Current Dictionary: All Dictionaries

Search results for: عاق

الْحجر

(الْحجر) فِي الشَّرْع الْمَنْع من التَّصَرُّف لصِغَر أَو سفه أَو جُنُون والناحية وَمن الْإِنْسَان حضنه وَيُقَال هُوَ فِي حجره فِي كنفه وحمايته ومحجر الْعين وَهُوَ مَا دَار بهَا

(الْحجر) الْحجر فِي كل مَا تقدم مَا عدا الِاصْطِلَاح الشَّرْعِيّ والقرابة وَيُقَال هُوَ فِي حجر فلَان كنفه وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيز {وربائبكم اللَّاتِي فِي حجوركم من نِسَائِكُم اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهن} وَالْعقل وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيز {هَل فِي ذَلِك قسم لذِي حجر} وَأُنْثَى الْخَيل (ج) حجور وأحجار وَمَا حواه الْحطيم وَهُوَ جَانب الْكَعْبَة من جِهَة الشمَال وَمَا بَين يَدي الْإِنْسَان من ثَوْبه

(الْحجر) كسارة الصخور أَو الصخور الصلبة المكونة من تجمع الكسارة والفتات وتصلبهما (مج)(ج) أَحْجَار وحجارة والأحجار الْكَرِيمَة النفيسة الثمينة كالياقوت وَنَحْوه و (الْحجر الْأسود) حجر فِي أحد أَرْكَان الْكَعْبَة يستلمه الْحجَّاج عِنْد طوافهم وَحجر الطباعة ضرب من الْحجر الجيري دَقِيق الحبيبات كَانَ يسْتَعْمل فِي الْكِتَابَة والرسم (مج)

(الْحجر) مَكَان حجر كثير الْحِجَارَة

(الْحجر) مَا يُحِيط بالظفر من اللَّحْم
الْحجر: بِفَتْح الْحَاء وَالْجِيم بِالْفَارِسِيَّةِ سنكك. وَقد يُرَاد بِهِ الذَّهَب وَالْفِضَّة كَمَا يُقَال فلَان ابْن الْحجر أَي كثير المَال. وَمن هَذَا لقب الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم الْعَامِل الْحَافِظ شهَاب الدّين أَبُو الْفضل أَحْمد بن عَليّ الْعَسْقَلَانِي بِابْن حجر رَحْمَة الله عَلَيْهِ. وَوجه تلقبه بذلك كَثْرَة مَاله وضياعه وَهَذَا لقبه رَحمَه الله وَإِن كَانَ بِصِيغَة الكنية وَهُوَ شَائِع فِي أَسمَاء الرِّجَال. وَقيل لقب رَحمَه الله بذلك لجودة ذهنه وصلابة رَأْيه بِحَيْثُ يرد اعْتِرَاض كل معترض حَتَّى قيل إِنَّه ابْن حجر لَا يتَصَرَّف فِيهِ أحد من حَيْثُ الإسكات والإلزام.
وَالْحجر بحركات الْحَاء وَسُكُون الْجِيم فِي اللُّغَة الْمَنْع مُطلقًا أَي منع كَانَ. وَمِنْه سمي الْعقل حجرا لِأَنَّهُ يمْنَع القبائح. قَالَ الله تَعَالَى {هَل فِي ذَلِك قسم لذِي حجر} . أَي لذِي عقل. وَالْحجر بِفَتْح الْحَاء وَسُكُون الْجِيم فِي الشَّرْع هُوَ الْمَنْع عَن التَّصَرُّف القولي لَا الْفعْلِيّ لِأَن الْحجر لَا يتَحَقَّق فِي أَفعَال الْجَوَارِح. فالصبي وَالْعَبْد إِذا أتلف مَال الْغَيْر يجب الضَّمَان وَكَذَا الْمَجْنُون.

والأسباب: الْمُوجبَة للحجر ثَلَاثَة الصغر وَالرّق وَالْجُنُون فَلَا يجوز تصرف الصَّبِي إِلَّا بِإِذن وليه. وَلَا تصرف العَبْد إِلَّا بِإِذن سَيّده. وَلَا تصرف الْمَجْنُون فَإِن كَانَ الْمَجْنُون بِحَيْثُ لَا يفِيق أصلا وَهُوَ مسلوب الْعقل فَلَا يجوز تصرفه أصلا. وَإِن كَانَ بِحَيْثُ يفِيق تَارَة وَيحسن أُخْرَى وَهُوَ الْمَعْتُوه. فَإِن عقد فِي حَال الْجُنُون فَلَا يجوز مُطلقًا إِذن لَهُ الْوَلِيّ أَولا. وَإِن كَانَ فِي كَلَامه اخْتِلَاط بِكَلَام الْعُقَلَاء والغفلاء. فَإِن عقد فالولي بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ أجَازه إِذا كَانَ فِيهِ مصلحَة وَإِن شَاءَ فسخ وَفِي كنز الدقائق وَمن عقد مِنْهُم وَهُوَ يعقله يُجِيزهُ الْوَلِيّ أَو يفسخه. وَالْمرَاد بقوله مِنْهُم الصَّبِي وَالْعَبْد وَالْمَجْنُون الَّذِي يخْتَلط كَلَامه لَا الَّذِي مسلوب الْعقل كَمَا عرفت. وَالْمرَاد بِالْعقدِ التَّصَرُّف الدائر بَين الْمَنْفَعَة والمضرة. فَإِن التَّصَرُّفَات ثَلَاثَة أَنْوَاع: ضار مَحْض كَالطَّلَاقِ وَالْعتاق والهيبة وَالصَّدَََقَة فَلَا يملكهُ وَإِن أذن لَهُ وليه. وَنَافِع مَحْض كقبول الْهِبَة وَالصَّدَََقَة فَيملكهُ بِغَيْر إِذْنه أَيْضا. ودائر بَين النَّفْع وَالضَّرَر كَالْبيع وَالشِّرَاء. فَمن عقد مِنْهُم هَذَا العقد فالولي بِالْخِيَارِ بالتفصيل الْمَذْكُور لَكِن يشْتَرط أَن يكون الْــعَاقِــد عَاقِــلا بِالْعقدِ الَّذِي تصرف فِيهِ وقاصدا إِيَّاه بِإِثْبَات حكمه لَا هازلا بِهِ وَلَا يحْجر بِسَفَه وَفسق وغفلة وَدين وإفلاس. وَإِمَّا إِذا بلغ الصَّبِي غير رشيد لم يدْفع إِلَيْهِ مَاله حَتَّى يبلغ خمْسا وَعشْرين سنة. وَإِذا بلغ الْمدَّة مُفْسِدا أَي غير رشيد يدْفع إِلَيْهِ مَاله. والسفه بالفتحتين فِي اللُّغَة الخفة أَي خفَّة الْعقل الَّتِي تعرض للْإنْسَان من غضب أَو فَرح يحملهُ على الْفِعْل من غير روية. وَفِي الشَّرِيعَة تبذير المَال وإتلافه على خلاف مُقْتَضى الشَّرْع وَالْعقل فارتكاب غَيره من الْمعاصِي كشرب الْخمر وَالزِّنَا لم يكن من السَّفه المصطلح فِي شَيْء. وَفِي الْعَيْنِيّ شرح كنز الدقائق السَّفه الْعَمَل بِخِلَاف مُوجب الشَّرْع وَاتِّبَاع الْهوى. وَمن عَادَة السَّفِيه التبذير والإسراف فِي النَّفَقَة وَالتَّصَرُّف لَا لغَرَض أَو لغَرَض لَا يعده الْعُقَلَاء من أهل الدّيانَة غَرضا مثل دفع المَال إِلَى الْمُغنِي واللعاب وَشِرَاء الْحَمَامَة الطيارة بِالثّمن الغالي والغبن فِي التِّجَارَات. وَالْمرَاد بالسفه هَا هُنَا هُوَ تبذير المَال وإسرافه بخفة الْعقل. وَالْمرَاد بِالْفِسْقِ هُوَ الارتكاب بِخِلَاف المشروعات بِلَا تبذير المَال. والرشيد من ينْفق المَال فِيمَا يحل ويمسك عَمَّا يحرم وَلَا يتَصَرَّف فِيهِ بالتبذير والإسراف. وَهَذَا مُرَاد من قَالَ إِن الرشيد فعيل من الرشد وَهُوَ الْمُهْتَدي إِلَى وُجُوه الْمصَالح. وَالْمرَاد بالغفلة هُوَ الْغَفْلَة عَن التَّصَرُّفَات المربحة فكثيرا مَا يحصل لَهُ الْغبن فِي التَّصَرُّفَات لِسَلَامَةِ قلبه. وَقَالا رحمهمَا الله يحْجر بِالدّينِ بِأَن كَانَ رجل مديونا وَزَاد دينه على مَاله فيطلب الْغُرَمَاء من القَاضِي الْحجر عَلَيْهِ لِئَلَّا يهب مَاله وَلَا يتَصَدَّق وَلَا يقر لغريم آخر فَيجوز للْقَاضِي حجره عَن هَذِه التَّصَرُّفَات وَنَحْوهَا مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى إبِْطَال حق الْغُرَمَاء وَأما عِنْد أبي حنيفَة رَحمَه الله لَا يحْجر.
وَاعْلَم أَن أَبَا حنيفَة رَحمَه الله يرى الْحجر على ثَلَاثَة - مفتي ماجن - وطبيب جَاهِل - ومكاري مُفلس - دفعا لضررهم عَن النَّاس. وَأما الْمُفْتِي الماجن فَهُوَ الَّذِي يعلم النَّاس الْحِيَل الْبَاطِلَة بِأَن يعلم الْمَرْأَة أَن ترتد فَتبين من زَوجهَا ثمَّ تسلم وَيعلم الرجل أَن يرْتَد فَتسقط عَنهُ الزَّكَاة ثمَّ يسلم وَلَا يُبَالِي بِأَن يحل حَرَامًا أَو يحرم حَلَالا فضرره مُتَعَدٍّ إِلَى الْعَامَّة. فِي الْقَامُوس مجن مجونا صلب وَغلظ. وَمِنْه الماجن لمن لَا يُبَالِي قولا وفعلا كَأَنَّهُ صلب الْوَجْه. والطبيب الْجَاهِل وَهُوَ الَّذِي لَا يعلم دَوَاء الْأَمْرَاض وتشخيصها فيسقي دَوَاء مهْلكا. والمكاري الْمُفلس هُوَ الَّذِي يكاري الدَّابَّة وَيَأْخُذ الْكِرَاء فَإِذا جَاءَ أَوَان السّفر فَلَا دَابَّة لَهُ. وَفِي الذَّخِيرَة وَهُوَ الَّذِي يَأْخُذ كِرَاء الْإِبِل وَلَيْسَ لَهُ إبل وَلَا ظهر يحمل عَلَيْهِ وَلَا مَال يَشْتَرِيهِ وَعند أَوَان الْخُرُوج يخفي نَفسه. وَفِي الْكَافِي هُوَ الَّذِي مَاتَت دَابَّته فِي الطّرق وَلم يجد دَابَّة أُخْرَى بِالشِّرَاءِ أَو الِاسْتِئْجَار فَيُؤَدِّي إِلَى إِتْلَاف مَال النَّاس.

التَّدْبِير

(التَّدْبِير) (التَّدْبِير المنزلي) حسن الْقيام على شؤون الْبَيْت (مج)
التَّدْبِير: فِي اللُّغَة النّظر إِلَى مَا يؤول إِلَيْهِ عاقــبته. وَفِي الشَّرْع تَعْلِيق الْعتْق بِمُطلق مَوته كَذَا مت فَأَنت حر فَإِذا قيد بِمَوْتِهِ بِمَرَض كَذَا أَو بِمُطلق موت رجل آخر لَا يكون مُدبرا.

الِاسْم عين الْمُسَمّى

الِاسْم عين الْمُسَمّى: لَيْسَ المُرَاد بِهِ أَن لفظ زيد مثلا عين الْمُسَمّى بِهِ فَإِنَّهُ لَا يَقُول بِهِ عَاقــل بل قد اشْتهر الْخلاف فِي أَن الِاسْم هَل هُوَ نفس الْمُسَمّى أَو غَيره بِمَعْنى أَن مَدْلُول الِاسْم أهوَ الذَّات من حَيْثُ هِيَ هِيَ أم هُوَ الذَّات بِاعْتِبَار أَمر صَادِق عَلَيْهِ عَارض لَهُ يُنبئ عَنهُ. فَقَالَ الشَّيْخ أَبُو الْحسن الْأَشْعَرِيّ رَحمَه الله قد يكون مَدْلُول الِاسْم عين الْمُسَمّى نَحْو الله فَإِنَّهُ اسْم علم للذات من غير اعْتِبَار معنى فِيهِ. وَقد يكون غَيره نَحْو الْخَالِق والرازق مِمَّا يدل على نسبته إِلَى غَيره وَلَا شكّ أَن تِلْكَ النِّسْبَة غَيره، وَقد يكون لَا هُوَ وَلَا غَيره كالعليم والقدير مِمَّا يدل على صفة حَقِيقِيَّة قَائِمَة بِذَاتِهِ. وَذهب ابْن فورك وَغَيره إِلَى أَن كل اسْم فَهُوَ الْمُسَمّى بِعَيْنِه فقولك الله قَول دَال على اسْم هُوَ الْمُسَمّى. وَكَذَا قَوْلك عَالم وخالق فَإِنَّهُ يدل على الرب الْمَوْصُوف بِكَوْنِهِ عَالما وخالقا. وَأما التَّسْمِيَة فَغير الِاسْم والمسمى بالِاتِّفَاقِ لِأَن التَّسْمِيَة هِيَ وضع الِاسْم للمعنى. نعم قد يُرَاد بهَا ذكر الشَّيْء باسمه كَمَا يُقَال سمى زيدا وَلم يسم عمرا. أَي ذكر زيدا باسمه وَلم يذكر عمرا باسمه. وَذهب أَبُو نصر بن أَيُّوب إِلَى أَن لفظ الِاسْم مُشْتَرك بَين التَّسْمِيَة والمسمى فيطلق على كل مِنْهُمَا وَيفهم الْمَقْصُود بِحَسب الْقَرَائِن يَعْنِي أَن لفظ الِاسْم قد يُطلق وَيُرَاد بِهِ لفظ الْمُسَمّى. وَقد يُطلق وَيُرَاد بِهِ لفظ التَّسْمِيَة لَا أَنه يُطلق على التَّسْمِيَة بِمَعْنى تَخْصِيص اللَّفْظ للمعنى الَّذِي هُوَ فعل الْوَاضِع وكلا الإطلاقين وَاقع ثَابت فِي الِاسْتِعْمَال.

ثمَّ اعْلَم: أَن الأحق أَن يُقَال إِن الِاسْم هُوَ اللَّفْظ الْمَخْصُوص والمسمى مَا وضع ذَلِك اللَّفْظ بإزائه فَنَقُول الِاسْم قد يكون غير الْمُسَمّى فَإِن لفظ الْجِدَار مغائر لحقيقة الْجِدَار. وَقد يكون عينه فَإِن لفظ الِاسْم اسْم للفظ الدَّال على الْمَعْنى الْمُجَرّد عَن الزَّمَان وَمن جملَة تِلْكَ الْأَلْفَاظ لفظ الِاسْم فَيكون لفظ الِاسْم اسْما لنَفسِهِ واتحد هَا هُنَا الِاسْم والمسمى كَذَا فِي شرح المواقف.

مَرَاتِب الْأَنْوَاع الإضافية

مَرَاتِب الْأَنْوَاع الإضافية: أَربع كمراتب الْأَجْنَاس أما الأول فَلِأَن النَّوْع الإضافي إِمَّا أَعم الْأَنْوَاع بِأَن لَا يكون فَوْقه نوع فَهُوَ النَّوْع العالي كالجسم وَإِمَّا أخص الْأَنْوَاع بِأَن لَا يكون تَحْتَهُ نوع فَهُوَ النَّوْع السافل كالإنسان وَإِمَّا أَعم من بَعْضهَا وأخص من الْبَعْض الآخر فَهُوَ النَّوْع الْمُتَوَسّط كالجسم النامي وَالْحَيَوَان - وَأما مبائن لما ذكر بِأَن لَا يكون فَوْقه وَلَا تَحْتَهُ نوع فَهُوَ النَّوْع الْمُفْرد كالعقل - وَأما الثَّانِي فَلِأَن الْجِنْس إِمَّا أَعم الْأَجْنَاس بِأَن لَا يكون فَوْقه جنس فَهُوَ الْجِنْس العالي كالجوهر. أَو أخص الْأَجْنَاس بِأَن لَا يكون تَحْتَهُ جنس فَهُوَ الْجِنْس السافل كالحيوان. أَو يكون أَعم من بَعْضهَا وأخص من الْبَعْض الآخر فَهُوَ الْجِنْس الْمُتَوَسّط كالجسم والجسم النامي. أَو مبائن لما ذكر بِأَن لَا يكون فَوْقه وَلَا تَحْتَهُ جنس فَهُوَ الْجِنْس الْمُفْرد كالعقل. فَإِن قلت أحد التمثيلين بَاطِل لِأَن عقل عَاقــل لَا يجوز كَون الْعقل جِنْسا مُفردا ونوعا مُفردا مَعًا للتقابل بَينهمَا لِأَن كَون الْعقل مِثَالا للنوع الْمُفْرد مَوْقُوف على أَمريْن. أَحدهمَا: كَون الْجَوْهَر جِنْسا لَهُ. وَثَانِيهمَا: كَون الْعُقُول الْعشْرَة الَّتِي تَحْتَهُ متفقين بِالْحَقِيقَةِ وَكَون الْعقل مِثَالا للْجِنْس الْمُفْرد مَشْرُوط بِعَدَمِ ذَيْنك الْأَمريْنِ أَعنِي عدم كَون الْجَوْهَر جِنْسا لَهُ وَعدم كَونه مقولا على كثيرين متفقين بِالْحَقِيقَةِ بل على كثيرين مُخْتَلفين بِالْحَقِيقَةِ أَعنِي الْعُقُول الْعشْرَة الَّتِي تَحْتَهُ. فَتكون هَذِه الْعشْرَة حِينَئِذٍ أنواعا لَهُ منحصرا كل وَاحِد مِنْهَا فِي فَرد وَاحِد فيستحيل أَن يكون الْعقل نوعا مُفردا وجنسا مُفردا مَعًا. قلت الْمَقْصُود من هَذَا التَّمْثِيل التفهيم لَا بَيَان مَا فِي نفس الْأَمر ويكفيه الْفَرْض سِيمَا فِي مَا لَا يُوجد لَهُ مِثَال فِي الْوُجُود فكون أحد التمثيلين صَحِيحا مطابقا للْوَاقِع دون الآخر لَا يضر فِي الْمَقْصُود. فَإِن قيل إِن التَّرْتِيب يَقْتَضِي التَّعَدُّد فَكيف يكون النَّوْع الْمُفْرد أَو الْجِنْس الْمُفْرد من الْمَرَاتِب - قُلْنَا إِن بعض المنطقيين لم يعدوا الْمُفْرد نوعا أَو جِنْسا من الْمَرَاتِب لعدم كَونه فِي سلسلة الترتب وَجعلُوا الْمَرَاتِب منحصرة فِي الثَّلَاثَة العالي والسافل والمتوسط. وَأَكْثَرهم تسامحوا فعدوه من الْمَرَاتِب لِأَن مُلَاحظَة التَّرْتِيب ثَابت فِي كل من الْمُفْرد وَغَيره إِلَّا أَنه فِي الْمُفْرد ملحوظ من حَيْثُ الْعَدَم. وَفِي غَيره من حَيْثُ الْوُجُود على قِيَاس مَا قَالُوا إِن الْإِدْغَام إِمَّا وَاجِب كمد. أَو جَائِز مثل لم يمد. أَو مُمْتَنع نَحْو مددن. وَإِنَّمَا قيدنَا النَّوْع بالإضافي لِأَن النَّوْع الْحَقِيقِيّ لَا يتَصَوَّر فِيهِ الترتب وَإِلَّا لَكَانَ نوع حَقِيقِيّ فَوق نوع حَقِيقِيّ آخر. فَيلْزم إِمَّا كَون النَّوْع الفوقاني جِنْسا أَو كَون النَّوْع التحتاني صنفا وَكِلَاهُمَا خلاف الْمَفْرُوض كَمَا بَين فِي كتب الْمنطق.
وَاعْلَم أَن بَين النَّوْع السافل وَبَين الْجِنْس أَي جنس كَانَ مباينة كُلية كَذَلِك بَين الْجِنْس العالي وَبَين النَّوْع أَي نوع كَانَ مباينة كُلية كَمَا لَا يخفى. وَقَالَ السَّيِّد السَّنَد قدس سره وَبَين كل وَاحِد من النَّوْع العالي والمتوسط وَبَين كل وَاحِد من الْجِنْس الْمُتَوَسّط والسافل عُمُوم من وَجه. وَعَلَيْك باستخراج الْأَمْثِلَة انْتهى. أما بَين الْجِنْس الْمُتَوَسّط وَالنَّوْع العالي فلتحققهما مَعًا فِي الْجِسْم وَتحقّق الْجِنْس الْمُتَوَسّط بِدُونِ النَّوْع العالي فِي الْجِسْم النامي وَتحقّق النَّوْع العالي بِدُونِ الْجِنْس الْمُتَوَسّط فِي اللَّوْن فَإِنَّهُ نوع عَال بِالْقِيَاسِ إِلَى الكيف وجنس سافل لأنواعه أَعنِي الْحمرَة والخضرة والصفرة مثلا. وَأما بَين الْجِنْس الْمُتَوَسّط وَالنَّوْع الْمُتَوَسّط فلتحققهما مَعًا فِي الْجِسْم النامي وَتحقّق الْجِنْس الْمُتَوَسّط بِدُونِ النَّوْع الْمُتَوَسّط فِي الْجِسْم وَتحقّق النَّوْع الْمُتَوَسّط فِي الْحَيَوَان. وَأما بَين الْجِنْس السافل وَالنَّوْع العالي فلتحققهما مَعًا فِي اللَّوْن فَإِن فَوْقه جِنْسا وَهُوَ الكيف وَلَيْسَ تَحْتَهُ جنس بل أَنْوَاع كَمَا مر وَلَيْسَ فَوق اللَّوْن نوع لِأَن فَوْقه كيفا وَهُوَ جنس عَال لَهُ لَا نوع للعرض كَمَا يتَوَهَّم لِأَن الْعرض الَّذِي فَوق الكيف بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ عرض لَهُ لَا ذاتي كَمَا بَين فِي مَوْضِعه. وتتحقق الْجِنْس السافل بِدُونِ النَّوْع العالي فِي الْحَيَوَان. وَتحقّق النَّوْع العالي بِدُونِ الْجِنْس السافل فِي الْجِسْم.
وَأما بَين الْجِنْس السافل وَالنَّوْع الْمُتَوَسّط فلتحققهما مَعًا فِي الْحَيَوَان وَتحقّق الْجِنْس السافل بِدُونِ النَّوْع الْمُتَوَسّط فِي اللَّوْن. وَتحقّق النَّوْع الْمُتَوَسّط بِدُونِ الْجِنْس السافل فِي الْجِسْم النامي. وَهَذِه هِيَ الْأَمْثِلَة المستخرجة فَافْهَم واحفظ فَإِنَّهُ ينفعك فِي حَوَاشِي السَّيِّد السَّنَد قدس سره على شرح الشمسية.

النَّفس الحيوانية

النَّفس الحيوانية: كَمَال لجسم طبيعي آلي من جِهَة إِدْرَاك الجزئيات الجسمانية وَالْحَرَكَة بالإرادة فلهَا قُوَّة مدركة ومحركة - أما المدركة فَهِيَ عشر. خمس فِي الظَّاهِر بالوجدان السّمع وَالْبَصَر والشم والذوق واللمس - وَخمْس فِي الْبَاطِن أَيْضا بالاستقراء الْحس الْمُشْتَرك والخيال وَالوهم والحافظة والمتصرفة. وَأما المحركة فَهِيَ نَوْعَانِ: باعثة وفاعلة واطلب كلا فِي مَوْضِعه. النَّفس الإنسانية: هِيَ النَّفس الناطقة وَلها قُوَّة عَاقِــلَة وَقُوَّة عاملة مر ذكرهمَا فِي مَحلهمَا.
وَاعْلَم أَن النَّفس الناطقة مُقَارنَة للمادة فِي أفعالها يَعْنِي لَا تفعل إِلَّا إِذا كَانَت فِي الْمَادَّة وَلكنهَا مُجَرّدَة عَنْهَا فِي ذَاتهَا لِأَنَّهَا لَو كَانَت مادية فإمَّا أَن لَا تَنْقَسِم وَهُوَ بَاطِل لما هُوَ الْمَشْهُور فِي نفي الْجُزْء الَّذِي لَا يتجزئ أَو تَنْقَسِم وَهُوَ بَاطِل أَيْضا لتعقل البسائط فَيلْزم انقسامها إِذْ الْحَال فِي أحد الجزئين غير الْحَال فِي الآخر.
وَهَا هُنَا مُعَارضَة هِيَ أَن النَّفس لَو كَانَت مُجَرّدَة لزم أَن لَا تعقل الماهيات المركبة والتالي بَاطِل فالمقدم مثله. بَيَان الْمُلَازمَة أَن الماهيات المركبة منقسمة. وانقسام الْحَال يسْتَلْزم انقسام الْمحل. وَيُمكن إيرادها بطرِيق النَّقْض - وجوابها أَن انقسام الْحَال إِنَّمَا يسْتَلْزم انقسام الْمحل إِذا كَانَ ذَلِك الانقسام إِلَى الْأَجْزَاء المقدارية. وَلَا نسلم أَن الماهيات المركبة الَّتِي تعقلها النَّفس منقسمة إِلَى أَجزَاء مقدارية.
وَاعْلَم أَن قدماء الْحُكَمَاء على أَن للحيوانات نفوسا ناطقة مُجَرّدَة وَهُوَ مَذْهَب الشَّيْخ الْمَقْتُول وَقد صرح الشَّيْخ الرئيس فِي جَوَاب أسئلة بهمنيار بِأَن الْفرق بَين الْإِنْسَان والحيوانات فِي هَذَا الحكم مُشكل.

المكان

المكان: عند الحكماء: السطح الباطن من الجسم الحاوي للمماس للسطح الظاهر من الجسم المحوي.
المكان: عند أهل الحقائق: يراد به المكانة، وهي منزلة في البساط لا تكون إلا للمتمكنين الذين جاوزوا الجلال والجمال، فلا وصف لهم ولا نعت.
المكان:
[في الانكليزية] Place ،situation
[ في الفرنسية] Place ،situation
بمعنى جايگاه. ولما كثر لزوم الميم توهّمت أصلية فقيل تمكّن كما قالوا تمسكن من المسكين، كذا في الصراح. فعلى هذا لفظ المكان كافه أصلية ولذا ذكرناه في باب الكاف، وإن ذكر في بعض كتب اللغة في باب الميم.
المكان:
[في الانكليزية] Spot ،space
[ في الفرنسية] Lieu ،espace
هو في العرف العام ما يمنع الشيء من النزول فإنّ المشهور بين الناس جعل الأرض مكانا للحيوان لا الهواء المحيط به حتى لو وضعت الدرقة على رأس قبّة بمقدار درهم لم يجعلوا مكانها إلّا القدر الذي يمنعها من النزول كذا في شرح المواقف. وأمّا أهل العلم والتحقيق فقد اختلفوا فيه فذهب أرسطاطاليس وعليه المشّائيون ومتأخّرو الحكماء كابن سينا والفارابي وأتباعهما إلى أنّ المكان هو السطح الباطن من الجسم الحاوي المماسّ للسطح الظاهر من الجسم المحوي، فعلى هذا يكون المكان منقسما في جهتين فقط، وهو قد يكون سطحا واحدا كالطير في الهواء، فإن سطحا واحدا قائما بالهواء محيط به، وكمكان الفلك، وقد يكون أكثر من سطح واحد كالحجر الموضوع على الأرض فإنّ مكانه أرض وهواء يعني أنّه سطح مركّب من سطح الأرض الذي تحته، والسطح المقعّر للهواء الذي فوقه، وقد يتحرّك تلك السطوح كلّها كالسمك في الماء الجاري أو بعضها كالحجر الموضوع في الماء الجاري، وقد يتحرّك الحاوي والمحوي معا إمّا متوافقين في الجهة أو متخالفين فيها كالطير يطير والريح يهبّ على الوفاق أو الخلاف أو الحاوي. وحده كالطير يقف والريح يهبّ أو المحوي وحده كالطير يطير والريح يقف. وذهب بعض الحكماء إلى أنّ المكان هو السطح مطلقا لأنّ الفلك الأعلى يتحرّك فله مكان وليس هو سطح المحوي، وللفلك الأوسط مكانان سطح الحاوي وسطح المحوي، فعلى المذهب الأول لا مكان للفك الأعلى وإنّما يكون له وضع فقط. وذهب الإشراقيون من الحكماء وأفلاطون إلى أنّ المكان هو البعد المجرّد الموجود وهو ألطف من الجسمانيات وأكثف من المجرّدات، ينفذ فيه الجسم وينطبق البعد الحال فيه على ذلك البعد في أعماقه وأقطاره. فعلى هذا يكون المكان بعدا منقسما في جميع الجهات مساويا للبعد الذي في الجسم بحيث ينطبق أحدهما على الآخر ساريا فيه بكلّيته، ويسمّى ذلك البعد بعدا مفطورا بالفاء لأنّه فطر عليه البداهة فإنّها شاهدة بأنّ الماء مثلا إنّما حصل فيما بين أطراف الإناء من الفضاء ألا ترى أنّ الناس كلّهم حاكمون بذلك ولا يحتاجون فيه إلى نظر وتأمّل وصحّفه بعضهم بالمقطور بالقاف أي بعد له أقطار، والمقطور بمعنى المشقوق فإنّه ينشقّ فيدخل فيه الجسم. قالوا يجب أن يكون ذلك البعد جوهرا لقيامه بذاته وتوارد الممكنات عليه مع بقائه بشخصه فكأنّه جوهر متوسّط بين العالمين، أعني الجواهر المجرّدة التي لا تقبل الإشارة الحسّية والأجسام التي هي جواهر مادية كثيفة، وحينئذ تكون الأقسام الأوّلية للجوهر ستة لا خمسة على ما هو المشهور. وعلى هذا المذهب للفلك الأعلى أيضا مكان.
اعلم أنّ القائلين بأنّ المكان هو البعد المجرّد الموجود فرقتان: فرقة منهم تقول بجواز خلوّه عن الجسم، وفرقة تمنعه، وقد سبق في لفظ الخلاء. وذهب المتكلّمون إلى أنّ المكان بعد موهوم مفروض يشغله الجسم ويملأه على سبيل التوهّم وهو الخلاء. وذهب بعض قدماء الحكماء إلى أنّ المكان هو الهيولى إذ المكان يقبل تــعاقــب الأجسام المتمكّنة فيه، والهيولى أيضا تقبل تــعاقــب الأجسام أي الصور الجسمية.
فالمكان هو الهيولى وهذا المذهب قد ينسب إلى أفلاطون، ولعلّه أطلق لفظ الهيولى على المكان باشتراك اللفظ مع وجود المناسبة بينهما في توارد الأشياء عليهما، وإلّا فامتناع كون الهيولى التي هي جزء الجسم مكانا مما لا يشتبه على عاقــل فضلا عمّن كان مثله في الفطانة.
وقال بعضهم إنّه الصورة الجسمية لأنّ المكان هو المحدّد للشيء الحاوي له بالذات والصورة كذلك، وهذا أيضا قد ينسب إلى أفلاطون.
قالوا في توجيه كلامه لمّا ذهب إلى أنّ المكان هو الفضاء والبعيد المجرّد سمّاه تارة بالهيولى للمناسبة المذكورة وتارة بالصورة لأنّ الجواهر الجسمانية قابلة له بنفوذه فيها دون الجواهر المجرّدة، فهو كالجزء الصوري للأجسام وهذان القولان إن حملا على هذا فلا محذور، وإلّا فلا اعتداد بهما لظهور بطلانهما.
فائدة:

قال الحكماء: كلّ جسم فله مكان طبيعي وقد سبق تفسيره في لفظ الحيّز.
فائدة:
الله تعالى ليس في جهة ولا حيّز ومكان، وهذا مذهب أهل السّنّة والحكماء، وخالف فيه المشبّهة وخصّصوه بجهة اتفاقا، ثم اختلفوا فيما بينهم. فذهب أبو عبد الله محمد بن كرّام إلى أنّ كونه في الجهة ككون الأجسام فيها هو أن يكون بحيث يشار إليه أههنا أم هناك. قال وهو مماس للصفحة العليا من العرش، ويجوز عليه الحركة والانتقال وتبدّل الجهات، وعليه اليهود حتى قالوا العرش يئطّ من تحته اطيط الرحل الجديد تحت الراكب الثقيل وقالوا أنه يفضل على العرض من كل جهة أربع أصابع وزاد بعض المشبّهة كمضر وكهص وأحمد الهجيمي أنّ المؤمنين المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة. ومنهم من قال هو محاذ للعرش غير مماس له. فقيل بعده عنه بمسافة متناهية وقيل بمسافة غير متناهية. ومنهم من قال ليس كونه في الجهة ككون الأجسام في الجهة. والمنازعة مع هذا القائل راجعة إلى اللفظ دون المعنى، والإطلاق اللفظي يتوقّف على إذن الشرع به عند الأشاعرة. ولأهل الحقّ في إثبات الحقّ دلائل، منها أنّه لو كان في المكان فإمّا أن يكون في بعض الأحياز أو في جميعها وكلاهما باطلان.
أمّا الأول فلتساوي الأحياز في أنفسها لأنّ المكان عند المتكلّمين هو الخلاء المتشابه ولتساوي نسبة الرّبّ تعالى إليها يكون اختصاصه ببعضها دون بعض ترجيحا بلا مرجّح إن لم يكن هناك تخصيص من خارج، وإلّا يلزم احتياجه تعالى في تحيّزه إلى الغير، والاحتياج ينافي الوجوب. وأمّا الثاني فلأنّه يلزم تداخل المتحيزين لأنّ بعض الأحياز مشغول بالأجسام وأنّه محال ضرورة فيلزم مخالطته لقاذورات العالم، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. فإن شئت تمام التحقيق فارجع إلى شرح المواقف.
والمكان في اصطلاح الصوفية الذي هو واقع بالنسبة للذّات الإلهية المقدّسة عبارة عن إحاطة الذات مع ارتفاعها عن اتصال الأنام.
والمكانة عبارة عن المنزلة التي هي أرفع منازل السّالك عند مليك مقتدر. وحينا يطلق المكان أيضا على المكانة. كذا في لطائف اللغات.

المَوْصِلُ

المَوْصِلُ:
بالفتح، وكسر الصاد: المدينة المشهورة العظيمة إحدى قواعد بلاد الإسلام قليلة النظير كبرا وعظما وكثرة خلق وسعة رقعة فهي محطّ رحال الركبان ومنها يقصد إلى جميع البلدان فهي باب العراق ومفتاح خراسان ومنها يقصد إلى أذربيجان، وكثيرا ما سمعت أن بلاد الدنيا العظام ثلاثة:
نيسابور لأنها باب الشرق، ودمشق لأنها باب الغرب، والموصل لأن القاصد إلى الجهتين قلّ ما لا يمر بها، قالوا: وسميت الموصل لأنها وصلت بين الجزيرة والعراق، وقيل وصلت بين دجلة والفرات، وقيل لأنها وصلت بين بلد سنجار والحديثة، وقيل بل الملك الذي أحدثها كان يسمّى الموصل، وهي مدينة قديمة الأسّ على طرف دجلة ومقابلها من الجانب الشرقي نينوى، وفي وسط مدينة الموصل قبر جرجيس النبي، وقال أهل السير: إن أول من استحدث الموصل راوند بين بيوراسف الازدهاق، وقال حمزة:
كان اسم الموصل في أيام الفرس نوأردشير، بالنون أو الباء، ثم كان أول من عظّمها وألحقها بالأمصار العظام وجعل لها ديوانا برأسه ونصب عليها جسرا ونصب طرقاتها وبنى عليها سورا مروان بن محمد بن مروان ابن الحكم آخر ملوك بني أميّة المعروف بمروان الحمار والجعدي، وكان لها ولاية ورساتيق وخراج مبلغه أربعة آلاف ألف درهم والآن فقد عمرت وتضاعف خراجها وكثر دخلها، قالت القدماء: ومن أعمال الموصل الطبرهان والسنّ والحديثة والمرج وجهينة والمحلبية ونينوى وبارطلّى وباهذرا وباعذرا وحبتون وكرمليس والمعلّة ورامين
وبا جرمى ودقوقا وخانيجار. والموصلان: الجزيرة والموصل كما قيل البصرتان والمروان، قال الشاعر:
وبصرة الأزد منّا والعراق لنا ... والموصلان، ومنّا الحلّ والحرم
وكثيرا ما وجدت العلماء يذكرون في كتبهم أن الغريب إذا أقام في بلد الموصل سنة تبيّن في بدنه فضل قوة، وإن أقام ببغداد سنة تبيّن في عقله زيادة، وإن أقام بالأهواز سنة تبين في بدنه وعقله نقص، وإن أقام بالنّبّت سنة دام سروره واتصل فرحه، وما نعلم لذلك سببا إلا صحة هواء الموصل وعذوبة مائها ورداءة نسيم الأهواز وتكدر جوه وطيبة هواء بغداد ورقته ولطفه، فأما التّبّت فقد خفي علينا سببه، وليس للموصل عيب إلا قلة بساتينها وعدم جريان الماء في رساتيقها وشدة حرها في الصيف وعظم بردها في الشتاء، فأما أبنيتهم فهي حسنة جيدة وثيقة بهية المنظر لأنها تبنى بالنورة والرخام، ودورهم كلها آزاج وسراديب مبنية ولا يكادون يستعملون الخشب في سقوفهم البتة، وقلّ ما عدم شيء من الخيرات في بلد من البلدان إلا ووجد فيها، وسورها يشتمل على جامعين تقام فيهما الجمعة أحدهما بناه نور الدين محمود وهو في وسط السوق وهو طريق للذاهب والجائي مليح كبير، والآخر على نشز من الأرض في صقع من أصقاعها قديم وهو الذي استحدثه مروان بن محمد فيما أحسب، وقد ظلم أهل الموصل بتخصيصهم بالنسبة إلى اللواط حتى ضربوا بهم الأمثال، قال بعضهم:
كتب العذار على صحيفة خدّه ... سطرا يلوح لناظر المتأمل
بالغت في استخراجه فوجدته: ... لا رأي إلا رأي أهل الموصل
ولقد جئت البلاد ما بين جيحون والنيل فقلّ ما رأيته يخرج عن هذا المذهب فلا أدري لم خصّ به أهل الموصل، وقال السريّ بن أحمد الرفاء الشاعر الموصلي يتشوّقها:
سقّى ربى الموصل الفيحاء من بلد ... جود من المزن يحكي جود أهليها
أأندب العيش فيها أم أنوح على ... أيامها أم اعزّي في لياليها؟
أرض يحنّ إليها من يفارقها، ... ويحمد العيش فيها من يدانيها
قال بطليموس: مدينة الموصل طولها تسع وستون درجة، وعرضها أربع وثلاثون درجة وعشرون دقيقة، طالعها بيت حياتها عشرون درجة من الجدي تحت اثنتي عشرة درجة من السرطان، يقابلها مثلها من الجدي، بيت ملكها مثلها من الحمل، بيت عاقــبتها مثلها من الميزان في الإقليم الرابع، ومن بغداد إلى الموصل أربعة وسبعون فرسخا، وأما من ينسب إلى الموصل من أهل العلم فأكثر من أن يحصوا ولكن نذكر من أعيانهم وحفّاظهم ومشهورهم ما ربما احتيج إلى كثير من الوقت عند الكشف عنهم، منهم: عبد العزيز بن حيان بن جابر بن حريث أبو القاسم الأزدي الموصلي، سمع الكثير ورحل فسمع بدمشق من هشام بن عمار ودحيم بن إبراهيم، وبحمص من محمد بن مصفّى، وبعسقلان الحسن بن أبي السري العسقلاني، وبمصر محمد بن رمح، وحدث عنهم وعن العباس بن سليم وأبان بن سفيان وإسحاق بن عبد الواحد ومحمد بن علي بن خداش وغسّان بن الربيع ومحمد بن عبد الله بن منير وأبي بكر بن أبي شيبة الكوفيين وأبي جعفر عبد الله بن محمد البقيلي وأحمد ابن عبد الملك وافد الحرّانيين، روى عنه ابناه أبو
جابر زيد وإبراهيم أبو عوانة الأسفرايينيّان، وقال أبو زكرياء يزيد بن محمد بن إياس الأزدي في كتاب طبقات محدّثي أهل الموصل: عبد العزيز بن حيان بن جابر بن حريث المعولي، ومعولة من الأزد، كان فيه فضل وصلاح، وطلب الحديث ورحل فيه وأكثر الكتابة، سمع من المواصلة والكوفيين والحرّانيين والجزريين وغيرهم وكتب بالشام وصنف حديثه وحدث الناس عنه دهرا طويلا، وتوفي سنة 261، وأبو يعلى أحمد بن علي بن المثنّى بن يحيى بن عيسى ابن هلال التميمي الموصلي الحافظ.

مِرْبَاطُ

مِرْبَاطُ:
بالكسر ثم السكون، وباء موحدة، وآخره طاء مهملة: فرضة مدينة ظفار، بينها وبين ظفار على ما حدّثني رجل من أهلها مقدار خمسة فراسخ، ولما لم تكن ظفار مرسى ترسى فيه المراكب وكان لمرباط مرسى جيد كثر ذكره على أفواه التجار، وهي مدينة مفردة بين حضرموت وعمان على ساحل البحر لها سلطان برأسه ليس لأحد عليه طاعة، وقرب مدينته جبل نحو ثلاثة أيام في مثلها فيه ينبت شجر اللّبان وهو صمغ يخرج منه ويلقط ويحمل إلى سائر الدنيا، وهو غلّة الملك يشارك فيه لاقطيه، كما ذكرناه في ظفار، وأهلها عرب وزيّهم زيّ العرب القديم وفيهم صلاح مع شراسة في خلقهم وزعارة وتعصب وفيهم قلّة غيرة كأنهم اكتسبوها بالعادة وذلك أنه في كل ليلة تخرج نساؤهم إلى ظاهر مدينتهم ويسامرن الرجال الذين لا حرمة بينهم ويلاعبنهم ويجالسنهم إلى أن يذهب أكثر الليل فيجوز الرجل على زوجته وأخته وأمه وعمته وإذا هي تلاعب آخر وتحادثه فيعرض عنها ويمضي إلى امرأة غيره فيجالسها كما فعل بزوجته، وقد اجتمعت بكيش بجماعة كثيرة منهم رجل عاقــل أديب يحفظ شيئا كثيرا وأنشدني أشعارا وكتبتها عنه، فلما طال الحديث بيني وبينه قلت له: بلغني عنكم شيء أنكرته ولا أعرف صحته، فبدرني وقال: لعلك تعني السمر؟ قلت: ما أردت غيره، فقال: الذي بلغك من ذلك صحيح وبالله أقسم انه لقبيح ولكن عليه نشأنا وله مذ خلقنا الفنا ولو استطعنا أن نزيله لأزلناه ولو قدرنا لغيّرناه ولكن لا سبيل إلى ذلك مع ممرّ السنين عليه واستمرار العادة به.

مَرْشَانَةُ

مَرْشَانَةُ:
بالفتح ثم السكون، وشين معجمة، وبعد الألف نون: مدينة من أعمال قرمونة بالأندلس، ينسب إليها أحمد بن سيد الخبير بن داود بن أبي داود أبو عمر، سمع بقرطبة من وهب بن مسرّة الحجازي، وكان معتنيا بالمسائل عاقــدا للوثائق، توفي بمرشانة سنة 376، وغيره.

مَرْوُ الشاهِجَان

مَرْوُ الشاهِجَان:
هذه مرو العظمى أشهر مدن خراسان وقصبتها، نصّ عليه الحاكم أبو عبد الله في
تاريخ نيسابور مع كونه ألّف كتابه في فضائل نيسابور إلا أنه لم يقدر على دفع فضل هذه المدينة، والنسبة إليها مروزيّ على غير قياس، والثوب مرويّ على القياس، وبين مرو ونيسابور سبعون فرسخا ومنها إلى سرخس ثلاثون فرسخا وإلى بلخ مائة واثنان وعشرون فرسخا اثنان وعشرون منزلا، أما لفظ مرو فقد ذكرنا أنه بالعربية الحجارة البيض التي يقتدح بها إلا أن هذا عربيّ ومرو ما زالت عجمية ثم لم أر بها من هذه الحجارة شيئا البتّة، وأما الشاهجان فهي فارسية معناها نفس السلطان لأن الجان هي النفس أو الروح والشاه هو السلطان، سميت بذلك لجلالتها عندهم، وقد روي عن بريدة بن الحصيب أحد أصحاب النبي، صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال: قال لي رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم:
يا بريدة إنه سيبعث من بعدي بعوث فإذا بعثت فكن في بعث المشرق ثم كن في بعث خراسان ثم كن في بعث أرض يقال لها مرو إذا أتيتها فانزل مدينتها فإنه بناها ذو القرنين وصلّى فيها عزيز، أنهارها تجري بالبركة، على كل نقب منها ملك شاهر سيفه يدفع عن أهلها السوء إلى يوم القيامة، فقدمها بريدة غازيا وأقام بها إلى أن مات وقبره بها إلى الآن معروف عليه راية رأيتها، قال بطليموس في كتاب الملحمة: مدينة مرو الرقة، كذا قال، طولها سبع وستون درجة، وعرضها أربعون درجة، في الإقليم الخامس، طالعها العقرب تحت ثماني عشرة درجة من السرطان، يقابلها مثلها في الجدي، بيت ملكها مثلها من الحمل، بيت عاقــبتها مثلها من الميزان، كذا قال بطليموس، وقد تقدم ذكرها عند ذكر الأقاليم أنها في الإقليم الرابع، قال أبو عون إسحاق بن علي في زيجه: مرو في الإقليم الرابع، طولها أربع وثمانون درجة وثلث، وعرضها سبع وثلاثون درجة وخمس وثلاثون دقيقة، وشنّع على أهل خراسان وادّعي عليهم البخل كما زعم ثمامة أن الديك في كل بلد يلفظ ما يأكله من فيه للدجاجة بعد أن حصل إلا ديكة مرو فإنها تسلب الدجاج ما في مناقيرها من الحبّ، وهذا كذب بيّن ظاهر للعيان لا يقدم على مثله إلا الوقّاع البهّات الذي لا يتوقّى الفضوح والعار وما ديكة مرو إلا كالدّيكة في جميع الأرض، قالوا:
ولما ملك طهمورث بنى قهندز مرو وبنى مدينة بابل وبنى مدينة ابرايين بأرض قوم موسى ومدينة بالهند في رأس جبل يقال له أوق، قال: وأمرت حماي بنت أردشير بن إسفنديار لما ملكت ببناء الحائط الذي حول مرو، وقال: إن طهمورث لما بنى قهندز مرو بناه بألف رجل وأقام لهم سوقا فيها الطعام والشراب فكان إذا أمسى الرجل أعطي درهما فاشترى به طعامه وجميع ما يحتاج إليه فتعود الألف درهم إلى أصحابه، فلم يخرج له في البناء إلا ألف درهم، وقال بعضهم:
مياسير مرو من يجود لضيفه ... بكرش فقد أمسى نظيرا لحاتم
ومن رسّ باب الدار منكم بقرعة ... فقد كملت فيه خصال المكارم
يسمّون بطن الشاة طاووس عرسهم، ... وعند طبيخ اللحم ضرب الجماجم
فلا قدّس الرحمن أرضا وبلدة ... طواويسهم فيها بطون البهائم
وكان المأمون يقول: يستوي الشريف والوضيع من مرو في ثلاثة أشياء: الطّبيخ النارنك والماء البارد لكثرة الثلج بها والقطن اللين، وبمرو الرّزيق، بتقديم الراء على الزاي، والماجان: وهما نهران كبيران حسنان يخترقان شوارعها ومنهما سقي أكثر ضياعها، وقال إبراهيم بن شمّاس الطالقاني: قدمت على عبد الله بن المبارك من سمرقند إلى مرو فأخذ بيدي فطاف بي حول سور مدينة مرو ثم قال لي:
يا إبراهيم من بنى هذه المدينة؟ قلت: لا أدري يا أبا عبد الرحمن، قال: مدينة مثل هذه لا يعرف من بناها! وقد أخرجت مرو من الأعيان وعلماء الدين والأركان ما لم تخرج مدينة مثلهم، منهم:
أحمد بن محمد بن حنبل الإمام وسفيان بن سعيد الثوري، مات وليس له كفن واسمه حيّ إلى يوم القيامة، وإسحاق بن راهويه وعبد الله بن المبارك وغيرهم، وكان السلطان سنجر بن ملك شاه السّلجوقي مع سعة ملكه قد اختارها على سائر بلاده وما زال مقيما بها إلى أن مات وقبره بها في قبّة عظيمة لها شباك إلى الجامع وقبتها زرقاء تظهر من مسيرة يوم، بلغني أن بعض خدمه بناها له بعد موته ووقف عليها وقفا لمن يقرأ القرآن ويكسو الموضع، وتركتها أنا في سنة 616 على أحسن ما يكون، وبمرو جامعان للحنفية والشافعية يجمعهما السور، وأقمت بها ثلاثة أعوام فلم أجد بها عيبا إلا ما يعتري أهلها من العرق المديني فإنهم منه في شدة عظيمة قلّ من ينجو منه في كل عام، ولولا ما عرا من ورود التتر إلى تلك البلاد وخرابها لما فارقتها إلى الممات لما في أهلها من الرّفد ولين الجانب وحسن العشرة وكثرة كتب الأصول المتقنة بها، فإني فارقتها وفيها عشر خزائن للوقف لم أر في الدنيا مثلها كثرة وجودة، منها خزانتان في الجامع إحداهما يقال لها العزيزية وقفها رجل يقال له عزيز الدين أبو بكر عتيق الزنجاني أو عتيق بن أبي بكر وكان فقّاعيّا للسلطان سنجر وكان في أول أمره يبيع الفاكهة والريحان بسوق مرو ثم صار شرابيّا له وكان ذا مكانة منه، وكان فيها اثنا عشر ألف مجلد أو ما يقاربها، والأخرى يقال لها الكمالية لا أدري إلى من تنسب، وبها خزانة شرف الملك المستوفي أبي سعد محمد بن منصور في مدرسته، ومات المستوفي هذا في سنة 494، وكان حنفيّ المذهب، وخزانة نظام الملك الحسن بن إسحاق في مدرسته وخزانتان للسمعانيين وخزانة أخرى في المدرسة العميدية وخزانة لمجد الملك أحد الوزراء المتأخرين بها والخزائن الخاتونية في مدرستها والضميرية في خانكاه هناك، وكانت سهلة التناول لا يفارق منزلي منها مائتا مجلّد وأكثر بغير رهن تكون قيمتها مائتي دينار فكنت أرتع فيها وأقتبس من فوائدها، وأنساني حبها كل بلد وألهاني عن الأهل والولد، وأكثر فوائد هذا الكتاب وغيره مما جمعته فهو من تلك الخزائن، وكثيرا ما كنت أترنّم عند كوني بمرو بقول بعض الأعراب:
أقمريّة الوادي التي خان إلفها ... من الدهر أحداث أتت وخطوب
تعالي أطارحك البكاء فإننا ... كلانا بمرو الشاهجان غريب
ثم أضفت إليها قول أبي الحسين مسعود بن الحسن الدمشقي الحافظ وكان قدم مرو فمات بها في سنة 543:
أخلّاي إن أصبحتم في دياركم ... فإني بمرو الشاهجان غريب
أموت اشتياقا ثم أحيا تذكّرا، ... وبين التراقي والضلوع لهيب
فما عجب موت الغريب صبابة، ... ولكن بقاه في الحياة عجيب
إلى أن خرجت عنها مفارقا وإلى تلك المواطن ملتفتا وامقا فجعلت أترنم بقول بعضهم:
ولما تزايلنا عن الشعب وانثنى ... مشرّق ركب مصعد عن مغرّب
تيقّنت أن لا دار من بعد عالج ... تسرّ، وأن لا خلّة بعد زينب
ويقول الآخر:
ليال بمرو الشاهجان وشملنا ... جميع سقاك الله صوب عهاد
سرقناك من ريب الزمان وصرفه، ... وعين النوى مكحولة برقاد
تنبّه صرف الدهر فاستحدث النوى، ... وصيّرنا شتّى بكل بلاد
ولن تعدم الحسناء ذامّا، فقد قال بعض من قدمها من أهل العراق فحنّ إلى وطنه:
وأرى بمرو الشاهجان تنكّرت ... أرض تتابع ثلجها المذرور
إذ لا ترى ذا بزّة مشهورة ... إلّا تخال بأنه مقرور
كلتا يديه لا تزايل ثوبه ... كلّ الشتاء كأنه مأسور
أسفا على برّ العراق وبحره! ... إنّ الفؤاد بشجوه معذور
وكنّا كتبنا قصيدة مالك بن الريب متفرّقة وأحلنا في كل موضع على ما يليه ولم يبق منها إلا ذكر مرو وبها تتمّ فإنه قال بعد ما ذكر في السّمينة:
ولما تراءت عند مرو منيتي، ... وحلّ بها سقمي وحانت وفاتيا
أقول لأصحابي: ارفعوني فإنني ... يقرّ بعيني إن سهيل بدا ليا
فيا صاحبي رحلي دنا الموت فانزلا ... برابية إني مقيم لياليا
أقيما عليّ اليوم أو بعض ليلة، ... ولا تعجلاني قد تبيّن شانيا
وقوما إذا ما استلّ روحي فهيّئا ... لي السدر والأكفان ثمّ ابكيانيا
وخطّا بأطراف الأسنّة مضجعي، ... وردّا على عينيّ فضل ردائيا
ولا تحسداني، بارك الله فيكما، ... من الأرض ذات العرض أن توسعا ليا
خذاني فجرّاني ببردي إليكما، ... فقد كنت قبل اليوم صعبا قياديا
وقد كنت عطّافا إذا الخيل أحجمت ... سريعا لدى الهيجا إلى من دعانيا
وقد كنت محمودا لدى الزاد والقرى ... وعن شتم ابن العمّ والجار وانيا
وقد كنت صبّارا على القرن في الوغى، ... ثقيلا على الأعداء عضبا لسانيا
وطورا تراني في رحى مستديرة ... تخرّق أطراف الرماح ثيابيا
وما بعد هذه الأبيات ذكر في الشبيك، وبمرو قبور أربعة من الصحابة، منهم: بريدة بن الحصيب والحكم بن عمرو الغفاري وسليمان بن بريدة في قرية من قراها يقال لها فني ويقال لها فنين وعليه علم، رأيت ذلك كله والآخر نسيته، فأما رستاق مرو فهو أجلّ من المدن وكثيرا ما سمعتهم يقولون رجال مرو من قراها، وقال بعض الظرفاء يهجو
أهل مرو:
لأهل مرو أياد مشهورة ومروّة ... لكنها في نساء صغارهنّ الصّبوّة
يبذلن كل مصون على طريق الفتوّة ... فلا يسافر إليها إلا فتى فيه قوّة
وإليها ينسب عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله أبو بكر القفّال المروزي وحيد زمانه فقها وعلما، رحل إلى الناس وصنف وظهرت بركته وهو أحد أركان مذهب الشافعي وتخرّج به جماعة وانتشر علمه في الآفاق، وكان ابتداء اشتغاله بالفقه على كبر السن، حدثني بعض فقهاء مرو بفنين من قراها أن القفّال الشاشي صنع قفلا ومفتاحا وزنه دانق واحد فأعجب الناس به جدّا وسار ذكره وبلغ خبره إلى القفّال هذا فصنع قفلا مع مفتاحه وزنه طسّوج وأراه الناس فاستحسنوه ولم يشع له ذكر فقال يوما لبعض من يأنس إليه: ألا ترى كلّ شيء يفتقر إلى الحظ؟ عمل الشاشي قفلا وزنه دانق وطنّت به البلاد، وعملت أنا قفلا بمقدار ربعه ما ذكرني أحد! فقال له: إنما الذكر بالعلم لا بالأقفال، فرغب في العلم واشتغل به وقد بلغ من عمره أربعين سنة وجاء إلى شيخ من أهل مرو وعرّفه رغبته فيما رغب فيه فلقّنه أول كتاب المزني، وهو: هذا كتاب اختصرته، فرقي إلى سطحه وكرّر عليه هذه الثلاثة ألفاظ من العشاء إلى أن طلع الفجر فحملته عينه فنام ثم انتبه وقد نسيها فضاق صدره وقال: أيش أقول للشيخ؟
وخرج من بيته فقالت له امرأة من جيرانه: يا أبا بكر لقد أسهرتنا البارحة في قولك هذا كتاب اختصرته، فتلقنها منها وعاد إلى شيخه وأخبره بما كان منه، فقال له: لا يصدّنّك هذا عن الاشتغال فإنك إذا لازمت الحفظ والاشتغال صار لك عادة، فجدّ ولازم الاشتغال حتى كان منه ما كان فعاش ثمانين سنة أربعين جاهلا وأربعين عالما، وقال أبو المظفّر السمعاني: عاش تسعين سنة ومات سنة 417، ورأيت قبره بمرو وزرته، رحمه الله تعالى، وأبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن إسحاق المروزي أحد أئمة الفقهاء الشافعية ومقدّم عصره في الفتوى والتدريس، رحل إلى أبي العباس بن شريح وأقام عنده وحصل الفقه عليه وشرح مختصر المزني شرحين وصنف في أصول الفقه والشروط وانتهت إليه رياسة هذا المذهب بالعراق بعد ابن شريح ثم انتقل في آخر عمره إلى مصر وتوفي بها لسبع خلون من رجب سنة 340 ودفن عند قبر الشافعي، رضي الله عنه.

المَصِّيصَةُ

المَصِّيصَةُ:
بالفتح ثم الكسر، والتشديد، وياء ساكنة، وصاد أخرى، كذا ضبطه الأزهري وغيره من اللغويين بتشديد الصاد الأولى هذا لفظه، وتفرّد
الجوهري وخالد الفارابي بأن قالا المصيصة، بتخفيف الصادين، والأول أصح، طولها ثمان وستون درجة، وعرضها سبع وثلاثون درجة، وهي في الإقليم الخامس، وقال غيره: في الرابع، طالعها خمس وعشرون درجة من العقرب، لها قلب العقرب وجفاء الحيّة والمرزمة، ولها شركة في كوكب الجوزاء تحت ثلاث عشرة درجة من السرطان، يقابلها مثلها من الجدي، بيت ملكها مثلها من الحمل، بيت عاقــبتها مثلها من الميزان، وقال أبو عون في زيجه:
طولها تسع وخمسون درجة، وعرضها ست وثلاثون درجة، قال: في الإقليم الرابع، وهي مدينة على شاطئ جيحان من ثغور الشام بين أنطاكية وبلاد الروم تقارب طرسوس، وهي الآن بيد ابن ليون وولده بعده منذ أعوام كثيرة، وكانت من مشهور ثغور الإسلام قد رابط بها الصالحون قديما، وبها بساتين كثيرة يسقيها جيحان، وكانت ذات سور وخمسة أبواب، وهي مسماة فيما زعم أهل السّير باسم الذي عمرها وهو مصيصة بن الروم بن اليمن بن سام بن نوح، عليه السّلام، قال المهلبي:
ومن خصائص الثغر أنه كانت تعمل ببلد المصيصة الفراء تحمل إلى الآفاق وربما بلغ الفرو منها ثلاثين دينارا، والمصّيصة أيضا: قرية من قرى دمشق قرب بيت لهيا، قال أبو القاسم: يزيد بن أبي مريم الثقفي المصيصي من أهل مصيصة دمشق ولّاه هشام بن عبد الملك عاربة الشحر ولم تكن ولايته محمودة فعزله، وينسب إلى المصيصة كثير في كتاب النسب للسمعاني، منهم: أبو القاسم علي بن محمد بن علي بن أحمد بن أبي العلاء السّلمي المصيصي الفقيه الشافعي، سمع أبا محمد ابن أبي نصر بدمشق غير كثير، وسمع ببغداد أبا الحسن بن الحمّاني وأبا القاسم بن بشران والقاضي أبا الطيب الطبري وعليه تفقه، وسمع منه الخطيب وأبو الفتح المقدسي وغيرهما كثير، وولد في رجب سنة 400، ومات بدمشق سنة 487، وكان فقيها مرضيّا من أصحاب القاضي أبي الطيب، وكان مسندا في الحديث، وكان مولده بمصر، وفي خبر أبي العميطر الخارج بدمشق بإسناد عن عمرو بن عمّار أنه لما أخذ أصحاب أبي العميطر المصيصة قرية على باب دمشق دخل عليه بعض أصحابه فقال: يا أمير المؤمنين قد أخذنا المصيصة، فخرّ أبو العميطر ساجدا وهو يقول: الحمد لله الذي ملّكنا الثغر، وتوهّم بأنهم قد أخذوا المصيصة التي عند طرسوس.

مَطَارَةُ

مَطَارَةُ:
يجوز أن تكون الميم زائدة فيكون من طار يطير أي البقعة التي يطار منها: وهو اسم جبل ويضاف إليه ذو، قال النابغة:
وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي ... على وعل من ذي مطارة عاقــل
قال الأصمعي: يقول قد خفت حتى ما تزيد مخافة الوعل على مخافتي، فلم يمكنه فقلب. ومطارة أيضا:
من قرى البصرة على ضفة دجلة والفرات في ملتقاهما بين المذار والبصرة.

مَقَذُونِيَةُ

مَقَذُونِيَةُ:
بفتح أوله وثانيه، وضم الذال المعجمة، وسكون الواو، وكسر النون، وياء خفيفة: وهو اسم لمصر باليونانية القديمة، هكذا ذكره ابن الفقيه، وقال ابن البشّاري: مقذونية بمصر وقصبتها الفسطاط وهو المصر ومن دونها الغربية والجيزية وعين شمس، وقال ابن خرداذبه: وكانت مصر منازل الفراعنة ومن جملتهم ملك كان اسمه مقذونية، ثم ذكر ابن الفقيه في أخبار بلاد الروم فقال: ثم عمل مقذونية وحدّه من المشرق السور الطويل ومن القبلة بحر الشام ومن المغرب بلاد الصقالبة ومن ظهر القبلة بلاد برجان، ومقام الوالي حصن يقال له باندس، فهذه الحدود تدل على أنه مع القسطنطينية في برّ واحد، والله أعلم، والسور الطويل بناء يقطع من بحر الشام إلى بحر الخزر وطوله أربعة أيام، وعرض هذه الولاية أعني مقذونية مسيرة خمسة أيام، طولها ثلاث وستون درجة، وعرضها ثمان وأربعون درجة وعشر دقائق في الإقليم الخامس، طالعها الأسد، بيت حياتها السنبلة تحت نقطة السرطان خارجة من المنطقة بأربع عشرة درجة، يقابلها مثلها من الجدي، بيت ملكها مثلها من الحمل، عاقــبتها مثلها من الميزان.

نَفْيٌ

نَفْيٌ:
بفتح أوله، وسكون ثانيه، وتصحيح الياء، بوزن ظبي، من نفاه ينفيه نفيا إذا غرّبه وأبعده، ونفي: ماء لبني غني، قال امرؤ القيس:
غشيت ديار الحيّ بالبكرات ... فعارمة فبرقة العيرات
فغول فحليّت فنفي فمنعج ... إلى عاقــل فالجبّ ذي الأمرات
قال: نفي ماء لغني، وعاقــل ماء لعقيل بالعالية، والأمرات العلامات، الواحدة أمرة، قال خالد بن سعيد:
كأني بالأحزّة بين نفي ... وبين منى على كتفي عقاب

الْوَلَاء

(الْوَلَاء) الْملك والقرب والقرابة والنصرة والمحبة
الْوَلَاء: بِالْكَسْرِ لُغَة الْمُتَابَعَة. وَشرعا مُتَابعَة فعل بِفعل بِحَيْثُ لَا يجِف الْعُضْو الأول مثلا فِي الْوضُوء عِنْد اعْتِدَال الْهَوَاء. فَلَو جفف الْوَجْه وَالْيَد بالمنديل قبل غسل الرجل لم يتْرك الْوَلَاء. بِخِلَاف مَا فِي التُّحْفَة وَالِاخْتِيَار من أَن لَا يشْتَغل بَين الْأَفْعَال بِعبَادة أُخْرَى بغَيْرهَا. فَإِنَّهُ على هَذَا لَو جفف لترك الْوَلَاء. وَلذَا منع عَنهُ الْمَشَايِخ كَذَا فِي الزَّاهدِيّ. وَهُوَ سنة مُؤَكدَة فِي الْوضُوء.
وَفِي بعض شُرُوح كنز الدقائق الْوَلَاء أَن يغسل الْأَعْضَاء على سَبِيل التَّــعَاقُــب بِحَيْثُ لَا يجِف الْعُضْو الأول. وبالفتح لُغَة الْقَرَابَة يُقَال بَينهمَا وَلَاء أَي قرَابَة حكمِيَّة حَاصِلَة من الْعتْق. وَقيل الْوَلَاء بِالْفَتْح النُّصْرَة والمحبة. وَفِي الْكِفَايَة الْوَلَاء من الْوَلِيّ بِمَعْنى الْقرب يُقَال بَينهمَا وَلَاء أَي قرَابَة. وَمِنْه قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام " الْوَلَاء لحْمَة كلحمة النّسَب لَا يُبَاع وَلَا يُوهب وَلَا يُورث ". أَي وصلَة كوصلة النّسَب لَا يُبَاع وَلَا يُوهب وَلَا يُورث أَي بطرِيق الْفَرْضِيَّة - وَأما بطرِيق الْعُصُوبَة فيورث. وَفِي الشَّرْع هُوَ التناصر سَوَاء كَانَ وَلَاء عتاقة أَو وَلَاء مُوالَاة. فالتناصر يُوجب الْإِرْث أَو الْعقل. فَمَا وَقع فِي شرح الْوِقَايَة هُوَ مِيرَاث يسْتَحقّهُ الْمَرْء بِسَبَب عتق شخص فِي ملكه أَو بِسَبَب عقد الْمُوَالَاة بَيَان للمعنى الْعرفِيّ وَحكمه. فَالْمُرَاد بِالْوَلَاءِ فِي الحَدِيث الشريف الْمَذْكُور التناصر بالاعتاق من قبيل ذكر الْمُسَبّب وَإِرَادَة السَّبَب أَي الاعتاق وصلَة وقرابة كوصلة النّسَب وقرابته لَا يُبَاع أَي سَببه وَقس عَلَيْهِ.
ثمَّ اعْلَم أَن الْوَلَاء نَوْعَانِ - الأول وَلَاء عتاقة وَيُسمى وَلَاء نعْمَة. وَسبب هَذَا الْوَلَاء الاعتاق عِنْد الْجُمْهُور. وَالأَصَح أَن سَببه الْعتْق على ملكه سَوَاء حصل بالاعتاق كَمَا هُوَ الظَّاهِر - أَو بِسَبَب الشِّرَاء كَمَا فِي شِرَاء ذِي رحم محرم مِنْهُ.
وَالثَّانِي وَلَاء الْمُوَالَاة وَسَببه العقد الَّذِي يجْرِي بَين اثْنَيْنِ. وَصُورَة مولى الْمُوَالَاة شخص مَجْهُول النّسَب قَالَ لآخر أَنْت مولَايَ ترثني إِذا مت وتعقل عني إِذا جنيت وَقَالَ الآخر قبلت. فعندنا يَصح هَذَا العقد وَيصير الْقَائِل وَارِثا عَاقِــلا وَيُسمى بِهِ كَمَا يُسمى أَيْضا بمولى الْمُوَالَاة. وَإِذا كَانَ الآخر أَيْضا مَجْهُول النّسَب وَقَالَ للْأولِ مثل ذَلِك وَقَبله ورث كل مِنْهُمَا صَاحبه وعقل عَنهُ. وللمجهول أَن يرجع عَن عقد الْمُوَالَاة مَا لم يعقل عَنهُ مَوْلَاهُ.
وَكَانَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ رَحمَه الله تَعَالَى يَقُول: إِذا أسلم رجل على يَدي رجل ثمَّ وَالَاهُ صَحَّ - قَالَ شمس الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ: لَيْسَ الْإِسْلَام على يَدَيْهِ شرطا فِي صِحَة الْمُوَالَاة - وَإِنَّمَا ذكره فِيهِ على سَبِيل الْعَادة - وَكَانَ الشّعبِيّ رَحمَه الله تَعَالَى يَقُول لَا وَلَاء إِلَّا وَلَاء الْعتَاقَة. وَبِه أَخذ الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى وَهُوَ مَذْهَب زيد بن ثَابت رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَمَا ذهب إِلَيْهِ الحنفيون مَذْهَب عمر وَعلي وَابْن مَسْعُود رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم أَجْمَعِينَ.
وَاعْلَم أَن الْعقل بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْقَاف الدِّيَة - فَإِن قيل مَا وَجه كَون الْعتْق سَبَب الْوَلَاء والقرابة كقرابة النّسَب - قُلْنَا إِن الْحُرِّيَّة حَيَاة للْإنْسَان إِذْ بهَا يثبت لَهُ صفة الْمَالِكِيَّة الَّتِي امتاز بهَا عَن سَائِر مَا عداهُ من الْحَيَوَانَات والجمادات والرقية تلف وهلاك -.
أَلا ترى أَن الرَّقِيق لَا يملك شَيْئا وَلَا تقبل شَهَادَته ومحجور عَن التَّصَرُّفَات. فالمعتق بِالْكَسْرِ سَبَب إحْيَاء الْمُعْتق بِالْفَتْح. كَمَا أَن الْأَب سَبَب لإيجاد الْوَلَد فَكَمَا أَن الْوَلَد يصير مَنْسُوبا إِلَى أَبِيه بِالنّسَبِ وَإِلَى أقربائه بالتبعية. كَذَلِك الْمُعْتق بِالْفَتْح يصير مَنْسُوبا إِلَى مُعْتقه بِالْوَلَاءِ وَإِلَى عصبته بالتبعية. فَكَمَا يثبت الْإِرْث بِالنّسَبِ كَذَلِك يثبت بِالْوَلَاءِ وَيجوز إِعْطَاؤُهُ لبِنْت الْمُعْتق أَيْضا كَمَا مر فِي الْعصبَة من جِهَة السَّبَب.

نَيْسَابُور

نَيْسَابُور:
بفتح أوله، والعامة يسمونه نشاوور:
وهي مدينة عظيمة ذات فضائل جسيمة معدن الفضلاء ومنبع العلماء لم أر فيما طوّفت من البلاد مدينة ومنبع العلماء لم أر فيما طوّفت من البلاد مدينة كانت مثلها، قال بطليموس في كتاب الملحمة: مدينة نيسابور طولها خمس وثمانون درجة، وعرضها تسع وثلاثون درجة، خارجة من الإقليم الرابع في الإقليم الخامس، طالعها الميزان، ولها شركة في كف الجوزاء مع الشعرى العبور تحت ثلاث عشرة درجة من السرطان، ويقابلها مثلها من الجدي، بيت عاقــبتها مثلها من الميزان، بيت حياتها ... [1] ، ومن هناك طالت أعمار أهلها، بيت ملكها ثلاث عشرة درجة من الحمل، وقد ذكرنا في جمل ذكر الأقاليم أنها في الرابع، وفي زيج أبي عون إسحاق بن علي: إن طول نيسابور ثمانون درجة ونصف وربع، وعرضها سبع وثلاثون درجة، وعدّها في الإقليم الرابع، واختلف في تسميتها بهذا الاسم فقال بعضهم: إنما سميت بذلك لأن سابور مرّ بها وفيها قصب كثير فقال: يصلح أن يكون ههنا مدينة، فقيل لها نيسابور، وقيل في تسمية نيسابور وسابور خواست وجنديسابور:
إن سابور لما فقدوه حين خرج من مملكته لقول المنجمين، كما ذكرناه في منارة الحوافر، خرج أصحابه يطلبونه فبلغوا نيسابور فلم يجدوه فقالوا نيست سابور أي ليس سابور، فرجعوا حتى وقعوا إلى سابور خواست فقيل لهم ما تريدون؟ فقالوا: سابور خواست، معناه سابور نطلب، ثم وقعوا إلى جنديسابور فقالوا وند سابور أي وجد سابور، ومن أسماء نيسابور أبرشهر وبعضهم يقول إيرانشهر، والصحيح أن إيرانشهر هي ما بين جيحون إلى القادسية، ومن الرّي إلى نيسابور مائة وستون فرسخا، ومنها إلى سرخس أربعون فرسخا، ومن سرخس إلى مرو الشاهجان ثلاثون فرسخا، وأكثر شرب أهل نيسابور من قنيّ تجري تحت الأرض ينزل إليها في سراديب مهيّأة لذلك فيوجد الماء تحت الأرض وليس بصادق الحلاوة، وعهدي بها كثيرة الفواكه والخيرات، وبها ريباس ليس في الدنيا مثله تكون الواحدة منه منّا وأكثر، وقد وزنوا واحدة فكانت خمسة أرطال بالعراقي وهي بيضاء صادقة البياض كأنها الطَّلع، وكان المسلمون فتحوها في أيام عثمان بن عفان، رضي الله عنه، والأمير عبد الله بن عامر بن كريز في سنة 31 صلحا وبنى بها جامعا، وقيل إنها فتحت في أيام عمر، رضي الله عنه، على يد الأحنف بن قيس وإنما انتقضت في [1] هكذا في الأصل.
أيام عثمان فأرسل إليها عبد الله بن عامر ففتحها ثانية وأصابها الغزّ في سنة 548 بمصيبة عظيمة حيث أسروا الملك سنجر وملكوا أكثر خراسان وقدموا نيسابور وقتلوا كل من وجدوا واستصفوا أموالهم حتى لم يبق فيها من يعرف وخرّبوها وأحرقوها ثم اختلفوا فهلكوا واستولى عليها المؤيد أحد مماليك سنجر فنقل الناس إلى محلة منها يقال لها شاذياخ وعمّرها وسوّرها وتقلّبت بها أحوال حتى عادت أعمر بلاد الله وأحسنها وأكثرها خيرا وأهلا وأموالا لأنها دهليز المشرق ولا بدّ للقفول من ورودها، وبقيت على ذلك إلى سنة 618، خرج من وراء النهر الكفار من الترك المسمون بالتتر واستولوا على بلاد خراسان وهرب منهم محمد ابن تكش بن ألب أرسلان خوارزم شاه وكان سلطان المشرق كله إلى باب همذان وتبعوه حتى أفضى به الأمر إلى أن مات طريدا بطبرستان في قصة طويلة، واجتمع أكثر أهل خراسان والغرباء بنيسابور وحصنوها بجهدهم فنزل عليها قوم من هؤلاء الكفار فامتنعت عليهم ثم خرج مقدّم الكفار يوما ودنا من السور فرشقه رجل من نيسابور بسهم فقتله فجرّى الأتراك خيولهم وانصرفوا إلى ملكهم الأعظم الذي يقال له جنكزخان فجاء بنفسه حتى نزل عليها وكان المقتول زوج ابنته فنازلها وجدّ في قتال من بها فزعم قوم أن علويّا كان متقدّما على أحد أبوابها راسل الكفار يستلزم منهم على تسليم البلد ويشرط عليهم أنهم إذا فتحوه جعلوه متقدّما فيه، فأجابوه إلى ذلك ففتح لهم الباب وأدخلهم فأول من قتلوا العلويّ ومن معه، وقيل:
بل نصبوا عليها المناجيق وغيرها حتى أخذوها عنوة ودخلوا إليها دخول حنق يطلب النفس والمال فقتلوا كل من كان فيها من كبير وصغير وامرأة وصبيّ ثم خرّبوها حتى ألحقوها بالأرض وجمعوا عليها جموع الرستاق حتى حفروها لاستخراج الدفائن، فبلغني أنه لم يبق بها حائط قائم، وتركوها ومضوا فجاء قوم من قبل خوارزم شاه فأقاموا بها يسبرون الدفائن فأذهبوها مرّة، فإنا لله وإنّا إليه راجعون، من مصيبة ما دهى الإسلام قط مثلها، وقال أبو يعلى محمد بن الهبّارية: أنشدني القاضي أبو الحسن الاستراباذي لنفسه فقال:
لا قدّس الله نيسابور من بلد ... سوق النفاق بمغناها على ساق
يموت فيها الفتى جوعا وبرّهم ... والفضل ما شئت من خير وأرزاق
والحبر في معدن الغرثى، وإن برقت ... أنواره في المعاني، غير برّاق
وقال المرادي يذمّ أهلها:
لا تنزلنّ بنيسابور مغتربا ... إلا وحبلك موصول بسلطان
أو لا فلا أدب يجدي ولا حسب ... يغني ولا حرمة ترعى لإنسان
وقال أبو العباس الزّوزني المعروف بالمأموني:
ليس في الأرض مثل نيسابور ... بلد طيب وربّ غفور
وقد خرج منها من أئمة العلم من لا يحصى، منهم:
الحافظ الإمام أبو علي الحسين بن علي بن زيد ابن داود بن يزيد النيسابوري الصائغ، رحل في طلب العلم والحديث وطاف وجمع فيه وصنف وسمع الكثير من أبي بكر بن خزيمة وعبدان الجواليقي وأبي يعلى الموصلي وأحمد بن نصر الحافظ والحسن بن سفيان وإبراهيم بن يوسف الهسنجاني وأبي خليفة وزكرياء الساجي وغيرهم، وكتب عنه أبو الحسن
ابن جوصا وأبو العباس بن عقدة وأبو محمد صاعد وإبراهيم بن محمد بن حمزة وأبو محمد الغسّال وأبو طالب أحمد بن نصر الحافظ وهم من شيوخه، روى عنه أبو عبد الله الحاكم وأبو عبد الرحمن السّلمي وأبو عبد الله بن مندة وأبو بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب الصّبغي وهو من أقرانه، قال أبو عبد الرحمن السلمي: سألت الدارقطني عنه فقال: مهذب إمام، وقال أبو عبد الله بن مندة: ما رأيت في اختلاف الحديث والإتقان أحفظ من أبي علي الحسين بن علي النيسابوري، قال أبو عبد الله في تاريخه: الحسين بن علي بن يزيد أبو علي النيسابوري الحافظ وحيد عصره في الحفظ والإتقان والورع والرحلة ذكره بالشرق كذكره بالغرب مقدم في مذاكرة الأئمة وكثرة التصنيف كان مع تقدمه في هذا العلم أحد المعدلين المقبولين في البلد، سمع بنيسابور وهراة ونسا وجرجان ومرو الروذ والرّيّ وبغداد والكوفة وواسط والأهواز وأصبهان ودخل الشام فكتب بها، وسمع بمصر، وكتب بمكة عن الفضل بن محمد الجندي، وقال في موضع آخر: انصرف أبو علي من مصر إلى بيت المقدس ثم حجّ حجة أخرى ثم انصرف إلى بيت المقدس وانصرف في طريق الشام إلى بغداد، وهو باقعة في الذكر والحفظ لا يطيق مذاكرته أحد، ثم انصرف إلى خراسان ووصل إلى وطنه، ولا يفي بمذاكرته أحد من حفّاظنا، ثم أقام بنيسابور يصنّف ويجمع الشيوخ والأتراب، قال: وسمعت أبا بكر محمد بن عمر الجعابي يقول:
أنّ أبا علي أستاذي في هذا العلم وعقد له مجلس الإملاء بنيسابور سنة 337 وهو ابن ستين سنة، وإن مولده سنة 277، ولم يزل يحدث بالمصنّفات والشيوخ مدة عمره، وتوفي أبو علي عشية يوم الأربعاء الخامس عشر من جمادى الأولى سنة 349 ودفن في مقبرة باب معمر عن اثنتين وسبعين سنة.

بدائع القرآن

بدائع القرآن
لابن أبي الإصبع: زكي الدين، أبي محمد: عبد العظيم بن عبد الواحد القيرواني، ثم المصري.
المتوفى: سنة 654.
بدائع القرآن
ليس البديع في يد الفنان حلية تقتسر، ولا زينة يستغنى الكلام عنها، ولا زخرفة يأتى دورها، بعد أن يكون المعنى قد استوفى تمامه. ولا يجيء مكانه فى المرتبة الثالثة، بعد استيفاء علمى المعانى والبيان حقهما، فإن الإنتاج الأدبى يبرز إلى الوجود في نظمه الخاص، وبه الصور البيانية، والمحسنات البديعية، دفعة واحدة، فكأنما هذا المحسن البديعى جاء في مكانه ليقوم بنصيبه من أداء المعنى أولا، أما ما فيه من جمال لفظى فقد جاء من أن تلك الكلمة بالذات يتطلبها المعنى، ويقتضى المجيء بها.
وليس كل ما ذكره علماء البديع بألوان جمال تستحق أن تذكر بين المحسنات، وذلك يتطلب معاودة النظر، فى دراسة هذه الألوان، لاستبقاء الجميل، وحذف ما لا غناء فيه.
ولست أريد الحديث الآن عن جناية البديع على الأدب العربى عند ما يراد لذاته، فيستغلق المعنى، ويضؤل. أما ما ورد في القرآن مما نعده محسنات بديعية فقد وردت الألفاظ التى كان بها هذا المحسن البديعى في مكانها، يتطلبها المعنى، ولا يغنى غيرها غناءها.
خذ ما ورد في القرآن الكريم من الجناس التام، كقوله تعالى: يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (النور 43، 44). تجد كلمة الْأَبْصارِ الأولى مستقرة في مكانها فهى جمع بصر، ويراد به نور العين الذى تميز بين الأشياء وكلمة الْأَبْصارِ الثانية جمع بصر بمعنى العين، ولكن كلمة الْأَبْصارِ هنا أدل على المعنى المراد من كلمة (العيون)، لما أنها تدل على ما منحته العين من وظيفة الإبصار، وهى التى بها العظة والاعتبار، فأنت ذا ترى أن أداء المعنى كاملا، تطلب إيراد هذه الكلمة، حتى إذا وردت رأينا هذا التناسق اللفظى.
واقرأ قوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ (الروم 55). فكلمة (الساعة) الأولى جىء بها دالة على يوم القيامة، واختير لذلك اليوم هذا الاسم هنا؛ للدلالة على معنى المفاجأة والسرعة، وكلمة ساعَةٍ الثانية تعبر أدق تعبير عن شعور هؤلاء المجرمين، فهم لا يحسون أنهم قضوا في حياتهم الدنيا برهة قصيرة الأمد جدّا، حتى يعبروا عنها ببرهة أو دقيقة مثلا، ولا بفترة طويلة، يعبرون عنها بيوم مثلا، فكانت كلمة (ساعة) خير معبر عن شعورهم بهذا الوقت الوجيز.
وما ورد في القرآن من جناس ناقص، فسبيله سبيل الجناس التام، وانظر إلى قوله تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (الأنعام 26).
ألا ترى أن موقف الكفار من القرآن، أنهم يبعدون الناس عنه، كما يبعدون أنفسهم عنه، فعبر القرآن عن ذلك بكلمتين متقاربتين ليشعر قربهما بقرب معنييهما.
ويطول بى القول إذا أنا مضيت في بيان كيف حلت كل كلمة في جمل الجناس محلها، بحيث لا تغنى كلمة أخرى في هذا الوضع غناءها، وحسبى أن أشير إلى تلك الآيات، التى ورد فيها ما كون بعض ألوان من الجناس، مثل قوله تعالى:
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (الضحى 9، 10). وقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (القيامة 22، 23). وقوله: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (القيامة 29، 30). وقوله سبحانه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِــبَةُ الْمُنْذَرِينَ (الصافات 72، 73).
فأنت ترى النهى عن القهر جاء إلى جانب اليتيم، بمعنى الغلبة عليه والاستيلاء على ماله، وأما السائل فقد نهى عن نهره وإذلاله، فكلتا الكلمتين جاءت في موضعها الدقيق، كما وردت كلمتا (ناظرة وناضرة) أى مشرقة، وإشراقها من نظرها إلى ربها، وقد توازنت الكلمتان في جملتيهما لما بينهما من صلة السبب بالمسبب. واختيار كلمة الْمَساقُ فى الآية الثانية لتصور هذه الرحلة التى ينتقل فيها المرء من الدنيا إلى الآخرة، فكأنه سوق مسافر ينتهى به السفر إلى الله. وفي كلمة المنذرين ما يشير إلى الربط بينهم وبين المنذرين الذين أرسلوا إليهم. وقل مثل ذلك في قوله تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (الهمزة 1). فإن شدة التشابه بين الكلمتين توحى بالقرابة بينهما، مما يجعل إحداهما مؤكدة للأخرى فالهمزة المغتاب، واللمزة العياب، فالصلة بينهما وثقى، كالصلة بين الفرح والمرح في قوله تعالى: ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (غافر 75).
وإيثار كلمة النبأ في قوله سبحانه: وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (النمل 22). لما فيها من معنى القوة؛ لأن هذه المادة تدل على الارتفاع والنتوء والبروز والظهور، فناسب مجيئها هنا، ووصف النبأ تأكيدا لقوته باليقين.
ويعدون من أنواع البديع المشاكلة، ويعنون بها ذكر الشيء بغير لفظه، لوقوعه فى صحبته، ويمثلون لذلك بقوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها (الشورى 40). قالوا:
فالجزاء عن السيئة في الحقيقة غير سيئة، والأصل وجزاء سيئة عقوبة مثلها.
وبقوله تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (آل عمران 54). والأصل أخذهم بمكرهم. وبقوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ (البقرة 194). قالوا: والمراد فــعاقــبوه، فعدل عن هذا؛ لأجل المشاكلة اللفظية. ولكننى أرى القرآن أجل من أن يسمى الشيء بغير اسمه لمجرد وقوعه في صحبته، بل أرى هذا التعبير يحمل معنى، وجىء به ليوحى إلى القارئ بما لا يستطيع أن يوحى به ولا أن يدل عليه ما قالوا إنه الأصل المعدول عنه، فتسمية جزاء السيئة سيئة؛ لأن العمل في نفسه سوء، وهو يوحى بأن مقابلة الشر بالشر، وإن كانت مباحة، سيئة يجدر بالإنسان الكامل أن يترفع عنها، وكأنه بذلك يشير إلى أن العفو أفضل وأولى، وعلى هذا النسق تماما ورد قوله: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ (البقرة 194). وأما مكر الله فأن يفعل بهم كما يفعل الماكر، يمدهم في طغيانهم يعمهون، ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وعدوا من ألوان البديع الاستثناء، ومثلوا له بقوله تعالى: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً (العنكبوت 14). وفي هذا التعبير، فضلا عن إيجازه، إيحاء بطول المدة، وتهويل للأمر على السامعين، وفي ذلك تمهيد العذر لنوح في الدعاء على قومه، وذلك لأن أول ما يطرق السمع ذكر الألف، فتشعر بطول مدته، وتتصور جهاد نوح في ذلك الزمن المديد، ولن يقلل الاستثناء من شأن هذا التصور، ولا يتحقق هذا الإحساس إذا بدأت بغير الألف.
ومنها اللف والنشر بذكر شيئين أو أكثر، ثم ذكر ما يقابلها، وفيه جمع للمتناسبات من غير فاصل بينها. خذ قوله تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ (القصص 73). ألا ترى بين الليل والنهار مناسبة تجمع بينهما، ثم يثير هذا تطلعا إلى معرفة السبب في أنهما من رحمته، وفي ذلك عنصر التشويق، وفي تقديم السكون على ابتغاء الفضل تقديم الاستعداد للجهاد فى الحياة على الجهاد. وتأمل كذلك ما يثيره الإجمال من التشويق في قوله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها
خالِدُونَ
(آل عمران 106، 107)، وفي الإجمال الأول إعطاء صورة سريعة لهذا اليوم، ثم يعود بعدئذ إلى إكمال الصورة في تفصيل وإيضاح، وربما يكون قد بدأ عند ما فصل بذكر من اسودت وجوههم، ليكون الحديث منتهيا بذكر طريقة الخلاص من عذاب ذلك اليوم. ومن اللف والنشر قوله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (الإسراء 29). والسر في الجمع أولا ذكر النهى عنه جملة واحدة، ثم العود بعد ذلك لبيان سر هذا النهى.
وما ورد في القرآن من طباق بالجمع بين المتضادين، كانت الكلمة فيه مستقرة في مكانها تمام الاستقرار، سواء كان التضاد لفظا أو معنى، حقيقة أو مجازا، إيجابا أو سلبا، كقوله تعالى: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ (فاطر 19، 20). فأنت تراه يعقد الموازنة بين هذين الضدين ولا مفر من الجمع بينهما في الجملة لعقد هذه الموازنة التى تبين عدم استوائهما.
وكقوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (النجم 43، 44)، وقوله سبحانه: وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ (الكهف 18).
ومن الطباق السلبى قوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (الزمر 9). وقوله: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ (المائدة 44). ومن الطباق المعنوى قوله تعالى: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (يس 15، 16)، أى إنا لصادقون فإن الرسول يجب أن يكون صادقا.
ومما يرتبط بالطباق المقابلة بأن يؤتى بمعنيين أو أكثر ثمّ بما يقابل ذلك على الترتيب، فمن الجمع بين الاثنين قوله تعالى: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً (التوبة 82).
وبين الثلاثة قوله سبحانه: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ (الحديد 23).
وبين الأربعة قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (الليل 5 - 10)، وهذه المقابلة بين المعانى تزيدها في الفكر وضوحا، وفي النفس رسوخا. ومن ذلك ترى أن ما ورد في القرآن من طباق ومقابلة لم يجئ اعتسافا، وإنما جاء المعنى مصورا في هذه الألفاظ، التى أدت المعنى خير أداء وأوفاه، وكان منها هذا الطباق والمقابلة.
ومن ألوان البديع العكس بأن يقدم في الكلام جزء، ويؤخر آخر، ثم يقدم المؤخر ويؤخر المقدم، وجمال العكس في أنه يربط بين أمرين، ويعقد بينهما أوثق الصلات أو أشد ألوان النفور، تجد ذلك في قوله سبحانه: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ (الحج 61). وقوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ (يونس 31). وقوله سبحانه: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ (البقرة 187). وقوله تعالى: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ (الممتحنة 10). وقوله تعالى: ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ (الأنعام 52).
ومن أجمل أنواعه ائتلاف المعنى مع المعنى بذكر الأمور المتناسبة بعضها إلى جانب بعض، كقوله سبحانه: قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ (يوسف 86). وقد يخفى في بعض الأحيان وجه الجمع بين المعنيين، كما في قوله سبحانه: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (طه 118، 119)، فقد يبدو أن الوجه الجمع بين الجوع والظمأ، والعرى والضحاء، ولكن التأمل الهادئ يدل على أن الجوع والعرى يسببان الشعور بالبرد فجمعا معا، والظمأ والضحاء يسببان الشعور بالحر، إذ الأول يبعث التهاب الجوف، والثانى يلهب الجلد، فناسب ذلك الجمع بينهما.
هذا ولست أرمى هنا إلى حصر ما عثر عليه العلماء من ألوان البديع في القرآن، فقد تكفل بذلك غيرى، وأفرد ابن أبى الإصبع لذلك كتابا عدّد فيه هذه الألوان ومثّل لها، وذكر من ذلك أكثر من مائة نوع، وكل ما قصدت إليه هو بيان أن ما نشعر به من جمال لفظى حينا ومعنوى حينا آخر، لم يأت إلا من أن اللفظة القرآنية قد استدعاها المعنى، ولم يكن ثمة لفظة أخرى تغنى غناءها، فلما استقرت في مكانها زاد بها الكلام إشراقا، والمعنى وضوحا وجلاء.

البشريّة

البشريّة:
[في الانكليزية] Al bishriyya (sect)
[ في الفرنسية] Al -Bishriyya (secte)
هي فرقة من المعتزلة أتباع بشر بن المعتمر كان من أفاضل علماء المعتزلة، وهو الذي أحدث القول بالتوليد؛ قالوا الأعراض يجوز أن تحصل متولّدة في الجسم من فعل الغير كما إذا كان أسبابها من فعله. وقالوا القدرة والاستطاعة سلامة البنية والجوارح عن الآفات. وقالوا الله تعالى قادر على تعذيب الطفل، ولو عذّبه لكان ظالما لكنه لا يستحسن أن يقال في حقّه ذلك، بل يجب أن يقال ولو عذّبه كان الطفل بالغا عاقــلا عاصيا مستحقا للعقاب، وفيه تناقض، إذ حاصله أنّ الله تعالى يقدر على الظلم، ولو ظلم لكان عادلا كذا في شرح المواقف.

الإيمان

الإيمان: بالكسرِ في اللغة: التصديق بالقلب، وفي الشرع: هو الاعتقاد بالقلب والإقرار باللسان وقد مرَّ. قيل: من شهد وعمل ولم يعتقد فهو منافق، ومن شهد ولم يعمل واعتقد فهو فاسق، ومن أخلَّ بالشهادة فهو كافر.
والأيمان- بالفتح-: جمع اليمين وسيأتي.
الإيمان: أحينا وأمِتْنا عليه يَا أرحمَ الرَّاحمين- هو تصديق سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - في جميع ما جاء به عن الله تعالى مما عُلِم مجيئه ضرورة كذا في "الدر المختار" يعني أن الإيمان هو الاعتماد والوثوق بالرسول في كل ما جاء به علماً وعملاً والإقرار إما شرط أو شطر. قال النسفي في "العقائد" "الإيمان والإسلام واحد". قال العلاَّمة التفتازاني في شرحه: "لأن الإسلام هو الخضوعُ والانقياد، بمعنى قَبول الأحكام والإذعان بها وذلك حقيقةُ التصديق ويؤيده قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)} [الذاريات:35، 36].
قلت: هذا إذا كان الإسلامُ على الحقيقة، أما إذا كان على الاستسلام فقط أو على الخوف من القتل فهو غير الإيمان وذلك لقوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]. 
الإيمان
هو من الأمن، فالإيمان هو: الاعتماد، ومن هاهنا: "آمَنَ بهِ" : أيقن به. [والفرق بين "الإيمان" و "الإيقان" أن "الإيمان": تصديق وتسليم، وضده: التكذيب، والجحود، والكفر. و "الإيقان" ضده: الظن والشك. فليس كلُّ مَن أيقن صَدَّقَ، بل ربّما يكذّب المرءُ عُتوّاً ومكابرةً وقد أيقن بالشيء، كما حكى الله تعالى عن فرعون وقومه:
{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِــبَةُ الْمُفْسِدِينَ} .
وكذلك ليس كلُّ من آمن فقد أيقن، فربَّما يؤمنُ الرجلُ بغلبة الظنِّ، ثمَّ يوفقه اللهُ، فيخرج عن الظن، ولكن لا يكمل الإيمان إلا بالإيقان. فالإيمان جزءان: علم وتسليم، وبكمالهما يكمل] .
و"آمَنَ لَه": أذعن لقوله. ["آمَنَه": أعطاه الأمن] فهذا هو الأصل لغةً.
[وهو اصطلاح ديني قديم. في العبرانية؟؟؟؟ (أمن) معناه: الصدق والاعتماد، والمتعدي منه: إيمان وتصديق وتثبّت. ومنه؟؟؟؟ (آمين) كلمة تصديق] . ثم علّمنا القرآنُ فروعَ هذا الأصل:
فمنها أن المؤمن لا بد أن يتوكل على الله، كما قال تعالى:
{زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} .
ومنها أن الإيمان لكونه جزماً واعتقاداً لا بد أن يسوق إلى العمل، كما قال تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} .
الإيمان:
[في الانكليزية] Faith ،belief
[ في الفرنسية] Foi ،croyance
هو في اللغة التصديق مطلقا. واختلفت فيه أهل القبلة على أربع فرق. الفرقة الأولى قالوا الإيمان فعل القلب فقط، وهؤلاء قد اختلفوا على قولين: أحدهما أنه تصديق خاص وهو التصديق بالقلب للرسول عليه السلام فيما علم مجيئه به ضرورة من عند الله. فمن صدّق بوحدانية الله تعالى بالدليل ولم يصدّق بأنه مما علم به مجيء الرسول من عند الله لم يكن هذا التصديق منه إيمانا. ثم ما لوحظ إجمالا كالملائكة والكتب والرسل كفى الإيمان به إجمالا، وما لوحظ تفصيلا كجبرئيل وموسى والإنجيل اشترط الإيمان به تفصيلا. فمن لم يصدّق بمعيّن من ذلك فهو كافر. ثم التقييد بالضرورة لإخراج ما لا يعلم بالضرورة كالاجتهاديات، فإن منكرها ليس بكافر وعدم تقييد التصديق بالدليل لاشتمال اعتقاد المقلّد إذ إيمانه صحيح عند الأكثر وهو الصحيح.
والتصديق اللغوي هو اليقيني على ما يجيء في محله. فالظني ليس بكاف في الإيمان، وهذا قول جمهور العلماء، فإنّ الإيمان عندهم هو التصديق الجازم الثابت.

وقال بعضهم: عدم كفاية الظنّ القوي الذي لا يخطر معه النقيض محل كلام، وقد صرّح في شرح المواقف أنّ الظنّ الغالب الذي لا يخطر معه احتمال النقيض حكمه حكم اليقين في كونه إيمانا حقيقة فإن إيمان أكثر العوام من هذا القبيل. وأطفال المؤمنين وإن لم يكن لهم تصديق لكنهم مصدقون حكما لما علم من الدين ضرورة أنه عليه السلام كان يجعل إيمان أحد الأبوين إيمانا للأولاد.
والتصديق مع لبس الزنار بالاختيار كلا تصديق فيحكم بكفر هذا المصدّق. وقيل الكفر في مثل هذه الصورة أي في الصورة التي يكون التصديق مقرونا بشيء من أمارات التكذيب في الظاهر في حق إجراء أحكام الدنيا لا فيما بينه وبين الله تعالى، كذا في حاشية الخيالي للمولوي عبد الحكيم.
وحدّ الإيمان بما ذكرنا هو مختار جمهور الأشاعرة وعليه الماتريدية وأكثر الأئمة كالقاضي والأستاذ والحسين بن الفضل ووافقهم على ذلك الصالحي وابن الراوندي من المعتزلة. والقول الثاني أنه معرفة الله تعالى مع توحيده بالقلب. والإقرار باللسان ليس بركن فيه ولا شرط، حتى أن من عرف الله بقلبه ثم جحد بلسانه ومات قبل أن يقرّ به فهو مؤمن كامل الإيمان وهو قول جهم بن صفوان.
وأما معرفة الكتب والرسل واليوم الآخر فزعم أنها داخلة في حدّ الإيمان، وهذا بعيد عن الصواب لمخالفته ظاهر الحديث «بني الإسلام على خمس». والصواب ما حكاه الكعبي عن جهم أنّ الإيمان معرفة الله تعالى وكل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد عليه السلام. وفي شرح المواقف قيل الإيمان هو المعرفة، فقوم بالله وهو مذهب جهم بن صفوان، وقوم بالله وبما جاءت به الرسل إجمالا وهو منقول عن بعض الفقهاء.
والفرقة الثانية قالوا إنّ الإيمان عمل باللسان فقط وهم أيضا فريقان: الأول أنّ الإقرار باللسان هو الإيمان فقط ولكن شرط في كونه إيمانا حصول المعرفة في القلب، فالمعرفة شرط لكون الإقرار اللساني إيمانا لا أنها داخلة في مسمّى الإيمان وهو قول غيلان بن مسلم الدمشقي. والثاني أنّ الإيمان مجرّد الإقرار باللسان وهو قول الكرّاميّة، وزعموا أنّ المنافق مؤمن الظاهر كافر السريرة، فثبت له حكم المؤمنين في الدنيا وحكم الكافرين في الآخرة.
والفرقة الثالثة قالوا إنّ الإيمان عمل القلب واللسان معا أي في الإيمان الاستدلالي دون الذي بين العبد وربه، وقد اختلف هؤلاء على أقوال: الأول أنه إقرار باللسان ومعرفة بالقلب وهو قول أبي حنيفة وعامة الفقهاء وبعض المتكلمين والثاني أنه التصديق بالقلب واللسان معا وهو قول أبي الحسن الأشعري وبشر المريسي. وفي شرح المقاصد فعلى هذا المذهب من صدّق تقلبه ولم يتفق له الإقرار باللسان في عمره مرة لا يكون مؤمنا عند الله تعالى، ولا يستحق دخول الجنة ولا النجاة من الخلود في النار، بخلاف ما إذا جعل اسما للتصديق فقط، فالإقرار حينئذ لإجراء الأحكام عليه فقط كما هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى انتهى كلامه. والمذهب الأخير موافق لما في الحديث «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرّة من الإيمان» كذا في حاشية الخيالي للمولوي عبد الحكيم. والثالث أنه إقرار باللسان وإخلاص بالقلب. ثم المعرفة بالقلب على قول أبي حنيفة مفسّرة بشيئين: الأول الاعتقاد الجازم سواء كان استدلاليّا أو تقليديّا، ولذا حكموا بصحة إيمان المقلّد وهو الأصح.
والثاني العلم الحاصل بالدليل، ولذا زعموا أن الأصح أنّ إيمان المقلّد غير صحيح. ثم هذه الفرقة اختلفوا، فقال بعضهم الإقرار شرط للإيمان في حق إجراء الأحكام حتى أنّ من صدّق الرسول عليه السلام فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى وإن لم يقرّ بلسانه وهو مذهب أبي حنيفة وإليه ذهب الأشعري في أصح الروايتين وهو قول أبي منصور الماتريدي. ولا يخفى أنّ الإقرار لهذا الغرض لا بدّ أن يكون على وجه الإعلام على الإمام وغيره من أهل الإسلام ليجروا عليه الأحكام، بخلاف ما إذا كان ركنا فإنه يكفي مجرّد التكلّم في العمر مرة، وإن لم يظهر على غيره كذا في الخيالي. وقال بعضهم هو ركن ليس بأصلي له بل هو ركن زائد، ولهذا يسقط حال الإكراه. وقال فخر الإسلام إنّ كونه زائدا مذهب الفقهاء وكونه لإجراء الأحكام مذهب المتكلمين.
والفرقة الرابعة قالوا إنّ الإيمان فعل بالقلب واللسان وسائر الجوارح وهو مذهب أصحاب الحديث ومالك والشافعي وأحمد والأوزاعي. وقال الإمام وهو مذهب المعتزلة والخوارج والزيدية. أما أصحاب الحديث فلهم أقوال ثلاثة: القول الأول أنّ المعرفة إيمان كامل وهو الأصل ثم بعد ذلك كل طاعة إيمان على حدة، وزعموا أنّ الجحود وإنكار القلب كفر، ثم كل معصية بعده كفر على حدة، ولم يجعلوا شيئا من الطاعات ما لم يوجد المعرفة والإقرار باللسان إيمانا ولا شيئا من المعاصي كفرا ما لم يوجد الجحود والإنكار لأن اصل الطاعات الإيمان وأصل المعاصي الكفر والفرع لا يحصل بدون ما هو أصله وهو قول عبد الله بن سعد. والقول الثاني أن الإيمان اسم للطاعات كلها فرائضها ونوافلها، وهي بجملتها إيمان واحد، وأنّ من ترك شيئا من الفرائض فقد انتقض إيمانه، ومن ترك النوافل لا ينتقض إيمانه. والقول الثالث أنّ الإيمان اسم للفرائض دون النوافل.
وأما المعتزلة فقد اتفقوا على أنّ الإيمان إذا عدّي بالباء فالمراد به في الشرع التصديق، يقال آمن بالله أي صدّق، إذ الإيمان بمعنى أداء الواجبات لا يمكن فيه هذه التعدية، لا يقال فلان آمن بكذا إذا صلّى وصام، فالإيمان المتعدّي بالباء يجري على طريق اللغة، وإذا أطلق غير متعدّ فقد اتفقوا على أنه منقول نقلا ثانيا من التصديق إلى معنى آخر. ثم اختلفوا فيه على وجوه. الأول أنّ الإيمان عبارة عن فعل كل الطاعات سواء كانت واجبة أو مندوبة أو من باب الاعتقادات أو الأقوال أو الأفعال وهذا قول واصل بن عطاء وأبي الهذيل والقاضي عبد الجبار. والثاني أنه عبارة عن فعل الواجبات فقط دون النوافل وهو قول أبي علي الجبائي وأبي هاشم. والثالث أنه عبارة عن اجتناب كل ما جاء فيه الوعيد وهو قول النظّام وأصحابه، ومن قال شرط كونه مؤمنا عندنا وعند الله اجتناب كل الكبائر.
وأما الخوارج فقد اتفقوا على أنّ الإيمان بالله يتناول معرفة الله تعالى ومعرفة كل ما نصب الله عليه دليلا عقليا أو نقليا، ويتناول طاعة الله في جميع ما أمر ونهي عنه صغيرا كان أو كبيرا.
وقالوا مجموع هذه الأشياء هو الإيمان ويقرب من مذهب المعتزلة مذهب الخوارج، ويقرب من مذهبهما مذهب السلف وأهل الأثر أنّ الإيمان عبارة عن مجموع ثلاثة أشياء: التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان، إلّا أنّ بين هذه المذاهب فرقا، وهو أن من ترك شيئا من الطاعات فعلا كان أو قولا خرج من الإيمان عند المعتزلة ولم يدخل في الكفر، بل وقع في مرتبة بينهما يسمّونها منزلة بين المنزلتين. وعند الخوارج دخل في الكفر لأن ترك كلّ واحد من الطاعات كفر عندهم. وعند السلف لم يخرج من الإيمان لبقاء أصل الإيمان الذي هو التصديق بالجنان. وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: هذه أول مسألة نشأت في الاعتزال. ونقل عن الشافعي أنه قال الإيمان هو التصديق والإقرار والعمل، فالمخلّ بالأول وحده منافق، وبالثاني وحده كافر، وبالثالث وحده فاسق ينجو من الخلود في النار ويدخل الجنّة.

قال الإمام: هذه في غاية الصعوبة لأن العمل إذا كان ركنا لا يتحقق الإيمان بدونه، فغير المؤمن كيف يخرج من النار ويدخل الجنة. قلت الإيمان في كلام الشارع قد جاء بمعنى أصل الإيمان وهو الذي لا يعتبر فيه كونه مقرونا بالعمل كما في قوله عليه السلام «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته ورسله وتؤمن بالبعث والإسلام وأن تعبد الله ولا تشرك به وتقيم الصلاة» الحديث. وقد جاء بمعنى الإيمان الكامل وهو المقرون بالعمل وهو المراد بالإيمان المنفي في قوله عليه السلام «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» الحديث، وكذا كل موضع جاء بمثله. فالخلاف في المسألة لفظي لأنه راجع إلى تفسير الإيمان وأنه في أيّ المعنيين منقول شرعي، وفي أيهما مجاز ولا خلاف في المعنى فإنّ الإيمان المنجّي من دخول النار هو الثاني باتفاق جميع المسلمين، والإيمان المنجّي من الخلود في النار هو الأول باتفاق أهل السنة خلافا للمعتزلة والخوارج.
وبالجملة فالسلف والشافعي جعلوا العمل ركنا من الإيمان بالمعنى الثاني دون الأول، وحكموا مع فوات العمل ببقاء الإيمان بالمعنى الأول، وبأنه ينجو من النار باعتبار وجوده، وإن فات الثاني فاندفع الإشكال.
اعلم أنهم اختلفوا في التصديق بالقلب الذي هو تمام مفهوم الإيمان عند الأشاعرة أو جزء مفهومه عند غيرهم. فقيل هو من باب العلوم والمعارف فيكون عين التصديق المقابل للتصور. وردّ بأنّا نقطع بكفر كثير من أهل الكتاب مع علمهم بحقيقة رسالته صلّى الله عليه وآله وسلّم وما جاء به قال الله تعالى: فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ويَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ الآية. وأجيب بأنّا إنما نحكم بكفرهم لأن من أنكر منهم الرسالة أبطل تصديقه القلبي بتكذيبه اللساني، ومن لم ينكرها أبطله بترك الإقرار اختيارا، لأنّ الإقرار شرط لإجراء الأحكام على رأي، وركن الإيمان على رأي.
ولهذا لو حصل التصديق لأحد ومات من ساعته فجأة قبل الإقرار يكون مؤمنا إجماعا. لكن بقي شيء آخر وهو أنّ الإيمان مكلّف به والتكليف إنما يتعلق بالأفعال الاختيارية فلا بد أن يكون التصديق بالقلب اختياريا، والتصديق المقابل للتصوّر ليس اختياريا كما بيّن في موضعه.
وأجيب بأن التكليف بالإيمان تكليف بتحصيل أسبابه من القصد إلى النظر في آثار القدرة الدالة على وجوده تعالى ووحدانيته وتوجيه الحواس إليها، وترتيب المقدمات المأخوذة، وهذه أفعال اختيارية. ولذا قال القاضي الآمدي: التكليف بالإيمان تكليف بالنظر الموصل إليه وهو فعل اختياري. وفيه أنه يلزم على هذا اختصاص التصديق بأن يكون علما صادرا عن الدليل.
وقيل هو أي التصديق من باب الكلام النفسي وعليه إمام الحرمين. وهكذا ذكر صدر الشريعة حيث قال: المراد
بالتصديق معناه اللغوي وهو أن ينسب الصدق إلى المخبر اختيارا لأنه إن وقع في القلب صدق المخبر ضرورة كما إذا شاهد أحد المعجزة ووقع صدق دعوى النبوة في قلبه ضرورة وقهرا من غير أن ينسب الصدق إلى النبي عليه السلام اختيارا، لا يقال في اللغة إنه صدّقه، فعلم أنّ المراد من التصديق إيقاع نسبة الصدق إلى المخبر اختيارا الذي هو كلام النفس ويسمّى عقد الإيمان. وظاهر كلام الأشعري أنه كلام النفس والمعرفة شرط فيه إذ المراد بكلام النفس الاستسلام الباطني والانقياد لقبول الأوامر والنواهي. وبالمعرفة إدراك مطابقة دعوى النبي للواقع أي تجليها للقلب وانكشافها له وذلك الاستسلام إنّما يحصل بعد حصول هذه المعرفة، ويحتمل أن يكون كل منهما ركنا. وقال بعض المحققين إنّ كلا من المعرفة والاستسلام خارج من مفهوم التصديق لغة، وهو نسبة الصدق بالقلب أو اللسان إلى القائل، لكنهما معتبران شرعا في الإيمان إمّا على أنهما جزءان لمفهومه شرعا، أو شرطان لإجراء أحكامه شرعا. والثاني هو الراجح لأن الأول يلزمه نقل الإيمان عن معناه اللغوي إلى معنى آخر شرعي، والنقل خلاف الأصل، فلا يصار إليه بغير دليل.
فائدة:
قيل الإيمان والإسلام مترادفان، وقيل متغايران. وقد سبق تفصيله في لفظ الإسلام.
فائدة:
الإيمان هل يزيد وينقص أو لا؟ اختلف فيه. فقيل لا يقبل الزيادة والنقصان لأنه حقيقة التصديق، وهو لا يقبلهما. وقيل لا يقبل النقصان لأنه لو نقص لانتفى الإيمان، ولكن يقبل الزيادة لقوله تعالى زادَتْهُمْ إِيماناً ونحوها. وقيل يقبلهما وهو مذهب جماعة أهل السنة من سلف الأمة وخلفائها. وقال الإمام هذا البحث لفظي لأن المراد بالإيمان إن كان هو التصديق فلا يقبلهما لأنّ الواجب هو اليقين الغير القابل للتفاوت لعدم احتمال النقيض فيه، والاحتمال ولو بأبعد وجه ينافي اليقين. وإن كان المراد به الأعمال إمّا وحدها أو مع التصديق فيقبلهما وهو ظاهر. فإن قلت انتفاء الجزء يستلزم انتفاء الكل فكيف تتصوّر الزيادة والنقصان؟ قلت الأعمال ليست مما جعله الشارع جزءا من الإيمان حتى ينتفي بانتفائها الإيمان بل هي تقع جزءا منه إن وجدت. فما لم يوجد الأعمال فالإيمان هو التصديق والإقرار وإن وجدت كانت داخلة في الإيمان، فيزيد على ما كان قبل الأعمال.
وقيل الحق أنّ التصديق يقبلهما بحسب الذات وبحسب المتعلق، أمّا الأول فلقبوله القوة والضعف فإنه من الكيفيات النفسانية القابلة لهما كالفرح والحزن والغضب. وقولكم الواجب هو اليقين والتفاوت لاحتمال النقيض. قلنا لا نسلم أنّ التفاوت لذلك فقط إذ يجوز أن يكون بالقوة والضعف بلا احتمال النقيض. ثم الذي قلتم يقتضي أن يكون إيمان النبي عليه السلام وإيمان آحاد الأمة سواء وأنه باطل إجماعا ولقول إبراهيم عليه السلام وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي فإنه يدل على قبول التصديق اليقيني للزيادة والنقصان. والظاهر أنّ الظن الغالب الذي لا يخطر معه احتمال النقيض بالبال حكمه حكم اليقين في كونه إيمانا حقيقة، فإنّ إيمان أكثر العوام من هذا القبيل. وعلى هذا فقبول الزيادة والنقصان واضح وضوحا تاما. وأمّا الثاني فإن التصديق التفصيلي في أفراد ما علم مجيئه به جزء من الإيمان يثاب عليه ثوابه على تصديقه بالإجمال.
فائدة:
هل الإيمان مخلوق أم لا؟ فذهب جماعة إلى أنه مخلوق. وذكر عن أحمد بن حنبل وجمع من أصحاب الحديث أنهم قالوا الايمان غير مخلوق. وأحسن ما قيل فيه الإيمان إقرار، وهو مخلوق لأنه صنع العبد أو هداية وهي غير مخلوقة لأنها صنع الربّ. هذا خلاصة ما في العيني شرح صحيح البخاري والفتح المبين شرح الأربعين وشرح المواقف. وقد بقيت بعد أبحاث تركناها مخافة الإطناب، فإن شئت تحقيقها فارجع إلى العيني في أول كتاب الإيمان.

الإمامة

الإمامة:
[في الانكليزية] Imamate
[ في الفرنسية] Imamat
بالكسر في اللغة پيش نمازي گردن كما في الصّراح. وعند المتكلمين هي خلافة الرسول عليه السلام في إقامة الدين وحفظ حوزة الإسلام بحيث يجب اتباعه على كافة الأمة والذي هو خليفته يسمّى إماما. وقولنا يجب اتباعه الخ يخرج من ينصّبه الإمام في ناحية كالقاضي، ويخرج المجتهد أيضا إذ لا يجب اتباعه على الأمة كافة بل على من قلّده خاصة، ويخرج الآمر بالمعروف أيضا. وهذا التعريف أولى من قولهم الإمامة رئاسة عامة في أمور الدين لشخص من الأشخاص. وقيد العموم احتراز عن القاضي والرئيس وغيرهما. والقيد الأخير احتراز عن كل الأمة إذا عزلوا الإمام عند فسقه، فإنّ الكل ليس شخصا واحدا وإنما كان أولى إذ ينتقض هذا التعريف بالنبوّة.
فائدة:
في شروط الإمامة الجمهور على أنّ أهل الإمامة ومستحقها من هو مجتهد في الأصول والفروع شجاع ذو رأي. وقيل لا تشترط هذه الصفات الثلاث. نعم يجب أن يكون عدلا عاقــلا بالغا ذكرا حرا، فهذه الشروط الخمسة بل الثمانية معتبرة بالإجماع، إذ القول بعدم اشتراط الثلاث الأول مما لا يلتفت إليه، وهاهنا صفات أخر في اشتراطها خلاف. الأولى أن يكون قريشيا اشترطه الأشاعرة والجبائية ومنعه الخوارج وبعض المعتزلة. الثانية أن يكون هاشميّا شرطه الشيعة. الثالثة أن يكون عالما لجميع مسائل الدين شرطه الإمامية أيضا.
الرابعة ظهور الكرامة على يده وبه قال الغلاة ولم يشترط هذه الثلاثة الأشاعرة. والخامسة أن يكون معصوما شرطها الإمامية والإسماعيلية ولم يشترطها الأشاعرة.
فائدة:
يثبت الإمامة بالنصّ من الرسول أو من السابق بالإجماع ويثبت أيضا بتبعية أهل الحلّ والعقد عند أهل السنة والجماعة والمعتزلة الصالحية من الزيدية خلافا لأكثر الشيعة، فإنهم قالوا لا طريق إلّا النص. وان شئت الزيادة فارجع إلى شرح المواقف وغيره. وقال بعض الصوفية الإمامة قسمان إمامة ظاهرية وإمامة باطنية وسيجيء في لفظ الخلافة.
Learn Quranic Arabic from scratch with our innovative book! (written by the creator of this website)
Available in both paperback and Kindle formats.