Current Dictionary: All Dictionaries

Search results for: فجر

تُلْبِينُ

تُلْبِينُ:
بالضم ثم السكون، وكسر الباء الموحدة، وياء ساكنة، ونون: موضع في غوطة دمشق قال أحمد بن منير:
فالقصر فالمرج فالميدان فالشرف ال ... أعلى فسطرا فجرمانا فتلبين

تجريد الكلام

تجريد الكلام
للعلامة، المحقق، نصير الدين، أبي جعفر: محمد بن محمد الطوسي.
المتوفى: سنة اثنتين وسبعين وستمائة.
أوله: (أما بعد، حمد واجب الوجود... الخ).
قال: فإني مجيب إلى ما سئلت من: تحرير مسائل الكلام، وترتيبها على أبلغ النظام، مشيرا إلى غرر فرائد الاعتقاد، ونكت مسائل الاجتهاد، مما قادني الدليل إليه، وقوي اعتقادي عليه.
وسميته: (بتجريد العقائد).
وهو على: ستة مقاصد.
الأول: في الأمور العامة.
الثاني: في الجواهر والأعراض.
الثالث: في إثبات الصانع، وصفاته.
والرابع: في النبوة.
الخامس: في الإمامة.
السادس: في المعاد.
وهو: كتاب مشهور، اعتنى عليه الفحول، وتكلموا فيه بالرد والقبول.
له: شروح كثيرة، وحواش عليها.
فأول من شرحه:
جمال الدين: حسن بن يوسف بن مطهر الحلي، شيخ الشيعة.
المتوفى: سنة ست وعشرين وسبعمائة.
وهو شرح: بقال، أقول.
أوله: (الحمد لله الذي جعل الإنسان الكامل أعلم من الملك... الخ).
وشرحه:
شمس الدين: محمود بن عبد الرحمن بن أحمد الأصفهاني.
المتوفى: سنة ست وأربعين وسبعمائة.
وهو: الأصفهاني، المتأخر، المفسر.
أورد من المتن فصلا.
ثم شرحه.
أوله: (الحمد لله المتوحد بوجوب الوجود... الخ).
ذكر فيه: أن المتن لغاية إيجازه كالألغاز، فقرر قواعده، وبين مقاصده، ونبه على ما ورد عليه من الاعتراضات، خصوصا على مباحث الإمامة، فإنه قد عدل فيها عن سمت الاستقامة.
وسماه: (بتشييد القواعد، في شرح تجريد العقائد).
وقد اشتهر بين الطلاب: (بالشرح القديم).
وعليه حاشية عظيمة:
للعلامة، المحقق، السيد، الشريف: علي بن محمد الجرجاني.
المتوفى: سنة ست عشرة وثمانمائة.
وقد اشتهر هذا الكتاب بين علماء الروم: (بحاشية التجريد).
والتزموا تدريسه، بتعيين بعض السلاطين الماضية، ولذلك كثرت عليه: الحواشي، والتعليقات، منها:
حاشية: محيي الدين: محمد بن حسن السامسوني.
المتوفى: سنة تسع عشرة وتسعمائة.
وحاشية: شجاع الدين: إلياس الرومي.
المتوفى: سنة تسع وعشرين وتسعمائة.
وحاشية: سنان الدين: يوسف، المعروف: بعجم سنان.
المتوفى: مفتيا بأماسية.
كتبها ردا على: (حاشية ابن الخطيب).
وهي حاشية:
المولى: محمد بن إبراهيم، الشهير: بخطيب زاده.
المتوفى: سنة إحدى وتسعمائة.
أولها: (أما بعد، حمد من استحق الحمد لذاته وصفاته... الخ).
ذكر فيها: السلطان: بايزيد خان.
روي: أن المولى: خواجه زاده، لما طالع هذه الحاشية، أعني: (حاشية ابن الخطيب)، على (حاشية السيد)، وكان محل مطالعته في: بحث العقاقير، من تقسيم الموجودات، فقرأ عليه: الصاروخاني، فلم يعجبه، وقال: اتركوه، إذ قد علم حاله من مقاله، في هذا المقام.
ولما طالع (حاشية الجلال) على الشرح الجديد، أعجبه.
وذكر: أن المولى: لطفي قصد أن يزيف تلك الحاشية، ولما سمعه المولى المزبور، دعاه إلى ضيافة، وأبرم عليه بذكر بعض المواضع المردودة، وحلف بالله - سبحانه وتعالى - أن لا يتكدر عليه.
فذكر المولى: لطفي نبذا منها، فأجاب عنه، وألزم بحيث لا يشتبه على أحد، فقال المولى لطفي: إن تقريره لا يطابق تحريره.
ثم إنه فرغ عن رد كتابه، ثم إن المولى: المحشي حكم بزندقته، وإباحة دمه.
لما قتل قال: خلصت كتابي من يده.
ذكره بعض الأهالي في هامش: (كتاب الشقائق).
ومن الحواشي على (حاشية السيد الشريف) :
حاشية: المولى: ابن المعيد.
لخص فيه: (حاشية خطيب زاده).
ومنها:
حاشية: الفاضل: أحمد الطالشي، الجيلي.
أولها: (الحمد لله الذي تقدس كنه ذاته عن إدراك العقول... الخ).
وحاشية: المولى: أحمد بن موسى، الشهير: بالخيالي.
المتوفى: سنة سبعين وثمانمائة.
وهي تعليقة على الأوائل.
وحاشية: محيي الدين: محمد بن قاسم، الشهير: بأخوين.
المتوفى: سنة أربع وتسعمائة.
وحاشية: محمد بن محمود المغلوي، الوفائي.
المتوفى: سنة أربعين وتسعمائة.
وحاشية: حسام الدين: حسين بن عبد الرحمن التوقاتي.
المتوفى: سنة ست وعشرين وتسعمائة.
وحاشية: السيد، المولى: علي بن أمر الله، الشهير: بابن الحنائي.
المتوفى: سنة تسع وسبعين وتسعمائة.
فرغ منها: سنة 953.
وحاشية: عبد الرحمن، الشهير: بغزالي زاده.
وهي تعليقة على بعض المواضع.
وحاشية: خضر بن عبد الكريم.
المتوفى: سنة 999.
وحاشية: شجاع الدين الكوسج.
وحاشية: سليمان بن منصور الطوسي، المعروف: بشيخي.
أولها: (الحمد لله المتكلم بكلام ليس من جنس الحروف والأصوات... الخ).
علقها على (حاشية السيد)، و(حاشية ابن الخطيب) معا.
وأشار إلى قول الشارح: بقال الشارح، وإلى قول السيد: بقال الشريف، وإلى قول ابن الخطيب: بقوله.
حاشية: شاه محمد بن حرم.
المتوفى: سنة 978.
وحاشية: ابن البردعي.
وحاشية: المولى: أحمد بن مصطفى، الشهير: بطاشكبري زاده.
المتوفى: سنة اثنتين وستين وتسعمائة.
كتبها إلى: مباحث الماهية.
وجمع فيها: أقوال القوشي، والدواني، ومير: صدر الدين، وابن الخطيب.
وأداها بأخصر عبارة، ثم ذكر ما خطر له بباله في تحقيق المقام.
ومن الحواشي أيضا:
حاشية: محيي الدين: أحمد بن إبراهيم النحاس، الدمشقي.
علقها على: بحث الماهية.
وحاشية: شمس الدين: أحمد بن محمود، المعروف: بقاضي زاده، المفتي.
المتوفى: سنة ثمان وثمانين وتسعمائة.
علقها على: مبحث الماهية أيضا.
وحاشية: المولى: عبد الغني بن أمير شاه بن محمود.
المتوفى: سنة إحدى وتسعين وتسعمائة.
وحاشية:
للمولى: محمد، المعروف: بسباهي زاده.
المتوفى: سنة 997، سبع وتسعين وتسعمائة.
وحاشية: المولى: محمد بن عبد الكريم، المعروف: بزلف نكار.
المتوفى: سنة أربع وستين وتسعمائة.
ثم شرح: المولى، المحقق، علاء الدين: علي بن محمد، الشهير: بقوشجي.
المتوفى: سنة تسع وسبعين وثمانمائة.
شرحا لطيفا ممزوجا.
أوله: (خير الكلام حمد الملك العلام... الخ).
لخص فيه: فوائد الأقدمين أحسن تلخيص.
وأضاف إليها: نتائج فكره، مع تحرير سهل.
سوَّده: بكرمان.
وأهداه إلى: السلطان: أبي سعيد خان.
وقد اشتهر هذا الشرح: (بالشرح الجديد).
قال في ديباجته، بعد مدح الفن والمصنف: إن كتاب (التجريد) الذي صنفه المولى الأعظم، قدوة العلماء الراسخين، أسوة الحكماء المتألهين، نصير الحق والملة والدين، تصنيف مخزون بالعجائب، وتأليف مشحون بالغرائب، فهو وإن كان صغير الحجم، وجيز النظم، هو كثير العلم، جليل الشان، حسن النظام، مقبول الأئمة العظام، لم يظفر بمثله علماء الأعصار، مشتمل على: إشارات إلى مطالب هي الأمهات، مملوء بجواهر كلها كالفصوص، متضمن لبيانات معجزة، في عبارات موجزة - بيت -:
يــفجر ينبوع السلاسة من لفظه * ولكن معانيه لها السحر يسجد
وهو في الاشتهار، كالشمس في رابعة النهار، تداولته أيدي النظار، ثم إن كثيرا من الفضلاء، وجهوا نظرهم إلى شرح هذا الكتاب، ونشر معانيه.
ومن تلك الشروح، وألطفها مسلكا:
هو الذي صنفه: العالم الرباني، مولانا، شمس الدين الأصبهاني.
فإنه بقدر طاقته، حام حول مقاصده، وتلقاه الفضلاء بحسن القبول.
حتى إن: السيد الفاضل، قد علق عليه: حواشي، تشتمل على: تحقيقات رائقة، وتدقيقات شائقة، تنفرج من ينابيع تحريراته أنهار الحقائق، وتنحدر من علو تقريراته سيول الدقائق، ومع ذلك كان كثير من مخفيات رموز ذلك الكتاب باقيا على حاله، بل كان الكتاب على ما كان كونه كنزا مخفيا، وسرا مطويا، كدرة لم تثقب، لأنه كتاب غريب في صنعته، يضاهي الألغاز لغاية إيجازه، ويحاكي الإعجاز في إظهار المقصود، وإبرازه.
وإني بعد أن صرفت في الكشف عن حقائق هذا العلم شطرا من عمري، ووقفت على الفحص عن دقائقه قدرا من دهري، فما من كتاب في هذا العلم إلا تصفحت سينه وشينه، بعثني - أبت نفسي - أن يبقي تلك البدائع تحت غطاء من الإبهام، فرأيت أن أشرحه شرحا يذلل صعابه، ويكشف نقابه، وأضيف إليه فوائد التقطتها من سار الكتب، وزوائد استنبطتها بفكري القاصر، فتصديت بما عنيت، فجاء - بحمد الله تعالى - كما يحبه الأودّاء، لا مطولا فيمل، ولا مختصرا فيخل، مع تقرير لقواعده، وتحرير لمعاقده، وتفسير لمقاصده. انتهى ملخصا.
وإنما أوردته، ليعلم قدر المتن والماتن، وفضل الشرح والشارح.
ثم إن: الفاضل، العلامة، المحقق، جلال الدين: محمد ابن أسعد الصديقي، الدواني.
المتوفى: سنة سبع وتسعمائة.
كتب: حاشية لطيفة على (الشرح الجديد).
حقق فيها وأجاد.
وقد اشتهرت هذه بين الطلاب: (بالحاشية القديمة الجلالية).
ثم كتب: المولى، المحقق، مير، صدر الدين: محمد الشيرازي.
المتوفى: في حدود سنة ثلاثين وتسعمائة.
حاشية لطيفة على (الشرح الجديد) أيضا.
وأهداها: إلى السلطان: بايزيد خان، مع المولى: ابن المؤيد.
وفيها: اعتراضات على الجلال.
ثم كتب: المولى: الجلال الدواني.
حاشية أخرى.
ردا على (حاشية الصدر)، وجوابا على اعتراضاته.
وتعرف هذه: (بالحاشية الجديدة الجلالية).
ثم كتب: العلامة، الصدر.
(حاشية ثانية).
ردا على (حاشية الجلال)، وجوابا عن اعتراضاته.
وأول هذه الحاشية: (صدر كلام أرباب التجريد... الخ).
ذكر فيه: أنه قد يقع لبعض أجلة الناس، فيما كتبه على الشرح اشتباه، والتباس، وأن بعضا من ضعفاء الطلبة، ينظر إلى من يقول لجلالة شأنه، ولا ينظر إلى ما يقول.
فكتب ثانيا:
حاشية محققة: لما في الشرح، والحاشية.
بما لا مزيد عليه.
وأورد فيها: نبذا من توفيقات ولده: منصور، سيما في مقصد الجواهر، فإن له فيها ما يجلو النواظر.
وصدر خطبته باسم السلطان: بايزيد خان.
ثم كتب: العلامة الدواني:
(حاشية ثالثة).
ردا، وجوابا، عن الصدر.
وتعرف هذه: (بالحاشية الأَجَدّ الجلالية).
ويقال لهذه الحواشي: (الطبقات الصدرية، والجلالية).
ولما مات: العلامة الصدر، وفات عنه إعادة الجواب.
كتب ولده: الفاضل، مير، غياث الدين: منصور الحسيني.
المتوفى: سنة 949، تسع وأربعين وتسعمائة.
حاشية: ردا على الجلال.
وهذا صدر خطبة ما كتبه:
ربِّ يسر وتمم يا غياث المستغيثين، قد كشف جمالك على الأعالي، كنه حقائق المعالي، وحجب جلالك الدواني، عن فهم دقائق المعاني، فأسألك التجريد عن أغشية الجلال، بالشوق إلى مطالعة الجمال، وبعدُ: لما كانت العلوم الحقيقية في هذه الأزمنة، غير ممنوع عن غير أهلها، أكب عليه القواصي والدواني، فصارت مشوشة، معلولة، مزخرفة، مدخولة، وعاد كما قيل من كثرة الجدل والخلاف، كعلم الخلاف، غير مثمر، كالخلاف.
ولهذا ما ينال العالم به من الجاهل مزيدا، ولا الشقي به يصير سعيدا، سيما ما في تجريد الكلام، فإنه قد اشتغل به بعض الأعلام، وغشاه بأمثال ما جرده المصنف عنه.
وسماه: (تحقيق المقام).
ولما اعتقد بعض الطلبة صحة رقمه، رأيت أن أنبه على ما نبذ من مزال قدمه، فإن الإشارة إلى كلها، بل إلى جلها، يفضي إلى إسهاب على الأصحاب، فعلقت على ما استقر عليه رأيه في هذا الزمان، بعد تغييرات كثيرة: حواشي، اقتصرت فيها على الإشارة إلى فساد كلامه، والتنبيه على مزال أقدامه، وأردت أن أسمي هذه الحواشي: (بتجريد الغواشي). انتهى ملخصا.
ومن الحواشي على (الشرح الجديد)، و(الحاشية القديمة) :
حاشية: المولى، المحقق: ميرزا جان حبيب الله الشيرازي.
المتوفى: سنة أربع وتسعين وتسعمائة.
وهي حاشية مقبولة، تداولتها أيدي الطلاب.
وبلغ إلى: مباحث الجواهر والأعراض.
وحاشية: العلامة، كمال الدين: حسين بن عبد الحق الإربيلي، الإلهي.
المتوفى: في حدود سنة أربعين وتسعمائة.
وهي على الشرح فقط إلى: مبحث العلة، والمعلول.
لكنها تشتمل على: أقوال المحققين، كالدواني، وأمثاله.
أولها: (أحسن كلام نزل من سماء التوحيد... الخ).
يقال: هو أول من علق على (الشرح الجديد).
وحاشية: مير، فخر الدين: محمد بن الحسن الحسيني، الأسترابادي.
إلى آخر المقصد الرابع.
أولها: (الحمد لله الغفور الرحيم... الخ).
وحاشية: المدقق: عبد الله النخجواني، الشهير: بمير مرتاض.
علقها على (الشرح)، و(الحاشية الجديدة).
أولها: (حمدا لمن لا كلام لنا في وجوده... الخ).
وحاشية: المولى، المحقق: حسن جلبي بن الفناري.
المتوفى: سنة 886.
وحاشية: المولى: محمد بن الحاج حسن.
المتوفى: سنة إحدى عشرة وتسعمائة.
جعلها محاكمة بين: الجلال، ومير صدر الدين.
وحاشية: العلامة، شمس الدين: محمد الخفري.
وهي على: نمط: (المحاكمات، بين الطبقات).
وحاشية: حافظ الدين: محمد بن أحمد العجم.
المتوفى: سنة سبع وخمسين وتسعمائة.
أورد فيها: الردود، والاعتراضات على الشراح، ولم يغادر صغيرة، ولا كبيرة، مما يتعلق به.
وسماه: (محاكمات التجريد).
ومن شروح (التجريد) :
شرح: أبي عمرو: أحمد بن محمد المصري.
المتوفى: سنة سبع وخمسين وسبعمائة.
سماه: (المفيد).
وشرح: العلامة، أكمل الدين: محمد بن محمود البابرتي.
المتوفى: سنة ست وثمانين وسبعمائة.
وهو شرح: بالقول.
وشرح: الفاضل: خضر شاه بن عبد اللطيف المنتشوي.
المتوفى: سنة ثلاث وخمسين وثمانمائة.
وشرح: قوام الدين: يوسف بن حسن، المعروف: بقاضي بغداد.
المتوفى: سنة اثنتين وعشرين وتسعمائة.
ومنها: (تسديد النقائد، في شرح تجريد العقائد).
ذكر الأصل، ثم الشرح، وميز لفظ الأصل والشرح بالمداد الأحمر.

تُبَّت

تُبَّت:
بالضم، وكان الزمخشري يقوله بكسر ثانيه وبعض يقوله بفتح ثانيه، ورواه أبو بكر محمد بن موسى بفتح أوله وضم ثانيه مشدد في الروايات كلها:
وهو بلد بأرض الترك، قيل: هي في الإقليم الرابع المتاخم لبلاد الهند، طولها من جهة المغرب مائة وثلاثون درجة، وعرضها سبع وثلاثون درجة، وقرأت في بعض الكتب ان تبّت مملكة متاخمة لمملكة الصين ومتاخمة من إحدى جهاتها لأرض الهند ومن جهة المشرق لبلاد الهياطلة ومن جهة المغرب لبلاد الترك، ولهم مدن وعمائر كثيرة ذوات سعة وقوّة، ولأهلها حضر وبدو، وبداويهم ترك لا تدرك كثرة ولا يقوم لهم أحد من بوادي الأتراك، وهم معظمون في أجناس الترك، لأن الملك كان فيهم قديما، وعند أحبارهم أن الملك سيعود إليهم.
وفي بلاد التبّت خواصّ في هوائها ومائها وسهلها وجبلها ولا يزال الإنسان بها ضاحكا مستبشرا لا تعرض له الأحزان والأخطار والهموم والغموم، يتساوى في ذلك شيوخهم وكهولهم وشبّانهم، ولا تحصى عجائب ثمارها وزهرها وسروجها وأنهارها، وهو بلد تقوى فيه طبيعة الدم على الحيوان الناطق وغيره، وفي أهله رقّة طبع وبشاشة وأريحيّة تبعث على كثرة استعمال الملاهي وأنواع الرّقص، حتى إن الميت إذا مات لا يداخل أهله كثير الحزن كما يلحق غيرهم، ولهم تحنّن بعضهم على بعض، والتبسم فيهم عامّ، حتى إنه ليظهر في وجوه بهائمهم، وإنما سمّيت تبّت ممن ثبّت فيها وربّث من رجال حمير، ثم أبدلت الثاء تاء لأن الثاء ليست في لغة العجم، وكان من حديث ذلك أن تبّع الأقرن سار من اليمن حتى عبر نهر جيحون وطوى مدينة بخارى وأتى سمرقند، وهي خراب، فبناها وأقام عليها، ثم سار نحو الصين في بلاد الترك شهرا حتى أتى بلادا واسعة كثيرة المياه والكلإ فابتنى هناك مدينة عظيمة وأسكن فيها ثلاثين ألفا من أصحابه ممن لم يستطع السير معه إلى الصين وسمّاها تبّت، وقد افتخر دعبل بن علي الخزاعي بذلك في قصيدته التي عارض بها الكميت فقال:
وهم كتبوا الكتاب بباب مرو، ... وباب الصين كانوا الكاتبينا
وهم سموا قديما سمرقندا، ... وهم غرسوا هناك التّبّتينا
وأهلها فيما زعم بعضهم على زيّ العرب إلى هذه الغاية، ولهم فروسيّة وبأس شديد، وقهروا جميع من حولهم من أصناف الترك، وكانوا قديما يسمّون كلّ من ملك عليهم تبّعا اقتداء بأولهم، ثم ضرب الدهر ضربه فتغيّرت هيئتهم ولغتهم إلى ما جاورهم من الترك فسموا ملوكهم بخاقان، والأرض التي بها ظباء المسك التّبّتي والصيني واحدة متصلة وإنما فضل التبتي على الصيني لأمرين: أحدهما أن ظباء التبت ترعى سنبل الطيب وأنواع الأفاويه وظباء الصين ترعى الحشيش، والأمر الآخر: أن أهل التبت لا يعرضون لإخراج المسك من نوافجه، وأهل الصين يخرجونه من النوافج فيتطرّق عليه الغش بالدم وغيره، والصيني يقطع به مسافة طويلة في البحر فتصل إليه الأنداء البحرية فتفسده، وإن سلم المسك التبتي من الغش وأودع في البراني الزجاج وأحكم عفاصها ورد إلى بلاد الإسلام من فارس وعمان وهو جيد بالغ، وللمسك حال ينقص خاصيّته، فلذلك يتفاضل بعضه على بعض، وذلك أنه لا فرق بين غزلاننا وبين غزلان المسك في الصورة ولا الشكل ولا اللون ولا القرون وإنما الفارق بينهما بأنياب لها كأنياب الفيلة، فإن لكل ظبي نابين خارجين من الفكّين منتصبين نحو الشبر أو أقل أو أكثر، فينصب لها في بلاد الصين وتبت الحبائل والشّرك والشباك فيصطادونها وربما رموها بالسهام فيصرعونها ثم يقطعون عنها نوافجها والدم في سررها خام لم يبلغ الإنضاج، فيكون لرائحته زهوكة تبقى زمانا حتى تزول، وسبيل ذلك سبيل الثمار إذا قطعت قبل النّضج فإنها تكون ناقصة الطعم والرائحة، وأجود المسك وأخلصه ما ألقاه الغزال من تلقاء نفسه، وذلك أن الطبيعة تدفع سواد الدم إلى سرّته فإذا استحكم لون الدم فيها ونضج آذاه ذلك وأحدث له في سرّته حكة فيندفع إلى أحد الصخور الحادّة فيحتكّ به، فيلتذّ بذلك، فينــفجر ويسيل على تلك الأحجار كانفجار الجراح والدماميل إذا نضجت، فيجد الغزال بخروج ذلك لذة، حتى إذا فرغ ما في نافجته، وهي سرّته، وهي لفظة فارسية، اندملت وعادت فدفعت إليه موادّ من الدّم فتجتمع ثانية كما كانت أولا، فتخرج رجال التّبت فيتبعون مراعيها بين تلك الأحجار والجبال فيجدون الدم قد جفّ على تلك الصخور وقد أمكن الإنضاج، فيأخذونه ويودعونه نوافج معهم، فذلك أفضل المسك وأفخره، فذلك الذي تستعمله ملوكهم ويتهادونه بينهم وتحمله التجار في النادر من بلادهم. ولتبّت مدن كثيرة، وينسبون مسك كل مدينة إليها، ويقال: إن وادي النمل الذي مرّ به سليمان بن داود، عليه السلام، خلف بلاد التّبّت وبه معدن الكبريت الأحمر، قالوا: وبالتبّت جبل يقال له جبل السّمّ، إذا مرّ به أحد تضيق نفسه فمنهم من يموت ومنهم من يثقل لسانه.

آبِلُ القَمْح

وآبِلُ القَمْح:
قرية من نواحي بانياس من أعمال دمشق بين دمشق والساحل. وآبل أيضا، آبل السّوق: قرية كبيرة في غوطة دمشق، من ناحية الوادي، ينسب إليها أبو طاهر الحسين بن محمد بن الحسين بن عامر بن احمد يعرف بابن خراشة الأنصاري الخزرجي المقري الآبلي، إمام جامع دمشق، قرأ القرآن على أبي المظفّر الفتح بن برهان الأصبهاني وأقرانه، وروى عن أبي علي الحسين بن ابراهيم بن جابر، يعرف بابن أبي الزّمزم الفرائضي، وأبي بكر عبد الله بن محمد بن عبد الله بن هلال الحنّائي، واحمد بن محمد المؤذّن أبي القاسم، وأبي بكر الميانجي، وأبي عبد الله محمد بن عبد الله بن ذكوان، وأبي همّام محمد بن ابراهيم بن عبد الله الحافظ، وروى عنه أبو عبد الله بن أبي الحديد، ومحمد ابن أحمد بن أبي الصّفر الأنباري، وأبو سعد السّمّان، وأبو محمد عبد العزيز الكتّاني، وقال: توفي شيخنا أبو طاهر الآبلي في سابع عشر ربيع الآخر سنة 428 وكان ثقة نبيلا مأمونا. وقال أحمد بن منير:
حيّ الديار على علياء جيرون، ... مهوى الهوى ومغاني الخرّد العين
مراد لهوي، إذ كفيّ مصرّفة ... أعنّة العيش في فتح الميادين
فالنّير بين، فمقرى، فالسرير، فخم ... رايا، فجوّ حواشي جسر جسرين
فالقصر، فالمرج، فالميدان، فالشّرف ال ... أعلى، فسطرا، فجرنان، فقلبين
فالماطرون، فداريّا، فجارتها ... فآبل، فمغاني دير قانون
تلك المنازل، لا وادي الأراك، ولا ... رمل المصلّى، ولا أثلاث يبرين
وآبل أيضا من قرى حمص من جهة القبلة، بينها وبين حمص نحو ميلين.

بَنَارِقُ

بَنَارِقُ:
بالفتح، وكسر الراء، وقاف: قرية بين بغداد والنّعمانية مقابل دير قنّى من أعمال نهر مارى على دجلة، وهي الآن خراب، وكان السبب في خرابها مداومة العساكر السلجوقية ومرورهم عليها ونزولهم فيها، حدثني صديقنا أبو بكر عتيف بن أبي بكر مظفر بن علي البنارقي المقري النحوي قال:
حدثني جدي لأمي أبو الحسن دنينة وزوجته مباركة البنارقيّان وجماعة كثيرة من أهل قريتنا بنارق أنه لما استمرّ تطرّق العساكر لقريتنا أجمعنا على الرحيل عنها وإخلائها، ونهيّأ لذلك إلى الليل، وكان قد بلغنا قرب العساكر منا، فلما كان الليل عبرنا دجلة لنجيء إلى دير قنّى لأنه ذو سور منيع إلى أن تتجاوزنا العساكر، ثم نمضي إلى حيث نريد من البلاد، وقد استصحبنا ما خف من أمتعتنا على أكتافنا ودوابّنا، فتأمّلنا فإذا نيران عظيمة ومشاعل جمّة ملء البريّة، فظنناها مشاعل العساكر، فندمنا وقلنا: ما صنعنا شيئا، لو أقمنا بقريتنا كان أرفق لنا لأنه كان يمكننا أن نخفي ما معنا هناك، فالآن قد جئناهم بأموالنا وسلّمناها إليهم بأيدينا، فبينما نحن نتشاور وإذ تلك النيران قد دهمتنا وغشيتنا، فإذا هي سائرة بنفسها لا نرى لها حاملا، وسمعنا من خلالها أصواتا كالنياحة بأشجى صوت يقول:
فلا بثقهم ينسدّ ولا نهرهم يجري، ... وخلّوا منازلهم وساروا مع الــفجر [1]
وهم ملحّون في موضعين، فعلمنا أنهم الجنّ، قال:
وكان الأمر كما ذكرنا، فإن النهروان وأنهارا كثيرة فسدت ولم تتفرّغ الملوك لإصلاحها، فخربت البلاد إلى الآن، قال: وبتنا بدير قنّى ثم تفرّقنا في البلاد، فمنا من قصد بغداد ومنا من قصد واسط ومنا من استوطن غيرهما، وكان ذلك في حدود سنة 545.

أَشَيٌّ

أَشَيٌّ:
بالضم ثم الفتح، والياء مشددة، قال أبو عبيد السكوني: من أراد اليمامة من النّباج سار إلى القريتين ثم خرج منها الى أُشيّ، وهو لعدي الرّباب، وقيل: هو للأحمال من بلعدوية، وقال غيره:
أشيّ: موضع بالوشم، والوشم: واد باليمامة فيه نخل، وهو تصغير الأشاء وهو صغار النخل الواحدة أشاءة، وقال زياد بن منقذ التميمي أخو المرّار يذكره:
لا حبّذا أنت يا صنعاء من بلد، ... ولا شعوب هوى منّي ولا نقم
وحبّذا، حين تمسي الريح باردة، ... وادي أشيّ وفتيان به هضم
الواسعون، إذا ما جرّ غيرهم ... على العشيرة، والكافون ما حرموا والمطعمون، إذا هبّت شآمية، ... وباكر الحيّ في صرّادها صرم
لم ألق بعدهم حيّا، فأخبرهم، ... إلا يزيدهم حبّا إليّ هم
وهي قصيدة شاعر في اختيار أبي تمام، أنا أذكرها بمشيئة الله وتوفيقه في صنعاء، وقال عبدة بن الطبيب هذه الأبيات:
إن كنت تجهل مسعاتي، فقد علمت ... بنو الحويرث مسعاتي وتكراري
والحيّ يوم أشيّ، إذ ألمّ بهم ... يوم من الدهر، إن الدهر مرّار
لولا يجودة والحيّ الذين بها، ... أمسى المزالف لا تذكو بها نار
والمزالف ما دنا من النار، قال نصر بن حمّاد:
الأشاءة، همزته منقلبة عن ياء لأنّ تصغيره أشيّ، بلفظ اسم هذا الموضع، وقد خالفه سيبويه في ذلك، وحكينا كلام أبي الفتح بن جنّي في ذلك في أشاءة ونتبعه بحكاية كلامه في أشيّ ههنا، قال: قال لي شيخنا أبو عليّ: قد ذهب قوم إلى أنّ أشياء من لفظ أشيّ هذا، فهي على هذا فعلاء لا أفعال ولا أفعلاء ولا لفعاء، ولامه مجهولة وهي تحتمل الحرفين الهمزة والياء كأنها أغلب على اللام، ولا يجوز على هذا أن يكون أشيّ من لفظ وشئت، بهمزة لامه، لانضمامها كأجوه وأقنة لقولهم أشياء بالهمز، ولو كان منه لوجب وشياء لانفتاح الهمزة، ولا تقيس على أحد وأناة لقلّته، وينبغي لأشيّ أن يكون مصروفا فإن ظاهر أمره أن يكون فعيلا، وفعيل أبدا مصروف عربيّا كان أو عجميّا، وقد روي أشيّ هذا غير مصروف، ولا أدفع أن يكون هذا جائزا فيه وهو أن يكون تحقير أفعل من لفظ شويت حقّر وهو صفة، فيكون أصله أشوى كأحوى حقّر فحذفت لامه كحذف لام أحوى، وأما قياس قول عيسى فينبغي أن يصرف وإن كان تحقير أفعل صفة، ولو كان من لفظ شويت لجاز فيه أيضا أشيو كما جاز من أحا أحيو، غير أنّ ما فيه من علمية يسجله فيحظر عليه ما يجوز فيه في حال إشاعته وتنكيره، وقد يجوز عندي في أشيّ هذا أن يكون من لفظ أشاءة، فاؤه ولامه همزتان، وعينه شين، فيكون بناؤه من أشأ، وإذا كان كذلك احتمل أن يكون مكبّره فعلا كأنه أشأ أحد أمثلة الأسماء الثلاثيّة العشرة، غير أنه حقّر فصار تقديره أشيء كأشيع ثم خفّفت همزته بأن أبدلت ياء وأدغمت فيها ياء التحقير فصار أشيّ كقولكم في تحقيركم مع تخفيف الهمزة كميّ، وقد يجوز أن يكون أشيّ من قوله وادي أشيّ تحقير أشيأ أفعل من لفظ شأوت أو شأيت، حقّر فصار أشيّء كأعيم ثم خففت همزته فأبدلت ياء، وأدغمت ياء التحقير فيها كقولك في تخفيف تحقير أرؤس أريّس فاجتمعت معك ثلاث ياءات: ياء التحقير، والتي بعدها بدلا من الهمزة، ولام الفعل فصارت إلى أشيّ. ومن حذف من آخر تحقير أحوى فقال: أحيّ مصروفا أو غير مصروف لم يحذف من هذه الياءات الثلاث في أشيّ شيئا وذلك أنه ليس معه في الحقيقة ثلاث ياءات. ألا تعلم أن الياء الوسطى إنما هي همزة مخففة، والهمزة المخففة عندهم في حكم المحقّقة؟ فكما لا يلزم الحذف مع تخفيف الهمزة في أشيّ من قولك هذا أشيّ ورأيت أشيّا كذلك لا يحذف في أشيّ، أو لا تعلم أنك إن حقّرت براء اسم رجل في قياس قول يونس في رد المحذوف ثم خففت الهمزة لزمك أن تقول هذا بريّ فتجمع بين ثلاث ياءات ولا تحذف منهن شيئا من حيث كانت الوسطى منهن همزة مخففة، وقياس قول العرب في تخفيف رؤيّا رؤيا، وقول الخليل في تخفيف فعل من أويت أوى، وقول أبي عثمان في تخفيف الهمزتين معا من مثال افعوعلت من وأيت إوّاويت أن تحذف حرفا من آخر أشيّ هذا، فتقول: أشيّ مصروفا أو غير مصروف على خلاف القوم فيه فجرى عليه غير اللازم مجرى اللازم، وقد يجوز في أشيّ أيضا أن يكون تحقير أشأى وهو فعلى كأرطى من لفظ أشأة حقر كأريط فصار أشيّئا ثم أبدلت همزته للتخفيف ياء فصار أشيّيا، واصرفه في هذا البتّة كما تصرف أريطا معرفة ونكرة ولا تحذف هنا ياء كما لم تحذفها فيما قبل لأنّ الطريقين واحدة، لكن من أجاز الحذف على إجراء غير اللازم مجرى اللازم أجاز الحذف هنا أيضا، قال:
وفيه ما هو أكثر من هذا ولو كانت مسألة مفردة لوجب بسطها، وفي هذا ههنا كفاية إن شاء الله تعالى.

البِشْرُ

البِشْرُ:
بكسر أوله ثم السكون، وهو في الأصل حسن الملقى وطلاقة الوجه: وهو اسم جبل يمتد من عرض إلى الفرات من أرض الشام من جهة البادية، وفيه أربعة معادن: معدن القار والمغرة والطين الذي يعمل منه البواتق التي يسبك فيها الحديد، والرمل الذي في حلب يعمل منه الزجاج، وهو رمل أبيض كالاسفيداج، وهو من منازل بني تغلب بن وائل، قال عبيد الله بن قيس الرّقيّات:
أضحت رقيّة، دونها البشر ... فالرّقّة السوداء فالغمر
بل ليت شعري! كيف مرّ بها ... وبأهلها الأيام والدهر
قال أبو المنذر هشام: سمي بالبشر بن هلال بن عقبة رجل من النمر بن قاسط، وكان خفيرا لفارس قتله خالد بن الوليد في طريقه إلى الشام، وكان من حديث ذلك أن خالد بن الوليد لما وقع بالفرس بأرض العراق وكاتبه أبو بكر بالمسير إلى الشام نجدة لأبي عبيدة، سار إلى عين التمر، فتجمعت قبائل من ربيعة نصارى
لحرب خالد ومنعه من النفوذ، وكان الرئيس عليهم عقّة بن أبي عقّة قيس بن البشر بن هلال بن البشر بن قيس بن زهير بن عقّة بن جشم بن هلال بن ربيعة بن زيد مناة بن عوف بن سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النمر بن قاسط، فأوقع بهم خالد وأسر عقّة وقتله وصلبه، فغضبت له ربيعة وتجمعت إلى الهذيل بن عمران، فنهاهم حرقوص بن النعمان عن مكاشفته فعصوه، فرجع إلى أهله وهو يقول:
ألا يا اسقياني قبل جيش أبي بكر، ... لعلّ منايانا قريب ولا ندري
ألا يا اسقياني بالزّجاج، وكرّرا ... علينا كميت اللّون صافية تجري
أظنّ خيول المسلمين وخالدا ... ستطرقكم، عند الصباح، على البشر
فهل لكم بالسّير قبل قتالهم، ... وقبل خروج المعصرات من الخدر
أريني سلاحي يا أميمة، إنّني ... أخاف بيات القوم، أو مطلع الــفجر
فيقال: إن خالدا طرقهم وأعجلهم عن أخذ السلاح، وضرب عنق حرقوص فوقع رأسه في جفنة الخمر، والله أعلم. وكان بنو تغلب قد قتلت عمير بن الحباب السّلمي، فاتفق أن قدم الأخطل على عبد الملك بن مروان، والجحّاف بن حكيم السلمي جالس عنده، فأنشده:
ألا سائل الجحّاف: هل هو ثائر ... بقتلى أصيبت من سليم وعامر
فخرج الجحاف مغضبا يجر مطرفه، فقال عبد الملك للأخطل: ويحك أغضبته وأخلق به أن يجلب عليك وعلى قومك شرّا. فكتب الجحاف عهدا لنفسه من عبد الملك ودعا قومه للخروج معه، فلما حصل بالبشر قال لقومه: قصّتي كذا فقاتلوا عن أحسابكم أو موتوا. فأغاروا على بني تغلب بالبشر وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، ثم قال الجحاف يجيب الأخطل:
أيا مالك هل لمتني، إذ حضضتني ... على الثأر، أم هل لامني فيك لائمي؟
متى تدعني أخرى أجبك بمثلها، ... وأنت امرؤ بالحق لست بقائم
فقدم الأخطل على عبد الملك فلما مثل بين يديه أنشأ يقول:
لقد أوقع الجحّاف بالبشر وقعة ... إلى الله منها المشتكى والمعوّل
فإن لم تغيّرها قريش بعدلها ... يكن، عن قريش، مستماز ومرحل
فقال له عبد الملك: إلى أين يا ابن النصرانية؟ فقال:
إلى النار، فتبسم عبد الملك وقال: أولى لك، لو قلت غير ذلك لقتلتك. والبشر أيضا: جبل في أطراف نجد من جهة الشام، قال عطارد بن قرّان أحد اللصوص:
ولما رأيت البشر أعرض وانثنت ... لأعرافهم، من دون نجد، مناكب
كتمت الهوى من رهبة أن يلومني ... رفيقاي، وانهلّت دموع سواكب
وفي القلب من أروى هوى كلما نأت، ... وقد جعلت دارا بأروى تجانب
وكان الصّمّة بن عبد الله القشيري يهوى ابنة عمه، فتماكس أبوه وعمه في المهر ولجّ كل واحد منهما، فتركها الصّمّة وانصرف إلى الشام وكتب نفسه في
الجند وقال:
ألا يا خليليّ اللذين تواصيا ... بلومي، إلّا أن أطيع وأتبعا
قفا ودّعا نجدا ومن حلّ بالحمى، ... وقلّ لنجد عندنا أن تودّعا
ولما رأيت البشر قد حال دونها، ... وحالت بنات الشّوق يحننّ نزّعا
تلفّتّ نحو الحيّ، حتى وجدتني ... وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا
وأذكر أيام الحمى ثم أنثني ... على كبدي من خشية أن تصدّعا
وليست عشيّات الحمى برواجع ... عليك، ولكن خلّ عينيك تدمعا
وقال عبد الله بن الصّمّة:
ولما رأينا قلّة البشر أعرضت ... لنا، وطوال الرمل غيّبها البعد
وأعرض ركن من سواج، كأنه ... لعينيك في آل الضّحى، فرس ورد
أصاب سقيم القلب تتييم ما به، ... فخرّ ولم يملك أخو القوّة الجلد

بُسيَانُ

بُسيَانُ:
بالضم، قال الأصمعي: بسّ وبسيان جبلان في أرض بني جشم ونصر ابني معاوية بن بكر بن هوازن، قال ذو الرمة:
سرت من منى، جنح الظلام، فأصبحت ... ببسيان أيديها مع الــفجر تلمع
وحكى أبو بكر محمد بن موسى ثم وجدته في كتاب نصر أن بسيان موضع فيه برك وأنهار على أحد وعشرين ميلا من الشّبيكة بينها وبين وجرة، وكانت بها وقعة مشهورة، قال المساور بن هند:
ونحن قتلنا ابني طميّة بالعصا، ... ونحن قتلنا يوم بسيان مسهرا
وأنشد السكري عن أبي محلّم لسليمان بن عياش وكان لصّا:
يقرّ بعيني أن أرى بين عصبة ... عراقيّة، قد جزّ عنها كنابها،
وأن أسمع الطّرّاق يلقون رفقة ... مخيّمة بالسبي، ضاعت ركابها
أتيح لها بالصّحن، بين عنيزة ... وبسيان، أطلاس جرود ثيابها
ذئاب تعاوت من سليم وعامر ... وعبس، وما يلقى هناك ذيابها
ألا بأبي أهل العراق وربحهم ... إذا فتّشت بعد الطّراد عيابها
وقال امرؤ القيس يصف سحابا:
على قطن بالشّيم أيمن صوبه، ... وأيسره على الستار فيذبل
وألقى ببسيان مع الليل بركه ... فأنزل منه العصم من كل منزل

بابُ الطَّاق

بابُ الطَّاق:
محلة كبيرة ببغداد بالجانب الشرقي، تعرف بطاق أسماء، وقد ذكرت في موضعها، واجتاز عبد الله بن طاهر بن فرأى قمرية تنوح فأمر بشرائها وإطلاقها، فامتنع صاحبها أن يبيعها بأقلّ من خمسمائة درهم، فاشتراها بذلك وأطلقها، وأنشد يقول:
ناحت مطوّقة بباب الطاق، ... فجرت سوابق دمعي المهراق
كانت تغرّد بالأراك، وربما ... كانت تغرّد في فروع الساق
فرمى الفراق بها العراق، فأصبحت ... بعد الأراك تنوح في الأسواق
فجعت بأفرخها فأسبل دمعها، ... إن الدموع تبوح بالمشتاق
تعس الفراق وبتّ حبل وتينه، ... وسقاه من سمّ الأساود ساق
ماذا أراد بقصده قمريّة، ... لم تدر ما بغداد في الآفاق؟
بي مثل ما بك يا حمامة، فاسألي ... من فكّ أمرك أن يحلّ وثاقي
وقد روي أن صاحب القصة في إطلاق القمرية هو اليمان بن أبي اليمان البندنيجي، الشاعر الضرير مصنف كتاب التفقيه، وقد ذكرته في كتاب معجم الأدباء.

أَشْيَحُ

أَشْيَحُ:
بالفتح ثم السكون، وياء مفتوحة، وحاء مهملة:
اسم حصن منيع عال جدّا في جبال اليمن، قال عمارة اليمني: حدثني المقرئ سلمان بن ياسين وهو من أصحاب أبي حنيفة، قال: بتّ في حصن أشيح ليالي كثيرة وأنا عند الــفجر أرى الشمس تطلع من المشرق وليس لها من النور شيء، وإذا نظرت إلى تهامة رأيت عليها من الليل ضبابا وطخاء يمنع الماشي من أن يعرف صاحبه من قريب، وكنت أظنّ ذلك من السحاب والبخار وإذا هو عقابيل الليل فأقسمت أن لا أصلي الصّبح إلّا على مذهب الشافعي لأنّ أصحاب أبي حنيفة يؤخّرون صلاة الصّبح إلى أن تكاد الشمس أن تطلع على وهاد تهامة، وما ذاك إلّا لأنّ المشرق مكشوف لأشيح من الجبال لعلوّ ذروته.
وقال أبو عبد الله الحسين بن قاسم الزبيدي يمدح الراعي سبأ بن أحمد الصّلحي، وكان منزله بهذا الحصن:
إن ضامك الدهر فاستعصم بأشيحه، ... أو نابك الدهر فاستمطر بنان سبا
ما جاءه طالب يبغي مواهبه، ... إلّا وأزمع منه فقره هربا
بني المظفّر! ما امتدّت سماء على، ... إلّا وألقيتم في أفقها شهبا

شَخَبٌ

شَخَبٌ:
بالتحريك: حصن باليمن عن يمين صيد في بلاد مذحج وكهال قريب منه، حدثني أبو الربيع سليمان بن عبد الله بن الحسن بن عليّ بن عبد السلام بن محمد بن راشد بن المبارك بن عقال المعروف بابن الريحاني المكي التميمي قال: من السبب الذي دعا الملك المعز أبا الفداء إسماعيل بن سيف الإسلام طغتكين ابن أيوب إلى التسمي بالخلافة والانتماء إلى بني أمية أنّه نازل أحد حصني كهال أو شخب ليأخذه من مالكه فامتنع عليه يومين أو ثلاثة إذ نزلت صاعقة بمن فيه فأهلكت مالكه ومستحفظه وجماعة غيرهما فاضطرّ من بقي فيه إلى تسليمه إليه بعد طلب الأمان ثمّ انتقل إلى الآخر فجرى أمره على مثال ذلك من الصاعقة بصاحبه ثمّ اضطرّ من بقي منهم إلى تسليمه بالأمان فأكسبه ذلك طغيانا دعاه إلى دعوى الخلافة لنفسه بعد أسباب جرت شعبت ما بينه وبين الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن المستضيء.

دَيْرُ مَرْجُرْجِسَ

دَيْرُ مَرْجُرْجِسَ:
بالمزرفة، بينه وبين بغداد أربعة فراسخ مصعدا، والمزرفة: قرية كبيرة
وكانت قديما ذات بساتين عجيبة وفواكه غريبة، وكان هذا الدير من متنزهات بغداد لقربه وطيبه، وفيه يقول أبو جفنة القرشي:
ترنّم الطير بعد عجمته، ... وانحسر البرد في أزمّته
وأقبل الورد والبهار إلى ... زمان قصف يمشي برمّته
ما أطيب الوصل إن نجوت ولم ... يلسعني هجره بحمّته
ومثل لون النجيع صافية ... تذهب بالمرء فوق همته
نازعته من سداه لي أبدا ... في العشق والعشق مثل لحمته
في دير مرجرجس وقد نفح ال ... فجر علينا أرواح زهرته
وفى بميعاده وزورته ... وكنت أوفي له بذمته

نَطَاعِ

نَطَاعِ:
بالفتح، والبناء على الكسر مثل قطام وحذام، يقال: وطئنا نطاع بني فلان أي دخلنا أرضهم، وجناب القوم: نطاعهم، قال العمراني: نطاع قرية من قرى اليمامة، قال أبو منصور: ونطاع على وزن قطام ماءة في بلاد بني تميم وقد وردتها، ويقال:
شربت إبلنا من ماء نطاع، وهي ركية عذبة الماء غزيرته، وكانت به وقعة بين بني سعد بن تميم وهوذة بن علي الحنفي أخذت بنو تميم فيها لطائم كسرى التي أجارها هوذة بن علي الوارد من عند باذام والي كسرى على اليمن فكان بعدها يوم الصّفقة، وقد أعربه ربيعة بن مقروم في قوله:
وأقرب منهل من حيث راحا ... أثال أو غمازة أو نطاع
فأوردها ولون الليل داج ... وما لغبا وفي الــفجر انصداع
فصبّح من بني جلّان صلّا ... عطيفته وأسهمه المتاع
إذا لم يجتزر لبنيه لحما ... غريضا من هوادي الوحش جاعوا
وقال الحفصي: نطاع، بكسر النون، واد ونخيل لبني مالك بن سعد بين البحرين والبصرة.

اللِّوَى

اللِّوَى:
بالكسر، وفتح الواو، والقصر، وهو في الأصل منقطع الرملة، يقال: قد ألويتم فانزلوا إذا بلغوا منقطع الرمل، وهو أيضا موضع بعينه قد أكثرت الشعراء من ذكره وخلّطت بين ذلك اللوى والرمل فعزّ الفصل بينهما: وهو واد من أودية بني سليم، ويوم اللوى: وقعة كانت فيه لبني ثعلبة على بني يربوع، ومما يدل على أنه واد قول بعض العرب:
لقد هاج لي شوقا بكاء حمامة ... ببطن اللوى ورقاء تصدع بالــفجر
هتوف تبكّي ساق حرّ ولا ترى ... لها عبرة يوما على خدّها تجري
تغنّت بصوت فاستجاب لصوتها ... نوائح بالأصناف من فنن السدر
وأسعدنها بالنوح حتى كأنما ... شربن سلافا من معتّقة الخمر
دعتهنّ مطراب العشيّات والضّحى ... بصوت يهيج المستهام على الذكر
يجاوبن لحنا في الغصون كأنها ... نوائح ميت يلتدمن على قبر
فقلت: لقد هيّجن صبّا متيّما ... حزينا وما منهنّ واحدة تدري
وقال نصيب:
وقد كانت الأيام، إذ نحن باللوى، ... تحسّن لي لو دام ذاك التحسن
ولكنّ دهرا بعد دهر تقلبّت ... بنا من نواحيه ظهور وأبطن

مَأرِبٌ

مَأرِبٌ:
بهمزة ساكنة، وكسر الراء، والباء الموحدة، اسم المكان من الأرب وهي الحاجة، ويجوز أن يكون من قولهم: أرب يأرب إربا إذا صار ذا دهي، أو من أرب الرجل إذا احتاج إلى الشيء وطلبه، وأربت بالشيء: كلفت به، يجوز أن يكون اسم المكان من هذا كله: وهي بلاد الأزد باليمن، قال السّهيلي: مأرب اسم قصر كان لهم، وقيل: هو اسم لكل ملك كان يلي سبأ كما أن تبّعا اسم لكل من ولي اليمن والشحر وحضرموت، قال المسعودي: وكان هذا السُّد من بناء سبإ بن يشجب بن يعرب وكان سافله سبعين واديا ومات قبل أن يستتمّه فأتمته ملوك حمير بعده، قال المسعودي: بناه لقمان بن عاد وجعله فرسخا في فرسخ وجعل له ثلاثين مشعبا، وفي الحديث: أقطع رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، أبيض بن حمّال ملح مأرب، حدثني شيخ سديد فقيه محصّل من أهل صنعاء من ناحية شبام كوكبان وكان مستبينا متثبتا فيما يحكي قال: شاهدت مأرب وهي بين حضرموت وصنعاء، وبينها وبين صنعاء أربعة أيام، وهي قرية ليس بها عامر إلا ثلاث قرى يقال لها
الدروب إلى قبيلة من اليمن: فالأول من ناحية صنعاء درب آل الغشيب ثم درب كهلان ثم درب الحرمة، وكل واحد من هذه الدروب كاسمه درب طويل لا عرض له طوله نحو الميل كل دار إلى جنب الأخرى طولا وبين كل درب والآخر نحو فرسخين أو ثلاثة، وهم يزرعون على ماء جار يجيء من ناحية السّدّ فيسقون أرضهم سقية واحدة فيزرعون عليه ثلاث مرات في كل عام، قال: ويكون بين بذر الشعير وحصاده في ذلك الموضع نحو شهرين، وسألته عن سدّ مأرب فقال: هو بين ثلاثة جبال يصب ماء السيل إلى موضع واحد وليس لذلك الماء مخرج إلا من جهة واحدة فكان الأوائل قد سدوا ذلك الموضع بالحجارة الصلبة والرصاص فيجتمع فيه ماء عيون هناك مع ما يغيض من مياه السيول فيصير خلف السّد كالبحر فكانوا إذا أرادوا سقي زروعهم فتحوا من ذلك السدّ بقدر حاجتهم بأبواب محكمة وحركات مهندسة فيسقون حسب حاجتهم ثم يسدّونه إذا أرادوا، وقال عبيد الله بن قيس الرّقيات:
يا ديار الحبائب بين صنعا ومارب ... جادك السعد غدوة والثريّا بصائب
من هزيم كأنما يرتمي بالقواضب ... في اصطفاق ورنّة واعتدال المواكب
وأما خبر خراب سدّ مأرب وقصّة سيل العرم فإنه كان في ملك حبشان فأخرب الأمكنة المعمورة في أرض اليمن وكان أكثر ما أخرب بلاد كهلان بن سبإ بن يشجب بن يعرب وعامة بلاد حمير بن سبإ، وكان ولد حمير وولد كهلان هم سادة اليمن في ذلك الزمان، وكان عمرو بن عامر كبيرهم وسيدهم وهو جد الأنصار فمات عمرو بن عامر قبل سيل العرم وصارت الرياسة إلى أخيه عمران بن عامر الكاهن، وكان عاقرا لا يولد له ولد، وكان جوادا عاقلا، وكان له ولولد أخيه من الحدائق والجنان ما لم يكن لأحد من ولد قحطان، وكان فيهم امرأة كاهنة تسمى طريفة فأقبلت يوما حتى وقفت على عمران بن عامر وهو في نادي قومه فقالت: والظلمة والضياء، والأرض والسماء، ليقبلن إليكم الماء، كالبحر إذا طما، فيدع أرضكم خلاء، تسفي عليها الصّبا، فقال لها عمران:
ومتى يكون ذلك يا طريفة؟ فقالت: بعد ستّ عدد، يقطع فيها الوالد الولد، فيأتيكم السيل، بفيض هيل، وخطب جليل، وأمر ثقيل، فيخرّب الديار، ويعطل العشار، ويطيب العرار، قال لها: لقد فجعنا بأموالنا يا طريفة فبيّني مقالتك، قالت: أتاكم أمر عظيم، بسيل لطيم، وخطب جسيم، فاحرسوا السّد، لئلا يمتدّ، وإن كان لا بدّ من الأمر المعدّ، انطلقوا إلى رأس الوادي، فسترون الجرذ العادي، يجرّ كل صخرة صيخاد، بأنياب حداد، وأظفار شداد.
فانطلق عمران في نفر من قومه حتى أشرفوا على السّدّ، فإذا هم بجرذان حمر يحفرن السدّ الذي يليها بأنيابها فتقتلع الحجر الذي لا يستقلّه مائة رجل ثم تدفعه بمخاليب رجليها حتى يسدّ به الوادي مما يلي البحر ويفتح مما يلي السدّ، فلما نظروا إلى ذلك علموا انها قد صدقت، فانصرف عمران ومن كان معه من أهله، فلما استقرّ في قصره جمع وجوه قومه ورؤساءهم وأشرافهم وحدّثهم بما رأى وقال: اكتموا هذا الأمر عن إخوتكم من ولد حمير لعلّنا نبيع أموالنا وحدائقنا منهم ثم نرحل عن هذه الأرض، وسأحتال في ذلك بحيلة، ثم قال لابن أخيه حارثة: إذا اجتمع الناس إليّ فإني سآمرك بأمر فأظهر فيه العصيان فإذا ضربت رأسك بالعصا فقم إليّ فالطمني، فقال له: كيف يلطم
الرجل عمّه! فقال: افعل يا بنيّ ما آمرك فإن في ذلك صلاحك وصلاح قومك، فلما كان من الغد اجتمع إلى عمران أشراف قومه وعظماء حمير ووجوه رعيته مسلّمين عليه، فأمر حارثة بأمر فعصاه فضربه بمخصرة كانت في يده فوثب إليه فلطمه فأظهر عمران الأنفة والحمية وأمر بقتل ابن أخيه حتى شفع فيه، فلما أمسك عن قتله حلف أنه لا يقيم في أرض امتهن بها ولا بدّ من أن يرتحل عنها، فقال عظماء قومه: والله لا نقيم بعدك يوما واحدا! ثم عرضوا ضياعهم على البيع فاشتراها منهم بنو حمير بأعلى الأثمان وارتحلوا عن أرض اليمن فجاء بعد رحيلهم بمديدة السبل وكان ذلك الجرذ قد خرّب السدّ فلم يجد مانعا فغرّق البلاد حتى لم يبق من جميع الأرضين والكروم إلا ما كان في رؤوس الجبال والأمكنة البعيدة مثل ذمار وحضرموت وعدن ودهيت الضياع والحدائق والجنان والقصور والدور وجاء السيل بالرمل وطمّها فهي على ذلك إلى اليوم، وباعد الله بين أسفارهم كما ذكروا فتفرّقوا عباديد في البلدان، ولما انفصل عمران وأهله من بلد اليمن عطف ثعلبة العنقاء بن عمرو بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق ابن ثعلبة البهلول بن مازن بن الأزد بن الغوث نحو الحجاز فأقام ما بين الثعلبية إلى ذي قار وباسمه سميت الثعلبية فنزلها بأهله وولده وماشيته ومن يتبعه فأقام ما بين الثعلبية وذي قار يتتبع مواقع المطر، فلما كبر ولده وقوي ركنه سار نحو المدينة وبها ناس كثير من بني إسرائيل متفرّقون في نواحيها فاستوطنوها وأقاموا بها بين قريظة والنضير وخيبر وتيماء ووادي القرى ونزل أكثرهم بالمدينة إلى أن وجد عزّة وقوّة فأجلى اليهود عن المدينة واستخلصها لنفسه وولده فتفرّق من كان بها من اليهود وانضموا إلى إخوانهم الذين كانوا بخيبر وفدك وتلك النواحي وأقام ثعلبة وولده بيثرب فابتنوا فيها الآطام وغرسوا فيها النخل فهم الأنصار الأوس والخزرج أبناء حارثة بن ثعلبة العنقاء بن عمرو مزيقياء، وانخزع عنهم عند خروجهم من مأرب حارثة ابن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء وهو خزاعة فافتتحوا الحرم وسكانه جرهم وكانت جرهم أهل مكة فطغوا وبغوا وسنّوا في الحرم سننا قبيحة وفجر رجل منهم كان يسمى إساف بامرأة يقال لها نائلة في جوف الكعبة فمسخا حجرين، وهما اللذان أصابهما بعد ذلك عمرو بن لحيّ ثم حسّن لقومه عبادتهما، كما ذكرته في إساف، فأحب الله تعالى أن يخرج جرهما من الحرم لسوء فعلهم، فلما نزل عليهم خزاعة حاربوهم حربا شديدة فظفّر الله خزاعة بهم فنفوا جرهما من الحرم إلى الحلّ فنزلت خزاعة الحرم ثم إن جرهما تفرّقوا في البلاد وانقرضوا ولم يبق لهم أثر، ففي ذلك يقول شاعرهم:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس، ولم يسمر بمكة سامر
بلى! نحن كنّا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر
وكنّا ولاة البيت من قبل نابت ... نطوف بذاك البيت والخير ظاهر
وعطف عمران بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء مفارقا لأبيه وقومه نحو عمان وقد كان انقرض بها من طسم وجديس ابني إرم فنزلها وأوطنها وهم أزد عمان منهم وهم العتيك آل المهلّب وغيرهم، وسارت قبائل نصر بن الأزد وهم قبائل كثيرة منهم دوس رهط أبي هريرة وغامد وبارق وأحجن والجنادبة وزهران وغيرهم نحو تهامة فأقاموا بها وشنئوا قومهم أو شنئهم قومهم إذ لم ينصروهم في حروبهم أعني حروب
الذين قصدوا مكة فحاربوا جرهم والذين قصدوا المدينة فحاربوا اليهود فهم أزد شنوءة، ولما تفرّقت قضاعة من تهامة بعد الرحب التي جرت بينهم وبين نزار بن معدّ سارت بليّ وبهراء وخولان بنو عمران ابن الحاف بن قضاعة ومن لحق بهم إلى بلاد اليمن فوغلوا فيها حتى نزلوا مأرب أرض سبإ بعد افتراق الأزد عنها وخروجهم منها، فأقاموا بها زمانا ثم أنزلوا عبدا لأراشة بن عبيلة بن فران بن بليّ يقال له أشعب بئرا لهم بمأرب ودلّوا عليه دلاءهم ليملأها لهم، فطفق العبد يملأ لمواليه وسادته ويؤثرهم ويبطئ عن زيد الله بن عامر بن عبيلة بن قسميل فغضب من ذلك فحطّ عليه صخرة وقال: دونك يا أشعب، فأصابته فقتلته فوقع الشر بينهم لذلك واقتتلوا حتى تفرّقوا، فيقول قضاعة:
إن خولان أقامت باليمن فنزلوا مخلاف خولان، وإن مهرة أقامت هناك وصارت منازلهم الشحر ولحق عامر بن زيد الله بن عامر بن عبيلة بن قسميل بسعد العشيرة فهم فيهم زيد الله، فقال المثلّم بن قرط البلوي:
ألم تر أن الحيّ كانوا بغبطة ... بمأرب إذ كانوا يحلّونها معا
بليّ وبهراء وخولان إخوة ... لعمرو بن حاف فرع من قد تفرّعا
أقام به خولان بعد ابن أمه ... فأثرى لعمري في البلاد وأوسعا
فلم أر حيّا من معدّ عمارة ... أجلّ بدار العزّ منّا وأمنعا
وهذا أيضا دليل على أن قضاعة من سعد، والله أعلم، وسار جفنة بن عمرو بن عامر إلى الشام وملكوها فهذه الأزد باقية وأما باقي قبائل اليمن فتفرّقت في البلاد بما يطول شرحه، وقد ذكرت الشعراء مأرب فقال المثلم بن قرط البلوي:
ألم تر أن الحيّ كانوا بغبطة ... بمأرب إذ كانوا يحلّونها معا
وقد ذكرت وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه قصة مأرب فقال: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ، 34: 16 كما ذكرناه في العرم، والعرم: المسنّاة التي كانت قد أحكمت لتكون حاجزا بين ضياعهم وحدائقهم وبين السيل فــفجّرته فأرة ليكون أظهر في الأعجوبة كما أفار الله الطوفان من جوف التنور ليكون ذلك أثبت في العبرة وأعجب في الأمة ولذلك قال خالد بن صفوان التميمي لرجل من أهل اليمن كان قد فخر عليه بين يدي السفاح: ليس فيهم يا أمير المؤمنين إلا دابغ جلد أو ناسج برد أو سائس قرد أو راكب عرد، غرّقتهم فأرة وملكتهم امرأة ودلّ عليهم هدهد، وقال الأعشى:
ففي ذاك للمؤتسي أسوة، ... ومأرب عفّى عليها العرم
رخام بنته لهم حمير ... إذا ما نأى ماؤهم لم يرم
فأروى الزّروع وأغنامها ... على سعة ماؤهم إن قسم
وطار القيول وقيلاتها ... بيهماء فيها سراب يطم
فكانوا بذلكم حقبة ... فمال بهم جارف منهزم
قال أحمد بن محمد: ومأرب أيضا قصر عظيم عالي الجدران، وفيه قال الشاعر:
أما ترى مأربا ما كان أحصنه، ... وما حواليه من سور وبنيان
ظلّ العباديّ يسقي فوق قلّته، ... ولم يهب ريب دهر جدّ خوّان
حتى تناوله من بعد ما هجعوا ... يرقى إليه على أسباب كتّان
وقال جهم بن خلف:
ولم تدفع الأحساب عن ربّ مأرب ... منيّته وما حواليه من قصر
ترقّى إليه تارة بعد هجعة ... بأمراس كتّان أمرّت على شزر
وقد نسب إلى مأرب يحيى بن قيس المأربي الشيباني، روى عن ثمامة بن شراحيل، وروى عنه أبو عمرو محمد ومحمد بن بكر، ذكره البخاري في تاريخه، وسعيد بن أبيض بن حمّال المأربي، روى عن أبيه وعن فروة بن مسيك العطيفي، روى عنه ابنه ثابت ابن سعيد، ذكره ابن أبي حاتم، وثابت بن سعيد المأربي، حدث عن أبيه، روى عنه ابن أخيه فرج ابن سعيد بن علقمة بن سعيد بن أبيض بن حمّال المأربي الشيباني، هكذا نسبه ابن أبي حاتم، وقال أبو أحمد في الكنى: أبو روح الفرج بن سعيد أراه ابن علقمة بن سعيد بن أبيض بن حمّال المأربي عن خالد بن عمرو بن سعيد بن العاصي، وعمه ثابت بن سعيد المأربي، روى عنه أبو صالح محبوب بن موسى الأنطاكي وعبد الله بن الزبير الجندي، وقال أبو حاتم: جبر بن سعيد أخو فرج بن سعيد، روى عنه أخوه جبير بن سعيد المأربي، سألت أبي عن فرج بن سعيد فقال لا بأس به، ومنصور بن شيبة من أهل مأرب، روى عنه فرج بن سعيد بن علقمة المأربي، ذكره ابن أبي حاتم أيضا في ترجمة فرج ابن سعيد.
مَارِثُ:
بكسر الراء، وآخره ثاء مثلثة، يجوز أن يكون اسم المكان من الإرث من الميراث أو من الإرث وهي الحدود بين الأرضين، واحدته أرثة، وهي الإرث التي في حديث عثمان: الإرث تقطع الشفعة، والميم على هذه زائدة، ويجوز أن يكون اسم فاعل من مرثت الشيء بيدي إذا مرسته أو فتّتّه، أو من المرث وهو الحليم الوقور، ومارث:
ناحية من جبال عمان.

مَاء فَرَسٍ

مَاء فَرَسٍ:
كان عقبة بن عامر قد غزا فزّان وتعدّاهم إلى أراضي كوّار فنزل بموضع لم يكن فيه ماء فأصابهم عطش أشرفوا منه على الموت فصلى عقبة ركعتين ودعا الله تعالى وجعل فرس عقبة يبحث في الأرض حتى كشف عن صفاة فانــفجر منها الماء فجعل فرس عقبة يمص ذلك الماء فأبصره عقبة فنادى في الناس أن احتفروا فحفروا سبعين حسيا فشربوا واستقوا فسمي الموضع لذلك ماء فرس.

المَقْدِسُ

المَقْدِسُ:
في اللغة المنزه، قال المفسرون في قوله تعالى:
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ 2: 30، قال الزّجاج: معنى نقدس لك أي نطهّر أنفسنا لك وكذلك نفعل بمن أطاعك نقدسه أي نطهّره، قال: ومن هذا قيل للسطل القدس لأنه يتقدّس منه أي يتطهّر، قال:
ومن هذا بيت المقدس، كذا ضبطه بفتح أوله، وسكون ثانيه، وتخفيف الدال وكسرها، أي البيت المقدّس المطهّر الذي يتطهر به من الذنوب، قال مروان:
قل للفرزدق، والسفاهة كاسمها: ... إن كنت تارك ما أمرتك فاجلس
ودع المدينة إنها محذورة، ... والحق بمكة أو بيت المقدس
وقال قتادة: المراد بأرض المقدس أي المبارك، وإليه ذهب ابن الأعرابي، ومنه قيل للراهب مقدّس، ومنه قول امرئ القيس:
فأدركنه يأخذن بالساق والنّسا ... كما شبرق الولدان ثوب المقدّس
وصبيان النصارى يتبرّكون به وبمسح مسحه الذي هو لابسه وأخذ خيوطه منه حتى يتمزق عنه ثوبه، وفضائل بيت المقدس كثيرة ولا بدّ من ذكر شيء منها حتى يستحسنه المطّلع عليه، قال مقاتل بن سليمان قوله تعالى: وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ، 21: 71 قال: هي بيت المقدس، وقوله تعالى لبني إسرائيل: وواعدناكم جانب الطور الأيمن، يعني بيت المقدس، وقوله تعالى: وجعلنا ابن مريم وأمه آيتين وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين، قال:
البيت المقدس، وقال تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا من الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى 17: 1، هو بيت المقدس، وقوله تعالى: في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، البيت المقدس، وفي الخبر: من صلى في بيت المقدس فكأنما صلى في السماء، ورفع الله عيسى بن مريم إلى السماء من بيت المقدس وفيه مهبطه إذا هبط وتزفّ الكعبة بجميع حجّاجها إلى البيت المقدس يقال لها مرحبا بالزائر والمزور، وتزف جميع مساجد الأرض إلى البيت المقدس، أول شيء حسر عنه بعد الطوفان صخرة بيت المقدس وفيه ينفخ في الصور يوم القيامة وعلى صخرته ينادي المنادي يوم القيامة، وقد قال الله تعالى لسليمان بن داود، عليهما السلام، حين فرغ من بناء البيت المقدس:
سلني أعطك، قال: يا رب أسألك أن تغفر لي ذنبي، قال: لك ذلك، قال: يا رب وأسألك أن تغفر لمن جاء هذا البيت يريد الصلاة فيه وأن تخرجه من ذنوبه كيوم ولد، قال: لك ذلك، قال: وأسألك من جاء فقيرا أن تغنيه، قال: لك ذلك، قال:
وأسألك من جاء سقيما أن تشفيه، قال: ولك ذلك، وعن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال: لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام ومسجد البيت المقدس، وإن الصلاة في بيت المقدس خير من ألف صلاة في غيره، وأقرب بقعة في الأرض من السماء البيت المقدس ويمنع الدّجال من دخولها ويهلك يأجوج ومأجوج دونها، وأوصى آدم، عليه السّلام، أن يدفن بها وكذلك إسحاق وإبراهيم، وحمل يعقوب من أرض مصر حتى دفن بها، وأوصى يوسف، عليه السّلام، حين مات بأرض مصر أن يحمل إليها، وهاجر إبراهيم من كوثى إليها، وإليها المحشر ومنها المنشر، وتاب الله على داود بها، وصدّق إبراهيم الرؤيا بها، وكلّم عيسى الناس في المهد بها، وتقاد الجنة يوم القيامة إليها ومنها يتفرّق الناس إلى الجنة أو إلى النار، وروي عن كعب أن جميع الأنبياء، عليهم السلام، زاروا بيت المقدس تعظيما له، وروي عن كعب أنه قال: لا تسمّوا بيت المقدس إيلياء ولكن سموه باسمه فإن إيلياء امرأة بنت المدينة، وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم: فلما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس سأل الله حكما يوافق حكمه وملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه الله ذلك، وعن ابن عباس قال: البيت المقدس بنته الأنبياء وسكنته الأنبياء ما فيه موضع شبر إلا وقد صلى فيه نبيّ أو أقام فيه ملك، وعن أبي ذر قال: قلت لرسول الله، صلّى الله عليه وسلّم: أيّ مسجد وضع على وجه الأرض أوّلا؟ قال: المسجد الحرام، قلت: ثم أيّ؟ قال: البيت المقدس وبينهما أربعون سنة، وروي عن أبيّ بن كعب قال: أوحى الله تعالى إلى داود ابن لي بيتا، قال: يا رب وأين من الأرض؟ قال: حيث ترى الملك شاهرا سيفه، فرأى داود ملكا على الصخرة واقفا وبيده سيف، وعن الفضيل بن عياض قال: لمّا صرفت القبلة نحو الكعبة قالت الصخرة: إلهي لم أزل قبلة لعبادك حتى إذا بعثت خير خلقك صرفت قبلتهم عني! قال: ابشري فإني واضع عليك عرشي وحاشر إليك خلقي وقاض عليك أمري وناشر منك عبادي، وقال كعب: من زار البيت المقدس شوقا إليه دخل الجنة، ومن صلى فيه ركعتين خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه وأعطي قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا، ومن تصدّق فيه بدرهم كان فداءه من النار، ومن صام فيه يوما واحدا كتبت له براءته من النار، وقال كعب: معقل المؤمنين أيام الدجال البيت المقدس يحاصرهم فيه حتى يأكلوا أوتار قسيّهم من الجوع، فبينما هم كذلك إذ سمعوا صوتا من الصخرة فيقولون هذا صوت رجل شعبان، ينظرون فإذا عيسى بن مريم، عليه السّلام، فإذا رآه الدجال هرب منه فيتلقاه بباب لدّ فيقتله، وقال أبو مالك القرظي في كتاب اليهود الذي لم يغيّر: إن الله تعالى خلق الأرض فنظر إليها وقال: أنا واطئ على بقعتك، فشمخت الجبال وتواضعت الصخرة فشكر الله لها وقال: هذا مقامي وموضع ميزاني وجنتي وناري ومحشر خلقي وأنا ديّان يوم الدين، وعن وهب بن منبّه قال: أمر إسحاق ابنه يعقوب أن لا ينكح امرأة من الكنعانيين وأن ينكح من بنات خاله لابان ابن تاهر بن أزر وكان مسكنه فلسطين فتوجه إليها يعقوب، وأدركه في بعض الطريق الليل فبات متوسدا حجرا فرأى فيما يرى النائم كأن سلّما منصوبا إلى باب السماء عند رأسه والملائكة تنزل منه وتعرج فيه وأوحى الله إليه: إني أنا الله لا إله إلا أنا إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وقد ورّثتك هذه الأرض المقدسة وذريتك من بعدك وباركت فيك وفيهم وجعلت فيكم الكتاب والحكمة والنبوّة ثم أنا معك حتى تدرك إلى هذا المكان فاجعله بيتا تعبدني فيه أنت وذريتك، فيقال إنه بيت المقدس، فبناه داود وابنه سليمان ثم أخربته الجبابرة بعد ذلك فاجتاز به شعيا، وقيل عزير، عليهما السلام، فرآه خرابا، فقال: أنّي يحيى هذه الله بعد موتها؟ فأماته الله مائة عام ثم بعثه، كما قص، عزّ وجل، في كتابه الكريم، ثم بناه ملك من ملوك فارس يقال له كوشك، وكان قد اتخذ سليمان في بيت المقدس أشياء عجيبة، منها القبّة التي فيها السلسلة المعلقة ينالها صاحب الحق ولا ينالها المبطل حتى اضمحلت بحيلة غير معروفة، وكان من عجائب بنائه أنه بنى بيتا وأحكمه وصقله فإذا دخله الفاجر والورع تبيّن الفاجر من الورع لأن
الورع كان يظهر خياله في الحائط أبيض والفاجر يظهر خياله أسود، وكان أيضا مما اتخذ من الأعاجيب أن ينصب في زاوية من زواياه عصا آبنوس فكان من مسها من أولاد الأنبياء لم تضرّه ومن مسها من غيرهم أحرقت يده، وقد وصفها القدماء بصفات إن استقصيتها أمللت القارئ، والذي شاهدته أنا منها أن أرضها وضياعها وقراها كلّها جبال شامخة وليس حولها ولا بالقرب منها أرض وطيئة البتة وزروعها على الجبال وأطرافها بالفؤوس لأن الدواب لا صنع لها هناك، وأما نفس المدينة فهي على فضاء في وسط تلك الجبال وأرضها كلها حجر من الجبال التي هي عليها وفيها أسواق كثيرة وعمارات حسنة، وأما الأقصى فهو في طرفها الشرقي نحو القبلة أساسه من عمل داود، عليه السّلام، وهو طويل عريض وطوله أكثر من عرضه، وفي نحو القبلة المصلى الذي يخطب فيه للجمعة وهو على غاية الحسن والإحكام مبنيّ على الأعمدة الرخام الملونة والفسيفساء التي ليس في الدنيا أحسن منها لا جامع دمشق ولا غيره، وفي وسط صحن هذا الموضع مصطبة عظيمة في ارتفاع نحو خمسة أذرع كبيرة يصعد إليها الناس من عدة مواضع بدرج، وفي وسط هذه المصطبة قبة عظيمة على أعمدة رخام مسقفة برصاص منمّقة من برّا وداخل بالفسيفساء مطبقة بالرخام الملون قائم ومسطح، وفي وسط هذا الرخام قبة أخرى وهي قبة الصخرة التي تزار وعلى طرفها أثر قدم النبي، صلّى الله عليه وسلّم، وتحتها مغارة ينزل إليها بعدّة درج مبلّطة بالرخام قائم ونائم يصلّى فيها وتزار، ولهذه القبة أربعة أبواب، وفي شرقيها برأسها قبة أخرى على أعمدة مكشوفة حسنة مليحة يقولون إنها قبة السلسلة، وقبة المعراج أيضا على حائط المصطبة وقبة النبي داود، عليه السّلام، كل ذلك على أعمدة مطبق أعلاها بالرصاص، وفيها مغاور كثيرة ومواضع يطول عددها مما يزار ويتبرك به، ويشرب أهل المدينة من ماء المطر، ليس فيها دار إلا وفيها صهريج لكنها مياه رديّة أكثرها يجتمع من الدروب وإن كانت دروبهم حجارة ليس فيها ذلك الدّنس الكثير، وبها ثلاث برك عظام: بركة بني إسرائيل وبركة سليمان، عليه السّلام، وبركة عياض عليها حمّاماتهم، وعين سلوان في ظاهر المدينة في وادي جهنم مليحة الماء وكان بنو أيوب قد أحكموا سورها ثم خرّبوه على ما نحكيه بعد، وفي المثل:
قتل أرضا عالمها وقتلت أرض جاهلها، هذا قول أبي عبد الله محمد بن أحمد بن البنّاء البشّاري المقدسي له كتاب في أخبار بلدان الإسلام وقد وصف بيت المقدس فأحسن فالأولى أن نذكر قوله لأنه أعرف ببلده وإن كان قد تغير بعده بعض معالمها، قال: هي متوسطة الحرّ والبرد قلّ ما يقع فيها ثلج، قال:
وسألني القاضي أبو القاسم عن الهواء بها فقلت: سجسج لا حرّ ولا برد، فقال: هذه صفة الجنّة، قلت:
بنيانهم حجر لا ترى أحسن منه ولا أنفس منه ولا أعفّ من أهلها ولا أطيب من العيش بها ولا أنظف من أسواقها ولا أكبر من مسجدها ولا أكثر من مشاهدها، وكنت يوما في مجلس القاضي المختار أبي يحيى بهرام بالبصرة فجرى ذكر مصر إلى أن سئلت: أيّ بلد أجلّ؟ قلت: بلدنا، قيل: فأيهما أطيب؟ قلت: بلدنا، قيل: فأيهما أفضل؟ قلت: بلدنا، قيل: فأيهما أحسن؟ قلت:
بلدنا، قيل: فأيهما أكثر خيرات؟ قلت: بلدنا، قيل: فأيهما أكبر؟ قلت: بلدنا، فتعجب أهل المجلس من ذلك وقيل: أنت رجل محصّل وقد ادّعيت ما لا يقبل منك وما مثك إلا كصاحب
الناقة مع الحجاج، قلت: أما قولي أجلّ فلأنها بلدة جمعت الدنيا والآخرة فمن كان من أبناء الدنيا وأراد الآخرة وجد سوقها، ومن كان من أبناء الآخرة فدعته نفسه إلى نعمة الدنيا وجدها، وأما طيب هوائها فإنه لا سمّ لبردها ولا أذى لحرها، وأما الحسن فلا يرى أحسن من بنيانها ولا أنظف منها ولا أنزه من مسجدها، وأما كثرة الخيرات فقد جمع الله فيها فواكه الأغوار والسهل والجبل والأشياء المتضادّة كالأترجّ واللوز والرطب والجوز والتين والموز، وأما الفضل فهي عرصة القيامة ومنها النشر وإليها الحشر وإنما فضلت مكة بالكعبة والمدينة بالنبي، صلّى الله عليه وسلّم، ويوم القيامة تزفّان إليها فتحوي الفضل كله، وأما الكبر فالخلائق كلهم يحشرون إليها فأي أرض أوسع منها؟ فاستحسنوا ذلك وأقرّوا به، قال: إلا أن لها عيوبا، يقال إن في التوراة مكتوبا بيت المقدس طست من ذهب مملوء عقارب، ثم لا ترى أقذر من حماماتها ولا أثقل مؤنة وهي مع ذلك قليلة العلماء كثيرة النصارى وفيهم جفاء وعلى الرحبة والفنادق ضرائب ثقال وعلى ما يباع فيها رجّالة وعلى الأبواب أعوان فلا يمكن أحدا أن يبيع شيئا مما يرتفق به الناس إلا بها مع قلة يسار، وليس للمظلوم أنصار، فالمستور مهموم والغني محسود والفقيه مهجور والأديب غير مشهور، ولا مجلس نظر ولا تدريس، قد غلب عليها النصارى واليهود وخلا المجلس من الناس والمسجد من الجماعات، وهي أصغر من مكة وأكبر من المدينة عليها حصن بعضه على جبل وعلى بقيته خندق، ولها ثمانية أبواب حديد:
باب صهيون وباب النية وباب البلاط وباب جب ارميا وباب سلوان وباب أريحا وباب العمود وباب محراب داود، عليه السّلام، والماء بها واسع، وقيل: ليس ببيت المقدس أكثر من الماء والأذان قلّ أن يكون بها دار ليس بها صهريج أو صهريجان أو ثلاثة على قدر كبرها وصغرها، وبها ثلاث برك عظام: بركة بني إسرائيل وبركة سليمان وبركة عياض عليها حمّاماتهم لها دواع من الأزقة، وفي المسجد عشرون جبّا مشجّرة قلّ أن تكون حارة ليس بها جبّ مسيل غير أن مياها من الأزقة وقد عمد إلى واد فجعل بركتين تجتمع إليهما السيول في الشتاء وقد شقّ منهما قناه إلى البلد تدخل وقت الربيع فتدخل صهاريج الجامع وغيرها، وأما المسجد الأقصى فهو على قرنة البلد الشرقي نحو القبلة أساسه من عمل داود، طول الحجر عشرة أذرع وأقلّ منقوشة موجّهة مؤلفة صلبة وقد بنى عليه عبد الملك بحجارة صغار حسان وشرّفوه وكان أحسن من جامع دمشق لكن جاءت زلزلة في أيام بني العباس فطرحته إلّا ما حول المحراب، فلما بلغ الخليفة خبره أراد رده مثلما كان فقيل له:
تعيا ولا تقدر على ذلك، فكتب إلى أمراء الأطراف والقوّاد يأمرهم أن يبني كل واحد منهم رواقا، فبنوه أوثق وأغلظ صناعة مما كان، وبقيت تلك القطعة شامة فيه وهي إلى حذاء الأعمدة الرخام، وما كان من الأساطين المشيدة فهو محدث، وللمغطى ستة وعشرون بابا: باب يقابل المحراب يسمّى باب النحاس الأعظم مصفح بالصفر المذهّب لا يفتح مصراعه إلا رجل شديد القوّة عن يمينه سبعة أبواب كبار في وسطها باب مصفح مذهب وعلى اليسار مثلها وفي نحو المشرق أحد عشر بابا سواذج وخمسة عشر رواقا على أعمدة رخام أحدثها عبد الله بن طاهر، وعلى الصحن من الميمنة أروقة على أعمدة رخام وأساطين، وعلى المؤخر أروقة ازاج من الحجارة، وعلى وسط المغطى جمل عظيم خلف قبة حسنة، والسقوف كلها إلّا المؤخر ملبسة بشقاق الرصاص والمؤخر مرصوف بالفسيفساء الكبار والصحن كله مبلط، وفي وسط الرواق دكة مربعة مثل مسجد يثرب يصعد إليها من أربع جهاتها بمراق واسعة، وفي الدكة أربع قباب:
قبة السلسلة وقبة المعراج وقبة النبي، صلّى الله عليه وسلّم، وهذه الثلاث الصغار ملبسة بالرصاص على أعمدة رخام مكشوفة، وفي وسط الدكة قبة الصخرة على بيت مثمن بأربعة أبواب كل باب يقابل مرقاة من مراقي الدكة، وهي: الباب القبليّ وباب إسرافيل وباب الصور وباب النساء، وهو الذي يفتح إلى المغرب، جميعها مذهبة في وجه كل واحد باب مليح من خشب التّنّوب، وكانت قد أمرت بعملها أمّ المقتدر بالله، وعلى كل باب صفّة مرخمة والتنّوبيّة مطبّقة على الصفرية من خارج، وعلى أبواب الصفّات أبواب أيضا سواذج داخل البيت ثلاثة أروقة دائرة على أعمدة معجونة أجلّ من الرخام وأحسن لا نظير لها قد عقدت عليه أروقة لاطئة داخلة في رواق آخر مستدير على الصخرة على أعمدة معجونة بقناطر مدورة فوق هذه منطقة متعالية في الهواء فيها طاقات كبار والقبة فوق المنطقة طولها غير القاعدة الكبرى مع السّفّود في الهواء مائة ذراع ترى من البعد فوقها سفود حسن طوله قامة وبسطة، والقبة على عظمها ملبسة بالصفر المذهب وأرض البيت مع حيطانه، والمنطقة من داخل وخارج على صفة جامع دمشق، والقبة ثلاث سافات: الأولى مروّقة على الألواح، والثانية من أعمدة الحديد قد شبكت لئلا تميلها الرياح، ثم الثالثة من خشب عليها الصفائح وفي وسطها طريق إلى عند السفود يصعد منها الصّنّاع لتفقدها ورمّها فإذا بزغت عليها الشمس أشرقت القبة وتلألأت المنطقة ورؤيت شيئا عجيبا، وعلى الجملة لم أر في الإسلام ولا سمعت أن في الشرك مثل هذه القبة، ويدخل المسجد من ثلاثة عشر موضعا بعشرين بابا، منها:
باب الحطّة وباب النبي، عليه الصلاة والسلام، وباب محراب مريم وباب الرحمة وباب بركة بني إسرائيل وباب الأسباط وباب الهاشميين وباب الوليد وباب إبراهيم، عليه السلام، وباب أمّ خالد وباب داود، عليه السّلام، وفيه من المشاهد محراب مريم وزكرياء ويعقوب والخضر ومقام النبي، صلى الله عليه وسلم، وجبرائيل وموضع المنهل والنور والكعبة والصراط متفرقة فيه وليس على الميسرة أروقة، والمغطى لا يتصل بالحائط الشرقي وإنما ترك هذا البعض لسبين أحدهما قول عمر: واتخذوا في غربي هذا المسجد مصلّى للمسلمين، فتركت هذه القطعة لئلا يخالف، والآخر لو مدّ المغطى إلى الزاوية لم تقع الصخرة حذاء المحراب فكرهوا ذلك، والله أعلم، وطول المسجد ألف ذراع بالذراع الهاشمي، وعرضه سبعمائة ذراع، وفي سقوفه من الخشب أربعة آلاف خشبة وسبعمائة عمود رخام، وعلى السقوف خمسة وأربعون ألف شقة رصاص، وحجم الصخرة ثلاثة وثلاثون ذراعا في سبعة وعشرين، وتحت الصخرة مغارة تزار ويصلّى فيها تسع مائة وستين نفسا، وكانت وظيفته كل شهر مائة دينار، وفي كل سنة ثمانمائة ألف ذراع حصرا، وخدّامه مماليك له أقامهم عبد الملك من خمس الأسارى ولذلك يسمّون الأخماس لا يخدمه غيرهم ولهم نوب يحفظونها، وقال المنجمون:
المقدس طوله ست وخمسون درجة، وعرضه ثلاث وثلاثون درجة، في الإقليم الثالث، وأما فتحها في أول الإسلام إلى يومنا هذا فإن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أنفذ عمرو بن العاص إلى فلسطين ثم نزل البيت المقدس فامتنع عليه فقدم أبو عبيدة بن الجرّاح
بعد أن افتتح قنّسرين وذلك في سنة 16 للهجرة فطلب أهل بيت المقدس من أبي عبيدة الأمان والصلح على مثل ما صولح عليه أهل مدن الشام من أداء الجزية والخراج والدخول فيما دخل فيه نظراؤهم على أن يكون المتولّي للعقد لهم عمر بن الخطاب، فكتب أبو عبيدة بذلك إلى عمر فقدم عمر ونزل الجابية من دمشق ثم صار إلى بيت المقدس فأنفذ صلحهم وكتب لهم به كتابا وكان ذلك في سنة 17، ولم تزل على ذلك بيد المسلمين، والنصارى من الروم والأفرنج والأرمن وغيرهم من سائر أصنافهم يقصدونها للزيارة إلى بيعتهم المعروفة بالقمامة وليس لهم في الأرض أجلّ منها، حتى انتهت إلى أن ملكها سكمان بن أرتق وأخوه ايلغازي جدّ هؤلاء الذين بدياربكر صاحب ماردين وآمد، والخطبة فيها تقام لبني العباس، فاستضعفهم المصريون وأرسلوا إليهم جيشا لا طاقة لهم به، وبلغ سكمان وأخاه خبر ذلك فتركوها من غير قتال وانصرفوا نحو العراق، وقيل: بل حاصروها ونصبوا عليها المجانيق ثم سلموها بالأمان ورجع هؤلاء إلى نحو المشرق، وذلك في سنة 491، واتّفق أن الأفرنج في هذه الأيام خرجوا من وراء البحر إلى الساحل فملكوا جميع الساحل أو أكثره وامتدوا حتى نزلوا على البيت المقدّس فأقاموا عليها نيفا وأربعين يوما ثم ملكوها من شماليها من ناحية باب الأسباط عنوة في اليوم الثالث والعشرين من شعبان سنة 492 ووضعوا السيف في المسلمين أسبوعا والتجأ الناس إلى الجامع الأقصى فقتلوا فيه ما يزيد على سبعين ألفا من المسلمين وأخذوا من عند الصخرة نيفا وأربعين قنديلا فضّة كل واحد وزنه ثلاثة آلاف وستمائة درهم فضّة وتنّور فضة وزنه أربعون رطلا بالشامي وأموالا لا تحصى، وجعلوا الصخرة والمسجد الأقصى مأوى لخنازيرهم، ولم يزل في أيديهم حتى استنقذه منهم الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب في سنة 583 بعد إحدى وتسعين سنة أقامها في يد الأفرنج وهي الآن في يد بني أيوب، والمستولي عليهم الآن منهم الملك المعظم عيسى ابن العادل أبي بكر بن أيوب، وكانوا قد أحكموا سوره وعمّروه وجوّدوه، فلما خرج الأفرنج في سنة 616 وتملّكوا دمياط استظهر الملك المعظم بخراب سوره وقال: نحن لا نمنع البلدان بالأسوار إنما نمنعها بالسيوف والأساورة، وهذا كاف في خبرها وليس كلّ ما أجده أكتبه ولو فعلت ذلك لم يتسع لي زماني، وفي المسجد أماكن كثيرة وأوصاف عجيبة لا تتصوّر إلا بالمشاهدة عيانا، ومن أعظم محاسنه أنه إذا جلس إنسان فيه في أي موضع منه يرى أن ذلك الموضع هو أحسن المواضع وأشرحها، ولذا قيل إن الله نظر إليه بعين الجمال ونظر إلى المسجد الحرام بعين الجلال:
أهيم بقاع القدس ما هبّت الصّبا، ... فتلك رباع الأنس في زمن الصّبا
وما زلت في شوقي إليها مواصلا ... سلامي على تلك المعاهد والرّبى
والحمد لله الذي وفّقني لزيارته، وينسب إلى بيت المقدس جماعة من العبّاد الصالحين والفقهاء، منهم:
نصر بن إبراهيم بن نصر بن إبراهيم بن داود أبو الفتح المقدسي الفقيه الشافعي الزاهد أصله من طرابلس وسكن بيت المقدس ودرّس بها وكان قد سمع بدمشق من أبي الحسن السمسار وأبي الحسن محمد بن عوف وابن سعدان وابن شكران وأبي القاسم وابن الطبري، وسمع بآمد هبة الله بن سليمان وسليم بن أيوب بصور وعليه تفقّه وعلى محمد بن البيان الكازروني، وروى عنه أبو بكر الخطيب وعمر بن عبد الكريم
الدهستاني وأبو القاسم النسيب وأبو الفتح نصر الله اللاذقي وأبو محمد بن طاووس وجماعة، وكان قدم دمشق في سنة 71 في نصف صفر ثم خرج إلى صور وأقام بها نحو عشر سنين ثم قدم دمشق سنة 80 فأقام بها يحدث ويدرّس إلى أن مات، وكان فقيها فاضلا زاهدا عابدا ورعا أقام بدمشق ولم يقبل لأحد من أهلها صلة، وكان يقتات من غلة تحمل إليه من أرض كانت له بنابلس وكان يخبز له منها كل يوم قرص في جانب الكانون، وكان متقلّلا متزهدا عجيب الأمر في ذلك، وكان يقول: درست على الفقيه سليم من سنة 37 إلى سنة 40 ما فاتني فيها درس ولا إعادة ولا وجعت إلا يوما واحدا وعوفيت، وسئل كم في ضمن التعليقة التي صنّفها من جزء، فقال:
نحو ثلاثمائة جزء وما كتبت منها حرفا وأنا على غير وضوء، أو كما قال، وزاره تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان يوما فلم يقم إليه وسأله عن أحلّ الأموال السلطانية فقال: أموال الجزية، فخرج من عنده وأرسل إليه بمبلغ من المال وقال له: هذا من مال الجزية، ففرّقه على الأصحاب ولم يقبله وقال: لا حاجة لنا إليه، فلما ذهب الرسول لامه الفقيه أبو الفتح نصر الله بن محمد وقال له: قد علمت حاجتنا إليه فلو كنت قبلته وفرّقته فينا، فقال: لا تجزع من فوته فلسوف يأتيك من الدنيا ما يكفيك فيما بعد، فكان كما تفرّس فيه، وذكر بعض أهل العلم قال: صحبت أبا المعالي الجويني بخراسان ثم قدمت العراق فصحبت الشيخ أبا إسحاق الشيرازي فكانت طريقته عندي أفضل من طريقة الجويني، ثم قدمت الشام فرأيت الفقيه أبا الفتح فكانت طريقته أحسن من طريقتهما جميعا، وتوفي الشيخ أبو الفتح يوم الثلاثاء التاسع من المحرم سنة 490 بدمشق ودفن بباب الصغير، ولم تر جنازة أوفر خلقا من جنازته، رحمة الله عليه، ومحمد بن طاهر بن علي بن أحمد أبو الفضل المقدسي الحافظ ويعرف بابن القيسراني، طاف في طلب الحديث وسمع بالشام وبمصر والعراق وخراسان والجبل وفارس، وسمع بمصر من الجبّاني وأبي الحسن الخلعي، قال: وسمعت أبا القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل الحافظ يقول: أحفظ من رائيّة محمد ابن طاهر ما هو هذا:
إلى كم أمنّي النفس بالقرب واللّقا ... بيوم إلى يوم وشهر إلى شهر؟
وحتّام لا أحظى بوصل أحبّتي ... وأشكو إليهم ما لقيت من الهجر؟
فلو كان قلبي من حديد أذابه ... فراقكم أو كان من صالب الصخر
ولمّا رأيت البين يزداد والنّوى ... تمثّلت بيتا قيل في سالف الدهر:
متى يستريح القلب، والقلب متعب، ... ببين على بين وهجر على هجر؟
قال الحافظ: سمعت أبا العلاء الحسن بن أحمد الهمذاني الحافظ ببغداد يذكر أن أبا الفضل ابتلي بهوى امرأة من أهل الرستاق كانت تسكن قرية على ستة فراسخ فكان يذهب كل ليلة فيرقبها فيراها تغزل في ضوء السراج ثم يرجع إلى همذان فكان يمشي كل يوم وليلة اثني عشر فرسخا، ومات ابن طاهر ودفن عند القبر الذي على جبلها يقال له قبر رابعة العدوية وليس هو بقبرها إنما قبرها بالبصرة وأما القبر الذي هناك فهو قبر رابعة زوجة أحمد بن أبي الحواري الكاتب وقد اشتبه على الناس.

مَكَّةُ

مَكَّةُ:
بيت الله الحرام، قال بطليموس: طولها من جهة المغرب ثمان وسبعون درجة، وعرضها ثلاث وعشرون درجة، وقيل إحدى وعشرون، تحت نقطة السرطان، طالعها الثريّا، بيت حياتها الثور، وهي في الإقليم الثاني، أما اشتقاقها ففيه أقوال، قال أبو بكر بن الأنباري: سميت مكة لأنها تمكّ الجبّارين أي تذهب نخوتهم، ويقال إنما سميت مكة لازدحام الناس بها من قولهم: قد امتكّ الفصيل ضرع أمّه إذا مصه مصّا شديدا، وسميت بكة لازدحام الناس بها، قاله أبو عبيدة وأنشد:
إذا الشريب أخذته أكّه ... فخلّه حتى يبكّ بكّه
ويقال: مكة اسم المدينة وبكة اسم البيت، وقال آخرون: مكة هي بكة والميم بدل من الباء كما قالوا:
ما هذا بضربة لازب ولازم، وقال أبو القاسم: هذا الذي ذكره أبو بكر في مكة وفيها أقوال أخر نذكرها لك، قال الشرقيّ بن القطاميّ: إنما سميت مكة لأن العرب في الجاهلية كانت تقول لا يتم حجّنا حتى نأتي مكان الكعبة فنمكّ فيه أي نصفر صفير المكّاء حول الكعبة، وكانوا يصفرون ويصفقون بأيديهم إذا طافوا بها، والمكّاء، بتشديد الكاف: طائر يأوي الرياض، قال أعرابيّ ورد الحضر فرأى مكّاء يصيح فحنّ إلى بلاده فقال:
ألا أيّها المكّاء ما لك ههنا ... ألاء ولا شيح فأين تبيض
فاصعد إلى أرض المكاكي واجتنب ... قرى الشام لا تصبح وأنت مريض
والمكاء، بتخفيف الكاف والمد: الصفير، فكأنهم كانوا يحكون صوت المكّاء، ولو كان الصفير هو الغرض لم يكن مخفّفا، وقال قوم: سميت مكة لأنها بين جبلين مرتفعين عليها وهي في هبطة بمنزلة المكّوك، والمكوك عربيّ أو معرب قد تكلمت به العرب وجاء في أشعار الفصحاء، قال الأعشى:
والمكاكيّ والصّحاف من الف ... ضّة والضامرات تحت الرحال
قال وأما قولهم: إنما سميت مكة لازدحام الناس فيها من قولهم: قد امتكّ الفصيل ما في ضرع أمه إذا مصّه مصّا شديدا فغلط في التأويل لا يشبّه مص الفصيل الناقة بازدحام الناس وإنما هما قولان: يقال سميت مكة لازدحام الناس فيها، ويقال أيضا: سميت مكة لأنها عبّدت الناس فيها فيأتونها من جميع الأطراف من قولهم: امتكّ الفصيل أخلاف الناقة إذا جذب جميع ما فيها جذبا شديدا فلم يبق فيها شيئا، وهذا قول أهل اللغة، وقال آخرون: سميت مكة لأنها لا يــفجر بها أحد إلا بكّت عنقه فكان يصبح وقد التوت عنقه، وقال الشرقيّ: روي أن بكة اسم القرية ومكة مغزى بذي طوى لا يراه أحد ممن مرّ من أهل الشام والعراق واليمن والبصرة وإنما هي أبيات في أسفل ثنية ذي طوى، وقال آخرون: بكة موضع البيت وما حول البيت مكة، قال: وهذه خمسة أقوال في مكة غير ما ذكره ابن الأنباري، وقال عبيد الله الفقير إليه: ووجدت أنا أنها سمّيت مكة من مك الثدي أي مصه لقلة مائها لأنهم كانوا يمتكون الماء أي يستخرجونه، وقيل: إنها تمك الذنوب أي تذهب بها كما يمك الفصيل ضرع أمه فلا يبقي فيه شيئا، وقيل: سميت مكة لأنها تمك من ظلم أي تنقصه، وينشد قول بعضهم:
يا مكة الفاجر مكي مكّا، ... ولا تمكّي مذحجا وعكّا
وروي عن مغيرة بن إبراهيم قال: بكة موضع البيت وموضع القرية مكة، وقيل: إنما سميت بكة لأن الأقدام تبك بعضها بعضا، وعن يحيى بن أبي أنيسة قال: بكة موضع البيت ومكة هو الحرم كله، وقال زيد بن أسلم: بكة الكعبة والمسجد ومكة ذو طوى وهو بطن الوادي الذي ذكره الله تعالى في سورة الفتح، ولها أسماء غير ذلك، وهي: مكة وبكة والنسّاسة وأم رحم وأم القرى ومعاد والحاطمة لأنها تحطم من استخفّ بها، وسمّي البيت العتيق لأنه عتق من الجبابرة، والرأس لأنها مثل رأس الإنسان، والحرم وصلاح والبلد الأمين والعرش والقادس لأنها تقدس من الذنوب أي تطهر، والمقدسة والناسّة والباسّة، بالباء الموحدة، لأنها تبسّ أي تحطم الملحدين وقيل تخرجهم، وكوثى باسم بقعة كانت منزل بني عبد الدار، والمذهب في قول بشر بن أبي خازم:
وما ضمّ جياد المصلّى ومذهب
وسماها الله تعالى أم القرى فقال: لتنذر أم القرى ومن حولها، وسماها الله تعالى البلد الأمين في قوله تعالى: والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين، وقال تعالى: لا أقسم بهذا البلد وأنت حلّ بهذا البلد، وقال تعالى: وليطّوّفوا بالبيت العتيق، وقال تعالى: جَعَلَ الله الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ، 5: 97 وقال تعالى على لسان إبراهيم، عليه السّلام:
رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ، 14: 35 وقال تعالى أيضا على لسان إبراهيم، عليه السلام: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ من ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي
زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ 14: 37 (الآية) ، ولما خرج رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، من مكة وقف على الحزورة قال: إني لأعلم أنك أحبّ البلاد إليّ وأنك أحب أرض الله إلى الله ولولا أن المشركين أخرجوني منك ما خرجت، وقالت عائشة، رضي الله عنها: لولا الهجرة لسكنت مكة فإني لم أر السماء بمكان أقرب إلى الأرض منها بمكة ولم يطمئن قلبي ببلد قط ما اطمأن بمكة ولم أر القمر بمكان أحسن منه بمكة، وقال ابن أم مكتوم وهو آخذ بزمام ناقة رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، وهو يطوف:
يا حبّذا مكة من وادي، ... أرض بها أهلي وعوّادي
أرض بها ترسخ أوتادي، ... أرض بها أمشي بلا هادي
ولما قدم رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، المدينة هو وأبو بكر وبلال فكان أبو بكر إذا أخذته الحمّى يقول:
كلّ امرئ مصبّح في أهله، ... والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا انقشعت عنه رفع عقيرته وقال:
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة ... بفخّ وعندي إذخر وجليل؟
وهل أردن يوما مياه مجنّة، ... وهل يبدون لي شامة وطفيل؟
اللهم العن شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا من مكة! ووقف رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، عام الفتح على جمرة العقبة وقال:
والله إنك لخير أرض الله وإنك لأحب أرض الله إليّ ولو لم أخرج ما خرجت، إنها لم تحلّ لأحد كان قبلي ولا تحلّ لأحد كان بعدي وما أحلّت لي إلا ساعة من نهار ثم هي حرام لا يعضد شجرها ولا يحتش خلالها ولا تلتقط ضالتها إلا لمنشد، فقال رجل:
يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لبيوتنا وقبورنا، فقال، صلّى الله عليه وسلّم: إلا الإذخر، وقال، صلى الله عليه وسلم: من صبر على حرّ مكة ساعة تباعدت عنه جهنم مسيرة مائة عام وتقربت منه الجنة مائتي عام، ووجد على حجر فيها كتاب فيه: أنا الله رب بكة الحرام وضعتها يوم وضعت الشمس والقمر وحففتها بسبعة أملاك حنفاء لا تزال أخشابها مبارك لأهلها في الحمإ والماء، ومن فضائله أنه من دخله كان آمنا ومن أحدث في غيره من البلدان حدثا ثم لجأ إليه فهو آمن إذا دخله فإذا خرج منه أقيمت عليه الحدود، ومن أحدث فيه حدثا أخذ بحدثه، وقوله تعالى: وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا، وقوله: لتنذر أم القرى ومن حولها، دليل على فضلها على سائر البلاد، ومن شرفها أنها كانت لقاحا لا تدين لدين الملوك ولم يؤدّ أهلها إتاوة ولا ملكها ملك قط من سائر البلدان، تحج إليها ملوك حمير وكندة وغسان ولخم فيدينون للحمس من قريش ويرون تعظيمهم والاقتداء بآثارهم مفروضا وشرفا عندهم عظيما، وكان أهله آمنين يغزون الناس ولا يغزون ويسبون ولا يسبون ولم تسب قرشيّة قط فتوطأ قهرا ولا يجال عليها السّهام، وقد ذكر عزهم وفضلهم الشعراء فقال بعضهم:
أبوا دين الملوك فهم لقاح ... إذا هيجوا إلى حرب أجابوا
وقال الزّبر قان بن بدر لرجل من بني عوف كان قد هجا أبا جهل وتناول قريشا:
أتدري من هجوت أبا حبيب ... سليل خضارم سكنوا البطاحا
أزاد الركب تذكر أم هشاما ... وبيت الله والبلد اللّقاحا؟
وقال حرب بن أميّة ودعا الحضرميّ إلى نزول مكة وكان الحضرمي قد حالف بني نفاثة وهم حلفاء حرب ابن أميّة وأراد الحضرمي أن ينزل خارجا من الحرم وكان يكنّى أبا مطر فقال حرب:
أبا مطر هلمّ إلى الصلاح ... فيكفيك الندامى من قريش
وتنزل بلدة عزّت قديما، ... وتأمن أن يزورك ربّ جيش
فتأمن وسطهم وتعيش فيهم، ... أبا مطر هديت، بخير عيش
ألا ترى كيف يؤمّنه إذا كان بمكة؟ ومما زاد في فضلها وفضل أهلها ومباينتهم العرب أنهم كانوا حلفاء متألفين ومتمسكين بكثير من شريعة إبراهيم، عليه السلام، ولم يكونوا كالأعراب الأجلاف ولا كمن لا يوقره دين ولا يزينه أدب، وكانوا يختنون أولادهم ويحجون البيت ويقيمون المناسك ويكفنون موتاهم ويغتسلون من الجنابة، وتبرأوا من الهربذة وتباعدوا في المناكح من البنت وبنت البنت والأخت وبنت الأخت غيرة وبعدا من المجوسية، ونزل القرآن بتوكيد صنيعهم وحسن اختيارهم، وكانوا يتزوجون بالصداق والشهود ويطلّقون ثلاثا ولذلك قال عبد الله بن عباس وقد سأله رجل عن طلاق العرب فقال: كان الرجل يطلق امرأته تطليقة ثم هو أحق بها فإن طلّقها ثنتين فهو أحق بها أيضا فإن طلقها ثلاثا فلا سبيل له إليها، ولذلك قال الأعشى:
أيا جارتي بيني فإنك طالقه، ... كذاك أمور الناس غاد وطارقه
وبيني فقد فارقت غير ذميمة، ... وموموقة منّا كما أنت وامقه
وبيني فإنّ البين خير من العصا ... وأن لا تري لي فوق رأسك بارقه
ومما زاد في شرفهم أنهم كانوا يتزوجون في أي القبائل شاءوا ولا شرط عليهم في ذلك ولا يزوجون أحدا حتى يشرطوا عليه بأن يكون متحمسا على دينهم يرون أن ذلك لا يحلّ لهم ولا يجوز لشرفهم حتى يدين لهم وينتقل إليهم، والتّحمّس: التشدّد في الدين، ورجل أحمس أي شجاع، فحمّسوا خزاعة ودانت لهم إذ كانت في الحرم وحمّسوا كنانة وجديلة قيس وهم فهم وعدوان ابنا عمرو بن قيس بن عيلان وثقيفا لأنهم سكنوا الحرم وعامر بن صعصعة وإن لم يكونوا من ساكني الحرم فإن أمّهم قرشية وهي مجد بنت تيم بن مرّة، وكان من سنّة الحمس أن لا يخرجوا أيام الموسم إلى عرفات إنما يقفون بالمزدلفة، وكانوا لا يسلأون ولا يأقطون ولا يرتبطون عنزا ولا بقرة ولا يغزلون صوفا ولا وبرا ولا يدخلون بيتا من الشّعر والمدر وإنما يكتنّون بالقباب الحمر في الأشهر الحرم ثم فرضوا على العرب قاطبة أن يطرحوا أزواد الحلّ إذا دخلوا الحرم وأن يخلّوا ثياب الحل ويستبدلوها بثياب الحرم إما شرى وإما عارية وإما هبة فإن وجدوا ذلك وإلا طافوا بالبيت عرايا وفرضوا على نساء العرب مثل ذلك إلا أن المرأة كانت تطوف في درع مفرّج المقاديم والمآخير، قالت امرأة وهي تطوف بالبيت:
اليوم يبدو بعضه أو كلّه، ... وما بدا منه فلا أحلّه
أخثم مثل القعب باد ظلّه ... كأنّ حمّى خيبر تملّه
وكلفوا العرب أن تفيض من مزدلفة وقد كانت تفيض من عرفة أيام كان الملك في جرهم وخزاعة وصدرا من أيام قريش، فلولا أنهم أمنع حيّ من العرب لما أقرّتهم العرب على هذا العزّ والإمارة مع نخوة العرب في إبائها كما أجلى قصيّ خزاعة وخزاعة جرهما، فلم تكن عيشتهم عيشة العرب، يهتبدون الهبيد ويأكلون الحشرات وهم الذين هشموا الثريد حتى قال فيهم الشاعر:
عمرو العلى هشم الثريد لقومه، ... ورجال مكة مسنتون عجاف
حتى سمي هاشما، وهذا عبد الله بن جدعان التيمي يطعم الرّغو والعسل والسمن ولبّ البرّ حتى قال فيه أمية بن أبي الصّلت:
له داع بمكة مشمعلّ، ... وآخر فوق دارته ينادي
إلى ردح من الشّيزى ملاء ... لباب البرّ يلبك بالشّهاد
وأول من عمل الحريرة سويد بن هرميّ، ولذلك قال الشاعر لبني مخزوم:
وعلمتم أكل الحرير وأنتم ... أعلى عداة الدهر جدّ صلاب
والحريرة: أن تنصب القدر بلحم يقطّع صغارا على ماء كثير فإذا نضج ذرّ عليه الدقيق فإن لم يكن لحم فهو عصيدة وقيل غير ذلك، وفضائل قريش كثيرة وليس كتابي بصددها، ولقد بلغ من تعظيم العرب لمكة أنهم كانوا يحجّون البيت ويعتمرون ويطوفون فإذا أرادوا الانصراف أخذ الرجل منهم حجرا من حجارة الحرم فنحته على صورة أصنام البيت فيحفى به في طريقه ويجعله قبلة ويطوفون حوله ويتمسحون به ويصلّون له تشبيها له بأصنام البيت، وأفضى بهم الأمر بعد طول المدة أنهم كانوا يأخذون الحجر من الحرم فيعبدونه فذلك كان أصل عبادة العرب للحجارة في منازلهم شغفا منهم بأصنام الحرم، وقد ذكرت كثيرا من فضائلها في ترجمة الحرم والكعبة فأغنى عن الإعادة، وأما رؤساء مكة فقد ذكرناهم في كتابنا المبدإ والمآل وأعيد ذكرهم ههنا لأن هذا الموضع مفتقر إلى ذلك، قال أهل الإتقان من أهل السير: إن إبراهيم الخليل لما حمل ابنه إسماعيل، عليهما السلام، إلى مكة، كما ذكرنا في باب الكعبة من هذا الكتاب، جاءت جرهم وقطوراء وهما قبيلتان من اليمن وهما ابنا عمّ وهما جرهم بن عامر بن سبإ بن يقطن بن عامر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، عليه السّلام، وقطوراء، فرأيا بلدا ذا ماء وشجر فنزلا ونكح إسماعيل في جرهم، فلما توفي ولي البيت بعده نابت بن إسماعيل وهو أكبر ولده ثم ولي بعده مضاض بن عمرو الجرهمي خال ولد إسماعيل ما شاء الله أن يليه ثم تنافست جرهم وقطوراء في الملك وتداعوا للحرب فخرجت جرهم من قعيقعان وهي أعلى مكة وعليهم مضاض ابن عمرو، وخرجت قطوراء من أجياد وهي أسفل مكة وعليهم السّميدع، فالتقوا بفاضح واقتتلوا قتالا شديدا فقتل السميدع وانهزمت قطوراء فسمي الموضع فاضحا لأن قطوراء افتضحت فيه، وسميت أجياد أجيادا لما كان معهم من جياد الخيل، وسميت فعيقعان لقعقعة السلاح، ثم تداعوا إلى الصلح واجتمعوا في الشعب وطبخوا القدور فسمي المطابخ، قالوا: ونشر الله ولد إسماعيل فكثروا وربلوا ثم انتشروا في البلاد لا يناوئون قوما إلا ظهروا عليهم بدينهم، ثم إن جرهما
بغوا بمكة فاستحلّوا حراما من الحرمة فظلموا من دخلها وأكلوا مال الكعبة وكانت مكة تسمى النّسّاسة لا تقرّ ظلما ولا بغيا ولا يبغي فيها أحد على أحد إلا أخرجته فكان بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة بن غسان وخزاعة حلولا حول مكة فآذنوهم بالقتال فاقتتلوا فجعل الحارث بن عمرو بن مضاض الأصغر يقول:
لا همّ إنّ جرهما عبادك، ... الناس طرف وهم تلادك
فغلبتهم خزاعة على مكة ونفتهم عنها، ففي ذلك يقول عمرو بن الحارث بن عمرو بن مضاض الأصغر:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
ولم يتربّع واسطا فجنوبه ... إلى السرّ من وادي الأراكة حاضر
بلى، نحن كنّا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر
وأبدلنا ربي بها دار غربة ... بها الجوع باد والعدوّ المحاصر
وكنّا ولاة البيت من بعد نابت ... نطوف بباب البيت والخير ظاهر
فأخرجنا منها المليك بقدرة، ... كذلك ما بالناس تجري المقادر
فصرنا أحاديثا وكنا بغبطة، ... كذلك عضّتنا السنون الغوابر
وبدّلنا كعب بها دار غربة ... بها الذئب يعوي والعدوّ المكاثر
فسحّت دموع العين تجري لبلدة ... بها حرم أمن وفيها المشاعر
ثم وليت خزاعة البيت ثلاثمائة سنة يتوارثون ذلك كابرا عن كابر حتى كان آخرهم حليل بن حبشيّة بن سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة وهو خزاعة بن حارثة بن عمرو مزيقياء الخزاعي وقريش إذ ذاك هم صريح ولد إسماعيل حلول وصرم وبيوتات متفرقة حوالي الحرم إلى أن أدرك قصيّ بن كلاب بن مرّة وتزوّج حبّى بنت حليل بن حبشية وولدت بنيه الأربعة وكثر ولده وعظم شرفه ثم هلك حليل بن حبشيّة وأوصى إلى ابنه المحترش أن يكون خازنا للبيت وأشرك معه غبشان الملكاني وكان إذا غاب أحجب هذا حتى هلك الملكاني، فيقال إن قصيّا سقى المحترش الخمر وخدعه حتى اشترى البيت منه بدنّ خمر وأشهد عليه وأخرجه من البيت وتملّك حجابته وصار ربّ الحكم فيه، فقصيّ أول من أصاب الملك من قريش بعد ولد إسماعيل وذلك في أيام المنذر ابن النعمان على الحيرة والملك لبهرام جور في الفرس، فجعل قصي مكة أرباعا وبنى بها دار النّدوة فلا تزوّج امرأة إلا في دار الندوة ولا يعقد لواء ولا يعذر غلام ولا تدرّع جارية إلا فيها، وسميت الندوة لأنهم كانوا ينتدون فيها للخير والشر فكانت قريش تؤدّي الرفادة إلى قصي وهو خرج يخرجونه من أموالهم يترافدون فيه فيصنع طعاما وشرابا للحاج أيام الموسم، وكانت قبيلة من جرهم اسمها صوفة بقيت بمكة تلي الإجازة بالناس من عرفة مدة، وفيهم يقول الشاعر:
ولا يريمون في التعريف موقعهم ... حتى يقال أجيزوا آل صوفانا
ثم أخذتها منهم خزاعة وأجازوا مدة ثم غلبهم عليها بنو عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان وصارت إلى رجل منهم يقال له أبو سيّارة أحد بني سعد بن وابش ابن زيد بن عدوان، وله يقول الراجز:
خلّوا السبيل عن أبي سيّاره ... وعن مواليه بني فزاره
حتى يجيز سالما حماره ... مستقبل الكعبة يدعو جاره
وكانت صورة الإجازة أن يتقدمّهم أبو سيّارة على حماره ثم يخطبهم فيقول: اللهمّ أصلح بين نسائنا وعاد بين رعائنا واجعل المال في سمحائنا، وأوفوا بعهدكم وأكرموا جاركم واقروا ضيفكم، ثم يقول: أشرق ثبير كيما نغير، ثم ينفذ ويتبعه الناس، فلما قوي أمر قصيّ أتى أبا سيّارة وقومه فمنعه من الإجازة وقاتلهم عليها فهزمهم فصار إلى قصيّ البيت والرفادة والسقاية والندوة واللواء، فلما كبر قصيّ ورقّ عظمه جعل الأمر في ذلك كله إلى ابنه عبد الدار لأنه أكبر ولده وهلك قصيّ وبقيت قريش على ذلك زمانا، ثم إن عبد مناف رأى في نفسه وولده من النباهة والفضل ما دلّهم على أنهم أحق من عبد الدار بالأمر، فأجمعوا على أخذ ما بأيديهم وهمّوا بالقتال فمشى الأكابر بينهم وتداعوا إلى الصلح على أن يكون لعبد مناف السقاية والرفادة وأن تكون الحجابة واللواء والندوة لبني عبد الدار، وتعاقدوا على ذلك حلفا مؤكّدا لا ينقضونه ما بلّ بحر صوفة، فأخرجت بنو عبد مناف ومن تابعهم من قريش وهم بنو الحارث بن فهر وأسد بن عبد العزّى وزهرة بن كلاب وتيم بن مرّة جفنة مملوءة طيبا وغمسوا فيها أيديهم ومسحوا بها الكعبة توكيدا على أنفسهم فسمّوا المطيبين، وأخرجت بنو عبد الدار ومن تابعهم وهم مخزوم بن يقظة وجمح وسهم وعدي بن كعب جفنة مملوءة دما وغمسوا فيها أيديهم ومسحوا بها الكعبة فسمّوا الأحلاف ولعقة الدم ولم يل الخلافة منهم غير عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، والباقون من المطيّبين فلم يزالوا على ذلك حتى جاء الإسلام وقريش على ذلك حتى فتح النبي، صلّى الله عليه وسلّم، مكة في سنة ثمان للهجرة فأقرّ المفتاح في يد عثمان بن طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزى ابن عثمان بن عبد الدار وكان النبي، صلّى الله عليه وسلّم، أخذ المفاتيح منه عام الفتح فأنزلت: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، فاستدعاه ورد المفاتيح إليه وأقر السقاية في يد العباس فهي في أيديهم إلى الآن، وهذا هو كاف من هذا البحث، وأما صفتها، يعني مكة، فهي مدينة في واد والجبال مشرفة عليها من جميع النواحي محيطة حول الكعبة، وبناؤها من حجارة سود وبيض ملس وعلوها آجرّ كثيرة الأجنحة من خشب الساج وهي طبقات لطيفة مبيّضة، حارّة في الصيف إلا أن ليلها طيّب وقد رفع الله عن أهلها مؤونة الاستدفاء وأراحهم من كلف الاصطلاء، وكل ما نزل عن المسجد الحرام يسمونه المسفلة وما ارتفع عنه يسمونه المعلاة، وعرضها سعة الوادي، والمسجد في ثلثي البلد إلى المسفلة والكعبة في وسط المسجد، وليس بمكة ماء جار ومياهها من السماء، وليست لهم آبار يشربون منها وأطيبها بئر زمزم ولا يمكن الإدمان على شربها، وليس بجميع مكة شجر مثمر إلا شجر البادية فإذا جزت الحرم فهناك عيون وآبار وحوائط كثيرة وأودية ذات خضر ومزارع ونخيل وأما الحرم فليس به شجر مثمر إلا نخيل يسيرة متفرقة، وأما المسافات فمن الكوفة إلى مكة سبع وعشرون مرحلة وكذلك من البصرة إليها ونقصان يومين، ومن دمشق إلى مكة شهر، ومن عدن إلى مكة شهر، وله طريقان أحدهما على ساحل البحر وهو أبعد والآخر يأخذ على طريق صنعاء وصعدة ونجران والطائف حتى ينتهي إلى مكة، ولها طريق آخر على البوادي وتهامة وهو أقرب من الطريقين المذكورين أولا على أنها على أحياء العرب في بواديها ومخالفها لا يسلكها إلا الخواصّ منهم، وأما أهل حضرموت ومهرة فإنهم يقطعون عرض بلادهم حتى يتصلوا بالجادّة التي بين عدن ومكة، والمسافة بينهم إلى الأمصار بهذه الجادة من نحو الشهر إلى الخمسين يوما، وأما طريق عمان إلى مكة فهو مثل طريق دمشق صعب السلوك من البوادي والبراري القفر القليلة السكان وإنما طريقهم في البحر إلى جدّة فإن سلكوا على السواحل من مهرة وحضرموت إلى عدن بعد عليهم وقلّ ما يسلكونه، وكذلك ما بين عمان والبحرين فطريق شاقّ يصعب سلوكه لتمانع العرب فيما بينهم فيه.

النُّخَيْلَةُ

النُّخَيْلَةُ:
تصغير نخلة: موضع قرب الكوفة على سمت الشام وهو الموضع الذي خرج إليه عليّ، رضي الله عنه، لما بلغه ما فعل بالأنبار من قتل عامله عليها وخطب خطبة مشهورة ذمّ فيها أهل الكوفة وقال: اللهم إني لقد مللتهم وملّوني فأرحني منهم! فقتل بعد ذلك بأيام، وبه قتلت الخوارج لما ورد معاوية إلى الكوفة، وقد ذكرت قصته في الجوسق الخرب، فقال قيس ابن الأصم الضبيّ يرثي الخوارج:
إني أدين بما دان الشُّراة به ... يوم النخيلة عند الجوسق الخرب
وقال عبيد بن هلال الشيباني يرثي أخاه محرزا وكان قد قتل مع قطري بنيسابور:
إذا ذكرت نفسي مع الليل محرزا ... تأوّهت من حزن عليه إلى الــفجر
سرى محرز والله أكرم محرزا ... بمنزل أصحاب النخيلة والنهر
والنّخيلة أيضا: ماء عن يمين الطريق قرب المغيثة والعقبة على سبعة أميال من جويّ غربيّ واقصة، بينها وبين الحفير ثلاثة أميال، وقال عروة بن زيد الخيل يوم النخيلة من أيام القادسية:
برزت لأهل القادسية معلما، ... وما كل من يغشى الكريهة يعلم
ويوما بأكناف النخيلة قبله ... شهدت فلم أبرح أدمّى وأكلم
وأقعصت منهم فارسا بعد فارس، ... وما كلّ من يلقى الفوارس يسلم
ونجّاني الله الأجلّ وجرأتي، ... وسيف لأطراف المرازب مخذم
وأيقنت يوم الدّيلميّين أنني ... متى ينصرف وجهي إلى القوم يهزموا
فما رمت حتى مزّقوا برماحهم قبائي وحتى بلّ أخمصي الدّم محافظة، إني امرؤ ذو حفيظة، إذا لم أجد مستأخرا أتقدّم

نَيْسَابُور

نَيْسَابُور:
بفتح أوله، والعامة يسمونه نشاوور:
وهي مدينة عظيمة ذات فضائل جسيمة معدن الفضلاء ومنبع العلماء لم أر فيما طوّفت من البلاد مدينة ومنبع العلماء لم أر فيما طوّفت من البلاد مدينة كانت مثلها، قال بطليموس في كتاب الملحمة: مدينة نيسابور طولها خمس وثمانون درجة، وعرضها تسع وثلاثون درجة، خارجة من الإقليم الرابع في الإقليم الخامس، طالعها الميزان، ولها شركة في كف الجوزاء مع الشعرى العبور تحت ثلاث عشرة درجة من السرطان، ويقابلها مثلها من الجدي، بيت عاقبتها مثلها من الميزان، بيت حياتها ... [1] ، ومن هناك طالت أعمار أهلها، بيت ملكها ثلاث عشرة درجة من الحمل، وقد ذكرنا في جمل ذكر الأقاليم أنها في الرابع، وفي زيج أبي عون إسحاق بن علي: إن طول نيسابور ثمانون درجة ونصف وربع، وعرضها سبع وثلاثون درجة، وعدّها في الإقليم الرابع، واختلف في تسميتها بهذا الاسم فقال بعضهم: إنما سميت بذلك لأن سابور مرّ بها وفيها قصب كثير فقال: يصلح أن يكون ههنا مدينة، فقيل لها نيسابور، وقيل في تسمية نيسابور وسابور خواست وجنديسابور:
إن سابور لما فقدوه حين خرج من مملكته لقول المنجمين، كما ذكرناه في منارة الحوافر، خرج أصحابه يطلبونه فبلغوا نيسابور فلم يجدوه فقالوا نيست سابور أي ليس سابور، فرجعوا حتى وقعوا إلى سابور خواست فقيل لهم ما تريدون؟ فقالوا: سابور خواست، معناه سابور نطلب، ثم وقعوا إلى جنديسابور فقالوا وند سابور أي وجد سابور، ومن أسماء نيسابور أبرشهر وبعضهم يقول إيرانشهر، والصحيح أن إيرانشهر هي ما بين جيحون إلى القادسية، ومن الرّي إلى نيسابور مائة وستون فرسخا، ومنها إلى سرخس أربعون فرسخا، ومن سرخس إلى مرو الشاهجان ثلاثون فرسخا، وأكثر شرب أهل نيسابور من قنيّ تجري تحت الأرض ينزل إليها في سراديب مهيّأة لذلك فيوجد الماء تحت الأرض وليس بصادق الحلاوة، وعهدي بها كثيرة الفواكه والخيرات، وبها ريباس ليس في الدنيا مثله تكون الواحدة منه منّا وأكثر، وقد وزنوا واحدة فكانت خمسة أرطال بالعراقي وهي بيضاء صادقة البياض كأنها الطَّلع، وكان المسلمون فتحوها في أيام عثمان بن عفان، رضي الله عنه، والأمير عبد الله بن عامر بن كريز في سنة 31 صلحا وبنى بها جامعا، وقيل إنها فتحت في أيام عمر، رضي الله عنه، على يد الأحنف بن قيس وإنما انتقضت في [1] هكذا في الأصل.
أيام عثمان فأرسل إليها عبد الله بن عامر ففتحها ثانية وأصابها الغزّ في سنة 548 بمصيبة عظيمة حيث أسروا الملك سنجر وملكوا أكثر خراسان وقدموا نيسابور وقتلوا كل من وجدوا واستصفوا أموالهم حتى لم يبق فيها من يعرف وخرّبوها وأحرقوها ثم اختلفوا فهلكوا واستولى عليها المؤيد أحد مماليك سنجر فنقل الناس إلى محلة منها يقال لها شاذياخ وعمّرها وسوّرها وتقلّبت بها أحوال حتى عادت أعمر بلاد الله وأحسنها وأكثرها خيرا وأهلا وأموالا لأنها دهليز المشرق ولا بدّ للقفول من ورودها، وبقيت على ذلك إلى سنة 618، خرج من وراء النهر الكفار من الترك المسمون بالتتر واستولوا على بلاد خراسان وهرب منهم محمد ابن تكش بن ألب أرسلان خوارزم شاه وكان سلطان المشرق كله إلى باب همذان وتبعوه حتى أفضى به الأمر إلى أن مات طريدا بطبرستان في قصة طويلة، واجتمع أكثر أهل خراسان والغرباء بنيسابور وحصنوها بجهدهم فنزل عليها قوم من هؤلاء الكفار فامتنعت عليهم ثم خرج مقدّم الكفار يوما ودنا من السور فرشقه رجل من نيسابور بسهم فقتله فجرّــى الأتراك خيولهم وانصرفوا إلى ملكهم الأعظم الذي يقال له جنكزخان فجاء بنفسه حتى نزل عليها وكان المقتول زوج ابنته فنازلها وجدّ في قتال من بها فزعم قوم أن علويّا كان متقدّما على أحد أبوابها راسل الكفار يستلزم منهم على تسليم البلد ويشرط عليهم أنهم إذا فتحوه جعلوه متقدّما فيه، فأجابوه إلى ذلك ففتح لهم الباب وأدخلهم فأول من قتلوا العلويّ ومن معه، وقيل:
بل نصبوا عليها المناجيق وغيرها حتى أخذوها عنوة ودخلوا إليها دخول حنق يطلب النفس والمال فقتلوا كل من كان فيها من كبير وصغير وامرأة وصبيّ ثم خرّبوها حتى ألحقوها بالأرض وجمعوا عليها جموع الرستاق حتى حفروها لاستخراج الدفائن، فبلغني أنه لم يبق بها حائط قائم، وتركوها ومضوا فجاء قوم من قبل خوارزم شاه فأقاموا بها يسبرون الدفائن فأذهبوها مرّة، فإنا لله وإنّا إليه راجعون، من مصيبة ما دهى الإسلام قط مثلها، وقال أبو يعلى محمد بن الهبّارية: أنشدني القاضي أبو الحسن الاستراباذي لنفسه فقال:
لا قدّس الله نيسابور من بلد ... سوق النفاق بمغناها على ساق
يموت فيها الفتى جوعا وبرّهم ... والفضل ما شئت من خير وأرزاق
والحبر في معدن الغرثى، وإن برقت ... أنواره في المعاني، غير برّاق
وقال المرادي يذمّ أهلها:
لا تنزلنّ بنيسابور مغتربا ... إلا وحبلك موصول بسلطان
أو لا فلا أدب يجدي ولا حسب ... يغني ولا حرمة ترعى لإنسان
وقال أبو العباس الزّوزني المعروف بالمأموني:
ليس في الأرض مثل نيسابور ... بلد طيب وربّ غفور
وقد خرج منها من أئمة العلم من لا يحصى، منهم:
الحافظ الإمام أبو علي الحسين بن علي بن زيد ابن داود بن يزيد النيسابوري الصائغ، رحل في طلب العلم والحديث وطاف وجمع فيه وصنف وسمع الكثير من أبي بكر بن خزيمة وعبدان الجواليقي وأبي يعلى الموصلي وأحمد بن نصر الحافظ والحسن بن سفيان وإبراهيم بن يوسف الهسنجاني وأبي خليفة وزكرياء الساجي وغيرهم، وكتب عنه أبو الحسن
ابن جوصا وأبو العباس بن عقدة وأبو محمد صاعد وإبراهيم بن محمد بن حمزة وأبو محمد الغسّال وأبو طالب أحمد بن نصر الحافظ وهم من شيوخه، روى عنه أبو عبد الله الحاكم وأبو عبد الرحمن السّلمي وأبو عبد الله بن مندة وأبو بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب الصّبغي وهو من أقرانه، قال أبو عبد الرحمن السلمي: سألت الدارقطني عنه فقال: مهذب إمام، وقال أبو عبد الله بن مندة: ما رأيت في اختلاف الحديث والإتقان أحفظ من أبي علي الحسين بن علي النيسابوري، قال أبو عبد الله في تاريخه: الحسين بن علي بن يزيد أبو علي النيسابوري الحافظ وحيد عصره في الحفظ والإتقان والورع والرحلة ذكره بالشرق كذكره بالغرب مقدم في مذاكرة الأئمة وكثرة التصنيف كان مع تقدمه في هذا العلم أحد المعدلين المقبولين في البلد، سمع بنيسابور وهراة ونسا وجرجان ومرو الروذ والرّيّ وبغداد والكوفة وواسط والأهواز وأصبهان ودخل الشام فكتب بها، وسمع بمصر، وكتب بمكة عن الفضل بن محمد الجندي، وقال في موضع آخر: انصرف أبو علي من مصر إلى بيت المقدس ثم حجّ حجة أخرى ثم انصرف إلى بيت المقدس وانصرف في طريق الشام إلى بغداد، وهو باقعة في الذكر والحفظ لا يطيق مذاكرته أحد، ثم انصرف إلى خراسان ووصل إلى وطنه، ولا يفي بمذاكرته أحد من حفّاظنا، ثم أقام بنيسابور يصنّف ويجمع الشيوخ والأتراب، قال: وسمعت أبا بكر محمد بن عمر الجعابي يقول:
أنّ أبا علي أستاذي في هذا العلم وعقد له مجلس الإملاء بنيسابور سنة 337 وهو ابن ستين سنة، وإن مولده سنة 277، ولم يزل يحدث بالمصنّفات والشيوخ مدة عمره، وتوفي أبو علي عشية يوم الأربعاء الخامس عشر من جمادى الأولى سنة 349 ودفن في مقبرة باب معمر عن اثنتين وسبعين سنة.
Learn Quranic Arabic from scratch with our innovative book! (written by the creator of this website)
Available in both paperback and Kindle formats.