Current Dictionary: All Dictionaries

Search results for: بئس

الإنسان المثالى

الإنسان المثالى
أجمل الله الإنسانية المثالية وما ينتظرها من الجزاء المادى والروحى في قوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (البينة 7، 8). فالإنسان المثالى هو ذلك الذى يؤمن ويعمل صالحا، وقد فصل القرآن في مواضع كثيرة هذا العمل الصالح فمنه ما يرتبط بالله، ومنه ما يرتبط بالناس، ومنه ما يعود إلى الشخص نفسه.
أما ما يرتبط بالله فأن يؤدّى فرائضه في محبة وخشوع، ويصلى ذاكرا جلاله، وعظمته، وإذا أصغى إلى آيات الله سجد لما فيها من عظمة وحكمة قائلا: سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (الإسراء 108)، لا يغيب ذكر الله عنه، مفكرا في خلق السموات والأرض، رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (آل عمران 191 - 194). وفي ذكر الله ورقابته دائما إحياء للضمير الإنسانى، وإقامة هذا الضمير رقيبا على أعمال المرء، فلا يفعل منفردا ما يخجل من فعله مع الجماعة، وإذا حيى الضمير، وقويت شوكته، كان للإنسان منه رقيب على نفسه، فى كل ما يأتى من الأمور وما يدع، وتربية الضمير هو الهدف الرئيسى للتربية، والغرض الأول الذى يرمى إليه المربون.
أما صلته بالناس فصلة رفق وحب وعطف، يفى بالعهد إن عاهد، ويؤدى الأمانة إن اؤتمن، ويربأ بنفسه عن اللغو، فلا يضيع وقته سدى فيه، قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (المؤمنون 1 - 8). وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (المعارج 24، 25). ويؤتون: الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ (البقرة 177). يأمرون بالصدقة والمعروف، ويصلحون بين الناس، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (النساء 114). وهو هنا لا يكتفى بأن يكون المرء صالحا في نفسه، بل لا بدّ أن يكون عضوا نافعا في جماعته، وقوة عاملة فيها، فهو يتصدق، ويأمر غيره بالصدقة، ويصلح بين الناس ويأمر غيره بالإصلاح بينهم، ولا يكتفى القرآن بأن يقف المرء موقف الواعظ المرشد فحسب، بل من الواجب أن يأخذ بحظه من الخير الذى يدعو إليه ولهذا وبخ القرآن أولئك الذين يدعون إلى الخير، وينسون أنفسهم فى قوله: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (البقرة 44).
والإنسان الكامل هو ذلك الذى يبذل جهده في خدمة جماعته، ويعمل على النهوض بها، فلا يعيش كلّا، ولا يقبل أن يرضى غروره، بأن يسمع ثناء على ما لم يفعل، أما هؤلاء الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (آل عمران 188).
ومن أكبر سماته أنه يدفع السيئة بالحسنى، فيؤلف القلوب النافرة، ويستل الخصومة من صدر أعدائه، وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (فصلت 34، 35). وأنت ترى القرآن يعترف بأن هذا الخلق لا يتصف به إلا من كان ذا قدم عظيمة في التفوق في مراتب الكمال، وذا حظ عظيم منه. ويتصل بهذه الصفة كظم الغيظ والعفو عن الناس، وهما مما مجد القرآن إذ قال: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (آل عمران 133، 134). وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (الشورى 37).
وهو عادل، يقول الحق ولا يحيد عنه، ولا يصرفه عن قوله ذو قرابة أو عداوة، وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى (الأنعام 152). كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (المائدة 8).
قد طهر قلبه، فلا يحمل لأحد غلا ولا موجدة، ويسأل الله السلامة من شر ذلك قائلا: وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (الحشر 10). ولا يسعد إنسان في حياته، إذا كان يحمل في قلبه ضغنا على أحد، أو حسدا أو غلا، فإن ذلك يقلب الحياة شقاء، وينغص على المرء أيامه ولياليه فضلا عن ضياع الوقت، وما أجمل الحياة إذا طهر قلب المرء، وبعد عنه ما يئوده من هموم الحقد والحسد، حينئذ يعمل في طمأنينة، ويجاهد في سكينة.
وحسنت صلته بجاره ذى القربى والجار الجنب، ولذلك أثره في سعادة الحياة، والطمأنينة فيها، ويعامل الناس برفق، فلا يغره منصب يظفر به، ولا مال يحويه، ولا
يدفعه ذلك إلى تعاظم أو كبر، ولا يخرجه ما يظفر به إلى البطر والمرح، وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (لقمان 18، 19).
يرد التحية بأحسن منها، وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (النساء 86). ولا يدخل بيتا غير بيته حتى يستأذن، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (النور 27، 28). ويجلس مع الناس في رفق. فلا يجد غضاضة في أن يفسح لغيره من مجلسه، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (المجادلة 11).
وإذا كانت السخرية بالغير، بأى لون من ألوان السخرية، مدعاة إلى تأصل العداء، وتقطع الصلات، كان الإنسان النبيل هو من يجتنب السخرية من الناس، وعيبهم، ولمزهم بألقاب يكرهونها، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (الحجرات 11).
ومن أهم أخلاق الإنسان المثالى الصبر، وقد أثنى به الله كثيرا، وحث عليه كثيرا، وجعله خلة لا يظفر بها إلا الممتازون من الناس، ذوو الحظ الكبير من الرقى الخلقى، قال سبحانه: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (البقرة 155 - 157). وقال: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ (الحج 34، 35). وقال: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (الزمر 10). ومما يرتبط بالصبر شديد الارتباط مقابلة الأحداث ونوازل الحياة، بل ما تأتى به من سعادة وخير، فى هدوء وطمأنينة، فلا يستفزه فرح، ولا يثيره حزن ولا ألم، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (الحديد 23).
ويسير في إنفاقه سيرا مقتصدا لا تقتير فيه ولا تبذير، وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (الفرقان 67)، وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (الإسراء 26 - 29). وهو لذلك يأكل ويشرب، ويستمتع، فى غير إسراف ولا خيلاء، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (الأعراف 31)، ويأخذ بحظه من الحياة الدنيا في غير تكالب عليها، ولا جعل الاستمتاع بها الهدف الأساسى في الحياة.
ويكره القرآن للمرء أن يتبجّح بالقول، فيدعى أنه سيفعل ويفعل، ثم تنجلى كثرة القول عن تقصير معيب في العمل، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (الصف 2، 3).
ويحسن أن أوجه النظر هنا إلى أن القرآن لا يبرئ الإنسان من فعل السوء، ولا ينزهه عن الإثم، ولكن الذى يأخذه عليه هو أن يتمادى في العصيان، ويصرّ على ما يفعل، فلا يندم، ولا يتوب، أما أبواب الجنة فمفتحة لأولئك وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (آل عمران 135، 136).
وهذه بعض آيات من القرآن يصف بها أولئك المثاليين، إذ يقول: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (الفرقان 63 - 67).

الْمُهْلِ

{الْمُهْلِ}
وسأل نافع عن قوله تعالى: {كَالْمُهْلِ}
فقال ابن عباس: كدُرْدِى الزيت. ولما سأل نافع: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
تبارى بها العِيسُ السمومَ كأنها. . . تبطنتِ الأقرابَ من عرقٍ مُهْلا
(تق،) زاد في (ك، ط) : وسواد العرق من خوف يوم القيامة.
= الكلمة من آيات ثلاث:
الكهف 29: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا}
الدخان 45: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ}
المعارج 8: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} ومن المادة، جاء فعل الأمر من التمهيل والإمهال في آيتى المنزمل 11 والطارق 17.
من معاني المُهْلَ في اللغة: القطران الرقسق. وما ذاب من صفر أو حديد، والزيت أو دُردية أو رقيقة، وما يتحاتّ من الرماد، والجمر والسم والقيح وصديد الميت. والمهل، بالفتح، التؤدة والسكينة والرفق. وأمهله ترفق به، ومهَّله: أجَّله.
وتمهل اتأد (ص، ق، س) فلعل المهل في الأصل لذوب المعدن المنصهر - ذكره ابن فارس في المقاييس بلفظ: وقالوا هو النحاس الذائب - لحُظ فيه بطءُ الانصهار فجاء المهل بمعنى التؤدة والبطء، والإمهال بمعنى الإرجاء والتأخير، والتمهيل بمعنى الصبر على من تُمهله. وبملحظ من توقد الانصهار قيل للجمر مهل، ونقل إلى كل سائل كريه مؤذ، كدردى الزيت والقيح وصديد الميت.
وروى الطبري من اختلاف أهل التأويل في المهل: أنه كل شيء أذيب وانماع. وقيل هو القيح والدم الأسود، عن مجاهد. وعن ابن عباس: أسود كهيئة الزيت. وعنه أيضاً: هو ماء غليظ مثل دردى الزيت. وفسره الراغب كذلك بدردى الزيت.
وعند الطبري: "أن هذه الأقوال وإن اختلفت ألفاظ قائليها فمتقاربات المعنى"
والله أعلم.

غَاسِقٍ

(غَاسِقٍ) :
وسأل نافع عن قوله تعالى: (غَاسِقٍ)
فقال ابن عباس: الغسق الظلمة، وامتئ@هد بقول زهير بن أبي سلمى:
ظلَّت تجوب يداها وهي لاهيةٌ. . . حتى إذا جنح الإِظلامُ والغسقُ والمسألة فى (ظ، وق) عن (إلى غسق الليل) قال فى (ظ) : إذا أظلم،
وفى (وقب) : دخول الليل بظلمته.
والشاهد بيت زهير، ظلت وفى (ظ) بيت النابغة:
وكأنَّ ما قالوا وما وعدوا. . . إلٌّ تضمنَه من دامس غسقُ
= الكلمة من آية الفلق 3:
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) .
وحيدة الصيغة، ومعها من مادتها: غسق، فى آية الإسراء 78: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) .
وغساق فى آيتى: (ص) 57: (هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَــبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) .
والنبأ 25: (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) .
وهذه الكلمات الأربع هى كل ما فى القران من المادة.
قال ابن السكيت فى باب صفة الليل: وغسَق الليل دخول أوله حين اختلط: غسق يغسق غَسْقا، وغَسَقا، وأتيته فى غسق الليل، أي فى اختلاطه ودخوله. (تهذيب الألفاظ) .
والغسق أول ظلمة الليل، وقد غسق يغسق أي أظلم، والغاسق الليل إذا غاب فى الشفق (ص) وهو دخول الليل حين يختلط الظلام: وقد غسق الليل غسْقا وغسوقا، وبنو
تميم على، أغسق، نحو: دَجَى وأدجى. وغسق القمر أظلم بالخسوف (س) وعن الزجاج: قيل لليل غاسق لأنه أبرد من النهار، والغاسق البارد، ولأن فى الليل تخرج السباع من آجامها والهوام من أماكنها، وينبعث أهل الشر والفساد. حكاه القرطبى.
وفي الأضداد لابن الأنبارى: والغساق البارد يُحرق كما يحرق الحار، ويقال: البارد المنتن بلسان أهل الترك، ويقال: ما يغسق من صديد أهل النار، أى
ما يسيل.
وفي معى آية الفلق، قال الأخفش: تقول: غسق الليل يغسق غسوقا، وهى
الظلمة. ووَقت يَقب وقوبا وهو الدخول فى الشيء (معاني القرآن 2 / 549)
قال الفراء: والغاسق الليل، إذا وقب " إذا دخل فى كل شىء وأظلم. ويقال: غسَقَ وأغسق (معاني القرآن. 3 / 301) .
فى تفسير البخارى: وغاسق، الليل، إذا وقب: غروب الشمس (ك التفسير، الفلق) قال ابن حجر: وصله الطبرى من طريق مجاهد بلفظ: غاسق إذا وقب، الليل إذا دخل. . وجاء فى حديث مرفوع: الغاسق القمر. أخرجه الترمذى والحاكم من طريق أبى سلمة، عبد الرحمن بن عوف الزهزى، عن عائشة، رضى الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نظر إلى القمر فقال: "ياعاثشة، استعيذى بالله من شر هذا " قال: هذا الغاسق إذا وقب! إسناده حسن (فتح البارى. 8 / 524) .
وفى تأويل الطبرى للآية: ومن شر مظلم إذا دخل علينا بظلامه.
واختلف أهل التأويل فى المظلم المستعاذ منه.
وأسند عن مجاهد أنه القمر، وروى فيه حديث عاثشة رضى الله عنها. وعن ابن عباس وآخرين أنه الليل. واختاره الطبرى.
وعند الراغب: الغاسق الليل المظلم (مِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) وذلك عبارة
عن النائبة. وابن الأثير الغاسق فى حديثه - عائشة رضى الله عنها: بأنه من: غسق غسوقا فهو غاسق، إذ! أظلم. وأغسق مثله. وإنما سماه غاسقا لأنه إذا
خُسف أو أخذ فى المغيب، أظلم (النهاية) .
قد نستخلص من هذا العرض لأقوال أهل اللغة وأهل التأويل أن الغسق ظلمة
الليل إذا غاب فى الشفق، والغاسق الطارق فيه من شر يخاف ويستعاذ منه. وعلى تفسيره بالقمر، فإنه مقيدٌ فى الآية وفى الحديث ب: (إذا وقب) ، أي دخل فى الخسوف وأظلم. وأما الغساق فبدلالة إسلامية على ما يسيل من صديد أهل النار، منقولا إليها من الغساق، ما يسيل من صديد الجرح المنتن. والله أعلم.

بءس

بءس


بَؤُسَ(n. ac. بَأْس)
a. Was mighty, valiant, courageous, brave.

أَبْءَسَa. Overwhelmed with misfortunes.

إِبْتَأَسَ
a. [Bi], Was grieved, distressed at, by.
بَأْسa. Might, valour, prowess, courage, daring.
b. Harm, injury, hurt; torture.

لَا بَأْس
a. No matter! Never mind! No harm!

بِئْس
a. Misfortune; punishment.

بُؤْس
a. Distress; evil.

بَئِيْس
a. Mighty, valiant, brave.

بَاسَابُوْرط
a. Passport.

بَاسِيْليْق
a. Artery in the arm.

بَاش
T.
a. Chief, head.

بَاشَا
P. (pl.
بَاشَاوَات)
a. Pasha, vizier.

بَاشَِق
P. (pl.
بَوَاْئِسُ)
a. Hawk, sparrowhawk, merlin.

بَرَاعِيمُ

بَرَاعِيمُ:
جمع برعوم، وهو الزهر قبل أن ينفتح، وكذلك البرعم، قال أبو بكر: براعيم الجبال شماريخها، قيل: هو جبل في شعر ابن مقبل، وقيل: هو أعلام صغار قريبة من أبان الأسود في شعر ذي الرّمّة حيث قال:
بئس المناخ رفيع عند أخبية، ... مثل الكلى عند أطراف البراعيم

رَاذانُ

رَاذانُ:
بعد الألف ذال معجمة، وآخره نون، راذان الأسفل وراذان الأعلى: كورتان بسواد بغداد تشتمل على قرى كثيرة، وقد نسب إليها قوم من المتأخرين، وقال عبيد الله بن الحرّ:
أقول لأصحابي بأكناف جازر ... وراذانها: هل تأملون رجوعا؟
وقال مرّة بن عبد الله النهدي في راذان المدينة فيما أحسب:
أيا بيت ليلى إنّ ليلى مريضة ... براذان لا خال لديها ولا عمم
ويا بيت ليلى لو شهدتك أعولت ... عليك رجال من فصيح ومن عجم
ويا بيت ليلى لا بئســت ولا تزل ... بلادك يسقيها من الواكف الديم [1] في هذا البيت إقواء.
وراذان أيضا: قرية بنواحي المدينة جاءت في حديث عبد الله بن مسعود، وينسب إلى راذان العراق جماعة، منهم: أبو عبد الله بن محمد بن الحسن الراذاني الزاهد، مات سنة 480، وإلى راذان المدينة ينسب:
أبو سعيد الوليد بن كثير بن سنان المدني الراذاني، سكن الكوفة وهو مدنيّ الأصل، روى عن ربيعة ابن أبي عبد الرحمن، روى عنه زكرياء بن عدي.

شروا

ش ر ى [شروا]
قال: يا ابن عباس: أخبرني عن قول الله عزّ وجلّ: وَلَــبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ .
قال: حيث باعوا نصيبهم من الآخرة بطمع يسير من الدنيا.
قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت الشاعر وهو يقول:
يعطي بها ثمنا فيمنعها ... ويقول صاحبها ألا تشري 

سَلْمَانُ

سَلْمَانُ:
فعلان من السلم والسلامة، وهو ههنا عربيّ محض، قيل: هو جبل، وقال أبو عبيد السكوني:
السلمان منزل بين عين صيد وواقصة والعقبة، وبين عين صيد والسلمان ليلتان وواقصة دون ذلك، وبين العقبة والسلمان ليلتان، قال: والسلمان ماء قديم جاهليّ وبه قبر نوفل بن عبد مناف، وهو طريق إلى تهامة من العراق في الجاهلية، قال أبو المنذر: إنّما سمي طريق سلمان باسم سلمان الحميري وقد بعثه ملك في جيش كثير يريد شمر يرعش بن ناشر ينعم ابن تبّع بن ينكف الذي سمي به سمرقند لأنّه كسر حائطها، وفي كتاب الجمهرة: ولد عمم بن نمارة ابن لخم بن عدي بن الحارث بن مرّة بن أدد مالكا وسلمان الذي سمي به حجارة سلمان وكان نازلا هناك، وهو فوق الكوفة، وكان من مياه بكر بن وائل، ولعلّه اليوم لبني أسد وربّما نزلته بنو ضبّة وبنو نمير في النّجع. ويوم سلمان: من أيّام العرب المشهورة لبكر بن وائل على بني تميم أسر فيه عمران بن مرّة الشيباني الأقرع بن حابس ورئيسا آخر من تميم، فلذلك قال جرير:
بئس الحماة لتيم يوم سلمان، ... يوم تشدّ عليكم كفّ عمران
وقال نصر: سلمان بحزن بني يربوع موضع آخر.

شِلْجُ

شِلْجُ:
بكسر أوله، وسكون ثانيه: قرية قرب عكبراء، قرأت في كتاب أخبار القاضي أبي بكر محمد بن عبد الرحمن بن قريعة الذي ألفه أبو الفرج محمد بن محمد بن سهل الشلجي من هذه القرية قال:
قال لي القاضي يوما يا أبا الفرج الشّلجيّ بودّي أنك من الصلح المشتق اسمها من الصلاح فإن الشلج على ما عرفناه مشتق من أسماء رهبان يلحدون وأعراب يفسدون، قال: وكان عزّ الدولة قد خرج والقاضي معه إلى سرّ من رأى للتصيّد، واتفق أن نزل بقرب الشلج، وهي على شاطئ دجلة، وكان فيها مما يتصل بكروم قرداباذ حانات كثيرة، فلما ورد لقيني وجرى حديث فقال: كنت أمشي مع أبي علي الضّحاك في الدار المعزّيّة، وبختيار ينزلها، بابن أبي جعفر الشلجي فقلت: حفظكما الله قد رأيت قريتك بئس الموطن لقاطنيه والمنزل لوارديه، ولقد رأيت بها دورا ظننتها لسعة الذرع أقرحة الزرع فقدرتها دور قوم جلّة من أهل الملة، فسألت عنها فقيل إنها موطن قوم من أهل الذمّة صنّاع الخبث جعلوها خزائن للمسكر، فصرفت وجهي كالمنكر، قاتلها الله من قرية! لقد كان الأمير عزّ الدولة جالسا في دار تخيّلتها عرصة من عراص السور وقد نفخ في الصور فقامت ظروف الخبث بدل الأموات من القبور، ولقد أصاب أبو جعفر شيخك تولاه الله في الانتقال عنها وإبعادك منها، ولقد ذكرها المعتمد على الله في شعر له فقال:
يا طول ليلي بغية الصبح ... أتبعت حسراتي بالربج
لهفي على دهر لنا قد مضى ... بالعلث والقاطول والشلج
فالدير بالعلث فرهبانه ... من الشعانين إلى الدبج
هكذا أكثر شعر المعتمد فلا نعتني في إصلاحه، وقد نسب إلى الشلج غير أبي الفرج ابنه أبو القاسم آدم ابن محمد بن الهيثم بن نوبة الشلجي العكبري المعدل، سمع أحمد بن سليمان النجاد وابن قانع وغيرهما، روى عنه أبو طاهر أحمد بن محمد بن الحسين الخفّاف وغيره، توفي بعكبراء سنة 401.

فَناً

فَناً:
بفتح أوله والقصر، وهو عنب الثعلب، ويقال نبت آخر، قال زهير:
كأن فتات العهن في كل منزل ... نزلن به حبّ الفنا لم يحطّم
وفنا: جبل قرب سميراء، قال الأصمعي: ثم فوق الثلبوت من أرض نجد ماءة يقال لها الفناة لبني جذيمة ابن مالك بن نصر بن قعين وهو إلى جنب جبل يقال
له فنا، وبه قال محصن بن رباب الجرمي:
يهيج عليّ الشوق أن تحزأ الضحى ... فنا أو أرى من بعض أقطاره قطرا
فليت جبال الهضب كانت وراءه ... رواسي حتى يؤنس الناظر الغمرا
يقول: ألا تهدي لأم محمد ... قصائد عورا؟ ما أتيت إذا عذرا
لــبئس إذا ما سرت إذ بلغ المدى، ... وما صنت عرضي إذ هجوت به نصرا
ولكنني أرمي العدى من ورائهم ... بصمّ تؤمّ الرأس أو تكسر الوترا

فَيْفٌ

فَيْفٌ:
غير مضاف: من منازل مزينة، قال معن ابن أوس المزني:
أعاذل! من يحتلّ فيفا وفيحة ... وثورا ومن يحمي الأكاحل بعدنا؟
فَيْفُ الرِّيح:
بفتح أوله، وقد ذكرنا ما الفيف في الذي قبله، وفيف الريح: معروف بأعالي نجد، عن أبي هفّان، قال:
أخبر المخبر عنكم أنكم ... يوم فيف الريح أبتم بالفلج
وهو يوم من أيامهم فقئت فيه عين عامر بن الطّفيل، فقأها مسهر الحارثي بالرمح، وفيه يقول عامر:
لعمري، وما عمري عليّ بهيّن، ... لقد شان حرّ الوجه طعنة مسهر
فــبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا ... جبانا فما عذري لدى كلّ محضر؟
وقد علموا أنّي أكرّ عليهم ... عشيّة فيف الريح كرّ المدوّر
فلو كان جمع مثلنا لم نبالهم، ولكن أتتنا أسرة ذات مفخر فجاؤوا بشهران العريضة كلها وأكلب طرّا في لباس السّنوّر

قَرْنٌ

قَرْنٌ:
بالفتح ثم السكون، وآخره نون، ومعناه يأتي في اللغة على معان: القرن الجبل الصغير، والقرن قرن الشاة والبقر وغيرهما، والقرن من الناس، قال الله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا من قَبْلِهِمْ من قَرْنٍ 6: 6، قال الزّجاجي: القرن ثمانون سنة، وقيل سبعون، وقال أبو منصور: والذي يقع عندي، والله أعلم، أن القرن أهل كلّ مدة كان فيها نبي أو كان فيها طبقة من أهل العلم قلّت السنون أو كثرت، والدليل على ذلك قوله، عليه الصلاة والسلام: خير القرون قرني، يعني أصحابي، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، يعني التابعين وتابعي التابعين، وكأنه مشتقّ من الاقتران، والقرن: السّنّ، يقال: هو على قرنه، والقرن كالعفلة للمرأة، والقرن: الدّفعة من العرق، والقرن: الخصلة من الشّعر، والقرن: جمعك بين دابّتين في حبل، والقرن: أحد قرني البئر وهو ما بني فعرض ليجعل عليه خشبة توضع عليها البكرة، وقال ابن الحائك: قرن باليمن سبعة أودية كبار، منها: الماذنة والغولة والجحلة ومهار وذو دوم وذو خيشان وذو عسب كلها أخلاط من مراد، والقرن:
الحجر الأملس النقيّ الذي لا أثر عليه، والقرن: المرة، يقال: أتيته قرنا أو قرنين أي مرّة أو مرّتين، والقرن، قال الأصمعي: جبل مطلّ بعرفات، وقال الغوري: هو ميقات أهل اليمن والطائف يقال له قرن المنازل، قال عمر بن أبي ربيعة:
ألم تسأل الرّبع أن ينطقا ... بقرن المنازل قد أخلقا؟
وقال القاضي عياض: قرن المنازل وهو قرن الثعالب، بسكون الراء: ميقات أهل نجد تلقاء مكة على يوم وليلة، وهو قرن أيضا غير مضاف وأصله الجبل الصغير المستطيل المنقطع عن الجبل الكبير، ورواه بعضهم بفتح الراء، وهو غلط إنما قرن قبيلة من اليمن، وفي تعليق عن القابسي: من قال قرن، بالإسكان، أراد الجبل المشرف على الموضع، ومن قال قرن، بالفتح، أراد الطريق الذي يفترق منه فإنه موضع فيه طرق مختلفة مفترقة، وقال الحسن بن محمد المهلبي قرن قرية بينها وبين مكة أحد وخمسون ميلا وهي ميقات أهل اليمن، بينها وبين الطائف ذات اليمين ستة وثلاثون ميلا. وقرن البوباة: واد يجيء من السّراة لسعد ابن بكر ولبعض قريش وبه منبر، وفيه يقول الشاعر:
لا تقمرنّ على قرن وليلته، ... لا إن رضيت ولا إن كنت مغتصبا
وقرن معيّة: من مخاليف الطائف ذكره في الفتوح، وقيل: قرن واد بين البوباة والمناقب وهو جبل.
وقرن ظبي: ماء فوق السعدية، وقيل: جبل لبني أسد بنجد، قال ابن مقبل:
أقول وقد سندن بقرن ظبي: ... بأيّ مراء منحدر تماري؟
فلست كما يقول القوم إن لم ... تجامع دارهم بدمشق داري
وقرن غزال: ثنية معروفة، قال الشاعر:
لــبئس مناخ الضيف يلتمس القرى ... إذا نزلوا بالقرن بدر وضمضم
وهل يكرم الأضياف إن نزلوا به، ... إذا نزلوا، أشغى لئيم وأجذم
وقرن الذّهاب: موضع آخر في قول أبي دواد الكلبي:
لمن طلل كعنوان الكتاب ... ببطن أواق أو قرن الذّهاب؟
وقرن: جبل بإفريقية له ذكر في الفتوح، وقرن عشار: حصن باليمن، وقرن بقل: حصن باليمن أيضا، وقال أبو عبيد الله السكوني: قرن قرية بين فلج وبين مهب الجنوب من أرض اليمامة فيها نخل وأطواء وليس وراءها من قرى اليمامة ولا مياهها شيء وهي لبني قشير وليست من العارض، وإياها عنى ابن مقبل بقوله:
وافى الخيال، وما وافاك من أثم، ... من أهل قرن وأهل الضّيق من حرم
من أهل قرن فما اخضلّ العشاء له ... حتى تنوّر بالزّوراء من خيم
ومقصّ قرن مطلّ على عرفات، عن الأصمعي وأنشد:
وأصبح عهدها بمقصّ قرن ... فلا عين تحسّ ولا أثار
وقرن باعر: باليمن حصن، والقرن أيضا: قرية من نواحي بغداد بين قطربّل والمزرفة، ينسب إليها خالد بن يزيد القرني، ويقال ابن أبي يزيد، يروي عن شعبة وحمّاد بن يزيد، يروي عنه محمد بن إسحاق الصاغاني وعباس الدوري وغيرهما، ولم يكن به بأس.

قُشَاوَةُ

قُشَاوَةُ:
بالضم، وبعد الألف واو، يقال: قشوت القضيب أي خرطته وأقشوه أنا قشوا، والمقشوّ منه قشاوة، وقشاوة ضفيرة، والضفيرة المسنّاة المستطيلة في الأرض: كانت بها وقعة لبني شيبان على سليط بن يربوع، قال الأصمعي: ولبني أبي بكر في أعالي نجد القشاوة، قال أبو أحمد: قشاوة، القاف مضمومة والشين معجمة، أسر فيه من فرسان بني تميم أبو مليل عبد الله بن الحارث أسره بسطام بن قيس وقتل ابناه بجير وحريب الأجيمر وقتل فيه جماعة من فرسان بني تميم، وفيه قيل:
أسرنا مالكا وأبا مليل، ... وخرّقنا الأجيمر بالعوالي
وقال جرير:
بئس الفوارس يوم نعف قشاوة ... والخيل عادية على بسطام
ويروى قنع قشاوة، قال زيد الخيل:
نحن الفوارس يوم نعف قشاوة ... إذ ثار نقع كالعجاجة أغبر
يوحون مالكهم ونوحي مالكا، ... كلّ يحضّ على القتال ويذمر
صدر النهار يدرّ كلّ وتيرة ... بأسنّة منها سمام تقطر
فتواهقوا رسلا كأن شريدهم، ... جنح الظلام، نعام سيف نفّر
ونحا على شيبان ثم فوارس ... لا ينكلون إذا الكماة تنزّر

قَنَوْنَى

قَنَوْنَى:
بالفتح ونونين، بوزن فعوعل من القنا أو فعولى من القنّ، كما ذكرنا في قرورى: من أودية السراة يصبّ إلى البحر في أوائل أرض اليمن من جهة مكة قرب حلي وبالقرب منها قرية يقال لها يبت، ولذلك قال كثير يرثي خندقا:
بوجه أخي بني أسد قنونى ... إلى يبت إلى برك الغماد
كان خندق الأسدي صديقا لكثير وكان ينال من السلف يسبّ أبا بكر وعمر، رضي الله عنهما، فقال يوما: لو أني أصبت رجلا يضمن لي عيالي بعدي لقمت في هذا الموسم وتكلمت أبا بكر وعمر، فقال كثيّر: فلله عليّ عيالك من بعدك، قال:
فقام خندق وسبهما، فمال الناس عليه فضربوه حتى أفضوه إلى الموت فحمل إلى منزله بالبادية فدفن بموضع يقال له قنونى، فقال كثير يرثيه في قصيدة:
حلفت، على أن قد أجنّتك حفرة ... ببطن قنونى، لو نعيش فنلتقي
لألفيتني للودّ بعدك راعيا ... على عهدنا إذ نحن لم نتفرّق
وإني لجاز بالذي كان بيننا ... بني أسد رهط ابن مرّة خندق
وخصم أبا بدر ألدّ أبتّه ... على مثل طعم الحنظل المتفلّق
وقال عبد الله بن ثور البكّائي:
ولما رأيت الحيّ عمرو بن عامر ... عيونهم بابني أمامة تذرف
أنخنا فأصلحنا عليها أداتنا، ... وقلنا: ألا اجزوا مدلجا ما تسلّفوا
فبتنا نهزّ السمهريّ إليهم، ... وبئس الصبوح السمهريّ المثقّف!
علونا قنونى بالخميس كما أتى ... سها فبدا من آخر الليل أعرف

كِنْهَلُ

كِنْهَلُ:
بالكسر ثم السكون، والهاء تفتح وتكسر، وآخره لام: علم مرتجل لاسم ماء لبني تميم، ويوم كنهل قتل فيه عتيبة بن الحارث بن شهاب اليربوعي الهرماس وعمر بن كبشة الغسّانيّين والى بينهما، وقال جرير:
طوى البين أسباب الوصال وحاولت ... بكنهل أسباب الهوى أن تجذّما
كأنّ جبال الحيّ سربلن يانعا ... من الوارد البطحاء من نخل ملهما
وقال غيره:
إن لها بكنهل الكناهل ... حوضا يردّ ركّب النواهل
وقال الفرزدق في أيام كنهل وكان في أيام زياد ابن أبيه في الإسلام:
سرى من أصول النخل حتى إذا انتهى ... بكنهل أدّى رمحه شرّ مغنم
لعمري، وما عمري عليّ بهيّن، ... لــبئس الذي أجرى إليه ابن ضمضم!

ماوَشَان

ماوَشَان:
بفتح الواو، والشين معجمة، وآخره نون:
ناحية وقرى في واد في سفح جبل أروند من همذان، وهو موضع نزه فرح ذكره القاضي عين القضاة في رسالته فقال: وكأني بالركب العراقي يوافون همذان، ويحطون رحالهم في محاني ماوشان، وقد اخضرّت منها التلاع والوهاد، وألبسها الربيع حبرة تحسدها عليها البلاد، وهي تفوح كالمسك أزهارها، وتجري بالماء الزّلال أنهارها، فنزلوا منها في رياض مونقة، واستظلوا بظلال أشجار مورقة، فجعلوا يكررون إنشاد هذا البيت وهم يتنغمون بنوح الحمام وتغريد الهزار:
حيّاك يا همذان الغيث من بلد، ... سقاك يا ماوشان القطر من وادي
وقد وصفه القاضي أبو الحسن علي بن الحسن بن عليّ الميانجي في قطعة ذكرها في درب الزعفران، وقال أبو المظفر الأبيوردي:
سقى همذان حيا مزنة ... يفيد الطّلاقة منها الزمان
برعد كما جرجر الأرحبيّ، ... وبرق كما بصبص الأفعوان
فسفح المقطّم بئس البديل ... نبيها وأروند نعم المكان
هي الجنّة المشتهى طيبها، ... ولكنّ فردوسها ماوشان
فألواح أمواهها كالعبير، ... ترى أرضها وحصاها الجمان

مَسْكِنُ

مَسْكِنُ:
بالفتح ثم السكون، وكسر الكاف، ونون، قال أبو منصور: يقال للموضع الذي يسكنه الإنسان مسكن ومسكن، فهذا الموضع منقول من اللغة الثانية وهو شاذ في القياس لأنه من سكن يسكن فالقياس مسكن، بفتح الكاف، وإنما جاء هذا شاذّا في أحرف، منها: المسجد والمنسك والمنبت والمجزر والمطلع والمشرق والمغرب والمسقط والمفرق والمرفق لا يعرف النحويون غير هذه لأن كل ما كان على فعل يفعل أو فعل يفعل فاسم المكان منه مفعل بفتح العين قياسا مطّردا: وهو موضع قريب من أوانا على نهر دجيل عند دير الجاثليق به كانت الوقعة بين عبد الملك بن مروان ومصعب بن الزبير في سنة 72 فقتل مصعب وقبره هناك معروف، وقال عبيد الله بن قيس الرّقيّات يرثيه:
إنّ الرّزيّة يوم مس ... كن والمصيبة والفجيعة
يا ابن الحواريّ الذي ... لم يعده يوم الوقيعة
غدرت به مضر العرا ... ق فأمكنت منه ربيعه
وأصبت وترك يا ربي ... ع وكنت سامعة مطيعة
يا لهف لو كانت لها ... بالدير يوم الدير شيعه!
أولم يخونوا عهده ... أهل العراق بنو اللكيعه
لوجدتموه حين يغ ... دو لا يعرّس بالمضيعه
قتله عبيد الله بن زياد بن ظبيان وقتل معه إبراهيم بن مالك الأشتر النخعي وقدّم مصعب أمامه ابنه عيسى فقتل بعد أن قال له وقد رأى الغدر من أصحابه:
يا بنيّ انج بنفسك فلعن الله أهل العراق أهل الشقاق والنفاق! فقال: لا خير في الحياة بعدك يا أباه! ثم قاتل حتى قتل، وكان مصعب قد قتل نائي بن زياد بن ظبيان أخا عبيد الله بن زياد بن ظبيان بن الجعد بن قيس ابن عمرو بن مالك بن عائش بن مالك بن تيم الله بن ثعلبة بن عكابة فنذر عبيد الله ليقتلنّ به مائة من قريش فقتل ثمانين ثم قتل مصعبا وجاء برأسه حتى وضعه بين يدي عبد الملك بن مروان فلما نظر إليه عبد الملك سجد فهمّ عبيد الله أن يفتك به أيضا فارتدّ عنه وقال:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... فعلت وولّيت البكاء حلائله
هكذا أكثر ما يروى، والصحيح أن عبيد الله لم يقتله وإنما وجده قد ارتثّ بكثرة الجراحات فاحتزّ رأسه، وقد قال عبيد الله:
يرى مصعب أني تناسيت نائيا، ... وبئس، لعمر الله، ما ظنّ مصعب!
وو الله لا أنساه ما ذرّ شارق، ... وما لاح في داج من الليل كوكب
وثبت عليه ظالما فقتلته، ... فقهرك مني شرّ يوم عصبصب
قتلت به من حيّ فهر بن مالك ... ثمانين منهم ناشئون وأشيب
وكفّي لهم رهن بعشرين أو يرى ... عليّ من الإصباح نوح مسلّب
أأرفع رأسي وسط بكر بن وائل ... ولم أر سيفي من دم يتصبّب؟
ثم ضاقت به البصرة فهرب إلى عمان فاستجار بسليمان ابن سعيد بن الصقر بن الجلندى، فلما أخبر بفتكه خشيه وتذمّم أن يقتله علانية فبعث إليه بنصف بطيخة قد سمّها وكان يعجبه البطيخ وقال: هذا أول شيء رأيناه من البطيخ وقد أكلت نصفها وأهديت لك نصفها، فلما أكلها أحس بالموت فدخل عليه سليمان يعوده فقال له: أيها الأمير ادن مني أسرّ إليك قولا، فقال له: قل ما بدا لك فما بعمان عليك من أذن واعية، ولم يستجر أن يدنو منه فمات بها، وقال عبيد الله بن الحرّ يخاطب المختار:
لقد زعم الكذّاب أني وصحبتي ... بمسكن قد أعيت عليّ مذاهبي
فكيف وتحتي أعوجيّ وصحبتي ... على كل صهميم الثميلة شارب
إذا ما خشينا بلدة قرّبت بنا ... طوال متون مشرفات الحواجب
وقد ذكر الحازمي أن مسكن أيضا بدجيل الأهواز حيث كانت وقعة الحجاج بابن الأشعث، وهو غلط منه.

تخير اللفظ

تخير اللفظ
يتأنق أسلوب القرآن في اختيار ألفاظه، ولما بين الألفاظ من فروق دقيقة في دلالتها، يستخدم كلا حيث يؤدى معناه في دقة فائقة، تكاد بها تؤمن بأن هذا المكان كأنما خلقت له تلك الكلمة بعينها، وأن كلمة أخرى لا تستطيع توفية المعنى الذى وفت به أختها، فكل لفظة وضعت لتؤدى نصيبها من المعنى أقوى أداء، ولذلك لا تجد في القرآن ترادفا، بل فيه كل كلمة تحمل إليك معنى جديدا.
ولما بين الكلمات من فروق، ولما يبعثه بعضها في النفس من إيحاءات خاصة، دعا القرآن ألا يستخدم لفظ مكان آخر، فقال: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ (الحجرات 14). فهو لا يرى التهاون في استعمال اللفظ ولكنه يرى التدقيق فيه ليدل على الحقيقة من غير لبس ولا تمويه، ولما كانت كلمة راعِنا لها معنى في العبرية مذموم، نهى المؤمنين عن مخاطبة الرسول بها فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا (البقرة 104).
فالقرآن شديد الدقة فيما يختار من لفظ، يؤدى به المعنى.
استمع إليه في قوله: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (البقرة 49). ما تجده قد اختار الفعل ذبح، مصورا به ما حدث، وضعّف عينه للدلالة على كثرة ما حدث من القتل فى أبناء إسرائيل يومئذ، ولا تجد ذلك مستفادا إذا وضعنا مكانها كلمة يقتلون.
وتنكير كلمة حياة، فى قوله تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ (البقرة 96).
يعبر تعبيرا دقيقا عن حرص هؤلاء الناس على مطلق حياة يعيشونها، مهما كانت حقيرة القدر، ضئيلة القيمة، وعند ما أضيفت هذه الكلمة إلى ياء المتكلم في قوله تعالى: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (الفجر 23، 24). عبرت بأدق تعبير عن شعور الإنسان يومئذ، وقد أدرك في جلاء ووضوح أن تلك الحياة الدنيا لم تكن إلا وهما باطلا، وسرابا خادعا، أما الحياة الحقة الباقية، فهى تلك التى بعد البعث؛ لأنها دائمة لا انقطاع لها، فلا جرم أن سماها حياته، وندم على أنه لم يقدم عملا صالحا، ينفعه في تلك الحياة.
واستمع إلى قوله تعالى: إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (الإنسان 10، 11). تجد كلمة العبوس قد استعملت أدق استعمال؛ لبيان نظرة الكافرين إلى ذلك اليوم، فإنهم يجدونه عابسا مكفهرّا، وما أشد اسوداد اليوم، يفقد فيه المرء الأمل والرجاء، وكلمة قَمْطَرِيراً بثقل طائها مشعرة بثقل هذا اليوم، وفي كلمتى النضرة والسرور تعبير دقيق عن المظهر الحسى لهؤلاء المؤمنين، وما يبدو على وجوههم من الإشراق، وعما يملأ قلوبهم من البهجة.
ومن دقة التمييز بين معانى الكلمات، ما تجده من التفرقة في الاستعمال بين:
يعلمون، ويشعرون، ففي الأمور التى يرجع إلى العقل وحده أمر الفصل فيها، تجد كلمة يَعْلَمُونَ صاحبة الحق في التعبير عنها، أما الأمور التى يكون للحواس مدخل في شأنها، فكلمة يَشْعُرُونَ أولى بها، وتأمل لذلك قوله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (البقرة 13). فالسفاهة أمر مرجعه إلى العقل، وقوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ (البقرة 26). وقوله تعالى: أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (البقرة 77). وقوله تعالى: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ (الأنعام 114). وقوله تعالى: أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (يونس 55). وقوله تعالى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (الأنبياء 24). وقوله تعالى: وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (النور 25). إلى غير ذلك مما يطول بى أمر تعداده، إذا مضيت في إيراد كل ما استخدمت فيه كلمة يعلمون.
وتأمل قوله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (البقرة 154). فمن الممكن أن يرى الأحياء وأن يحس بهم، وقوله تعالى:
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (الزمر 55)، فالعذاب مما يشعر به ويحس، وقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (البقرة 11، 12). وقوله تعالى: قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (النمل 18). وقوله تعالى: وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (القصص 11). وغير ذلك كثير.
واستخدم القرآن كلمة التراب، ولكنه حين أراد هذا التراب الدقيق الذى لا يقوى على عصف الريح استخدم الكلمة الدقيقة وهى الرماد، فقال: الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ (إبراهيم 18). كما أنه آثر عليها كلمة الثرى، عند ما قال: تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (طه 4 - 6). لأنه يريد- على ما يبدو من سياق الآيات الكريمة- الأرض المكونة من التراب، وهى من معانى الثرى، فضلا عما في اختيار الكلمة من المحافظة على الموسيقى اللفظية في فواصل الآيات.
وعبر القرآن عن القوة العاقلة في الإنسان بألفاظ، منها الفؤاد واللب والقلب، واستخدم كلا في مكانه المقسوم له، فالفؤاد في الاستخدام القرآنى يراد به تلك الآلة التى منحها الله الإنسان، ليفكر بها، ولذا كانت مما سوف يسأل المرء عن مدى انتفاعه بها يوم القيامة، كالسمع، والبصر، قال تعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا (الإسراء 36). وتجد هذا واضحا فيما وردت فيه تلك الكلمة من الآيات، واستمع إلى قوله تعالى: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (الملك 23). وقوله تعالى: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (النجم 11). وقوله تعالى: وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (الأنعام 113). وقوله تعالى: نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةَ (الهمزة 6، 7). وقوله تعالى: مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (إبراهيم 43).
أما اللب ولم يستخدم في القرآن إلا مجموعا، فيراد به التفكير الذى هو من عمل تلك الآلة، تجد هذا المعنى في قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (البقرة 179). وقوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (آل عمران 190). وقوله تعالى: وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (البقرة 269).
أما القلب، وهو أكثر هذه الكلمات دورانا في الاستخدام القرآنى، فهو بمعنى أداة التفكير، فى قوله تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها (الأعراف 179). وقوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها (الحج 46). وقوله تعالى: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً (آل عمران 8). وقوله تعالى: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (الحج 46). وهو أداة الوجدان، كما تشعر بذلك في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ (الأنفال 2). وقوله تعالى: وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ (الأحزاب 10). وقوله تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (النازعات 6 - 8). وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً (الفتح 4). وقوله تعالى: وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً (القيامة 27). وقوله تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (الرعد 28).
وهو أداة الإرادة، كما يبدو ذلك في قوله تعالى: إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (القصص 10). وقوله تعالى: وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (الأنفال 11). وقوله تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ (الأحزاب 5).
فالقرآن يستخدم القلب فيما نطلق عليه اليوم كلمة العقل، وجعله في الجوف حينا في قوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ (الأحزاب 4).
وفي الصدر حينا، فى قوله: وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (الحج 46). تعبير عما يشعر به الإنسان عند ما يلم به وجدان، أو تملؤه همة وإرادة.
ومن الدقة القرآنية في استخدام الألفاظ أنه لا يكاد يذكر المشركين، إلا بأنهم أصحاب النار، ولكنا نجده قال في سورة (ص): وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ . فنراه قد استخدم كلمة أَهْلِ وهى هنا أولى بهذا المكان من كلمة (أصحاب)، لما تدل عليه تلك من الإقامة في النار والسكنى بها. وكلمة (ميراث) فى قوله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (آل عمران 180). واقعة موقعها، وهى أدق من كلمة (ملك) فى هذا الموضع، لما أن المال يرى في أيدى مالكيه من الناس، ولكنه سوف يصبح ميراثا لله.
وقد يحتاج المرء إلى التريث والتدبر، ليدرك السر في إيثار كلمة على أخرى، ولكنه لا يلبث أن يجد سمو التعبير القرآنى، فمن ذلك قوله تعالى: قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (طه 63 - 65). فقد يبدو للنظرة العاجلة أن الوجه أن يقال: إما أن تلقى وإما أن نلقى، وربما توهم أن سر العدول يرجع إلى مراعاة النغم الموسيقى فحسب، حتى تتفق الفواصل في هذا النغم، وذلك ما يبدو بادئ الرأى، أما النظرة الفاحصة فإنها تكشف رغبة القرآن في تصوير نفسية هؤلاء السحرة، وأنهم لم يكونوا يوم تحدوا موسى بسحرهم، خائفين، أو شاكين في نجاحهم، وإنما كان الأمل يملأ قلوبهم، فى نصر مؤزر عاجل، فهم لا ينتظرون ما عسى أن تسفر عنه مقدرة موسى عند ما ألقى عصاه، بل كانوا مؤمنين بالنصر سواء أألقى موسى أولا، أم كانوا هم أول من ألقى.
ومن ذلك قوله تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (البقرة 176).
فقد يتراءى أن وصف الشقاق، وهو الخلاف، بالقوة أولى من وصفه بالبعد، ولكن التأمل يدل على أن المراد هنا وصف خلافهم بأنه خلاف تتباعد فيه وجهات النظر إلى درجة يعسر فيها الالتقاء، ولا يدل على ذلك لفظ غير هذا اللفظ الذى اختاره القرآن. ومن ذلك قوله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (الحج 27). فربما كانت الموسيقى، والفاصلة في الآية السابقة دالية- تجعل من المناسب أن يوصف الفج بالبعد، فيقال: فج بعيد، ولكن إيثار الوصف بالعمق، تصوير لما يشعر به المرء أمام طريق حصر بين جبلين، فصار كأن له طولا، وعرضا، وعمقا.
وإيثار كلمة مَسْكُوبٍ فى قوله تعالى: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ وَماءٍ مَسْكُوبٍ (الواقعة 27 - 31). مكان كلمة (غزيرة)، أدق في بيان غزارته، فهو ماء لا يقتصد في استعماله، كما يقتصد أهل الصحراء، بل هو ماء يستخدمونه استخدام من لا يخشى نفاده، بل ربما أوحت تلك الكلمة بمعنى الإسراف في هذا الاستخدام.
واستخدام كلمة يَظُنُّونَ فى الآية الكريمة: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (البقرة 45، 46).
قوية في دلالتها على مدح هؤلاء الناس، الذين يكفى لبعث الخشوع في نفوسهم، وأداء الصلاة، والاتصاف بالصبر- أن يظنوا لقاء ربهم، فكيف يكون حالهم إذا اعتقدوا؟.
ومن دقة أسلوب القرآن في اختيار ألفاظه ما أشار إليه الجاحظ حين قال :
(وقد يستخف الناس ألفاظا ويستعملونها، وغيرها أحق بذلك منها، ألا ترى أن الله تبارك وتعالى لم يذكر في القرآن الجوع، إلا في موضع العقاب، أو في موضع الفقر المدقع، والعجز الظاهر، والناس لا يذكرون السغب، ويذكرون الجوع في حالة القدرة والسلامة، وكذلك ذكر المطر، لأنك لا تجد القرآن يلفظ به إلا في موضع الانتقام، والعامة وأكثر الخاصة لا يفصلون بين ذكر المطر، وذكر الغيث).
لاختيار القرآن للكلمة الدقيقة المعبرة، يفضل الكلمة المصورة للمعنى أكمل تصوير، ليشعرك به أتم شعور وأقواه، وخذ لذلك مثلا كلمة يُسْكِنِ فى قوله تعالى: إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ (الشورى 33). وكلمة تَسَوَّرُوا فى قوله تعالى: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (القصص 21). وكلمة (يطوقون) فى الآية الكريمة: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ (آل عمران 180). وكلمة يَسْفِكُ فى آية: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ (البقرة 30). وكلمة (انفجر) فى قوله تعالى: وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً (البقرة 60). وكلمة يَخِرُّونَ فى الآية: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً . وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (الإسراء 107، 108). وكلمة مُكِبًّا فى قوله تعالى: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (النمل 22). وكلمة تَفِيضُ فى قوله تعالى: وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ (المائدة 83). وكلمة يُصَبُّ فى قوله تعالى: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (الحج 19). وكلمة (يدس) فى قوله تعالى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (النحل 58، 59). وكلمة قاصِراتُ فى قوله تعالى: وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (الصافات 48). وكلمة مُسْتَسْلِمُونَ. فى قوله تعالى: ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (الصافات 25، 26). ومُتَشاكِسُونَ فى قوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ (الزمر 29). ويطول بى القول، إذ أنا مضيت في عرض هذه الكلمات التى توضع في مكانها المقسوم من الجملة، فتجعل المعنى مصورا تكاد تراه بعينك، وتلمسه بيدك، ولا أريد أن أمضى في تفسير الكلمات التى استشهدت بها؛
لأنها من وضوح الدلالة بمكان.
ولهذا الميل القرآنى إلى ناحية التصوير، نراه يعبر عن المعنى المعقول بألفاظ تدل على محسوسات، مما أفرد له البيانيون علما خاصّا به دعوه علم البيان، وأوثر أن أرجئ الحديث عن ذلك إلى حين، وحسبى الآن أن أبين ما يوحيه هذا النوع من الألفاظ في النفس، ذلك أن تصوير الأمر المعنوى في صورة الشيء المحسوس يزيده تمكنا من النفس، وتأثيرا فيها، ويكفى أن تقرأ قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ (البقرة 7). وقوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ (الجاثية 23). لترى قدرة كلمة خَتَمَ، فى تصوير امتناع دخول الحق قلوب هؤلاء الناس، وقوله تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ (البقرة 257). لترى قيمة كلمتى الظلمات والنور، فى إثارة العاطفة وتصوير الحق والباطل. وقوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (البقرة 18). لترى قيمة هذه الصفات التى تكاد تخرجهم عن دائرة البشر، وقوله سبحانه: يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ (البقرة 27).
فكلمات ينقضون ويقطعون ويوصل، تصور الأمور المعنوية في صور المحس الملموس، وفي القرآن من أمثال ذلك عدد ضخم، سوف نعرض له في حينه.
وفي القرآن كثير من الألفاظ، تشع منها قوى توحي إلى النفس بالمعنى وحيا، فتشعر به شعورا عميقا، وتحس نحو الفكرة إحساسا قويّا. خذ مثلا قوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (التكوير 17، 18). فتأمل ما توحى به كلمة تَنَفَّسَ من تصوير هذه اليقظة الشاملة للكون بعد هدأة الليل، فكأنما كانت الطبيعة هاجعة هادئة، لا تحس فيها حركة ولا حياة، وكأنما الأنفاس قد خفتت حتى لا يكاد يحس بها ولا يشعر، فلما أقبل الصبح صحا الكون، ودبت الحياة في أرجائه.
وخذ قوله تعالى: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (التوبة 117، 118). وقف عند كلمة (ضاق) فى ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ، فإنها توحى إليك بما ألم بهؤلاء الثلاثة من الألم والندم، حتى شعروا بأن نفوسهم قد امتلأت من الندم امتلاء، فأصبحوا لا يجدون في أنفسهم مكانا، يلتمسون فيه الراحة والهدوء، فأصبح القلق يؤرق جفنهم، والحيرة تستبد بهم، وكأنما أصبحوا يريدون الفرار من أنفسهم.
واقرأ قوله تعالى: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً (السجدة 16).
وتبين ما تثيره في نفسك كلمة تَتَجافى، من هذه الرغبة الملحة التى تملك على المتقين نفوسهم، فيتألمون إذا مست جنوبهم مضاجعهم، ولا يجدون فيها الراحة والطمأنينة، وكأنما هذه المضاجع قد فرشت بالشوك فلا تكاد جنوبهم تستقر عليها حتى تجفوها، وتنبو عنها. وقف كذلك عند كلمة يَعْمَهُونَ فى قوله سبحانه: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (البقرة 15). فإن اشتراك هذه الكلمة مع العمى في الحروف كفيل بالإيحاء إلى النفس، بما فيه هؤلاء القوم من حيرة واضطراب نفسى، لا يكادون به يستقرون على حال من القلق.
واقرأ الآية الكريمة: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ (النساء 185). أفلا تجد فى كلمة زُحْزِحَ ما يوحى إليك بهذا القلق، الذى يملأ صدور الناس في ذلك اليوم، لشدة اقترابهم من جهنم، وكأنما هم يبعدون أنفسهم عنها في مشقة وخوف وذعر. وفي كلمة طمس في قوله تعالى: وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (القمر 37). ما يوحى إليك بانمحاء معالم هذه العيون، حتى كأن لم يكن لها من قبل في هذا الوجه وجود. ويوحى إليك الراسخون في قوله سبحانه: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (النساء 7). بهذا الثبات المطمئن، الذى يملأ قلب هؤلاء العلماء، لما ظفروا به من معرفة الحق والإيمان به. وتوحى كلمة شَنَآنُ فى قوله سبحانه: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا (المائدة 2). توحى بهذا الجوى، الذى يملأ الصدر، حتى لا يطيق المرء رؤية من يبغضه، ولا تستسيغ نفسه الاقتراب منه.
ولما سمعنا قوله تعالى لعيسى بن مريم: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا (النساء 55). أوحى إلينا التعبير بالتطهير، بما يشعر به المؤمن بالله نحو قوم مشركين، اضطر إلى أن يعيش بينهم، فكأنهم يمسونه برجسهم، وكأنه يصاب بشيء من هذا الرجس، فيطهر منه إذا أنقذ من بينهم. وكلمة سُكِّرَتْ فى قوله سبحانه: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (الحجر 14، 15). قد عبر بها الكافرون عما يريدون أن يوهموا به، عما حدث لأبصارهم من الزيغ، فكانت كلمة سُكِّرَتْ، وهى مأخوذة من السكر دالة أشد دلالة على هذا الاضطراب في الرؤية، ولا سيما أن هذا السكر قد أصاب العين واستقل بها، ومعلوم أن الخلط من خصائص السكر، فلا يتبين السكران ما أمامه، ولا يميزه على الوجه الحق. واختار القرآن عند عد المحرمات كلمة أُمَّهاتُ، إذ قال: حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ
(النساء 3). وآثر كلمة الْوالِداتُ فى قوله سبحانه: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ (البقرة 233)، لما أن كلمة (الأم) تبعث في النفس إحساسا بالقداسة، وتصور شخصا محاطا بهالة من الإجلال، حتى لتشمئز النفس وتنفر أن يمس بما يشين هذه القداسة، وذلك الإجلال، وتنفر من ذلك أشد النفور، فكانت أنسب كلمة تذكر عند ذكر المحرمات، وكذلك تجد كل كلمة في هذه المحرمات مثيرة معنى يؤيد التحريم، ويدفع إليه، أما كلمة الوالدات فتوحى إلى النفس بأن من الظلم أن ينزع من الوالدة ما ولدته، وأن يصبح فؤادها فارغا، ومن هنا كانت كل كلمة منهما موحية في موضعها، آخذة خير مكان تستطيع أن تحتله.
وقد تكون الكلمة في موضعها مثيرة معنى لا يراد إثارته، فيعدل عنها إلى غيرها، تجد ذلك في قوله سبحانه: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (الجن 3).
فقد آثر كلمة صاحِبَةً على زوج وامرأة، لما تثيره كلاهما من معان، لا تثيرهما فى عنف مثلهما- كلمة صاحبة.
وقد يكون الجمع بين كلمتين هو سر الإيحاء ومصدره، كالجمع بين النَّاسُ وَالْحِجارَةُ فى قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (البقرة 24). فهذا الجمع يوحى إلى النفس بالمشاكلةبينهما والتشابه. وقد تكون العبارة بجملتها هى الموحية كما تجد ذلك في قوله تعالى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ (المؤمنون 19). أو لا تجد هذه الثياب من النار، موحية لك بما يقاسيه هؤلاء القوم من عذاب أليم، فقد خلقت الثياب يتقى بها اللابس الحر والقر، فماذا يكون الحال إذا قدت الثياب من النيران.
لو بغير الماء صدرى شرق ... كنت كالغصان، بالماء اعتصارى
ومن هذا الباب قوله تعالى: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (الزمر 16). فإن الظلة إنما تكون ليتقى بها وهج الشمس، فكيف إذا كان الظلة نفسها من النيران.
هذه أمثلة قليلة لما في القرآن من كلمات شديدة الإيحاء، قوية البعث لما تتضمنه من المعانى. وهناك عدد كبير من ألفاظ، تصور بحروفها، فهذه «الظاء والشين» فى قوله تعالى: يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (الرحمن 35).
و «الشين والهاء» فى قوله تعالى: وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَــبِئْسَ الْمَصِيرُ إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (الملك 7). و «الظاء» فى قوله تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (الليل 14). و «الفاء» فى قوله سبحانه: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (الفرقان 11، 12). حروف تنقل إليك صوت النار مغتاظة غاضبة. وحرف «الصاد» فى قوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (القمر 19). يحمل إلى سمعك صوت الريح العاصفة، كما تحمل «الخاء» فى قوله سبحانه: وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (فاطر 12). إلى أذنك صوت الفلك، تشق عباب الماء.
وألفاظ القرآن مما يجرى على اللسان في سهولة ويسر، ويعذب وقعه على الأذن، في اتساق وانسجام.
قال البارزى في أول كتابه: (أنوار التحصيل في أسرار التنزيل): اعلم أن المعنى الواحد قد يخبر عنه بألفاظ بعضها أحسن من بعض، وكذلك كل واحد من جزءي الجملة قد يعبر عنه بأفصح ما يلائم الجزء الآخر، ولا بدّ من استحضار معانى الجمل، واستحضار جميع ما يلائمها من الألفاظ، ثم استعمال أنسبها وأفصحها، واستحضار هذا متعذر على البشر، فى أكثر الأحوال، وذلك عتيد حاصل في علم الله، فلذلك كان القرآن أحسن الحديث وأفصحه، وإن كان مشتملا على الفصيح والأفصح، والمليح والأملح، ولذلك أمثلة منها قوله تعالى: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (الرحمن 54). لو قال مكانه: «وثمر الجنتين قريب». لم يقم مقامه من جهة الجناس بين الجنى والجنتين، ومن جهة أن الثمر لا يشعر بمصيره إلى حال يجنى فيها، ومن جهة مؤاخاة الفواصل. ومنها قوله تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ (العنكبوت 48). أحسن من التعبير بتقرأ لثقله بالهمزة. ومنها: لا رَيْبَ فِيهِ (البقرة 2). أحسن من (لا شك فيه) لثقل الإدغام، ولهذا كثر ذكر الريب. ومنها:
وَلا تَهِنُوا (آل عمران 139). أحسن من (ولا تضعفوا) لخفته. ووَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي (مريم 4). أحسن من (ضعف)؛ لأن الفتحة أخف من الضمة، ومنها «آمن» أخف من «صدق»، ولذا كان ذكره أكثر من ذكر التصديق. وآثَرَكَ اللَّهُ (يوسف 91). أخف من (فضّك) و (آتى) أخف من (أعطى) و (أنذر) أخف من (خوّف) و (خير لكم) أخف من (أفضل لكم) والمصدر في نحو: هذا خَلْقُ اللَّهِ (لقمان 11). (يؤمنون بالغيب) أخف من (مخلوق) و (الغائب) و (نكح) أخف من (تزوج)؛ لأن فعل أخف من تفعّل، ولهذا كان ذكر النكاح فيه أكثر، ولأجل التخفيف والاختصار استعمل لفظ الرحمة، والغضب، والرضا، والحب، والمقت، فى أوصاف الله تعالى مع أنه لا يوصف بها حقيقة؛ لأنه لو عبر عن ذلك بألفاظ الحقيقة لطال الكلام، كأن يقال: يعامله معاملة المحب، والماقت، فالمجاز في مثل هذا أفضل من الحقيقة، لخفته، واختصاره، وابتنائه على التشبيه البليغ، فإن قوله: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ (الزخرف 55). أحسن من (فلما عاملونا معاملة المغضب) أو (فلما أتوا إلينا بما يأتيه المغضب) أهـ .
وهناك لفظتان أبى القرآن أن ينطق بهما، ولعله وجد فيهما ثقلا، وهما كلمتا «الآجر» و «الأرضين». أما الأولى فقد أعرض عنها في سورة القصص، فبدل أن يقول: (وقال فرعون: يأيها الملأ ما علمت لكم من إله غيرى، فهيئ لى يا هامان آجرا، فاجعل لى صرحا، لعلى أطلع إلى إله موسى). قال: وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ
غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى
(القصص 38).
وأما الثانية فقد تركها في الآية الكريمة: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (الطّلاق 12).
هذا ومما ينبغى الإشارة إليه أن القرآن قد أقل من استخدام بعض الألفاظ، فكان يستخدم الكلمة مرة أو مرتين، وليس مرجع ذلك لشىء سوى المقام الذى يستدعى ورود هذه الكلمة. وللقرآن استعمالات يؤثرها، فمن ذلك وصفه الحلال بالطّيب، وذكر السّجّيل مع حجارة، وإضافة الأساطير إلى الأولين، وجعل مسنون وصفا للحمأ، ويقرن التأثيم باللغو، وإلّا بذمّة، ومختالا بفخور، ويصف الكذاب بأشر.
ووازن ابن الأثير بين كلمات استخدمها القرآن وجاءت في الشعر، فمن ذلك أنه جاءت لفظة واحدة في آية من القرآن وبيت من الشعر، فجاءت في القرآن جزلة متينة، وفي الشعر ركيكة ضعيفة ... أما الآية فهى قوله تعالى: فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ (الأحزاب 53). وأما بيت الشعر، فهو قول أبى الطيب المتنبى:
تلذ له المروءة، وهى تؤذى ... ومن يعشق يلذ له الغرام
وهذا البيت من أبيات المعانى الشريفة، إلا أن لفظة تؤذى قد جاءت فيه وفي آية القرآن، فحطت من قدر البيت لضعف تركيبها، وحسن موقعها في تركيب الآية ... وهذه اللفظة التى هى تؤذى إذا جاءت في الكلام، فينبغى أن تكون مندرجة مع ما يأتى بعدها، متعلقة به، كقوله تعالى: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ وقد جاءت في قول المتنبى منقطعة، ألا ترى أنه قال: تلذ له المروءة وهى تؤذى، ثم قال: ومن يعشق يلذ له الغرام، فجاء بكلام مستأنف، وقد جاءت هذه اللفظة بعينها في الحديث النبوى، وأضيف إليها كاف الخطاب، فأزال ما بها من الضعف والركة، قال: «باسم الله أرقيك، من كل داء يؤذيك» . وكذلك ورد في القرآن الكريم، إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ، فلفظة (لى) أيضا مثل لفظة يؤذى، وقد جاءت في الآية مندرجة متعلقة بما بعدها، وإذا جاءت منقطعة لا تجىء لائقة، كقول أبى الطيب أيضا:
تمسى الأمانى صرعى دون مبلغه ... فما يقول لشىء: ليت ذلك لى
وهنا من هذا النوع لفظة أخرى، قد وردت في القرآن الكريم، وفي بيت من شعر الفرزدق، فجاءت في القرآن حسنة، وفي بيت الشعر غير حسنة، وتلك اللفظة هى لفظة القمل، أما الآية فقوله تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ (الأعراف 133). وأما بيت الشعر فقول الفرزدق:
من عزه احتجرت كليب عنده ... زريا، كأنهم لديه القمّل
وإنما حسنت هذه اللفظة في الآية دون هذا البيت من الشعر؛ لأنها جاءت في الآية مندرجة في ضمن كلام، ولم ينقطع الكلام عندها، وجاءت في الشعر قافية أى آخرا انقطع الكلام عندها، وإذا نظرنا إلى حكمة أسرار الفصاحة في القرآن الكريم، غصنا في بحر عميق لا قرار له، فمن ذلك هذه الآية المشار إليها، فإنها قد تضمنت خمسة ألفاظ، هى: الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وأحسن هذه الألفاظ الخمسة هى: الطوفان، والجراد، والدم، فلما وردت هذه الألفاظ الخمسة بجملتها قدم منها لفظتا الطوفان، والجراد، وأخرت لفظة الدم آخرا، وجعلت لفظة القمل والضفادع في الوسط؛ ليطرق السمع أولا الحسن من الألفاظ الخمسة، وينتهى إليه آخرا، ثم إن لفظة الدم أحسن من لفظتى الطوفان، والجراد، وأخف في الاستعمال، ومن أجل ذلك جىء بها آخرا، ومراعاة مثل هذه الأسرار والدقائق في استعمال الألفاظ ليس من القدرة البشرية .
وقال ابن سنان الخفاجى، معلقا على قول الشريف الرضى:
أعزز علىّ بأن أراك وقد خلت ... عن جانبيك مقاعد العواد
إيراد مقاعد في هذا البيت صحيح، إلا أنه موافق لما يكره في هذا الشأن، لا سيما وقد أضافه إلى من يحتمل إضافته إليهم، وهم العواد، ولو انفرد، كان الأمر فيه سهلا، فأما إضافته إلى ما ذكره ففيها قبح لا خفاء به . وابن سنان يشترط لفصاحة الكلمة ألا يكون قد عبر بها عن أمر آخر يكره ذكره ، قال ابن الأثير: وقد جاءت هذه اللفظة المعيبة في الشعر في القرآن الكريم فجاءت حسنة مرضية، وهى قوله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ (آل عمران 121).
وكذلك قوله تعالى: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (الجن 8، 9). ألا ترى أنها في هاتين الآيتين غير مضافة إلى من تقبح إضافته إليه، كما جاءت في الشعر، ولو قال الشاعر بدلا من مقاعد العواد، مقاعد الزيادة، أو ما جرى مجراه، لذهب ذلك
القبح، وزالت تلك الهجنة، ولذا جاءت هذه اللفظة في الآيتين على ما تراه من الحسن، وجاءت على ما تراه من القبح، فى قول الشريف الرضى .
ومن ذلك استخدام كلمة شىء، ترجع إليها في القرآن الكريم، فترى جمالها في مكانها المقسوم لها. واستمع إلى قوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (الكهف 45). وقوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (الطّور 35). وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (يونس 44). إلى غير ذلك من عشرات الآيات التى وردت فيها تلك اللفظة، وكانت متمكنة في مكانها أفضل تمكن وأقواه، ووازن بينها في تلك، وبينها في قول المتنبى يمدح كافورا:
لو الفلك الدوار أبغضت سعيه ... لعوقه شىء عن الدوران
فإنك تحس بقلقها في بيت المتنبى، ذلك أنها لم توح إلى الذهن بفكرة واضحة، تستقر النفس عندها وتطمئن، فلا يزال المرء بعد البيت يسائل نفسه عن هذا الشيء، الذى يعوق الفلك عن الدوران، فكأن هذه اللفظة لم تقم بنصيبها في منح النفس الهدوء الذى يغمرها، عند ما تدرك المعنى وتطمئن إليه.
ولم يزد مرور الزمن بألفاظ القرآن إلا حفظا لإشراقها، وسياجا لجلالها، لم تهن لفظة ولم تتخل عن نصيبها، فى مكانها من الحسن، وقد يقال: إن كلمة الغائط من قوله سبحانه: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً (المائدة 43). قد أصابها الزمن، فجعلها مما تنفر النفس من استعمالها، ولكنا إذا تأملنا الموقف، وأنه موقف تشريع وترتيب أحكام، وجدنا أن القرآن عبر أكرم تعبير عن المعنى، وصاغه في كناية بارعة، فمعنى الغائط في اللغة المكان المنخفض، وكانوا يمضون إليه في تلك الحالة، فتأمل أى كناية تستطيع استخدامها مكان هذه الكناية القرآنية البارعة، وإن شئت أن تتبين ذلك، فضع مكانها كلمة تبرزتم، أو تبولتم، لترى ما يثور في النفس من صور ترسمها هاتان الكلمتان، ومن ذلك كله ترى كيف كان موقع هذه الكناية يوم نزل القرآن، وأنها لا تزال إلى اليوم أسمى ما يمكن أن يستخدم في هذا الموضع التشريعى الصريح.

أفرع

(أفرع) الشَّيْء طَال وَعلا وَيُقَال أفرع فلَان فِي قومه علاهم شرفا وَفِي الْجَبَل صعد وَبَنُو فلَان انتجعوا فِي أول النَّاس وبدأت دوابهم ونعمهم بالنتاج وذبحوا الْفَرْع وَالنعَم نتجت الْفَرْع وَالْمَرْأَة رَأَتْ دَمًا قبل الْولادَة وَالْقَوْم من سفرهم قدمُوا وَلَيْسَ ذَاك أَوَان قدومهم والْحَدِيث وَالْأَمر ابتدأه يُقَال نعم مَا أفرعت أَي ابتدأت وَــبئسَ مَا أفرع بِهِ فلَان واللجام الْفرس أدْمى فَاه وَالْأَرْض فرعها وأفرغ بِسَيِّد بني فلَان أَخذ فَقتل

البيع

(البيع) البَائِع والمساوم والماهر فِي البيع
(البيع) (فِي الِاصْطِلَاح) مُبَادلَة المَال الْمُتَقَوم بِالْمَالِ الْمُتَقَوم (ج) بُيُوع
البيع: رغبة المالك عما في يده إلى ما في يد غيره، والشراء رغبة المستملك فيما في يد غيره بمعاوضة بما في يده مما رغب عنه فلذلك كل شار بائع، ذكره الحرالي. وقال في المصباح: البيع أصله مبادلة مال بمال يقولون بيع رابح وبيع خاسر وذلك حقيقة في وصف الأعيان لكنه أطلق على العقد مجازا لأنه سبب التمليك والتملك، وقولهم صح البيع أو بطل ونحوه أي صيغة البيع لكن لما حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وهو مذكر أسند الفعل إليه بلفظ التذكير. والبيع من الأضداد كالشراء، ومنه {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْس} ، ويطلق على كل من العاقدين أنه بائع ومشتر، لكن إذا أطلق البائع فالمتبادر للذهن باذل السلعة. ومن أحسن ما وسم به البيع أنه تمليك عين مالية أو منفعة مباحة على التأييد بعوض مالي. والبيعة بالفتح، بذل الطاعة للإمام، والبيعة بالكسر للنصارى مصلاهم.
البيع:
[في الانكليزية] Sale
[ في الفرنسية] Vente
بسكون المثناة التحتانية هو من لغات الأضداد فهو كالمبيع لغة يطلق غالبا على إخراج المبيع عن الملك بعوض مالي قصدا، أي إعطاء المثمّن وأخذ الثّمن، ويعدّى إلى المفعول الثاني بنفسه وبحرف الجر، تقول: باعه الشيء وباعه منه. ويقال أيضا على الشراء، أي إخراج الثّمن عن الملك بعوض مالي قصدا، أي إعطاء الثّمن وأخذ المثمّن. والشراء أيضا من الأضداد لأنه يقال على البيع أيضا قال الله تعالى وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ أي باعوه وقوله تعالى وَلَــبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ الآية. ويقالان أيضا على ما إذا أعطي سلعة بسلعة كما في المفردات. وقال الإمام التقي البيع والشراء يقع في الغالب على الإيجاب والابتياع والاشتراء على القبول لأن الثلاثي أصل والمزيد فرع عليه، والإيجاب أصل والقبول بناء عليه.
وفي الشرع مبادلة مال بمال بتراض أي إعطاء المثمّن وأخذ الثّمن على سبيل التراضي من الجانبين. فالفرق بين المعنى اللغوي والشرعي إنما هو بقيد التراضي على ما اختاره فخر الإسلام. وفيه أنّ التراضي لا بدّ له من لغة أيضا، فإنّ الأخذ غصبا وإعطاء شيء من غير تراض لا يقول فيه أهل اللغة باعه. وأيضا يدخل في الحدّ الشرعي بيع باطل كبيع الخنزير، ويخرج عنه بيع صحيح كبيع المكره هذا. وقيل المتبادر من المبادلة هي الواقعة ممن هو أهلها كما لا يخفى، فخرج بيع المجنون والصبي والمحجور والسّكران والواقعة على وجه التملّك والتمليك، فخرج الرّهن وعلى وجه الكمال والتأبيد فخرج الهبة بشرط العوض فإنه ليس بيعا ابتداء والإجارة لعدم التأبيد. والمراد بالمال ما يتناول المنفعة فدخل بيع حقّ المرور، هذا كله خلاصة ما في فتح القدير والبرجندي والدرر وجامع الرموز.
التقسيم
في الدّرر أنواع البيع باعتبار المبيع أربعة، لأنه إمّا بيع سلعة بسلعة ويسمّى مقايضة. أو بيعها بثمن ويسمّى بيعا لكونه أشهر الأنواع، وقد يقال بيعا مطلقا. أو بيع ثمن بثمن ويسمّى صرفا. أو بيع دين بعين ويسمّى سلما. وباعتبار الثمن أيضا أربعة لأنّ الثّمن الأول إن لم يعتبر يسمّى مساومة. أو اعتبر مع زيادة ويسمّى مرابحة. أو بدونها ويسمّى تولية. أو مع النقص ويسمّى وضيعة انتهى كلامه. ومن البيوع ما يسمّى بيع الحصاة وهو أن يقول البائع بعتك من هذه الأثواب ما تقع هذه الحصاة عليه. ومنها بيع الملامسة وهو أن يلمس ثوبا مطويا في ظلمة ثم يشتريه على أن لا خيار له إذا رآه، كذا في شرح المنهاج فتاوى الشافعية.
وفي الهداية بيوع كانت في الجاهلية وهو أن يتساوم الرجلان على سلعة فإذا لمسها المشتري أو نبذها إليه البائع أو وضع المشتري عليها حصاة لزم البيع، فالأول بيع الملامسة والثاني المنابذة والثالث إلقاء الحجر. ومنها بيع المزابنة وهو بيع التّمر على النخيل بتمر مجذوذ مثل كيله خرصا. ومنها بيع المحاقلة وهو بيع الحنطة في سنبلها بحنطة مجذوذة مثل كيلها خرصا، كذا في الهداية. ومنها بيع الوفاء هو وبيع المعاملة واحد، وكذا بيع التلجئة كما في البزازية، وهو أن يقول البائع للمشتري بعت بمالك عليّ من الدين على أني إن قضيت الدين فهو لي، وأنه بيع فاسد يفيد الملك عند القبض. وقيل إنّ بيع الوفاء رهن حقيقة ولا يطلق الانتفاع للمشتري إلّا بإذن البائع وهو ضامن لما أكل واستهلك، وللبائع استرداده إذا قضى دينه متى شاء. وقيل إنه بيع جائز ويوفى بالوعد كذا في السراجية وحواشيه.
وفي الخانية اختلفوا في البيع الذي يسميه الناس بيع الوفاء والبيع الجائز. قال عامة المشايخ: حكمه الرهن، والصحيح أنّ العقد الذي جرى بينهما إن كان بلفظ البيع لا يكون رهنا، ثم ينظر إن ذكرا شرط الفسخ في البيع فسد البيع وإن لم يذكراه وتلفظا بلفظ البيع بشرط الوفاء أو تلفظا بالبيع الجائز، وعندهما هذا البيع عبارة عن بيع غير لازم أو إن ذكرا البيع من غير شرط ثم ذكرا الشرط على وجه المواعدة فحكمه أنه يجوز ويلزم الوفاء بالوعد.
وإن شئت زيادة على ما ذكرناه فارجع إلى فتاوى إبراهيم شاهي.
ومنها بيع العينة وهو منهي، واختلف المشايخ في تفسير العينة. قال بعضهم تفسيرها أن يأتي الرجل المحتاج إلى آخر ويستقرضه عشرة دراهم ولا يرغب المقرض على الإقراض طمعا في الفضل لا يناله في القرض فيقول:
ليس يتيسّر عليّ الإقراض ولكن أبيعك هذا الثوب إن شئت باثني عشر درهما وقيمته في السوق عشرة لتبيع في السوق بعشرة فيرضى به المستقرض فيبيعه المقرض باثني عشر درهما ثم يبيعه المشتري في السوق بعشرة ليحصل، لربّ الثوب ربح درهمين ويحصل للمستقرض قرض عشرة. وقال بعضهم تفسيرها أن يدخلا بينهما ثالثا فيبيع المقرض ثوبه من المستقرض باثني عشر درهما ويسلّم إليه ثم يبيع المستقرض من الثالث الذي أدخلاه بينهما بعشرة ويسلّم الثوب إليه، ثم إنّ الثالث يبيع الثوب من صاحب الثوب وهو المقرض بعشرة ويسلم الثوب إليه ويأخذ منه العشرة ويدفعها إلى طالب القرض فيحصل لطالب القرض عشرة دراهم ويحصل لصاحب الثوب عليه اثنا عشر درهما، كذا في المحيط هكذا في فتاوى عالمكيري
تقسيم آخر
البيع باعتبار الصحة وعدمها أربعة لأنه إمّا أن يكون مشروعا بأصله ووصفه ومجاوره وهو البيع الصحيح، والمراد بأصل العقد ما هو من قوامه أعني أحد العوضين، وبالوصف ما هو من لوازمه أعني شرائطه وبالمجاور ما هو من عوارضه أعني صفاته المفارقة. وإمّا أن لا يكون مشروعا بأصله أصلا بأن يكون قبح في أحد العوضين وهو البيع الباطل كبيع الميتة والخمر والحرّ ونحوها. وإمّا أن يكون مشروعا بأصله دون وصفه بأن يكون القبح في شرائطه ولوازمه وهو البيع الفاسد كالبيع بشرط لا يقتضيه العقد، وفيه منفعة لأحد المتعاقدين أو للمبيع إذا كان عبدا أو أمة. وإمّا أن يكون مشروعا بأصله ووصفه دون مجاوره بأن يكون القبح في مقارناته وهو البيع المكروه، كالبيع بعد أذان الجمعة بحيث يفوّت السعي إلى صلاة الجمعة هكذا في كتب الفقه.
البيع الباتّ: هو البيعي القطعيُّ.
البيع: لُغَة مُطلق الْمُبَادلَة. وَشرعا مُبَادلَة المَال الْمُتَقَوم بِالْمَالِ الْمُتَقَوم بِالتَّرَاضِي، وَهَذَا تَعْرِيف للْبيع الصَّحِيح يَعْنِي لَا بُد فِيهِ من قيد التقوم فِي جَانِبي الْمَبِيع وَالثمن. وَقيد التَّرَاضِي من الْجَانِبَيْنِ ليخرج البيع الْبَاطِل وَالْفَاسِد. وَمن أَرَادَ تَعْرِيفه بِحَيْثُ يعم الصَّحِيح وَالْفَاسِد مَعًا فَأخذ التقوم فِي جَانب الْمَبِيع ليخرج الْبَاطِل. وَمن ترك قيد التَّرَاضِي فَيكون شَامِلًا لبيع الْمُكْره أَيْضا.
ثمَّ اعْلَم أَن المُرَاد بِالْمَالِ الأول الثّمن وَبِالثَّانِي الْمُثمن. والمبادلة إِعْطَاء مثل مَا أَخذ فَالْبيع إِعْطَاء الْمُثمن وَأخذ الثّمن وَيُقَال على الشِّرَاء وَهُوَ إِعْطَاء الثّمن وَأخذ الْمُثمن. وَهُوَ يتَعَدَّى إِلَى مفعولين بِنَفسِهِ أَو إِلَى الثَّانِي بِمن كَمَا فِي الأساس وَالْمغْرب نَحْو بِعْت زيدا فرسا وبعت فرسا من زيد. ومدخول كلمة من هُوَ المُشْتَرِي ظَاهرا كَمَا مر أَو مضمرا نَحْو بِعْت فرسا مِنْهُ. وَفِي بعض شُرُوح مُخْتَصر الْوِقَايَة أَن البيع هُوَ كالشراء من الأضداد إِلَّا أَنه غلب فِي إِخْرَاج الْمَبِيع عَن الْملك وَالشِّرَاء فِي إِخْرَاج الثّمن عَنهُ. وكل من الصَّحِيح وَالْفَاسِد وَالْبَاطِل والمتقوم وَغير الْمُتَقَوم وَالثمن فِي مَحَله.
Learn Quranic Arabic from scratch with our innovative book! (written by the creator of this website)
Available in both paperback and Kindle formats.