الِــابْتِدَاء بِأَمْر: شُرُوعه وَعند أَرْبَاب الْعرُوض هُوَ أول جُزْء من المصراع الثَّانِي
وَعند النُّحَاة خلو الِاسْم وتعريته عَن العوامل اللفظية للإسناد نَحْو الله وَاحِد وَمُحَمّد رَسُول الله. وَهَذَا الْمَعْنى عَامل فِي الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر عِنْد الزَّمَخْشَرِيّ والجزولي وَعند سِيبَوَيْهٍ عَامل فِي الْمُبْتَدَأ والمبتدأ عَامل فِي الْخَبَر. وَقَالَ بَعضهم أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا عَامل فِي الآخر. قيل عَلَيْهِ أَن الْعَامِل يكون مقدما على الْمَعْمُول فَإِذا كَانَ كل وَاحِد مِنْهُمَا عَاملا فِي الآخر. يلْزم أَن يكون كل مِنْهُمَا مقدما على الآخر ومتأخرا عَنهُ أَيْضا بل يلْزم تقدم الشَّيْء على نَفسه لِأَن الْمُتَقَدّم على الْمُتَقَدّم على الشَّيْء مُتَقَدم على ذَلِك الشَّيْء. وَالْجَوَاب أَن الْجِهَة متغائرة فَلَا بَأْس بِهِ قيل إِن الْخُلُو أَمر عدمي وَكَذَا التعرية والعدمي لَا يكون مؤثرا وَأجِيب بِأَن الْخُلُو عبارَة عَن إتْيَان الِاسْم بِلَا عَامل لَفْظِي والإتيان وجودي وَيُسمى الْمَعْمُول الأول مُبْتَدأ وَمُسْندًا إِلَيْهِ ومحكوما عَلَيْهِ وموضوعا ومحدثا عَنهُ وَالثَّانِي خَبرا وَمُسْندًا ومحكوما بِهِ ومحمولا وحديثا. وَاعْلَم أَن بَين الْحَدِيثين الشريفين الْمَشْهُورين الواردين فِي الْأَمر بــابتداء كل أَمر ذِي بَال بِالتَّسْمِيَةِ والتحميد تعَارض وَوجه التَّعَارُض أَن الْبَاء الجارة فيهمَا للصلة وَالْجَار وَالْمَجْرُور وَاقع موقع الْمَفْعُول بِهِ وَــابْتِدَاء أَمر بِشَيْء عبارَة عَن ذكر ذَلِك الشَّيْء فِي أول ذَلِك الْأَمر بجعله جُزْءا أَولا لَهُ إِن كَانَا من جنس وَاحِد كــابتداء الْأَلْفَاظ الْمَخْصُوصَة بِلَفْظ الْحَمد وَالتَّسْمِيَة وبجعله مقدما على ذَلِك الْأَمر بِحَيْثُ لَا يكون قبله شَيْء آخر إِن كَانَا من جِنْسَيْنِ كــابتداء الْأكل وَالشرب بِالتَّسْمِيَةِ وَالْحَمْد يَعْنِي أَن الِــابْتِدَاء فيهمَا مَحْمُول على الْحَقِيقِيّ والــابتداء بِهَذَا الْمَعْنى لَا يُمكن بالشيئين بِالضَّرُورَةِ فَالْعَمَل بِأحد الْحَدِيثين يفوت الْعَمَل بِالْآخرِ. فالتعارض مَوْقُوف على أَمريْن كَون الْبَاء للصلة وَكَون الِــابْتِدَاء فيهمَا حَقِيقِيًّا. وَدفعه يحصل بِرَفْع مَجْمُوع ذَيْنك الْأَمريْنِ إِمَّا بِرَفْع كل مِنْهُمَا أَو بِرَفْع أَحدهمَا على مَا هُوَ شَأْن رفع الْمَجْمُوع. وَالتَّفْصِيل أَن الْبَاء إِمَّا صلَة الِــابْتِدَاء والــابتداء فِي كل مِنْهُمَا إِمَّا عرفي أَو إِ ضافي أَو فِي أَحدهمَا حَقِيقِيّ وَفِي الآخر عرفي أَو إضافي أَو الْبَاء فِي أَحدهمَا صلَة الِــابْتِدَاء وَفِي الآخر للاستعانة أَو للملابسة أَو فِي كل مِنْهُمَا للاستعانة أَو الملابسة. أما تَقْرِير الدّفع على تَقْدِير كَون الْبَاء فيهمَا للاستعانة فَهُوَ أَن الِــابْتِدَاء فيهمَا حَقِيقِيّ وَالْبَاء فيهمَا لَيْسَ صلَة الِــابْتِدَاء بل هُوَ بَاء الِاسْتِعَانَة فَالْمَعْنى أَن كل أَمر ذِي بَال لم يبْدَأ ذَلِك الْأَمر باستعانة التَّسْمِيَة والتحميد يكون أَبتر وأقطع. وَلَا ريب فِي أَنه يُمكن الِاسْتِعَانَة فِي أَمر بِأُمُور معتددة فَيجوز أَن يستعان فِي الِــابْتِدَاء أَيْضا بِالتَّسْمِيَةِ والتحميد بل بِأُمُور أخر. وَإِنَّمَا حملنَا الِــابْتِدَاء على هَذَا الْجَواب على الْحَقِيقِيّ إِذْ لَو حمل على الْعرفِيّ
فَالْجَوَاب هَذَا لِأَن الْبَاء فيهمَا للاستعانة. قيل إِن جُزْء الشَّيْء لَا يكون آلَة لَهُ فَجعل الْبَاء للاستعانة يَقْتَضِي أَن لَا يَجْعَل التَّسْمِيَة والتحميد جزأين من الْمُبْتَدَأ باستعانتهما فليزم أَن لَا يكون أَرْبَاب التَّأْلِيف عاملين بِالْحَدِيثين حَيْثُ جعلوهما جزأين من تأليفاتهم وَالْجَوَاب أَن الْقَائِل بِأَن الْبَاء للاستعانة يلْتَزم عدم الْجُزْئِيَّة وَمن ادّعى الْجُزْئِيَّة فَعَلَيهِ الْبَيَان. وَاعْترض بِأَن جعل الْبَاء للاستعانة يُفْضِي إِلَى سوء الْأَدَب لِأَنَّهُ يلْزم حِينَئِذٍ جعل اسْم الله تَعَالَى آلَة والآلة غير مَقْصُودَة وَالْجَوَاب أَن الحكم بِكَوْن الْآلَة غير مَقْصُودَة إِن كَانَ كليا فَمَمْنُوع. كَيفَ والأنبياء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وَسَائِل مَعَ أَن الْإِيمَان بهم والتصديق بنبوتهم مقصودان وَإِن كَانَ جزئيا فَلَا ضير لأَنا نقُول إِن هَذَا من تِلْكَ الْآلَات الْمَقْصُودَة ويناقش بِأَن الِــابْتِدَاء الْحَقِيقِيّ إِنَّمَا يكون بِأول جُزْء من أَجزَاء الْبَسْمَلَة مثلا فَحمل الِــابْتِدَاء على الْحَقِيقِيّ فِي أَحدهمَا غير صَحِيح فضلا عَن أَن يحمل فيهمَا عَلَيْهِ. وَالْجَوَاب أَن المُرَاد بِالِــابْتِدَاءِ الْحَقِيقِيّ مَا يكون بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيع مَا عداهُ وبالإضافي مَا يكون بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَعْض على قِيَاس معنى الْقصر الْحَقِيقِيّ والإضافي. والــابتداء بِهَذَا الْمَعْنى لَا يُنَافِي أَن يكون بعض الْأَجْزَاء متصفا بالتقديم على الْبَعْض كَمَا أَن اتصاف الْقُرْآن بِكَوْنِهِ فِي أَعلَى مَرَاتِب البلاغة بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا سواهُ لَا يُنَافِي أَن يكون بعض سُورَة أبلغ من سُورَة. وَأما تَقْرِير الدّفع على تَقْدِير كَون الْبَاء للملابسة فَهُوَ أَن الِــابْتِدَاء فيهمَا مَحْمُول على الْحَقِيقِيّ وَالْبَاء فيهمَا للملابسة فَإِن قيل إِن التَّلَبُّس بهما حِين الِــابْتِدَاء محَال لِأَن التَّلَبُّس بهما لَا يتَصَوَّر إِلَّا بذكرهما وذكرهما مَعًا محَال. فَلَو ابْتَدَأَ حِين ذكر التَّسْمِيَة والتلبس بهَا لَا يكون متلبسا بالتحميد وَلَو عكس لَا يكون متلبسا بِالتَّسْمِيَةِ قُلْنَا إِن الملابسة مَعْنَاهَا الملاصقة والاتصال وَهُوَ عَام يَشْمَل الملاصقة بالشَّيْء على وَجه الْجُزْئِيَّة بِأَن يكون ذَلِك الشَّيْء جُزْءا لذَلِك الْأَمر ويشمل الملاصقة بِأَن يذكر الشَّيْء قبل ذَلِك الْأَمر بِدُونِ تخَلّل زمَان متوسط بَينهمَا فَيجوز أَن يَجْعَل الْحَمد جُزْءا من الْكتاب وَيذكر التَّسْمِيَة قبل الْحَمد ملاصقة بِهِ بِلَا توَسط زمَان بَينهمَا فَيكون آن الِــابْتِدَاء آن تلبس الْمُبْتَدِي بهما أما التَّلَبُّس بالتحميد فَظَاهر لِأَن آن الِــابْتِدَاء بِعَيْنِه آن التَّلَبُّس بالتحميد لِأَن ابْتِدَاء الْأَمر بِعَيْنِه ابْتِدَاء التَّحْمِيد لكَونه جُزْءا مِنْهُ وَإِمَّا بِالتَّسْمِيَةِ فلكونها مَذْكُورَة أَولا بِلَا توَسط زمَان. وَالْحَاصِل أَن التَّلَبُّس بأمرين ممتدين زمانيين زماني لَا بُد أَن يَقع بَين التَّلَبُّس بِالْأَمر الأول والتلبس بِالْأَمر الآخر أَمر مُشْتَرك بَينهمَا بِحَيْثُ يكون أول التَّلَبُّس بِالْآخرِ وَآخر التَّلَبُّس بِالْأولِ مجتمعان فِي ذَلِك الْأَمر الْمُشْتَرك بَينهمَا وَإِذا كَانَ التَّلَبُّس بالبسملة والحمدلة زمانيا لَا بُد أَن يَقع بَين التلبسين بهما أَمر مُشْتَرك بَينهمَا وَهُوَ الْآن الَّذِي وَقع فِيهِ بِالِــابْتِدَاءِ الْحَقِيقِيّ. فَإِذا كَانَ الْحَمد جُزْءا من الْكتاب كَانَ الِــابْتِدَاء الْحَقِيقِيّ أول حرف من الحمدلة وَهُوَ عين آن ابْتِدَاء التَّلَبُّس بالحمدلة وآن الِانْتِهَاء التَّلَبُّس بالبسملة فآن الِــابْتِدَاء آن التَّلَبُّس بهما بِمَعْنى أَن آخر التَّلَبُّس بالبسملة وَأول التَّلَبُّس بالحمدلة قد اجْتمعَا فِي آن الِــابْتِدَاء فَيكون آن ابْتِدَاء الْكتاب آن التَّلَبُّس بهما وَيرد على هَذَا الْجَواب أَنه لَا يجْرِي فِيمَا لَا يُمكن جعل أَحدهمَا جُزْءا
كالذبح وَالْأكل وَالشرب وَغير ذَلِك وَسَائِر تقريرات الدّفع وَاضح بِأَدْنَى تَأمل. هَذَا خُلَاصَة مَا فِي حَوَاشِي صَاحب الخيالات اللطيفة والحواشي الحكيمية على شرح العقائد النسفية مَعَ فَوَائِد كَثِيرَة نافعة للناظرين فَافْهَم وَكن من الشَّاكِرِينَ.