الإنسان:
[في الانكليزية] Man
[ في الفرنسية] L'homme
بالكسر وسكون النون قال الإمام الرازي في التفسير الكبير في تفسير قوله تعالى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي اعلم أنّ العلم الضروري حاصل بأن هاهنا شيئا يشير إليه الإنسان بقوله أنا، فالمشار إليه إمّا أن يكون جسما أو عرضا أو مجموعهما، أو شيئا مغايرا لهما أو ما يتركب منهما، ومن ذلك الشيء الثالث. أمّا القسم الأول وهو أن يقال إنّ الإنسان جسم فذلك الجسم إمّا هذه البنية المخصوصة أو جسم داخل في هذه البنية أو جسم خارج عنها.
أما القائلون بأنّ الإنسان عبارة عن هذه البنية المخصوصة المحسوسة وعن هذا الهيكل المجسّم المحسوس، فهم جمهور المتكلمين.
وهذا القول باطل عندنا لأن العلم البديهي حاصل بأنّ أجزاء هذه الجثّة متبدّلة زيادة ونقصانا بحسب النموّ والذبول والسّمن والهزال، وزيادة عضو من الأعضاء وإزالته. ولا شكّ أنّ المتبدّل المتغيّر مغاير للثابت الباقي ولأنّ كل أحد يحكم بصريح عقله بإضافة كل من أعضائه إلى نفسه، فيقول رأسي وعيني ويدي، والمضاف غير المضاف إليه. وقول الإنسان نفسي وذاتي يراد به البدن فإنّ نفس الشيء كما يراد به ذاته التي إليها يشير كل أحد بقوله أنا، كذلك يراد به البدن، ولأنّ الإنسان قد يكون حيّا مع كون البدن ميتا، قال الله تعالى وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ الآية. وقال النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وقال أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً ومثل هذه الآيات كثيرة دالّة على تغاير الإنسان والبدن، ولأن جميع فرق الدنيا من الهند والروم والعرب والعجم وجميع أرباب الملل من اليهود والنصارى والمجوس والمسلمين وغيرهم يتصدّقون عن موتاهم ويدعون لهم بالخير، ولولا أنهم بعد موت الجسد بقوا أحياء لكان التصدّق والدّعاء لهم عبثا. فهذه الدلائل تدلّ على أنّ الإنسان ليس بجسم، وأنّ الإنسان غير محسوس لأن حقيقته مغايرة للسطح واللون، وكلّ ما هو مرئي فهو السطح واللون، فثبت أنّ الإنسان ليس جسما ولا محسوسا فضلا عن كونه جسما محسوسا.
وأما أنّ الإنسان جسم موجود في داخل البدن ففيه أقوال، وضبطها أنّ الأجسام الموجودة في هذا العالم السفلي إمّا أن تكون أحد العناصر الأربعة أو تكون متولّدة من امتزاجها، ويمتنع أن يحصل في البدن الإنساني جسم عنصري خالص، فلا بدّ أن يكون الحاصل جسما متولّدا من امتزاجها.
أما الجسم الذي تغلب عليه الأرضية فهو الأعضاء الصلبة الكثيفة كالعظم واللحم والشّحم والعصب ونحوها، ولم يقل أحد من العقلاء الذين قالوا إنّ الإنسان شيء مغاير لهذا الجسد بأنه عبارة عن أحد هذه الأعضاء لأنها كثيفة ثقيلة ظلمانية.
وأما الجسم الذي تغلب عليه المائية فهو الأخلاط الأربعة، ولم يقع في شيء منها أنه الإنسان إلّا في الدم، فإن منهم من قال إنه هو الروح لأنه إذا خرج لزم الموت.
وأما الجسم الذي تغلب عليه الهوائية والنارية فهو الأرواح فهي أجسام هوائية مخلوطة بالحرارة الغريزية متولّدة إمّا في القلب أو في الدماغ، وقالوا إنها هي الروح وهي الإنسان.
ثم اختلفوا فمنهم من يقول إنه جزء لا يتجزأ في الدماغ، ومنهم من يقول الروح عبارة عن أجزاء نارية مختلطة بهذه الأرواح القلبية والدماغية وتلك الأجزاء النارية المسماة بالحرارة الغريزية هي الإنسان. ومن الناس من يقول الروح عبارة عن أجسام نورانية سماوية لطيفة الجوهر على طبيعة ضوء الشمس، وهي لا تقبل التحلّل والتبدّل، ولا التفرق والتمزّق، فإذا تكوّن البدن وتمّ استعداده وهو المراد بقوله تعالى فَإِذا سَوَّيْتُهُ نفذت تلك الأجسام الشريفة السماوية الإلهية في داخل أعضاء البدن نفاذ النار في الفحم ونفاذ دهن السمسم في السمسم ونفاذ ماء الورد في الورد. ونفاذ تلك الأجسام في البدن هو المراد بقوله وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي. ثم إنّ البدن ما دام يبقى سليما قابلا لنفاذ تلك الأجسام الشريفة فيه بقي حيّا، فإذا تولّدت في البدن أخلاط غليظة منعت تلك الأخلاط لغلظها سريان تلك الأجسام الشريفة فيها فانفصلت عن هذا البدن ولزم الموت، فهذا مذهب قوي شريف يجب التأمّل فيه، فإنه سديد بالمطابقة بما ورد في الكتب الإلهية من أحوال الحياة والموت. وأما أنّ الإنسان جسم موجود خارج البدن فلا أعرف أحدا ذهب إليه.
وأمّا القسم الثاني وهو أنّ الإنسان عرض في البدن فهذا لا يقول به عاقل لأنه موصوف بالعلم والقدرة والتدبير والتصرّف، ومن كان كذلك كان جوهرا لا عرضا، بل الذي يمكن أن يقال به هو الإنسان بشرط أن يكون موصوفا بأعراض مخصوصة، وعلى هذا التقدير فللناس فيه أقوال: القول الأول إنّ العناصر إذا امتزجت وانكسرت سورة كلّ واحد منها بسورة الآخر حصلت كيفية معتدلة هي المزاج. ومراتب المزاج غير متناهية فبعضها إنسانية وبعضها فرسية، فالإنسانية عبارة عن أجسام موصوفة بكيفيات مخصوصة متولّدة عن امتزاجات أجزاء العناصر بمقدار مخصوص، وهذا قول جمهور الأطباء ومنكري النفس. ومن المعتزلة قول أبي الحسين. والقول الثاني إنّ الإنسان عبارة عن أجسام مخصوصة بشرط كونها موصوفة بصفة الحياة والعلم والقدرة، وهي أعراض قائمة بالجسم؛ وهؤلاء أنكروا الروح والنفس، وقالوا ليس هاهنا الأجسام مؤتلفة موصوفة بهذه الأعراض المخصوصة، وهذا مذهب أكثر شيوخ المعتزلة. والقول الثالث إنّ الإنسان عبارة عن أجسام موصوفة بأشكال مخصوصة بشرط أن تكون أيضا موصوفة بالحياة والعلم والقدرة.
والإنسان يمتاز عن سائر الحيوانات بشكل جسده وهذا مشكل لأنّ الملائكة قد يشتبهون بصور الناس، وفي صورة المسخ معنى الإنسانية حاصل مع أن هذه الصورة غير حاصلة، فبطل اعتبار الشّكل والصورة في حصول معنى الإنسانية طردا وعكسا.
وأما القسم الثالث وهو أن يقال الإنسان موجود ليس بجسم ولا جسماني، وهذا قول أكثر الإلهيين من الفلاسفة القائلين بفناء الجسم المثبتين للنفس معادا روحانيا وثوابا وعقابا روحانيا، وذهب إليه جماعة عظيمة من علماء المسلمين كالراغب والغزالي، ومن قدماء المعتزلة يعمر عباد السلمي، ومن الشيعة الملقب عندهم بالشيخ المفيد، ومن الكرّامية جماعة. واعلم أنّ أكثر العارفين الكاملين من أصحاب الرياضات وأرباب المكاشفات والمشاهدات مصرّون على هذا القول جازمون بهذا المذهب.
وأمّا القسم الرابع وهو أنّ الإنسان مركّب من تلك الثلاثة فنقول: اعلم أنّ القائلين بإثبات النفس فريقان. الفريق الأول وهم المحققون منهم قالوا إنّ الإنسان عبارة عن هذا الجوهر المخصوص وهذا البدن آلة منزله، ومنزله.
وعلى هذا التقدير فالإنسان غير موجود في داخل العالم ولا في خارجه وغير متصل بالعالم ولا منفصل عنه، ولكن له تعلقا بالبدن تعلق التدبير والتصرف، كما أنّ إله العالم لا تعلّق له بالعالم إلّا تعلّق التصرّف والتدبير.
والفريق الثاني الذين قالوا النفس إذا تعلّقت بالبدن اتحدت بالبدن فصارت النفس غير البدن والبدن غير النفس، ومجموعهما عند الاتحاد هو الإنسان، فإذا جاء وقت الموت بطل هذا الاتحاد وبقيت النفس وفسد البدن. فهذا جملة مذاهب الناس في الإنسان.
وكان ثابت بن قرّة يثبت النفس ويقول إنها متعلّقة بأجسام سماوية نورانية لطيفة غير قابلة للكون والفساد والتفرق والتمزق، وإنّ تلك الأجسام تكون سيّالة في البدن. وما دام يبقى ذلك السريان بقيت النفس مدبّرة للبدن، فإذا انفصلت تلك الأجسام اللطيفة عن جوهر البدن انقطع تعلّق النفس مدبرة للبدن، انتهى ما قال الإمام الرازي. وإن شئت زيادة التوضيح فارجع إلى التفسير الكبير.
وقال بعض الصوفية: الإنسان هو هذا الكون الجامع. وقال الشيخ الكبير في كتاب الفكوك: إنّ الإنسان الكامل الحقيقي هو البرزخ بين الوجوب والإمكان والمرآة الجامعة بين صفات القدم وأحكامه وبين صفات الحدثان، وهو الواسطة بين الحق والخلق، وبه وبمرتبته يصل فيض الحق والمدد الذي سبب بقاء ما سوى الحقّ إلى العالم كله علوا وسفلا، ولولاه من حيث برزخيته التي لا تغاير الطرفين لم يقبل شيء من العالم المدد الإلهي الوحداني لعدم المناسبة والارتباط، ولم يصل إليه كذا في شرح الفصوص للمولوي عبد الرحمن الجامي.
في الفصّ الأول ويجيء أيضا ذكره في لفظ الكلمة. وفي الإنسان الكامل حيث وقع من مؤلفاتي لفظ الإنسان الكامل فإنما أريد به محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم تأدّبا لمقامه الأعلى. وللإنسان الكامل ثلاثة برازخ وبعدها المقام المسمّى بالختام. البرزخ الأول يسمّى البداية وهو التحقق بالأسماء والصفات. والبرزخ الثاني يسمّى التوسّط وهو محك الرقائق الإنسانية بالحقائق الرحمانية، فإذا استوفى هذا المشهد علم سائر المتمكنات واطلع على ما يشاء من المغيبات. والبرزخ الثالث وهو معرفة التنوّع الحكمية في اختراع الأمور القدرية، ولا يزال الحق يخترق له العادات بها في ملكوت القدرة حتى يصير له خرق العوائد عادة في تلك الحكمة، فحينئذ يؤذن له بإبراز القدرة في ظاهر الأكوان. وإذا تمكّن من هذا البرزخ حلّ في المقام المسمّى بالختام، وليس بعد ذلك إلّا الكبرياء، وهي النهاية التي لا تدرك لها غاية. والناس في هذا المقام مختلفون فكامل وأكمل وفاضل وأفضل. وفي تعريفات السيّد الجرجاني: الإنسان الكامل هو الجامع لجميع العوالم الإلهية والكونية الكليّة والجزئية وهو كتاب جامع للكتب الإلهية والكونية فمن حيث روحه وعقله كتاب عقلي مسمّى بأمّ الكتاب. ومن حيث قلبه كتاب اللوح المحفوظ ومن حيث نفسه كتاب المحو والإثبات، فهو الصحف المكرّمة المرفوعة المطهرة التي لا يمسّها ولا يدرك أسرارها إلّا المطهّرون من الحجب الظلمانية. فنسبة العقل الأول إلى العالم الكبير وحقائقه بعينها نسبة الروح الإنساني إلى البدن وقواه، وأنّ النفس الكليّة قلب العالم الكبير، كما أنّ النفس الناطقة قلب الإنسان.
ولذلك يسمّى العالم بالإنسان الكبير انتهى.
[في الانكليزية] Man
[ في الفرنسية] L'homme
بالكسر وسكون النون قال الإمام الرازي في التفسير الكبير في تفسير قوله تعالى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي اعلم أنّ العلم الضروري حاصل بأن هاهنا شيئا يشير إليه الإنسان بقوله أنا، فالمشار إليه إمّا أن يكون جسما أو عرضا أو مجموعهما، أو شيئا مغايرا لهما أو ما يتركب منهما، ومن ذلك الشيء الثالث. أمّا القسم الأول وهو أن يقال إنّ الإنسان جسم فذلك الجسم إمّا هذه البنية المخصوصة أو جسم داخل في هذه البنية أو جسم خارج عنها.
أما القائلون بأنّ الإنسان عبارة عن هذه البنية المخصوصة المحسوسة وعن هذا الهيكل المجسّم المحسوس، فهم جمهور المتكلمين.
وهذا القول باطل عندنا لأن العلم البديهي حاصل بأنّ أجزاء هذه الجثّة متبدّلة زيادة ونقصانا بحسب النموّ والذبول والسّمن والهزال، وزيادة عضو من الأعضاء وإزالته. ولا شكّ أنّ المتبدّل المتغيّر مغاير للثابت الباقي ولأنّ كل أحد يحكم بصريح عقله بإضافة كل من أعضائه إلى نفسه، فيقول رأسي وعيني ويدي، والمضاف غير المضاف إليه. وقول الإنسان نفسي وذاتي يراد به البدن فإنّ نفس الشيء كما يراد به ذاته التي إليها يشير كل أحد بقوله أنا، كذلك يراد به البدن، ولأنّ الإنسان قد يكون حيّا مع كون البدن ميتا، قال الله تعالى وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ الآية. وقال النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وقال أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً ومثل هذه الآيات كثيرة دالّة على تغاير الإنسان والبدن، ولأن جميع فرق الدنيا من الهند والروم والعرب والعجم وجميع أرباب الملل من اليهود والنصارى والمجوس والمسلمين وغيرهم يتصدّقون عن موتاهم ويدعون لهم بالخير، ولولا أنهم بعد موت الجسد بقوا أحياء لكان التصدّق والدّعاء لهم عبثا. فهذه الدلائل تدلّ على أنّ الإنسان ليس بجسم، وأنّ الإنسان غير محسوس لأن حقيقته مغايرة للسطح واللون، وكلّ ما هو مرئي فهو السطح واللون، فثبت أنّ الإنسان ليس جسما ولا محسوسا فضلا عن كونه جسما محسوسا.
وأما أنّ الإنسان جسم موجود في داخل البدن ففيه أقوال، وضبطها أنّ الأجسام الموجودة في هذا العالم السفلي إمّا أن تكون أحد العناصر الأربعة أو تكون متولّدة من امتزاجها، ويمتنع أن يحصل في البدن الإنساني جسم عنصري خالص، فلا بدّ أن يكون الحاصل جسما متولّدا من امتزاجها.
أما الجسم الذي تغلب عليه الأرضية فهو الأعضاء الصلبة الكثيفة كالعظم واللحم والشّحم والعصب ونحوها، ولم يقل أحد من العقلاء الذين قالوا إنّ الإنسان شيء مغاير لهذا الجسد بأنه عبارة عن أحد هذه الأعضاء لأنها كثيفة ثقيلة ظلمانية.
وأما الجسم الذي تغلب عليه المائية فهو الأخلاط الأربعة، ولم يقع في شيء منها أنه الإنسان إلّا في الدم، فإن منهم من قال إنه هو الروح لأنه إذا خرج لزم الموت.
وأما الجسم الذي تغلب عليه الهوائية والنارية فهو الأرواح فهي أجسام هوائية مخلوطة بالحرارة الغريزية متولّدة إمّا في القلب أو في الدماغ، وقالوا إنها هي الروح وهي الإنسان.
ثم اختلفوا فمنهم من يقول إنه جزء لا يتجزأ في الدماغ، ومنهم من يقول الروح عبارة عن أجزاء نارية مختلطة بهذه الأرواح القلبية والدماغية وتلك الأجزاء النارية المسماة بالحرارة الغريزية هي الإنسان. ومن الناس من يقول الروح عبارة عن أجسام نورانية سماوية لطيفة الجوهر على طبيعة ضوء الشمس، وهي لا تقبل التحلّل والتبدّل، ولا التفرق والتمزّق، فإذا تكوّن البدن وتمّ استعداده وهو المراد بقوله تعالى فَإِذا سَوَّيْتُهُ نفذت تلك الأجسام الشريفة السماوية الإلهية في داخل أعضاء البدن نفاذ النار في الفحم ونفاذ دهن السمسم في السمسم ونفاذ ماء الورد في الورد. ونفاذ تلك الأجسام في البدن هو المراد بقوله وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي. ثم إنّ البدن ما دام يبقى سليما قابلا لنفاذ تلك الأجسام الشريفة فيه بقي حيّا، فإذا تولّدت في البدن أخلاط غليظة منعت تلك الأخلاط لغلظها سريان تلك الأجسام الشريفة فيها فانفصلت عن هذا البدن ولزم الموت، فهذا مذهب قوي شريف يجب التأمّل فيه، فإنه سديد بالمطابقة بما ورد في الكتب الإلهية من أحوال الحياة والموت. وأما أنّ الإنسان جسم موجود خارج البدن فلا أعرف أحدا ذهب إليه.
وأمّا القسم الثاني وهو أنّ الإنسان عرض في البدن فهذا لا يقول به عاقل لأنه موصوف بالعلم والقدرة والتدبير والتصرّف، ومن كان كذلك كان جوهرا لا عرضا، بل الذي يمكن أن يقال به هو الإنسان بشرط أن يكون موصوفا بأعراض مخصوصة، وعلى هذا التقدير فللناس فيه أقوال: القول الأول إنّ العناصر إذا امتزجت وانكسرت سورة كلّ واحد منها بسورة الآخر حصلت كيفية معتدلة هي المزاج. ومراتب المزاج غير متناهية فبعضها إنسانية وبعضها فرسية، فالإنسانية عبارة عن أجسام موصوفة بكيفيات مخصوصة متولّدة عن امتزاجات أجزاء العناصر بمقدار مخصوص، وهذا قول جمهور الأطباء ومنكري النفس. ومن المعتزلة قول أبي الحسين. والقول الثاني إنّ الإنسان عبارة عن أجسام مخصوصة بشرط كونها موصوفة بصفة الحياة والعلم والقدرة، وهي أعراض قائمة بالجسم؛ وهؤلاء أنكروا الروح والنفس، وقالوا ليس هاهنا الأجسام مؤتلفة موصوفة بهذه الأعراض المخصوصة، وهذا مذهب أكثر شيوخ المعتزلة. والقول الثالث إنّ الإنسان عبارة عن أجسام موصوفة بأشكال مخصوصة بشرط أن تكون أيضا موصوفة بالحياة والعلم والقدرة.
والإنسان يمتاز عن سائر الحيوانات بشكل جسده وهذا مشكل لأنّ الملائكة قد يشتبهون بصور الناس، وفي صورة المسخ معنى الإنسانية حاصل مع أن هذه الصورة غير حاصلة، فبطل اعتبار الشّكل والصورة في حصول معنى الإنسانية طردا وعكسا.
وأما القسم الثالث وهو أن يقال الإنسان موجود ليس بجسم ولا جسماني، وهذا قول أكثر الإلهيين من الفلاسفة القائلين بفناء الجسم المثبتين للنفس معادا روحانيا وثوابا وعقابا روحانيا، وذهب إليه جماعة عظيمة من علماء المسلمين كالراغب والغزالي، ومن قدماء المعتزلة يعمر عباد السلمي، ومن الشيعة الملقب عندهم بالشيخ المفيد، ومن الكرّامية جماعة. واعلم أنّ أكثر العارفين الكاملين من أصحاب الرياضات وأرباب المكاشفات والمشاهدات مصرّون على هذا القول جازمون بهذا المذهب.
وأمّا القسم الرابع وهو أنّ الإنسان مركّب من تلك الثلاثة فنقول: اعلم أنّ القائلين بإثبات النفس فريقان. الفريق الأول وهم المحققون منهم قالوا إنّ الإنسان عبارة عن هذا الجوهر المخصوص وهذا البدن آلة منزله، ومنزله.
وعلى هذا التقدير فالإنسان غير موجود في داخل العالم ولا في خارجه وغير متصل بالعالم ولا منفصل عنه، ولكن له تعلقا بالبدن تعلق التدبير والتصرف، كما أنّ إله العالم لا تعلّق له بالعالم إلّا تعلّق التصرّف والتدبير.
والفريق الثاني الذين قالوا النفس إذا تعلّقت بالبدن اتحدت بالبدن فصارت النفس غير البدن والبدن غير النفس، ومجموعهما عند الاتحاد هو الإنسان، فإذا جاء وقت الموت بطل هذا الاتحاد وبقيت النفس وفسد البدن. فهذا جملة مذاهب الناس في الإنسان.
وكان ثابت بن قرّة يثبت النفس ويقول إنها متعلّقة بأجسام سماوية نورانية لطيفة غير قابلة للكون والفساد والتفرق والتمزق، وإنّ تلك الأجسام تكون سيّالة في البدن. وما دام يبقى ذلك السريان بقيت النفس مدبّرة للبدن، فإذا انفصلت تلك الأجسام اللطيفة عن جوهر البدن انقطع تعلّق النفس مدبرة للبدن، انتهى ما قال الإمام الرازي. وإن شئت زيادة التوضيح فارجع إلى التفسير الكبير.
وقال بعض الصوفية: الإنسان هو هذا الكون الجامع. وقال الشيخ الكبير في كتاب الفكوك: إنّ الإنسان الكامل الحقيقي هو البرزخ بين الوجوب والإمكان والمرآة الجامعة بين صفات القدم وأحكامه وبين صفات الحدثان، وهو الواسطة بين الحق والخلق، وبه وبمرتبته يصل فيض الحق والمدد الذي سبب بقاء ما سوى الحقّ إلى العالم كله علوا وسفلا، ولولاه من حيث برزخيته التي لا تغاير الطرفين لم يقبل شيء من العالم المدد الإلهي الوحداني لعدم المناسبة والارتباط، ولم يصل إليه كذا في شرح الفصوص للمولوي عبد الرحمن الجامي.
في الفصّ الأول ويجيء أيضا ذكره في لفظ الكلمة. وفي الإنسان الكامل حيث وقع من مؤلفاتي لفظ الإنسان الكامل فإنما أريد به محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم تأدّبا لمقامه الأعلى. وللإنسان الكامل ثلاثة برازخ وبعدها المقام المسمّى بالختام. البرزخ الأول يسمّى البداية وهو التحقق بالأسماء والصفات. والبرزخ الثاني يسمّى التوسّط وهو محك الرقائق الإنسانية بالحقائق الرحمانية، فإذا استوفى هذا المشهد علم سائر المتمكنات واطلع على ما يشاء من المغيبات. والبرزخ الثالث وهو معرفة التنوّع الحكمية في اختراع الأمور القدرية، ولا يزال الحق يخترق له العادات بها في ملكوت القدرة حتى يصير له خرق العوائد عادة في تلك الحكمة، فحينئذ يؤذن له بإبراز القدرة في ظاهر الأكوان. وإذا تمكّن من هذا البرزخ حلّ في المقام المسمّى بالختام، وليس بعد ذلك إلّا الكبرياء، وهي النهاية التي لا تدرك لها غاية. والناس في هذا المقام مختلفون فكامل وأكمل وفاضل وأفضل. وفي تعريفات السيّد الجرجاني: الإنسان الكامل هو الجامع لجميع العوالم الإلهية والكونية الكليّة والجزئية وهو كتاب جامع للكتب الإلهية والكونية فمن حيث روحه وعقله كتاب عقلي مسمّى بأمّ الكتاب. ومن حيث قلبه كتاب اللوح المحفوظ ومن حيث نفسه كتاب المحو والإثبات، فهو الصحف المكرّمة المرفوعة المطهرة التي لا يمسّها ولا يدرك أسرارها إلّا المطهّرون من الحجب الظلمانية. فنسبة العقل الأول إلى العالم الكبير وحقائقه بعينها نسبة الروح الإنساني إلى البدن وقواه، وأنّ النفس الكليّة قلب العالم الكبير، كما أنّ النفس الناطقة قلب الإنسان.
ولذلك يسمّى العالم بالإنسان الكبير انتهى.