربوط، وهي كورة من كور الإسكندرية.

المَجَازَةُ

المَجَازَةُ:
مثل الذي قبله في المعنى والوزن إلا أنه بزيادة هاء في آخره، قال أبو منصور: المجازة موسم من المواسم، فإما أن يكون لغة في الذي قبله أو هو غيره، وذو المجازة: منزل من منازل طريق مكة بين ماويّة وينسوعة على طريق البصرة.
والمجازة: واد وقرية من أرض اليمامة ساكنه بنو هزّان من عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار وبها أخلاط من الناس من موالي قريش وغيرهم سكنوها بعد قتلة مسيلمة الكذاب لأنها لم تدخل في صلح خالد بن الوليد لما صالح أهل اليمامة، وبها جبل يقال له شهوان يصبّ فيه نعام وبرك، ووراء المجازة فلج الأفلاج، وقال السكري: المجازة موضع بين ذات العشيرة والسّمينة في طريق البصرة وهو أول رمل الدهناء، قال جرير:
ألا أيها الوادي الذي بان أهله ... فساكن مغناه حمام ودخّل
فمن راقب الجوزاء أو بات ليله ... طويلا فليلي بالمجازة أطول
بكى دوبل، لا يرقئ الله عينه! ... ألا إنما يبكي من الذّل دوبل
وأنشد ابن الأعرابي في نوادره:
فإنّ بأعلى ذي المجازة سرحة ... طويلا على أهل المجازة عارها
ولو ضربوها بالفؤوس وحرّقوا ... على أصلها حتى تأرّث نارها
وكان به يوم لنجدة الحروري في أيام عبد الله بن الزبير حين هزم عسكر ابن الزبير فقال عبد الله بن الطفيل:
ولا تعذليني في الفرار فإنني ... على النفس من يوم المجازة عاتب
ويوم المجازة: من أيام العرب، قال بعضهم:
ويوما بالمجازة والكلندى، ... ويوما بين ضنك وصومحان

فِلَسْطِينُ

فِلَسْطِينُ:
بالكسر ثم الفتح، وسكون السين، وطاء مهملة، وآخره نون، والعرب في إعرابها على مذهبين:
منهم من يقول فلسطين ويجعلها بمنزلة ما لا ينصرف ويلزمها الياء في كل حال فيقول هذه فلسطين ورأيت فلسطين ومررت بفلسطين، ومنهم من يجعلها بمنزلة الجمع ويجعل إعرابها بالحرف الذي قبل النون فيقول هذه فلسطون ورأيت فلسطين ومررت بفلسطين، بفتح الفاء واللام، كذا ضبطه الأزهري، والنسبة إليه فلسطيّ، قال الأعشى:
ومثلك خود بادن قد طلبتها، ... وساعيت معصيّا لدينا وشاتها
متى تسق من أنيابها بعد هجعة ... من الليل شربا حين مالت طلاتها
تقله فلسطيّا إذا ذقت طعمه ... على ربذات الّتي حمش لثاتها
وهي آخر كور الشام من ناحية مصر، قصبتها البيت المقدس، ومن مشهور مدنها عسقلان والرملة وغزّة وأرسوف وقيسارية ونابلس وأريحا وعمّان ويافا وبيت جبرين، وقيل في تحديدها: إنها أول أجناد الشام من ناحية الغرب، وطولها للراكب مسافة ثلاثة أيام، أولها رفح من ناحية مصر وآخرها اللّجون من ناحية الغور، وعرضها من يافا إلى أريحا نحو ثلاثة أيام أيضا، وزغر ديار قوم لوط، وجبال الشراة إلى أيلة كله مضموم إلى جند فلسطين وغير ذلك، وأكثرها جبال والسهل فيها قليل، وقيل: إنها سميت بفلسطين بن سام بن إرم بن سام بن نوح، عليه السلام، وقال الزجاجي: سميت بفلسطين بن كلثوم من ولد فلان بن نوح، وقال هشام بن محمد نقلته من خط جخجخ: إنما سميت فلسطين بفليشين بن كسلوخيم من بني يافث بن نوح، ويقال: ابن صدقيّا بن عيفا بن حام بن نوح ثم عرّبت فليشين، قال الشاعر:
ولو أنّ طيرا كلّفت مثل سيره ... إلى واسط من إيلياء لكلّت
سما بالمهارى من فلسطين بعد ما ... دنا الشمس من فيء إليها فولّت
وقال العميد أبو سعد عبد الغفار بن فاخر بن شريف البستي وكان ورد بغداد رسولا من غزنة يذكر فلسطين والتزم ما لا يلزمه من الطاء والياء والنون يمدح عميد الرؤساء أبا طاهر محمد بن أيوب وزير القادر بالله ثم القائم:
العبد خادم مولانا وكاتبه ... ملك الملوك وسلطان السلاطين
قد قال فيك وزير الملك قافية ... تطوي البلاد إلى أقصى فلسطين
كالسّحر يخلب من يرعيه مسمعه، ... لكنّه ليس من سحر الشياطين
فأرعه سمعك الميمون طائره، ... لا زال حليك حلي الكتب والطين
وعشت أطول ما تختار من أمد ... في ظلّ عزّ وتوطيد وتوطين
وفي كتاب ابن الفقيه: سميت بفلسطين بن كسلوخيم ابن صدقيا بن كنعان بن حام بن نوح، وقد نسبوا إليها فلسطيّ، وقال ابن هرمة:
كأنّ فاها لمن تؤنّسه ... بعد غبوب الرّقاد والعلل
كاس فلسطيّة معتّقة ... شيبت بماء من مزنة السّبل
وقال ابن الكلبي في قوله تعالى: يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ الله لَكُمْ 5: 21، هي أرض فلسطين، وفي قوله تعالى: الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ 21: 71، قال: هي فلسطين، وقال عدي بن الرقاع:
فكأني من ذكركم خالطتني ... من فلسطين جلس خمر عقار
عتّقت في الدّنان من بيت رأس ... سنوات وما سبتها التّجار
فهي صهباء تترك المرء أعشى ... في بياض العينين عنها احمرار
قال البشّاري: وفلسطين أيضا قرية بالعراق.

فَالَةُ

فَالَةُ:
بزيادة الهاء عن الذي قبله: بلدة قريبة من أيذج من بلاد خوزستان، ينسب إليها أبو الحسن عليّ بن أحمد بن عليّ بن سلّك الفالي المؤدّب، سمع بالبصرة من القاضي أبي عمرو أحمد بن إسحاق بن جربان وحدث بشيء يسير، ورأيت بالعراق خشبة في رأسها حديدة ذات ثلاثة شعب كالأصابع إلا أنها
أطول يصطاد بها الدّرّاج يقال لها فالة وبالة، وأظنها فارسيّة.

عَينُ شَمس

عَينُ شَمس:
بلفظ الشمس التي في السماء: اسم مدينة فرعون موسى بمصر، بينها وبين الفسطاط ثلاثة فراسخ، بينه وبين بلبيس من ناحية الشام قرب المطرية وليست على شاطئ النيل، وكانت مدينة كبيرة، وهي قصبة كورة اتريب، وهي الآن خراب وبها
آثار قديمة وأعمدة تسمّيها العامة مسالّ فرعون، سود طوال جدّا تبين من بعد كأنها نخيل بلا رؤوس، قال الحسن بن إبراهيم المصري: ومن عجائب مصر عين شمس، وهي هيكل الشمس، وبها قدّت زليخا على يوسف القميص، وبها العمودان اللذان لم ير أعجب منهما ولا من بنائهما، وهما مبنيان على وجه الأرض بغير أساس، طولهما في السماء خمسون ذراعا، فيهما صورة إنسان على دابّة وعلى رؤوسهما شبه الصومعتين من نحاس فإذا جرى النيل رشحتا وقطر الماء منهما، وهما رصد لا تجاوز هما الشمس في الانتهاء، فإذا دخلت أول دقيقة من الجدي، وهو أقصر يوم في السنة، انتهت إلى العمود الجنوبي وقطعت على قبّة رأسه فإذا نزلت أول دقيقة من السرطان وهو أطول يوم في السنة انتهت إلى العمود الشمالي وقطعت على قبّة رأسه ثم تطّرد بينهما ذاهبة وجائية سائر السنة، ويرشح من رأسها ماء إلى أسفل حتى يصيب أسفلهما وأصولهما فينبت العوسج وغيره من الشجر، قال: ومن عجائب عين شمس أنها تخرب من أول الإسلام وتحمل حجارتها ولا تفنى، وبعين شمس يزرع البلسان ويستخرج دهنه، وبالصعيد مقابل طهنة بلد يقال له عين شمس غير التي عند المطرية، قال كثيّر يرثي عبد العزيز ابن مروان:
أتاني، ودوني بطن غول ودونه ... عماد الشّبا من عين شمس فعابد،
نعيّ ابن ليلى فاتّبعت مصيبة ... وقد ضقت ذرعا والتجلّد آيد
وعين شمس أيضا: ماء بين العذيب والقادسية، له ذكر في أيام الفتوح.

عَمُودُ

عَمُودُ:
بفتح أوله، هو عمود الخباء خشبة تطنّب بها الخيم وبيوت العرب: هضبة مستطيلة عندها ماء لبني جعفر. عمود البان قال عرّام: أسفل من صفينة بصحراء مستوية عمودان طويلان لا يرقاهما أحد إلا أن يكون طائرا يقال لأحدهما عمود البان، والبان: موضع، وللآخر عمود السفح، وهما عن يمين طريق المصعد من الكوفة على ميل من أفيعية وأفاعية، وعمود الحفيرة: موضع آخر ذكر في الحفيرة. وعمود سوادمة: أطول جبل ببلاد العرب يضرب به المثل، قال أبو زياد: عمود سوادمة جبل مصعلك في السماء، والمصعلك: الطويل. وعمود غريفة: في أرض غنيّ من الحمى. وعمود المحدث:
ماء لمحارب بن خصفة، والمحدث: ماء بينه وبين مطلع الشمس كانت تنزله بنو نصر بن معاوية، قال الأصمعي: ومن مياه بني جعفر عمود الكود، وهو جرور أنكد، عن الأصمعي، يقال: بئر جرور أي بعيدة القعر، والأنكد: المشؤوم المتعب المستقى، قال الأصمعي: والعمودان في بلاد بني جعفر بن كلاب عمود بلال وذات السواسى جبل.

بَغْدَادُ

بَغْدَادُ:
أم الدنيا وسيدة البلاد، قال ابن الأنباري:
أصل بغداد للأعاجم، والعرب تختلف في لفظها إذ لم يكن أصلها من كلامهم ولا اشتقاقها من لغاتهم، قال بعض الأعاجم: تفسيره بستان رجل، فباغ بستان وداد اسم رجل، وبعضهم يقول: بغ اسم للصنم، فذكر أنه أهدي إلى كسرى خصيّ من المشرق فأقطعه إياها، وكان الخصيّ من عباد الأصنام ببلده فقال: بغ داد أي الصنم أعطاني، وقيل: بغ هو البستان وداد أعطى، وكان كسرى قد وهب لهذا الخصي هذا البستان فقال: بغ داد فسميت به، وقال حمزة بن الحسن: بغداد اسم فارسي معرّب عن باغ داذويه، لأن بعض رقعة مدينة المنصور كان باغا لرجل من الفرس اسمه داذويه، وبعضها أثر مدينة دارسة كان بعض ملوك الفرس اختطّها فاعتل فقالوا:
ما الذي يأمر الملك أن تسمى به هذه المدينة؟ فقال:
هلدوه وروز أي خلّوها بسلام، فحكي ذلك للمنصور فقال: سميتها مدينة السلام، وفي بغداد سبع لغات:
بغداد وبغدان، ويأبى أهل البصرة ولا يجيزون بغداذ في آخره الذال المعجمة، وقالوا: لأنه ليس في كلام العرب كلمة فيها دال بعدها ذال، قال أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق: فقلت لأبي إسحاق إبراهيم بن السري فما تقول في قولهم خرداد؟ فقال: هو فارسي ليس من كلام العرب، قلت أنا: وهذا حجة من قال بغداد فإنه ليس من كلام العرب، وأجاز الكسائي بغداد على الأصل، وحكى أيضا مغداذ ومغداد ومغدان، وحكى الخارزنجي: بغداد بدالين مهملتين، وهي في اللغات كلها تذكّر وتؤنث، وتسمى مدينة السلام أيضا، فأما الزوراء: فمدينة المنصور خاصة، وسميت مدينة السلام لأن دجلة يقال لها وادي السلام، وقال موسى بن عبد الحميد النسائي:
كنت جالسا عند عبد العزيز بن أبي روّاد فأتاه رجل فقال له: من أين أنت؟ فقال له: من بغداد، فقال:
لا تقل بغداد فإن بغ صنم وداد أعطى، ولكن قل مدينة السلام، فإن الله هو السلام والمدن كلها له، وقيل: إن بغداد كانت قبل سوقا يقصدها تجار أهل الصين بتجاراتهم فيربحون الرّبح الواسع، وكان اسم ملك الصين بغ فكانوا إذا انصرفوا إلى بلادهم قالوا:
بغ داد أي إن هذا الربح الذي ربحناه من عطية
الملك، وقيل إنما سميت مدينة السلام لأن السلام هو الله فأرادوا مدينة الله، وأما طولها فذكر بطلميوس في كتاب الملحمة المنسوب إليه أن مدينة بغداد طولها خمس وسبعون درجة وعرضها أربع وثلاثون درجة داخلة في الإقليم الرابع، وقال أبو عون وغيره: إنها في الإقليم الثالث، قال: طالعها السماك الأعزل، بيت حياتها القوس، لها شركة في الكف الخضيب ولها أربعة أجزاء من سرّة الجوزاء تحت عشر درج من السرطان، يقابلها مثلها من الجدي عاشرها مثلها من الحمل عاقبتها مثلها من الميزان، قلت أنا: ولا شك أن بغداد أحدثت بعد بطليموس بأكثر من ألف سنة ولكني أظنّ أن مفسري كلامه قاسوا وقالوا، وقال صاحب الزيج: طول بغداد سبعون درجة، وعرضها ثلاث وثلاثون درجة وثلث، وتعديل نهارها ست عشرة درجة وثلثا درجة، وأطول نهارها أربع عشرة ساعة وخمس دقائق، وغاية ارتفاع الشمس بها ثمانون درجة وثلث، وظلّ الظهر بها درجتان، وظل العصر أربع عشرة درجة، وسمت القبلة ثلاث عشرة درجة ونصف، وجهها عن مكة مائة وسبع عشرة درجة، في الوجود ثلاثمائة درجة، هذا كله نقلته من كتب المنجمين ولا أعرفه ولا هو من صناعتي، وقال أحمد ابن حنبل: بغداد من الصّراة إلى باب التبن، وهو مشهد موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر ابن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد ابن الإمام علي ابن أبي طالب، ثم زيد فيها حتى بلغت كلواذى والمخرّم وقطربّل، قال أهل السير: ولما أهلك الله مهران بأرض الحيرة ومن كان معه من العجم استمكن المسلمون من الغارة على السواد وانتقضت مسالح الفرس وتشتت أمرهم واجترأ المسلمون عليهم وشنوا الغارات ما بين سورا وكسكر والصراة والفلاليج والأستانات، قال أهل الحيرة للمثنى: إن بالقرب منا قرية تقوم فيها سوق عظيمة في كل شهر مرة فيأتيها تجار فارس والأهواز وسائر البلاد، يقال لها بغداد، وكذا كانت إذ ذاك، فأخذ المثنى على البرّ حتى أتى الأنبار، فتحصّن فيها أهلها منه، فأرسل إلى سفروخ مرزبانها ليسير إليه فيكلّمه بما يريد وجعل له الأمان، فعبر المرزبان إليه، فخلا به المثنى وقال له: أريد أن أغير على سوق بغداد وأريد أن تبعث معي أدلّاء فيدلّوني الطريق وتعقد لي الجسر لأعبر عليه الفرات، ففعل المرزبان ذلك، وقد كان قطع الجسر قبل ذلك لئلا تعبر العرب عليه، فعبر المثنى مع أصحابه وبعث معه المرزبان الأدلاء، فسار حتى وافى السوق صحوة، فهرب الناس وتركوا أموالهم فأخذ المسلمون من الذهب والفضة وسائر الأمتعة ما قدروا على حمله ثم رجعوا إلى الأنبار، ووافى معسكره غانما موفورا، وذلك في سنة 13 للهجرة، فهذا خبر بغداد قبل أن يمصّرها المنصور، لم يبلغني غير ذلك.

فصل
في بدء عمارة بغداد، كان أول من مصّرها وجعلها مدينة المنصور بالله أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي ابن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ثاني الخلفاء، وانتقل إليها من الهاشمية، وهي مدينة كان قد اختطّها أخوه أبو العباس السّفّاح قرب الكوفة وشرع في عمارتها سنة 145 ونزلها سنة 149، وكان سبب عمارتها أن أهل الكوفة كانوا يفسدون جنده فبلغه ذلك من فعلهم، فانتقل عنهم يرتاد موضعا، وقال ابن عيّاش: بعث المنصور روّادا وهو بالهاشمية يرتادون له موضعا يبني فيه مدينة ويكون الموضع واسطا رافقا بالعامة والجند، فنعت له موضع قريب من
بارمّا، وذكر له غذاؤه وطيب هوائه، فخرج إليه بنفسه حتى نظر إليه وبات فيه، فرأى موضعا طيبا فقال لجماعة، منهم سليمان بن مجالد وأبو أيوب المرزباني وعبد الملك بن حميد الكاتب: ما رأيكم في هذا الموضع؟ قالوا: طيب موافق، فقال: صدقتم ولكن لا مرفق فيه للرعية، وقد مررت في طريقي بموضع تجلب إليه الميرة والامتعة في البرّ والبحر وأنا راجع إليه وبائت فيه، فإن اجتمع لي ما أريد من طيب الليل فهو موافق لما أريده لي وللناس، قال: فأتى موضع بغداد وعبر موضع قصر السلام ثم صلى العصر، وذلك في صيف وحرّ شديد، وكان في ذلك الموضع بيعة فبات أطيب مبيت وأقام يومه فلم ير إلا خيرا فقال: هذا موضع صالح للبناء، فإن المادة تأتيه من الفرات ودجلة وجماعة الأنهار، ولا يحمل الجند والرعية إلا مثله، فخطّ البناء وقدّر المدينة ووضع أول لبنة بيده فقال: بسم الله والحمد لله والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، ثم قال: ابنوا على بركة الله، وذكر سليمان بن مختار أن المنصور استشار دهقان بغداد، وكانت قرية في المربّعة المعروفة بأبي العباس الفضل بن سليمان الطوسي، وما زالت داره قائمة على بنائها إلى أن خرب كثير مما يجاورها في البناء، فقال: الذي أراه يا أمير المؤمنين أن تنزل في نفس بغداد، فإنك تصير بين أربعة طساسيج: طسّوجان في الجانب الغربي وطسّوجان في الجانب الشرقي، فاللذان في الغربي قطربل وبادوريا، واللذان في الشرقي نهر بوق وكلواذى، فإن تأخرت عمارة طسوج منها كان الآخر عامرا، وأنت يا أمير المؤمنين على الصّراة ودجلة، تجيئك بالميرة من القرب وفي الفرات من الشام والجزيرة ومصر وتلك البلدان، وتحمل إليك طرائف الهند والسند والصين والبصرة وواسط في دجلة، وتجيئك ميرة أرمينية وأذربيجان وما يتصل بها في تامرّا، وتجيئك ميرة الموصل وديار بكر وربيعة وأنت بين أنهار لا يصل إليك عدوك إلا على جسر أو قنطرة، فإذا قطعت الجسر والقنطرة لم يصل إليك عدوك، وأنت قريب من البرّ والبحر والجبل، فأعجب المنصور هذا القول وشرع في البناء، ووجه المنصور في حشر الصّنّاع والفعلة من الشام والموصل والجبل والكوفة وواسط فأحضروا، وأمر باختيار قوم من أهل الفضل والعدالة والفقه والأمانة والمعرفة بالهندسة، فجمعهم وتقدم إليهم أن يشرفوا على البناء، وكان ممن حضر الحجاج بن أرطاة وأبو حنيفة الإمام، وكان أول العمل في سنة 145، وأمر أن يجعل عرض السور من أسفله خمسين ذراعا ومن أعلاه عشرين ذراعا، وأن يجعل في البناء جرز القصب مكان الخشب، فلما بلغ السور مقدار قامة اتّصل به خروج محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، فقطع البناء حتى فرغ من أمره وأمر أخيه إبراهيم بن عبد الله بن حسن ابن حسن.
وعن علي بن يقطين قال: كنت في عسكر أبي جعفر المنصور حين سار إلى الصراة يلتمس موضعا لبناء مدينة، قال: فنزل الدير الذي على الصراة في العتيقة فما زال على دابته ذاهبا جائيا منفردا عن الناس يفكر، قال: وكان في الدير راهب عالم فقال لي: لم يذهب الملك ويجيء؟ قلت: إنه يريد أن يبني مدينة، قال: فما اسمه؟ قلت: عبد الله بن محمد، قال: أبو من؟ قلت: أبو جعفر، قال:
هل يلقب بشيء؟ قلت: المنصور، قال: ليس هذا الذي يبنيها، قلت: ولم؟ قال: لأنا قد وجدنا في كتاب عندنا نتوارثه قرنا عن قرن أن الذي يبني
هذا المكان رجل يقال له مقلاص، قال: فركبت من وقتي حتى دخلت على المنصور ودنوت منه، فقال لي: ما وراءك؟ قلت: خير ألقيه إلى أمير المؤمنين وأريحه من هذا العناء، فقال: قل، قلت:
أمير المؤمنين يعلم أن هؤلاء معهم علم، وقد أخبرني راهب هذا الدير بكذا وكذا، فلما ذكرت له مقلاص ضحك واستبشر ونزل عن دابته فسجد وأخذ سوطه وأقبل يذرع به، فقلت في نفسي: لحقه اللجاج، ثم دعا المهندسين من وقته وأمرهم بخط الرماد، فقلت له: أظنّك يا أمير المؤمنين أردت معاندة الراهب وتكذيبه، فقال: لا والله ولكني كنت ملقّبا بمقلاص وما ظننت أن أحدا عرف ذلك غيري، وذاك أننا كنا بناحية السراة في زمان بني أمية على الحال التي تعلم، فكنت أنا ومن كان في مقدار سنّي من عمومتي وإخوتي نتداعى ونتعاشر، فبلغت النوبة إليّ يوما من الأيام وما أملك درهما واحدا فلم أزل أفكر وأعمل الحيلة إلى أن أصبت غزلا لداية كانت لهم، فسرقته ثم وجّهت به فبيع لي واشتري لي بثمنه ما احتجت إليه، وجئت إلى الداية وقلت لها:
افعلي كذا واصنعي كذا، قالت: من أين لك ما أرى؟ قلت: اقترضت دراهم من بعض أهلي، ففعلت ما أمرتها به، فلما فرغنا من الأكل وجلسنا للحديث طلبت الداية الغزل فلم تجده فعلمت أني صاحبه، وكان في تلك الناحية لص يقال له مقلاص مشهور بالسرقة، فجاءت إلى باب البيت الذي كنا فيه فدعتني فلم أخرج إليها لعلمي أنها وقفت على ما صنعت، فلما ألحّت وأنا لا أخرج قالت: اخرج يا مقلاص، الناس يتحذّرون من مقلاصهم وأنا مقلاصي معي في البيت، فمزح معي إخوتي وعمومتي بهذا اللقب ساعة ثم لم أسمع به إلا منك الساعة فعلمت أن أمر هذه المدينة يتم على يدي لصحة ما وقفت عليه، ثم وضع أساس المدينة مدوّرا وجعل قصره في وسطها وجعل لها أربعة أبواب وأحكم سورها وفصيلها، فكان القاصد إليها من الشرق يدخل من باب خراسان والقاصد من الحجاز يدخل من باب الكوفة والقاصد من المغرب يدخل من باب الشام والقاصد من فارس والأهواز وواسط والبصرة واليمامة والبحرين يدخل من باب البصرة.
قالوا: فأنفق المنصور على عمارة بغداد ثمانية عشر ألف ألف دينار، وقال الخطيب في رواية: إنه أنفق على مدينته وجامعها وقصر الذهب فيها والأبواب والأسواق إلى أن فرغ من بنائها أربعة آلاف ألف وثمانمائة وثلاثة وثمانين ألف درهم، وذاك أن الأستاذ من الصّنّاع كان يعمل في كل يوم بقيراط إلى خمس حبّات والروزجاري بحبتين إلى ثلاث حبات، وكان الكبش بدرهم والحمل بأربعة دوانيق والتمر ستون رطلا بدرهم، قال الفضل بن دكين: كان ينادى على لحم البقر في جبانة كندة تسعون رطلا بدرهم، ولحم الغنم ستون رطلا بدرهم، والعسل عشرة أرطال بدرهم، قال: وكان بين كل باب من أبواب المدينة والباب الآخر ميل، وفي كل ساف من أسواف البناء مائة ألف لبنة واثنان وستون ألف لبنة من اللبن الجعفري، وعن ابن الشّروي قال: هدمنا من السور الذي يلي باب المحوّل قطعة فوجدنا فيها لبنة مكتوبا عليها بمغرة:
وزنها مائة وسبعة عشر رطلا، فوزناها فوجدناها كذلك.
وكان المنصور كما ذكرنا بنى مدينته مدوّرة وجعل داره وجامعها في وسطها، وبنى القبة الخضراء فوق إيوان، وكان علوّها ثمانين ذراعا، وعلى رأس القبة صنم على صورة فارس في يده رمح، وكان السلطان إذا رأى أن ذلك الصنم قد استقبل بعض الجهات ومدّ
الرمح نحوها علم أن بعض الخوارج يظهر من تلك الجهة، فلا يطول عليه الوقت حتى ترد عليه الأخبار بأن خارجيّا قد هجم من تلك الناحية، قلت أنا:
هكذا ذكر الخطيب وهو من المستحيل والكذب الفاحش، وإنما يحكى مثل هذا عن سحرة مصر وطلسمات بليناس التي أوهم الأغمار صحتها تطاول الأزمان والتخيل أن المتقدّمين ما كانوا بني آدم، فأما الملة الإسلامية فإنها تجلّ عن مثل هذه الخرافات، فإن من المعلوم أن الحيوان الناطق مكلف الصنائع لهذا التمثال لا يعلم شيئا مما ينسب إلى هذا الجماد ولو كان نبيّا مرسلا، وأيضا لو كان كلما توجهت إلى جهة خرج منها خارجيّ لوجب أن لا يزال خارجيّ يخرج في كل وقت لأنها لا بدّ أن تتوجه إلى وجه من الوجوه، والله أعلم، قال: وسقط رأس هذه القبة سنة 329، وكان يوم مطر عظيم ورعد هائل، وكانت هذه القبة تاج البلد وعلم بغداد ومأثرة من مآثر بني العباس، وكان بين بنائها وسقوطها مائة ونيف وثمانون سنة، ونقل المنصور أبوابها من واسط، وهي أبواب الحجّاج، وكان الحجاج أخذها من مدينة بإزاء واسط تعرف بزندورد، يزعمون أنها من بناء سليمان بن داود، عليه السلام، وأقام على باب خراسان بابا جيء به من الشام من عمل الفراعنة وعلى باب الكوفة بابا جيء به من الكوفة من عمل خالد القسري وعمل هو بابا لباب الشام، وهو أضعفها، وكان لا يدخل أحد من عمومة المنصور ولا غيرهم من شيء من الأبواب إلّا راجلا إلا داود بن عليّ عمه، فإنه كان متفرّسا وكان يحمل في محفّة، وكذلك محمد المهدي ابنه، وكانت تكنس الرحاب في كل يوم ويحمل التراب إلى خارج، فقال له عمه عبد الصمد: يا أمير المؤمنين أنا شيخ كبير فلو أذنت لي أن أنزل داخل الأبواب، فلم يأذن له، فقال: يا أمير المؤمنين عدني بعض بغال الرّوايا التي تصل إلى الرّحاب، فقال: يا ربيع بغال الروايا تصل إلى رحابي تتخذ الساعة قنيّ بالساج من باب خراسان حتى تصل إلى قصري، ففعل ومدّ المنصور قناة من نهر دجيل الآخذ من دجلة وقناة من نهر كرخايا الآخذ من الفرات وجرّهما إلى مدينته في عقود وثيقة، من أسفلها محكمة بالصاروج والآجر من أعلاها، فكانت كل قناة منها تدخل المدينة وتنفذ في الشوارع والدروب والأرباض، تجري صيفا وشتاء لا ينقطع ماؤها في شيء من الأوقات، ثم أقطع المنصور أصحابه القطائع فعمّروها وسميت بأسمائهم، وقد ذكرت من ذلك ما بلغني في مواضعه حسب ما قضى به ترتيب الحروف، وقد صنّف في بغداد وسعتها وعظم رفعتها وسعة بقعتها وذكر أبو بكر الخطيب في صدر كتابه من ذلك ما فيه كفاية لطالبه.

فلنذكر الآن ما ورد في مدح بغداد
ومن عجيب ذلك ما ذكره أبو سهل بن نوبخت قال:
أمرني المنصور لما أراد بناء بغداد بأخذ الطالع، ففعلت فإذا الطالع في الشمس وهي في القوس، فخبّرته بما تدلّ النجوم عليه من طول بقائها وكثرة عمارتها وفقر الناس إلى ما فيها ثم قلت: وأخبرك خلّة أخرى أسرك بها يا أمير المؤمنين، قال: وما هي؟ قلت: نجد في أدلة النجوم أنه لا يموت بها خليفة أبدا حتف أنفه، قال: فتبسم وقال الحمد لله على ذلك، هذا من فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، ولذلك يقول عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير بن الخطفى:
أعاينت في طول من الأرض أو عرض، ... كبغداد من دار بها مسكن الخفض
صفا العيش في بغداد واخضرّ عوده، ... وعيش سواها غير خفض ولا غضّ
تطول بها الأعمار، إنّ غذاءها ... مريء، وبعض الأرض أمرأ من بعض
قضى ربّها أن لا يموت خليفة ... بها، إنه ما شاء في خلقه يقضي
تنام بها عين الغريب، ولا ترى ... غريبا بأرض الشام يطمع في الغمض
فإن جزيت بغداد منهم بقرضها، ... فما أسلفت إلّا الجميل من القرض
وإن رميت بالهجر منهم وبالقلى، ... فما أصبحت أهلا لهجر ولا بغض
وكان من أعجب العجب أن المنصور مات وهو حاجّ، والمهدي ابنه خرج إلى نواحي الجبل فمات بما سبذان بموضع يقال له الرّذّ، والهادي ابنه مات بعيساباد قرية أو محلّة بالجانب الشرقي من بغداد، والرشيد مات بطوس، والأمين أخذ في شبارته وقتل بالجانب الشرقي، والمأمون مات بالبذندون من نواحي المصّيصة بالشام، والمعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر وباقي الخلفاء ماتوا بسامرّا، ثم انتقل الخلفاء إلى التاج من شرقي بغداد كما ذكرناه في التاج، وتعطّلت مدينة المنصور منهم.
وفي مدح بغداد قال بعض الفضلاء: بغداد جنة الأرض ومدينة السلام وقبة الإسلام ومجمع الرافدين وغرّة البلاد وعين العراق ودار الخلافة ومجمع المحاسن والطيبات ومعدن الظرائف واللطائف، وبها أرباب الغايات في كل فنّ، وآحاد الدهر في كل نوع، وكان أبو إسحاق الزّجّاج يقول: بغداد حاضرة الدنيا وما عداها بادية، وكان أبو الفرج الببغا يقول: هي مدينة السلام بل مدينة الإسلام، فإنّ الدولة النبوية والخلافة الإسلامية بها عشّشتا وفرّختا وضربتا بعروقهما وبسقتا بفروعهما، وإنّ هواءها أغذى من كل هواء وماءها أعذب من كل ماء، وإنّ نسيمها أرقّ من كل نسيم، وهي من الإقليم الاعتدالي بمنزلة المركز من الدائرة، ولم تزل بغداد موطن الأكاسرة في سالف الأزمان ومنزل الخلفاء في دولة الإسلام، وكان ابن العميد إذا طرأ عليه أحد من منتحلي العلوم والآداب وأراد امتحان عقله سأله عن بغداد، فإن فطن بخواصّها وتنبّه على محاسنها وأثنى عليها جعل ذلك مقدّمة فضله وعنوان عقله، ثم سأله عن الجاحظ، فإن وجد أثرا لمطالعة كتبه والاقتباس من نوره والاغتراف من بحره وبعض القيام بمسائله قضى له بأنه غرّة شادخة في أهل العلم والآداب، وإن وجده ذامّا لبغداد غفلا عما يحب أن يكون موسوما به من الانتساب إلى المعارف التي يختص بها الجاحظ لم ينفعه بعد ذلك شيء من المحاسن، ولما رجع الصاحب عن بغداد سأله ابن العميد عنها، فقال: بغداد في البلاد كالأستاذ في العباد، فجعلها مثلا في الغاية في الفضل، وقال ابن زريق الكاتب الكوفي:
سافرت أبغي لبغداد وساكنها ... مثلا، قد اخترت شيئا دونه الياس
هيهات بغداد، والدنيا بأجمعها ... عندي، وسكان بغداد هم الناس
وقال آخر:
بغداد يا دار الملوك ومجتنى ... صوف المنى، يا مستقرّ المنابر
ويا جنّة الدنيا ويا مجتنى الغنى، ... ومنبسط الآمال عند المتاجر
وقال أبو يعلى محمد بن الهبّارية: سمعت الشيخ الزاهد أبا إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآباذي يقول: من دخل بغداد وهو ذو عقل صحيح وطبع معتدل مات بها أو بحسرتها، وقال عمارة بن عقيل ابن بلال بن جرير:
ما مثل بغداد في الدنيا ولا الدين، ... على تقلّبها في كلّ ما حين
ما بين قطربّل فالكرخ نرجسة ... تندى، ومنبت خيريّ ونسرين
تحيا النفوس بريّاها، إذا نفحت، ... وخرّشت بين أوراق الرّياحين
سقيا لتلك القصور الشاهقات وما ... تخفي من البقر الإنسيّة العين
تستنّ دجلة فيما بينها، فترى ... دهم السّفين تعالى كالبراذين
مناظر ذات أبواب مفتّحة، ... أنيقة بزخاريف وتزيين
فيها القصور التي تهوي، بأجنحة، ... بالزائرين إلى القوم المزورين
من كلّ حرّاقة تعلو فقارتها، ... قصر من الساج عال ذو أساطين
وقدم عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس إلى بغداد فرأى كثرة الناس بها فقال: ما مررت بطريق من طرق هذه المدينة إلّا ظننت أن الناس قد نودي فيهم، ووجد على بعض الأميال بطريق مكة مكتوبا:
أيا بغداد يا أسفي عليك! ... متى يقضى الرجوع لنا إليك؟
قنعنا سالمين بكلّ خير، ... وينعم عيشنا في جانبيك
ووجد على حائط بجزيرة قبرص مكتوبا:
فهل نحو بغداد مزار، فيلتقي ... مشوق ويحظى بالزيارة زائر
إلى الله أشكو، لا إلى الناس، إنه ... على كشف ما ألقى من الهمّ قادر
وكان القاضي أبو محمد عبد الوهّاب بن علي بن نصر المالكي قد نبا به المقام ببغداد فرحل إلى مصر، فخرج البغداديون يودّعونه وجعلوا يتوجعون لفراقه، فقال: والله لو وجدت عندكم في كل يوم مدّا من الباقلّى ما فارقتكم، ثم قال:
سلام على بغداد من كلّ منزل، ... وحقّ لها منّي السلام المضاعف
فو الله ما فارقتها عن قلى لها، ... وإني بشطّي جانبيها لعارف
ولكنها ضاقت عليّ برحبها، ... ولم تكن الأرزاق فيها تساعف
وكانت كخلّ كنت أهوى دنوّه، ... وأخلاقه تنأى به وتخالف
ولما حج الرشيد وبلغ زرود التفت إلى ناحية العراق وقال:
أقول وقد جزنا زرود عشيّة، ... وكادت مطايانا تجوز بنا نجدا
على أهل بغداد السلام، فإنني ... أزيد بسيري عن ديارهم بعدا
وقال ابن مجاهد المقري: رأيت أبا عمرو بن العلاء في النوم فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال: دعني مما فعل الله بي، من أقام ببغداد على السّنّة والجماعة ومات نقل من جنة إلى جنة، وعن يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي محمد بن إدريس الشافعي، رضي الله عنه: أيا يونس دخلت بغداد؟ فقلت: لا، فقال: أيا يونس ما رأيت الدنيا ولا الناس، وقال طاهر بن المظفّر بن طاهر الخازن:
سقى الله صوب الغاديات محلّة ... ببغداد، بين الخلد والكرخ والجسر
هي البلدة الحسناء، خصّت لأهلها ... بأشياء لم يجمعن مذ كنّ في مصر
هواء رقيق في اعتدال وصحّة، ... وماء له طعم ألذّ من الخمر
ودجلتها شطّان قد نظما لنا ... بتاج إلى تاج، وقصر إلى قصر
ثراها كمسك، والمياه كفضّة، ... وحصباؤها مثل اليواقيت والدّر
قال أبو بكر الخطيب: أنشدني أبو محمد الباقي قول الشاعر:
دخلنا كارهين لها، فلما ... ألفناها خرجنا مكرهينا
فقال يوشك هذا أن يكون في بغداد، قيل وأنشد لنفسه في المعنى وضمنه البيت:
على بغداد معدن كلّ طيب، ... ومغنى نزهة المتنزّهينا:
سلام كلما جرحت بلحظ ... عيون المشتهين المشتهينا
دخلنا كارهين لها، فلما ... ألفناها خرجنا مكرهينا
وما حبّ الديار بنا، ولكن ... أمرّ العيش فرقة من هوينا
قال محمد بن عليّ بن حبيب الماوردي: كتب إليّ أخي من البصرة وأنا ببغداد:
طيب الهواء ببغداد يشوّقني ... قدما إليها، وإن عاقت معاذير
وكيف صبري عنها، بعد ما جمعت ... طيب الهواءين ممدود ومقصور؟
وقلّد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر اليمن، فلما أراد الخروج قال:
أيرحل آلف ويقيم إلف، ... وتحيا لوعة ويموت قصف؟
على بغداد دار اللهو منّي ... سلام ما سجا للعين طرف
وما فارقتها لقلى، ولكن ... تناولني من الحدثان صرف
ألا روح ألا فرج قريب، ... ألا جار من الحدثان كهف
لعلّ زماننا سيعود يوما، ... فيرجع آلف ويسر إلف
فبلغ الوزير هذا الشعر فأعفاه، وقال شاعر يتشوق بغداد:
ولما تجاوزت المدائن سائرا، ... وأيقنت يا بغداد أني على بعد
علمت بأنّ الله بالغ أمره، وأن قضاء الله ينفذ في العبد وقلت، وقلبي فيه ما فيه من جوى، ودمعي جار كالجمان على خدّي: ترى الله يا بغداد يجمع بيننا فألقى الذي خلّفت فيك على العهد؟
وقال محمد بن عليّ بن خلف النيرماني:
فدى لك يا بغداد كل مدينة ... من الأرض، حتى خطّتي ودياريا
فقد طفت في شرق البلاد وغربها، ... وسيّرت خيلي بينها وركابيا
فلم أر فيها مثل بغداد منزلا، ... ولم أر فيها مثل دجلة واديا
ولا مثل أهليها أرقّ شمائلا، ... وأعذب ألفاظا، وأحلى معانيا
وقائلة: لو كان ودّك صادقا ... لبغداد لم ترحل، فقلت جوابيا:
يقيم الرجال الموسرون بأرضهم، ... وترمي النوى بالمقترين المراميا

في ذمّ بغداد
قد ذكره جماعة من أهل الورع والصلاح والزهّاد والعبّاد، ووردت فيها أحاديث خبيثة، وعلّتهم في الكراهية ما عاينوه بها من الفجور والظلم والعسف، وكان الناس وقت كراهيتهم للمقام ببغداد غير ناس زماننا، فأما أهل عصرنا فأجلس خيارهم في الحشّ وأعطهم فلسا فما يبالون بعد تحصيل الحطام أين كان المقام، وقد ذكر الحافظ أبو بكر أحمد بن عليّ من ذلك قدرا كافيا، وكان بعض الصالحين إذا ذكرت عنده بغداد يتمثل:
قل لمن أظهر التنسّك في النا ... س وأمسى يعدّ في الزّهّاد:
الزم الثغر والتواضع فيه، ... ليس بغداد منزل العبّاد
إن بغداد للملوك محلّ، ... ومناخ للقارئ الصياد
ومن شائع الشعر في ذلك:
بغداد أرض لأهل المال طيّبة، ... وللمفاليس دار الضّنك والضيق
أصبحت فيها مضاعا بين أظهرهم، ... كأنني مصحف في بيت زنديق
ويروى للطاهر بن الحسين قال:
زعم الناس أن ليلك يا بغ ... داد ليل يطيب فيه النسيم
ولعمري ما ذاك إلّا لأن خا ... لفها، بالنهار، منك السّموم
وقليل الرّخاء يتّبع الش ... دة، عند الأنام، خطب عظيم
وكتب عبد الله بن المعتز إلى صديق له يمدح سرّ من رأى ويصف خرابها ويذم بغداد: كتبت من بلدة قد أنهض الله سكانها وأقعد حيطانها، فشاهد اليأس فيها ينطق وحبل الرجاء فيها يقصر، فكأن عمرانها يطوى وخرابها ينشر، وقد تمزقت بأهلها الديار، فما يجب فيها حقّ جوار، فحالها تصف للعيون الشكوى، وتشير إلى ذم الدنيا، على أنها وإن جفيت معشوقة السّكنى، وحبيبة المثوى،
كوكبها يقظان، وجوّها عريان، وحصباؤها جوهر، ونسيمها معطّر، وترابها أذفر، ويومها غداة، وليلها سحر، وطعامها هنيء، وشرابها مريء، لا كبلدتكم الوسخة السماء، الومدة الماء والهواء، جوها غبار، وأرضها خبار، وماؤها طين، وترابها سرجين، وحيطانها نزوز، وتشرينها تموز، فكم من شمسها من محترق، وفي ظلّها من عرق، صيقة الديار، وسيئة الجوار، أهلها ذئاب، وكلامهم سباب، وسائلهم محروم، وما لهم مكتوم، ولا يجوز إنفاقه، ولا يحل خناقه، حشوشهم مسايل، وطرقهم مزابل، وحيطانهم أخصاص، وبيوتهم أقفاص، ولكل مكروه أجل، وللبقاع دول، والدهر يسير بالمقيم، ويمزج البؤس بالنعيم، وله من قصيدة:
كيف نومي وقد حللت ببغ ... داد، مقيما في أرضها، لا أريم
ببلاد فيها الركايا، علي ... هن أكاليل من بعوض تحوم
جوها في الشتاء والصيف دخّا ... ن كثيف، وماؤها محموم
ويح دار الملك التي تنفح المس ... ك، إذا ما جرى عليه النسيم
كيف قد أقفرت وحاربها الدّه ... ر، وعين الحياة فيها البوم
نحن كنا سكانها، فانقضى ذا ... لك عنا، وأي شيء يدوم
وقال أيضا:
أطال الهمّ في بغداد ليلي، ... وقد يشقى المسافر أو يفوز
ظللت بها، على رغمي، مقيما ... كعنّين تعانقه عجوز
وقال محمد بن أحمد بن شميعة البغدادي شاعر عصري فيها:
ودّ أهل الزوراء زور، فلا ... تغترر بالوداد من ساكنيها
هي دار السلام حسب، فلا يط ... مع منها، إلّا بما قيل فيها
وكان المعتصم قد سأل أبا العيناء عن بغداد وكان سيّء الرأي فيها، فقال: هي يا أمير المؤمنين كما قال عمارة بن عقيل:
ما أنت يا بغداد إلّا سلح، ... إذا اعتراك مطر أو نفح،
وإن جففت فتراب برح
وكما قال آخر:
هل الله من بغداد، يا صاح، مخرجي، ... فأصبح لا تبدو لعيني قصورها
وميدانها المذري علينا ترابها ... إذا شحجت أبغالها وحميرها
وقال آخر:
أذمّ بغداد والمقام بها، ... من بعد ما خبرة وتجريب
ما عند سكّانها لمختبط ... خير، ولا فرجة لمكروب
يحتاج باغي المقام بينهم ... إلى ثلاث من بعد تثريب:
كنوز قارون أن تكون له، ... وعمر نوح وصبر أيوب
قوم مواعيدهم مزخرفة ... بزخرف القول والأكاذيب
خلّوا سبيل العلى لغيرهم، ... ونافسوا في الفسوق والحوب
وقال بعض الأعراب:
لقد طال في بغداد ليلي، ومن يبت ... ببغداد يصبح ليله غير راقد
بلاد، إذا ولّى النهار، تنافرت ... براغيثها من بين مثنى وواحد
ديازجة شهب البطون، كأنها ... بغال بريد أرسلت في مذاود
وقرأت بخط عبيد الله بن أحمد بن جخجخ قال أبو العالية:
ترحّل فما بغداد دار إقامة، ... ولا عند من يرجى ببغداد طائل
محلّ ملوك سمتهم في أديمهم، ... فكلهم من حلية المجد عاطل
سوى معشر جلّوا، وجلّ قليلهم ... يضاف إلى بذل النّدى، وهو باخل
ولا غروان شلّت يد الجود والندى ... وقلّ سماح من رجال ونائل
إذا غطمط البحر الغطامط ماؤه ... فليس عجيبا أن تفيض الجداول
وقال آخر:
كفى حزنا، والحمد لله أنّني ... ببغداد قد أعيت عليّ مذاهبي
أصاحب قوما لا ألذّ صحابهم، ... وآلف قوما لست فيهم براغب
ولم أثو في بغداد حبّا لأهلها، ... ولا أنّ فيها مستفادا لطالب
سأرحل عنها قاليا لسراتها، ... وأتركها ترك الملول المجانب
فإن ألجأتني الحادثات إليهم ... فأير حمار في حرامّ النوائب
وقال بعضهم يمدح بغداد ويذمّ أهلها:
سقيا لبغداد ورعيا لها، ... ولا سقى صوب الحيا أهلها
يا عجبا من سفل مثلهم، ... كيف أبيحوا جنّة مثلها
وقال آخر:
اخلع ببغداد العذارا، ... ودع التنسّك والوقارا
فلقد بليت بعصبة ... ما إن يرون العار عارا
لا مسلمين ولا يهو ... د ولا مجوس ولا نصارى
وقدم بعض الهجريّين بغداد فاستوبأها وقال:
أرى الريف يدنو كل يوم وليلة، ... وأزداد من نجد وساكنه بعدا
ألا إن بغدادا بلاد بغيضة ... إليّ، وإن أمست معيشتها رغدا
بلاد ترى الأرواح فيها مريضة، ... وتزداد نتنا حين تمطر أو تندى
وقال أعرابيّ مثل ذلك:
ألا يا غراب البين ما لك ثاويا ... ببغداد لا تمضي، وأنت صحيح؟
ألا إنما بغداد دار بليّة، ... هل الله من سجن البلاد مريح؟
وقال أبو يعلى بن الهبّارية أنشدني جدّي أبو الفضل محمد بن محمد لنفسه:
إذا سقى الله أرضا صوب غادية، ... فلا سقى الله غيثا أرض بغداد
أرض بها الحرّ معدوم، كأنّ لها ... قد قيل في مثل: لا حرّ بالوادي
بل كلّ ما شئت من علق وزانية ... ومستحدّ وصفعان وقوّاد
وقال أيضا أبو يعلى بن الهبارية: أنشدني معدان التغلبي لنفسه:
بغداد دار، طيبها آخذ ... نسيمه مني بأنفاسي
تصلح للموسر لا لامرئ ... يبيت في فقر وإفلاس
لو حلّها قارون ربّ الغنى، ... أصبح ذا همّ ووسواس
هي التي توعد، لكنها ... عاجلة للطاعم الكاسي
حور وولدان ومن كلّ ما ... تطلبه فيها، سوى الناس
Learn Quranic Arabic from scratch with our innovative book! (written by the creator of this website)
Available in both paperback and Kindle formats.