Current Dictionary: All Dictionaries

Search results for: آم

العتاب

العتاب:
[في الانكليزية] Blame ،regret ،admonition
[ في الفرنسية] Blame ،regret ،admonestation

بالفارسية: (ملامت كردن) وعتاب المرء نفسه كقوله تعالى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ الآيات.

وقوله: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي الآيات كذا في الاتقان.
العتاب
من أوضح ما جاء من العتاب في القرآن قوله تعالى يعاتب رسوله، وقد جاءه أحد المسلمين يسأله في أمور الدين، وكان الرسول ساعتئذ في حديث مع طائفة من المشركين، مؤملا أن يفضى به الحديث إلى إيمانهم، فلم يعن بأمر هذا المسلم السائل، بل أعرض عنه عابسا، فنزل قوله سبحانه: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (عبس 1 - 10). بدأ هذا العتاب متحدثا عن الغائب، وكأنه بذلك يريد أن يرسم الصورة لرسوله على لوحة يراها أمام عينيه على وجه غير وجهه، لتكون الصورة واضحة القسمات بيّنة المعالم، فالمرء لا يرى وجه نفسه، ثم اتجه العتاب إلى الخطاب في رفق قريب من العنف، مبينا ما لعله يرجى من الخير من هذا الأعمى السائل، ثم عقد موازنة بين من عنى به النبى ومن أعرض عنه، فهذا مستغن لا يعنيه أن يصغى إلى الدعوة، أو يطيعها، والآخر مقبل، تملأ قلبه الخشية، ويدفعه الإيمان، وقد سجل القرآن معاملة الرسول لهما، ولكن هذا العتاب يحمل في ثناياه عذر الرسول، فهو ما تصدى لمن استغنى إلا أملا في هدايته وإرشاده.
وقد يقسو القرآن في العتاب، بعد أن يكون قد استخدم الرفق واللين، وذلك في الأمور التى يترتب على التهاون فيها ما يؤدي بالدعوة، كما ترى ذلك في قوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَــنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (التوبة 38، 39). ولعله بعد رفقه بهم، وبيانه لهم أن متاع الحياة الدنيا قليل، إذا قيس بمتاع الآخرة- رأى ألا يقف عند هذا الحد من الموازنة، بل مضى محذرا منذرا.
ومن العتاب القاسى- لأنه يمس أساسا من أسس نشر الدعوة لتأخذ طريقها إلى النصر والنجاح- قوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (الأنفال 67 - 68). أما إذا لم يتصل العتاب بمثل ذلك من مهمات الأمور فإن العتاب يرق ويلين كما ترى ذلك في قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (التوبة 43). وقوله سبحانه:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (التحريم 1).
فمعرفة الصادق والكاذب إذا كانت قد ضاعت في فرصة، فمن الممكن أن يتوصل إليها في فرصة أخرى، وتحريم النبى لما أحل الله له مسألة شخصية ليس لها من الأثر ما للجهاد من آثار.
العتاب: مخاطبة الإدلال، ومذاكرة الموجدة.
العتاب: مَا يكون على صُدُور الْمَكْرُوه من الحبيب تأديبا ليَسْتَغْفِر عَنهُ وَيصير مورد المراحم بِخِلَاف الْعقَاب فَإِنَّهُ مَا يكون على صُدُور الْمَكْرُوه من الْعَدو تفضيحا وتأليما كالعذاب على الْكفَّار وخلودهم فِي النَّار فِي تِلْكَ الدَّار. وَبِعِبَارَة أُخْرَى العتاب تَأْدِيب الشَّفَقَة.

المناقضة

المناقضة:
[في الانكليزية] Contradiction
[ في الفرنسية] Contradiction
عند الأصوليين عبارة عن النقض. وعند أهل النظر عبارة عن منع مقدّمة الدليل سواء كان مع السّند أو بدونه كذا في التلويح. فما وقع في الرشيدية من أنّ النقض كما يطلق على التخلّف المذكور كذلك يطلق على نقض المعرفات طردا أو عكسا، وكذلك على المناقضة وعرّف المناقضة بطلب الدليل على مقدمة معيّنة يدلّ على جواز إطلاق لفظ النقض على المناقضة في اصطلاح أهل النظر لا العكس، أي لا يدلّ على جواز إطلاق لفظ المناقضة على النقض بمعنى التخلّف فلا يتوهّم التدافع بينه وبين كلام التلويح. وقال صاحب التوضيح تارة إبطال دليل المعلّل يسمّى مناقضة وتارة إذا علّل المعلّل، فللمعترض أن يمنع مقدمات دليله ويسمّى هذا ممانعة. فإذا ذكر لمنعه سندا يسمّى مناقضة كما إذا قلت ما ذكرت لا يصلح دليلا لأنّه طرد مجرد من غير تأثير.
وعند البلغاء عبارة عن تعليق أمر على مستحيل إشارة إلى استحالة وقوعه كقوله تعالى وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ كذا في الاتقان في نوع جدل القرآن.
المناقضة: لغة: إبطال أحد القولين بالآخر. واصطلاحا: منع مقدمة معينة من مقدمات الدليل.
المناقضة: فِي اللُّغَة إبِْطَال أحد الْقَوْلَيْنِ بِالْآخرِ. وَفِي الِاصْطِلَاح منع مُقَدّمَة مُعينَة من مُقَدمَات الدَّلِيل. وَشَرطه أَن لَا يكون الْمُقدمَة من الأوليات وَلَا من المسلمات - وَأما إِذا كَانَت من التجربيات أَو الحدسيات أَو المتواترات فَيجوز منعهَا لِأَنَّهَا لَيست بِحجَّة على الْغَيْر - وَطَرِيق المناقضة وتفصيلها فِي آدَاب الْبَحْث والمناظرة.
من آمــن بالنجوم فقد كفر وَمن أنكر عَن النُّجُوم فقد كفر: والتوفيق أَن من اعْتقد أَن للنجوم تأثيرات فِي ذواتها بذواتها فقد كفر بِاللَّه لِأَن الْمُؤثر الْحَقِيقِيّ هُوَ الله الغيور المتكبر لَا شريك لَهُ تَعَالَى شَأْنه وَجل برهانه فِي ملكه. وَمن أنكر عَن النُّجُوم بِأَن لَا تَأْثِير لَهَا أصلا أَي لم يخلق الله تَعَالَى فِيهَا تَأْثِير أَو مَنَافِع فقد كفر لِأَنَّهُ الْحَكِيم على الْإِطْلَاق لم يخلق شَيْئا عَبَثا أعْطى لكل نجم تَأْثِيرا فِي عَالم العناصر وتدبيرا فِيهَا.

العطف

العطف: ثني أحد الطرفين إلى الآخر. ويستعار للميل والشفقة إذا عدي بعلى. وعطفه عن حاجته: صرفه عنها.
العطف: عند النحاة: تابع يدل على معنى مقصود بالنسبة مع متبوعه يتوسط بينه وبين متبوعه أحد الحروف العشرة كقام زيد وعمرو، فعمرو تابع مقصود بنسبة القيام إليه مع زيد.
العطف:
[في الانكليزية] Inflexion ،conjunction ،coordination
[ في الفرنسية] Inflexion ،conjonction ،coordination
بالفتح وسكون الطاء المهملة في اللغة الإمالة. وعند النحاة يطلق على المعنى المصدري وهو أن يميل المعطوف إلى المعطوف عليه في الإعراب أو الحكم كما وقع في المكمل، وعلى المعطوف وهو مشترك بين معنيين الأول العطف بالحرف ويسمّى عطف النّسق بفتح النون والسين أيضا لكونه مع متبوعه على نسق واحد، وهو تابع يقصد مع متبوعه متوسطا بينهما إلى إحدى الحروف العشرة، وهي الواو والفاء وثم وحتى وأو وأمّا وأم ولا وبل ولكن، وقد يجيء إلّا أيضا على قلّة كما في المغني. والمراد بكون المتبوع مقصودا أن لا يذكر لتوطئة ذكر التابع، فخرج جميع التوابع.
أمّا غير البدل فلعدم كونه مقصودا. وأمّا البدل فلكونه مقصودا دون المتبوع. ولا يخرج المعطوف بلا وبل ولكن وأم وأمّا وأو لعدم كون متبوعه مذكورا توطئة. وقيد التوسّط لزيادة التوضيح لأنّ الحدّ تام بدونه جمعا ومنعا هكذا في شروح الكافية؛ إلّا أنّهم زادوا قيد النسبة فإنهم قالوا هو تابع مقصود بالنسبة مع متبوعه لأنّهم أرادوا تعريف نوع منه وهو عطف الاسم على الاسم. وأمّا نحن فأردنا تعريفه بحيث يشتمل غيره أيضا كعطف الجملة على الجملة التي لا محلّ لها من الإعراب لظهور أنّ التابع هناك غير مقصود بالنسبة مع متبوعه، إذ لا نسبة هناك مع المتبوع، كما وقع في الهداد.
التقسيم
في المغني العطف ثلاثة أقسام. الأول العطف على اللفظ وهو الأصل، نحو ليس زيد بقائم ولا قاعد بالجر، وشرطه إمكان توجّه العامل إلى المعطوف. فلا يجوز في نحو ما جاءني من امرأة ولا زيد إلّا الرفع عطفا على الموضع لأنّ من الزائدة لا تعمل في المعارف.
والثاني العطف على المحلّ ويسمّى بالعطف على الموضع أيضا نحو ليس زيد بقائم ولا قاعدا بالنصب، وله عند المحقّقين شروط ثلاثة.
أولها إمكان ظهور ذلك المحلّ في الفصيح. ألا ترى أنّه يجوز في ليس زيد بقائم أن تسقط الباء فتنصب؛ وعلى هذا فلا يجوز مررت بزيد وعمروا خلافا لابن جنّي لأنّه يجوّز مررت زيدا. ثانيها أن يكون الموضع بحق الأصالة فلا يجوز هذا ضارب زيدا وأخيه خلافا للبغداديين لأنّ الوصف المستوفي بشروط العمل الأصل أعماله لا الإضافة. ثالثها وجود المحرز أي الطالب لذلك المحلّ خلافا للكوفيين وبعض البصريين. ولذا امتنع أن زيدا وعمروا قائمان وذلك لأنّ الطالب لرفع زيد هو الابتداء أي التجرّد عن العوامل اللفظية وقد زال بدخول إنّ ومن الغريب قول أبي حيان، إنّ من شرط العطف على الموضع أنّ يكون للمعطوف عليه لفظا وموضع فجعل صورة المسألة شرطا لها، ثم إنّه أسقط الشرط الأول ولا بد منه. الثالث العطف عل التوهّم ويسمّى في القرآن العطف على المعنى نحو ليس زيد قائما ولا قاعد بالخفض على توهّم دخول الباء في الخبر، وشرط جوازه صحّة دخول ذلك العامل المتوهّم وشرط حسنه كثرة دخوله هناك كما في المثال المذكور، ويقع هذا في المجرور كما عرفت وفي المجزوم نحو: لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ لأنّ معنى لولا أخرتني فأصّدّق ومعنى إن أخّرتني أصّدّق واحد. وفي المنصوب نحو قام القوم غير زيد وعمروا بالنصب فإنّ غير زيد في موضع إلّا زيدا. قال سيبويه: إنّ من الناس من يغلطون فيقولون إنّهم أجمعون ذاهبون، وإنّك وزيد ذاهبان وذلك أنّ معناه معنى الابتداء. ومراده بالغلط ما عبّر عنه غيره بالتوهّم. وفي المنصوب اسما نحو قوله تعالى: وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ فيمن فتح الباء كأنّه قيل وهبنا له إسحاق ومن وراء اسحاق يعقوب، وفعلا كقراءة بعضهم: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ حملا على معنى ودّوا أن تدهن. وفي المركّبات كما قيل في قوله تعالى أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ إنّه على معنى أرأيت كالذي حاجّ وكالذي مرّ، انتهى ما في المغني.
فائدة:
عطف الاسمية على الفعلية وبالعكس فيه ثلاثة مذاهب، الجواز مطلقا والمنع مطلقا والجواز في الواو فقط.
فائدة:
عطف الخبر على الإنشاء وبالعكس منعه البيانيون وابن مالك وابن عصفور ونقله عن الأكثرين وأجازه الصفار وجماعة، ووفّق الشيخ بهاء الدين السبكي بينهما وحاصله أنّ أهل البيان متفقون على المنع بلاغة، وأكثر النحاة قائلون بجوازه لغة كذا في المغني وشرحه. وفي الارشاد عطف الفعل على الاسم جائز ويجوز عكسه، وعطف الجملة على المفرد ويجوز عكسه، وعطف الماضي على المضارع وعكسه أيضا، ويحتاج كلّ إلى تأويل بالوفاق.
فائدة:
عطف القصة على القصة هو أن يعطف جمل مسوقة لغرض على جمل مسوقة لغرض آخر لمناسبة بين الغرضين. فكلّما كانت المناسبة أشدّ كان العطف أحسن من غير نظر إلى كون تلك الجمل خبرية أو إنشائية. فعلى هذا يشترط أن يكون المعطوف والمعطوف عليه جملا متعددة. وقد يراد بها عطف حاصل مضمون أحدهما على حاصل مضمون الأخرى من غير نظر إلى الإنشائية والخبرية، هكذا ذكر المولوي عبد الحكيم في حاشية الخيالي في الخطبة.

فقوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا إلى قوله وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَــنُوا ليس من باب عطف الجملة على الجملة بل من باب ضمّ جمل مسوقة لغرض إلى جمل أخرى مسوقة لغرض آخر. والمقصود بالعطف المجموع.
ويجوز أن يراد به عطف الحاصل على الحاصل، يعني أنّه ليس المعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب له مشاكل من أمر أو نهي يعطف عليه، بل المعتمد بالعطف هو الجملة من حيث إنّها وصف ثواب المؤمنين، فهي معطوفة على الجملة من حيث إنّها وصف عقاب الكافرين كما تقول زيد يعاقب بالقيد والإزهاق وبشّر عمروا بالعفو والإطلاق. ثم هذا المثال يمكن أن يجعل من عطف قصة على قصة بالمعنى الأول، وإن لم يكن فيه جمل بل جملتان بأن يقال فيه عطف قصة عمرو الدالة على أحسن حاله على قصة زيد الدالة على أسوإ حاله، لكنه اقتصر من القصتين على ما هو العمدة فيهما إذ يفهم منه الباقي منهما، فكأنّه قال: زيد يعاقب بالقيد والإزهاق فما أسوأ حاله وما أخسره إلى غير ذلك وبشر عمروا بالعفو والإطلاق فما أحسن حاله وما أربحه، هكذا في المطول وحواشيه في باب الوصل والفصل.
فائدة:
عطف التلقين وهو أن يلقّن المخاطب المتكلّم بالعطف كما تقول أكرمك فيقول المخاطب وزيدا أي قل وزيدا أيضا، وعلى هذا قوله تعالى قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي بعد قوله إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً أي قل وَمِنْ ذُرِّيَّتِي. قيل عليه تلقين القائل يقتضي أن يقال ومن ذريتك وأجاب عنه جدّي رحمة الله عليه في حاشيته على البيضاوي بأنّ معنى عطف التلقين أن يقول المخاطب للمتكلّم قل وهذا أيضا عطفا على ما قلت على وجه ينبغي لك لا على وجه قلت أنا مثل أن تقول ومن ذريتك لا أن تقول ومن ذريتي. وإنّما قال المخاطب ومن ذريتي مناسبا لحاله. فائدة:
عطف أحد المترادفين على الآخر ويسمّى بالعطف التفسيري أيضا، أنكر المبرّد وقوعه في القرآن. وقيل المخلّص في هذا أن يعتقد أنّ مجموع المترادفين يحصّل معنى لا يوجد عند انفرادهما. فإنّ التركيب يحدث أمرا زائدا. وإذا كانت كثرة الحروف تفيد زيادة المعنى فكذلك كثرة الألفاظ. وقد يعطف الشيء على نفسه تأكيدا كما في فتح الباري شرح صحيح البخاري.
فائدة:
عطف الخاص على العام التنبيه على فضله حتى كأنّه ليس من جنس العام. وسمّاه البعض بالتجريد كأنّه جرّد من الجملة وأفرد بالذّكر تفصيلا ومنه: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى.
فائدة:
عطف العام على الخاص أنكر بعضهم وجوده فأخطأ، والفائدة فيه واضحة، وهو التعميم وأفراد الأول بالذكر اهتماما بشأنه، ومنه قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي والنّسك العبادة فهو أعمّ كذا في الاتقان.
فائدة:
جمعوا على جواز العطف على معمولي عامل واحد نحو إنّ زيدا ذاهب وعمرا جالس، وعلى معمولات عامل واحد نحو أعلم زيد عمرا بكرا جالسا وأبو بكر خالدا سعيدا منطلقا، وأجمعوا على منع العطف على معمول أكثر من عاملين نحو إنّ زيدا ضارب أبوه لعمرو وأخاك غلامه بكر وأمّا معمولا عاملين مختلفين فإن لم يكن أحدهما جارا فقال ابن مالك هو ممتنع إجماعا، نحو كان زيد آكلا طعامك عمرو وتمرك بكر، وليس كذلك بل نقل الفارسي الجواز مطلقا عن جماعة، وقيل إنّ منهم الأخفش. وإن كان أحدهما جارا فإن كان الجار مؤخرا نحو زيد في الدار والحجرة عمرو أو عمرو الحجرة فنقل المهدوي أنّه ممتنع إجماعا وليس كذلك، بل هو جائز عند من ذكرناه، وإن كان الجار مقدّما نحو في الدار زيد والحجرة عمرو فالمشهور عن سيبويه المنع وبه قال المبرّد وابن السّرّاج. ومنع الأخفش الإجازة. قال الكسائي والفراء والزجاج فصل قوم منهم الأعلم فقالوا إن ولي المخفوض العاطف كالمثال جاز لأنّه كذا سمع، ولأنّ فيه تعادل المتعاطفات، وإلّا امتنع نحو في الدار زيد وعمرو الحجرة. والثاني عطف البيان وهو تابع يوضّح أمر المتبوع من الدال عليه لا على معنى فيه. فبقيد الإيضاح خرج التأكيد والبدل وعطف النّسق لعدم كونها موضّحة للمتبوع.
وبقولنا من الدّال عليه أي على المتبوع لا على معنى فيه أي في المتبوع خرج الصفة فإنّ الصّفة تدلّ على معنى في المتبوع بخلاف عطف البيان فإنّه يدلّ على نفس المتبوع نحو اقسم بالله أبو حفص عمر، ولا يلزم من ذلك أن يكون عطف البيان أوضح من متبوعه بل ينبغي أن يحصل من اجتماعهما إيضاح لم يحصل من أحدهما على الانفراد، فيصحّ أن يكون الأول أوضح من الثاني، كذا في العباب والفوائد الضيائية، وقد ذكر ما يتعلّق بهذا في لفظ التوضيح أيضا.
فائدة:
يفترق عطف البيان والبدل في أمور ثمانية. الأول: أنّ العطف لا يكون مضمرا ولا تابعا لمضمر لأنّه في الجوامد نظير النعت في المشتقّ، وأمّا البدل فيكون تابعا لضمير بالاتفاق نحو قوله تعالى: وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وكذا يكون مضمرا تابعا لمضمر نحو رأيته إياه، أو لظاهر كرأيت زيدا إياه وخالف في ذلك ابن مالك، والصّواب في الأول قول الكوفيين أنّه توكيد كما في قمت أنت. الثاني: أنّ البيان لا يخالف متبوعه في تعريفه وتنكيره ولا يختلف النحاة في جواز ذلك في البدل نحو بِالنَّاصِيَةِ، ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ. الثالث أنّه لا يكون جملة بخلاف البدل نحو قوله تعالى: ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ، وهو أصح الأقوال في عرفت زيدا أيؤمن هو الرابع: أنّه لا يكون تابعا لجملة بخلاف البدل نحو قوله تعالى اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً الخامس: أنّه لا يكون فعلا تابعا لفعل بخلاف البدل نحو قوله تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً، يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ السادس: أنّه لا يكون بلفظ الأول ويجوز ذلك في البدل بشرط أن يكون مع الثاني زيادة بيان كقراءة يعقوب وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا بنصب كلّ الثاني، قاله ابن الطراوة وتبعه على ذلك ابن مالك وابنه، وحجتهم أنّ الشيء لا يبيّن بنفسه. والحقّ جواز ذلك في عطف البيان أيضا. السابع: أنّه ليس في النية إحلاله محلّ الأول بخلاف البدل فإنّه في حكم تكرير العامل، ولذا تعيّن البدل في نحو أنا الضارب الرجل زيد. الثامن: أنّه ليس في التقدير من جملة أخرى بخلاف البدل ولذا تعيّن البدل في نحو هند قام عمرو أخوها، ونحو مررت برجل قام عمرو أخوه، ونحو زيدا ضربت عمروا أخاه. وإن شئت الزيادة على هذا فارجع إلى المغني.

الخطابة

الخطابة: هِيَ صناعَة تفِيد الْإِقْنَاع لتركبها من مُقَدمَات مَقْبُولَة.
(الخطابة) (عِنْد المنطقيين) قِيَاس مؤلف من المظنونات أَو المقبولات
الخطابة: قياس مركب من مقدامات مقبولة أو مظنونة من شخص معتقد فيه والغرض منها ترغيب الناس فيما ينفعهم معاشا ومعادا كما يفعله الخطباء والوعاظ ذكره ابن الكمال.
الخطابة:
[في الانكليزية] Rhetoric
[ في الفرنسية] Rhetorique
بالفتح بمعنى فريفتن بزبان- التأثير بالبيان- كما في الصراح. وعند المنطقيين والحكماء هو القياس المؤلّف من المظنونات أو منها ومن المقبولات ويسمّى قياسا خطابيا أيضا، ويسمّى أمارة عند المتكلّمين، صرّح بذلك السّيد الشريف في حاشية شرح الطوالع. وصاحب هذا القياس يسمّى خطيبا والغرض منه ترغيب الناس فيما ينفعهم من أمور معاشهم ومعادهم كما يفعله الخطباء والوعاظ.
اعلم أنّهم خصّوا الجدل والخطابة بالقياس لأنهم لا يبحثون إلّا عنه وإلّا فهما قد يكونان استقراء وتمثيلا، هكذا في شرح الشمسية وحواشيه.
وفي المحاكمات الإقناعي يطلق على الخطابي وهو الدليل المركّب من المشهورات والمظنونات انتهى.
وقول العلماء هذا مقام خطابي أي مقام يكتفى فيه بمجرّد الظّنّ كما وقع في المطول.
ثم اعلم أنّ خطابات القرآن على أنحاء شتى، فكلّ خطاب في القرآن بقل فهو خطاب التشريف. وخطاب العام والمراد به العموم نحو اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ. وخطاب الخاص والمراد به الخصوص نحو يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ. وخطاب العام والمراد به الخصوص نحو يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ لم يدخل فيه غير المكلّفين. وخطاب الخاص والمراد به العموم نحو يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ. وخطاب المدح نحو يا أيها الذين آمــنوا. وخطاب الذّم نحو يا أيها الذي كفروا.
وخطاب الكرامة نحو يا أيها النبي. وخطاب الإهانة نحو إنّك رجيم. وخطاب الجمع بلفظ الواحد نحو يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ. وبالعكس نحو يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ. وخطاب الواحد بلفظ الاثنين نحو أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ وبالعكس نحو قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى أي ويا هارون.
وخطاب الاثنين بلفظ الجمع نحو أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وبالعكس نحو ألقيا في جهنم. وخطاب الجمع بلفظ الواحد نحو وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ، وبالعكس نحو وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ، وخطاب العين والمراد به الغير نحو يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ، ونحو لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ، وبالعكس نحو لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ. وخطاب عام لم يقصد به معيّن نحو وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ. وخطاب التخصيص ثم العدول إلى غيره نحو فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ خوطب به النبي وأمته، ثم قيل للكفار فاعلموا بدليل فهل أنتم مسلمون. وخطاب التلوين وهو الالتفات. وخطاب التهييج نحو وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وخطاب الاستعطاف نحو قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا. وخطاب التجنّب نحو يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ وخطاب التعجيز نحو فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وخطاب المعدوم وهو لا يصحّ إلّا تبعا للموجود نحو يا بني آدم.
وخطاب المشافهة وهو ليس بخطاب لمن بعدهم وإنّما يثبت لهم الحكم بدليل آخر من نصّ أو إجماع أو قياس، فإنّ الصبيّ والمجنون لمّا لم يصلحا لمثل هذا الخطاب فالمعدوم أولى هكذا في كليات أبي البقاء.

الغيب

غ ي ب [بالغيب]
قال: يا ابن عباس: أخبرني عن قول الله عزّ وجلّ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ .
قال: ما غاب عنهم من أمر الجنة والنار.
قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت أبا سفيان بن الحارث وهو يقول:
وبالغيب آمــنّا وقد كان قومنا ... يصلّون للأوثان قبل محمّد 
الغيب: ما غاب عن الحس ولم يكن عليه علم يهتدي به الفعل فيحصل به العلم.وعند الصوفية: كل ما ستره الحق عنك منك لا منه.
الغيب: بالفتح، ما غاب عن الحس والعقل كاملة بحيث لا يدركه واحد منهما لا بالبديهة ولا بالاستدلال كأحوال البعث ونحوه. سمي به لقوة غيبته حيث غاب عن مظهري الحس والعقل، عبر المصدر، كما يقال لمن بلغ الغاية في العدالة عدل، ولكماله في معنى الغيبة حيث لم يكن استحضاره لا بالبديهة ولا بالنظر.
الغيب:
[في الانكليزية] Unknown ،invisible ،unknowable
[ في الفرنسية] Inconnu ،invisible ،inconnaissable
بالفتح وسكون الياء هو الأمر الخفي لا يدركه الحسّ ولا يقتضيه بديهة العقل، وهو قسمان: قسم لا دليل عليه لا عقلي ولا سمعي، وهذا هو المعنيّ بقوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ، وقسم نصب عليه دليل عقلي أو سمعي كالصانع وصفاته واليوم الآخر وأحواله وهو المراد بالغيب في قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ هكذا ذكر في البيضاوي في تفسير هذه الآية في أول سورة البقرة، وقد سبق بيانه في لفظ العالم. والغيبة في اصطلاح الصّوفية هي مقام الكثرة. وما أجمل ما قاله المير سيد حسيني في معنى الغيبة والحضور ما ترجمته:
وإن لا تستطع أن تكون معه في حضرته فغب عن نفسك حتى تجد ريحه فما دمت قريبا من ذاتك بعيدا عن هذا الكلام فتلزم الغيبة إن أردت الحضور كذا في كشف اللغات.
الغيب
الغيب اسم الحِدثان من غابَ غَيباً وغَيْبَةً وغِياباً وغُيوباً ومَغيباَّ. وأيضاً يطلق على ما غاب عنك. وضده الشهادة. قال تعالى:
{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} .
أي ما هو غائب عنا، وما هو مشهود لنا.
وعلى ما لا سبيل إلى علمه، كما حكى الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:
{وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} .
وكما قال حاتم الطائي:
أما وَالَّذِي لا يَعلمُ الغيبَ غيرُه ... وَيُحْيِي العِظَام الْبِيضَ وَهْيَ رَمِيمُ
وعلى المكان الذي ليس بمشهد منك، والجانب الذي لا يتعين، كما قال عبد الشارقِ الجُهَني :
سَمِعْنَا دَعْوةً عَن ظَهرِ غَيبٍ ... فَجُلْنا جَولَةً ثم ارْعَوَيْنَا وقال تعالى:
{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ}
فبيّن معنى الغيب: أي لم تكن بمشهد منهم.
وعلى السِرِّ عموماً، كما قال تعالى:
{حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} .
وأيضاً:
{فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} .
فهذه خمسة وجوه معلومة . ............................

الشعيرة

الشعيرة: المنسك والعلامة في الحج، والبدنة المهداة إلى البيت الحرام، من الإشعار وهو إعلامها ليعرف أنها هدي أو من الشعر لأنها إذا جرحت أزيل شيء من شعرها عن محل الجرح.
(الشعيرة) مَا ندب الشَّرْع إِلَيْهِ وَأمر بِالْقيامِ بِهِ وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيز {وَمن يعظم شَعَائِر الله فَإِنَّهَا من تقوى الْقُلُوب} والبدنة وَنَحْوهَا مِمَّا يهدى لبيت الله وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيز {يَا أَيهَا الَّذين آمــنُوا لَا تحلوا شَعَائِر الله} والعلامة (ج) شَعَائِر

الشهيد

الشهيد
الذي يشهدَ ويحضُر. ويُحمل على وجوه:
من يشهد المشاهدَ العظيمة من القوم، ويتكلم عن القوم، فهو لسانُ القوم، فما قال كان ذلك قولَ القوم، فهو رئيسهم، وهم يُذعنون لِما قال. قال الحارث بن حِلِّزَةَ:
وهو الربُّ والشهيدُ ...... ... .........................
وهذا كما قال تعالى:
{وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} . فمن هاهنا الشهيد عند الملوك من رؤساء القوم، فهو لسانهم ووكيلهم، وشفيعهم، ولذلك جاء في الأحاديث لفظُ "الشهيد" بياناً للشفيع .
من شهد وعرف أمرا بنفسه، ثم أخبر أصحابه. فهو الواسط بين الأمر المشهود له وبين الذين يخبرهم. وعلى هذا قوله تعالى:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} . من شهِد بأمرٍ عظيمٍ على بيّنةٍ منه. وصدَّقَ شهادتَه ببذل مُهجته، فهو كاملُ الشهادة، إذ قامَ بأمرٍ، فأظهره، ولم يكتُمه، ثم أظهَرَ صدقَه وجِدَّه في الشهادة، وحَضَرَ، ولم يختفِ. وعلى هذا قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَــنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} .
وأيضاً:
{كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} الآية.
ومن علم شيئاً، وهو السَّنَد فيه، وهو الشاهد. وعلى هذا قوله تعالى:
{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .
الشهيد: من يكثر الحضور لديه واستبصاره فيما حضره. وفي عرف الفقهاء: مسلم مات في قتال الكفار بسببه. 

الصدقة

الصدقة: الفعلة التي يبدو بها صدق الإيمان بالغيب من حيث إن الرزق غيب، ذكره الحرالي. وقال ابن الكمال: العطية يبتغى بها المثوبة من الله وقال الراغب: ما يخرجه الإنسان من ماله على وجه القربة كالزكاة، لكن الصدقة في الأصل تقال للمتطوع، والزكاة للواجب. ويقال لما يسامح به الإنسان من حقه تصدق به نحو قوله {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} ، وقوله {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} ، فإنه أجرى ما يسامح به المعسر مجرى الصدقة، ومنه قوله {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} ، فسمى إعفاءه صدقة. وقوله في الحديث "ما أكلته العافية صدقة" .
الصدقة:
زكاة أموال المسلمين، من الذهب والورق والإبل والبقر والغنم والحبّ والثمر، فهذه هي الأصناف الثمانية التي سمّاها الله تعالى، لا حقّ لأحد من الناس فيها سواهم. وقال عمر، رضي الله عنه: هذه لهؤلاء، وأما مال الفيء، فما اجتبي من أموال أهل الذّمّة من جزية رؤوسهم التي بها حقنت دماؤهم وحرّمت أموالهم، بما صولحوا عليه من جزية، ومنه خراج الأرضين التي افتتحت عنوة ثم أقرّها الإمام بأيدي أهل الذمّة على قسط يؤدّونه في كل عام، ومنه وظيفة أرض الصلح التي منعها أهلها حتى صولحوا عنها على خرج مسمّى. ومنه ما يأخذه العاشر من أموال أهل الذمّة التي يمرّون بها عليه في تجاراتهم، ومنه ما يؤخذ من أهل الحرب إذا دخلوا بلاد الإسلام للتجارات، فكل هذا من الفيء، وهذا الذي يعمّ المسلمين، غنيّهم وفقيرهم، فيكون في أعطية المقاتلة، وأرزاق الذّريّة، وما ينوب الإمام من أمور الناس بحسن النظر للإسلام وأهله.
الصدقة
نورٌ وبصيرةٌ. قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَــنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} .
وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} .
وهو النور، كما بيّن بعد ذلك بقوله:
{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} .
إلى آخر الآية التاسعة عشرة.
وَأيضاً طهورٌ، كما قال تعالى:
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} .
ومن هاهنا سُمِّيَت الزكاة "زكاة" . ومن هاهنا أوّلُ خُطوه السلوك إعطاءُ كلِّ ما في اليَد. و "النور" و "الطهور" شيء واحد. وإنما الاختلاف من جهة الإضافة. "فالنور" جلاءُ العقلِ والفهمِ، و "الطهور" جلاءُ القلب .

القرآن

القرآن:
[في الانكليزية] The Koran
[ في الفرنسية] Le Coran
بالضم اختلف فيه. فقيل هو اسم علم غير مشتقّ خاصّ بكلام الله فهو غير مهموز وبه قرأ ابن كثير وهو مروي عن الشافعي. وقيل هو مشتقّ من قرنت الشيء بالشيء سمّي به لقران السور والآيات والحروف فيه. وقال الفرّاء هو مشتقّ من القرائن وعلى كلّ تقدير فهو بلا همزة ونونه أصلية. وقال الزجاج هذا سهو والصحيح أنّ ترك الهمزة فيه من باب التخفيف، ونقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها. واختلف القائلون بأنّه مهموز، فقيل هو مصدر لقرأت سمّي به الكتاب المقروء من باب تسميته بالمصدر. وقيل هو وصف على فعلان مشتق من القرء بمعنى الجمع كذا في الاتقان. قال أهل السّنّة والجماعة: القرآن ويسمّى بالكتاب أيضا كلام الله تعالى غير مخلوق وهو مكتوب في مصاحفنا محفوظ في قلوبنا مقروء بألسنتنا مسموع بآذاننا غير حالّ فيها أي مع ذلك ليس حالّا في المصاحف ولا في القلوب والألسنة والآذان، لأنّ كلام الله ليس من جنس الحروف والأصوات لأنّها حادثة، وكلام الله صفة أزلية قديمة منافية للسكوت الذي هو ترك التكلّم مع القدرة عليه والآفة التي هي عدم مطاوعة الآلات بل هو معنى قديم قائم بذات الله تعالى يلفظ ويسمع بالنّظم الدّال عليه ويحفظ بالنظم المخيل ويكتب بنقوش وأشكال موضوعة للحروف الدالة عليه، كما يقال النار جوهر محرق يذكر باللفظ ويكتب بالقلم ولا يلزم منه كون حقيقة النار صوتا وحرفا. وتحقيقه أنّ للشيء وجودا في الأذهان ووجودا في الكتابة. فالكتابة تدلّ على العبارة وهي على ما في الأذهان وهو على ما في الأعيان، فحيث يوصف القرآن بما هو من لوازم القديم كقولنا القرآن غير مخلوق فالمراد حقيقته الموجودة في الخارج، وحيث يوصف بما هو من لوازم المخلوقات يراد به الألفاظ المنطوقة المسموعة كقولك قرأت نصف القرآن أو المخيلة كقولك حفظت القرآن أو الأشكال كقولك يحرم للمحدث مسّ القرآن. ثم الكلام القديم الذي هو صفة لله تعالى يجوز أن يسمع وهو مذهب الأشعري ومنعه الأستاذ أبو إسحاق الأسفرايني، وهو اختيار الشيخ أبي منصور رحمه الله تعالى. فمعنى قوله: حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ يسمع ما يدلّ عليه كما يقال سمعت علم فلان. فموسى صلوات الله عليه سمع صوتا دالّا على كلام الله، لكن لمّا كان بلا واسطة الكتاب والملك خصّ باسم الكليم. وقيل خصّ به لما سمعه من جميع الجهات على خلاف المعتاد. وأمّا من يجوّز سماعه فهو يقول خصّ به لأنّه سمع كلامه الأزلي بلا حرف وصوت كما يرى ذاته تعالى في الآخرة بلا كمّ ولا كيف.
فإن قيل لو كان كلام الله حقيقة في المعنى القديم مجازا في النّظم المؤلّف يصحّ نفيه عنه بأن يقال ليس النّظم كلام الله والإجماع على خلافه، وأيضا المعجز هو كلام الله حقيقة مع القطع بأنّ الإعجاز إنّما يتصوّر في النظم.
قلنا التحقيق أنّ كلام الله تعالى مشترك بين الكلام النفسي القديم ومعنى الإضافة كونه صفة له تعالى وبين اللفظي الحادث، ومعنى الإضافة حينئذ أنّه مخلوق له تعالى ليس من تأليفات المخلوقين، فلا يصحّ النفي أصلا ولا يكون الإعجاز إلّا في كلام الله تعالى. وما وقع في عبارة بعض المشايخ من أنّه مجاز فليس معناه أنّه غير موضوع للنظم بل إنّ الكلام في التحقيق وبالذات اسم للمعنى القائم بالنفس وتسمية اللفظ به وضعه لذاك إنّما هو باعتبار دلالته على المعنى، فلا نزاع لهم في الوضع والتسمية باعتبار معنى مجازي يكون حقيقة أيضا، كما يكون باعتبار معنى حقيقي. ويؤيّد هذا ما وقع في شرح التجريد من أنّه لا نزاع في إطلاق اسم القرآن وكلام الله بطريق الاشتراك على المعنى القائم بالنفس القديم وعلى المؤلّف الحادث وهو المتعارف عند العامة والقراء والأصوليين والفقهاء وإليه يرجع الخواص التي هي من صفات الحادث. وإطلاق هذين اللفظين عليه ليس بمجرد أنّه دالّ على كلامه القديم حتى لو كان مخترع هذه الألفاظ غير الله تعالى لكان الإطلاق بحاله، بل لأنّ له اختصاصا به تعالى وهو أنّه اخترعه بأن أوجد أولا الأشكال في اللوح المحفوظ لقوله بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ والأصوات في لسان الملك لقوله: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ثم اختلفوا، فقيل القرآن وكلام الله اسمان لهذا المؤلّف المخصوص القائم بأوّل لسان اخترعه الله تعالى فيه، حتى إنّ ما يقرأه كلّ أحد سواه بلسان يكون مثله لا عينه. والأصحّ أنّه اسم له لا من حيث تعيّن المحلّ فيكون واحدا بالنوع ويكون ما يقرأه القارئ أيّ قارئ كان نفسه لا مثله، وهكذا الحكم في كلّ متغيّر وكتاب ينسب إلى مؤلّفه. وعلى التقديرين فقد يجعل اسما للمجموع بحيث لا يصدق على البعض وقد يجعل اسما بمعنى كلّ صادق على المجموع وعلى كلّ بعض من أبعاضه.
وبالجملة فما يقال إنّ المكتوب في كلّ مصحف والمقروء بكل لسان كلام الله، فباعتبار الوحدة النوعية. وما يقال إنّه حكاية عن كلام الله ومماثل له وإنّما الكلام هو المخترع في لسان الملك فباعتبار الوحدة الشخصية. وما يقال إنّ كلام الله ليس قائما بلسان أو قلب ولا حالّا في مصحف فيراد به الكلام الحقيقي النفسي. ومنعوا من القول بحلول اللفظي أيضا رعاية للتأدّب واحترازا عن ذهاب الوهم إلى الحقيقي النفسي، على أنّ إطلاق اسم المدلول على الدّال وكذا إجراء صفات الدّال على المدلول شائع ذائع مثل: سمعت هذا المعنى من فلان انتهى كلامه. وقال صاحب المواقف إنّ المعنى من قول مشايخنا كلام الله تعالى معنى قديم ليس المراد به مدلول اللفظ بل الأمر القائم بالغير فيكون الكلام النفسي عندهم أمرا شاملا للفظ والمعنى جميعا قائما بذاته تعالى وهو مكتوب في المصاحف مقروء بالألسنة محفوظ في الصدور، وهو غير القراءة والكتابة والحفظ الحادثة. وما يقال من أنّ الحروف والألفاظ مترتّبة متعاقبة فجوابه أنّ ذلك الترتّب إنما هو في التلفّظ بسبب عدم مساعدة الآلة، فالتلفّظ حادث والأدلة الدالة على الحدوث يجب حملها على حدوثه دون حدوث الملفوظ جمعا بين الأدلة انتهى. قيل عليه القول بأنّ ترتّب الحروف إنّما هو في التلفّظ دون الملفوظ، فالتلفّظ حادث دون الملفوظ أمر خارج عن العقل وما ذلك إلّا مثل أن يتصوّر حركة تكون أجزاؤها مجتمعة في الوجود لا يكون لبعضها تقدّم على بعض، ويندفع بما قيل إنّ المراد بالملفوظ هو اللفظ القائم به تعالى وبالتلفّظ اللفظ القائم بنا عبّر عنه بالتلفّظ، فرقا بينهما وإشعارا بأنّ اللفظ الحادث كالنسبة المصدرية لكونه غير قارّ، ولولا هذا الاعتبار لكان القول بقدم الملفوظ دون التلفّظ تناقضا، وبه يندفع من أنّ حمل المعنى على الأمر القائم بالغير بعيد جدا لأنّ الأدلة إنّما تدلّ على حدوث ماهية القرآن لا حدوث التلفّظ لأنّه ليس بقرآن، وذلك لأنّ اللفظ يعدّ واحدا في المحال كلها وتباينه إنّما هو بتباين الهيئات. فاللفظ القائم بنا وبه تعالى واحد حقيقة، والأول حادث والثاني قديم.
فإن قيل يفهم من هذا التوجيه أنّه لا ترتّب في اللفظ القائم بذاته تعالى فيلزم عدم الفرق بين لمع وعلم. قيل ترتّب الكلمات وتقدّم بعضها على بعض لا يقتضي الحدوث لأنّ التقدّم ربما لا يكون زمانيا كالحروف المنطبعة في شمعة دفعة من الطابع عليه، وقد يمثل أيضا بوجود الألفاظ في نفس الحافظ فإنّ جميعها مع الترتيب المخصوص مجتمعة الوجود فيها وليس وجود بعضها مشروطا بانقضاء البعض وانعدامه عن نفسه. والفرق بأنّ وجود الحرف على هذا الوجه في ذاته تعالى بالوجود العيني وفي نفس الحافظ بالظلّي لا يضرّ إذ الغرض منه مجرّد التصوير والتفهيم لا إثباته بطريق التمثيل، فحينئذ يكون الحاصل أنّ الترتيب المقتضي للحدوث إنّما هو في التلفّظ أي اللفظ القائم بنا، هذا غاية توجيه المقام فافهم.
فائدة:
في بيان كيفية الإنزال قال في الاتقان وفيه مسائل. الأولى قال الله تعالى شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ وقال إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. اختلف في كيفية إنزاله من اللوح المحفوظ على ثلاثة أقوال. الأول وهو الأصح الأشهر أنّه نزل إلى سماء الدنيا ليلة القدر جملة واحدة ثم نزل بعد ذلك منجّما في عشرين سنة أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين على حسب الخلاف في مدة إقامته صلى الله عليه وآله وسلم بمكة بعد البعثة.
الثاني أنّه نزل إلى سماء الدنيا في عشرين ليلة القدر أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين، في كلّ ليلة ما يقدر الله إنزاله في كلّ سنة، ثم نزل بعد ذلك منجّما في جميع السنة، وهذا القول ذكره الرازي بطريق الاحتمال ثم توقّف. هل هذا أولى أو الأول؟ قال ابن كثير وهذا الذي جعله احتمالا نقله القرطبى عن مقاتل بن حيان، وحكى الإجماع على أنّه نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة في سماء الدنيا. الثالث أنّه ابتدأ انزاله في ليلة القدر ثم نزل بعد ذلك منجّما في أوقات مختلفة من سائر الأوقات، وبه قال الشعبي. قال ابن حجر والأول هو الصحيح المعتمد. قال وحكى الماوردي قولا رابعا أنّه نزل من اللوح المحفوظ جملة واحدة وأنّ الحفظة نجّمته على جبرئيل في عشرين ليلة وأنّ جبرئيل نجّمه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عشرين سنة، والمعتمد أنّ جبرئيل كان يعارضه في رمضان بما ينزل به عليه في طول السنة. قال أبو شامة:
نزوله جملة إلى سماء الدنيا قبل ظهور نبوّته ويحتمل أن يكون بعدها، قيل الظاهر هو الثاني. قيل السرّ في إنزاله جملة إلى سماء الدنيا تفخيم أمره وأمر من نزل عليه وذلك بإعلام سكان السموات السبع أنّ هذا آخر الكتب المنزّلة على خاتم الرسل أشرف الأمم قد قرّبناه إليهم لننزّله عليهم، ولولا أنّ الحكمة الإلهية اقتضت وصوله إليهم منجّما بحسب الوقائع لهبط به إلى الأرض جملة كسائر الكتب المنزّلة قبله، ولكن الله باين بينه وبينها فجعل له الأمرين إنزاله جملة ثم إنزاله مفرّقا تشريفا للمنزّل عليه. وقيل إنزاله منجّما لأنّ الوحي إذا كان يتجدّد في كلّ حادثة كان أقوى للقلب وأشدّ عناية بالمرسل إليه، ويستلزم ذلك كثرة نزول الملك إليه فيحدث له من السرور ما يقصر عنه العبارة. والثانية في كيفية الإنزال والوحي.
قال الأصفهاني اتفق أهل السّنة والجماعة على أنّ كلام الله منزّل واختلفوا في معنى الإنزال.
فمنهم من قال إظهار القراءة، ومنهم من قال إنّ الله تعالى ألهم كلامه جبرئيل وهو في السماء وهو عال من المكان وعلّمه قراءته ثم جبرئيل أدّاه إلى الأرض وهو يهبط في المكان. وفي التنزيل طريقان أحدهما أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم انخلع من الصورة البشرية إلى الصورة الملكية وأخذه من جبرئيل، ثانيهما أنّ الملك انخلع إلى البشرية حتى يأخذه الرسول منه، والأوّل أصعب الحالين. وقال القطب الرازي إنزال الكلام ليس مستعملا في المعنى اللغوي الحقيقي وهو تحريك الشيء من العلو إلى السفل بل هو مجاز. فمن قال بقدمه فإنزاله أن يوجد الكلمات والحروف الدّالّة على ذلك المعنى ويثبتها في اللوح المحفوظ، ومن قال بحدوثه وأنّه هو الألفاظ فإنزاله مجرّد إثباته في اللوح المحفوظ. ويمكن أن يكون المراد بإنزاله إثباته في سماء الدنيا بعد الإثبات في اللوح المحفوظ والمراد بإنزال الكتب على الرسل أن يتلقّفها الملك من الله تلقّفا روحانيا أو يحفظها من اللوح المحفوظ وينزل بها فيلقيها عليهم.

وقال غيره فيه ثلاثة أقوال: الأول أنّ المنزّل هو اللفظ والمعنى وأنّ جبرئيل حفظ القرآن من اللوح المحفوظ ونزل به، وذكر بعضهم أنّ أحرف القرآن في اللوح المحفوظ كلّ حرف منها بقدر جبل قاف، وأنّ تحت كلّ حرف منها معان لا يحيط بها إلّا الله. الثاني أنّ جبرئيل عليه السلام إنّما نزل بالمعاني خاصة وأنّه صلى الله عليه وآله وسلم علم تلك المعاني وعبّر عنها بلغة العرب لقوله تعالى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ، الثالث أنّ جبرئيل ألقى عليه المعنى وأنّه عبّر بهذه الألفاظ بلغة العرب، وأنّ أهل السماء يقرءونه بالعربية ثم أنّه نزل به كذلك بعد ذلك. وقال الجويني كلام الله المنزّل قسمان. قسم قال الله تعالى لجبرئيل قل للنبي الذي أنت مرسل إليه إنّ الله يقول افعل كذا وكذا وأمر بكذا وكذا، ففهم جبرئيل ما قاله ربّه ثم نزل على ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال له ما قاله ربّه، ولم تكن العبارة تلك العبارة كما يقول الملك لمن يثق به قل لفلان يقول لك الملك اجتهد في الخدمة واجمع الجند للقتال، فإن قال الرسول يقول لك الملك لا تتهاون في خدمتي واجمع الجند وحثّهم على المقاتلة لا ينسب إلى كذب ولا تقصير في أداء الرسالة. وقسم آخر قال الله تعالى لجبرئيل اقرأه على النبي هذا الكتاب فنزل جبرئيل بكلمة الله من غير تغيير كما يكتب الملك كتابا ويسلّمه إلى أمين ويقول اقرأه على فلان فهو لا يغيّر منه كلمة ولا حرفا. قيل القرآن هو القسم الثاني والقسم الأول هو السّنّة. كما ورد أنّ جبرئيل كان ينزل بالسّنّة كما ينزل بالقرآن. ومن هاهنا جاز رواية السّنّة بالمعنى لأنّ جبرئيل أدّاه بالمعنى ولم تجز القراءة بالمعنى لأنّ جبرئيل أدّاه باللفظ. والسّرّ في ذلك أنّ المقصود منه التعبّد بلفظه والإعجاز به وأنّ تحت كلّ حرف منه معان لا يحاط بها كثرة فلا يقدر أحد أن يأتي بلفظ يقوم مقامه، والتخفيف على الأمة حيث جعل المنزّل إليهم على قسمين: قسم يروونه بلفظ الموحى به وقسم يروونه بالمعنى، ولو جعل كلّه مما يروى باللفظ لشقّ أو بالمعنى لم يؤمن من التبديل والتحريف. الثالثة للوحي كيفيات. الأولى أن يأتيه الملك في مثل صلصلة الجرس كما في الصحيح وفي مسند احمد (عن عبد الله بن عمر سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هل تحسّ بالوحي؟ فقال أسمع صلاصل ثم اسكت عند ذلك. فما من مرّة يوحى إليّ إلّا ظننت أنّ نفسي تقبض). قال الخطابي المراد أنّه صوت متداول يسمعه ولا يتبينه أوّل ما يسمعه حتى يفهمه بعد. وقيل هو صوت خفق أجنحة الملك، والحكمة في تقدّمه أن يقرع سمعه الوحي فلا يبقي فيه مكانا لغيره. وفي الصحيح أنّ هذه الحالة أشدّ حالات الوحي عليه. وقيل إنّه إنّما كان ينزل هكذا إذا نزلت آية وعيد أو تهديد. الثانية أن ينفث في روعه الكلام نفثا كما قال صلى الله عليه وآله وسلم (إنّ روح القدس نفث في روعي) أخرجه الحاكم، وهذا قد يرجع إلى الحالة الأولى أو التي بعدها بأن يأتيه في إحدى الكيفيتين وينفث في روعه. الثالثة أن يأتيه في صورة رجل فيكلّمه كما في الصحيح (وأحيانا يتمثّل لي الملك رجلا فيكلّمني فأعي ما يقول) زاد أبو عوانة في صحيحة وهو أهونه عليّ. الرابعة أن يأتيه في النوم وعدّ من هذا قوم سورة الكوثر. الخامسة أن يكلّمه الله تعالى إمّا في اليقظة كما في ليلة الإسراء أو في النوم كما في حديث معاذ (أتاني ربّي فقال فيم يختصم الملأ الأعلى) الحديث انتهى ما في الإتقان.
وقال الصوفية القرآن عبارة عن الذات التي يضمحلّ فيها جميع الصفات فهي المجلى المسمّى بالأحدية أنزلها الحقّ تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون مشهد الأحدية من الأكوان. ومعنى هذا الإنزال أنّ الحقيقة الأحدية المتعالية في ذراها ظهرت بكمالها في جسده، فنزلت عن أوجها مع استحالة العروج والنزول عليها، لكنه صلى الله عليه وآله وسلم لما تحقّق بجسده جميع الحقائق الإلهية وكان مجلى الاسم الواحد بجسده، كما أنّه بهويته مجلى الأحدية وبذاته عين الذات، فلذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أنزل عليّ القرآن جملة واحدة) يعبّر عن تحقّقه بجميع ذلك تحقّقا ذاتيا كليا جسميا، وهذا هو المشار إليه بالقرآن الكريم لأنه أعطاه الجملة، وهذا هو الكرم التّام لأنّه ما ادّخر عنه شيئا بل أفاض عليه الكلّ كرما إلهيا ذاتيا. وأمّا القرآن الحكيم فهو تنزّل الحقائق الإلهية بعروج العبد إلى التحقّق بها في الذات شيئا فشيئا على مقتضى الحكمة الإلهية التي يترتّب الذات عليها فلا سبيل إلى غير ذلك، لأنّه لا يجوز من حيث الإمكان أن يتحقّق أحد بجميع الحقائق الإلهية بجهده من أوّل إيجاده، لكن من كانت فطرته مجبولة على الألوهة فإنّه يترقّى فيها ويتحقّق منها بما ينكشف له من ذلك شيئا بعد شيء مرتبا ترتيبا إلهيا. وقد أشار الحقّ إلى ذلك بقوله:
وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا، وهذا الحكم لا ينقطع ولا ينقضي، بل لا يزال العبد في ترقّ، وهكذا لا يزال الحقّ في تجلّ، إذ لا سبيل إلى استيفاء ما لا يتناهى لأنّ الحقّ في نفسه لا يتناهى. فإن قلت ما فائدة قوله: أنزل عليّ القرآن جملة واحدة؟ قلنا ذلك من وجهين: الوجه الواحد من حيث الحكم لأنّ العبد الكامل إذا تجلّى الحقّ له بذاته حكم بما شهده أنّه جملة الذات التي لا تتناهى وقد تنزّلت فيه من غير مفارقة لمحلها الذي هو المكانة. والوجه الثاني من حيث استيفاء بقيات البشرية واضمحلال الرسوم الخلقية بكمالها لظهور الحقائق الإلهية بآثارها في كلّ عضو من أعضاء الجسد. فالجملة متعلّقة بقوله على هذا الوجه الثاني، ومعناها ذهاب جملة النقائص الخلقية بالتحقّق بالحقائق الإلهية.
وقد ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (أنزل القرآن دفعة واحدة إلى سماء الدنيا) ثم أنزله الحقّ عليه آيات مقطّعة بعد ذلك، هذا معنى الحديث. فإنزال القرآن دفعة واحدة إلى سماء الدنيا إشارة إلى التحقّق الذاتي، ونزول الآيات مقطّعة إشارة إلى ظهور آثار الأسماء والصفات مع ترقّي العبد في التحقّق بالذات شيئا فشيئا. وقوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، فالقرآن العظيم هاهنا عبارة عن الجملة الذاتية لا باعتبار النزول ولا باعتبار المكانة بل مطلق الأحدية الذاتية التي هي مطلق الهوية الجامعة لجميع المراتب والصفات والشئون والاعتبارات المعبّر عنها بساذج الذات مع جملة الكمالات.
ولذا قورن بلفظ العظيم لهذه العظمة، والسبع المثاني عبارة عمّا ظهر عليه في وجوده الجسدي من التحقّق بالسبع الصفات. وقوله تعالى الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ إشارة إلى أنّ العبد إذا تجلّى عليه الرحمن يجد في نفسه لذة رحمانية تكسبه تلك اللذة معرفة الذات فتتحقّق بحقائق الصفات، فما علّمه القرآن إلّا الرحمن وإلّا فلا سبيل إلى الوصول إلى الذات بدون تجلّي الرحمن الذي هو عبارة عن جملة الأسماء والصفات، إذ الحقّ تعالى لا يعلم إلّا من طريق أسمائه وصفاته فافهم، ولا يعقله إلّا العالمون، كذا في الانسان الكامل.
القرآن: عند أهل الفقه: اللفظ المنزل على محمد للإعجاز بسورة منه، المكتوب في المصاحف المنقول عنه نقلا متواترا.القرآن عند أهل الحق: العلم اللدني الإجمالي الجامع للحقائق كلها.
القرآن
هو العلم الخاص بهذا الكتاب الذى نزل على محمد، لم يشركه غيره من كتب الله في هذا الاسم، وقد اختار الكتاب العزيز له من الصفات ما يوضّح رسالته، والهدف الذى نزل من أجله، فهو هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (البقرة 97). هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ (البقرة 185). هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (آل عمران 138).
هُوَ لِلَّذِينَ آمَــنُوا هُدىً وَشِفاءٌ (فصلت 44). يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (الأحقاف 30). أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (الكهف 1، 2). فرسالة القرآن الأساسية هداية الناس إلى الحق وطريق الصواب، وتبشير المهتدى وإنذار الضال، إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (الإسراء 9، 10).
وإذا كان الكتاب قد أنزل للهداية صحّ وصفه بأنه شفاء، أليس هو بلسما يبرئ أدواء القلوب، ودواء لعلل النفوس، وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (الإسراء 82). وصح وصفه بأنه كالمصباح، يخرج الناس من الظلمات إلى النور، كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (إبراهيم 1). وبأنه لم يدع سبيلا للإرشاد إلا بيّنه، وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ (النمل 89). ولما كان كتاب هداية كان واضحا في دلالته، بيّنا في إرشاده، هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ (العنكبوت 49). وكان خير ذكرى، يلجأ إليه المسترشد فيرشد، والضال فيجد عنده التوفيق والهداية، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (الأنعام 90). وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ (الزخرف 44). وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا (الإسراء 41). وهو ذكر مبارك، ناضج الثمر، جليل الأثر، وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ (الأنعام 92). وهو حق لا مرية فيه لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (فصلت 42). وهو قول فصل وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (الطارق 14). وكتاب حكيم، وذكر مبين، قد أحكمت آياته، ثم فصلت.
أليس كتاب هذا شأنه وتلك صفاته جديرا بالاتّباع، خليقا بالاسترشاد والاقتداء، أو ليس في تلك الصفات ما يحرك النفس إلى الاستماع إليه، وتدبر آياته، والإنصات إلى عظاته، ولا سيما أنه كثيرا ما يقترن بذكر الحكمة، وفي الحكمة ما يغرى بحبها واتباعها، إذ يقول: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (البقرة 151).
وردد القرآن كثيرا أنه نزل من الله بالحق، وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ (الإسراء 105). ويؤكد ذلك في قوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (الإنسان 23). وينفى أن يكون وحى شيطان، أو أن يستطيع الشياطين الإيحاء بمثله، وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (الشعراء 192 - 194).
وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (الشعراء 210، 211). ويؤكد في صراحة أن الإنس والجن مجتمعين لا يستطيعون الإتيان بمثل القرآن، ولو ظاهر بعضهم بعضا، وإذا كان المجيء به مما ليس في طوق مخلوق فمن غير المعقول أن يفترى من دون الله، وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (يونس 37). ولما ادعى المعارضون أن محمدا تقوّله أو افتراه تحداهم القرآن أن يأتوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (الطور 34). ثم تحداهم أن ائتوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (هود 13). ثم نزل إلى سورة مثله، فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (القصص 50). ويتحدث القرآن في صراحة عما كان يمكن أن ينتظر محمدا من الجزاء الصارم لو أنه افترى أو تقوّل، فقال: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (الحاقة 44 - 47). أرأيت كيف يصوّر القرآن، كيف يلتزم محمد ما أوحى إليه، من غير أن يستطيع تعدى الحدود التى رسمت له، فى جلاء ووضوح، لأنه ليس سوى رسول عليه بلاغ ما عهد إليه أن يبلغه فى أمانة وصدق.
كما ردد كثيرا أنه بلسان عربىّ مبين، إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (يوسف 2).
وفي ترديد هذه الفكرة ودفع العجمة عن القرآن، ما يدفع العرب إلى التفكير في أمره وأن كونه بلسانهم ثمّ عجزهم عن المجيء بمثله، مع تحديهم صباح مساء، دليل على أنه ليس من عند محمد، ولا قدرة لمحمد على الإتيان بقرآن مثله، وهو بهذا الوصف يقرر عجزهم الدائم، وأنه لا وجه لهم في الانحراف عن جادة الطريق، وما يدعو إليه العقل السليم، والتفكير المستقيم.
وقرّر أنه كتاب متشابه مثان، ومعنى تشابهه أن بعضه يشبه بعضا في قوة نسجه، وعمق تأثيره، وإحكام بلاغته، فكل جزء مؤثر بألفاظه وأفكاره وأخيلته وتصويره، ومعنى أنه مثان أن ما فيه من معان يثنى في مواضع مختلفة، ومناسبات عديدة، فيكون لهذا التكرير أثره في الهداية والإرشاد، وهو بهذا التكرير يؤدى رسالته التى جاء من أجلها، ولذا كان بتشابهه وتكرير ما جاء به من عظات، مؤثرا أكبر الأثر في القلوب، حتى لتقشعرّ منه جلود أولئك الذين يتدبرونه، وتنفعل له قلوبهم، ثم لا يلبثون أن تطمئن أفئدتهم إلى هداه، وتهدأ نفوسهم إلى ذكر الله، اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (الزمر 23). ويعرف القرآن ما له من تأثير قوى بالغ حتى لتتأثر به صم الحجارة إذا أدركت معناه، لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ (الحشر 21).
ومع طول القرآن وتعدد مناحيه لا عوج فيه، ولا اضطراب في أفكاره ولا أخيلته، أو لا ترى أن أمّيا لا يستطيع تأليف كتاب على هذا القدر من الطول من غير أن يقع فيه الخلل والاختلاف والاضطراب، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (النساء 82).
ومما أكده القرآن أنه مصدّق لما نزل قبله من التوراة والإنجيل، وإلى جانب ذلك، سجل القرآن ما قابله به أهل الكتاب والمشركون، من كفر به وإنكار له، أما بعض أهل الكتاب فقد مضوا يكابرون، منكرين أن يكون الله قد أنزل كتابا على إنسان، وما كان أسهل دحض هذه الفرية بما بين أيديهم من كتاب موسى، يبدون بعضه ويخفون الكثير منه، قال سبحانه: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (الأنعام 91). ولم يزد الكثير من أهل الكتاب نزول القرآن إلا تماديا فى الكفر وشدة في الطغيان، قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ
وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ
(المائدة 68). وقالوا إن محمّدا يتعلم القرآن من إنسان عليم بأخبار الماضين، وكان من السهل أيضا إبطال تلك الدعوى، فإن هذا الذى زعموه يعلمه ذو لسان أعجمى، وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (النحل 103). ثم زعموا أنه إفك اختلقه، وأعانه على إتمامه سواه ممن يعرفون أساطير الأولين ويتقنونها، وهنا يرد القرآن في هدوء بأن هذه الأسرار التى في القرآن، والتى ما كان يعلمها محمد ولا قومه، إنما أنزلها الذى يعلم أسرار السموات والأرض، وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (الفرقان 4 - 6). ونزلوا في المكابرة إلى أعمق درك، فزعموا مرة أن ليس ما في القرآن من أخبار سوى أضغاث أحلام، وحينا زعموا أنه قول شاعر، وأن القرآن لا يصلح أن يكون آية قاطعة كآيات الرسل السابقين، بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (الأنبياء 5). ولم يتحمل القرآن الرد على دعوى أضغاث الأحلام لتفاهتها، ووضوح بطلانها، ولكنه نفى أن يكون القرآن شعرا بوضوح الفرق بين القرآن والشعر، الذى لا يليق أن يصدر من محمد، وجعلوا القرآن سحرا من محمد، لا صلة لله به، وهنا يبين القرآن مدى مكابرتهم، فيقول: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (الأنعام 7).
ومضى بعض الناس يذيع الأحاديث الباطلة ليضل عن سبيل الله، ويصم أذنيه عن سماع القرآن مستكبرا مستهزئا به، والقرآن يغضب لموقف هؤلاء شديد الغضب، وينذرهم كما استهزءوا، بعذاب يهينهم ويؤلمهم، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (لقمان 6، 7).
ومن عجب أن كثيرا من الكافرين كان لا يرضى عما في القرآن من أفكار التوحيد والعبادة، فكان يطلب من الرسول أن يأتى بقرآن غير هذا القرآن، فكان رد الرسول صريحا في أنه لا يستطيع أن يفعل شيئا من تلقاء نفسه، وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (يونس 15).
ومما اعترضوا به على القرآن أنه نزل منجّما، واقترحوا أن ينزل دفعة واحدة، ولكن القرآن ردّ على هذا الاقتراح، بأن نزوله على تلك الطريقة، فيه تثبيت لفؤاد الرسول، ليكون دائم الاتصال بربه، أو ليس في نزوله كذلك تثبيت لأفئدة المؤمنين أيضا إذ ينقلهم القرآن بتعاليمه مرحلة مرحلة إلى الدين الجديد، ويروى القرآن هذا الاعتراض، ويرد عليه في قوله سبحانه: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (الفرقان 32، 33).
ولقد تعبوا في صدّ تيار القرآن الجارف، ووقف أثره في النفوس فما استطاعوا ثم هداهم خيالهم الضّيق إلى طريقة يحولون بها بين القرآن وسامعيه تلك هى الصّخب عند سماع القرآن واللغو فيه، ولما كان في ذلك استقبال لا يليق بالقرآن قابله الله بتهديد عنيف، وإيعاد شديد، إذ يقول: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (فصلت 26 - 28). وذلك أقوى دليل على الإخفاق، وأنه لا حجة عندهم يستطيعون أن يهدموا بها حجة القرآن.
وحرّك القرآن فيهم غريزة الخوف إن كذبوا به، فسألهم ماذا تكون النتيجة إذا ثبت حقّا أنه من عند الله، وظلوا كافرين به، أيكون ثمّ من هو أضل منهم أو أظلم، يثير تلك الغريزة في قوله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (فصلت 52). ويقف منهم موقف من بين الخير والشر، ثم تركهم لأنفسهم يفكرون، ألا يثير فيهم ذلك كثيرا من الخوف من أن ينالهم سوء إعراضهم بأوخم العواقب، إذ يقول: إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (الزمر 41). أما سورة الفرقان فيراد به هنا القرآن، كما أنه في مواضع أخرى يطلق على كتب الله، لأنها تفرق بين الحق والباطل، والصواب والخطأ.
ولعل بدء هذه السورة بقوله سبحانه: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (الفرقان 1). فيه دلالة على أنها تحوى إنذارا ووعيدا وتهديدا، وحقا لقد اتسمت هذه السورة بالرد المنذر على كثير من دعاوى المنكرين لأحقية القرآن ورسالة محمد ووحدانية الله، وقد بدأها بالحديث عن منزل القرآن، وتفرده بالملك وتعجبه من أن اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (الفرقان 3). وبدأ بعد ذلك يعدد مفترياتهم على القرآن وتشكيكهم في رسالة محمد، ثم يتعمّق في السبب الذى دفعهم إلى إنكار القرآن ونبوة محمد، فيراه التكذيب باليوم الآخر، وكأنما غضبت جهنم لهذا التكذيب، حتى إنها إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (الفرقان 12).
ويمضى في تصوير ما ينتظرهم في ذلك اليوم من مصير مؤلم موازنا بين ذلك، وبين جنة الخلد التى وعد المتقون، ثم يعود إلى أكاذيبهم، فيردّ على بعضها، ويبسط
بعضها الآخر، واضعا إلى جانب هذه الأكاذيب ما ينتظرها من عقوبة يوم الدين، وهنا يلجأ إلى التصوير المؤثر، يرسم به موقفهم في ذلك اليوم، علّه يردهم بذلك إلى الصواب، إذا ذكروا سوء المغبة؛ وتأمل قوة تصوير من ظلم نفسه بهجر القرآن وتكذيبه، فى قوله: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (الفرقان 27 - 30). ويعود مرة إلى شبهة من شبهاتهم في القرآن فيدحضها وينذرهم بشر مكان في جهنم، ويعدد لهم عواقب من كذب الرسل من قبلهم. ثم يأتى إلى إثم آخر من آثامهم باستهزائهم بالرسول الذى كاد يصرفهم عن آلهتهم، لولا أن صبروا عليها، وهنا يناقشهم في اتخاذ هذه الآلهة التى لا يصلح اتخاذها إلها إذا وزنت بالله الذى يعدد من صفاته ما يبين بوضوح وجلاء أنهم يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ (الفرقان 55). ويطيل القرآن في تعداد صفات الله وبيان مظاهر قدرته. وإذا كانت السورة قد مضت تنذر المنكرين وتعدّد آثامهم، فإنها قد أخذت تذكر كذلك صفات المؤمنين الصادقين، ليكونوا إلى جانبهم مثالا واضحا للفرق بين الصالح والطّالح، ولتكون الموازنة بينهما مدعاة إلى تثبيت النموذجين في النفس، وختمت السورة بالإنذار بأن العذاب نازل بهم لا محالة، ما داموا قد كذبوا، فكانت السورة كلّها من المبدأ إلى المنتهى تتجه إلى الوعيد، ما دامت تناقش المنكرين في مفتريات تتعلق بالقرآن ومن نزل عليه القرآن، وقد رأينا كيف كان يقرن كل افتراء بما أعدّ له من العذاب.

الكعبية

الكعبية: أتباع محمد الكعبي من معتزلة بغداد. قالوا فعل الرب واقع بغير إرادته ولا يرى نفسه ولا غيره إلا بمعنى أنه يعلمه، تعالى الله عما يقولون. 
الكفاية إغناء المقاوم عن مقاومة عدوه بما لا يحوجه إلى دفع له، ذكره الحرالي.
الكعبية:
[في الانكليزية] Al -Kabiyya (sect)
[ في الفرنسية] Al -kabiyya (secte)
هم فرقة من المعتزلة أصحاب أبي القاسم ابن محمد الكعبي كان من معتزلة بغداد وتلميذ الخياط قالوا فعل الرّبّ واقع بغير إرادته. فإذا قيل إنّه تعالى مريد لأفعاله أريد أنّه خالق لها. وإذا قيل مريد لأفعال غيره أريد أنّه آمــر بها، ولا يرى نفسه ولا غيره إلّا بمعنى أنّه يعلمه كما ذهب إليه الخيّاطية كذا في شرح المواقف.

المثل

المثل: إن كان من الجنس فهو ما سد مسد غيره في الجنس، وإن كان من غيره فالمراد ما كان فيه معنى يقرب به من غيره كقربه من جنسه. وقال الراغب: المثل عبارة عن قول في شيء قولا في شيء آخر بينهما مشابهة ليبين أحدهما الآخر ويصوره. وقال الحرالي: المثل أمر ظاهر للحس ونحوه يعتبر به أمر خفي يطابقه فينفهم معناه باعتباره. وقال في موضع آخر: المثل ما يتحصل في باطن الإدراك من حقائق الأشياء المحسوسة فيكون ألطف من الشيء المحسوس فيقع لذلك جاليا لمعنى مثل المعنى المعقول، ويكون الأظهر منهما مثلا للأخفى.
المثل:
[في الانكليزية] Similar ،proverb
[ في الفرنسية] Semblable ،Proverbe
بفتح الميم والثاء المثلثة في الأصل بمعنى النظير ثم نقل منه إلى القول السائر أي الفاشي الممثّل بمضربه وبمورده، والمراد بالمورد الحالة الأصلية التي ورد فيها الكلام وبالمضرب الحالة المشبّهة بها التي أريد بالكلام وهو من المجاز المركّب، بل لفشو استعمال المجاز المركّب بكونه على سبيل الاستعارة، سمّي بالمثل ثم إنّه لا تغيّر ألفاظ الأمثال تذكيرا وتأنيثا وإفرادا وتثنية وجمعا، بل إنما ينظر إلى مورد المثل. مثلا إذا طلب رجل شيئا ضيّعه قبل ذلك تقول له: ضيّعت اللّبن بالصيف بكسر تاء الخطاب لأنّ المثل قد ورد في امرأة، وذلك لأنّ الاستعارة يجب أن يكون لفظ المشبّه به المستعمل في المشبّه، فلو تطرق تغيّر إلى الأمثال لما كان لفظ المشبّه به بعينه فلا يكون استعارة فلا يكون مثلا. وتحقيق ذلك أنّ المستعار يجب أن يكون اللفظ الذي هو حقّ المشبّه به، أخذ منه عارية للمشبّه، فلو وقع فيه تغيير لما كان هو اللفظ الذي يختصّ المشبّه به فلا يكون أخذ منه عارية. وينبغي أن لا يلتبس عليك الفرق بين المثل والإشارة إلى المثل كما في ضيّعت على صيغة المتكلّم فإنّه مأخوذ من المثل وإشارة إليه فلا ينتقض به الحكم لعدم تغيّر الأمثال. وللأمثال تأثير عجيب في الآذان وتقرير غريب لمعانيها في الأذهان. ولكون المثل مما فيه غرابة استعير لفظه للحال أو الصفة أو القصة إذا كان لها شأن عجيب ونوع غرابة كقوله تعالى مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً أي حالهم العجيب الشأن. وكقوله وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي الصفة العجيبة.
وكقوله مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أي فيما قصصنا عليكم من العجائب قصّة الجنة العجيبة، هكذا من المطول وحاشيته لأبي القاسم والأطول.
فائدة:

في الإتقان أمثال القرآن قسمان: ظاهر مصرّح به كقوله مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً الآيات ضرب فيها للمنافقين مثلين مثلا بالنار ومثلا بالمطر، وكامن. قال الماوردي:
سمعت أبا إسحاق ابراهيم بن مضارب بن إبراهيم يقول: سمعت أبي يقول: سألت الحسين بن الفضل فقلت: إنّك تخرّج أمثال العرب والعجم من القرآن. فهل تجد في كتاب الله خير الأمور أوسطها؟ قال: نعم، في أربعة مواضع. قوله لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ وقوله وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً وقوله وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ، وقوله وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ الآية. قلت فهل تجد فيه من جهل شيئا عاداه؟

قال: نعم، في موضعين بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ. قلت فهل تجد فيه: لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين. قال هَلْ آمَــنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ. قلت: فهل تجد فيه قولهم لا تلد الحيّة إلّا الحية؟ قال: وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً. وفي مجمع الصنائع يقول: إنّ إرسال المثل عند الشعراء هو: أن يورد الشاعر في كلّ بيت مثلا. مثاله: ومعناه: لا يطفئ ماء الخصم نارك. ولا تسحب حرارة الشمس حلقات الأفعى. ومثال آخر: معناه:
العظمة تقتضي منك الكرم فما لم تبذر الحبّ لا ينبت وأمّا إرسال مثلين فهو إيراد مثلين في بيت واحد ومثاله (ومعناه):
نصيحة كلّ الناس كالهواء في القفص وهي في أذن الجهّال كالماء في غربال
المثل:
[في الانكليزية] Equal ،identical
[ في الفرنسية] Pareil ،identique
بالكسر والسكون عند الحكماء هو المشارك للشيء في تمام الماهية، قالوا التماثل والمماثلة اتّحاد الشيئين في النوع أي في تمام الماهية. فإذا قيل هما متماثلان أو مثلان أو مماثلان كان المعنى أنّهما متفقان في تمام الماهية. فكلّ اثنين إن اشتركا في تمام الماهية فهما المثلان وإن لم يشتركا فهما المتخالفان، وكذا عند بعض المتكلّمين حيث قال في شرح الطوالع: حقيقته تعالى لا تماثل غيره أي لا يكون مشاركا لغيره في تمام الماهية. وفي شرح المواقف: الله تعالى منزّه عن المثل أي المشارك في تمام الماهية. وقال بعضهم كالأشاعرة: التماثل هو الاتحاد في جميع الصفات النفسية وهي التي لا تحتاج في توصيف الشيء بها إلى ملاحظة أمر زائد عليها كالإنسانية والحقيقة والوجود والشيئية للإنسان. وقال مثبتوا الحال: الصفات النفسية ما لا يصحّ توهّم ارتفاعها عن موصوفها ويجيء ذكرها في محلها.
فالمثلان والمتماثلان هما الموجودان المشتركان في جميع الصفات النفسية، ويلزم من تلك المشاركة المشاركة فيما يجب ويمكن ويمتنع، ولذلك يقال المثلان هما الموجودان اللذان يشارك كلّ منهما الآخر فيما يجب له ويمكن ويمتنع أي بالنظر إلى ذاتيهما فلا يرد أنّ الصفات منحصرة في الأقسام الثلاثة، فيلزم منه اشتراك المثلين في جميع الصفات، سواء كانت نفسية أولا، فيرتفع التعدّد عنهما. وقد يقال بعبارة أخرى المثلان ما يسدّ أحدهما مسدّ الآخر في الأحكام الواجبة والجائزة والممتنعة، أي بالنظر إلى ذاتيهما، وتلازم التعاريف الثلاثة ظاهر بالتأمّل. ثم لما كانت الصفة النفسية ما يعود إلى نفس الذات لا إلى معنى زائد على الذات فالتّماثل أيضا من الصفات النفسية لأنّه أمر ذاتي ليس معلّلا بأمر زائد عليها. وأمّا عند مثبتي الأحوال منا كالقاضي ففيه تردّد إذ قال تارة إنّه زائد على الصفات النفسية ويخلو موصوفه عنه بتقدير عدم خلق الغير، فلا يكون من الأحوال اللازمة التي تنحصر الصفات النفسية فيها. وقال تارة أخرى إنّه غير زائد.
ويكفي في اتصاف الشيء بالتّماثل تقدير الغير، فيكون الشيء حال انفراده في الوجود متصفا بالتماثل غير خال عنه، ثم أيّد هذا بأنّ صفات الأجناس لا تعلّل بالغير اتفاقا، فلا يكون التماثل موقوفا على وجود الغير تحقيقا، وأمّا تقديرا فلا يضر. ثم من الناس من ينفى التّماثل لأنّ الشيئين إن اشتركا من كلّ وجه فلا تعدّد فضلا عن التّماثل، وإن اختلفا من وجه فلا تماثل، والجواب منع الشرطية الثانية إذ قد يختلفان بغير الصفة النفسية. وقال جمهور المعتزلة المثلان هما المتشاركان في أخصّ وصف النفس، فإن أرادوا أنّهما مشتركان في الأخص دون الأعم فمحال، وإن ارادوا اشتراكهما في الأخص والأعم جميعا فما ذكر سابقا أصرح من هذا. ولهم أن يقولوا الاشتراك في الأعم وإن كان لازما منه لكنه خارج عن مفهوم التماثل إذ مداره على الاشتراك في الأخصّ. فقيد الأخصّ ليس احترازيا بل لتحقيق الماهية. ويرد عليهم أنّ التماثل للمثلين إمّا واجب الحصول لموصوفه عند حصول الموصوف فلا يعلّل على رأيهم، إذ من قواعدهم أنّ الصفة الواجبة يمتنع تعليلها فلا يجوز تعريفه بالاشتراك في أخصّ صفات النفس لاقتضائه كونه معلّلا بالأخصّ، أولا يكون واجب الحصول فيجوز حينئذ كون السوادين مختلفين تارة وغير مختلفين أخرى. وقال النّجّار من المعتزلة المثلان هما المشتركان في صفة إثبات وليس أحدهما بالثاني قيد الصفة بالثبوتية لأنّ الاشتراك في الصفات السلبية لا يوجب التماثل ويلزمه تماثل السواد والبياض لاشتراكهما في صفات ثبوتية كالعرضية واللونية والحدوث، وكذا مماثلة الرّبّ للمربوب إذ يشتركان في بعض الصفات الثبوتية كالعالمية والقادرية. اعلم أنّ المتشاركين في بعض الصفات النفسية أو غيرها لهم تردّد وخلاف ويرجع إلى مجرّد الاصطلاح، لأنّ المماثلة في ذلك المشترك ثابتة معنى والمنازعة في إطلاق الاسم. قال القاضي القلانسي من الأشاعرة:
لا مانع من ذلك في الحوادث معنى ولفظا إذ لم يرد التماثل في غير ما وقع فيه الاشتراك حتى صرّح القلانسي بأنّ كلّ مشتركين في الحدوث متماثلان في الحدوث، وعليه يحمل قول النّجار، فلا مماثل عنده للحوادث في وجوده عقلا أي بحسب المعنى، والنزاع في إطلاق المتماثل للحدوث عليه تعالى، ومأخذ الإطلاق السمع. فللنّجار أن يلزم التماثل بين الرّبّ والمربوب معنى وإن منع إطلاق اللفظ عليه وأن يلزم في السواد والبياض معنى ولفظا.
فائدة:
كلّ متماثلين فإنّهما لا يجتمعان في محلّ وإليه ذهب الشيخ الأشعري ومنعه المعتزلة، واتفقوا على جواز اجتماعهما مطلقا إلّا شرذمة منهم فإنّهم قالوا لا تجتمع الحركتان المتماثلتان في محلّ وإن شئت التفصيل فارجع إلى شرح المواقف وحاشيته للمولوي عبد الحكيم.

المدح

المدح: الثناء باللسان على الصفات الجميلة، خلقية كانت أو اختيارية. فهو أعم من الحمد.
المدح:
[في الانكليزية] Panegyric ،praise
[ في الفرنسية] Panegyrique ،eloge ،louange
بفتح الميم والدال قد سبق تفسيره في لفظ الحمد. والمدح الموجه عند البلغاء هو أن يمدح الممدوح في تركيب واحد بنوعين من المدح، ومثاله في البيت التالي وترجمته:
من عدلك المظلوم شاكر كما الفقير من بذلك قد غدا مسرورا كذا في جامع الصنائع.

ويقول أيضا في الكتاب المذكور:
الاستتباع هو أن يمدح الممدوح بوجه ينتج عنه صورة أخرى من المديح ومثاله الشعر الآتي ترجمته:
إنّكم في السّخاء كالسحاب الذي في ظله جملة العالم في رفاهية من حرارة الفتن انتهى.

موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم ج 2 1500 المدخل: ..... ص: 1500

إنّكم في السّخاء كالسحاب الذي في ظله جملة العالم في رفاهية من حرارة الفتن انتهى.
وقد اعتبر صاحب مجمع الصنائع المدح الموجّه مرادفا للاستتباع.
المدح
أثنى الله على نفسه بما هو له أهل، وبهذا الثناء الحق يثنى عليه من يتقدم إليه بالعبادة، وفاتحة الكتاب التى تتلى في الصلاة، كلها مدح له وثناء، مدح له بالعظمة والجلال، فهو رب العالمين، وصاحب النعمة عليهم بالقليل والكثير، وبأنه السيد ذو السلطان يسألهم عن تصرفاتهم يوم الدين. ولا تخلو صفحة في القرآن من ثناء على الله ومدح له، وذلك طبيعى في كتاب جاء ليوجه الناس الوجهة الصحيحة في عبادة الله وتوحيده.
وأثنى القرآن على محمد ثناء جمّا، فجعله وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (النجم 3 - 4)، ومن أهم ما أشاد به القرآن أخلاقه الكريمة، وقد أكد ذلك في
قوله سبحانه: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (القلم 4)، كما كان خلق الرفق واللين من بين الصفات التى خصها القرآن بالحديث عنها، إذ قال: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ (آل عمران 159)، فبالرفق تملك قلوب الأتباع، وينال صادق مودتهم.
ومدح القرآن أصحاب محمد، وكان من أهم ما وصفهم به التراحم بينهم، والشدة على أعدائهم، أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ (الفتح 29). ومدح من آمــن واتبع الرسول، فوصفهم حينا بأنهم على الهدى، فقال: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (البقرة 2 - 5)، وبأنهم أولو الألباب إذ قال:
فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (الزمر 17، 18)، وبأنهم كالسميع البصير الذى يهديه سمعه وبصره، على عكس أولئك الذين لا يتبعون أحسن القول: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا أَفَلا تَذَكَّرُونَ (هود 24). وجعل القرآن للمؤمن نورا يمشى به في الناس، فإنه يهتدى بهذا النور إلى طريق الخير وإلى صراط مستقيم، أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (الأنعام 122). وفي عقد هذه الموازنات تمجيد للإيمان وتعظيم من شأن المؤمنين.

المرض

المرض: ضعف في القوى يترتب عليه خلل في الأفعال، ذكره الحرالي وقال الراغب: خروج البدن عن الاعتدال الخاص، وهو ضربان جسمي وروحاني، وهو عبارة عن الرذائل كجهل وجبن ونفاق وغيرها، سميت به لمنعها عن إدراك الفضائل كمنع المرض للبدن عن التصرف الكامل، أو لمنعها عن تحصيل الحياة الأخروية أو لميل النفس به إلى الاعتقادات الرديئة كما يميل المريض إلى الأشياء المضرة.
المرض: بفتح الراء وسكونها هو فسادُ المزاج قال ابن الأعرابي: "هو إظلام الطبيعة واضطرابُها بعد صفائها واعتدالها، وقال ابن فارس: المرضُ: كل ما خرج بالإنسان عن حد الصحَّة من علَّة ونِفاق وشك وفتور وظلمةٍ ونقصان وتقصير في أمر، وفي "المصباح": المرضُ: "حالةٌ خارجة عن الطبع ضارّةٌ بالفعل ويقابله الصحّةُ وقيل: المرضُ بسكون الراء يختصّ بالنفس وبفتحها بالجسم".
المرض
كانت العرب تكني بداء القلب عن الحقد والهوى . وفي القرآن جاء أيضاً بمعنى الشك. وعلى هذا سمي اليقين شفاء .
...
كان التحاسد والتباغض والارتياب من أظهر خلال اليهود. ثم لما أنشأ الله نبيّه في بني إسماعيل، وأنزل كتابه على محمد - صلى الله عليه وسلم -، وارتفع أمره، شقّ عليهم، وهَيَّجَ بغضاءَهم. فذلك ما زادهم مرضاً حسب سنّته. وإن سنن الله تعالى تنسب إليه. وكثيراً ما ينبّه القرآن على ذلك. وهكذا هاهنا قدّم أعمالهم الناشئة من مرض قلوبهم.
ولما كان نفاقهم نتيجة الحقد والارتياب عبّر القرآن عنه بالمرض. وقد مرَّ أن العرب كانت تسمي الضغن مرضاً والانتقام شفاء . وأما الريب فقد كثر في القرآن أن اليقين شفاء، فجعل الشك مرضاً. وهذا من أحسن التعبيرات. ومنه قوله تعالى:
{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَــنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} .
وأما تسمية الضغن مرضاً فمما كثر في كلامهم، وقد جاء في القرآن، وفسّره حيث قال تعالى:
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} .
المرض:
[في الانكليزية] Illness ،disease ،sickness
[ في الفرنسية] Maladie ،mal
بفتح الميم والراء خلاف الصحة وقد سبق.

المعرفة

المعرفة: عند النحاة: ما وضع ليدل على شيء بعينه وهي المضمرات والأعلام والمبهمات، وما عرف باللام، والمضاف إلى أحدهما.وعند أهل النظر: إدراك الشيء على ما هو عليه وهي مسبوقة بنسيان حاصل بعد العلم، ولذلك يسمى الحق تعالى بالعالم دون العارف.المعرفة عند القوم: سمو اليقين. وقيل سقوط الوهم لوضوح الاسم. وقيل زوال البرهان بكمال العيان. وقيل دثور الريب لظهور الغيب. وقيل هجوم الأنوار على الأبرار.
المعرفة:
[في الانكليزية] Knowledge
[ في الفرنسية] Connaissance
هي تطلق على معان. منها العلم بمعنى الإدراك مطلقا تصوّرا كان أو تصديقا. ولهذا قيل كلّ معرفة وعلم فإمّا تصوّر أو تصديق.
ومنها التصوّر كما سبق وعلى هذا يسمّى التصديق علما كما مرّ أيضا. ومنها إدراك البسيط سواء كان تصوّرا للماهية أو تصديقا بأحوالها، وإدراك المركّب سواء كان تصوّرا أو تصديقا، على هذا الاصطلاح يخصّ بالعلم، فبين المعرفة والعلم تباين بهذا المعنى، وكلاهما أخصّ من العلم بمعنى الإدراك مطلقا، وكذا الحال في المعنى الثاني للمعرفة والعلم. وبهذا الاعتبار يقال عرفت الله دون علمته. ومناسبة هذا الاصطلاح بما نسمعه من أئمة اللغة من حيث إنّ متعلّق المعرفة في هذا الاصطلاح وهو البسيط واحد ومتعلّق العلم وهو المركّب متعدّد، كما أنّهما كذلك عند أهل اللغة وإن اختلف وجه التعدّد والوحدة، فإنّ وجه التعدّد والوحدة في اللغوي يرجع إلى تقييد الاسم الأول بإسناد أمر إليه وإطلاقه عنه، سواء كان مدخوله مركّبا أو بسيطا، وفي الاصطلاحي إلى نفس المحكوم عليه. فإن كان مركّبا فهو متعلّق العلم وإن كان بسيطا فمتعلّق المعرفة. ومنها إدراك الجزئي سواء كان مفهوما جزئيا أو حكما جزئيا، وإدراك الكلّي مفهوما كلّيا كان أو حكما كلّيا على هذا الاصطلاح يخصّ بالعلم، وبالنظر إلى هذا يقال أيضا عرفت الله دون علمته، والمراد بالحكم التصديق، والنسبة بينهما على هذا على قياس المعنى الثاني والثالث، والنسبة بين تلك المعاني الثلاثة للمعرفة هي العموم من وجه، وكذا بين تلك المعاني الثلاثة للعلم، وكذا بين المعرفة بالمعنى الثاني أي بمعنى التصوّر وبين العلم بالمعنى الثالث الرابع، وكذا بين المعرفة بالمعنى الثالث والعلم بالمعنى والرابع، وكذا بين المعرفة بالمعنى الرابع والعلم بالمعنى الثالث كما لا يخفى. قيل الاصطلاح الثاني والرابع متفرّعان على الثالث لأنّ الجزئي والتصوّر أشبه بالبسيط والكلّي والتصديق بالمركّب، هذا والأقرب أن يجعل استعمال المعرفة في التصوّرات والعلم في التصديقات أصلا لأنّه عين المعنى اللغوي ثم يفرّع عليه المعنيان الآخران، هكذا في شرح المطالع وحواشيه وحواشي المطول. ومنها إدراك الجزئي عن دليل كما في التوضيح في تعريف الفقه ويسمّى معرفة استدلالية أيضا. ومنها الإدراك الأخير من الإدراكين لشيء واحد إذا تخلّل بينهما عدم بأن أدرك أولا ثم ذهل عنه ثم أدرك ثانيا. قيل المراد بالذهول هو ما يفضي إلى نسيان محوج إلى كسب جديد وإلّا فالحاصل بعد الذهول التفات لا إدراك إلّا مجازا. والحقّ أنّ الذهول زوال الصورة عن المدركة فيكون الموجود بعده إدراكا، وإن كان بلا كسب جديد. ومنها الإدراك الذي هو بعد الجهل ويعبّر عنه أيضا بالإدراك المسبوق بالعدم والعلم يقال للإدراك المجرّد من هذين الاعتبارين بمعنى أنّه لم يعتبر فيه شيء من هذين القيدين، وبالنظر إلى هذه المعاني الثلاثة يقال: الله تعالى عالم ولا يقال عارف، إذ ليس إدراكه تعالى استدلاليا ولا مسبوقا بالعدم ولا قابلا للذهول، والنسبة بين المعرفة والعلم بهذين المعنيين هي العموم مطلقا، هكذا في حواشي المطول في تعريف علم المعاني، وباقي النّسب يظهر بأدنى توجّه.
ومنها ما هو مصطلح الصوفية. قال في مجمع السلوك: المعرفة لغة العلم، وعرفا العلم الذي تقدّمه نكرة. وفي عبارة الصوفية العلم الذي لا يقبل الشكّ إذا كان المعلوم ذات الله تعالى وصفاته، ومعرفة الذات أن يعلم أنّه تعالى موجود واحد فرد وذات وشيء وقائم ولا يشبه شيئا ولا يشبهه. وأما معرفة الصفات فأن يعرف الله تعالى حيّا عالما سميعا بصيرا مريدا متكلّما إلى غير ذلك من الصفات. وإنما لا تطلق المعرفة على الله تعالى لأنّها في الأصل اسم لعلم كان بعد أن لم يكن، وعلمه تعالى قديم.
ثم المعرفة إمّا استدلالية، وهو الاستدلال بالآيات على خالقها لأنّ منهم من يرى الأشياء فيراه بالأشياء، وهذه المعرفة على التحقيق إنّما تحصل لمن انكشف له شيء من أمور الغيب حتى استدلّ على الله تعالى بالآيات الظاهرة والغائبة، فمن اقتصر استدلاله بظاهر العالم دون باطنه فلم يستدل بالدليلين فتعطّل استدلاله بالباطن وهي درجة العلماء الراسخين في العلم.
وأمّا شهودية ضرورية وهو الاستدلال بناصب الآيات على الآيات، وهي درجة الصّدّيقين وهم أصحاب المشاهدة. قال بعض المشايخ: رأيت الله قبل كلّ شيء وهو عرفان الإيقان والإحسان، فعرفوا كلّ شيء به لا أنّهم عرفوه بشيء انتهى. ويقرب من هذا ما في شرح القصيدة الفارضية من أنّ المعرفة أخصّ من العلم لأنّها تطلق على معنيين، كلّ منهما نوع من العلم، أحدهما العلم بأمر باطن يستدلّ عليه بأثر ظاهر كما توسّمت شخصا فعلمت باطن أمره بعلامة ظاهرة منه، ومن ذلك ما خوطب به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ. وثانيهما العلم بمشهود سبق به عهد كما رأيت شخصا رأيته قبل ذلك بمدة فعلمت أنّه ذلك المعهود، فقلت عرفته بعد كذا سنّة عهده، فالمعروف على الأول غائب وعلى الثاني شاهد. وهل التفاوت البعيد بين عارف وعارف إلّا لبعد التفاوت بين المعرفتين؟ فمن العارفين من ليس له طريق إلى معرفة الله تعالى إلّا الاستدلال بفعله على صفته وبصفته على اسمه وباسمه على ذاته، أولئك ينادون من مكان بعيد. ومنهم من يحمله العناية الأزلية فتطرقه إلى حريم الشّهود فيشهد المعروف تعالى جده بعد المشاهدة السابقة في معهد أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ويعرف به أسماءه وصفاته على عكس ما يعرفه العارف الأول، فبين العارفين بون بيّن، إذ الأول لغيبة معروفة كنائم يرى خيالا غير مطابق للواقع، والثاني لشهود معروفه كمستيقظ يرى مشهودا حقيقيا مطابقا للواقع انتهى كلامه.

قال في مجمع السلوك: أوحى الله تعالى لداود عليه السلام يا داود: أتدري ما معرفتي؟ قال:

لا. قال: حياة القلب في مشاهدتي. وقال الواسطي: المعرفة ما شاهدته حسّا والعلم ما شاهدته خبرا أي بخبر الأنبياء عليهم السلام.

وقال البعض: المعرفة اسم لعلم تقدّمه نكرة وغفلة، ولهذا لا يصحّ إطلاقه على الله تعالى.

وقال الشبلي: إذا كنت بالله تعالى متعلّقا لا بأعمالك غير ناظر إلى ما سواه فأنت كامل المعرفة. وقيل الرؤية في الآخرة كالمعرفة في الدنيا كما أنّه تعالى يعرف في الدنيا من غير إدراك كذلك يرى في العقبى من غير إدراك، لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ.
وقالوا من لم يعرف الله تعالى فالسكوت عليه حتم، ومن عرف الله تعالى فالصّمت له جزم.
ولذلك قيل من عرف الله كلّ لسانه، ولا يعارضه ما قيل: من عرف الله طال لسانه: إذ المعنى من عرف الله بالذات كلّ لسانه ومن عرف الله بالصفات طال لسانه. لأنّ الشّخص الذي له مقام التلوين يكون له معرفة الصفات، وأمّا من كان في مقام التمكين فله معرفة الذات.
وذلك مثل سيدنا موسى عند ما كان في مقام التلوين فتطاول قائلا: ربّ أرني أنظر إليك.

فجاءه الجواب: لن تراني. وأمّا نبيّنا المصطفى صلى الله عليه وسلم فلكونه في مقام التمكين فلم يتطاول بلسانه ولم يطلب الرؤية لهذا حظي بالرؤية. أو يقال: المعنى من عرف الله بمعرفته الشهودية الضرورية كلّ لسانه، ومن عرف الله بمعرفته الاستدلالية طال لسانه انتهى. وفي خلاصة السلوك: المعرفة ظهور الشيء للنفس عن ثقة، قال به عليّ بن عيسى. وقال عبد الله بن يحيى إذا أراك الاضطراب عن مقام العلم بدوام الصحبة فهو معرفة. وقيل المعرفة إحاطة العلم بالأشياء، قال عليه الصلاة والسلام: «لو عرفتم الله حقّ معرفته لزال الجبال عن دعائكم». قال أبو يزيد: حقيقة المعرفة الحياة بذكر الله وحقيقة الجهل الغفلة عن الله.
حكى أبو عليّ ثمرة المعرفة إذا ابتلي صبر وإذا أعطي النّعم شكر وإذا أصابه المكروه رضي.

وقال أهل الإشارات: العارف من لا يشغله شاغل طرفة عين. قال الجنيد: العارف الذي نطق الحقّ عن سرّه وهو ساكت. وقيل الذي ضاقت الدنيا عليه بسعتها. وقيل: الناس على أربعة أصناف: الثابت الذي يعمل للدرجات، والمحبّ الذي يعمل للزلفى القريبة، والعارف الذي يعمل لرضاء ربه من غير حفظ لنفسه منه.
ومنها ما هو مصطلح النحاة وهي اسم وضع لشيء بعينه. وقيل اسم وضع ليستعمل في شيء بعينه ويقابلها النكرة. اعلم أنّ التعريف عبارة عن جعل الذات مشارا بها إلى خارج إشارة وضعية ويقابلها التنكير وهو جعل الذات غير مشار بها إلى خارج في الوضع، والمراد بالذات المعنى المستقلّ بالمفهومية الذي يصلح أن يحكم عليه وبه، وهو معنى الاسم فقط، فإنّ معنى الفعل والجملة لدخول النسبة فيه خارج عن تلك الصلاحية، وكذا معنى الحرف. ثم لا يخفى أنّ المشار به إلى خارج إنّما هو اللفظ الدالّ على الذات وإنّما نسب إليها مجازا أو أراد بالذات ما يدلّ عليها مجازا، فالتعريف والتنكير من عوارض الذات أي من عوارض ما يكون مدلوله الذات، فلا يجريان في غير الاسم. فعلى هذا لو بدّل الذات بالاسم لكان أنسب. والمراد بالخارج مقابل الذهن. وإنّما قيل إلى خارج لأنّ كلّ اسم موضوع للدلالة على ما سبق في علم المخاطب بكون ذلك الاسم دالا عليه، ومن ثمّة لا يحسن أن يخاطب بلسان إلّا من سبق معرفته بذلك اللسان، فعلى هذا كلّ لفظ فهو إشارة إلى ما ثبت في ذهن المخاطب أنّ ذلك اللفظ موضوع له، فلو لم يقل إلى خارج لدخل في الحدّ جميع الأسماء معارفها ونكراتها. وتوضيحه أنّ المعرفة يشار بها إلى ما في الذهن من حيث حضوره فيه، ولهذا قيل المعرفة يقصد بها معيّن عند السامع من حيث هو معيّن كأنه إشارة إليه بذلك الاعتبار. وأمّا النكرة فيقصد بها التفات الذهن إلى المعيّن من حيث ذاته ولا يلاحظ فيها تعيينه وإن كان معيّنا في نفسه، لكن بين مصاحبة التعيين وملاحظته فرق جلي. ولا شكّ في أنّ الأمر الحاضر في الذهن وإن كان أمرا ذهنيا إلّا أنه مع قيد الحضور في الذهن أمر خارج عن الذهن لأنّ الموجود في الذهن مجرّد ذاته لا مع قيد الحضور فيه، فالمراد بالخارج المعيّن من حيث هو معيّن، وقد يقيّد الخارج بالمختصّ ويجعل فائدته الاحتراز عن الضمائر العائدة إلى ما لم يختص بشيء قبله نحو: أرجل قائم أبوه، ونحو: ربّه رجلا وربّ رجل وأخيه، ويا لها قصة، فإنّ هذه الضمائر نكرات إذ لم يسبق اختصاص المرجوع إليه بحكم. ولو قلت ربّ رجل كريم وأخيه، وربّ شاة سوداء وسخلتها لم يجز لأنّ الضمير معرفة لرجوعه إلى نكرة مخصصة بالصفة. وفيه بحث لأنّه إن كانت هذه الضمائر إشارة إلى ما في الذهن من حيث حضوره فيه كان الظاهر كونها معرفة لا نكرة، وإن كانت إشارة إليه من حيث ذاته خرجت من قيد خارج فلم يحتج إلى قيد مختص. وأيضا معنى التعريف هو التعيين أي الإشارة إلى معلوم حاضر في ذهن السامع من حيث هو معلوم وإن كان مبهما كما سبق، وهذا المعنى موجود في الضمير العائد إلى النكرة، فلا وجه للحكم بكونه نكرة. وأيضا لمّا اعتبر مجرّد الإشارة إلى الخارج فاعتبار التخصيص الغير الواصل إلى حدّ التعيين مستبعد جدا. ولما كان الحقّ إدخال تلك الضمائر في المعارف لم يقيّد الخارج بالمختص. وإنّما قيل إشارة وضعية ليخرج عن الحدّ النكرات المعيّنة عند المخاطب نحو أتيت رجلا إذا علمه المتكلّم بعينه إذ ليس في رجلا إشارة لا وضعا ولا استعمالا إلى معيّن؛ ويدخل في الحدّ تعريف الأعلام المشتركة إذ يشار بها إلى معيّن بحسب الوضع.
فالمعرفة على هذا ما أشير به إلى خارج إشارة وضيعة. وعند من قيّد الخارج بالمختصّ هي ما أشير به إلى خارج مختصّ إشارة وضعية، والنكرة ما ليس كذلك.
ثم اعلم أنّ الجمهور على أنّ المعتبر في المعرفة التعيين عند الاستعمال دون الوضع، فعرّفوا المعرفة بما وضع ليستعمل في شيء بعينه أي متلبّس بعينه أي في شيء معيّن من حيث إنّه معيّن. وحاصله الإشارة إلى أنّه معهود ومعلوم بوجه ما، وبهذا خرج النكرة لأنّ معاني النكرات وإن أوجبت معلوميتها للسامع لكن ليس في اللفظ إشارة إلى تلك المعلومية. ولمّا اعتبر التعيين عند الاستعمال دخل في الحدّ المضمرات والمبهمات وسائر المعارف، فإنّ لفظ أنا لا يستعمل إلّا في الاشخاص المعيّنة إذ لا يصحّ أن يقال إنا ويراد به متكلّم لا بعينه، وليست موضوعة لواحد منها وإلّا لكانت في غيره مجازا، ولا لكلّ واحد منها وإلّا لكانت مشتركة موضوعة أوضاعا بعدد الأفراد. وأيضا لا قدرة على وضعها لأمور متعيّنة لا يمكن ضبطها وملاحظتها حين الوضع، فوجب أن تكون موضوعة لمفهوم كلّي شامل لكلّ الأفراد، ويكون الغرض من وضعها له استعمالها في أفراده المعيّنة دونه، فما سوى العلم معارف استعمالية لا وضعية، فالشيء المذكور في التعريف أعمّ ممّا وضع اللفظ المستعمل فيه له كالأعلام وممّا وضع لما يصدق عليه كما في سائر المعارف. وهذا هو الذي اختاره المحقّق التفتازاني. وقال في التلويح بأنّه الأحسن.
وذهب بعض المتأخّرين إلى أنّ المعتبر التعيين عند الوضع وعرّفوها بما وضع لشيء بعينه.
فالموضوع له لا بدّ أن يكون معيّنا سواء كان الوضع خاصا كما في العلم أو عاما كما في غيره من المعارف، ولا يلزم المجاز ولا الاشتراك وتعدّد الأوضاع. ويرد على قولهم لا قدرة على وضعها لأمور الخ أنّه كيف صحّ منكم اشتراط أن لا يستعمل إلّا في واحد معيّن من طائفة من المعيّنات فيما ضبطتم للمستعمل فيه يمكن أن يضبط الموضوع له ويوضع له، ولو صحّ ما ذكرتموه لكانت أنت وأنا وهذا مجازات لا حقائق لها إذ لا تستعمل فيما وضعت هي لها من المفهومات الكلّية، بل لا يصحّ استعمالها فيها أصلا، وهذا مستبعد جدا، كيف لا ولو كانت كذلك لما اختلف أئمّة اللغة في عدم استلزام المجاز الحقيقة ولما احتيج في نفي الاستلزام أن يتمسّك في ذلك بأمثلة نادرة، وهذا هو الذي اختاره السّيّد السّند وصاحب الأطول وغيرهما، وقالوا بأنّه هو الحقّ الحقيق بالتحقيق ويجيء لذلك توضيح في لفظ الوضع.
هذا كلّه خلاصة ما في المطول وحواشيه والأطول في بيان فائدة تعريف المسند إليه.

اعلم أنّ المعارف بحسب الاستقراء ستّ:
المضمرات والأعلام والمبهمات وما عرّف باللام وما عرّف بالنداء والمضاف إلى إحدى هذه الخمسة، ولم يذكر المتقدّمون ما عرّف بالنداء لرجوعه إلى ذي اللام إذ أصل يا رجل يا أيّها الرجل، ويذكر هاهنا المعرّف باللام والإضافة. فأقول اشتهر فيما بينهم أنّ لام التعريف يكون للعهد الخارجي ولتعريف الجنس وللعهد الذهني وللاستغراق وكذلك المعرّف بالإضافة. وذهب المحقّقون إلى أنّ اللام لتعريف العهد والجنس لا غير، إلّا أنّ القوم أخذوا بالحاصل وجعلوه أربعة أقسام: توضيحا وتسهيلا، وجعلوا تعريف الاستغراق من أقسام تعريف الجنس، واختلفوا في المعهود الذهني.
فبعضهم جعله من أقسام العهد الخارجي وقال إذا ذكر بعض أفراد الجنس خارجا أو ذهنا فحمل الفرد على ذلك البعض أولى من حمله على جميع الأفراد ويسمّى المعهود خارجيا أو ذهنيا، وإلى هذا ذهب صاحب التوضيح كما صرّح به الفاضل الچلپي في حاشية التلويح في بيان ألفاظ العموم، وإلى هذا يشير أيضا ما وقع في الاتقان حيث قال: التعريف باللام نوعان:

عهدية وجنسية، وكلّ منهما ثلاثة أقسام:
فالعهدية إمّا أن يكون مصحوبها معهودا ذكريا نحو كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا، فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ وضابطته أنّ يسدّ الضمير مسدّها مع مصحوبها أو معهودا ذهنيا نحو إِذْ هُما فِي الْغارِ أو معهودا حضوريا نحو الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي. قال ابن عصفور وكذا كلّ ما وقع بعد اسم الإشارة نحو جاءني هذا الرجل، وبعد أيّ في النداء نحو يا أيّها الرجل، أو إذا الفجائية نحو خرجت فإذا الأسد، أو في اسم الزمان الحاضر نحو الآن انتهى نظرك. والجنسية إمّا لاستغراق الأفراد وهي التي يخلفها لفظ كلّ حقيقة نحو وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً ومن دلائلها صحة الاستثناء من مدخولها نحو إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَــنُوا أو وصفه بالجمع نحو أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا وإمّا لاستغراق خصائص الأفراد وهي التي يخلفها لفظ كلّ مجازا نحو ذلك الكتاب أي الكتاب الكامل في الهداية الجامع لصفات جميع الكتب المنزّلة وخصائصها. وإمّا لتعريف الماهية والحقيقة والجنس وهي التي لا يخلفها كلّ لا حقيقة ولا مجازا نحو جعلنا من الماء كل شيء حيّا، ومثل هذا في المغني أيضا. وبعضهم جعله أي المعهود الذهني من أقسام الجنس ولذا حقّق صاحب المفتاح أنّ لام التعريف للإشارة إلى تعيين حصّة من مفهوم مدخوله أو تعيين نفس المفهوم والعهد الذهني والاستغراق من أقسام لام تعريف الجنس. واعلم أنّ معنى التعريف مطلقا هو الإشارة إلى أنّ مدلول اللفظ معهود أي معلوم حاضر في الذهن فلا فرق بين لام الجنس ولام العهد في الحقيقة إذ كلّ منهما إشارة إلى معهود غايته أنّ المعهود في أحدهما جنس وفي الآخر حصّة منه، فتسمية أحدهما بلام الجنس والآخر بلام العهد اصطلاح عائد إلى معروض التعيين، أي التعريف، لا إلى التعيين نفسه. ولهذا قال أئمة الأصول حقيقة التعريف العهد لا غير، وإلى هذا أشار السّكّاكي واختار في اللام أنّ معناها العهد، أي الإشارة إلى أنّ مدلول اللفظ معهود أي معلوم حاضر في ذهن السامع. وإذا كانت اللام موضوعة لمعنى العهد مطلقا أي سواء كان الحاضر ماهية أو حصة منها كان تعريف الحقيقة قسما من العهد، كما أنّ ما سمّوه تعريف عهد قسم آخر منه، وهذا كلام حقّ. هكذا يستفاد من الأطول وحواشي المطول، وبهذا ظهر فساد ما في بعض شروح المغني أنّ الألف واللام عند السّكّاكي إنّما هي لتعريف العهد الذهني خاصة. وأمّا الجنسية والاستغراقية والعهدية خارجيا فكلّها داخلة في العهد الذهني انتهى. واعلم أيضا أنّه إذا دخلت اللام على اسم الجنس فإمّا أن يشار بها إلى حصّة معيّنة منه فردا كان أو أفرادا مذكورة تحقيقا أو تقديرا، ويسمّى لام العهد الخارجي والأول وهو ما كان مذكورا تحقيقا بأن يذكر سابقا في كلامك أو كلام غيرك صريحا أو غير صريح هو العهد التحقيقي، والثاني وهو ما كان مذكورا تقديرا بأن يكون معلوما حقيقة أو ادعاء لغرض وهو العهد التقديري. وأمّا أن يشار بها إلى الجنس نفسه وحينئذ إمّا أن يقصد الجنس من حيث هو كما في التعريفات وفي نحو قولنا الرجل خير من المرأة ويسمّى لام الحقيقة والطبيعة، وإمّا أن يقصد الجنس من حيث هو موجود في ضمن الأفراد بقرينة الأحكام الجارية عليه الثابتة له في ضمنها، فأمّا في جميعها كما في المقام الخطابي وهو الاستغراق أو في بعضها وهو المعهود الذهني. فإن قلت هلّا جعلت العهد الخارجي كالذهني راجعا إلى الجنس؟ قلت:
لأنّ معرفة الجنس غير كافية في تعيين شيء من أفراده، بل يحتاج فيه إلى معرفة أخرى. ثم الظاهر أنّ الاسم في المعهود الخارجي له وضع آخر بإزاء خصوصية كلّ معهود. ومثله يسمّى وضعا عاما، ولا حاجة إلى ذلك في العهد الذهني والاستغراق، والتعريف الجنسي إذا جعل أسماء الأجناس موضوعة للماهيات من حيث هي. هذا خلاصة ما قال عضد الملّة في الفوائد الغياثية، فهذا صريح في أنّ لام الحقيقة ولام الطبيعة بمعنى واحد، وهو قسم من لام الجنس مقابل للعهد الذهني والاستغراق، والمفهوم من المطول والإيضاح أنّ لام الجنس ولام الحقيقة بمعنى واحد كذا في الأطول.
فائدة:
قولهم لام الجنس تشير إلى نفس الحقيقة معناه أنّ لام الجنس تشير إلى مطلق المفهوم أي مفهوم المسمّى، سواء كان حقيقيا أو مجازيا، فإنّها كما تدخل على الحقيقة تدخل على المجاز أيضا، كقولك الأسد الذي يرمي خير من الأسد المفترس، وسواء اقتصر الحكم على المفهوم أو أفضي صرفه إلى الفرد، وليس معناه أنّها تشير إلى نفس المفهوم من غير زيادة كما توهّم، وإلّا لم يصح جعل العهد الذهني والاستغراق داخلين تحته. وقد تكون الإشارة إلى نفس الحقيقة لدعوى اتحاده مع شيء، وجعل منه قوله تعالى أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وهو الذي قصده جار الله حيث قال: إنّ معنى التعريف في «المفلحون» الدلالة على أن المتقين هم الذين إن حصلت صفة المفلحين وتحقّقوا بما هم فيه وتصوّروا بصورتهم الحقيقية فهم هم لا يعدون تلك الحقيقة، كما تقول لصاحبك هل عرفت الأسد وما جبل إليه من فرط الإقدام أنّ زيدا هو هو. وقد يشار بها إلى تعيين الجنس من حيث انتسابه إلى المسند إليه فيرجع التعيين إلى الانتساب كما في بيت حسّان ووالدك العبد أي المعروف بالعبودية، فظهر أنّ تعريف الجنس ليس تعريفا لفظيا لا يحكم به إلّا بضبط أحكام اللفظ من غير حظّ المعنى فيه، كما قال بعض محقّقي النحاة، كلّ لام تعريف سوى لام العهد لا معنى للتعريف فيها، فإنّ الناظرين في المعاني لهم شرب آخر ولا يعتبرون التعريف اللفظي، ولذلك تراهم طووا ذكر علم الجنس بأقسامه في مقام التعرض للعلم وأحكامه؛ فلام الجنس تشير إلى نفس الحقيقة باعتبار حضورها وتعيّنها وعهديتها في الذهن. ولذا قال السّكّاكي لا بدّ في تعريف الجنس من تنزيله منزلة المعهود بوجه من الوجوه الخطابية إمّا لكون ذلك الشيء محتاجا إليه على طريق التحقيق أو على طريق التحكّم، فهو لذلك حاضر في الذهن، أو لأنّه عظيم الخطر معقود به الهمم لذلك على أحد الطريقين، أو لأنّه لا يغيب عن الجنس على أحد الطريقين، وإمّا لأنّه جار على الألسن كثير الدور في الكلام على أحد الطريقين، فإن قلت لم لم يجعل علم الجنس موضوعا بجوهره لما وضع له المعرّف بلام الجنس؟ قلت: لأنّ اعتبار التعين الذهني تكلّف إذ ليس نظر أرباب وضع اللفظ إلّا على الأمور الخارجية، وذو اللام يدعو إليه لئلّا يلغو اللام، ولا داعي إليه في نحو أسامة كذا في الأطول.
فائدة:
الاستغراق مطلقا باللام كان أو غيره ضربان: حقيقي نحو عالم الغيب والشّهادة وعرفي نحو جمع الأمير الصاغة أي صاغة بلده أو مملكته. وفسّر المحقّق التفتازاني الحقيقي بالشمول لكلّ ما يتناوله اللفظ بحسب اللغة وكأنّه أراد أعم من التناول بحسب المعنى المجازي أو الحقيقي والعرفي بالشمول لما يتناوله اللفظ بحسب متفاهم العرف. والعرف إذا أطلق يراد به العرف العام فيتّجه أنّه يبقى الشمول شرعا واصطلاحا واسطة وأنّ الظاهر لغوي وعرفي. وفسّر في شرح المفتاح السّيد السند أيضا الحقيقي بما كان شموله للأفراد على سبيل الحقيقة بأن لا يخرج فرد والعرفي مما يعدّ شمولا في عرف الناس، وإن خرج عنه كثير من أفراد المفهوم. هذا ولا يخفى عليك أنّ التقسيم إلى الحقيقي والعرفي لا يختص الاستغراق بل هو تخصيص من غير مخصّص إذ المعرّف باللام أيضا لواحد منها يكون عرفيا وحقيقيا، فنحو أدخل السوق عرفي إذ المراد سوق من أسواق البلد لا أسواق الدنيا، بل الإشارة إلى الحقيقة من حيث هي أيضا كذلك لأنّك ربما تقول في بلد البطيخ خير من العنب لأنّ بطيخه خير من عنبه، فالإشارة في كلّ من البطيخ والعنب إلى جنس خاص منهما بمعونة العرف. ولذا قد يعكس ذلك في بلد آخر وهذه دقيقة قد أبدعها السّكّاكي واتخذها من جاء بعده مذهبا. والحق أن لا استغراق إلّا حقيقيا والتصرّف في أمثال هذا المثال في الاسم المعرّف حيث خصّ ببعض مفهومه بقرينة التعارف فأريد بالصاغة إحدى الصاغتين، وأدخل اللام فاستفيد العموم كذا في الأطول.
فائدة:
الفرق بين المعرّف بلام الحقيقة والطبيعة وبين أسماء الأجناس التي ليست فيها دلالة على البعضية والكلّية نحو رجعى وذكرى ونحوهما من المصادر لأنّ المصادر ليس فيها القصد إلّا إلى الحقيقة المتحدة بالإجماع هو أنّ المعرّف بلام الحقيقة يقصد فيه الإشارة إلى الحقيقة باعتبار حضورها في الذهن وليس أسماء الأجناس المذكورة كذلك. والفرق بينه وبين علم الجنس هو أنّ علم الجنس يدلّ بجوهره على حضور الماهية في الذهن بخلاف المعرّف باللام فإنّه يدلّ على الحضور بالآلة. ومثل هذا الفرق بين المعهود الخارجي وعلم الشخص. وأيضا المعرّف باللام كثيرا ما لا يدلّ على المعهود بشخصه بخلاف علم الشخص. والفرق بين المعرّف بلام الاستغراق وبين كل مضافا إلى النكرة أنّ المعرّف مستعمل في الماهية بخلاف كلّ مضافا إلى النكرة، وأيضا في المعرّف باللام إشارة إلى حضورها في الذهن دون كلّ مضافا إلى النكرة، هكذا في المطول وأبي القاسم.
والفرق بين المعهود الذهني وبين النكرة هو أنّ النكرة تفيد أنّ ذلك الاسم بعض من جملة الحقيقة نحو أدخل سوقا سواء كانت موضوعة للحقيقة مع وحدة أو كانت موضوعة للحقيقة المتحدة، لأنّها مع التنوين تفيد الماهية مع وحدة لا بعينها، فإطلاقها على الواحد حقيقة بخلاف المعرّف باللام نحو أدخل السوق فإنّ المراد به نفس الحقيقة والبعضية مستفادة من القرينة، فإنّ الدخول أفاد أنّ الحقيقة المتحدة المرادة بالمعرّف باللام متحدة مع معهود، فإطلاقه على الواحد مجاز. وبالجملة قولك أدخل سوقا يأتي لواحد من حاق اللفظ فالنكرة أقوى في الإتيان لواحد، ولذا قالوا المعهود الذهني في المعنى كالنكرة وإن كان في اللفظ معرفة صرفة لوجود اللام وعدم التنوين، ولذا يجري عليه أحكام المعارف تارة من وقوعه مبتدأ وذا حال ووصفا للمعرفة ونحو ذلك، وأحكام النكرات تارة أخرى كتوصيفه بالجملة في قول الشاعر:
ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني وفي قوله تعالى كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً. هذا حاصل ما في الأطول. لكن في المطول أنّ إطلاق المعرّف بلام الحقيقة وكذا علم الجنس على الواحد حقيقة إذ لم يستعمل إلّا فيما وضع له، والفرق بين المعرّف والنكرة أنّ إرادة البعض في النكرة بنفس اللفظ، وفي المعرّف بالقرينة. واعترض عليه بأنّ الموضوع له الماهية المطلقة والمستعمل فيه هو الماهية المخلوطة، ولا شك في تغايرهما فينبغي أن يكون مجازا. وأجيب بأن الموضوع له هو الماهية لا بشرط شيء، وهي تتحقّق في ضمن المخلوطة، فالمستعمل فيه ليس إلّا الماهية لا بشرط شيء، والفرد المنتشر إنّما فهم من القرينة، وإنّما سمّي معهودا باعتبار مطابقته للماهية المعهودة فله عهد بهذا الاعتبار فسمّي معهودا ذهنيا. قال صاحب الأطول: لا يخفى أنّ المعرّف في مقام الاستغراق أيضا كالنكرة لأنّه يأتي للوحدات من غير إشارة إلى تعيينها، غايته أنّه متحد مع الماهية المعهودة كالمعهود الذهني، والمعرّف بلام الحقيقة من المصادر كالنكرة منها في المعنى، فلا وجه لتخصيص هذا الحكم بهذا القسم. ويمكن أن يقال يراد أنّ هذا في المعنى كالنكرة في اعتبار البلغاء وليس غيره كذلك. ولذا لم يعامل معه معاملة النكرة، ونظرهم في هذا التخصيص محمود لأنّ مناط الإفادة وهو الفرد في هذا القسم مبهم فلم يعتدّ بتعيين تعلّق بالمفهوم بخلاف ما إذا أريد جميع الأفراد فإنّها لتعيّنها بالعموم نائبة مناب المتعيّن.
فائدة:
اعلم أنّ التعريف باللام والنداء وبالإضافة جاء لمدلول اللفظ من الخارج. وأمّا تعريف باقي المعارف فمن جوهر اللفظ ولوضعه للأمر المأخوذ مع التعيّن. وما ذكره السّيّد السّند ناقلا عن الرّضي أنّ تعريف الموصول واسم الإشارة والضمير من الخارج كالمعرّف باللام والنداء والإضافة والانقسام إلى الخمسة بحسب تفاوت ما يستفاد منه مزيّف لأنّ الخارج في الموصول ونظيريه قرينة المراد من اللفظ لا الإشارة إلى تعيّنه كما قال، ولأنّ تفاوت ما يستفاد منه أزيد من الخمسة كذا في الأطول.

الدُّورُ

الدُّورُ:
بضم أوله، وسكون ثانيه: سبعة مواضع بأرض العراق من نواحي بغداد، أحدها دور تكريت وهو بين سامرّا وتكريت، والثاني بين سامرّا وتكريت أيضا يعرف بدور عربايا، وفي عمل الدّجيل قرية تعرف بدور بني أوقر وهي المعروفة بدور الوزير عون الدين يحيى بن هبيرة وفيها جامع ومنبر، وبنو أوقر كانوا مشايخها وأرباب ثروتها، وبنى الوزير بها جامعا ومنارة، وآثار الوزير حسنة، وبينها وبين بغداد خمسة فراسخ، قال هبة الله بن الحسين الإصطرلابي يهجو ابن هبيرة:
قصوى أمانيك الرجو ... ع إلى المساحي والنيّر
متربّعا وسط المزا ... بل، وسط دور بني أقر
أو قائدا جمل الزبي ... ديّ اللعين إلى سقر
والدّور أيضا: قرية قرب سميساط. والدّور أيضا:
محلّة بنيسابور، وقد نسب إلى كل واحد منها قوم من الرّواة، فأما دور سامرّا فمنها: محمد بن فرّوخان بن روزبه أبو الطيب الدوري، حدث عن أبي خليفة وغيره أحاديث منكرة، روى عن الجنيد حكايات في التصوّف، وأما دور بغداد فينسب إليها: أبو عبد الله محمد بن مخلد الدوري والهيثم بن محمد الدوري، قال ابن المقري: حدثنا هيثم ببغداد في الدور، وبالقرب منها قرية أخرى تسمّى دور حبيب من عمل دجيل أيضا، وفي طرف بغداد قرب دير الروم محلة يقال لها الدور، خربت الآن، وأما دور نيسابور فينسب إليها: أبو عبد الله الدوري، له ذكر في حكاية أحمد بن سلمة. ودور الراسبي: قرية من الأهواز بلد مشهور، ينسب إلى دور بغداد: محمد بن عبد الباقي بن أبي الفرج محمد ابن أبي اليسري بن عبد العزيز بن إبراهيم بن إسحاق بن نجيب الدوري البغدادي أبو عبد الله، حدث عن أبي بكر محمد بن عبد الملك بن بكران وأبي محمد الحسن ابن عليّ الجوهري ومحمد بن الفتح العشاري، قال ابن شافع: وكان شيخا صالحا خيّرا مولده في شعبان سنة 434، توفي سحرة يوم الأربعاء سابع عشر محرّم سنة 513، وقد خالف أبو سعد السمعاني ابن شافع في غير موضع من نسبه، والأظهر قول ابن شافع لأنه أعرف بأهل بلده.
دُورُ الرَّاسِبيِّ:
كأنه منسوب إلى بني راسب بن ميدعان بن مالك بن نصر بن الأزد بن الغوث: بين
الطيب وجنديسابور من أرض خوزستان، منه كان أبو الحسين عليّ بن أحمد الراسبي، ولست أدري هل الدور منسوب إليه أو هو منسوب إلى الدور، وكان من عظماء العمّال وأفراد الرجال، توفي ليلة الأربعاء لليلة بقيت من شهر ربيع الآخر سنة 301 في أيام المقتدر ووزارة عليّ بن عيسى، ودفن بداره بدور الراسبي، وخلّف ابنة لابنة كانت له وأخا، وكان يتقلد من حدّ واسط إلى حدّ شهرزور وكورتين من كور الأهواز جنديسابور والسوس وبادرايا وباكسايا، وكان مبلغ ضمانه ألف ألف وأربعمائة ألف دينار في كل سنة، ولم يكن للسلطان معه عامل غير صاحب البريد فقط، لأن الحرث والخراج والضياع والشجر وسائر الأعمال كان داخلا في ضمانه، فكان ضابطا لأعماله شديد الحماية لها من الأكراد والأعراب واللصوص، وخلّف مالا عظيما، وورد الخبر إلى بغداد من حامد بن العباس بمنازعة وقعت بين أخي الراسبي وبين أبي عدنان زوج ابنته، وأنّ كل واحد منهما طلب الرياسة لنفسه وصار مع كلّ واحد منهما طائفة من أصحاب الراسبي من غلمانه، فتحاربا وقتل بينهما جماعة من أصحابهما وانهزم أخو الراسبي وهرب وحمل معه مالا جليلا، وأنّ رجلا اجتاز بحامد بن العباس من قبل أبي عدنان ختن الراسبي ومعه كتاب إلى المعروف بأخي أبي صخرة وأنفذ إليه عشرين ألف دينار ليصلح بها أمره عند السلطان، وأنّ حامدا أنفذ جماعة من الفرسان والرّجالة لحفظ ما خلّفه الراسبي إلى أن يوافي رسول السلطان، فأمر المقتدر بالله مؤنسا الخادم بالخروج لحفظ تركته وتدبير أمره، فشخص من بغداد وأصلح بين أبي عدنان وأخي الراسبي وحمل من تركته ما هذه نسخته:
العين أربعمائة ألف وخمسة وأربعون ألفا وخمسمائة وسبعة وأربعون دينارا، الورق ثلاثمائة ألف وعشرون ألفا ومائتان وسبعة وثلاثون درهما، وزن الأواني الذهبية ثلاثة وأربعون ألفا وتسعمائة وسبعون مثقالا، آنية الفضة ألف وتسعمائة وخمسة وسبعون رطلا، ومما وزن بالشاهين من آنية الفضة ثلاثة عشر ألفا وستمائة وخمسة وخمسون درهما، ومن الندّ المعمول سبعة آلاف وأربعمائة وعشرون مثقالا، ومن العود المطرّى أربعة آلاف وأربعمائة وعشرون مثقالا، ومن العنبر خمسة آلاف وعشرون مثقالا، ومن نوافج المسك ثمانمائة وستون نافجة، ومن المسك المنثور ألف وستمائة مثقال، ومن السّكّ ألفا ألف وستة وأربعون مثقالا، ومن الغالية ثلاثمائة وستة وستون مثقالا، ومن الثياب المنسوجة بالذهب ثمانية عشر ثوبا قيمة كل واحد ثلاثمائة دينار، ومن السروج ثلاثة عشر سرجا، ومن الجواهر حجرا ياقوت، ومن الخواتيم الياقوتية خمسة عشر خاتما، خاتم فصّه زبرجد، ومن حبّ اللؤلؤ سبعون حبّة وزنها تسعة عشر مثقالا ونصف، ومن الخيل الفحول والإناث مائة وخمسة وسبعون رأسا، ومن الخدم السودان مائة وأربعة عشر خادما، ومن الغلمان البيض مائة وثمانية وعشرون غلاما، ومن خدم الصقالبة والروم تسعة عشر خادما، ومن الغلمان الأكابر أربعون غلاما بآلاتهم وسلاحهم ودوابهم، ومن أصناف الكسوة ما قيمته عشرون ألف دينار، ومن أصناف الفرش ما قيمته عشرة آلاف دينا، ومن الدواب المهارى والبغال مائة وثمانية وعشرون رأسا، ومن الجمّاز والجمّازات تسعة وتسعون رأسا، ومن الحمير النقالة الكبار تسعون رأسا، ومن قباب الخيام الكبار مائة وخمس وعشرون خيمة، ومن الهوادج السروج أربعة عشر هودجا،
ومن الغضائر الصيني والزجاج المحكم الفاخر أربعة عشر صندوقا.
دَوْرَقُ:
بفتح أوله، وسكون ثانيه، وراء بعدها قاف: بلد بخوزستان، وهي قصبة كورة سرّق يقال لها دورق الفرس، قال مسعر بن المهلهل في رسالته: ومن رامهرمز إلى دورق تمرّ على بيوت نار في مفازة مقفرة فيها أبنية عجيبة، والمعادن في أعمالها كثيرة، وبدورق آثار قديمة لقباذ بن دارا، وبها صيد كثير إلّا أنه يتجنب الرعي في أماكن منها لا يدخلها بوجه ولا بسبب، ويقال إنّ خاصية ذلك من طلسم عملته أمّ قباذ لأنه كان لهجا بالصيد في تلك الأماكن، فربما أخلّ بالنظر في أمور المملكة مدة فعملت هذا الطلسم ليتجنب تلك الأماكن، وفيها هوامّ قتالة لا يبرأ سليمها، وبها الكبريت الأصفر البحري، وهو يجري الليل كله، ولا يوجد هذا الكبريت في غيرها، وإن حمل منها إلى غيرها لا يسرج، وإذا أتي بالنار من غير دورق واشتعلت في ذلك الكبريت أحرقته أصلا، وأما نارها فإنها لا تحرقه، وهذا من طريق الأشياء وعجيبها لا يوقف على علّته، وفي أهلها سماحة ليست في غيرهم من أهل الأهواز، وأكثر نسائها لا يرددن كفّ لامس، وأهلها قليلو الغيرة، وهي مدينة وكورة واسعة، وقد نسب إليها قوم من الرّواة، منهم: أبو عقيل الدورقي الأزدي التاجي واسمه بشير بن عقبة يعدّ في البصريين، سمع الحسن وقتادة وغيرهما، روى عنه مسلمة بن إبراهيم الفراهيدي وهشيم ويحيى بن سعيد القطان وغيرهم، وأبو الفضل الدورقي، سمع سهل بن عمارة وغيره، وهو أخو أبي عليّ الدورقي، وكان أبو عليّ أكبر منه، ومحمد بن شيرويه التاجي الدورقي أبو مسلم، روى عنه أبو بكر بن مردويه الحافظ الأصبهاني، وقد نسب قوم إلى لبس القلانس الدّورقيّة، منهم: أحمد بن إبراهيم بن كثير بن زيد بن أفلح أبو عبد الله الدورقي أخو يعقوب، وكان الأصغر، وقيل: إن الإنسان كان إذا نسك في ذلك الوقت قيل له دورقيّ، وكان أبوهما قد نسك فقيل له دورقيّ فنسب ابناه إليه، وقيل: بل كان أصله من دورق، روى أحمد عن إسماعيل بن عليّة ويزيد بن هارون ووكيع وأقرانهم، روى عنه أبو يعلى الموصلي وعبد الله بن محمد البغوي، توفي في شعبان سنة 246.
والدورق: مكيال للشراب، وهو فارسيّ معرّب، وقال الأحيمر السعدي، وكان قد أتى العراق فقطع الطريق وطلبه سليمان بن عليّ وكان أميرا على البصرة فأهدر دمه، فهرب وذكر حنينه إلى وطنه فقال:
لئن طال ليلي بالعراق لربما ... أتى لي ليل، بالشــآم، قصير
معي فتية بيض الوجوه كأنهم ... على الرحل، فوق الناعجات، بدور
أيا نخلات الكرم! لا زال رائحا ... عليكنّ منهلّ الغمام مطير
سقيتنّ، ما دامت بكرمان نخلة، ... عوامر تجري بينهنّ بحور
وما زالت الأيام، حتى رأيتني ... بدورق ملقى بينهنّ أدور
تذكّرني أطلالكنّ، إذا دجت ... عليّ ظلال الدّوم، وهي هجير
وقد كنت رمليّا، فأصبحت ثاويا ... بدورق ملقى بينهنّ أدور
عوى الذئب، فاستأنست بالذئب إذ عوى، ... وصوّت إنسان فكدت أطير
رأى الله أني للأنيس لشانئ، وتبغضهم لي مقلة وضمير
Learn Quranic Arabic from scratch with our innovative book! (written by the creator of this website)
Available in both paperback and Kindle formats.