Current Dictionary: All Dictionaries

Search results for: ابتغاء

التنكير والتعريف

التنكير والتعريف
وقفت طويلا عند الاسم النكرة، أتبين ما قد يدل عليه التنكير من معنى، ودرست ما ذكر العلماء من معان، قالوا إن هذا التنكير يفيدها، وبدا لى من هذا التأمل الطويل أن النكرة يراد بها، واحد من أفراد الجنس، ويؤتى بها، عند ما لا يراد تعيين هذا الفرد، كقوله سبحانه: وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (القصص 20). فليس المراد هنا تعيين الرجل، ولكن يراد هنا أن يصل إلى موسى نبأ الائتمار عليه بالقتل.
والنكرة بعدئذ تفيد معناها مطلقا من كل قيد، أما ما يذكره علماء البلاغة من معان استفيدت من النكرة، فإنها لم تفدها بطبيعتها، وإنما استفادتها من المقام الذى وردت فيه، فكأنما المقام هو الذى يصف النكرة، ويحدد معناها، فكلمة حياة مثلا تدل على معناها المجرد، والمقام يهبها معنى التحقير حينا، والتعظيم حينا آخر، والنوعية من موضع ثالث، ولنقف قليلا عند بعض الآيات التى ورد فيها الاسم نكرة، نتبين مدى الجمال في وروده.
قال تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ (البقرة 96). أولا ترى أن المراد هنا بيان حرص هؤلاء الناس على مطلق حياة، وأنها غالية عندهم كل الغلو، لا يعنيهم أن تكون تلك الحياة رفيعة أو وضيعة، ولهذا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة، ومن هنا جاء التنديد بهم، لأن الإنسان المثالى، لا يريد الحياة، إلا إذا كانت رفيعة صالحة.
وقال تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (البقرة 179). وهنا تجد المراد كذلك مطلق حياة يستفيدها المجتمع من حكم القصاص، هى تلك التى يظفر بها من يرتدع عن القتل، ولا يقدم عليه خوفا، أن تناله يد القانون فيقتل، فهذا الحكم العادل، استزاد به المجتمع حياة بعض الأفراد الذين كانوا عرضة للقتل قصاصا.
وقال تعالى: قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (آل عمران 183، 184). فالرسل منكرة لا تدل على أكثر من معنى المرسلين والكثرة إنما استفيدت من هذه الصيغة من جموع التكثير، الدالة على هذه الكثرة، أما التعظيم فلا يستفاد من التنكير، وإنما يستفاد من وصف هؤلاء الرسل، بأنهم جاءوا بالبينات، فالمقام هو الذى عظم هؤلاء الرسل، وقد تأتى الكلمة نفسها في مقام آخر، ويكون ما يحيط بها دالا على حقارتها وضعتها، مما يدل على أن التنكير في ذاته لا يؤذن بتعظيم ولا تحقير.
وقال تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (البقرة 279). فكلمة حرب منكرة، لا تدل على أكثر من حقيقتها، وإذا كان ثمة تعظيم لهذه الحرب فمنشؤه وصفها بأنها من الله ورسوله، وإن حربا يثيرها الله، جديرة أن تبعث في النفس أشد ألوان الفزع والرعب.
وقال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (التوبة 72). فلا تحمل كلمة رضوان في الآية معنى أكثر من العطف، أما أن يدل التنكير هنا على التقليل لا تفيده النكرة وحدها، وإن كان معنى الآية يحتمل، أن قليل رضوان الله أكبر من الجنات والمساكن الطيبة، لأن النكرة تطلق على القليل والكثير فما يطلق عليه رضوان قل أو كثر، أكبر مما أثيبوا به.
ودل المقام على تعظيم الاسم المنكر، فى قوله تعالى: وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (الأعراف 113). ذلك أنهم يطلبون مكافأة على عمل ضخم يقومون به، هو إبطال دعوة موسى، والإبقاء على دين فرعون، أو لا يكون ثواب ذلك عظيما يناسبه.
كما دل المقام على تعظيم الذكر، فى كل آية وردت فيها تلك الكلمة منكرة، كقوله تعالى: أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا (الأعراف 63).
وقوله تعالى: وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (يوسف 104). فوصفه حينا بأنه من الله، وحينا بأنه ذكر للعالمين، وحينا بأنه مبارك، يؤذن بعظمة هذا الذكر وجلال قدره.
كما دل المقام على التقليل في قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (الجاثية 32). ألا ترى أن جحدهم للساعة، لا يؤذن إلا بظن ضئيل في وجودها يتردد في رءوسهم. وقد تكون الكلمة النكرة موحية بمعنى حقير إلى النفس، كما في قوله تعالى: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (الكهف 37). وقوله سبحانه: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (عبس 17 - 19).
ولأن النكرة لا تدل على شىء معين، كان استخدامها في بعض المقام مثيرا للشوق والرغبة في المعرفة، كما في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (الصف 10). ولأنها تدل على القليل والكثير كانت بعد النفى لقصد العموم وعلى ذلك قوله تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ (البقرة 2).
وتحدث العلماء عن تنكير السلام الصادر من الله في قوله سبحانه: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (يس 58). وقوله: سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (الصافات 79). وقوله:
سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (الصافات 130). وقوله: وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (مريم 15). وقوله: قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ (هود 48). والذى أحسه فى هذا التعبير أن المقام هنا يدل على تعظيم هذا السلام الصادر منه سبحانه، والمقام ينبئ بهذا التعظيم ويشير إليه.
وتستخدم ألوان المعارف في القرآن الكريم في مواضعها الدقيقة الجديرة بها:
فيستخدم الضمير الذى يجمع بين الاختصار الشديد، والارتباط المتين، بين جمل الآية بعضها وبعض، ومن روائع استخدام ضمير المخاطب، أن يأتى به مخاطبا كل من يستطاع الخطاب معه، عند ما يكون الأمر من الوضوح بمكان، ومن ذلك قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (السجدة 12).
وقوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (سبأ 51). فكأن سوء حالهم من الوضوح لدرجة ظهوره لكل أحد.
وعادة القرآن في ضمائر الغيبة أنها تتفق إذا كان مرجعها واحدا، حتى لا يتشتت الذهن ولا يغمض المعنى، ولذا كانت الضمائر كلها تعود إلى موسى، فى قوله سبحانه: إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (طه 38، 39). وما بعدها. وليس من قوة النظم في شىء أن يعود بعض هذه الضمائر على موسى وبعضها الآخر على التابوت. كما تعود الضمائر كلها إلى الله في قوله تعالى:
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (الفتح 9).
فإن اتحد الضميران، وكانا يعودان إلى مختلفين، كان المقام يحددهما تحديدا واضحا؛ ومن ذلك قوله سبحانه: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (الكهف 22). فضمير فيهم يرجع إلى أهل الكهف، وضمير منهم يرجع إلى ما رجع إليه ضمير سيقولون. ولكن الكثير في الاستعمال القرآنى أن يخالف بين الضمائر إذا تعدد مرجعها لسهولة التمييز كما في قوله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ (التوبة 36).
فضمير منها وهو لاثنى عشر شهرا، أتى به مفردا، وضمير منهن وهو للأربعة، أتى به جمعا، وكلا الأمرين جائز في كليهما، ولكن سنة القرآن إذا أعاد الضمير على جمع ما لا يعقل، أعاده مفردا إذا كان لأكثر من عشرة، وجمعا إذا كان لأقل منها .
وإذا كان مرجع الضمير مفرد اللفظ جمع المعنى، راعى الأسلوب القرآنى اللفظ أولا، والمعنى ثانيا عند تعدد الضمير، وذلك أجمل في السياق من العكس، وتأمل ذلك في قوله سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (البقرة 8). وقوله سبحانه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً (الأنعام 25)، فإن هذا الأسلوب حديثا عن كل فرد من أفراد هذا المجموع أولا، ثم حديثا عنه في جماعة ثانيا.
وقد لا تجد في الآية مرجعا للضمير، ولكنك تحس بوضوح معناه أيما وضوح، لدلالة المقام على هذا المرجع، ومن ذلك قوله سبحانه: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (الرحمن 26)، فالضمير في عليها يعود إلى الأرض، من غير أن يجرى لها ذكر، ولكنك لا تجد حرجا ولا مشقة في إدراك معناه.
وقد يضع القرآن الاسم الظاهر موضع الضمير، لأمور تلمسها في كل مكان حدث فيه هذا الوضع، وتأمل قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (العنكبوت 19، 20). فوضع الله مكان ضميره لأن هذا الاسم يوحى بالجلال، المؤذن بيسر بدء الخلق عليه، وقدرته على إنشاء النشأة الآخرة.
وقوله تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى
الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها
(التوبة 25، 26). ففي إظهار المؤمنين بدل أن يقول ثمّ أنزل الله سكينته عليكم، إظهار لمن ثبت منهم في مظهر من يستحق اسم المؤمن الحقيقى.
وقوله تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (سبأ 43). فأظهر الذين كفروا بدل الإتيان بضمير يعود عليهم، لما في ذلك من إبرازهم متعنتين جاحدين، لا يرعون ما يجب أن يكون للحق، من حسن القبول والرضا به، والاطمئنان إليه، وفي ذلك تشنيع عليهم، وتصوير لمدى ضلالهم ومكابرتهم، وعلى هذا المنهج جاء قوله تعالى: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (ص 1 - 4). وهو بذلك يشير إلى أن هذا القول لا يكون إلا من كافر يخفى الحق ولا يقربه.
ومما استخدمه القرآن ضمير الشأن أو القصة، وهو ضمير لا مرجع له، تسمعه النفس فتتهيأ لسماع ما يأتى بعده، لأن الأسلوب العربى لا يأتى بهذا الضمير إلا في المواطن التى يكون فيها أمر مهم، تراد العناية به، فيكون هذا الضمير أداة للتنبيه، يدفع المرء إلى الإصغاء، فإذا وردت الجملة بعده استقرت في النفس واطمأن إليها الفؤاد.
واستمع إلى قوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (الإخلاص 1). أو لا ترى الشوق يحفز السامع عند ما يصغى إلى هذا الضمير- إلى أن يدرك ما يراد به، فإذا وردت الجملة ثبتت في النفس، وقرت في القلب.
وقوله تعالى: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (الحج 46).
تجد للضمير هنا من الإثارة وتثبيت المعنى، ما يبين عن فضل هذا الضمير، وما يمنحه الأسلوب من قوة وحسن بيان.
ويستخدم القرآن العلم ولم يستخدم الكنية إلا في قوله تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (المسد 1)، وفي اختيار هذه الكنية من الذم، ما ليس في الاسم، وهذا هو السر في اختيارها، وقل استخدامه كذلك للقب، ومنه استخدام إسرائيل، لقب يعقوب، ومعناه عبد الله، وقيل صفوة الله، ولم تخاطب اليهود في القرآن إلا ب «يا بنى إسرائيل» . ومنه المسيح، لقب لعيسى، قيل معناه الصديق، وقيل الذى لا يمسح ذا عاهة إلا برئ .
ويأتى اسم الإشارة للقرب في القرآن، مؤذنا بقربه، قربا لا يحول دون الانتفاع به، ومن هنا أوثر هذا النوع من أسماء الإشارة، فى قوله سبحانه: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (الإسراء 9)، أو لا ترى أن المقام هنا مقام حديث عن هاد، يقود إلى أقوم الطرق، ولأن يكون هذا الهادى قريبا أنجح لرسالته، وأقطع لعذر من ينصرف عن الاسترشاد بهديه، بينما استخدم اسم الإشارة للبعيد، مشيرا إلى القرآن نفسه عند ما تحدث عن بعده عن الريب، فكان الحديث عنه باسم الإشارة البعيد، أنسب في الدلالة على ذلك. ويستخدم اسم الإشارة للقريب تنبيها على ضعة المشار إليه، كما في قوله تعالى: وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ (الأنبياء 36)، وقوله سبحانه: وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (الفرقان 41)، وكأن في اسم الإشارة للقريب، ما يشير إلى أن هذا الشخص القريب منا، والذى نعلم من أموره ما نعلم، لا تقبل منه دعوى الرسالة، ولا يليق به أن يذكر آلهتنا بسوء.
ويستخدم اسم الإشارة للبعيد أحيانا ليدل على ارتفاع مكانته، وبعده عن أن يكون موضع الأمل والرجاء، كما في قوله سبحانه، على لسان امرأة العزيز: قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (يوسف 32)، أو ليدل على ما يجب أن يكون عليه من بعد في المكان والمنزلة، ولعل من ذلك قوله تعالى: إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (آل عمران 175).
وفي اسم الإشارة لون من الإيجاز والتنبيه معا، عند ما يشير إلى موصوف بصفات عدة، فينبنى الحكم على هذه الصفات، كما في قوله سبحانه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (الأنفال 2 - 4).
ويأتى القرآن بالاسم الموصول، عند ما تكون صلته هى التى عليها مدار الحكم، كما في قوله سبحانه: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا
(النساء 122). وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (آل عمران 91).
والمجيء باسم الموصول، فضلا عما ذكرناه، يثير في النفس الشوق إلى معرفة الخبر، وقد تكون الصلة نفسها ممهدة لهذا الخبر ودالة عليه، واقرأ قوله تعالى:
الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (التوبة 20 - 22). أو لا ترى في الصلة ما يوحى إليك بأنه قد أعد لهم خير عظيم، يناسب إيمانهم وهجرتهم، وجهادهم بأموالهم وأنفسهم.
ومن خصائص اسم الموصول استطاعته أن يخفى تحته اسم المذنب، وفي ذلك من الرجاء في هدايته، ما ليس في إفشاء اسمه وفضيحته، وتأمل قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (الحج 8)، وقوله تعالى:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ (العنكبوت 10)، وقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ (لقمان 6).
ففي هذا وغيره ذم لمن يتصف بذلك، ودعوة له في صمت إلى الإقلاع والكف، ومن ذلك قوله سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (البقرة 204). وجاء قوله تعالى بعده: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (البقرة 207). ليكون في مقابلته، حتى تكون الموازنة قوية جلية، تدفع إلى العمل الصالح ابتغاء مرضاة الله.
وقد يعدل القرآن عن العلم إلى الاسم الموصول، إذا كان فيه زيادة تقرير لأمر يريده القرآن، كما في قوله تعالى: وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ (يوسف 23).
ألا ترى في ذكر اسم الموصول زيادة تقرير لعفته، فهو في بيتها، ووسائل إغرائه موفورة عندها، وهو تحت سلطانها، ولن تفهم هذه المعانى إذا جاء باسمها.
ويستخدم اسم الموصول كذلك، لإظهار أن الأمر لا يستطاع تحديده بوصف، مهما بولغ فيه، تلمس ذلك في قوله تعالى: قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (الشعراء 18، 19). وقوله تعالى: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (طه 78). وفي ذلك ترك للخيال يسبح ليكمل الصورة ويرسمها.
ويستخدم القرآن التعريف بأل، فتكون للعهد حينا، وللجنس حينا آخر، ومن أجمل مواقعها فيه أن تستخدم لاستغراق خصائص الجنس، كما في قوله تعالى:
ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (البقرة 2). فكأنه قال ذلك هو الكتاب المستكمل لخصائص جنسه، فهو الكتاب الكامل.
وتأتى الإضافة في القرآن أحيانا لتعظيم المضاف كقوله تعالى: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (النمل 88). أو تحقيره كما في قوله سبحانه:
أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (المجادلة 19).
وقد يعدل عن الإضافة، حيث يبدو في ظاهر الأمر أن المقام لها، كما في قوله سبحانه على لسان إبراهيم لأبيه: يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (مريم 45). فالعدول عن إضافة العذاب إلى الرحمن لعدم التجانس بينهما، فالمناسب للعذاب أن يضاف إلى الجبار، أو المنتقم مثلا، لا إلى مصدر النعم، أما السر في وصف العذاب بأنه من الرحمن، فالإشارة إلى أن العذاب إنما كان، لأنه كفر بمن كان مصدرا للنعمة، ولم يقم بواجب شكره. 

لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا

{لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا}
وسأل ابن الأزرق عن معنى قوله - عز وجل -: {لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا}
فقال ابن عباس: لا يخافون لله عظمة. واستشهد بقول أبي ذؤيب:
إذا لسعتْه النحلٌ لم يرْجُ لَسعهَا. . . وحالفها في بيت نُوبٍ عوامل
(ظ في الروايتين) وفي (تق، ك، ط)
قال: لا تخاشون لله عظمة.
والكلمة من آية نوح 13، خطاباً لقومه:
{مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا}
الرجاء في (الأضداد: للأصمعي، وأبي حاتم السجستاني،) وابن الأنباري، وابن السكيت) بمعنى الطمع وبمعنى الخوف.
وأورده ابن قتيبة في باب المقلوب من تأويل المشكل: رجوت بمعنى خفت، قال الله سبحانه {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا}
وقيل هي لغة حجازية، وفي لغة كنانة وخزاعة ونصر وهذيل، بمعنى المبالاة (السجستاني وابن الأنباري) وحكاه الأزهري والزمخشري والقرطبي: عن أهل اللغة.
والجمهرة من أهل التأويل على أن معناها في آية نوح: لا تخافون لله عظمة، أو: لا تخشون، ولا تبالون. سوى الزمخشري فإنه ذهب إلى أنها بمعنى الأمل. وعلق الوقار بالمخاطبين، والمعنى: ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب. ووجه هذا التأويل عنده تقدُّم لفظ الجلالة {لِلَّهِ وَقَارًا} فهو بيان له، ولو تأخر - أي: وقارا لله - لكان صلة للوقار (الكشاف) وفيه بُعد من تكلف الصنعة.
والفعل من الرجاء يأتي في القرآن الكريم على الوجهين، قال الراغب: {لَا تَرْجُونَ} : لا تخافون - وأنشد بيت أبي ذؤيب - وبالضد قال تعالى: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} - المفردات.
قال الفراء في الآية: وقد قال بعض المفسرين أن معناه: تخافون، ولم نجد معنى الخوف يكون رجاء إلا ومعه جحد، والعرب لا تذهب بالرجاء مذهب الخوف إلا مع الجحد. وحكاه عنه الأزهري في تهذيب اللغة.
وقال السجستاني: والرجاء يكون طمعاً ويكون خوفاً، وفي القرآن في معنى الطمع {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} قال كعب (بن زهير) :
أرجو وآمُل أن تدنو مودتها. . . وما إخال لدينا منك تنويلُ
والرجاء في القرآن بمعنى الخوف كثير: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ} {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} {ارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ} وقال أبو ذؤيب:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها. . . وخالفها في بيت نُوبٍ عواملِ
(الأضداد، ف 8 / 110) .
فهل من ضابط لهذه الضدية، في البيان القرآني؟
قد يشهد لقول الفراء إنها لا تجئ في معنى الخوف إلا جحداً، الاستقراء للكلمة في القرآن الكريم وتدبر سياقها:
جاءت وفي مثل سياق آية نوح مع الجحد، في قوله تعالى:
{لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} يونس 7، 11، 15، والفرقان 21.
{لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} الجاثية 14.
{لَا يَرْجُونَ نُشُورًا} الفرقان 40. {إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا} النبأ 27 ومعها آية النور 60 {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا}
وأما في غير الجحد، فأكثر ما تجئ بمعنى الطمع والأمل:
القصص 86: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}
الإسراء 28: {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا}
البقرة 218: {أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ}
الإسراء 57: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ. . .}
فاطر 29: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ}
الزمر 9: {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ}
هود 62: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} لكنها أقرب إلى معنى الخوف، في آيات.
العنكبوت 5: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ}
الأحزاب 21: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} ومعها الممتحنة 6.
الكهف 110: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا. . .}
العنكبوت 36: {فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ}
فلعل الوجه في تأويل الرجاء بالخوف أن الراجي غير مستيقن من تحقق رجائه، فالراجي يخاف فوت المرجو وإخلافه "فالرجاء والخوف متلازمان لأن من يرجو الشيء يخاف ألا يكون" كما قال الراغب. والله أعلم.

الْهَلَاك

(الْهَلَاك) هَلَاك النَّاس الصعاليك ينتابون النَّاس ابْتِغَاء معروفهم والمنتجعون يضلون الطَّرِيق 
الْهَلَاك: أَعم من الفناء وَلِهَذَا قَالُوا إِن الْهَلَاك لَا يسْتَلْزم الفناء وَهُوَ يسْتَلْزم الْهَلَاك لِأَن الْهَلَاك هُوَ خُرُوج الشَّيْء عَن الِانْتِفَاع الْمَقْصُود بِهِ أَي عَن مَنَافِعه الْمَطْلُوبَة بِهِ سَوَاء لم يبْق أصلا بِأَن يصير مَعْدُوما بِذَاتِهِ وأجزائه وَهُوَ الفناء أَو يبْقى وَلَكِن لَا يبْقى مُنْتَفعا بِهِ كالمشربة الْمَكْسُورَة الْمَطْلُوب بهَا شرب المَاء والجواهر الفردة المنثورة الْمَطْلُوب بهَا انضمام بَعْضهَا إِلَى بعض ليحصل الْجِسْم. وَالشَّمْس الْمظْلمَة الْمَطْلُوب بهَا الضَّوْء. وَلما قيدنَا الِانْتِفَاع بِالْمَقْصُودِ لَا يرد الِاعْتِرَاض بِأَن الْمشْربَة الْمَكْسُورَة بل كل مَوْجُود مُمكن يدل على وجود الصَّانِع وَهِي من أعظم الْمَنَافِع فَلَا يخرج عَن الِانْتِفَاع أصلا. فالهلاك هُوَ فنَاء الشَّيْء بِالْكُلِّيَّةِ لَا خُرُوجه عَن الِانْتِفَاع. وَمن عرف الْهَلَاك لم يهْلك بالتناقض فِي قَوْله تَعَالَى: {وأكلها دَائِم} . وَقَوله تَعَالَى: {وكل شَيْء هَالك إِلَّا وَجهه} .
وَقد يدْفع بِأَن المُرَاد بالدوام هَا هُنَا اسْتِمْرَار الشَّيْء وبقاؤه إِلَّا لَحْظَة وَهُوَ لَا يُنَافِي الْهَلَاك لَحْظَة وَهُوَ الدَّوَام التجددي بِأَنَّهُ إِذا فني شَيْء جِيءَ بِبَدَلِهِ شَيْء آخر مثله بِلَا مهلة يَعْنِي لَيْسَ التَّنَاقُض إِلَّا إِذا أُرِيد بالدوام الدَّوَام الْحَقِيقِيّ وَهُوَ عدم طريان الْعَدَم مُطلقًا. وَأما إِذا أُرِيد بِهِ الدَّوَام الْعرفِيّ وَهُوَ عدم طريان الْعَدَم زَمَانا يعتبد بِهِ فَلَا. وَالْجَوَاب بِأَن المُرَاد بِهِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيّ وبدوام أكل الْجنَّة دوَام أَنْوَاعهَا لَا أشخاصها. وَيجوز أَن لَا يَنْقَطِع النَّوْع أصلا مَعَ هَلَاك الْأَشْخَاص أَن يكون هَلَاك كل شخص معِين من الْأكل بعد وجود مثله صَحِيح على مَذْهَب الْجُمْهُور من أَن الْجنَّة وَالنَّار لَا يطْرَأ عَلَيْهِمَا الْعَدَم وَلَو لَحْظَة لَا على مَا قيل من جَرَيَان الْعَدَم عَلَيْهِمَا لَحْظَة لِأَنَّهُ يلْزم حِينَئِذٍ انْقِطَاع النَّوْع جزما هَكَذَا فِي الْحَوَاشِي الحكيمية على شرح العقائد النسفية.

المجاز بالزيادة والنقصان

المجاز بالزيادة والنقصان:
[في الانكليزية] Litotes
[ في الفرنسية] Litote
فقد ذكر الخطيب أنّه قد يطلق المجاز على كلمة تغيّر حكم إعرابها بحذف لفظ ويسمّى مجازا بالنقصان أو بزيادة لفظ ويسمّى مجازا بالزيادة. وقال صاحب الأطول: فخرج تغيّر حكم إعراب غير في جاءني القوم غير زيد، فإنّ حكم إعرابه كان الرفع على الوصفية فتغيّر إلى النصب على الاستثناء، لكن لا بحذف لفظ أو زيادة، بل لنقل غير عن الوصفية إلى كونه أداة استثناء. لكنه يخرج عنه ما ينبغي أن يكون مجازا وهو جملة حذف ما أضيف إليها وأقيمت مقامه نحو ما رأيته مذ سافر فإنّه في تقدير مذ زمان سافر، إلّا أن يؤوّل قوله كلمة بما هو أعم من الكلمة حقيقة أو حكما. ويدخل فيه ما ليس بمجاز نحو إنّما زيد قائم فإنّه تغيّر حكم إعراب زيد بزيادة ما الكافّة وإن زيد قائم فإنّه تغيّر إعراب زيد عن النصب إلى الرفع بحذف أحد نوني إنّ وتخفيفها ونحو ذلك. فالصحيح كلمة تغيّر إعرابها الأصلي إلى غير الأصلي فإنّ ربّك في وجاء ربّك تغيّر حكم إعرابه الأصلي أي إعرابه الذي يقتضيه بالأصالة لا بتبعية شيء آخر وهو الجر في المضاف إليه إلى غير الأصلي الذي حصل لمبالغة أمر آخر، كالرفع الذي حصل فيه بفرعية مضافه المحذوف ونيابته له وليس ما غير فيه الإعراب الأصلي في الأمثلة المذكورة إلى غير الأصلي بل إلى أصليّ آخر.
وكذلك يدخل فيه نحو ليس زيد بمنطلق وما زيد بقائم، مع أنّ في المفتاح صرّح بأنّهما ليسا بمجازين. قال المحقّق التفتازاني ما حاصله أنّ الآمدي عرّف المجاز بالنقصان في الأحكام بأنّه اللفظ المستعمل في غير ما وضع له بعلاقة بعد نقصان منه يغير الإعراب والمعنى إلى ما يخالفه رأسا كنقصان الأمر والأهل في قوله تعالى وَجاءَ رَبُّكَ وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ لا كنقصان منطلق الثاني في قولنا زيد منطلق وعمرو، ونقصان مثل ذوي من قوله تعالى كَصَيِّبٍ لبقاء الإعراب، ولا كنقصان في من قولنا سرت يوم الجمعة لبقائه على معناه. وعرّف المجاز بالزيادة بأنّه اللفظ المستعمل في غير ما وضع له بعلاقة بعد زيادة عليه تغير الإعراب والمعنى إلى ما يخالفه بالكلّية نحو قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فخرج ما لا يغيّر شيئا نحو فبما رحمة، وما يغيّر الإعراب فقط نحو سرت في يوم الجمعة، وما يغيّر المعنى فقط نحو الرجل بزيادة اللام للعهد، وما يغيّر المعنى لا إلى ما يخالفه بالكلّية مثل إنّ زيدا قائم. وفيه نظر لأنّ المراد بالزيادة هاهنا ما وقع عليه عبارة النحاة من زيادة الحروف وهي كونها بحيث لو حذفت لفظا ومعنى لم يختل. فقد خرج سرت في يوم الجمعة والرجل وإنّ زيدا قائم ونحو ذلك من هذا القيد لا من غيره، بل الحقّ أنّه لا حاجة في إخراج الأشياء المذكورة إلى قيد يغيّر الإعراب والمعنى رأسا وبالكليّة في كلا التعريفين لخروجها بقيد الاستعمال في غير ما وضع له. وأيضا يرد على التعريفين أنّ استعمال اللفظ في غير ما وضع له في هذا النوع من المجاز ممنوع إذ لو جعل القرية مثلا مجازا عن الأهل لعلاقة كونها محلا كما وقع في بعض كتب الأصول فهو لا يكون في شيء من هذا النوع من المجاز إذ المجاز هاهنا بمعنى آخر، سواء أريد به الإعراب الذي تغيّر إليه الكلمة بسبب النقصان أو الزيادة كما يقتضيه ظاهر عبارة المفتاح، أو أريد به الكلمة التي تغيّر إعرابها بحذف أو زيادة كما ذكره الخطيب.
فكما توصف الكلمة بالمجاز لنقلها عن معناها الأصلي كذلك توصف الكلمة بالمجاز لنقلها عن إعرابها الأصلي إلى غيره وإن كان المقصود في فنّ البيان هو المجاز بالمعنى الأول. وقال السّيّد السّند أنّ في هذا الإيراد نظرا لأنّ الأصوليين لما عرّفوا المجاز بالمعنى المشهور أوردوا في أمثلة المجاز بالزيادة والنقصان ولم يذكروا أنّ للمجاز عندهم معنى آخر، فالمفهوم من كلامهم أنّ القرية مستعملة في أهلها مجازا ولم يريدوا بقولهم أنّها مجاز بالنقصان أنّ الأهل مضمر هناك مقدّر في نظم الكلام حينئذ لأنّ الإضمار يقابل المجاز عندهم، بل أرادوا أنّ أصل الكلام أن يقال أهل القرية فلما حذف الأهل استعمل القرية مجازا فهي مجاز بالمعنى المتعارف سببه النقصان. وكذلك قوله تعالى كَمِثْلِهِ مستعمل في معنى المثل مجازا، وسبب هذا المجاز هو الزيادة إذ لو قيل ليس مثله شيء لم يكن هناك مجاز انتهى. ويؤيّده ما قال صاحب الأطول. ثم نقول لا يبعد أن يقال هذا النوع من المجاز أيضا من قبيل نقل الكلمة عمّا وضعت له إلى غيره فإنّ للكلمة وضعا إفراديا ووضعا تركيبيا فهي مع كلّ إعراب في التركيب وضعت لمعنى لم يوضع له مع إعراب آخر، فإذا استعملت مع إعراب في معنى وضع له [مع] إعراب آخر فقد أخرجت عن معنى الموضوع له التركيبي إلى غيره مثلا القرية مع النصب في اسأل القرية موضوعة لمعنى تعلّق به السّؤال، وقد استعملت في معنى تعلّق بما أضيف إليه السّؤال، وحينئذ يمكن أن يجعل تحت تعريفاتهم المجاز ويجعل مقصودا لصاحب البيان لتعلّق أغراض بيانه. اعلم أنّ مختار عضد الملّة والدين أنّ لفظ المجاز مشترك معنى بين المجاز اللغوي والعقلي والمجاز بالنقصان والمجاز بالزيادة على ما يفهم من كلامه في الفوائد العياشيّة حيث قال هناك: الحقيقة لفظ أفيد به في اصطلاح التخاطب، والمجاز لفظ أفيد به في اصطلاح التخاطب لا بمجرّد وضع أول.
ولا بدّ في المجاز من تصرّف في لفظ أو معنى وكلّ بزيادة أو نقصان أو نقل والنّقل لمفرد أو لتركيب فهذه ثمانية أقسام، أربعة في اللفظ وأربعة في المعنى. فوجوه التصرّف في اللفظ الأول بالنقصان نحو اسأل القرية. الثاني بالزيادة نحو ليس كمثله شيء على أنّ الله جعل اللاشيئية لنفي من يشبه أن يكون مثلا له فضلا عن المثل، وقد جعلهما القدماء مجازا في حكم الكلمة أي إعرابها، وقد جعل من الملحق بالمجاز لا منه. وأنت تعلم حقيقة الحال إذا قلت عليك بسؤال القرية أو قلت ما شيء كمثله ثم النقل فيهما بيّن من سؤال القرية إلى سؤال أهلها، ومن نفي مثل المثل إلى نفي المثل.
الثالث بالنّقل لمفرد وهو إطلاق الشيء لمتعلّقه بوجه كاليد للقدرة. الرابع بالنقل لتركيب نحو أنبت الربيع البقل إذا صدره من لا يعتقده ولا يدّعيه مبالغة في التشبيه وهذا يسمّى مجازا في التركيب ومجازا حكميا. وتحقيقه أنّ دلالة هيئة التركيبات بالوضع لاختلافها باللغات وهذه وضعت لملابسة الفاعل، فإذا أفيد بها ملابسة غيرها كان مجازا لغة كما قاله الإمام عبد القاهر. وقيل إنّ المجاز في أنبت. وقيل إنّه استعارة بالكناية كأنّه ادّعى الربيع فاعلا حقيقيا.
وقيل إنّه مجاز عقلي إذ أثبت حكما غير ما عنده ليفهم منه ما عنده ويتميّز عن الكذب بالقرينة.
وأمّا وجوه التصرّف في المعنى. فالأول بالنقصان كالمشفر للشّفة والمرسن للأنف وهو إطلاق اسم الخاصّ للعام وسمّوه مجازا لغويا غير مقيّد. والثاني بالزيادة نحو وأوتيت من كلّ شيء أي مما يؤتى مثلها وهو عكس ما قبله، أي إطلاق اسم العام للخاص ومنه باب التخصيص بأسره. والثالث بالنّقل لمفرد نحو في الحمام أسد. والرابع بالنقل لتركيب نحو أنبت الربيع البقل ممن يدّعيه مبالغة في التشبيه، وهذا لم يذكر وهو بصدد الخلاف المتقدّم. وأمّا من يعتقده فهو منه حقيقة كاذبة انتهى كلامه. قال صاحب الإتقان المجاز قسمان: الأول في التركيب ويسمّى مجاز الإسناد والمجاز العقلي وعلاقته الملابسة وذلك أن يسند الفعل أو شبهه إلى غير ما هو له أصالة لملابسة له. والثاني المجاز في المفرد ويسمّى المجاز اللغوي وهو استعمال اللفظ في غير ما وضع له أو لا، وأنواعه كثيرة. الأول الحذف كما يجيء. الثاني الزيادة. الثالث إطلاق اسم الكلّ على الجزء نحو يجعلون أصابعهم في آذانهم أي أناملهم.
الرابع عكسه نحو يبقى وجه ربّك أي ذاته.
والحقّ بهذين النوعين شيئان. أحدهما وصف البعض بصفة الكلّ نحو ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ فالخطاء صفة الكلّ وصف به الناصية وعكسه نحو قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ والوجل صفة القلب. والثاني إطلاق لفظ بعض مرادا به الكلّ نحو وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ أي كلّه، ونحو وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ أي كلّ الذي يعدكم.
الخامس إطلاق اسم الخاص على العام نحو فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ أي رسوله.
السادس عكسه نحو وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أي المؤمنين بدليل قوله وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا. السابع إطلاق اسم الملزوم على اللازم نحو أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ سمّيت الدلالة كلاما لأنّها من لوازمه. الثامن عكسه نحو هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أي هل يفعل، أطلق الاستطاعة على الفعل لأنّها لازمة له. التاسع إطلاق المسبّب على السّبب نحو وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً أي مطرا.
العاشر عكسه نحو وما كانوا يستطيعون السمع أي القبول والعمل به لأنّه يتسبّب عن السمع.
ومن ذلك نسبة الفعل إلى سبب السّبب نحو كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ فإنّ المخرج حقيقة هو الله وسبب ذلك أكل الشجرة وسبب الأكل وسوسة الشيطان. الحادي عشر تسمية الشيء باسم ما كان عليه نحو وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ أي الذين كانوا يتامى إذ لا يتمّ بعد البلوغ. الثاني عشر تسميته باسم ما يئول إليه نحو إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً أي عنبا توفد إلى الخمرية وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً أي صائرا إلى الكفر والفجور.
الثالث عشر اطلاق اسم الحال على المحل نحو ففي رحمة الله أي في الجنة لأنّها محل الرحمة. الرابع عشر عكسه نحو فَلْيَدْعُ نادِيَهُ أي أهل ناديه أي مجلسه. الخامس عشر تسمية الشيء باسم آلته نحو وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ أي ثناء حسنا لأنّ اللسان آلته. السادس عشر تسمية الشيء باسم ضدّه نحو فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي أنذرهم. ومنه تسمية الداعي إلى الشيء باسم الصّارف عنه، ذكره السّكّاكي نحو قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ أي ما دعاك إلى أن لا تسجد، وسلم من ذلك من دعوى زيادة لا.
السابع عشر إضافة الفعل إلى ما لم يصلح له تشبيها نحو فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ وصفه بالإرادة وهي من صفات الحيّ تشبيها بالمسألة للوقوع بإرادته. الثامن عشر إطلاق الفعل والمراد مشارفته ومقاربته وإرادته نحو فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ أي فإذا قرب مجيئه. وبه اندفع السّؤال المشهور أنّ عند مجيء الأجل لا يتصوّر تقديم ولا تأخير. وقيل في دفع السّؤال أنّ جملة لا يستقدمون عطف على مجموع الشرط والجزاء لا على الجزاء وحده. ونحو إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ أي أردتم القيام. التاسع عشر القلب وقد ذكر في محله نحو عرضت الناقة على الحوض.
العشرون إقامة صيغة مقام أخرى. منها إطلاق المصدر على الفاعل نحو فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي ولهذا أفرده وعلى المفعول نحو وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ أي من معلومه، وصنع الله أي مصنوعه. ومنها إطلاق الفاعل والمفعول على المصدر نحو لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ أي تكذيب وبِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ أي الفتنة على أنّ الباء غير زائدة. ومنها إطلاق الفاعل على المفعول نحو خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ أي مدفوق وقالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ أي لا معصوم وعكسه نحو حجابا مستورا أي ساترا. وقيل هو على معناه أي مستورا عن العيون لا يحسّ به أحد وأنّه كان وعده مأتيا أي آتيا، ونحو فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ أي مرضية. ومنها إطلاق فعيل بمعنى مفعول نحو وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً. ومنها إطلاق واحد من المفرد والمثنى والمجموع على آخر منها نحو وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ أي يرضوهما فأفرد لتلازم الرضاءين، فهذا مثال إطلاق المفرد على المثنى. ومثال إطلاقه على الجمع إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ أي الأناسي. ومثال إطلاق المثنّى على المفرد أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ أي ألق في جهنم. ومن إطلاق المثنّى على المفرد كلّ فعل نسب إلى شيئين وهو لأحدهما فقط نحو يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ وإنّما يخرج من أحدهما وهو الملح دون العذب ونحو يؤمّكما أكبركما خطابا لرجلين ونظيره نحو وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً أي في أحدهن.
ومثال إطلاق المثنّى على الجمع ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ أي كرات لأنّ البصر لا يحسن إلّا بها. ومثال إطلاق الجمع على المفرد قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ أي أرجعني، ونحو وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ أي أنا. ومثال إطلاقه على المثنّى قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ونحو فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ أي أخوان ونحو صَغَتْ قُلُوبُكُما أي قلباكما ونحو فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما أي يديهما. ومنها إطلاق الماضي على المستقبل لتحقّق وقوعه نحو أَتى أَمْرُ اللَّهِ أي السّاعة بدليل فلا تستعجلوه ونحو وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ. وعكسه لإفادة الدوام والاستمرار فكأنّه وقع واستمر نحو ولقد نعلم أي علمنا. ومن لواحق ذلك التعبير عن المستقبل باسم الفاعل أو المفعول لأنّه حقيقة في الحال لا في الاستقبال نحو وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ ونحو ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ. ومنها إطلاق الخبر على الطلب أمرا أو نهيا أو دعاء مبالغة في الحثّ عليه حتى كأنّه وقع وأخبر عنه نحو وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ أي لا تنفقوا ونحو قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ أي اللهم اغفر لهم ونحو وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ. وعكسه نحو فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا أي يمدّ. ومنها وضع النداء موضع التعجّب نحو يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ونحو يا للماء ويا للدواهي. ومنها وضع جمع القلّة موضع الكثرة نحو وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ وغرف الجنّة لا يحصى. وعكسه نحو وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ. ومنها تذكير المؤنّث على تأويله بمذكر نحو وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً على تأويل البلدة بالمكان. ومنها تأنيث المذكّر نحو الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ أنّث الفردوس وهو مذكر حملا على معنى الجنّة.
ومنها التغليب وهو إعطاء الشيء حكم غيره ويجيء في محلّه. ومنها التضمين ويجيء أيضا في محله.
فائدة:
لهم مجاز المجاز وهو أن يجعل المأخوذ عن الحقيقة بمثابة الحقيقة بالنسبة إلى مجاز آخر فيتجوّز بالمجاز الأول عن الثاني لعلاقة بينهما كقوله تعالى وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا فإنّه مجاز عن مجاز فإنّ الوطء تجوّز عنه بالسّرّ لكونه لا يقع غالبا إلّا في السّر وتجوز به عن العقد لأنّه مسبّب عنه، فالمصحّح للمجاز الأول الملازمة وللثاني السّببية، والمعنى لا تواعدوهن عقدة نكاح كذا في الاتقان.
فائدة:
قد يكون اللفظ الواحد بالنسبة إلى المعنى الواحد حقيقة ومجازا لكن من جهتين فإنّ المعتبر في الحقيقة هو الوضع لغويا أو شرعيا أو عرفيا، وفي المجاز عدم الوضع في الجملة.
فإن اتفق في الحقيقة بأن يكون اللفظ موضوعا للمعنى بجميع الأوضاع المذكورة فهي الحقيقة المطلقة وإلّا فهي الحقيقة المقيّدة. وكذا المجاز قد يكون مطلقا بأن يكون مستعملا في غير الموضوع له بجميع الأوضاع وقد يكون مقيّدا بالجهة التي كان غير موضوع له بها كلفظ الصلاة فإنّه مجاز لغة في الأركان المخصوصة حقيقة شرعا كذا في التلويح.
فائدة:
الحقيقة لا تستلزم المجاز إذ قد يستعمل اللفظ في مسمّاه ولا يستعمل في غيره وهذا متفق عليه. وأمّا عكسه وهو أنّ المجاز هل يستلزم الحقيقة أم لا بل يجوز أن يستعمل اللفظ في غير ما وضع له ولا يستعمل فيما وضع له أصلا، فقد اختلف فيه. القول الثاني أقوى وذلك لأنّه لو استلزم المجاز الحقيقة لكان للفظ الرحمن حقيقة وهو ذو الرحمة مطلقا حتى جاز إطلاقه بغير الله تعالى. وقولهم رحمان اليمامة لمسيلمة الكذّاب نعت مردود وكذا نحو عسى وحبّذا من الأفعال التي لم تستعمل بزمان معين.
فإن قيل المجاز لغة قد يجيء شرعا أو عرفا.
قلت المراد العدم في الجملة وقد ثبت كذا في العضدي. ومن أمثلة المجاز العقلي الغير المستلزم للحقيقة جلس الدار وسير الليل وسير شديد على ما مرّ، ودليل الفريقين يطلب من العضدي. فائدة:
من الألفاظ ما هي واسطة بين الحقيقة والمجاز، قيل بها في ثلاثة أشياء. أحدها اللفظ قبل الاستعمال وهذا مفقود في القرآن ويمكن أن يكون أوائل السّور على القول بأنّها للإشارة إلى الحروف التي يتركّب منها الكلام. وثانيها اللفظ المستعمل في المشاكلة نحو وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ ذكره البعض وقال لأنّه لم يوضع لما استعمل فيه، فليس حقيقة ولا علاقة معتبرة فليس مجازا. قيل والذي يظهر أنّه مجاز والعلاقة المصاحبة. وثالثها الإعلام كذا في الاتقان. قال الآمدي الحقيقة والمجاز تشتركان في امتناع اتصاف الأعلام بهما كزيد وعمرو وفيه تأمّل لأنّ مثل السّماء والأرض والشمس والقمر وغير ذلك من الأعلام حقائق لغوية كما لا يخفى، اللهم إلّا أن تخصّ الأعلام بمثل زيد وعمرو وما يشبههما مما لم يثبت استعماله في اللّغة، وإنّما حدثت عند أهل العرب فتأمّل، كذا ذكر التفتازاني في حاشية العضدي. ووجه التأمّل أنّه لو أريد بأنّ مثل تلك الأعلام قبل الاستعمال واسطة فمسلّم ولا يجدي نفعا، ولو أريد أنّها بعد الاستعمال واسطة فممنوع لصدق تعريف الحقيقة عليها.
فائدة:
قد اختلف في أشياء أهي من المجاز أو الحقيقة وهي ستة. أحدها الحذف كما مرّ.
والثاني الكناية كما مرّ أيضا. والثالث الالتفات.
قال الشيخ بهاء الدين السّبكي لم أر من ذكر هل هو حقيقة أو مجاز، وقال وهو حقيقة حيث لم يكن معه تجريد. والرابع التأكيد، زعم قوم أنّه مجاز لأنّه لا يفيد إلّا ما أفاده الأول والصحيح أنّه حقيقة. قال الطرطوسي من سمّاه مجازا قلنا له: إذا كان التأكيد بلفظ الأول فإن جاز أن يكون الثاني مجازا جاز في الأول لأنّهما لفظ واحد، وإذا بطل حمل الأول على المجاز بطل حمل الثاني عليه لأنّه مثل الأول.
الخامس التشبيه زعم قوم أنّه مجاز والصحيح أنّه حقيقة. قال الزنجاني في المعيار لأنّه معنى من المعاني وله ألفاظ دالّة عليه وضعا فليس فيه نقل عن موضوعه. وقال الشيخ عزيز الدين إن كانت بحرف فهو حقيقة أو بحذف فهو مجاز بناء على أنّ الحذف من المجاز. والسادس التقديم والتأخير عدّه قوم من المجاز لأنّ تقديم ما رتبته التأخير كالمفعول وتأخير ما رتبته التقديم كالفاعل نقل لكلّ واحد منهما عن مرتبته وحقّه.
قال في البرهان والصحيح أنّه ليس منه فإنّ المجاز نقل ما وضع له إلى ما لم يوضع له كذا في الإتقان.
فائدة:
المجاز واقع في اللغة خلافا للاستاذ أبي إسحاق الأسفرايني قال لو كان المجاز واقعا للزم الاختلال بالتفاهم إذ قد يخفى القرينة.
وردّ بأنّه لا يوجب امتناعه وغايته أنّه استبعاد وهو لا يعتبر مع القطع بالوقوع لأنّا نقطع بأنّ الأسد للشجاع والحمار للبليد مجاز. نعم ربما يحصل به ظنّ في مقام التردّد. فإن قيل هو مع القرينة لا يحتمل غير ذلك فكان المجموع حقيقة فيه. أجيب بأنّ المجاز والحقيقة من صفات الألفاظ دون القرائن المعنوية فلا تكون الحقيقة صفة للمجموع. ولئن سلّم، لكن الكلام في جزء هذا المجموع فالنزاع لفظي.
وكذا المجاز واقع في القرآن وأنكره جماعة منهم الظاهرية وابن القاصّ من الشافعية وابن خويزمنداد من المالكية. وبناء الإنكار على ما هو أوهن من بيت العنكبوت حيث قالوا: لو وقع المجاز في القرآن لصحّ إطلاق المتجوّز عليه تعالى وهو مع كونه ممنوعا إذ لا بدّ لصحة الإطلاق من الإذن الشرعي عند الأشاعرة، ومن إفادة التعظيم عند جماعة، ومن عدم إيهام النّقص عند الكلّ منقوض بأنّه لو وقع مركّب في القرآن يصحّ إطلاق المركّب عليه، وإن شئت زيادة التحقيق فارجع إلى العضدي وحواشيه والأطول.

اللّف والنّشر

اللّف والنّشر:
[في الانكليزية]
Figure of speech consisting of naming many objects and accompanying everyone by an adequate adjective
[ في الفرنسية]
Figure de style qui consiste a nommer plusieur objets et a faire accompagner chacun d'un adjectif adequat
عند أهل البديع هو من المحسنات المعنوية وهو أن يذكر شيئان أو أشياء إمّا تفصيلا بالنص على كلّ واحد أو إجمالا بأن يؤتى بلفظ يشتمل على متعدّد، ثم يذكر أشياء على عدد ذلك، كلّ واحد يرجع إلى واحد من المتقدّم ولا ينصّ على ذلك الرجوع بل يفوّض إلى عقل السامع ردّ كل واحد إلى ما يليق به، وذكر الأشياء الأولى تفصيلا أو إجمالا يسمّى باللّف بالفتح وذكر الأشياء الثانية الراجعة إلى الأولى يسمّى بالنّشر. والتفصيلي ضربان لأنّ النشر إمّا على ترتيب اللّف بأن يكون الأول من النّشر للأول من اللّف والثاني للثاني، وهكذا على الترتيب كقوله تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ذكر الليل والنهار على التفصيل ثم ذكر ما للّيل وهو السكون فيه وما للنهار وهو الــابتغاء من فضل الله تعالى على الترتيب. وأمّا على غير ترتيب اللّف وهو ضربان لأنّه إمّا أن يكون الأول من النشر للآخر من اللّف والثاني لما قبله، وهكذا على الترتيب وليسم معكوس الترتيب كقوله تعالى: حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ قالوا متى نصر الله قول الذين آمنوا وألا إنّ نصر الله قريب قول الرسول أو لا يكون كذلك وليسم مختلط الترتيب كقولك هو شمس وأسد وبحر جود أو بهاء وشجاعة. والإجمالي كقوله تعالى: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى أي وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلّا من كان هودا وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلّا من كان نصارى، فلفّ بين القولين لثبوت العناد بين اليهود والنصارى، فلا يمكن أن يقول أحد الفريقين بدخول الفريق الآخر الجنة، فوثق بالعقل في أنّه يرد كلّ قول إلى فريقه لا من اللّبس، وقائل ذلك يهود المدينة ونصارى نجران. واندفع بهذا ما قيل لما كان اللّف بطريق الجمع كان المناسب أن يكون النّشر كذلك لأنّ ردّ السامع مقول كلّ فريق إلى صاحبه فيما إذا كان الأمران مقولين فكلمة أو لا يفيد مقولية أحد الأمرين، ووجه الدفع أنّ مقول المجموع لم يكن دخول الفريقين بل دخول أحدهما كما عرفت. وهذا الضرب لا يتصوّر فيه الترتيب وعدمه. قيل وقد يكون الإجمال في النّشر لا في اللّف بأن يؤتى بمتعدّد ثم بلفظ يشتمل على متعدّد يصلح لهما كقوله تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ على قول أبي عبيدة إنّ الخيط الأسود أريد به الفجر الكاذب لا الليل. وقال الزمخشري قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ من باب اللف وتقديره ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار إلّا أنّه فصل بين منامكم وابتغاؤكم بالليل والنهار لأنّهما زمانان، والزمان والواقع فيه كشيء واحد مع إقامة اللّف على الاتحاد. وهاهنا نوع آخر من اللّف لطيف المسلك بالنسبة إلى النوع الأول وهو أن يذكر متعدّد على التفصيل ثم يذكر ما لكل ويؤتى بعده بذكر ذلك المتعدّد على الإجمال ملفوظا أو مقدارا، فيقع النّشر بين لفّين أحدهما مفصّل والآخر مجمل، وهذا معنى لطف مسلكه وذلك كما تقول ضربت زيدا وأعطيت عمرا وخرجت من بلد كذا، وللتأديب والإكرام ومخافة الشر فعلت ذلك، هكذا يستفاد من الإتقان والمطول وحواشيه.

الجهاد

الجهاد
قوبل الدين الجديد بأعنف مظاهر المعارضة، واجتمع أعداؤه يريدون القضاء عليه، ويحاولون بكل ما أوتوا من قوة أن يخنقوه في مهده، وأن يبيدوا فكرته ومبادئه، ولم يقفوا عند حد الجدل اللسانى، أو المعارضة القولية، بل تعدوا ذلك إلى أشد ألوان الإيذاء، فحملوا بقسوة على من اعتنق هذا الدين الجديد، حتى أصبح مقامهم في وطنهم عبئا لا يحتمل، وجحيما لا يطاق، ففروا بدينهم إلى المدينة، وضحوا في سبيل عقيدتهم بأموالهم. وأهليهم، فكان من الطبيعى أن يسمح لمعتنقى هذا الدين الذى اتخذ شعاره: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (النحل 125). أن يعدوا العدة للدفاع عن أنفسهم، والدفاع عن عقيدتهم، حتى يتدبر الناس أمرها في حرية وأمن، ويتدبروا ما فيها من الحق والصواب، فيعتنقوها عن اقتناع، ويدخلوها مطمئنين، لا يخافون، وقد بين القرآن ذلك في قوله: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ (الحج 39، 40). وإن أحق ما يعطاه المظلوم من الحقوق الدفاع عن النفس، ليعيش آمنا في سربه، مطمئنّا إلى حياته، لا يخشى أحدا على نفسه ولا عقيدته، والجهاد هو الذى يدفع شرّة العدو، ويحول بينه وبين الاعتداء والتعدى، فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (النساء 84).
وإذا كان للجهاد، هذا الأثر القوى في تأمين الجماعة الناشئة على نفسها وعقيدتها، فلا جرم كان له مكانه الممتاز بين مبادئ هذا الدين وقواعده، حتى إنه لينكر أن يسوى به غيره مما لا يبلغ قدره وقيمته، فيقول: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (التوبة 19 - 22).
ويقول: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (النساء 95).
أرأيت هذا التكرير وما يحمله من معانى التوكيد، مثبتا في النفس فضل الجهاد وقدره وقيمته.
والقرآن يعترف بأن الجهاد فريضة ثقيلة على النفوس، لا تتقبله في يسر، ولا تنقاد إليه في سهولة، فهو يعلم ما لغريزة حب الذات من أثر قوى في حياة الإنسان وتوجيه أفعاله، ولذلك تحدث في صراحة، مقررا موقف النفس الإنسانية، من تلك الفريضة الشاقة، التى يعرض المرء فيها حياته لخطر الموت، وقد طبعت النفوس على بغضه وكراهيته، فقال كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (البقرة 216). ويقرر في صراحة أن نفوس المسلمين قد رغبت في أن تظفر بتجارة المكيين الآئبة من الشام، والتى يستطيعون الاستيلاء عليها من غير أن يريقوا دماءهم في قتال مرير مع القرشيين، إذ يقول: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (الأنفال 7).
وإذا كانت النفس الإنسانية تجد الجهاد فريضة شاقة، فقد جمع القرآن حولها من المغريات ما يدفع إلى قبولها قبولا حسنا، بل إلى حبها والرغبة فيها.
وإذا كان أول ما يثنى المرء عن الجهاد هو حبه للحياة وبغضه للموت، فقد أكد القرآن مرارا أن هذا الذى يقتل في سبيل الله حىّ عند ربه يرزق، وإن كنا لا نشعر بحياته ولا نحس بها، فقال: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (آل عمران 169 - 171). وإذا كان من يقتل في سبيل الله حيا يرزق، ويظفر بحياة سعيدة، فرحا بما أنعم الله به عليه، ولا يمسه خوف، ولا يدركه حزن، فلا معنى للإحجام عن الجهاد، حرصا على حياة لا تنقطع بالموت في ميدان القتال، ولا تنتهى بالاستشهاد، بل يستأنف صاحبها حياة أخرى آمنة، خالصة مما يشوب حياة الدنيا من القلق والمخاوف والأحزان.
ويمضى بعدئذ، غارسا في نفوسهم أن الموت قدر مقدور، لا يستطيع المرء تجنبه أو الهرب منه، فلا معنى إذا لتجنب الجهاد الذى لا يدنى الأجل، إذا كان في العمر فسحة، إذ الأجل لا يتقدم ولا يتأخر، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (الأعراف 34). فيقول: قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (الأعراف 34). ويقول: يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ (آل عمران 154). ويرد على أولئك الذين يزعمون الجهاد مجلبة للموت ردّا رفيقا حازما في قوله: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (آل عمران 167، 168). وإذا كان المرء يموت عند انقضاء أجله، فلا معنى كذلك للفرار من ميدان القتال خوفا من الموت إذ لا
شىء يحول بينهم وبينه إن كان أجلهم قد دنا، قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (الأحزاب 16، 17).
وإذا كانت الدنيا زائلة لا محالة والموت قادما لا ريب فيه، وإذا كان الباقى الدائم هو الدار الآخرة والجهاد وسيلة من وسائل السعادة في هذه الدار- كان العاقل الحازم هو هذا الذى يقبل على الجهاد بنفس راضية، مؤثرا ما يبقى على ما يزول قال سبحانه: فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (النساء 74). ويرد على هؤلاء الذين اعترضوا على فرض القتال بقوله: وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ (النساء 77، 78).
ويثير فيهم النخوة الإنسانية، وشهامة الرجولة، حينما يمثل لهم واجبهم المقدس إزاء إنقاذ قوم ضعاف يسامون الذل، ويقاسون الظلم، على أيدى قرية ظالم أهلها، فلا يجدون ملجأ يتجهون إليه سوى الله، يرجونه ويطلبون نصرته، أليس هؤلاء الضعاف أجدر الناس بأن يهب من لديهم نخوة لإنقاذهم من أيدى ظالميهم؟ قال سبحانه: وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (النساء 75).
ويمثلهم وأعداءهم معسكرين، أحدهما ينصر الله، وثانيهما ينصر الشيطان، أحدهما يدافع عن الحق، وثانيهما يدافع عن الباطل والغواية، والدفاع عن الحق من عمل الإنسان الكامل، أما الباطل فلا يلبث أن ينهار في سرعة، لأنه هشّ ضعيف، الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (النساء 76).
أما جزاء الجهاد فقد أعد الله للمجاهد مغفرة منه ورحمة خيرا مما يتكالب الناس على جمعه في هذه الحياة، وهيأ له جنات تجرى من تحتها الأنهار، فقد عقد معه عقد بيع وشراء، يقاتل في سبيله، فيقتل ويقتل، وله في مقابل ذلك جنة الخلد، ذلك عهد قد أكد الله تحقيقه في قوله: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (التوبة 111). وأكّد القرآن هذا، وكرره في مواضع عدة، فقال مرة: فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (آل عمران 195). وقال أخرى حاثا على الجهاد مغريا به: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (الصف 10 - 12).
ويشجعهم على تتبع أعدائهم بلا تباطؤ ولا وهن، مبينا لهم أن أعداءهم ليسوا بأسعد حالا منهم، فهم يتألمون مثلهم ثمّ هم يمتازون عليهم بأن لهم آمالا في الله، ورجاء في ثوابه وجنته، ما ليس لدى أعدائهم، ولذا كانوا أجدر منهم بالصبر، وأحق منهم بالإقدام، فيقول: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (النساء 104).
تلك هى المغريات التى بثها القرآن هنا وهناك، يحث بها على الجهاد، ويوطن النفس على الرغبة فيه والإقبال عليه، وأنت تراها مغريات طبيعية تدفع النفس إلى الإقدام على مواطن الخطر غير هيابة ولا وجلة، مؤمنة بأنه لن يصيبها إلا ما كتب الله لها، فلا الخوف بمنجّ من الردى، ولا الإحجام بمؤخر للأجل، مؤملة خير الآمال في حياة سعيدة قادمة، لا يعكر صوفها خوف ولا حزن.
وإذا كان الله قد حث النفس الإنسانية على الجهاد، وحببه إليها، فقد حذرها من الفرار من ميدان القتال تحذيرا كله رهبة وخوف، وإن الفرار يوم الزحف لجدير أن يظفر بهذا التهديد، لأنه يوهن القوى، ويفت في العضد، ويسلم إلى الانحدار، والهزيمة، فلا غرابة أن نسمع هذا الزجر العنيف في قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (الأنفال 15، 16).
ويشير القرآن إلى أن الإعداد للحرب وسيلة من وسائل تجنّبها، وهو من أجل ذلك يحث على إعداد العدة واتخاذ الأهبة، حتى يرهب العدو ويحذر، فيكون ذلك مدعاة إلى العيش في أمن وسلام، ويدعو القرآن إلى البذل في سبيل هذا الإعداد، حتى ليتكفل بوفاء النفقة لمن أنفق من غير ظلم ولا إجحاف به، والقرآن بتقرير هذا المبدأ عليم بالنفس الإنسانية التى يردعها الخوف فيثنيها عن الاعتداء، قال سبحانه: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (الأنفال 60).
وبهذه القوة التى أمرنا القرآن بإعدادها نرهب العدو، ونستطيع القضاء عليه، إذا هو حاول الهجوم، أو نقض عهدا كان قد أبرمه معنا، وبها نقلّم أظافره، فلا نغتر بما قد يبديه من خضوع، يخفى وراءه رغبة في الانقضاض إن واتته الفرصة، أو وجد عندنا غفلة، وبهذه القوة يشعر العدو بخشونة ملمسنا، وأننا لسنا لقمة سائغة الازدراء،
فالقتال مباح حتى يأمن سرب الجماعة، ويهدأ بالها، فلا تخشى هجوما ولا مباغتة، ولكن من غير أن تحملنا القوة على الزّهو فنعتدى، وبهذه القوة نقابل الاعتداء بمثله، من غير أن نظهر وهنا ولا استكانة يظنها العدو ضعفا، وبها نقضى على أسباب الفتنة، حتى تصبح حرّيّة العبادة مكفولة، وحرية العقيدة، موطدة الأركان، واستمع إلى هذه المبادئ القوية مصوغة في أسلوب قوى في قوله: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (البقرة 190 - 193).
وإِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (الأنفال 55 - 57)، وكَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (التوبة 7 - 15). يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (التوبة 123). فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (محمد 35).
ولم يدع القرآن بابا لتقوية الروح المعنوية لدى المسلمين إلا سلكه، ففضلا عن المغريات التى أسلفنا الحديث عنها، يؤكد لهم مرارا أن الله معهم، وأنه وعد من ينصره بالنصر المؤزر، ويطمئنهم بأنه يمدهم بالملائكة يساعدونهم ويشدون عضدهم، ويخبرهم بأنه ينزل السكينة على قلوبهم، والأمن على أفئدتهم، ويربط على قلوبهم ويثبت أقدامهم، وهو يعلم ما للإيمان الصادق، وما للروح المعنوية القوية من أثر بالغ في صدق الدفاع والنصر، ولهذا جعل المؤمن الصابر الصادق يساوى فى المعركة عشرة رجال، ثم رأى أن هذا الجندى المثالى قليل الوجود، فجعل المؤمن الواحد يساوى اثنين، فللقوة المعنوية أثرها الذى لا ينكر في ميدان القتال، واستمع إليه يقول: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (الأنفال 65).
ويقرر القرآن ما للرعب الذى يلقيه في قلوب أعدائهم من الأثر فيما يلحقهم من الهزائم، وفي كل ذلك تثبيت لقلوب المؤمنين، وتقوية لروحهم المعنوية.
هذا، ومن أهم ما عنى به القرآن وهو يصف القتال الناجح- وصفه المقاتلين يتقدمون إلى العدو في صفوف ملتحمة متجمعة، لا ثغرة للعدو ينفذ منها، ولا جبان بين الصفوف يتقدم في خوف ووهن، وذلك حين يقول: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (الصف 4). وفي كلمة البنيان والرصّ ما يصور لك صفوف المجاهدين يتقدمون في قوة وحزم، يملأ قلوبهم الإيمان، ويحدوهم اليقين.
كما عنى بالحديث عن الجند الخائن، وأن الخير في تطهير الجيش منهم، فهم آفة يبثون الضعف، ويبذرون بذور الوهن في النفس، ويقودون الجيش إلى الانهيار والهزيمة، وقد أطال القرآن في وصف هؤلاء الجند وتهديدهم وتحذير الرسول من صحبتهم، فقال مرة: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (النساء 72، 73). ويصفهم مهددا منذرا فى قوله: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (التوبة 81 - 87). ويبين أن الخير في عدم استصحابهم، فيقول: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (المائدة 47). وهذه النذر القوية تؤذن بما للجهاد من أثر في صيانة الدين، والتمكين له في الأرض.
الجهاد:
[في الانكليزية] Effort ،holywar ،struggle against the desires
[ في الفرنسية] Effort ،guerre sainte ،lutte contre les desirs
بالكسر في اللغة بذل ما في الوسع من القول والفعل كما قال ابن الأثير. وفي الشريعة قتال الكفار ونحوه من ضربهم ونهب أموالهم وهدم معابدهم وكسر أصنامهم وغيرها كذا في جامع الرموز. ومثله في فتح القدير حيث قال:
الجهاد غلب في عرف الشرع على جهاد الكفار وهو دعوتهم إلى الدين الحق وقتالهم إن لم يقبلوا، وهو في اللغة أعمّ من هذا انتهى.
والسّير أشمل من الجهاد كما في البرجندي.
وعند الصوفية هو الجهاد الأصغر. والجهاد الأكبر عندهم هو المجاهدة مع النفس الأمّارة كذا في كشف اللغات.

الْعِبَادَة

الْعِبَادَة: فعل الْمُكَلف على خلاف هوى نَفسه تَعْظِيمًا لرَبه. وَفِي التَّلْوِيح الْعِبَادَة فعل يباشره العَبْد بِخِلَاف هوى نَفسه ابْتِغَاء لمرضاة الله تَعَالَى. وَهِي على ثَلَاثَة أَنْوَاع بدني مَحْض كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْم، وَمَالِي مَحْض كَالزَّكَاةِ، ومركب مِنْهُمَا كَالْحَجِّ.
(الْعِبَادَة) الخضوع للإله على وَجه التَّعْظِيم والشعائر الدِّينِيَّة

النِّيَّة

(النِّيَّة) توجه النَّفس نَحْو الْعَمَل وَيُقَال فلَان نيتي قصدي وَالْحَاجة والبعد وَالْمَكَان الَّذِي يَنْوِي الْمُسَافِر إِلَيْهِ قَرِيبا كَانَ أَو بَعيدا وَيُقَال شطت بهم نِيَّة قذف رحْلَة بعيدَة ونووا نِيَّة قذفا مَكَانا بَعيدا
النِّيَّة: فِي اللُّغَة الْقَصْد يُقَال نوى يَنْوِي نِيَّة أَي قصد يقْصد قصدا وَأَيْضًا بِمَعْنى انبعاث الْقلب نَحْو مَا يرَاهُ مُوَافقا لغَرَض من جلب نفع أَو دفع ضرّ حَالا أَو مَآلًا وَفِي الشَّرْع قصد الطَّاعَة والتقرب إِلَى الله تَعَالَى فِي إِيجَاد الْفِعْل كَذَا فِي التَّلْوِيح - وَقَالَ القَاضِي الْبَيْضَاوِيّ إِنَّهَا شرعا إِرَادَة التَّوَجُّه نَحْو الْفِعْل ابْتِغَاء لوجه الله تَعَالَى وامتثالا لحكمه - فَإِن قيل هَذَا فِي التروك مُشكل - قُلْنَا الْإِشْكَال إِنَّمَا هُوَ إِذا كَانَ التّرْك بِمَعْنى الْعَدَم لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفعل فَلَا صِحَة للنِّيَّة بِالْمَعْنَى الْمَذْكُور إِلَيْهِ لَكِن التّرْك هَا هُنَا لكَونه مُكَلّفا بِهِ أَي مَأْمُورا بِهِ فِي النَّهْي بِمَعْنى الْكَفّ وَهُوَ فعل.
ثمَّ اعْلَم أَنه لَا ثَوَاب إِلَّا بِالنِّيَّةِ كَمَا مر فِي " إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ ". وَهِي لَيست بِشَرْط الصِّحَّة فِي الْوَسَائِل كَالْوضُوءِ وَالْغسْل وَمسح الْخُفَّيْنِ وَإِزَالَة النَّجَاسَة الْحَقِيقِيَّة عَن الثَّوْب وَالْبدن وَالْمَكَان والأواني. دون الْعِبَادَات فَإِنَّهَا شَرط لصحتها سوى الْإِسْلَام فَإِنَّهُ يَصح بِدُونِهَا. وَلذَا قَالُوا إِن إِسْلَام الْمُكْره صَحِيح وَالْكفْر لَا بُد فِيهِ من النِّيَّة فَهِيَ شَرطه فِيهِ لما قَالُوا إِن كفر الْمُكْره غير صَحِيح. - وَإِمَّا اشْتِرَاطهَا فِي التَّيَمُّم مَعَ أَنه من الْوَسَائِل فلدلالة قَوْله تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا} . لِأَن التَّيَمُّم بِمَعْنى الْقَصْد. - وَإِمَّا غسل الْمَيِّت فَهِيَ لَا تشْتَرط لصِحَّة الصَّلَاة عَلَيْهِ وَتَحْصِيل طَهَارَته بل إِنَّمَا هِيَ شَرط لإِسْقَاط الْفَرْض عَن ذمَّة الْمُكَلّفين وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُف رَحمَه الله تَعَالَى: إِن الغريق يغسل ثَلَاثًا. - وَفِي رِوَايَة عَن مُحَمَّد رَحمَه الله تَعَالَى أَنه لَو نوى عِنْد الْإِخْرَاج من المَاء يغسل مرَّتَيْنِ وَإِن لم ينْو فثلاثا - وَعَن أبي حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى أَنه يغسل مرَّتَيْنِ وَإِن لم ينْو فثلاثا. وَعَن أبي حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى أَنه يغسل مرّة وَاحِدَة كَذَا فِي فتح الْقَدِير. - فَإِن قيل: لم شرعت النِّيَّة وَمَا الْغَرَض مِنْهَا؟ قُلْنَا: تميز الْعِبَادَات من الْعَادَات وتميز بعض الْعِبَادَات عَن بعض وَهَذَا التميز هُوَ الْبَاعِث على شَرْعِيَّة النِّيَّة وَهُوَ الْغَرَض مِنْهَا.
أَلا ترى أَن الْإِمْسَاك عَن المفطرات قد يكون للحمية أَو للتداوي وَالْجُلُوس فِي الْمَسْجِد قد يكون للاستراحة وَدفع المَال قد يكون هبة لغَرَض دُنْيَوِيّ - وَقد يكون قربَة زَكَاة وَصدقَة - وَالذّبْح قد يكون للْأَكْل فَيكون مُبَاحا أَو مَنْدُوبًا. أَو للأضحية فَيكون عبَادَة. أَو لقدوم أَمِير فَيكون حَرَامًا. أَو كفرا على قَول فشرعت النِّيَّة لتمتاز الْعِبَادَة عَن الْعَادة - وَالْعِبَادَة أَي التَّقَرُّب إِلَى الله تَعَالَى تكون بِالْفَرْضِ وَالنَّفْل وَالْوَاجِب فشرعت لتميز بعض الْعِبَادَة عَن بعض.
وَيعلم من هَا هُنَا أَن مَا لَا يكون عَادَة أَو مَا لَا يلتبس بِغَيْرِهِ لَا يشْتَرط فِيهِ النِّيَّة كالإيمان بِاللَّه تَعَالَى والمعرفة وَالْخَوْف والرجاء وَالنِّيَّة وَقِرَاءَة الْقُرْآن والأذكار لِأَنَّهَا متميزة لَا تَلْتَبِس بغَيْرهَا - وَذكر ابْن وهبان أَن مَا لَا يكون إِلَّا عبَادَة لَا يحْتَاج إِلَى النِّيَّة وَأَن النِّيَّة لَا تحْتَاج إِلَى النِّيَّة - وَأَيْضًا ذكر الْعَيْنِيّ فِي شرح البُخَارِيّ الْإِجْمَاع على أَن التِّلَاوَة والأذكار وَالْأَذَان لَا تحْتَاج إِلَى نِيَّة وَأَن النِّيَّة لَا تحْتَاج إِلَى النِّيَّة - وَأَنت تعلم أَن جَمِيع هَذَا متفرع على مَا ذكرنَا من التميز الْمَذْكُور. فَإِن قيل أَلا بُد من تعْيين الْمَنوِي أم يَكْفِي مُطلق النِّيَّة قلت فِي بعض الْعِبَادَات يَكْفِي مُطلق النِّيَّة وَفِي بَعْضهَا لَا بُد من تعينها.
وَالتَّفْصِيل أَن الْمَنوِي إِمَّا من الْعِبَادَات. أَو من الْعَادَات. أما على الثَّانِي فَلَا يكون مَا يحْتَمل أَن يكون عَادَة عبَادَة إِلَّا بِتَعْيِين النِّيَّة. وَأما على الأول فوقته إِمَّا ظرف للمؤدي أَو معيار لَهُ أَو مُشكل - فَإِن كَانَ ظرفا فَلَا بُد من التَّعْيِين كَانَ يَنْوِي الْفجْر. وعلامة حُصُول التَّعْيِين للصَّلَاة أَن يكون الْمُصَلِّي بِحَيْثُ لَو سُئِلَ أَي صَلَاة يصلى يُمكنهُ أَن يُجيب بِلَا تَأمل وتدبر - وَإِن كَانَ معيارا فالتعيين لَيْسَ بِشَرْط فِيهِ كَالصَّوْمِ فِي رَمَضَان - فَإِن كَانَ الصَّائِم صَحِيحا مُقيما يَصح بِمُطلق النِّيَّة وبنية النَّفْل وبنية وَاجِب آخر لِأَن التَّعْيِين فِي الْمُتَعَيّن لَغْو وَإِن كَانَ مَرِيضا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ - وَالصَّحِيح وُقُوعه عَن رَمَضَان سَوَاء نوى وَاجِبا آخر أَو نفلا. وَأما الْمُسَافِر فَإِن نوى عَن وَاجِب آخر وَقع عَمَّا نَوَاه لَا عَن رَمَضَان - وَفِي النَّفْل رِوَايَتَانِ وَالصَّحِيح وُقُوعه عَن رَمَضَان - وَإِن كَانَ مُشكلا فيكفيه مُطلق النِّيَّة كَالْحَجِّ فَإِن وقته مُشكل لِأَنَّهُ يشبه المعيار بِاعْتِبَار أَنه لَا يَصح فِي السّنة إِلَّا حجَّة وَاحِدَة والظرف بِاعْتِبَار أَن أَفعاله لَا تستغرق وقته فيطلب بِمُطلق النِّيَّة نظرا إِلَى المعيارية وَإِن نوى نفلا وَقع عَمَّا نوى نظرا إِلَى الظَّرْفِيَّة. هَذَا فِي الْأَدَاء وَأما فِي الْقَضَاء فَلَا بُد من التَّعْيِين صَلَاة أَو صوما أَو حجا.
وَاعْلَم أَن الْعتْق لَيْسَ بِعبَادة عندنَا وضعا بِدَلِيل صِحَّته من الْكَافِر وَلَا عبَادَة لَهُ فَإِن نوى وَجه الله تَعَالَى كَانَ عبَادَة مثابا عَلَيْهِ. وَإِن أعتق بِلَا نِيَّة صَحَّ وَلَا ثَوَاب. وَالْوَصِيَّة وَالْوَقْف كَالْعِتْقِ. وَأما الْجِهَاد فلكونه من أعظم الْعِبَادَات لِأَن فِيهِ اخْتِيَار الفناء على الْبَقَاء لَا بُد لَهُ من خلوص النِّيَّة. وَأما النِّكَاح فلكونه أقرب إِلَى الْعِبَادَة حَتَّى قَالُوا إِن الِاشْتِغَال بِهِ أفضل من الِاشْتِغَال بمحض الْعِبَادَة يحْتَاج إِلَى النِّيَّة لَكِن لتَحْصِيل الثَّوَاب وَهِي أَن يقْصد إعفاف نَفسه وتحصينها وَحُصُول الْوَلَد لَا لصِحَّته. وَلِهَذَا قَالُوا يَصح النِّكَاح مَعَ الْهزْل لَكِن قَالُوا لَو عقد بِلَفْظ لَا يعرف مَعْنَاهُ فَفِيهِ خلاف وَالْفَتْوَى على صِحَّته علم الشُّهُود أَولا.
فَإِن قيل إِن الْهِبَة وَالطَّلَاق الصَّرِيح وَالْعتاق مُشْتَركَة فِي عدم التَّوَقُّف على النِّيَّة فَلم افترق الْهِبَة عَنْهُمَا فِي الْإِكْرَاه بِأَنَّهُ لَو أكره على الْهِبَة لم تصح بِخِلَاف الطَّلَاق وَالْعتاق فَإِنَّهُمَا لَو أكره عَلَيْهِمَا يقعان. قُلْنَا لِأَن الرِّضَا شَرط فِي صِحَة الْهِبَة دون الطَّلَاق وَالْعتاق. فَإِن قيل لَو لقن الْهِبَة وَلم يعرفهَا لم تصح. فَيعلم من هَا هُنَا أَن النِّيَّة شَرط فِيهَا. قُلْنَا عدم صِحَة الْهِبَة حِينَئِذٍ لَيْسَ لاشْتِرَاط النِّيَّة فِيهَا بل لفقدان شَرطهَا وَهُوَ الرِّضَا. وَالطَّلَاق الصَّرِيح وَالْعتاق يقعان بالتلقين مِمَّن لَا يعرفهما لِأَن الرِّضَا لَيْسَ بِشَرْط فيهمَا. وَلَا بُد أَن تعلم أَن الزَّوْج لَو كرر مسَائِل بحضرتها وَيَقُول فِي كل مرّة أَنْت طَالِق لم يَقع وَلَو كتب امْرَأَتي طَالِق وَقَالَت لَهُ اقْرَأ عَليّ فَقَرَأَ عَلَيْهَا لم يَقع عَلَيْهَا لعدم قَصدهَا بِاللَّفْظِ كَمَا لَا يخفى. 

اللف والنشر

اللف والنشر: أَن يلف شَيْئَانِ مثلا أَولا ثمَّ يردفا بتفسيرهما أَو بِمَا يناسبهما جملَة اعْتِمَادًا على أَن السَّامع الفطن يرد إِلَى كل مِنْهُمَا مَا هُوَ لَهُ فَإِن كَانَ على التَّرْتِيب بِأَن كَانَ الأول للْأولِ وَالثَّانِي للثَّانِي وَهَكَذَا فاللف والنشر على التَّرْتِيب وَإِلَّا فعلى غير التَّرْتِيب كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَمن رَحمته جعل لكم اللَّيْل وَالنَّهَار لتسكنوا فِيهِ ولتبتغوا من فَضله} . فَإِنَّهُ تَعَالَى ذكر اللَّيْل وَالنَّهَار على التَّفْصِيل ثمَّ ذكر مَا لِليْل وَهُوَ السّكُون فِيهِ وَمَا للنهار وَهُوَ الــابتغاء من فضل الله على التَّرْتِيب وَللَّه در الفردوسي الطوسي حَيْثُ قَالَ:
(بروز نبر دآن يل ار جمند ... بشمشير وخنجربكرز وكمند)
(دُرَيْد وبريد وشكست وببست ... يلان راسر وسينه وباودس)

المسجد الضرار

المسجد الضرار: مسجد اتّخذه المنافقون ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله فيه: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة:108] فهدمه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحرقه فهو مسجدٌ خاص، نعم يُلحق به في الذمَّ وعدم الثواب كل مجسد بُني مباهاة أو رياء أو سمعة أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله تعالى، أو بمال غير طيب كذا في المدارك لكن ليس هو مسجد ضرار حقيقة حتى يهدم ويحرق والله أعلم.

الطَّرِيق

(الطَّرِيق) المطروق والممر الْوَاسِع الممتد أوسع من الشَّارِع ومسلك الطَّائِفَة من المتصوفة (ج) طرق
و (طرق الطعْن) (فِي قانون المرافعات) الْوَسَائِل القضائية الَّتِي يلجأ إِلَيْهَا الْمَحْكُوم عَلَيْهِ ابْتِغَاء إِلْغَاء الحكم أَو تعديله (مج)
الطَّرِيق: مَا يُمكن التَّوَصُّل بِصَحِيح النّظر فِيهِ إِلَى الْمَطْلُوب وَهُوَ على نَوْعَيْنِ طَرِيق لمي وَطَرِيق أَنِّي وتعريفاهما فِي الدَّلِيل وَعند أهل الْحَقَائِق عبارَة عَن أوَامِر اسْم الله تَعَالَى وَأَحْكَامه التكليفية المشروعية الَّتِي لَا رخصَة فِيهَا.
الطَّرْد فِي الْمَشْهُور التلازم فِي الثُّبُوت وَالتَّفْصِيل فِي الاطراد وَفِي الأَصْل الطَّرْد وجوب الحكم بِوُجُود الْعلَّة وَلَا شكّ أَن اللَّازِم الْمَذْكُور لَازم لذَلِك الْوُجُوب فَمَا هُوَ الْمَشْهُور أَن الطَّرْد هُوَ التلازم الْمَذْكُور تَفْسِير باللازم.

الْحَمد

الْحَمد: فِي اللُّغَة هُوَ الْوَصْف بالجميل على الْجَمِيل الِاخْتِيَارِيّ على جِهَة التَّعْظِيم والتبجيل -. وَبِعِبَارَة أُخْرَى هُوَ الثَّنَاء بِاللِّسَانِ على قصد التَّعْظِيم وَهَذَا هُوَ الْحَمد القولي -. وَفِي الْعرف فعل يُنبئ عَن تَعْظِيم الْمُنعم بِسَبَب كَونه منعما فعل قلب أَو لِسَان أَو جارحة. وَحَقِيقَة الْحَمد عِنْد الصُّوفِيَّة إِظْهَار الصِّفَات الكمالية وَمن هَذَا الْقَبِيل حمد الله تَعَالَى - وَالْحَمْد الْفعْلِيّ هُوَ الْإِتْيَان بِالْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّة ابْتِغَاء لوجه الله تَعَالَى - وَالْحَمْد الحالي هُوَ الَّذِي يكون بِحَسب الرّوح وَالْقلب كالاتصاف بالكمالات العلمية والعملية والتخلق بالأخلاق الإلهية.
وَاعْلَم أَن الْحَمد وَالصَّلَاة واجبان شرعا وعقلا. إِمَّا شرعا فَلقَوْله تَعَالَى: {فسبح بِحَمْد رَبك} {وَقل الْحَمد لله وَسَلام على عبَادَة الَّذين اصْطفى} و {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا صلوا عَلَيْهِ وسلموا تَسْلِيمًا} . وَإِمَّا عقلا فَإِن شكر الْمُنعم وَاجِب لدفع الضَّرَر وجلب النَّفْع واستفاضة الْقَابِل من المبدأ يتَوَقَّف على مُنَاسبَة بَينهمَا وَالنَّفس الإنسانية منغمسة فِي العلائق الْبَدَنِيَّة ومكدرة بالكدورات الطبيعية والحكيم الْعَلِيم المفيض عَن اسْمه فِي غَايَة النزاهة مِنْهُمَا لَا جرم وَجَبت الِاسْتِعَانَة فِي استفاضة الكمالات من حَضرته تَعَالَى بمتوسط ذِي جِهَتَيْنِ حَتَّى يقبل الْفَيْض مِنْهُ تَعَالَى بِجِهَة التجرد وَيفِيض علينا بِجِهَة التَّعَلُّق فَلذَلِك يجب التوسل فِي استحصال الْكَمَال خُصُوصا الْحِكْمَة النظرية والعملية إِلَى الْمُؤَيد لتأييدات. مَالك أزمة الكمالات. بِأَفْضَل الْوَسَائِل وَهُوَ إهداء الصَّلَاة. بإلي جناب خَاتم الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِ الصَّلَاة ولاسلام. وَكَذَا الْحَال بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآل وَالْأَصْحَاب فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لعلو جنابه وتقدس ذَاته لَا بُد لنا فِي الاستفاضة مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام من الوسائط. وَقَوْلنَا: على جِهَة التَّعْظِيم أَو التبجيل احْتِرَاز عَن الْوَصْف الْمَذْكُور بطرِيق السخرية والاستهزاء. وخصص بَعضهم النِّعْمَة بالواصلة إِلَى الحامد فِي الْحَمد الاصطلاحي وعممها بَعضهم. وَالْحَمْد والمدح بعد اتِّفَاقهمَا فِي جَوْهَر الْحُرُوف مُخْتَلِفَانِ بِأَن الْحَمد مُخْتَصر بالمحمود عَلَيْهِ الِاخْتِيَارِيّ والمدح أَعم وَلم يثبت الْمَدْح الاصطلاحي لأَنهم لم يتفقوا على معنى للمدح حَتَّى يكون معنى اصطلاحيا. وَبَين الْحَمد اللّغَوِيّ والمدح عُمُوم مُطلق لجَوَاز أَن يَقع الْمَدْح على الْجَمِيل الْغَيْر الِاخْتِيَارِيّ مثل مدحت اللُّؤْلُؤ على صفائه.
وَمعنى الشُّكْر اللّغَوِيّ عين معنى الْحَمد الاصطلاحي بِشَرْط تَعْمِيم النِّعْمَة بالواصلة وَغَيرهَا. وَالشُّكْر فِي الِاصْطِلَاح صرف العَبْد على جَمِيع مَا أنعم الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ فَإِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أعْطى الْعقل ليصرف النّظر فِي مطالعة المصنوعات اسْتِدْلَالا على وجود الصَّانِع. وَبَين الْحَمد اللّغَوِيّ وَالْحَمْد الاصطلاحي عُمُوم من وَجه. وَبَين الْحَمد الاصطلاحي وَالشُّكْر اللّغَوِيّ ترادف إِن عممت النِّعْمَة وَأما إِن خصصت بالواصلة فعموم مُطلق. وَلما كَانَ بَين الْحَمد اللّغَوِيّ وَالْحَمْد الاصطلاحي عُمُوم من وَجه - وَبَين الْحَمد الاصطلاحي وَالشُّكْر اللّغَوِيّ ترادف يكون بَين الْحَمد اللّغَوِيّ وَالشُّكْر اللّغَوِيّ عُمُوم من وَجه - وَبَين الشُّكْر اللّغَوِيّ وَالشُّكْر الاصطلاحي عُمُوم مُطلق أَيْضا - وَبَين الْحَمد اللّغَوِيّ وَالشُّكْر الاصطلاحي تبَاين.
والمصنفون يَقُولُونَ الْحَمد لله امتثالا لما رُوِيَ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كل أَمر ذِي بَال لم يبْدَأ بِحَمْد الله فَهُوَ أقطع. قيل الْحَمد لله إِخْبَار عَن حُصُول الْحَمد والإخبار عَن الشَّيْء لَيْسَ ذَلِك الشَّيْء فَلَا يحصل الِامْتِثَال بِهِ. وَأجِيب بِأَنا لَا نسلم أَنه إِخْبَار بل إنْشَاء فَإِن صِيغ الْإِخْبَار قد تسْتَعْمل فِي الْإِنْشَاء كَقَوْلِك بِعْت واشتريت فِي إنْشَاء البيع وَالشِّرَاء. وَلَو سلم فَلَا نسلم أَن الْإِخْبَار عَن الشَّيْء لَيْسَ ذَلِك الشَّيْء مُطلقًا وَإِنَّمَا يكون كَذَلِك لَو لم يكن الْإِخْبَار من جزئيات مَفْهُوم الْمخبر عَنهُ. أما إِذا كَانَ كَذَلِك فَلَا كَمَا فِي قَوْلنَا الْخَبَر يحْتَمل الصدْق وَالْكذب وَكَون الْإِخْبَار فِيمَا نَحن فِيهِ من هَذَا الْقَبِيل ظَاهر لصدق تَعْرِيف الْحَمد عَلَيْهِ بل هُوَ حمد إجمالي مُحِيط لجَمِيع أَفْرَاد الْحَمد فَافْهَم واحفظ.
(الْحَمد) الثَّنَاء بالجميل ويوصف بِهِ فَيُقَال رجل حمد وَامْرَأَة حمد وحمدة ومنزل حمد ومنزلة حمد مَحْمُود أَو محمودة وَيُقَال حمدك أَن تفعل كَذَا حماداك

الحمد القولي

الحمد القولي: حمد اللسان وثناؤه على الحق بما أثنى به على نفسه على لسان أنبيائه ورسله.
الحمد الفعلي الإتيان بالأعمال البدنية ابتغاء لوجه الله.

عجزف

[عجزف] نه: فيه: لا تدبروا "أعجاز" أمور قد ولت صدورها، هي جمع عجز وهو مؤخر الشيء أي أواخر الأمور وصدورها أوائلها، يحرض على تدبر عواقب الأمور قبل الدخول فيها ولا تتبع عند توليها وفواتها. ومنه ح على: لنا حق إن نعطه نأخذه وإن نمنعه نركب "أعجاز" الإبل وإن طال السري، الركوب على أعجاز الإبل شاق، أي إن منعنا حقنا ركبنا مركب المشقة صابرين عليها وإن طال

النّيّة

النّيّة:
[في الانكليزية] Intention ،purpose
[ في الفرنسية] Intention ،dessein
بالكسر وتشديد الياء لغة عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض من جلب نفع أو دفع ضرر حالا أو مآلا، والشرع خصّصها بالإرادة المتوجّهة نحو الفعل ابتغاء لوجه الله أو امتثالا لحكمه. فمن فعل نائما أو غافلا ففعله معطّل مهمل يماثل أفعال الجماد.
ومن أتى طاعة رياء أو طمعا في عطاء دنيوي أو توقّعا لثناء عاجل أو تخلّصا عن تعنيف الناس فهو مزوّر، كذا قال البيضاوي. وقيل النّيّة لغة العزم وشرعا القصد إلى الفعل لله تعالى. وقيل النّيّة عزم القلب إلى الشيء فهما أي النية والعزم متحدان معنى. فالنية عبارة عن توجّه تام قلبي بحيث يستقرّ القلب على أمر. وقيل النّيّة عبارة عن استقرار القلب على أمر مطلوب وتوجّه تام وميل كمال بطريق القصد إلى أمر مطلوب، فهذا احتراز عن التوجّه الذي صدر عن رجل مثلا أن ينتقل من مكان إلى مكان فإنّ هذا الانتقال لا يسمّى نيّة بل توجّها وميلا، وكذا الأكل والشرب بطريق العادة. وقيل ينفسخ النية كقول علي: كرم الله وجهه: عرفت الله بفسخ العزائم. وقيل النّيّة شرعت تمييزا للعبادة عن العادة، هكذا يستفاد من العيني والكرماني والعارفية. وفي الصّحائف: يقول في الصحيفة الثالثة: النّيّة هي الإرادة الباعثة للقدرة المنتهضة عن المعرفة. وهي على ثلاث مراتب:

الأولى: الصافية وهي التي باعثها فقط لقاء الله.

الثانية: الكدرة وهي التي باعثها الرّياء وطلب الجاه والدنيا.

والثالثة: الممتزجة وهي مراتب مختلفة.
(ولكلّ درجات ممّا عملوا).

علم شرح الحديث

علم شرح الحديث
هو: من فروع الحديث اعتنى العلماء بجمع حديث الأربعين وشرحه لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حفظ على أمتي أربعين حديثا من السنة كنت له شفيعا يوم القيامة".
وفي رواية: "من حمل عني من أمتي أربعين حديثا لقي الله عز وجل يوم القيامة فقيها عالماً".
وفي رواية: "من تعلم أربعين حديثا ابتغاء وجه الله تعالى ليعلم به أمتي في حلالهم وحرامهم حشره الله - سبحانه وتعالى - يوم القيامة عالما. انتهى ما في كشف الظنون أقول وهذا الحديث من جميع طرقه ضعيف عند محققي أهل الحديث لا يعتمد عليه ولا يصير إليه إلا من لم يرسخ في علم الحديث قدمه.
وقد تكلمنا عليه في غير هذا الموضع ولا يختص شرح الحديث بشرح أربعين حديثا بل كل من شرح كتابا من كتب السنة المطهرة وأتى بما ينبغي له وقضى حقه فقد شرح الحديث كما فعلنا في مسك الختام شرح بلوغ المرام وفي عون الباري لحل أدلة البخاري وكما فعل قبلنا جماعة من الأئمة الحفاظ يطول ذكرهم.
منها فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ الإمام الحجة ابن حجر العسقلاني.
ونيل الأوطار شرح منتقى الأخبار لشيخنا المجتهد القاضي محمد بن علي الشوكاني رضي الله عنهما.
قال في مدنية العلوم: علم شرح الحديث علم باحث عن مراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحاديثه الشريفة بحسب القواعد العربية والأصول الشرعية بقدر الطاقة البشرية ونفعه وغايته بمكان لا يخفى على إنسان والكتب المصنفة فيه أكثر من أن تحصى.
وأشهرها شروح البخاري للكرماني والبرماوي وابن الملقن والعيني والحافظ ابن حجر والكوراني والسيوطي وغير ذلك وشرح مسلم النووي والسيوطي وشروح المصابيح للخلخالي والتوريشتي ومظهر وزين العرب وغير ذلك.
ومن شروح المشارق المبارق وشرح صاحب القاموس وشرح أكمل الدين وشرح ابن الملك وغير ذلك انتهى
قلت: وقد استوفيت شروح الكتب الحديثة في كتابي إتحاف النبلاء تحت ذكر المتون فارجع إليه.

نمو ونمى

نمو ونمى: نمى الرجل إلى أبيه نسبه إليه: جاءت في (محيط المحيط)، ولكن يقال، أيضا، نمى لفلان أي انتسب له وفي (ابن حيان 64):
بنو قحطان للإذواء تنمى ... وينمى العبد منهم للعبيد
أو نمى في قبيلة (عباد 1: 50) (انظر انتمى). وكذلك نما هم نسب إلى ماء السماء (عباد 2: 132).
نمى: ولد، نتج (فهرست المخطوطات، ليدن 1: 227)، حيث يكون معنى من نماهم من ولدهم أو أسلافهم (عباد 1: 50):
نمى في حمير ونمتك لخم ... وتلك وشائج فيها التحام (قرطاس 3: 185):
فاقسم أنا والبرابر اخوة ... نمانا وهم جد كريم المناسب
هكذا ينبغي، وفقا لمخطوطتنا، أن تقرأ الجملة بدلا من ثمانا.
تنميته للأموال: موهبته في استثماره ماله (البربرية 1: 433).
أنمى: تكاثر، أزداد بالتناسل (بوشر).
أنمى: قدمه، دفعه إلى الأمام، حثه على التقدم، نهض به (بوشر).
تنمى: أنظرها عند (فوك) في مادة multiplicare.
انتمى: لا يقال انتمى إلى فلان فقط حين يراد القول بما بمعناه انتسب إليه، بل، أيضا، انتمى له (فوك) (الحماسة 80: 6): ويقال أيضا انتمى في القبيلة (بسام 1: 145): وينتمي في غسان (ابن الابار 62). وكذلك انتمى لفلان بالولاء أن هو من أنصار حزبه أو هو ممن في كنفه (بسام 1: 24): وبنو برد ينتمون لبني شهيد بالولاء أو لولاء فلان (حيان -بسام 3: 3): وانتمت جماعة هذه الأصناف الممتهنة الأصاغر معهم إلى ولاء بني عامر انتفت عن نسبها ابتغاء عرض الدنيا. وعند (بوشر): انتمى إلى باب ادعى بانتسابه إلى فلان، ادعى صداقة فلان أو قرابته منه.
انتمى إلى: ارتبط، تعلق ب .. تفانى في خدمة فلان (دي ساسي كرست 1: 6): وخرج بغداد يريد الانتماء إلى الدولة الفاطمية بالقاهرة. وفي (139: 12): من يلوذ به وينتمي إليه (فريتاج كرست 120: 30): وكان القمص صاحب طبرية قد انتمى إلى السلطان لخلف جرى بينه وبين الفرنج (أماري 122: 10): وقصدي الانتماء إليك؛ وكذلك انتمى إلى خدمة فلان (دي يونج الذي لم يحسن توضيح هذا التعبير). وفي (ابن جبير 287): المنتمون للطلب، أي الذين كرسوا أنفسهم للطلب اخلصوا للدراسة.
نماء: نتاج الأرض (انظر مثلين في مادة حلال).
نام: كبير، وفير، غزير (مرسنج 86): كان على حظ نام من .. الخ.
نام: منسق، مرتب، منظم (في الحديث عن الجسم أو المادة)، وكذلك ذوات الأعضاء أو النوامي organise الذي يحمل، في ذاته أو طبيعته، بذرة المجهول أو سر الحياة (بوشر).
القوة النامية: أي القدرة على التكاثر (بوشر). والنامية التي وردت في (المقدمة 2: 334)، و (1: 16 دي سلان)، وقصد بها القدرة على التغذي.
النفس النامية: أي الروح التي تتعلق بالمقدور الإنباتي التي تؤمن الغذاء الحيوي وتنمي النباتات.
النوامي: الشطان أو الأفراخ أو الأغصان التي تتعلق بالجذور المزروعة (ابن العوام 1: 13: 155: 3 و181: 16: 319: 3).
أنمى: أكثر نموا، وأغرز إنتاجا (معيار 7: 2).

ثَقِفْتُمُوهُمْ

{ثَقِفْتُمُوهُمْ}
وسأل نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {ثَقِفْتُمُوهُمْ}
فقال ابن عباس: وجدتموهم. سأله نافع: وهلٍ تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول حسان:
فإمَّا تَثْقَفَنَّ بَنى لُؤَىًّ. . . جُذَيْمةَ إنَّ قتلتهمُ دواءُ
= الكلمة من آيتى: البقرة 191:
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
والنساء 91: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا}

ومعهما الفعل الماضي مبيناً للمجهول في آيتى: آل عمران 112 في الفاسقين من أهل الكتاب {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا}
والأحزاب 61: في المنافقين والذين في قلوبهم مرض والمرجفين في المدينة {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا}
وجاء الفعل مضارعاً، في آيتى:
الأنفال 57: {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}
والممتحنة 2: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَــابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} .
وهذه الكلمات الست، هي كل ما في القرآن من المادة.
حرصتُ على نقل آياتها جميعاً، ليتضح سياقها في القتال، والعداوة. فتفسيُرها بـ: وجدتموهم، لا يفوتنا معه ملحظ اختصاص الكلمة بهذا السياق، في كل آياتها بالقرآن، وكذلك في الشاهد الشعري من همزية حسان - رضي الله عنه -. وقد فسرها الطبري - ولم يذكر فيها خلافاً - بـ: اقتلوهم حيث أصبتم مقاتلهم وأمكنكم قتلهم. وهو معنى {حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} ومعنى الثقفة بالأمر الحذق به والبصر. يقال: إنه تقِف لقِف. إذا كان جيد الحذر بصيراً بمواقع القتل. فأما التثقيف فمعنى غير هذا وهو التقويم. فمعنى الآية، اقتلوهم في أي مكان تمكنتم من قتلهم وأبصرتم مقاتلهم (2 / 111 البقرة) ومعنى الكلمة عند الفراء: اسرتهم (1 / 414)
وردَّ "الراغب" الكلمة في آيات آل عمران والأنفال والأحزاب، إلى معنى الحِذق والإدراك (المفردات) .
وابن الأثير فسرها بالفطنة والذكاء في حديث الهجرة: "وهو غلام لِقنٌ ثقف" وفي حديث أم حكيم بنت عبد المطلب: "إني حصانٌ فما أُكَلَّم، وثقاف فما أعلَّمُ" وأخذه من التثقيف والإصلاح في قول السيدة عائشة أم المومنين تصف أباها: "وأقام أًوْدّها بثقافِه" تعني أنه سوَّى عوج المسلمين، وأما في حديث: "إذا ملك اثنا عشر من بني عمرو بن كعب كان الثقف والثقاف" ففسرهما ابن الأثير بالخصام والجلاد (النهاية) . والعربية تعرف في المادة معنى الفطنة، في الثقافة بمعنى الحذق. وتقول: ثَقِفَ فلاناً، إذا أخذه وظفر به أو أدركه. كما تعرف الثَّقاف بمعنى الخصام والجلاد، مأخوذاً من الثقاف: ما تُسوى به الرماحُ تهيئة للجِلاد (ص، س، ق)
وغير بعيد أن نلمح في آيات (ثقف) في القرآن، دلالة فطنة المأخذ وإدراك العدو وجلاده. ويتضح الفرق بينها وبين (وجد) إذا ذكرنا مع ما تقدم من استقراء لمواضع استعمال الكلمة في سياق العداوة والقتال، أن القرآن وإن استعمل (وجد) في السياق نفسه، في آيتى: النساء في المنافقين {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} 89
والتوبة في المشركين: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 5
إلا أن "وجد" تأتي كثيراً في البيان القرآني في غير هذا السياق، أذكر منها آيات الضحى خطاباً للرسول عليه الصلاة والسلام:
{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى}
ص 44، في أيوب: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}
طه 10: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى}
يوسف 94: {قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ}
الكههف 37: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا}
الجن 22: {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا}
المزمل 20: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} والبقرة 110.
مما يؤنس إلى أن (وجد) أعم في الدلالة من (ثقف) التي تأخذ في العربية دلالة الثقافة والثقاف، وتأتي في البيان القرآني بملحظٍ من فطنة للعدو، وبصرٍ بموضعه ومأخذه. . . والله أعلم.

أَلِيمٌ

{أَلِيمٌ} :
وسأله عن معنى قوله تعالى: {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
قال: الوجيع، واستشهد بقول الشاعر:
نام من كان خِليّاً من ألم. . . وبقِيتُ الليلَ طولاً لم أنمْ
(تق، ك، ط)
وفي (ظ، وق) المسألة عن قوله - عز وجل -: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} ما الألم؟ قال: الوجع.
واستشهد في (ظ) بقول الحارث بن حلزة اليشكرى:
أَلِمُوا القتلَ حين دارت رَحاهُمْ. . . ورَحانا على عِنان الدماءِ
وشاهده في (وق) قول الأعشى:
لا نَقِيهم حَدَّ السلاح ولا نأ. . . لم جرحا، ولا نبالي السهاما
= الكلمة في الرواية الأولي من آيات:
التوبة 61: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . وإبراهيم 22، والنور 16، والعنكبوت 223 والشورى 21، 42 ومعها: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
في آيات: البقرة 10، 104، 178، وآل عمران 77، 177، 188، والمائدة 36، والتوبة 79، والنحل 63، 104، 117، والحشر 15، والتغابن 5. . . في ثمان وستين آية، وصف فيها عذاب والعذاب، بعذاب أليم، من عذاب أليما، العذاب الأليم.
وأما الرواية في (ظ، وق) : {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ} .
فمن آية النساء 104:
{وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}
لم يأت في غيرها، أيُّ فعلٍ من الألم.
وأقوال اللغويين والنمفسرين، تأتي في آية البقرة 10:
{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} .
إذ هي المرة الأولى التي جاء فيها "عذاب أليمط في ترتيب المصحف. تأويل الألم في المسألة بالوجع، وأليم بوجيع، يبدو قريباً ظاهر القرب. والجمهرة من المفسرين تأولوه بالوجع، وقال الراغب: الوجع الشديد. وهو معروف من كلام العرب، والشواهد فيه كُثْرٌ، وإن لم يكن الوجع من ألفاظ القرآن.
وفي (مجاز القرآن: آية البقرة 10) ، قال أبو عبيدة: "عذاب أليم" أي موجع، من: الألم. وهو في موضع مُفعِل - أي مؤلم - قال ذو الرمة:
ونرفع في صدور شمردلاتٍ. . . يصكُّ وجوهَها وَهَجٌ أليمُ
الشمردلة: الطويلة.
والبيت من شواهد الطبري والقرطبي، لأليم بمعنى وجيع.
لكن "ابن عرفة" أنكره فيما جكى عنه الهروى، قال في (الغريبين، باب الهمزة مع اللام) : قوله تعالى: {عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال أبو عبيدة: أي مؤلم. يقال: أَلمِنى الشيءُ وألمِتُ الشيءَ، قال تعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} . وقال ابن عرفة: أليم ذو ألم، وسميع ذو سماع، ولا أدري معنى ما قال أبو عبيدة. "ابن عرفة" إبراهيم بن محمد بن عرفة العتكي الأزدى، نفطويه، واسطى سكن بغداد وتوفى بها سنة 323 هـ: نحوى راوية ثبت، محدث صدوق ثقة،وفقيه ظاهرى حجة. له كتاب في (غريب القرآ ن) ذكره ابن النديم وياقوت والقفطى.
ولعله إنما أنكر قول أبي عبيدة من جهة الاشتقاق. وكان ينكره ويحيله وله فيه كتاب، كما قال القفطي في (الإنباه)
ويظهر لي أن الوجع أقرب إلى ما يعتري الجسم من مرض أو أذى بدني عارض. وفي (ق) : الأم الوجع، والألم من العذاب الذي يبلغ غاية البلوغ. وغلبة مجئ أليم لعذاب الآخرو. عذاب يوم أليم، وأخْذ الله تعالى الكفار والفاسقين {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} يؤذن - والله أعلم - بأن الأليم أخص وأفدح من وجع يعرض لعامة البشر. وتفسير "ألم" في شاهد المسألة الأول. يقوى بدلالة عذاب من وجد وسهد وأرق، مما لو كان مجرد وجع لعارض من مرض أو جرح كما في الشاهد من قول الأعشى: ولا نألم جرحا *.
Learn Quranic Arabic from scratch with our innovative book! (written by the creator of this website)
Available in both paperback and Kindle formats.