Current Dictionary: All Dictionaries

Search results for: سوسة

التّوهّم

التّوهّم:
[في الانكليزية] Illusion ،imagination
[ في الفرنسية] Illusion ،imagination
هو عند الحكماء قسم من الإدراك وهو إدراك المعاني الغير المحــسوسة من الكيفيات والإضافات المخصوصة بالشيء الجزئي الموجودة في المادة لا يشاركه فيها غيره، فيشترط فيه كون المدرك جزئيا كما في الإحساس والتّخييل، ولا يشترط حضور المادّة بخلاف الإحساس، ولا اكتناف الهيئات بخلاف التّخييل، كذا في شرح الإشارات وقد سبق في لفظ الإحساس أيضا.

الحسّ المشترك

الحسّ المشترك:
[في الانكليزية] Sensus communis
[ في الفرنسية] Sens commun
هو عند الحكماء القوة التي ترتسم فيها صور الجزئيات المحــسوسة بالحواس الظاهرة، ويسمّى باليونانية بنطاسيا أي لوح النفس.
فالحواس كالجواسيس لها. ولهذا تسمّى حسّا مشتركا، فتطالع النفس بواسطة الارتسام فيها تلك الصور عند المحققين أو تدرك هذه القوة تلك الصور عند بعض كما مرّ. ومحل هذه القوة التجويف الأول من التجاويف الثلاثة التي في الدماغ، وذكروا لإثباتها وجوها. منها أنّ القطرة النازلة نراها خطا مستقيما، والشعلة التي تدار بسرعة شديدة نراها كالدائرة وليسا في الخارج خطا ودائرة، فهما إنّما يكونان كذلك في الحسّ وليس في الباصرة لأنها إنما تدرك الشيء حيث هو فهو لارتسامها في قوة أخرى سوى الباصرة ترتسم فيها صورة القطرة والشعلة وتبقى قليلا على وجه تتصل الارتسامات البصرية المتتالية بعضها ببعض فيشاهد خط ودائرة.
ومنها أنّه لولا أنّ فينا قوة مدركة للمحسوسات كلها لما أمكنّا أن نحكم بأنّ هذا الملموس هو هذا الملون أو ليس هذا الملون، فإنّ الحاكم لا بدّ أن يحضره الطرفان حتى يمكنه ملاحظة النسبة بينهما، وليس شيء من القوى الظاهرة كذلك ولا العقل، لأنّه لا يدرك الماديات.
وتفصيل هذا مع الردّ عليهم يطلب من شرح المواقف وغيره.

قَول

قَول
! القَوْلُ: الكلامُ على التَّرْتِيب، أَو كلُّ لَفظٍ مَذَلَ بِهِ اللِّسان تامّاً كَانَ أَو ناقِصاً، تَقول: {قَالَ} يقولُ {قَوْلاً، وَالْفَاعِل:} قائِلٌ، وَالْمَفْعُول: {مَقُولٌ، وَقَالَ الحَرَاليّ: القَوْلُ ابْداءُ صُوَرِ التكَلُّمِ نَظْمَاً، بمنزلةِ ائْتِلافِ الصُّوَرِ المَحــسوسةِ جَمْعَاً،} فالقَولُ مَشْهُودُ القَلبِ بواسطةِ الأُذُنِ، كَمَا أنّ المحسوسَ مَشْهُودُ القَلبِ بواسطةِ العَينِ وغيرِها. وَقَالَ الراغبُ: القَولُ يُستعمَلُ على أَوْجُهٍ أَظْهَرُها أَن يكونَ للمُرَكَّبِ من الحروفِ المَنْطوقِ بهَا مُفرداً كَانَ أَو جُملَةً، وَالثَّانِي: يُقال للمُتَصَوَّرِ فِي النَّفسِ قبلَ التلَفُّظِ {قَوْلٌ، فَيُقَال: فِي نَفْسِي قولٌ لم أُظْهِرْه، وَالثَّالِث: الِاعْتِقَاد، نَحْو: فلانٌ يقولُ} بقَوْلِ الشافعيِّ، وَالرَّابِع: يُقَال للدَّلالَةِ على الشيءِ، نَحْو: امْتَلأَ الحَوضُ {فقالَ قَطْنِي والخامسُ: يُقَال للعِنايةِ الصادقةِ بالشيءِ نَحْو: فلانٌ يقولُ بِكَذَا، وَالسَّادِس: يستعملُه المَنْطِقيُّونَ فَيَقُولُونَ: قَوْلُ الجَوْهَرِ كَذَا، وقولُ العَرَضِ كَذَا، أَي حدُّهما، وَالسَّابِع: فِي الإلهامِ نحوَ:} قُلْنا يَا ذَا القَرنَيْنِ إمّا أَن تُعَذِّبَ فإنّ ذَلِك لم يُخاطَبْ بِهِ، بل كَانَ إلْهاماً فسُمِّي قَوْلاً، انْتهى. وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: واعْلَمْ أنّ {قُلْتُ فِي كَلَام العربِ إنّما وَقَعَتْ على أَن تحكي بهَا مَا كانَ كَلاماً لَا قَوْلاً.
يَعْنِي بالكلامِ الجُمَلَ، كقولِك: زَيدٌ مُنْطَلِقٌ، وقامَ زَيدٌ، وَيَعْنِي} بالقَولِ الألفاظَ المُفردَةَ الَّتِي يُبنى)
الكلامُ مِنْهَا، كَزَيْدٍ من قولِك: زَيدٌ مُنطَلِقٌ، وأمّا تجَوُّزُهم فِي تسميتهم الاعتقاداتِ والآراءَ قَوْلاً فلأنَّ الاعتقادَ يَخْفَى فَلَا يُعرفُ إلاّ بالقَولِ أَو بِمَا يقومُ مقامَ القَوْلِ من شاهدِ الحالِ، فلمّا كَانَت لَا تَظْهَرُ إلاّ بالقَولِ سُمِّيَتْ قَوْلاً إذْ كانتْ سَبَبَاً لَهُ، وَكَانَ القولُ دَليلاً عَلَيْهَا، كَمَا يُسمّى الشيءُ باسمِ غيرِه إِذا كَانَ مُلابِساً وَكَانَ القَولُ دَلِيلا عَلَيْهِ، وَقد يُستعمَلُ القولُ فِي غيرِ الإنسانِ، قَالَ أَبُو النَّجْم: {قالَتْ لَهُ الطَّيْرُ تقدَّمْ راشِداً إنّكَ لَا تَرْجِعُ إلاّ حامِدا وَقَالَ آخَرُ:
(قالتْ لَهُ العَيْنانِ سَمْعَاً وطاعَةً ... وحَدَّرَتا كالدُّرِّ لمّا يُثَقَّبِ)
وَقَالَ آخر:
(بَيْنَما نَحْنُ مُرْتِعونَ بفَلْجٍ ... قَالَت الدُّلَّحُ الرِّواءُ إنِيْهِ)
إنيه: صَوْتُ رَزْمَةِ السحابِ وحَنينِ الرَّعد، وَإِذا جازَ أَن يُسمّى الرأيُ والاعتقادُ قَوْلاً وَإِن لم يكن صَوْتَاً كَانَ تسميتَهُم مَا هُوَ أَصْوَاتٌ قَوْلاً أَجْدَرَ بالجَواز، أَلا ترى أنّ الطيرَ لَهَا هَديرٌ، والحَوضَ لَهُ غَطيطٌ، والسَّحابَ لَهُ دَوِيٌّ، فأمّا قَوْله: قالتْ لَهُ العَيْنانِ: سَمْعَاً وطاعَةً فإنّه وَإِن لم يكن مِنْهُمَا صَوتٌ فإنّ الحالَ آذَنَتْ بأنْ لَو كَانَ لَهما جارِحَةُ نُطْقٍ لقالَتا سَمْعَاً وطاعَةً، قَالَ ابنُ جِنِّي: وَقد حرَّرَ هَذَا المَوضِعَ وأَوْضَحَه عَنْتَرةُ بقَولِه:
(لَو كَانَ يدْرِي مَا المُحاوَرةُ اشْتَكى ... أَو كانَ يدْرِي مَا جَوابُ تَكَلُّمِ)
ج:} أَقْوَالٌ، جج جمعُ الجمعِ {أقاوِيل، وَهُوَ الَّذِي صرَّحَ بِهِ سِيبَوَيْهٍ، وَهُوَ القياسُ، وَقَالَ قَومٌ: هُوَ جَمْعُ} أُقْوُولَةٍ كأُضْحُوكَةٍ، قَالَ شيخُنا: وَإِذا ثَبَتَ فالقياسُ لَا يَأْبَاه. أَو القَولُ فِي الخَيرِ والشرِّ {والقال،} والقيل، {والقالَةُ فِي الشرِّ خاصّةً، يُقَال: كَثُرَتْ} قالَةُ الناسِ فِيهِ، وَقد رَدَّ هَذِه التَّفرِقَةِ أَقوام، وضَعَّفوها بوُرودِ كلٍّ من! القالِ والقِيلِ فِي الخَير، وناهِيكَ بقولِه تَعالى: {وقِيلِه يَا رَبِّ إنّ هؤلاءِ الْآيَة، قَالَه شيخُنا. أَو القَولُ مصدرٌ، والقِيلُ والقال: اسْمانِ لَهُ، الأوّلُ مَقِيسٌ فِي الثُّلاثيِّ المُتعدِّي مُطلقًا، والأخيرانِ غيرُ مَقيسَيْن. أَو قالَ} قَوْلاً {وقِيلاً} وقَوْلَةً {ومَقالَةً} ومَقالاً فيهمَا وَكَذَلِكَ {قَالَا، وأنشدَ ابنُ بَرِّيٍّ للحُطَيْئة:)
(تحَنَّنْ عليَّ هَداكَ المَليكُ ... فإنّ لكلِّ مَقامٍ} مَقالا)
وَيُقَال: كَثُرَ القِيلُ والقالُ، وَفِي الحَدِيث: نَهَىَ عَن {قِيلٍ} وقالٍ، وإضاعةِ المالِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: فِي قِيلٍ وقالٍ نَحْوٌ وَعَرَبيَّةٌ، وَذَلِكَ أنّ جَعَلَ القالَ مَصْدَراً، أَلا ترَاهُ يقولُ عَن قيلٍ وقالٍ، كأنّه قَالَ: عَن قِيلٍ {وقَوْلٍ، يُقَال على هَذَا:} قلتُ قَوْلاً وقِيلاً {وَقَالا، قَالَ: وسمعتُ الكِسائيَّ يَقُول فِي قراءةِ عَبْد الله بن مسعودٍ: ذَلِك عِيسَى بنُ مَرْيَمَ} قالُ الحقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرون فَهَذَا من هَذَا.
وَقَالَ الفَرّاءُ: {القالُ فِي معنى القَوْلِ، مثلُ العَيبِ والعابِ، وَقَالَ ابنُ الأثيرِ فِي معنى الحَدِيث: نهى عَن فُضولِ مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ المُتَجالِسونَ من قولِهم: قِيلَ كَذَا، وَقَالَ فلانٌ كَذَا، قَالَ: وبِناؤُهما على كونِهما فِعلَيْنِ مَحْكِيَّيْنِ مُتَضَمِّنَيْنِ للضَّمير، والإعرابُ على إجرائِهما مُجْرى الأسماءِ خِلْوَيْنِ من الضَّمير، وَمِنْه قولُهم: إنّما الدُّنيا قالٌ} وقِيلُ. وإدخالُ حَرْفِ التعريفِ عَلَيْهِمَا لذَلِك فِي قولِهم: مَا يَعْرِفُ {القالَ من} القِيلَ. فَهُوَ {قائِلٌ} وقالٌ، وَمِنْه {قولُ بعضِهم لقَصيدةٍ: أَنا} قالُها: أَي {قائِلُها،} وقَؤُولٌ، كصَبُورٍ بالهَمزِ وبالواو، قَالَ كَعْبُ بنُ سَعدٍ الغَنَويّ:
(وَمَا أَنا للشيءِ الَّذِي لَيْسَ نافِعي ... وَيَغْضَبُ مِنْهُ صاحِبي {بقَؤُولِ)
ج:} قُوَّلٌ! وقُيَّلٌ بالواوِ وبالياء، كرُكَّعٍ فيهمَا، وأنشدَ الجَوْهَرِيّ لرُؤبَة: فاليومَ قد نَهْنَهني تَنَهْنُهي وأوّلُ حِلْمٍ لَيْسَ بالمُسَفَّهِ {وقُوَّلٌ إلاّ دَهْ فَلَا دَهِ} وقالَةٌ عَن ثَعْلَبٍ، {وقُؤُولٌ مَضْمُوماً بالهَمزِ والواوِ هَكَذَا فِي النّسخ، وَالَّذِي فِي الصِّحاح: رجلٌ} قَؤُولٌ وقومٌ {قُوُلٌ، مثل صَبُورٍ وصُبُرٍ، وَإِن شِئتَ سَكَّنْتَ الواوَ، قَالَ ابنُ بَرِّي: المعروفُ عِنْد أهلِ العربيّةِ} قَؤُولٌ {وقُوْلٌ بإسكانِ الواوِ، يَقُولُونَ: عَوانٌ وعُوْنٌ، والأصلُ عُوُنٌ، وَلَا يُحرَّكُ إلاّ فِي الشِّعرِ، كقولِه: ... . تَمْنَحُه سُوُكَ الإسْحِلِ ورجلٌ} قَوّالٌ {وقَوّالَةٌ، بالتشديدِ فيهمَا، من قومٍ قَوّالين،} وتِقْوَلَةٌ {وتِقْوالَةٌ، بكسرِهما: الأُولى عَن الفَرّاءِ والثانيةُ عَن الكِسائيِّ، حكى سِيبَوَيْهٍ:} مِقْوَلٌ، كمِنبَرٍ، قَالَ: وَلَا يُجمَعُ بالواوِ وَالنُّون لأنّ مُؤَنَّثَه لَا تدخلُه الهاءُ، قالَ {ومِقْوالٌ، كمِحْرابٍ، هُوَ على النَّسَب،} وقُوَلَةٌ، كهُمَزَةٍ، كلُّ ذَلِك: حسَنُ القَولِ أَو كثيرُه، لَسِنٌ، كَمَا فِي الصِّحاح، وَهِي مِقْوَلٌ ومِقْوالٌ وقَوّالَةٌ. والاسمُ {القالَةُ} والقِيلُ {والقال)
. وَقَالَ ابنُ شُمَيْلٍ:} يُقَال للرجلِ: إنّه {لمِقْوَلٌ: إِذا كَانَ بَيِّناً ظَريفَ اللِّسان،} والتَّقْوَلَة: الكثيرُ الكلامِ البَليغُ فِي حاجتِه وأمرِه، ورجلٌ تِقْوالَةٌ: مِنْطِيقٌ. وَهُوَ ابنُ {أَقْوَالٍ، وابنُ} قَوّالٍ: فَصيحٌ، جَيِّدُ الكلامِ، وَفِي التَّهْذِيب: تَقُولُ للرجلِ، إِذا كَانَ ذَا لسانٍ طَلْقٍ: إنّه لابْنُ {قَوْلٍ، وابنُ} أَقْوَالٍ. {وأَقْوَلَه مَا لم} يقُلْ، وَهُوَ شاذٌّ كقَولِه: صَدَدْتِ فَأَطْوَلْتِ الصُّدُودَ ...فَقَصَره على السَّماع، والصوابُ خِلافُه، وَفِيه كلامٌ طويلٌ لابنِ الشجَريِّ وغيرِه، وادَّعى فِيهِ البَدرُ الدَّمامينيُّ فِي شرحِ المُغْني أنّهم تصَرَّفوا فِيهِ للفَرْقِ، نَقله شيخُنا. سُمِّي بِهِ لأنّه يقولُ مَا شاءَ فَيَنْفُذُ، وَهَذَا على أنّه واوِيٌّ، وأصلُ قَيِّلٍ: {قَيْوِلٌ، كسَيِّدٍ وسَيْوِدٍ، وحُذِفَتْ عينُه، وذهبَ بعضُهم إِلَى أنّه يائِيُّ العَينِ من} القِيالَةِ وَهِي الإمارَة، أَو من {تقَيَّلَه: إِذا تابعَه أَو شابَهَه، ج أَي جَمْعُ} القَيِّل: {أَقْوَالٌ، قَالَ سِيبَوَيْهٍ: كَسَّروه على أَفْعَالٍ تَشْبِيهاً بفاعِلٍ، مَن جَمَعَه على} أَقْيَالٍ لم) يَجْعَلْ الواحدَ مِنْهُ مُشدّداً، كَمَا فِي الصِّحاح، وَقَالَ ابنُ الْأَثِير: أَقْيَالٌ مَحْمُولٌ على لفظِ {قَيْلٍ، كَمَا قِيلَ فِي جمعِ رِيحٍ أَرْيَاحٌ، والسائغُ المَقيسُ أَرْوَاحٌ، وَفِي التَّهْذِيب: هم} الأَقْوالُ {والأَقْيال، الواحدُ قَيْلٌ، فَمن قالَ: أَقْيَالٌ بناهُ على لَفْظِ قَيْلٍ، وَمن قالَ: أَقْوَالٌ بناهُ على الأصلِ، وأصلُه من ذَواتِ الْوَاو. جمع} المِقْوَلِ {مَقاوِل، وأنشدَ الجَوْهَرِيّ للَبيدٍ:
(لَهَا غَلَلٌ من رازِقِيٍّ وكُرْسُفٍ ... بأَيْمانِ عُجْمٍ يَنْصُفونَ} المَقاوِلا)
أَي يَخْدِمون المُلوكَ، {ومَقاوِلَةٌ، دَخَلَت الهاءُ فِيهِ على حَدِّ دخولِها فِي القَشاعِمَة.} واقْتالَ عَلَيْهِم: احْتَكمَ، وأنشدَ ابنُ بَرِّي للغَطَمَّشِ من بَني شَقِرَةَ:
(فبالخَيرِ لَا بالشَّرِّ فارْجُ مَوَدَّتي ... وإنّي امرؤٌ {يَقْتَالُ مِنّي التَّرَهُّبُ)
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: سَمِعْتُ الهَيثمَ بنَ عَدِيٍّ يَقُول: سَمِعْتُ عبدَ العزيزِ بن عُمرَ بن عبدِ العزيزِ يقولُ فِي رُقْيَةِ النَّملةِ: العَروسُ تَحْتَفِلْ،} وتَقْتَالُ وتَكْتَحِلْ، وكلُّ شيءٍ تَفْتَعِلْ، غيرَ أَن لَا تَعْصِي الرجُلْ.
قَالَ: {تَقْتَال: تَحْتَكِمُ على زَوْجِها، وأنشدَ الجَوْهَرِيّ لكَعبِ بن سَعدٍ الغَنَويِّ:
(وَمَنْزِلَةٍ فِي دارِ صِدْقٍ وغِبْطَةٍ ... وَمَا} اقْتالَ مِن حُكمٍ عليَّ طَبيبُ) وأنشدَ ابنُ بَرِّي للأعشى:
(ولمِثلِ الَّذِي جَمَعْتَ لرَيْبِ الدّْ ... هْرِ تَأْبَى حُكومَةُ {المُقْتالِ)
(و) } اقْتالَ الشيءَ: اختارَه هَكَذَا فِي النّسخ، وَفِي الأساسِ واللِّسان: {واقْتالَ قَوْلاً: اجْتَرَّه إِلَى نَفْسِه من خَيرٍ أَو شرٍّ.} وقالَ بِهِ: أَي غَلَبَ بِهِ، وَمِنْه حديثُ الدُّعاء: سُبْحانَ من تعَطَّفَ بالعِزِّ، والروايةُ: تعَطَّفَ العِزَّ وَقَالَ بِهِ قَالَ الصَّاغانِيّ: وَهَذَا منَ المَجاز الحُكْميِّ، كقولِهم: نهارُه صائمٌ، والمُرادُ وَصْفُ الرجلِ بالصَّومِ، وَوَصْفُ اللهِ بالعِزِّ، أَي غَلَبَ بِهِ كلَّ عزيزٍ، وَمَلَكَ عَلَيْهِ أَمْرَه، وَقَالَ ابنُ الْأَثِير: تعَطَّفَ العِزَّ: أَي اشتملَ بِهِ فَغَلَبَ بالعِزِّ كلَّ عزيزٍ، وَقيل: معنى قالَ بِهِ: أَي أحَبَّه واخْتَصَّه لنَفسِه، كَمَا يُقَال: فلانٌ يَقُول بفلانٍ: أَي بمحَبَّتِه واختِصاصِه. وَقيل: مَعْنَاهُ حَكَمَ بِهِ، فإنّ القَولَ يُستعمَلُ فِي معنى الحُكْمِ، وَفِي الرَّوضِ للسُّهَيْليِّ فِي تَسْبِيحِه صلّى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وسلَّم: الَّذِي لَبِسَ العِزَّ وقالَ بِهِ أَي مَلَكَ بِهِ وقَهَرَ، وَكَذَا فسَّرَه الهرَوِيُّ فِي الغَريبَيْن. قَالَ ابْن الأَعْرابِيّ: العربُ تقولُ: قالَ القومُ بفلانٍ: أَي قتَلوه، {وقُلْنا بِهِ: أَي قَتَلْناه، وَهُوَ مَجاز، وأنشدَ لزِنْباعٍ المُراديِّ: نَحْنُ ضَرَبْناهُ على نِطابِه) } قُلْنا بِهِ، قُلْنا بِهِ، قُلْنا بِهِ نَحْنُ أَرَحْنا الناسَ من عَذابِهِ فليَأْتِنا الدهرُ بِمَا أَتَى بهِ وَقَالَ ابنُ الأَنْباريّ اللُّغَويُّ: قالَ يجيءُ بِمَعْنى تكلَّمَ، وضَرَبَ، وغَلَبَ، وماتَ، ومالَ، واستراحَ، وأَقْبَلَ، وَهَكَذَا نَقله أَيْضا ابنُ الْأَثِير، وكلُّ ذَلِك على الاتِّساعِ والمَجاز، فَفِي الأساس: قَالَ بِيَدِه: أَهْوَى بهَا، وقالَ برأسِه: أشارَ، وَقَالَ الحائِطُ فَسَقَطَ: أَي مالَ. ويُعَبَّرُ بهَا عَن التهَيُّؤِ للأفعالِ والاستعدادِ لَهَا، يُقَال: قالَ فَأَكَلَ، وقالَ فَضَرَبَ، وقالَ فتكلَّمَ، وَنَحْوه، كقالَ بيدِه: أَخَذَ، وبرِجلِه: مَشى أَو ضَرَبَ، وبرأسِه: أشارَ، وبالماءِ على يدِه: صبَّه، وبثَوبِه: رَفَعَه، وتقدّمَ قَوْلُ الشَّاعِر: وقالَتْ لَهُ العَينانِ سَمْعَاً وَطَاعَة أَي أَوْمَأَتْ، وروى فِي حديثِ السَّهو: مَا يقولُ ذُو اليَدَيْن قَالُوا صَدَقَ، رُوِيَ أنّهم أَوْمَئُوا برؤوسِهم: أَي نَعَمْ، وَلم يَتَكَلَّموا. قَالَ بعضُهم فِي تأويلِ الحديثِ: نهى عَن قِيلَ وَقَالَ القال: الابتِداءُ، والقِيل، بالكَسْر: الجَواب، ونَظيرُ ذَلِك قولُهم: أَعْيَيْتِني من شُبَّ إِلَى دُبَّ، وَمن شُبٍّ إِلَى دُبٍّ، قَالَ ابنُ الْأَثِير: وَهَذَا إنّما يَصِحُّ إِذا كانتِ الروايةُ: قيلَ وقالَ، على أنّهما فِعلان، فيكونُ النهيُ عَن القَولِ بِمَا لَا يصحُّ وَلَا تُعلَمُ حَقيقتُه، وَهُوَ كحديثِه الآخر: بِئسَ مَطِيَّةُ الرجلِ زَعَمُوا وأمّا من حكى مَا يصِحُّ وتُعرَفُ حقيقتُه وأسندَه إِلَى ثقةٍ صادقٍ فَلَا وَجْهَ للنهيِ عَنهُ وَلَا ذَمَّ.
{والقَوْلِيَّة: الغَوْغاءُ وَقَتَلةُ الْأَنْبِيَاء، هَكَذَا تُسمِّيه اليهودُ، وَمِنْه حديثُ جُرَيْجٍ: فَأَسْرعَتِ} القَوْلِيّةُ إِلَى صَوْمَعتِه. {وقُوْلَ، بالضَّمّ: لغةٌ فِي} قِيلَ بالكَسْر، نَقله الفَرّاءُ عَن بَني أسَدٍ، وَأنْشد: وابْتَدَأَتْ غَضْبَى وأمُّ الرَّحَّالْ وقُوْلَ لَا أَهْلَ لَهُ وَلَا مالْ وَيُقَال: {قُيِلَ على بناءِ فُعِلَ، غَلَبَت الكسرةُ فقُلِبتْ الواوُ يَاء. العربُ تُجري} تَقُولُ وَحْدَها فِي الاستفهامِ كتَظُنُّ فِي العملِ، قَالَ هُدْبَةُ بنُ خَشْرَمٍ: مَتى تقولُ الذُّبَّلَ الرَّواسِما والجِلَّةَ الناجِيَةَ العَياهِما إِذا هَبَطْنَ مُسْتَجيراً قاتِما ورَفَّعَ الْهَادِي لَهَا الهَماهِما) أَرْجَفْنَ بالسَّوالِفِ الجَماجِما يَبْلُغْنَ أمَّ خازِمٍ وخازِما وَقَالَ الأحْوَلُ: حازمٍ وحازِما بالحاءِ المُهملة، قَالَ الصَّاغانِيّ: وروايةُ النَّحْوِيِّين: مَتى {تقولُ القُلَّصَ الرواسِما يُدْنِينَ أمَّ قاسمٍ وقاسِما وَهُوَ تَحريفٌ، فَنَصَبَ الذُّبَّلَ كَمَا يَنْتَصِبُ بالظَّنِّ. قلتُ: وأنشدَه الجَوْهَرِيّ كَمَا رَوَاهُ النَّحْويُّون، وأنشدَ أَيْضا لعَمروِ بن مَعدِ يكرِبَ:
(عَلامَ تَقولُ الرُّمحَ يُثْقِلُ عاتِقي ... إِذا أَنا لم أَطْعُنْ إِذا الخَيلُ كَرَّتِ)
وَقَالَ عُمرُ بنُ أبي رَبيعة:
(أمّا الرَّحيلُ فدونَ بعدَ غَدٍ ... فَمَتَى تَقولُ الدارَ تَجْمَعُنا)
قَالَ: وبَنو سليم يُجْرونَ مُتَصَرِّفَ قُلْتُ فِي غيرِ الاستفهامِ أَيْضا مُجرى الظنِّ، فيُعَدُّونَه إِلَى مَفْعُولَيْن، فعلى مَذْهَبِهم يجوزُ فَتْحُ أنَّ بعدَ القَوْل. والقالُ: القُلَةُ مقلوبٌ مُغَيَّرٌ، أَو خَشَبَتُها الَّتِي تُضرَبُ بهَا، نَقَلَه الجَوْهَرِيّ عَن الأَصْمَعِيّ، وَأنْشد:
(كأنَّ نَزْوَ فِراخِ الهامِ بَيْنَهمُ ... نَزْوَ القِلاتِ قَلاها قالُ} قالينا)
قَالَ ابنُ بَرِّي: هَذَا البيتُ يُروى لابنِ مُقْبلٍ، قَالَ: وَلم أَجِدْه فِي شِعرِه. ج: {قِيلانٌ، كخالٍ وخِيلانٍ، قَالَ: وَأَنا فِي ضُرّابِ قِيلانِ القُلَهْ} وقُولَةُ، بالضَّمّ: لقَبُ ابنِ خُرَّشِيدَ، بضمِّ الخاءِ وتشديدِ الراءِ المفتوحةِ وكسرِ الشينِ، وأصلُه خُورْشِيد، بِالتَّخْفِيفِ، فارِسيّة بِمَعْنى الشمسِ، وَهُوَ شَيْخُ أبي القاسمِ القُشَيْرِيِّ صاحبِ الرِّسالة.
ومِمّا يُسْتَدْرَك عَلَيْهِ: {القالَة: القَوْلُ الفاشي فِي الناسِ خَيْرَاً كَانَ أَو شَرّاً.} والقالَة: {القائِلَة. وابنُ} القَوّالَةِ: عبدُ الْبَاقِي بنُ مُحَمَّد بن أبي العِزِّ الصُّوفيُّ، سَمِعَ أَبَا الحسينِ ابْن الطُّيُورِيّ، مَاتَ سنة. {وقاوَلْتُه فِي أَمْرِي:} وَتَقَاوَلْنا: أَي تَفاوَضْنا. {واقْتالَه:} قالَه، وأنشدَ الجَوْهَرِيّ للَبيدٍ:
(فإنَّ اللهَ نافِلَةٌ تُقاهُ ... وَلَا {يَقْتَالُها إلاّ السَّعيدُ)
أَي لَا} يَقُولُها. وَقَالَ ابنُ بَرِّي: {اقْتالَ بالبَعيرِ بَعيراً، وبالثوبِ ثَوْبَاً: أَي اسْتبدلَه بِهِ. ويُقال: اقْتالَ باللَّونِ لَوْنَاً آخر: إِذا تغيَّرَ من سفَرٍ أَو كِبَرٍ، قَالَ الراجز:)
} فاقْتَلْتُ بالجِدَّةِ لَوْنَاً أَطْحَلا وكانَ هُدّابُ الشبابِ أَجْمَلا وقالَ عَنهُ: أَخْبَر. وقالَ لَهُ: خاطبَ. وقالَ عَلَيْهِ: افْترى. وقالَ فِيهِ: اجتهدَ. وقالَ كَذَا: ذَكَرَه.
ويُقالُ عَلَيْهِ: يُحمَلُ ويُطلَق. وَمن الشَّواذِّ فِي القراءاتِ: {فاقْتالُوا أَنْفُسَكُم كَذَا فِي المُحْتَسَبِ لابنِ جِنِّي، وقرأَ الحسَنُ:} قُولُ الحَقِّ الَّذِي فِيهِ تَمْتَرون بالضَّمّ.

النبي

النبي:
[في الانكليزية] Prophet
[ في الفرنسية] Prophete
هو لفظ منقول في عرف الشرع عن معناه اللغوي، فقيل هو في اللغة المنبئ من النّبإ سمّي به لإنبائه عن الله تعالى، فهو حينئذ فعيل بمعنى فاعل مهموز اللام. قال سيبويه ليس أحد من العرب إلّا ويقول تنبّأ مسيلمة بالهمزة، إلّا أنّهم تركوا الهمزة في النبي كما تركوه في الذرية، إلّا أهل مكة فإنّهم يهمزون هذه الأحرف ولا يهمزون في غير هذه الأحرف، ويخالفون العرب في ذلك في أنّهم لا يهمزون في غير هذه الأحرف، وجمع النبي نبآء. وقيل من النّبوة وهو الارتفاع يقال تنبى فلان إذا ارتفع وعلا سمّي به لعلوّ شأنه، فهو فعيل بمعنى مفعول غير مهموز والجمع الأنبياء. وقيل من النبي وهو الطريق سمّي به لأنّه طريق إلى الله. وأمّا في الشرع فقال أهل الحقّ من الأشاعرة هو من قال الله تعالى له ممن اصطفاه من عباده أو أرسلناك إلى قوم كذا أو إلى الناس جميعا أو بلّغهم عني ونحوه من الألفاظ الدالة على هذا المعنى كبعثتك ونبئهم. قيل النّبوة عبارة عن هذا القول مع كونه متعلّقا بالمخاطب لا عن مجرّد هذا القول. ولما كان المتعلّق به والتعلّق غير قديم لا يلزم قدم النّبوة وإن كان قول الله تعالى قديما، ولا يشترط في الإرسال شرط ولا استعداد ذاتي، بل الله سبحانه يختصّ برحمته من يشاء من عباده. وقال الفلاسفة أي فلاسفة الشريعة هو من اجتمع فيه خواص ثلاث: الأول أن يكون له اطلاع على المغيّبات الكائنة والماضية والآتية، وليس المراد الاطلاع على الجميع بل على البعض، وليس المراد أيّ بعض كان بل البعض الذي لم يجر العادة به من غير سابقية تعلّم وتعليم. والثاني ظهور الأفعال الخارقة للعادة لكون هيولى عالم العناصر مطيعة له وهذا بناء على تأثير النفوس في الأجسام وأحوالها، وقد ثبت عند أهل الحقّ أن لا مؤثّر في الوجود، سوى الله تعالى مع أنّ ظهور الخوارق لا يختصّ بالنبي عندهم. والثالث أن يرى الملائكة مصوّرة بصور محــسوسة ويسمع كلامهم وحيا من الله إليه. وردّ بأنّهم لا يقولون بذلك لأنّهم لا يقولون بملائكة يرون بل الملائكة عندهم إمّا نفوس مجرّدة في ذواتها متعلّقة بأجرام الأفلاك وتسمّى ملائكة سماوية أو عقول مجرّدة ذاتا وفعلا وتسمّى بالملإ الأعلى ولا كلام لهم يسمع لأنّه من خواص الأجسام، إذ الحرف والصوت عندهم من عوارض الهواء المتموّج فلا يتصوّر كلام حقيقي للمجرّدات، وإن شئت الزيادة فارجع إلى شرح المواقف وشرح الطوالع في مبحث السمعيات. والفرق بين النبي والرسول سبق، وبينه وبين الولي يجيء. مع بيان أنّ الولاية أفضل من النبوة أو بالعكس.

جُبّةُ

جُبّةُ:
بالضم ثم التشديد، بلفظ الجبّة التي تلبس، والجبّة في اللغة ما دخل فيه الريح من السنان والجبّة أيضا في شعر كثيّر:
بأجمل منها، وإن أدبرت ... فأرخ بجبّة يقرو حميلا
الأرخ: الثنيّ من البقر، وفي شعر آخر لكثيّر يدل على أنه بالشام قال:
وإنك، عمري، هل ترى ضوء بارق ... عريض السّنا ذي هيدب متزحزح
قعدت له ذات العشاء أشيمه ... بمرّ، وأصحابي بجبّة أذرح
وأذرح بالشام كما ذكرناه في موضعه. وجبّة أيضا، وتعرف بجبة عسيل: ناحية بين دمشق وبعلبك تشتمل على عدّة قرى. وجبّة: من قرى النهروان من أعمال بغداد، وقال الحازمي: موضع بالعراق منها أبو الحسين أحمد بن عبد الله بن الحسين بن إسماعيل الجبّي المقري، روى حروف القراءات عن محمد بن أحمد بن رجاء عن أحمد بن زيد الحلواني عن عيسى ابن قالون وعن الخضر بن هيثم بن جابر المقري الطوسي عن محمد بن يحيى القطعي عن زيد بن عبد الواحد عن إسماعيل بن جعفر عن نافع وغيرهما، حدث عنه أبو عليّ الحسن بن علي بن إبراهيم بن بندار المقري الأهوازي نزيل دمشق. وجبّة أيضا: قرية من نواحي طريق خراسان منها أبو السعادات محمد بن المبارك بن محمد بن الحسين السّلمي الجبّي، دخل بغداد وأقام بها وطلب العلم وسمع الكثير من الشيوخ مثل أبي الفتح عبيد الله بن شابيل أبي السعادات نصر الله بن عبد الرحمن القزّاز، ولازم أبا بكر الحازمي، وقرأ وكتب مصنّفاته ولازمه حتى مات، وكان حسن الطريقة، ومات سنة 585 بجبّة، ودفن بها ولم يبلغ أوان الرواية والجبّة في قول الشاعر:
والله لو طفّلت، يا ابن استها، ... تسعين عاما لم تكن من أسد
فارحل إلى الجبّة عن عصرنا، ... واطلب أبا في غير هذا البلد
قال الجهشياري: يعني بالجبّة الجبّة والبداة طسّوجين من سواد الكوفة. والجبّة أيضا، أو الجبّ:
موضع بمصر ينسب إليه أبو بكر محمد بن موسى
ابن عبد العزيز الكندي الصّيرفي يعرف بابن الجبّي ويلقّب سيبويه، وكان فصيحا، قال الأمير أبو نصر:
ويكنى أبا عمران، وولد سنة 284، ومات في صفر سنة 358، سمع أبا يعقوب إسحاق المنجنيقي وأبا عبد الرحمن النّسوي وأبا جعفر الطحاوي وتفقّه للشافعي وجالس أبا هاشم المقدسي وأبا بكر محمد بن أحمد بن الحدّاد وتلمذ له، وكان يظهر الاعتزال ويتكلم على ألفاظ الصالحين، وله شعر، ويظهر الوسوسة. والجبّة أيضا، قال أبو بكر بن نفطة:
قال لي محمد بن عبد الواحد المقدسي إنها قرية من أعمال طرابلس الشام منها أبو محمد عبد الله بن أبي الحسن ابن أبي الفرج الجبائي الشامي، قلت: كذا كان ينسب نفسه وهو خطأ والصواب الجبّي، سمع ببغداد من أبي الفضل محمد بن ناصر ومحمد بن عمر الأرموي وغيرهما، وبأصبهان من أبي الخير محمد بن أحمد الباغباني ومسعود الثقفي وآخرين، وأقام بها وحدث، وكان ثقة صالحا، وكانت وفاته بأصبهان في ثالث جمادى الآخرة سنة 605.

علم الكيمياء

علم الكيمياء
هو علم يعرف به طرق سلب الخواص من الجواهر المعدنية وجلب خاصية جديدة إليها وإفادتها خواصا لم تكن لها والاعتماد فيه عن أن الفلزات كلها مشتركة في النوعية والاختلاف الظاهر بينها إنما هو باعتبار أمور عرضية يجوز انتقالها.
قال الصفدي في شرح لامية العجم: وهذه اللفظة معربة من اللفظ العبراني وأصله كيم يه معناه أنه من الله وذكر الاختلاف في شأنه بامتناعه عنهم.
وحاصل ما ذكره أن الناس فيه على طريقتين:
فقال: كثير ببطلانه منهم الشيخ الرئيس ابن سينا أبطله بمقدمات من كتاب الشفاء والشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله صنف رسالة في إنكاره وصنف يعقوب الكندي أيضا رسالة في إبطاله جعلها مقالتين وكذلك غيرهم لكنهم لم يوردوا شيئا يفيد الظن لامتناعه فضلا عن اليقين بل لم يأتوا إلا بما يفيد الاستبعاد.
وذهب آخرون إلى إمكانه منهم الإمام فخر الدين الرازي فإنه في المباحث المشرقية عقد فصلا في بيان إمكانه.
والشيخ نجم الدين بن أبي الدر البغدادي رد على الشيخ ابن تيمية وزيف ما قاله في رسالته.
ورد أبو بكر محمد بن زكريا الرازي على يعقوب الكندي ردا غير طائل ومؤيد الدين أبو إسماعيل الحسين بن علي المعروف بالطغرائي صنف فيه كتبا منها حقائق الإشهادات وبين إثباته ورد على ابن سينا.
ثم ذكر الصفدي نبذة من أقوال المثبتين والمنكرين.
وقال الشيخ الرئيس: نسلم إمكان صبغ النحاس بصبغ الفضة والفضة بصبغ الذهب وأن يزال عن الرصاص أكثر ما فيه من النقص فأما أن يكون المصبوغ يسلب أو يكسى أما الأول فحال وأما الثاني فلم يظهر إلى إمكانه بعد إذ هذه الأمور المحــسوسة يشبه أن لا تكون هي الفصول التي تصير بها هذه الأجساد أنواعا بل هي أعراض ولوازم وفصولها مجهولة وإذا كان الشيء مجهولا كيف يمكن أن يقصد قصد إيجاد أو إفناء؟
وذكر الإمام حججا أخرى للفلاسفة على امتناعه وأبطل بعد ذلك ما قرره الشيخ وغيره وقرر إمكانه واستدل في الملخص أيضا على إمكانه فقال: الإمكان العقلي ثابت لأن الأجسام مشتركة الجسمية فوجب أن يصح على كل واحد منها ما يصح على الكل على ما ثبت.
وأما الوقوع فلأن انفصال الذهب عن غيره باللون والرزانة وكل واحد منهما يمكن اكتسابه ولا منافاة بينهما نعم الطريق إليه عسير. وحكى أبو بكر بن الصائغ المعروف بابن ماجة الأندلسي في بعض تآليفه عن الشيخ أبي نصر الفارابي أنه قال: قد بين أرسطو في كتابه من المعادن أن صناعة الكيمياء داخلة تحت الإمكان إلا أنها من الممكن الذي يعسر وجوده بالفعل اللهم إلا أن تتفق قرائن يسهل بها الوجود وذلك أنه فحص عنها أولا على طريق الجدل فأثبتها بقياس وأبطلها بقياس على عادته فيما يكثر عناده من الأوضاع ثم أثبتها أخيرا بقياس ألفه من مقدمتين بينهما في أول الكتاب.
وهما أن الفلزات واحدة بالنوع والاختلاف الذي بينها ليس في ماهياتها وإنما هو في أعراضها فبعضه في أعراضها الذاتية وبعضه في أعراضها العرضية.
والثانية: أن كل شيئين تحت نوع واحد اختلفا بعرض فإنه يمكن انتقال كل واحد منهما إلى الآخر فإن كان العرض ذاتيا عسر الانتقال وإن كان مفارقا سهل الانتقال والعسير في هذه الصناعة إنما هو لاختلاف أكثر هذه الجواهر في أعراضها الذاتية ويشبه أن يكون الاختلاف الذي بين الذهب والفضة يسير جدا انتهى كلامه.
وقال الإمام شمس الدين محمد بن إبراهيم بن ساعد الأنصاري: إذا أراد المدبر أن يصنع ذهبا نظير ما صنعته الطبيعة من الزيبق والكبريت الظاهرين فيحتاج إلى أربعة أشياء.
كمية كل واحد من ذنيك الجزئين.
وكيفيته.
ومقدار الحرارة الفاعلة للطبخ.
وزمانه وكل واحد منها عسر التحصيل.
وأما إن أراد ذلك بأن يدبر دواء وهو المعبر عنه بالإكسير مثلا ويلقيه على الفضة ليمتزج بها ويستقر خالدا حال جميع المعدنيات وخواصها وإن استخرجه بالقياس فمقدماته مجهولة ولا خفاء في عسر ذلك ومشقته انتهى وقال الصفدي: زعم الطبيعون في علة كون الذهب في المعدن إن الزيبق لما كمل طبخه جذبه إليه كبريت المعدن فاجنه في جوفه لئلا يسيل سيلان الرطوبات فلما اختلطا واتحدا وزالت الحرارة الفاعلة للطبخ وزمان تكون الذهب وكل منهما عسر التحصيل.
وأما إن أراد ذلك بأن يدبر دواء وهو المعبر عنه بالإكسير مثلا ويلقيه على الفضة في طبخها ونضجها انعقد من ذلك ضروب المعادن فإن كان الزئبق صافيا والكبريت نقيا واختلطت أجزاؤهما على النسبة وكانت حرارة المعدن معتدلة لم يعرض لها عارض من البرد واليبس ولا من الملوحات والمرارت والحموضات انعقد من ذلك على طول الزمان الذهب الإبريز
وهذا المعدن لا يتكون إلا في البراري الرملة والأحجار الرخوة ومراعاة الإنسان النار في عمل الذهب بيده على مثل هذا النظام مما تشق معرفة الطريق إليه والوصول إلى غايته:
فيا دارها بالخيف إن مزراها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال
وذكر يعقوب الكندي في رسالته: تعذر فعلل الناس لما انفردت الطبيعة بفعله وخداع أهل هذه الصناعة وجهلهم وبطل دعوى الذين يدعون صنعة الذهب والفضة.
قال المنكرون: لو كان الذهب الصباغي مثلا للذهب الطبيعي لكان ما بالصناعة مثلا لما بالطبيعة ولو جاز ذلك لجاز أن يكون ما بالطبيعة مثلا لما بالصناعة فكنا نجد سيفا أو سريرا أو خاتما بالطبيعة وذلك باطل.
وقالوا أيضا: الجواهر الصابغة إما أن تكون أصبر على النار من المصبوغ أو يكون المصبوغ أصبر أو تكونا متساويين.
فإن كان الصابغ أصبر وجب1 أن يكون المصبوغ أصبر ووجب أن يفنى الصابغ ويبقى المصبوغ على حاله الأول عريا من الصبغ.
وإن تساويا في الصبر على النار فهما من جنس واحد لاستوائهما في المصابرة عليها فلا يكون أحدهما صابغا ولا مصبوغا وهذه الحجة الثانية من أقوى حجج المنكرين.
والجواب من المثبتين عن الأولى: إنا نجد النار تحصل بالقدح واصطكاك الأجرام والريح تحصل بالمراوح وأكواز الفقاع والنوشادر قد تتخذ من الشعر وكذلك كثير من الزاجات ثم بتقدير أن لا يوجد بالطبيعة ما لا يوجد بالصناعة لا يلزمنا الجزم بنفي ذلك ولا يلزمنا من إمكان حصول الأمر الطبعي بالصناعة إمكان العكس بل الأمر موقوف على الدليل.
وعن الثانية: أنه لا يلزم من استواء الصابغ. والمصبوغ على النار استواؤهما في الماهية لما عرفت أن المختلفين يشتركان في بعض الصفات وفي هذا الجواب نظر.
وحكى بعض من أنفق عمره في الطلب أن الطغرائي ألقى المثقال من الإكسير أولا على ستين ألف مثقال من معدن آخر فصار ذهبا ثم أنه ألقى آخر المثقال على ثلاثمائة ألف وأن مر يانس الراهب معلم خالد بن يزيد ألقى المثقال على ألف ألف ومائتي ألف مثقال وقالت مارية القبطية: والله لولا الله لقلت أن المثقال بملأ ما بين الخافقين. والجواب الفصل ما قاله الغزي:
كجوهر الكيمياء ليس ترى ... من ناله والأنام في طلبه
وصاحب الشذور من جملة أئمة هذا الفن صرح بأن نهاية الصبغ إلقاء الواحد على الألف في قوله:
فعاد بلطف الحل والعقد جوهرا ... يطاع في النيران واحده الألفا
وزعم بعضهم أن المقامات للحريري وكليلة ودمنة رموز في الكيمياء ويزعمون أن الصناعة مرموزة في صورة البراري وقد كتب بعض من جرب وتعب وأقلقه الجد وظن أن جدها لعب على مصنفات جابر تلميذ إمام جعفر الصادق:
هذا الذي مقاله ... غر الأوائل والأواخر
ما أنت إلا كاسر ... كذب الذي سماك جابر
وكان قد شغل نفسه بطلب الكيمياء فأفنى بذلك عمره.
وذكر الصفدي أن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد وإمام الحرمين كان كل منهما مغرى به. واعلم أن المعتنين به بعضهم يدبر مجموع الكبريت والزيبق في حر النار لتحصل امتزاجات كثيرة في مدة يسيرة لا يحصل في المعدن إلا في زمان طويل وهذا أصعب الطرق لأنه يحتاج إلى عمل شاق وبعضهم يؤلف المعادن على نسبة أوزان الفلزات وحجمها.
وبعضهم يجهل القياس فيحصل لهم الاشتباه والالتباس فيستمدون بالنباتات والجمادات والحيوانات كالشعر والبيض والمرارة وهم لا يهتدون إلى النتيجة.
ثم إن الحكماء أشاروا إلى طريقة صنعة الإكسير على طريق الأحاجي والألغاز والتعمية لأن في كتمه مصلحة عامة فلا سبيل إلى الاهتداء بكتبهم والله يهدي من يشاء قال أبو الأصبع عبد العزيز بن تمام العراقي يشير إلى مكانة الواصل لهذه الحكمة:
فقد ظفرت بما لم يؤته ملك ... لا المنذران ولا كسرى بن ساسان
ولا ابن هند ولا النعمان صاحبه ... ولا ابن ذي يزن في رأس غمدان
قال الجلدكي في شرح المكتسب بعد أن بين انتسابه إلى الشيخ جابر وتحصيله في خدمته: وبالله تعالى أقسم أنه أراد بعد ذلك أن ينقلني عن هذا العلم مرارا عديدة ويورد علي الشكوك يريد لي بذلك الإضلال بعد الهداية ويأبى الله إلا ما أراد فلما فهمت مراده وعلمت أن الحسد قد داخله مني حصرته في ميدان البحث ومددت إليه سنان اللسان وعجز عن القيام بسيف الدليل ونادى عليه برهان الحق بالإفحام فجنح للسلم وقام واعتنقني وقال: إنما أردت أن اختبرك وأعلم حقيقة مكان الإدراك منك ولتكن من أهل هذا العلم على حذر ممن يأخذه عنك.
واعلم أن من لا مفترض علينا كتمان هذا العلم وتحريم إذاعته لغير المستحق من بني نوعنا وأن لا نكتمه عن أهله لأن وضع الأشياء في محالها من الأمور الواجبة ولأن في إذاعته خراب العالم وفي كتمانه عن أهله تضييع لهم.
وقد رأينا أن الحكمة صارت في زماننا مهدمة البنيان لا سيما وطلبة هذا الزمان من أجهل الحيوان قد اجتمعوا على المحال فإنهم ما بين سوقة وباعة وأصحاب دهاء وشعبذة لا يدرون ما يقولون فأخذوا يتذاكرون الفقر ويذكرون أن الكيمياء غناء الدهر ويأتون على ذلك بزخارف الحكايات ومع ذلك لا يجتمع أحد منهم مع الآخر على رأي واحد ولا يدرون كيف الطلب مع أن حجر القوم لا يعد. وهذه المولدات الثلاث لكن جهالاتهم أوقعتهم في الضلال البعيد ورأينا أنه وجب علينا النصيحة على من طلب الحكمة الإلهية وهذه الصناعة الشريفة الفلسفية فوضعنا لهم كتابنا الموسوم ببغية الخبير في قانون طلب الإكسير ثم وضعنا الشمس المنير في تحقيق الإكسير.
وفي هذا الفن رسالة للبخاري ذكر فيها حملة دلائل نقلية وعقلية تبلغ ستة وثلاثين.
وفيه أيضا: رسالة ابن سينا المسماة بمرآة العجائب وأول من تكلم في علم الكيمياء ووضع فيها الكتب وبين صنعة الإكسير والميزان ونظر في كتب الفلاسفة من أهل الإسلام خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان.
وأول من اشتهر هذا العلم عنه جابر بن حيان الصوفي من تلامذة خالد كما قيل: حكمة أورثناها جابر ... عن إمام صادق القول وفي
لوصي طاب في تربته ... فهو مسك في تراب النجف
وذلك لأنه وفي لعلي واعترف له بالخلافة وترك الإمارة.
واعلم أنه فرقها في كتب كثيرة لكنه أوصل الحق إلى أهله ووضع كل شيء في محله وأوصل من جعله الله سبحانه وتعالى سببا له في الإيصال ولكن اشغلهم بأنواع التدهيش والمحال لحكمة ارتضاها عقله ورأيه بحسب الزمان ومع ذلك فلا يخلو كتاب من كتبه عن فوائد عديدة.
وأما من جاء بعد جابر من حكماء الإسلام مثل مسلمة بن أحمد المجريطي وأبي بكر الرازي وأبي الأصبع بن تمام العراقي والطغرائي والصادق محمد بن أميل التميمي والإمام أبي الحسن علي صاحب الشذور فكل منهم قد اجتهد غاية الاجتهاد في التعلم والجلدكي متأخر عنهم.
ثم اعلم أن جماعة من الفلاسفة كالحكيم هرمس وأرسطاطاليس وفيثاغورس لما أرادوا استخراج هذه الصناعة الإلهية جعلوا أنفسهم في مقام الطبيعة فعرفوا بالقوة المنطقية والعلوم التجاربية ما دخل على كل جسم من هذه الأجسام من الحر والبرد واليبوسة وما خالطه أيضا من الأجسام الأخر. فعملوا الحيلة في تنقيص الزائد وتزييد الناقص من الكيفيات الفاعلة والمفعولة والمنفعلة لعلة تلك الأجسام على ما يراد منها بالأكاسير الترابية والحيوانية والنباتية المختلفة في الزمان والمكان وأقاموا التكليس مقام حرق المعادن والتهابها والتسقية مقام التبريد والتجميد والتساوي مقام التجفيف والتشميع مقام الترطيب والتليين والتقطير مقام التجوهر والتفصيل مقام التصفية والتخليص والسحق والتحليل مقام الالتيام والتمزيج والعقد مقام الاتحاد والتمكين واتخذوا جواهر الأصول شيئا واحدا فاعلا فعلا غير منفعل محتويا على تأثيرات مختلفة شديدة القوة نافذة الفعل والتأثير فيما يلاقي من الأجسام بحصول معرفة ذلك بالإلهامات السماوية والقياسات العقلية والحسية وكذلك فعل أيضا أسقليقندر يونس وأبدروماخس وغيرهم في تراكيب الترياق المعاجين والحبوب والأكحال والمراهم فإنهم قاسوا قوى الأدوية بالنسبة إلى مزاج أبدان البشر والأمراض الغامضة فيها وركبوا من الحار والبارد والرطب واليابس دواء واحدا ينتفع به في المداواة بعد مراعاة الأسباب كما فعل ذي مقراط أيضا في استخراج صنعة إكسير الخمر فإنه نظر أولا في أن الماء لا يقارب الخمر في شيء من القوام والاعتدال لأنه ماء العنب ووجد من خواص الخمر خمسا: والطعم والرائحة والتفريح والإسكار فأخذ إذ شرع من أول تركيبه للأدوية العقاقير الصابغة للماء بلون الخمر ثم المشاكلة في الطعم ثم المعطرة للرائحة ثم المفرحة ثم المسكرة فسحق منها اليابسات وسقاها بالمائعات حتى اتحدت فصارت دواء واحدا يابسا أضيف منه القليل إلى الكثير صبغه انتهى من رسالة أرسطو.
قال الجلدكي في نهاية الطب: إن من عادة كل حكيم أن يفرق العلم كله في كتبه كلها ويجعل له من بعض كتبه خواص يشير إليها بالتقدمة على بقية الكتب لما اختصوا به من زيادة العلم.
كما خص جابر من جميع كتبه كتابه المسمى ب الخمسمائة.
وكما خص مؤيد الدين من كتبه كتابه المسمى ب المصابيح والمفاتيح. وكما خص المجريطي كتابه الرتبة.
وكما خص ابن أميل كتابه المصباح.
ثم قال الجلدكي: ومن شروط العالم أن لا يكتم ما علمه الله تعالى من المصالح التي يعود نفعها على الخاص والعام إلا هذه الموهبة فإن الشرط فيها أن لا يظهرها بصريح اللفظ أبدا ولا يعلم بها الملوك لا سيما الذين لا يفهمون.
ومن العجب أن المظهر لهذه الموهبة مرصد لحلول البلاء به من عدة وجوه:
أحدها: أنه إن أظهرها لم ينم عليه فقد حل به البلاء لأن ما عنده مطلوب الناس جميعا فهو مرصد لحلول البلاء لأنهم يرون انتزاع مطلوبهم من عنده وربما حملهم الحسد على إتلافه إن أظهره للملك يخاف عليه منه فإن الملوك أحوج الناس إلى المال لأن به قوام دولتهم فربما يخيل منه أنه يخرج عنه دولته بقدرته على المال لا سيما ومال الدنيا كله حقير عند الواصل لهذه الموهبة.
قال صاحب كنز الحكمة: فأما الواصل إلى حقيقته فلا ينبغي له أن يعترف به لأنه يضره وليس له منفعة البتة في إظهاره وإنما يصل إليه كل عالم بطريق يستخرجها لنفسه إما قريبة وإما بعيدة والإرشاد إنما يكون نحو الطريق العام وأما الطريق الخاص فلا يجوز أن يجتمع عليه اثنان اللهم إلا أن يوفق إنسان بسعادة عظيمة وعناية إلهية لأستاذ يلقنه إياها تلقينا وهيهات من ذلك إلا من جهة واحدة لا غير وهو أن يجتمع فيلسوفان أحدهما واصل والآخر طالب ولا يسعه أن يكتمه إياه وهذا أعز من الكبريت الأحمر1 وطلب الأبلق العقوق. انتهى.
ونحن اقتفينا أثر الحكماء في كل ما وضعناه من كتبنا.
قال في شرح المكتسب إلا أن كتابنا هذا امتن من كل كتبنا ما خلا الشمس المنير وغاية السرور فإن لكل واحد منهم مزية في العلم والعمل فمن ظفر بهذه الكتب الثلاثة فقط من كتبنا فلعله لا يفوته شيء من تحقيق هذا العلم.
والكتب المؤلفة في هذا العلم كثيرة منها حقائق الاستشهادات وشرح المكتسب وبغية الخبير والشمس المنير في تحقيق الإكسير ورسالة للبخاري ومرآة العجائب لابن سينا والتقريب في أسرار التركيب وغاية السرور شرح الشذور والبرهان وكنز الاختصاص والمصباح في علم المفتاح ونهاية الطلب في شرح المكتسب ونتائج الفكرة ومفاتيح الحكمة ومصابيح الرحمة وفردوس الحكمة وكنز الحكمة انتهى. ما في كشف الظنون.
وقد أطال ابن خلدون في بيان علم الكيمياء ثم عقد فصلا في إنكار ثمرتها واستحالة وجودها وما ينشأ من المفاسد عن انتحالها.
ثم قال وتحقيق الأمر في ذلك أن الكيمياء إن صح وجودها كما تزعم الحكماء المتكلمون فيها مثل جابر بن حيان ومسلمة بن أحمد المجريطي وأمثالهما فليست من باب الصنائع الطبيعية ولا تتم بأمر صناعي وليس كلامهم فيها من منحى الطبيعيات إنما هو من منحى كلامهم في الأمور السحرية وسائر الخوارق وما كان من ذلك للحلاج وغيره وقد ذكر مسلمة في كتاب الغاية ما يشبه ذلك وكلامه فيها في كتاب رتبة الحكيم من هذا المنحى وهذا كلام جابر في رسائله ونحو كلامهم فيه معروف ولا حاجة بنا إلى شرحه.
وبالجملة فأمرها عندهم من كليات المواد الخارجة عن حكم الصنائع فكما لا يتدبر ما منه الخشب والحيوان في يوم أو شهر خشبا أو حيوانا فيما عدا مجرى تخليقه كذلك لا يتدبر ذهب من مادة الذهب في يوم ولا شهر ولا يتغير طريق عادته إلا بإرفاد مما وراء عالم الطبائع وعمل الصنائع. فكذلك من طلب الكيمياء طلبا صناعيا ضيع ماله وعمله ويقال لهذا التدبير الصناعي: التدبير العقيم لأن نيلها إن كان صحيحا فهو واقع مما وراء الطبائع والصنائع فهو كالمشي على الماء وامتطاء الهواء والنفوذ في كثائف الأجساد ونحو ذلك من كرامات الأولياء الخارقة للعادة أو مثل تخليق الطير ونحوها من معجزات الأنبياء قال تعالى: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي} وعلى ذلك فسبيل تيسيرها مختلف بحسب حال من يؤتاها فربما أوتيها الصالح ويؤتيها غيره فتكون عنده معارة.
وربما أوتيها الصالح ولا يملك إيتاءها فلا تتم في يد غيره ومن هذا الباب يكون عملها سحريا فقد تبين أنها إنما تقع بتأثيرات النفوس وخوارق العادة إما معجزة أو كرامة أو سحرا ولهذا كان كلام الحكماء كلهم فيها ألغاز لا يظفر بحقيقته إلا من خاض لجة من علم السحر واطلع على تصرفات النفس في عالم الطبيعة وأمور خرق العادة غير منحصرة ولا يقصد أحد إلى تحصيلها والله بما يعملون محيط.
وأكثر ما يحمل على التماس هذه الصناعة وانتحالها العجز عن الطرق الطبيعية للمعاش وابتغاؤه من غير وجوهه الطبيعية كالفلاحة والنجارة والصناعة فيستصعب العاجز ابتغاؤه من هذه ويروم الحصول على الكثير من المال دفعة بوجوه غير طبيعية من الكيمياء وغيرها وأكثر من يعني بذلك الفقراء من أهل العمران حتى في الحكماء المتكلمين في إنكارها واستحالتها.
فإن ابن سينا القائل باستحالتها كان عليه الوزراء فكان من أهل الغنى والثروة.
والفارابي القائل بإمكانها كان من أهل الفقر الذين يعوزهم أدنى بلغة من المعاش وأسبابه وهذه تهمة ظاهرة في أنظار النفوس المولعة بطرقها وانتحالها والله الرزاق ذو القوة المتين لا رب سواه.
قال في مدينة العلوم: إ ن علم الكيمياء كان معجزة لموسى عليه السلام علمه القارون فوقع منه ما وقع ثم ظهر في جبابرة قوم هود وتعاطوا ذلك وبنوا مدينة من ذهب وفضة لم يخلق مثلها في البلاد.
وممن اشتهر بالوصول إليه مؤيد الدين الطغرائي يقال: أنه وصل إلى الإكسير وهو الدواء الذي يدبره الحكماء ويلقونه على الجسد حال انفعاله بالذوبان فيحيله كإحالة السم الجسد الوارد عليه لكن إلى الصلاح دون الفساد ويعبرون عن مادة هذا الدواء بالحجر المكرم وربما يقولون حجر موسى لأنه الذي علمه موسى عليه السلام لقارون ويختلف حال هذا الدواء بقدر قوة التدبير وضعفه.
يحكى أن واحدا سأل من مشائخ هذا الصنعة أن يعلمه هذا العلم وخدمه على ذلك سنين فقال: إن من شرط هذه الصنعة تعليمها لأفقر من في البلد فاطلب رجلا لا يكون أفقر منه في البلد حتى نعلمه وأنت تبصرها فطلب مدة مثل ما يقول الأستاذ فوجد رجلاً يغسل قميصا له في غاية الرداءة والدرن وهو يغسله بالرمل ولم يقدر على قطعة صابون فقال في نفسه: لم أر أفقر منه فأخبر الأستاذ فقال: وجدت رجلا حاله وصفته كيت وكيت فقال الأستاذ: والله إن الذي وصفته هو شيخنا جابر بن حيان الذي تعلمت منه هذه الصنعة وبكى.
قال إن من خاصية هذه الصنعة إن الواصلين إليها يكونون في غاية الإفلاس كما نقل عن الإمام الشافعي من طلب المال بالكيمياء أو الإكسير فقد أفلس إلا أنهم يقولون: إن حب الدنانير تفع عن قلب من عرفها ولا يؤثر التعب في تحصيلها على الراحة في تركها حتى قالوا: إن معرفة هذه الصنعة نصف السلوك لأن نصف السلوك رفع محبة الدنيا عن القلب وذلك يحصل بمعرفتها أي: حصول ومن قصد الوصول إلى ذلك بكتبهم وبتعبيراتهم وإشاراتهم فقد صار منخرطا في الأخسرين أعمالا الذي ضل سعيهم في الحيوة الدنيا وهم يسحبون أنهم يحسنون صنعا بل الوقوف على ذلك إن كان فبموهبة عظيمة من الملك المنان أو بواسطة الكشف والإلهام من الله ذي الجلال الإكرام أو بإنعام من الواصلين إلى هذا الأمر المكتوم إشفاقا وإحسانا ولا تتمن الوصول إلى ذلك بالجد والاهتمام وإنما نذكر بعضا من كتبه إكمالا للمرام لا إطماعا في الوصول إلى ذلك السول:
منها: كتاب جابر بن حيان وتذكرة لابن كمونة.
وكتاب الحكيم المجريطي.
وشرح الفصول لعيون بن المنذر وتصانيف الطغرائي كثيرة في هذا الفن ومعتبرة عند أربابها والكتب والرسائل في هذا الباب كثيرة لكن لا خير في الاستقصاء فيها وإنما التعرض لهذا القدر لئلا يخلو الكتاب عنها بالمرة نسأل الله تعالى خيري الدنيا والآخرة انتهى حاصله. والله أعلم بالصواب. 

علم المنطق

علم المنطق
ويسمى علم الميزان أيضا وهو: علم يتعرف منه كيفية اكتساب المجهولات التصورية والتصديقية من معلوماتها.
وموضوعه: المعقولات الثانية من حيث الإيصال إلى المجهول أو النفع فيه.
والغرض منه: عصمة الذهن عن الخطأ في الفكر.
ومنفعته: الإصابة في جميع العلوم.
قال في الكشف: الغرض منه ومنفعته ظاهران من الكتب المبسوطة في المنطق كذا قال في مفتاح السعادة انتهى.
والمنطق لكون حاكما على جميع العلوم في الصحة والسقم والقوة والضعف وأجلها نفعا وأعظمها سماه أبو نصر الفارابي: رئيس العلوم.
ولكونه آلة في تحصيل العلوم الكسبية النظرية والعملية لا مقصودا بالذات سماه الشيخ الرئيس ابن سينا بخادم العلوم.
وحكى أبو حيان في تفسيره البحر: إن أهل المنطق بجزيرة الأندلس كانوا يعبرون عن المنطق بالمفعل تحررا عن صولة الفقهاء حتى إن بعض الوزراء أراد أن يشتري لابنه كتابا من المنطق فاشتراه خفية خوفا منهم مع أنه أصل كل علم وتقويم كل ذهن انتهى.
قال الغزالي: من لم يعرف المنطق فلا ثقة له في العلوم أصلا حتى روي عن بعضهم أنه فرض كفاية وعن بعضهم فرض عين بناء على أن معرفة الله تعالى بطريق البرهان واجبة وإنها لا تتم إلا بعلم المنطق فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب قال القائل:
إن رمت إدراك العلوم بسرعة ... فعليك بالنحو القويم ومنطق
هذا الميزان العقول مرجح ... والنحو إصلاح اللسان بمنطق
قال في كشف الظنون: قال الشيخ أبو علي بن سينا: المنطق نعم العون على إدراك العلوم كلها وقد رفض هذا العلم وجحد منفعته من لم يفهمه ولا اطلع عليه عداوة لما جهل وبعض الناس ربما يتوهم أنه يشوش العقائد مع أنه موضوع للاعتبار والتحرير.
وسبب هذا التوهم أن من الأغبياء الأغمار الذين لم تؤدبهم الشريعة من اشتغل بهذا العلم واستضعف حجج بعض العلوم واستخف بها وبأهلها ظنا منه أنها برهانية لطيشه وجهله بحقائق العلوم ومراتبها فالفساد لا من العلم.
قالوا: ويستغنى عنه المؤيد من الله تعالى ومن علمه ضروري ويحتاج إليه من عداهما.
فإن قلت: إذا كان الاحتياج بهذه المرتبة فما بال الأئمة المقتدى بهم كمالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل رحمهم الله لم ينقل عنهم الاشتغال به وإنما هو من العلوم الفلسفية وقد شنع العلماء على من عربها وأدخلها في علوم الإسلام ونقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية الحنبلي رحمه الله أنه كان يقول: ما أظن الله تعالى يغفل عن المأمون العباسي ولا بد أن يعاقبه بما أدخل على هذه الأمة.
فجوابه إن ذلك مركوز في جبلاتهم السليمة وفطرتهم المستقيمة ولم يفتهم إلا العبارات والاصطلاحات كما ذكر في علم النحو.
وأصول المنطق تسعة على المشهور:
الأول: باب الكليات الخمس:.
الثاني: باب التعريفات.
الثالث: باب التصديقات.
الرابع: باب القياس.
الخامس: البرهان.
السادس: الخطابة.
السابع: الجدل.
الثامن: المغالطة.
التاسع: الشعر هذا خلاصة ما في العلمي حاشية شرح هداية الحكمة الميبذية وشرح حكمة العين وغيرها.
والكتب المصنفة في المنطق كثيرة منها: إيساغوجي وبحر الفرائد وتيسير الفكر وجامع الدقاق والشمسية غرة النجاة والقواعد الجلية ولوامع الأفكار والمطالع ومجل النظر ومعيار الأفكار وناظر العين ونخبة الفكر وغير ذلك انتهى ما في الكشف وكشاف اصطلاحات الفنون. ومن كتبه المرقاة للشيخ الفاضل فضل إمام الخير آبادي وهو مختصر مفيد وعليه شرح لحفيده المولوي عبد الحق.
وتهذيب المنطق للتفتازاني والصغرى والكبرى بالفارسية للسيد السند الشريف الجرجاني رحمه الله إلى غير ذلك.
قال بعضهم: والذي أجاب به شيخ الإسلام من كون المنطق مرتكزا في نفوسهم جواب ضعيف لا يخفى ضعفه على من يعقل ويعرف مقاصد الشريعة الغراء انتهى.
أقول: ارجع إلى كتاب رد المنطقيين لابن تيمية رحمه الله واعلم أن جواباته كثيرة وكلها صواب حق لا يسع ذكرها هذا المقام وهذا الجواب أيضا صواب يعرفه من منحه الله طبعا سليما لا اعوجاج فيه وصاحب القلب الصحيح والفكر السليم لا يحتاج إلى علم المنطق بل يصدر عنه العلم المطابق له من غير درية بهذا الفن كما يصدر الكلام الموزون ممن لا يعلم بعلم العروض والقافية ولا يحسن تقطيعات الأشعار ويقول نظما كثيرا وينظم قصائد طويلة ولا يعرف أوزان الشعر ولا بحوره فأي استبعاد في كون المنطق مرتكزا في نفوس بعض العباد الصحيح الفؤاد السلم المراد.
وقد اختلف أهل العلم في أن المنطق من العلم أم لا فتدبر.
قال ابن خلدون في بيان هذا العلم: هو قوانين يعرف بها الصحيح من الفاسد في الحدود والمعرفة للماهيات والحجج المفيدة للتصديقات وذلك أن الأصل في الإدراكات إنما هو المحسوسات بالحواس الخمس وجميع الحيوانات مشتركة في هذا الإدراك من الناطق وغيره
وإنما يتميز الإنسان عنها بإدراك الكليات وهي مجردة من المحسوسات وذلك بأن يحصل في الخيال من الأشخاص المتفقة صورة منطبقة على جميع تلك الأشخاص المحــسوسة هي الكلي ثم ينظر الذهن بين تلك الأشخاص المتفقة وأشخاص أخرى توافقها في بعض فيحصل له صورة تنطبق أيضا عليهما باعتبار ما اتفقا فيه ولا يزال يرتقي في التجريد إلى الكل الذي لا يجد كليا آخر معه يوفاقه فيكون لأجل ذلك بسيطا. وهذا مثل ما يجرد من أشخاص الإنسان صورة النوع المنطبقة عليها ثم ينظر بينه وبين الحيوان ويجرد صورة الجنس المنطبقة عليهما ثم بينهما وبين النبات إلى أن ينتهي إلى الجنس العالي وهو الجوهر فلا يجد كليا يوافقه في شيء فيقف العقل هنالك عن التجريد.
ثم إن الإنسان لما خلق الله له الفكر الذي به يدرك العلوم والصنائع وكان العلم إما تصور للماهيات ويعني به إدراك ساذج من غير حكم معه.
وأما تصديقا أي: حكما بثبوت أمر لأمر فصار سعي الفكر في تحصل المطلوبات.
إما بأن تجمع تلك الكليات بعضها إلى بعض على جهة التأليف فتحصل صورة في الذهن كلية منطبقة على أفراد في الخارج فتكون تلك الصورة الذهنية مفيدة لمعرفة ماهية تلك الأشخاص
وإما بأن يحكم بأمر على أمر فيثبت له ويكون ذلك تصديقا وغايته في الحقيقة راجعة إلى التصور لأن فائدة ذلك إذا حصل إنما هي معرفة حقائق الأشياء التي هي مقتضى العلم.
وهذا السعي من الفكر قد يكون بطريق صحيح. وقد يكون بطريق فاسد فاقتضى ذلك تمييز الطريق الذي يسعى به الفكر في تحصيل المطالب العلمية ليتميز فيها الصحيح من الفاسد فكان ذلك قانون المنطق.
وتكلم فيه المتقدمون أول ما تكلموا به جملا جملا ومتفرقا ولم تهذب طرقه ولم تجمع مسائله حتى ظهر في يونان أرسطو فهذب مباحثه ورتب مسائله وفصوله وجعله أول العلوم الحكمية وفاتحتها ولذلك يسمى بالمعلم الأول وكتابه المخصوص بالمنطق يسمى النص وهو يشمل على ثمانية كتب أربعة منها في صورة القياس وأربعة في مادته.
وذلك إن المطالب التصديقية على أنحاء:
فمنها ما يكون المطلوب فيه اليقين بطبعه.
ومنها ما يكون المطلوب فيه الظن وهو على مراتب فينظر في القياس من حيث المطلوب الذي يفيده وما ينبغي أن تكون مقدماته بذلك الاعتبار ومن أي جنس يكون من العلم أو من الظن وقد ينظر في القياس لا باعتبار مطلوب مخصوص بل من جهة إنتاجه خاصة.
ويقال للنظر الأول: إنه من حيث المادة ونعني به المادة المنتجة للمطلوب المخصوص من يقين أو ظن ويقال للنظر الثاني: إنه من حيث الصورة وإنتاج القياس على الإطلاق فكانت لذلك كتب المنطق ثمانية.
الأول: في الأجناس العالية التي ينتهي إليها تجريد المحسوسات وهي التي ليس فوقها جنس ويسمى كتاب المقولات.
والثاني: في القضايا التصديقية وأصنافها ويسمى: كتاب العبارة.
والثالث: في القياس وصورة إنتاجه على الإطلاق ويسمى كتاب القياس وهذا آخر النظر من حيث الصورة.
ثم الرابع: كتاب البرهان وهو النظر في القياس المنتج لليقين وكيف يجب أن تكون مقدماته يقينية ويختص بشروط أخرى لإفادة اليقين مذكورة فيه مثل كونها ذاتية وأولية وغير ذلك وفي هذا الكتاب الكلام في المعرفات والحدود إذ المطلوب فيها إنما هو اليقين لوجوب المطابقة بين الحد والمحدود لا تحتمل غيرها فلذلك اختصت عند المتقدمين بهذا الكتاب.
والخامس: كتاب الجدل وهو القياس المفيد قطع المشاغب وإفحام الخصم وما يجب أن يستعمل فيه من المشهورات ويختص أيضا من جهة إفادته لهذا الغرض بشروط أخرى من حيث إفادته لهذا الغرض وهي مذكورة هناك وفي هذا الكتاب يذكر المواضع التي يستنبط منها صاحب القياس قياسه ومنه عكوس القضايا.
والسادس: كتاب السفسطة: وهو القياس الذي يفيد خلاف الحق ويغالط به المناظر صاحبه وهو فاسد وهذا إنما كتب ليعرف به القياس المغالطي فيحذر منه.
والسابع: كتاب الخطابة وهو القياس المفيد ترغيب الجمهور وحملهم على المراد منهم وما يجب أن يستعمل في ذلك من المقالات.
والثامن: كتاب الشعر وهو القياس الذي يفيد التمثيل والتشبيه خاصة للإقبال على الشيء أو النفرة عنه وما يجب أن يستعمل فيه من القضايا التخييلية هذه هي كتب المنطق الثمانية عند المتقدمين.
ثم أن حكماء اليونانيين بعد أن تهذبت الصناعة ورتبت رأوا أنه لا بد من الكلام في الكليات الخمس المفيدة للتصور فاستدركوا فيها مقالة تختص بها مقدمة بين يدي الفن فصارت تسعا وترجمت كلها في الملة الإسلامية وكتبها وتداولها فلاسفة الإسلام بالشرح والتلخيص كما فعله الفارابي وابن سينا ثم ابن رشد من فلاسفة الأندلس ولابن سينا كتاب الشفا استوعب فيه علوم الفلسفة السبعة كلها.
ثم جاء المتأخرون فغيروا اصطلاحات المنطق والحقوا بالنظر في الكليات الخمس ثمرته وهي: الكلام في الحدود والرسوم نقولها من كتاب البرهان وحدقوا كتاب المقولات لأن نظر المنطقي فيه بالعرض لا بالذات وألحقوا في كتاب العبارة الكلام في العكس لأنه من توابع الكلام في القضايا ببعض الوجوه ثم تكلموا في القياس من حيث إنتاجه للمطالب على العموم لا بحسب المادة وحدقوا النظر فيه بحسب المادة وهي الكتب الخمسة: البرهان والجدول والخطابة والشعر والسفسطة وربما يلم بعضهم باليسير منها إلماما وأغفلوها كأن لم تكن وهي المهم المعتمد في الفن.
ثم تكلموا فيما وضعوه من ذلك كلاما مستبحرا نظروا فيه من حيث أنه فن برأسه لا من حيث أنه آلة للعلوم فطال الكلام فيه واتسع.
وأول من فعل ذلك الإمام فخر الدين بن الخطيب ومن بعده فضل الدين الخونجي وعلى كتبه معتمد المشارقة لهذا العهد وله في هذه الصناعة كتاب كشف الأسرار وهو طويل واختصر فيها مختصر الموجز وهو حسن في التعليم ثم مختصر المجمل في قدر أربعة أوراق أخذ بمجمامع الفن وأصوله فتداوله المتعلمون لهذا العهد فينتفعون به وهجرت كتب المتقدمين وطرقهم كأن لم تكن وهي ممتلئة من ثمرة المنطق وفائدته كما قلناه والله الهادي للصواب انتهى كلام ابن خلدون.
قال في مدينة العلوم:
وقد صح بشهادة أهل التواريخ والندماء أن أول من دون المنطق أرسطو وقد بذل ملك زمانه في مقابلة ذلك خمسمائة ألف دينار وأدر عليه في كل سنة مائة وعشرين ألف دينار.
وقيل: أنه تنبه لوضعه وترتيبه من نظم كتاب إقليدس في الهندسة ثم إن أرسطو بعدما دون المنطق صارت كتبه مخزونة في أبنية ولاية موره من بلاد الروم عند ملك من ملوك اليونان ولما رغب الخليفة المأمون في علوم الأوائل أرسل إلى الملك المذكور وطلب الكتب فلم يرسل فغضب المأمون وجمع العساكر وبلغ الخبر إلى الملك فجمع البطاريق وشاورهم في الأمر فقالوا:
إن أردت الكسر في دين المسلمين وتزلزل عقائدهم فلا تمنعهم عن الكتب فاستحسن الملك فأرسلها إلى المأمون فجمع المأمون مترجمي مملكته كحنين بن إسحاق وثابت ابن قرة وغيرهما فترجموها بتراجم مختلفة بحيث لا يوافق ترجمة أحدهم ترجمة الآخر فبقيت التراجم غير محررة إلى أن التمس منصور بن نوح الساماني من أبي نصر الفارابي أن يحررها ويخصها ففعل كما أراد ولهذا لقب بالمعلم الثاني وكانت كتبه في خزانة الكتب المبنية بأصبهان المسماة بصوان الحكمة إلى زمان السلطان مسعود لكن كانت غير مبيضة لأن الفارابي كان غير ملتفت إلى جمع التصانيف ونشرها بل غلب عليه السياحة ثم إن الشيخ أبا علي تقرب عند السلطان مسعود بسبب الطب حتى استوزره واستولى على تلك الخزانة وأخذ ما في تلك الكتبولخص منها كتاب الشفا وغير ذلك من تصانيفه وقد اتفق إن احترقت تلك الكتب فاتهم أبو علي بأنه أحرقها لينقطع انتساب تلك العلوم عن أربابها ويختص بنفسه لكن هذا كلام الحساد الذين ليس لهم هاد.
واعلم أن الأوائل من الملوك كانوا يهتمون بجمع الكتب وخزانتها فحدثت في الإسلام خزائن ثلاث:
إحداها: بمدينة دار السلام ببغداد وكانت فيها من الكتب ما لا يحصى كثرة وقد ذهب الكل في وقعة تاتار ببغداد.
وثانيتها: خزانة الفاطميين بمصر وكانت من أعظم الخزائن وأكثرها جمعا للكتب النفيسة ولما انقضت دولتهم باستيلاء الملك صلاح الدين على مصر فاشترى القاضي الفاضل أكثر كتب هذه الخزانة ووقفها على مدرسته بمصر فبقيت فيها إلى أن استولت عليها الأيدي فلم يبق منها إلا القليل.
وثالثتها: خزانة بني أمية بالأندلس وكانت من أجل خزائن الكتب أيضا ولما انقرضت دولتهم باستيلاء ملوك الطوائف على الأندلس ذهب كلها.
أو من الكتب المبسوطة في المنطق: البحر الخضم ومنطق الشفاء لأبي علي بن سينا كتبه بلا مطالعة كتاب وكان يكتب كل يوم خمسين ورقة من حفظه وله كتاب النجاة والقانون والإشارات.
ومنها كتاب بيان الحق ومطالع الأنوار والمناهج كلها في المنطق والحكمة للأمور كان شافعيا وكتاب كشف الأسرار لمحمد بن عبد الملك الخونجي وهو صاحب الموجز في المنطق ومن الكتب اللطيفة التلويحات والمطارحات لأبي الفتوح يحيى بن حنش الملقب بشهاب الدين السهروردي الحكيم المقتول وقيل اسمه عمر.
ومنها: الملخص وشرح الإشارات للرازي والمعتبر لأبي البركات البغدادي اليهودي أولا في أكثر عمره والمهتد إلى الإسلام في آخر عمره أتى في المعتبر بأقسام الحكمة غير الرياضي وهو أحسن كتاب في هذا الشأن في هذا الزمان استولت عليه آفات لو وضع واحد منها على رضوى لتخلخلت أصولها الرواسخ وتدكدكت رؤوسها الشوامخ وذلك أنه عمى وطرش وبرص وتجذم فنعوذ بالله من نقمة لا تطيقها الأبدان ومن زوال العافية وتقلب الإحسان
ولما أحس بالموت أوصى من يتولاه أن يكتب على قبره: هذا قبر أوحد الزمان أبي البركات ذي العبر صاحب المعتبر فسبحان من لا يغلبه غالب ولا ينجو من قضائه متحيل ولا هارب نسأل الله في حياتنا العافية وفي مماتنا حسن العاقبة رب قد أحسنت فيما مضى فلك أن تحسن فيما بقي ولم يتحقق تاريخ وفاته إلا أنه كان في أوسط المائة السادسة.
ومنها جامع الدقائق للكاتبي وتنزيل الأفكار وحواشي ملخص الرازي له أيضا وإن أردت بلوغ الغاية في المنطق فعليك بتعديل الميزان وهو أحد أقسام تعديل العلوم لصدر الشريعة وقد كشف في هذا الكتاب عن غوامض طالما تحير فيها عقول الأقدمين وأبرز قواعد لم يهتد إليها أحد من الأوحدين ومع هذا فهو لعلوم الشريعة أبو عذرها وابن بجدتها وكتب المنطق أكثر من أن تحصى وأجل من أن تستقصي انتهى حاصله.
علم مواسم السنة
قال الأرنيقي: إن لكل أمة من الأمم ولكل طائفة من الأقوام مواسم وأعياد يعينون لكل منها شغلا مخصوصا فالعلم المذكور يعرف به أعياد كل قوم وإنها من السنة في أي يوم ويعرف شغل أهلها في ذلك ومن جملة ذلك يوم النيروز والمهرجان عند أهل الفارس وكان أهل القبط يأتي ملكهم في يوم النيروز ويرصدون من الليل فيقدمون رجلا حسن الاسم والوجه طيب الرائحة فيقف على الباب حتى يصبح فإذا أصبح دخل على الملك بغير أذن فيقف عنده.
فيقول له الملك: ما اسمك؟ ومن أين أنت أقبلت؟ وأين تريد؟ ولأي شيء وردت وما معك؟
فيقول: أنا المنصور واسمي المبارك ومن قبل الله أقبلت والملك السعيد أردت وبالهنا والسلامة وردت ومعي السنة الجديدة ثم يجلس ويدخل بعده رجل معه طبق من فضة وفيه حنطة وشعير وجلبان وذرة وحمص وسمسم وأرز من كل سبع سنابل وسبع حبات وقطعة سكر ودينار فيضع الطبق بين يدي الملك ثم يدخل عليه الهدايا ويبتدئ من الوزير ثم الناس على قدر مراتبهم ثم يقدم الملك برغيف كبير مصنوع من تلك الحبوب فيأكل منه ويطعم من حضره ثم يقول: هذا يوم جديد من شهر جديد من عام جديد من زمان جديد يحتاج أن يجدد فيه ما أخلقه الزمان وأحق الناس بالفضل والإحسان الرأس لفضله على سائر الأعضاء ثم يخلع على وجوه دولته ويصلهم ويصرف عليهم ما حمل إليه من الهدايا.
وكان من عادة الفرس في عيدهم أن يدهن الملك بدهن البان تبركا ويلبس القصب والوشي ويضع على رأسه تاجا فيه صورة الشمس ويكون أول من يدخل عليها المؤبد بطبق عليه أترجة وقطعة سكر ونبق وسفرجل وتفاح وعناب وعنقود عنب أبيض وسبع باقات آس ثم يدخل الناس مثل الأول على طبقاتهم ومن عادتهم في يوم النيروز أنهم: يجمعون بين سبع أشياء أول أسمائهن سينات يأكلونها هي السكر والسفرجل السمسم والسحاق والسذاب والسقنقور وعادات الناس في الأعياد خارجة عن التعداد انتهى.
قلت: وقد ذكر الشيخ الإمام العلامة المقريزي في كتاب الخطط والآثار كثيرا من أعيادهم وبسط في بيان ذلك ولكن الشرع الشريف قد ورد بإبطال كل عيد للناس على اختلاف فرقهم وقبائلهم وعشائرهم إلا ما وردت به السنة المطهرة من الجمعة والعيدين والحجج وعليه عمل المسلمين إلى الآن.
ولشيخ الإسلام أحمد بن تيمية رضي الله عنه كتاب سماه اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم في رد أعياد الأقوام ونهي المسلمين عن اعتياد عادات هؤلاء الطعام وفي الحديث من تشبه بقوم فهو منهم والتشبه يشمل كل شبه يكون في الأعياد والأخلاق وهيأت اللبس والآكل والركوب والبناء والكلام وقد تساهل الناس المسلمون اليوم في التحرز عن التشبه إلى الغاية وشابهوا الكفار وأهل الكتاب في مراسمهم ومواسهم إلى النهاية إلا من عصمه الله وقليل ما هم وتأويل هذا الحديث يستدعي بسطا تاما وليس هذا موضع بيان المسائل والأحكام فعليك بالنظر في اقتضاء الصراط المستقيم يتضح لك الحق مما هو باطل في دين الإسلام وبالله التوفيق.

علم الموسيقى

علم الموسيقى
قال صاحب الفتحية الموسيقى: علم رياضي يبحث فيه عن أحوال النغم من حيث الاتفاق والتنافر وأحوال الأزمنة المتخللة بين النقرات من حيث الوزن وعدمه ليحصل معرفة كيفية تأليف اللحن هذا ما قاله الشيخ في شفاءه إلا إن لفظه بين النقرات زيدت على كلامه. وعبارته بعينها أي: معرفة النغم الحاصل من النقرات ليعم البحث عن الأزمنة التي تكون نقراتها منغمة أو ساذجة وكلامه يشعر بكون البحث عن الأزمنة التي تكون نقراها منغمة فقط.
وعرفها الشيخ أبو نصر: بأنها صوت واحد لابث لزمان فإذا قدر محسوسا في الجسم الذي فيه يوجد والزمان قد يكون غير محسوس القدر لصغره فلا مدخل للبحث والصوت اللابث فيه لا يسمى نغمة والقوم قدروا أقل المرتبة المحــسوسة في زمان يقع بين حرفين متحركين ملفوظين على سبيل الاعتدال فظهر لنا أنه يشتمل على بحثين البحث: الأول: عن أحوال النغم والبحث الثاني: عن الأزمنة فالأول يسمى: علم التأليف. والثاني: علم الإيقاع.
والغاية والغرض منه حصول معرفة كيفية تأليف الألحان وهو في عرفهم أنغام مختلفة الحدة والثقل رتبت ترتيبا ملائما وقد يقال: وقرنت بها ألفاظ دالة على معان محركة للنفس تحريكا ملذا وعلى هذا فما يترنم به الخطباء والقراء يكون لحنا بخلاف التعريف الثالث: وهو وقرنت بها ألفاظ منظومة مظروفة الأزمنة بالأول أعم من الثاني والثالث وبين الثاني والثالث عموم من وجه.
وقال في مدينة العلوم: وهو علم تعرف منه أحوال النغم والإيقاعات وكيفية تأليف اللحون وإيجاد الآلات الموسيقائية وإنما وضعوا هذه الآلات لما ليس فيه الطبيعة فلم يرخصوا الإخلال به.
وموضوعه: الصوت من جهة تأثيره في النفس إما بالبسط أو بالقبض لأن الصوت إما أن يحرك النفس عن المبدأ فيحدث البسط من السرور واللذة وما يناسبها وإما إلى مبدئها فيحدث القبض والفكر في العواقب وما يناسب ذلك ومن الكتب المصنفة فيه كتاب الفارابي وهو أشهرها وأحسنها وكذا كتاب الموسيقي من أبواب الشفاء لابن سينا ولصفي الدين عبد المؤمن مختصر لطيف ولثابت بن قرة تصنيف نافع ولأبي الوفاء الجوزجاني مختصر نافع في فن الإيقاع والكتب في هذا الفن كثيرة وفيما ذكرناه كفاية انتهى كلامه.
وقد اتفق الجمهور على أن واضع هذا الفن أولا: فيثاغورس من تلامذة سليمان عليه السلام وكان رأى في المنام ثلاثة أيام متوالية أن شخصا يقول له: قم واذهب إلى ساحل البحر الفلاني وحصل هناك علما غريبا فذهب من غد كل ليلة من الليالي إليه فلم ير أحدا فيه وعلم أنها رؤيا ليست مما يؤخذ جدا فانعكس وكان هناك جمع من الحدادين يضربون بالمطارق على التناسب فتأمل ثم رجع وقصد أنواع مناسبات بين الأصوات ولما حصل له ما قصده بتفكر كثير وفيض إلهامي صنع آلة وشد عليها إبريسما وأنشد شعرا في التوحيد وترغيب الخلق في أمور الآخرة فأعرض بذلك كثير من الخلائق عن الدنيا وصارت تلك الآلة معززة بين الحكماء وبعد مدة قليلة صار حكيما محققا بالغا في الرياضة بصفاء جوهره وأصلا إلى مأوى الأرواح وسعة السماوات وكان يقول: إني أسمع نغمات شهية وألحانات بهية من الحركات الفلكية وتمكنت تلك النغمات في خيالي وضميري فوضع قواعد هذا العلم.
وأضاف بعده الحكماء مخترعاتهم إلى ما وضعه إلى أن انتهت النوبة إلى أرسطاطاليس فتفكر أرسطو فوضع الأغنون وهو آلة لليونانيين تعمل من ثلاثة زقاق كبار من جلود الجواميس يضم بعضها إلى بعض ويركب على رأس الزق الأوسط زق كبير آخر ثم يركب على هذه الزقاق أنابيب لها ثقب على نسب معلومة تخرج منها أصوات طيبة مطربة على حسب استعمال المستعمل وكان غرضهم من استخراج قواعد هذا الفن تأنيس الأرواح والنفوس الناطقة إلى عالم القدس لا مجرد اللهو والطرب فإن النفس قد يظهر فيها باستماع واسطة حسن التأليف وتناسب النغمات بسط فتذكر مصاحبة النفوس العالية ومجاورة العالم العلوي وتسمع هذا النداء وهو:
ارجعي أيتها النفس الغريقة في الأجسام المدلهمة في فجور الطبع إلى العقول الروحانية والذخائر التوراتية والأماكن القدسية في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
ومن رجال هذا الفن من صار له يد طولى كعبد المؤمن فإن له فيه شرفية وخواجه عبد القادر بن غيبي الحافظ المراغي له فيه كتب عديدة وقد أطال ابن خلدون في بيان صناعة الغناء فمن شاء ليرجع إليه فأنه بحث نفيس.

علم الهيئة

علم الهيئة
ذكره في كشف الظنون ولم يزد على ذلك. وقال في مدينة العلوم: هو علم يعرف منه أحوال الأجرام البسيطة العلوية والسفلية وأشكالها وأوضاعها ومقاديرها وأبعادها.
وموضوعه الأجرام المذكورة من الحيثية المذكورة وقد يذكر هذا العلم تارة مع براهينها الهندسية كما هو الأصل وهذا هو المذكور في المجسطي لبطليموس ولخصه الأبهري وعربه.
ومن الكتب المختصرة: فيه هيئة ابن أفلح.
ومن المبسوطة: القانون المسعودي لأبي ريحان البيروتي وشرح المجسطي للنيروزي وقد تجرد عن البراهين ويقتصر على التصور والتخيل دون اليقين ويسمى هيئة بسيطة.
ومن المختصر فيه: التذكرة لنصير الدين الطوسي.
ومن المتوسط: هيئة العرضي ومن المبسوطة: أيضا التحفة ونهاية الإدراك كلاهما للعلامة قطب الدين الشيرازي.
ومن المختصرة: الملخص المشهور لمحمود الجغميني وعليه شروح منها: شرح لفضل الله العبيدي وكمال الدين الزاكاني والشريف الجرجاني.
وأحسن الشروح شرح الفاضل قاضي زادة الرومي.
ومن المختصرة النافعة فيه: غاية النفع كتاب النخبة لعلي بن محمد القوشجي وعليه شرح لمولانا سنان الدين وشرحه أستاذي محمود بن محمد بن قاضي زاده الرومي وهو ابن بنت المصنف علي بن محمد القوشجي كتبه عند قراءتي عليه الكتاب المذكور وهذا الشرح من أحسن المؤلفات في هذا الفن وكانت القدماء قد اقتصروا في هيئة الأفلاك على الدوائر المجردة وتسمى: هيئة مسطحة وفيه كتاب لأبي علي بن الهيثم انتهى كلامه.
قال في كشاف اصطلاحات الفنون: علم الهيئة: هو من أصول الرياضي وهو علم يبحث فيه عن أحوال الأجرام البسيطة العلوية والسفلية من حيث الكمية والكيفية والوضع والحركة اللازمة لها وما يلزم منها.
فالكمية إما منفصلة: كأعداد الأفلاك وبعض الكواكب دون أعداد العناصر فإنها مأخوذة من الطبعيات وأما متصلة: كمقادير الأجرام والأبعاد واليوم وأجزاءه وما يتركب منها.
وأما الكيفية: فكالشكل إذ تتبين فيه استدارة هذه الأجسام وكلون الكواكب وضوئها.
وأما الوضع: فكقرب الكواكب وبعدها عن دائرة معينة وانتصاب دائرة وميلانها بالنسبة إلى سمت رؤوس سكان الأقاليم وحيلولة الأرض بين النيرين والقمر بين الشمس والأبصار ونحو ذلك.
وأما الحركة فالمبحوث عنه في هذا الفن منها هو قدرها وجهتها.
وأما البحث عن أصل الحركة وإثباتها للأفلاك فمن الطبعيات والمراد باللازمة الدائمة على زعمهم وهي حركات الأفلاك والكواكب واحترز بها عن حركات العناصر كالرياح والأمواج والزلازل فإن البحث عنها من الطبعيات.
وأما حركة الأرض من المغرب إلى المشرق وحركة الهواء بمشايعتها وحركة النار بمشايعة الفلك فمما لم يثبت ولو ثبت فلا يبعد أن يجعل البحث عنها من حيث القدر والجهة من مسائل الهيئة والمراد بما يلزم من الحركة الرجوع والاستقامة التذكرة هذا القيد - أعني قيد ما يلزم منها - والظاهر أنه لا حاجة إليه.
والغرض من قيد الحيثية: الاحتراز عن علم السماء والعالم فإن موضوعه البسائط المذكورة أيضا لكن يبحث فيه عنها لا عن الحيثية المذكورة بل من حيث طبائعها ومواضعها والحكمة في ترتيبها ونضدها وحركاتها إلا باعتبار القدر والجهة.
وبالجملة فموضوع الهيئة الجسم البسيط من حيث إمكان عروض الأشكال والحركات المخصوصة ونحوها وموضوع علم السماء والعالم الذي هو من أقسام الطبعي الجسم البسيط أيضا لكن من حيث إمكان عروض التغير والثبات وإنما زيد لفظ الإمكان إشارة إلى أن ما هو من جزء الموضوع ينبغي أن يكون مسلم الثبوت وهو إمكان العروض لا العروض بالفعل.
وقيل: موضوع كل من العلمين الجسم البسيط من حيث إمكان عروض الأشكال والحركات والتمايز بينهما إنما هو بالبرهان فإن أثبت المطلوب بالبرهان الآني يكون من الهيئة وإن أثبت بالبرهان اللمي يكون من علم السماء والعالم فإن تمايز العلوم كما يكون بتمايز الموضوعات كذلك قد يقع بالمحمولات والقول بأن التمايز في العلوم إنما هو بالموضوع فأمر لم يثبت بالدليل بل هو مجرد رعاية مناسبة.
واعلم أن الناظر في حركات الكواكب وضبطها وإقامة البراهين على أحوالها يكفيه الاقتصار على اعتبار الدوائر ويسمى ذلك هيئة غير مجسمة ومن أراد تصور مبادئ تلك الحركات على الوجه المطابق لقاعد الحكمة فعليه تصور الكرات على وجه تظهر حركات مراكز الكواكب وما يجري مجراها في مناطقها ويسمى ذلك هيئة مجسمة وإطلاق العام على المجسمة مجاز ولهذا قال صاحب التذكرة:
إنها ليست بعلم تام لأن العلوم هو التصديق بالمسائل على وجه البرهان فإذا لم يورد بالبرهان يكون حكاية للمسائل المثبتة بالبرهان في موضع آخر هذا كله خلاصة ما ذكره عبد العلي البرجندي في حواشي شرح الملخص.
والمذكور في علم الهيئة ليس مبينا على المقدمات الطبعية والإلهية وما جرت به العادة من تصدير المصنفين كتبهم بها إنما هو بطريق المتابعة للفلاسفة وليس ذلك أمرا واجبا بل يمكن إثباته من غير ملاحظة الابتناء عليها فإن المذكور فيه بعضه مقدمات هندسية لا يتطرق إليها شبهة مثلا: مشاهدة التشكلات البدرية والهلالية على الوجه المرصود توجب اليقين بان نور القمر مستفاد من نور الشمس وبعضه مقدمات يحكم بها العقل بحسب الأخذ لما هو الأليق والأحرى كما يقولون: إن محدب الحامل يماس محدب الممثل على نقطة مشتركة وكذا مقعره بمقعره ولا مستند لهم غير أن الأولى أن لا يكون في الفلكيات فضل لا يحتاج إليه وكذا الحال في أعداد الأفلاك من أنها تسعة وبعضه مقدمات يذكرونها على سبيل التردد دن الجزم كما يقولون أن اختلاف حركة الشمس بالسرعة والبطء إما بناء على أصل الخارج أو على أصل التدوير من غير جزم بأحدهما فظهر أن ما قيل: من أن إثبات مسائل هذا الفن مبني على أصول فاسدة مأخوذة من الفلاسفة من نفي القادر المختار وعدم تجويز الخرق والالتئام على الأفلاك وغير ذلك ليس بشيء ومنشأه عدم الاطلاع على مسائل هذا الفن ودلائله. وذلك لأن مشاهدة التشكلات البدرية والهلالية على الوجه المرصود توجب اليقين بأن نور القمر حاصل من نور الشمس وإن الخسوف إنما هو بسبب حيلولة الأرض بين النيرين والكسوف إنما هو بسبب حيلولة القمر بين الشمس والبصر مع القول بثبوت القادر المختار ونفي تلك الأصول المذكور فإن ثبوت القادر المختار وانتفاء تلك الأصول لا ينفيان أن يكون الحال ما ذكر غاية الأمر أنهما يجوزان الاحتمالات الآخر مثلا: على تقدير ثبوت القادر المختار يجوز أن يسود القادر بحسب أرادته وينور وجه القمر على ما يشاهد من التشكلات البدرية والهلالية وأيضا يجوز على تقدير الاختلاف في حركات الفلكيات وسائر أحوالها أن يكون أحد نصفي كل من النيرين مضيئا والآخر مظلما ويتحرك النيران على مركزيهما بحيث يصير وجهاهما المظلمان مواجهين لنا في حالتي الخسوف والكسوف إما بالتمام إذا كانا تامين أو بالبعض إن كانا ناقصين وعلى هذا القياس حال التشكلات البدرية والهلالية لكنا نجزم مع قيام الاحتمالات المذكور أن الحال على ما ذكر من استفادة القمر النور من الشمس وأن الخسوف والكسوف بسبب الحيلولة ومثل هذا الاحتمال قائم في العلوم العادية والتجريبية أيضا بل في جميع الضروريات مع أن القادر المختار يجوز أن يجعلها كذلك بحسب إرادته بل على تقدير أن يكون المبدأ موجبا يجوز أن يتحقق وضع غريب من الأوضاع الفلكية فيقتضي ظهور ذلك الأمر الغريب على مذهب القائلين بالإيجاب من استناد الحوادث إلى الأوضاع الفلكية وغير ذلك مما هو مذكور في شبه القادحين في الضروريات.
ولو سلم أن إثبات مسائل هذا الفن يتوقف على تلك الأصول الفاسدة فلا شك أنه إنما يكون ذلك إذا ادعى أصحاب هذا الفن أنه لا يمكن إلا على الوجه الذي ذكرنا.
أما إذا كان دعواهم أنه يمكن أن يكون على ذلك الوجه ويمكن أن يكون على الوجوه الآخر فلا يتصور التوقف حينئذ وكفى بهم فضلا أنهم تخيلوا من الوجوه الممكنة ما تنضبط به أحوال تلك الكواكب مع كثرة اختلافاتها على وجه تيسر لهم أن يعينوا مواضع تلك الكواكب واتصالات بعضها ببعض في كل وقت وأرادوا بحيث يطابق الحس والعيان مطابقة تتحير فيها العقول والأذهان كذا في شرح التجريد وهكذا يستفاد من شرح المواقف في موقف الجواهر في آخر بيان محدد الجهات.
وفي إرشاد القاصد الهيئة: وهو علم تعرف به أحوال الأجرام البسيطة العلوية والسفلية وأشكالها وأوضاعها وأبعاد ما بينها وحركات الأفلاك والكواكب ومقاديرها.
وموضوعه: الأجسام المذكورة من حيث كميتها وأوضاعها وحركاتها اللازمة لها.
وأما العلوم المتفرعة عليه فهي خمسة وذلك لأنه إما أن يبحث عن إيجاد ما تبرهن بالفعل أولا.
الثاني: كيفية.
الأرصاد والأول: إما حساب الأعمال أو التوصل إلى معرفتها بالآلات.
فالأول منهما: إن اختص بالكواكب المجردة فهو علم الزيجات والتقاويم وإلا فهو علم المواقيت.
والآلات: إما شعاعية أو ظلية فإن كانت شعاعية فهو علم تسطيح الكرة وإن كانت ظلية فعلم الآلات الظلية وقد ذكرنا هذه العلوم في هذا الكتاب على نهج الترتيب المختار فيه.
وقال ابن خلدون: هو علم ينظر في حركات الكواكب الثابتة والمتحركة والمتحيرة ويتسدل بكيفيات تلك الحركات على أشكال وأوضاع للأفلاك لزمت عنها هذه الحركات المحــسوسة بطرق هندسة كما يبرهن على أن مركز الأرض مبائن لمركز فلك الشمس بوجود حركة الإقبال والأدبار وكما يستدل بالرجوع والاستقامة للكواكب على وجود أفلاك صغيرة حاملة لها متحركة داخل فلكها الأعظم وكما يبرهن على وجود الفلك الثامن بحركة الكواكب الثابتة وكما يبرهن على تعدد الأفلاك للكوكب الواحد بتعدد الميلول له وأمثال ذلك وإدراك الموجود من الحركات وكيفياتها وأجناسها إنما هو بالرصد فإنا إنما علمنا حركة الإقبال والأدبار به وكذا ترتيب الأفلاك في طبقاتها وكذا الرجوع والاستقامة وأمثال ذلك.
وكان اليونانيون يعتنون بالرصد كثيرا ويتخذون له الآلات التي توضع ليرصد بها حركة الكوكب المعين وكانت تسمى عندهم: ذات الحلق وصناعة عملها والبراهين عليه في مطابقة حركتها بحركة الفلك منقول بأيدي الناس.
وأما في الإسلام: فلم تقع به عناية إلا في القليل وكان في أيام المأمون شيء منه وصنع الآلة المعروفة للرصد المسماة: ذات الحلق وشرع في ذلك فلم يتم ولما مات ذهب رسمه وأغفل واعتمد من بعده على الأرصاد القديمة وليست بمغنية لاختلاف الحركات باتصال الأحقاب.
وإن مطابقة حركة الآلة في الرصد بحركة الأفلاك والكواكب إنما هو بالتقريب ولا يعطى التحقيق فإذا طال الزمان ظهر تفاوت ذلك بالتقريب.
وهذه الهيئة صناعة شريفة وليست على ما يفهم في المشهور إنها تعطي صورة السموات وترتيب الأفلاك والكواكب بالحقيقة بل إنما تعطي أن هذه الصور والهيئات للأفلاك لزمت عن هذه الحركات وأنت تعلم أنه لا يبعد أن يكون الشيء الواحد لازما لمختلفين وإن قلنا:
إن الحركات لازمة فهو استدلال باللازم على وجود الملزوم ولا يعطي الحقيقة بوجه على أنه علم جليل وهو أحد أركان التعاليم.
ومن أحسن التآليف فيه: كتاب المجسطي منسوب لبطليموس وليس من ملوك اليونان الذين أسماهم بطليموس على ما حققه شراح الكتاب وقد اختصره الأئمة من حكماء الإسلام كما فعله ابن سينا وأدرجه في تعاليم الشفاء ولخصه ابن رشد أيضا من حكماء الأندلس وابن السمح وابن الصلت في كتاب الاقتصار ولابن الفرغاني هيئة ملخصة قربها وحذف براهينها الهندسية والله علم الإنسان ما لم يعلم سبحانه لا إله إلا هو رب العلمين انتهى كلام ابن خلدون. وقد بسطنا القول في الهيئة في كتابنا لقطة العجلان فمن شاء أن يطلع عليه فعليه به والله الموفق. 

علم الإلهي

علم الإلهي
هو علم يبحث فيه عن الحوادث من حيث هي موجودات.
وموضوعه الوجود من حيث هو.
وغايته تحصيل الاعتقادات الحقة والتصورات المطابقة لتحصيل السعادة الأبدية والسيادة السرمدية كذا في: مفتاح السعادة.
وفي كشاف اصطلاحات الفنون: هو علم بأحوال ما يفتقر في الوجودين أي الخارجي والذهني إلى المادة.
ويسمى أيضا بالعلم الأعلى وبالفلسفة الأولى وبالعلم الكلي وبما بعد الطبيعة وبما قبل الطبيعة
والبحث فيه عن الكميات المتصلة والكيفيات المحــسوسة والمختصة بالكميات وأمثالها مما يفتقر إلى المادة في الوجود الخارجي استطرادي وكذا البحث عن الصورة مع أن الصورة تحتاج إلى المادة في التشكل كذا في العلمي وفي الصدر أمن الحكمية النظرية ما يتعلق بأمور غير مادية مستغنية القوام في نحوي الوجود العيني والذهني عن اشتراط المادة كالإله الحق والعقول الفعالة والأقسام الأولية للموجود كالواجب والممكن والواحد والكثير والعلة والمعلول والكلي والجزئي وغير ذلك فإن خالط شيء منها المواد الجسمانية فلا يكون على سبيل الافتقار والوجوب.
وسموا هذا القسم: العلم الأعلى فمنه العلم الكلي المشتمل على تقاسيم الوجود المسمى بالفلسفة الأولى ومنه الإلهي الذي هو فن من المفارقات.
وموضوع هذين الفنين: أعم الأشياء وهو الموجود المطلق من حيث هو. انتهى.
وأصول الإلهي خمسة:
الأول: الأمور العامة.
الثاني: إثبات الواجب وما يليق به.
الثالث: إثبات الجواهر الروحانية.
الرابع: بيان ارتباط الأمور الأرضية بالقوى السماوية.
الخامس: بيان نظام الممكنات.
وفروعه قسمان:
الأول: البحث عن كيفية الوحي وصيرورة العقل محسوسا ومنه تعريف الإلهيات ومنه الروح الأمين.
الثاني: العلم بالمعاد الروحاني. انتهى.
وقال صاحب: إرشاد القاصد: يعبر عنه بالإلهي لاشتماله على علم الربوبية.
وبالعلم الكلي لعمومه وشموله لكليات الموجودات.
وبعلم ما بعد الطبيعة لتجرد موضوعه عن المواد ولواحقها.
قال: وأجزاؤه الأصلية خمسة: الأول: النظر في الأمور العامة مثل الوجود والماهية والوجوب والإمكان والقدم والحدوث والوحدة والكثرة.
والثاني: النظر في مبادئ العلوم كلها وتبيين مقدماتها ومراتبها. والثالث: النظر في إثبات وجود الإله ووجوبه والدلالة على وحدته وصفاته.
والرابع: النظر في إثبات الجواهر المجردة من العقول والنفوس والملائكة والجن والشياطين وحقائقها وأحوالها.
والخامس: النظر في أحوال النفوس البشرية بعد مفارقتها وحال المعاد.
ولما اشتدت الحاجة إليه اختلفت الطرق.
فمن الطالبين: من رام إدراكه بالبحث والنظر وهؤلاء زمرة الحكماء الباحثين ورئيسهم أرسطو وهذا الطريق أنفع للتعلم لو وفى بجملة المطالب وقامت عليها براهين يقينية وهيهات.
ومنهم: من سلك طريق تصفية النفس بالرياضة وأكثرهم يصل إلى أمور ذوقية يكشفها له العيان ويجل أن توصف بلسان ومنهم: ابتدأ أمره بالبحث والنظر وانتهى إلى التجريد وتصفية النفس فجمع بين الفضيلتين وينسب مثال هذا الحال إلى سقراط وأفلاطون والسهروردي والبيهقي. انتهى.
وقال أبو الخير: وهذا العلم هو المقصد الأقصى والمطلب الأعلى لكن لمن وقف على حقائقه واستقام في الإطلاع على دقائقه لأن حظي به فقد فاز فوزا عظيما ومن زلت فيه قدمه أو طغى به قلمه فقد ضل ضلالا بعيدا وخسر خسرانا مبينا إذ الباطل يشاكل الحق في مأخذه والوهم يعارض العقل في دلائله جل جناب الحق عن أن يكون شريعة الكل وارد أو يطلع على سرائر قدسه إلا واحد بعد واحد وقلما يوجد إنسان يصفو عقله عن كدر الأوهام ويخلص فهمه عن مهاوي الإيهام ويستسلم لما قرره الأعلام.
واعلم أن من النظر رتبة تناظر طريق التصفية ويقرب حدها من حدها وهو طريق الذوق ويسمونه الحكمة الذوقية.
وممن وصل إلى هذه الرتبة في السلف السهروردي وكتاب: حكمة الإشراق له صادر عن هذا المقام برمز أخفى من أن يعلم وفي المتأخرين: الفاضل الكامل مولانا شمس الدين الفناري في بلاد الروم ومولانا جلال الدين الدواني في بلاد العجم ورئيس هؤلاء الشيخ صدر الدين القونوي والعلامة قطب الدين الشيرازي. انتهى. ملخصا أو سيأتي تمام التفصيل في الحكمة عند تحقيق الأقسام إن شاء الله العزيز العلام.
واعلم أن منبع العلوم الحكمية النظرية وأستاذ الكل فيها إدريس عليه السلام آتاه الله الحكمة والنبوة وأنزل عليه ثلاثين صحيفة وعلم النجوم. وأفهمه عدد السنين والحساب وعلمه الألسنة حتى تكلم الناس في زمنه باثنين وتسعين لسانا ولد بمصر وسموه هرمس الهرامس وباليونانية أرمس بمعنى عطارد وعرب بهرمس واسمه الأصلي هنوخ وعرب أخنوخ وسماه الله تعالى في كتابه العربي المبين إدريس لكثرة دراسة كتاب الله تعالى.
وقيل: إن معلمه غوثاديمون أو أغثاذيمون المصري وتفسيره السعيد الجد قيل: وهو شيث عليه السلام.
ثم إن إدريس عرف الناس صفة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بأنه يكون بريئا عن المذمات والآفات كلها كاملا في الفضائل الممدوحات لا يقصر عما يسأل عنه مما في الأرض والسماء ومما فيه دواء وشفاء وأنه يكون مستجاب الدعوة في كل ما يطلبه ويكون مذهبه ودينه ما يصلح به العالم.
وكانت قبلة إدريس جهة الجنوب على خط نصف النهار كان رجلا تام الخلقة حسن الوجه أجلح كث اللحية مليح الشمائل والتخاطيط تام الباع عريض المنكبين ضخم العظام قليل اللحم براق العين أكحلها متأنيا في كلامه كثير الصمت وإذا اغتاظ أخذ يحرك سبابته إذا تكلم وكانت مدة مقامه في الأرض اثنتين وثمانين سنة ثم دفعه الله مكانا عليا.
وهو أول من خاط الثياب وحكم بالنجوم وأنذر بالطوفان وأول من بنى الهياكل ومجد الله فيها وأول من نظر في الطب وأول من ألف القصائد والأشعار وهو الذي بنى أهرام بمصر وصور فيها جميع العلوم والصناعات وآلاتها خشية أن يذهب رسمها بالطوفان.
واعلم أيضا أن من أساتذة الحكمة الحكيم أفلاطون أحد الأساطين الخمسة للحكمة من يونان كبير القدر مقبول القول البليغ في مقاصده.
أخذ عن فيثاغورس وشارك مع سقراط في الأخذ عنه وصنف في الحكمة كتبا لكن اختار فيها الرمز والإغلاق وكان يعلم تلاميذه وهو ماش ولهذا سموا المشائين وفوض الدرس في آخر عمره إلى أرشد أصحابه وانقطع هو للعبادة وعاش ثمانين سنة وولد في مدينة أنيس ولازم سقراط خمسين سنة وكان عمره إذ ذاك عشرون سنة وتزوج امرأتين وكانت نفسه في التعليم مباركة تخرج بها علماء اشتهروا من بعده.
ومن جملة أساتذة الحكمة أرسطاطاليس تلميذ أفلاطون لازم خدمته مدة عشرين سنة وكان أفلاطون يؤثر على غيره ويسميه العقل وهو خاتم حكماءهم وسيد علمائهم وأول من استخرج المنطق وله كتب شريفة في الفلسفة وكان معلم الإسكندر بن فيلقوس وبآدابه وسياسته عمل هو فظهر الخير وفاض العدل وبه انقمع الشرك في بلاد اليونانيين.
ومعنى أرسطاطاليس محب الحكمة أو الفاضل الكامل عاش سبعا وستين سنة ومصنفاته تنيف على ثمانين وكان أبيض أجلح حسن القامة عظيم العظام صغير العينين والفم عريض الصدر كث اللحية أشهل العينين أقنى الأنف يسرع في مشيته ناظرا في الكتب دائما يقف عند كل كلمة ويطيل الإطراق عند السؤال قليل الجواب ينتقل في أوقات النهار في الفيافي ونحو الأنهار محبا لاستماع الألحان والاجتماع بأهل الرياضة وأصحاب الجدل منصفا في نفسه إذا خصم ويعرف بموضع الإصابة والخطأ معتدلا في الملابس والمآكل مات وله ثمان وتسعين سنة ثم إنه تخلف عن خدمة الملوك وبنى موضع التعليم وأقبل على العناية بمصالح الناس.
وكان جليل القدر كثير التلاميذ من الملوك وأبناءهم وكان أهل مدينة أسطا إذا أشكل عليهم أمر يجتمعون إلى قبره حتى يفتح لهم ويزعمون أن قبره يصحح فكرهم ويذكي عقولهم واستيفاء أخباره لا يمكن إلا في مجلد.
ومن جملة أساتذة الحكمة الفارابي وهو أبو نصر محمد بن محمد كان ذكيا حكيما مشهورا صاحب التصانيف في المنطق والمحكمة وغيرهما من العلوم وهو أكبر فلاسفة الإسلاميين لم يكن فيهم من بلغ رتبته في فنونه وتخرج ابن سينا في كتبه وبعلومه انتفع في تصانيفه كان رجلا تركيا تنقلت به الأسفار إلى أن وصل بغداد وهو يعرف كثيرا من اللغات غير العربي ثم تعلمه وأتقنه.
ثم اشتغل بالحكمة فقرأ على أبي بشر - متى بن يونس الحكيم - من شرح كتاب أرسطو في المنطق سبعين سفرا وكان هو شيخا كبيرا له صيت عظيم يجتمعون في حلقته كل يوم المئون من المنطقيين ثم أخذ طرفا من المنطق من أبي حنا ابن خيلان الحكيم النصراني بمدينة حران ثم نقل إلى بغداد وقرأ بها علوم الفلسفة وتمهر في كتب أرسطو جميعها يقال وجد كتاب النفس لأرسطو عليه مكتوب بخط الفار أبي: إني قرأت هذا الكتاب مائتي مرة وقال: قرأت السماع الطبعي لأرسطو أربعين مرة ومع ذلك إني محتاج إلى معاودته وكان يقول: لو أدركت أرسطو لكنت أكبر تلامذته.
ثم سافر إلى دمشق ثم إلى مصر ثم عاد إلى دمشق فأحسن إليه سلطانها1 سيف الدولة بن حمدان وأجرى عليه كل يوم أربعة دراهم لأنه كان أزهد الناس في الدنيا لا يحتفل بأمر مكتسب ولا مسكن لذلك أقتصر على أربعة دراهم وكان منفردا بنفسه لا يكون إلا في مجتمع ماء أو مشبك رياض ويؤلف كتبه هناك وكان أكثر تصانيفه في الرقاع ولم يصنف في الكراريس إلا قليلا فلذلك كانت أكثر تصانيفه فصولا وتعليقات وبعضها ناقصا.
يحكى أن الآلات المسماة بالقونون من تركيبه.
توفي سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة بدمشق وقد ناهز ثمانين سنة.
وعدد مصنفاته من الكتب والرسالة سبعون كلها نافعة سيما كتابان في العلم الإلهي والمدني لا نظير لهما.
أحدهما: المعروف بالسياسة المدنية.
والأخرى: بالسيرة الفاضلة وصنف كتابا شريفا في إحصاء العلوم والتعريف بأغراضها لم يسبق إليه أحد ولا ذهب أحد مذهبه ولا يستغني عنه أحد من طلاب العلم وكذا كتابه في أغراض أفلاطون وأرسطو أطلع فيه على أسرار العلوم وثمارها علما علما وبين كيفية التدرج من بعضها إليها بعض شيئا فشيئا ثم بدأ بفلسفة أرسطو ووصف أغراضه في تواليفه المنطقية والطبيعية فلا أعلم كتابا أجدى على طلب الفلسفة منه.
وفاراب: إحدى مدن الترك فيما وراء النهر. ومن جملة أساطين الحكمة: أبو علي حسين بن عبد الله بن سينا الحكيم المشهور وكان أبوه من بلخ ثم انتقل منها إلى بخارا وكان من العمال الكفاة وتولى العمل بقرية من بخارا يقال لها هرمين ثم انتقلوا إلى بخارا وانتقل الرئيس بعد ذلك في البلاد وأشتغل بالعلوم وحصل الفنون ولما بلغ عشر سنين من عمره أتقن علم القرآن العزيز والأدب وحفظ أشياء من أصول الدين وحساب الهندسة والجبر والمقابلة ثم قرأ كتاب: إيساغوجي علي أبي عبد الله النابلي وأحكم عليه ظواهر المنطق: لأنه لم يكن يعرف دقائقها ثم حل هو نفسه دقائق غفل عنها الأوائل وأحكم عليه إقليدس والمجسطي وفاقه أضعافا كثيرة.
وكان مع ذلك يختلف في الفقه إلى إسماعيل الزاهد يقرأ ويبحث ويناظرهم ثم اشتغل بتحصيل الطبعي والإلهي وغير ذلك وفتح الله عليه أبواب العلوم ثم فاق في علم الطب الأوائل والأواخر في أقل مدة وأصبح عديم القرين فقيد المثيل.
وقرأ عليه فضلاء هذا الفن أنواعه والمعالجات المقتبسة من التجربة وسنه إذ ذاك نحو ستة عشر وفي مدة اشتغاله لم ينم ليلة واحدة بكمالها ولم يشتغل في النهار بشيء سوى العلم والمطالعة وكان إذا أشكلت عليه مسئلة توضأ وقصد المسجد الجامع وصلى ودعا الله عز وجل أن يسهلها عليه ويفتح مغلقها له فتح الله - تبارك وتعالى – مشكلاتها.
ثم اتصل بخدمة نوح بن نصر الساماني صاحب خراسان بسبب الطب ودخل إلى خزانة كتبه واطلع على كتب لم تقرع آذان الزمان بمثلها وحصل نخب فوائدها وتحلى بنفائس فرائدها.
ويحكى عنه أنه لم يطلع على مسئلة إلى آخر عمره إلا وكان يعرفها وكان في ثمانية عشر سنين من سنه حتى حكي عنه أنه قال: كل ما علمته في ذلك الوقت فهو كما علمته الآن لم أزد عليه إلى اليوم وهذا أمر عظيم لا يكاد يقبله العقل لولا عرف حد ذكائه.
ثم تنقلت به الأحوال بأمور يطول شرحها حتى استوزر ثم عزل وحبس وبعد هذه الأحوال كلها مرض ثم صلح ثم دخل إلى أن ضعف جدا ثم اغتسل وتاب1 وتصدق بما معه على الفقراء ورد المظالم على من عرفه وأعتق مماليكه وجعل يختم في كل ثلاثة أيام ختمة ثم مات يوم الجمعة من رمضان سنة ثمان وعشرين وأربعمائة بهمذان وكانت ولادته سنة سبعين وثلاثمائة في شهر صفر وقيل: توفي بأصبهان وفضائله كثيرة شهيرة وكان نادرة عصره في علمه وذكائه وتصانيفه.
وعدة مؤلفاته ثمانية وستون على الأشهر وقيل: يقارب مائة مصنف ما بين مطول ومختصر. ورسائله بديعة منها: رسالة حي بن يقظان و: رسالة سلامان و: إبسال و: رسالة الطب و: قصيدة الورقاء يرمز بها عن النفس الناطقة.
ومن جملة أساطين الحكمة الإمام فخر الدين الرازي وممن نحا نحو ابن سينا والرازي:
نصير الدين الطوسي وهو محمد بن محمد سلطان الحكماء المدققين وقدوتهم في زمانه جامع علوم المتقدمين والمتأخرين.
ولد يوم السبت حادي عشر جمادى الأولى سنة سبع وتسعين وخمسمائة توفي آخر نهار الاثنين ثامن عشر ذي الحجة وقت مغيب الشمس سنة اثنتين وسبعين وستمائة ودفن بالمشهد الكاظمي.
وكان آية في التدقيق والتحقيق وحل المواضع المشكلة سيما: لطف التحرير الذي لم يلتفت إليه المتقدمون بل التفتوا إلى جانب المعنى فقط ثم إن الفاضل الشريف قلده في أمر التحرير والتقرير كما يظهر ذلك بالنظر في تصانيفهما.
وكان1 غاليا في التشيع كما يفصح عنه المقصد السادس من التجريد إلا أن الشيخ أكمل الدين قال: في أواخر شرحه للتجريد سمعت شيخي العلامة قطب الدين الشيرازي قال: كان الناس مختلفين في أن هذا الكتاب يعني التجريد لخواجه نصير الدين أولا فسأل عن ذلك ابنه خواجه أصيل الدين فقال: كان والدي وضعه إلى باب الإمامة وتوفي فكمله ابن المطهر الحلي وكان من الشيعة وهو زائغ زيغا عظيما فعلى هذه الرواية يكون بريئا عن نقيصة التشيع إلا أن المشهور عند الجمهور خلاف.
وبمن يلي هؤلاء في معرفة الحكمة الشيخ شهاب الدين السهروردي بل فاق كثيرا في الحكمة الذوقية.
وممن خرط في سلكهم الشيخ قطب دن الشيرازي والشيخ قطب الدين الرازي وسعد الدين التفتازاني والسيد الشريف الجرجاني ثم الجلال الدواني.
قال الأرنيقي: بعد ما ذكر في: مدينة العلوم ومن فضلاء بلادنا مولانا مصلح الدين مصطفى الشهير بخواجه زاده ومصلح الدين مصطفى الشهير بالقسطلاني لكن هؤلاء السبعة قد فاقوا على أكثر المتقدمين في الحديث والتفسير والأصول والفروع إلا أن الإمام فخر الدين الرازي فإنه تمهر فيها مع مشاركته لهؤلاء في علوم الحكمة بأقسامها وإن اتقانه أقوى من إتقانهم. انتهى
قلت: وفي قوله فاق على أكثر المتقدمين إلى آخره نظرا لأن العلم المجرد بالحديث والتفسير لا يكفي في صحة الاعتقاد والعمل حتى يستعملها على وجههما ويقول بمقتضاهما ويحقق فحواهما وأنى لهم التناوش من مكان بعيد.
والفخر الرازي أكثر كلاما من هؤلاء في علوم التفسير ولكن قال أهل التحقيق في حق كتابه: مفاتيح الغيب فيه كل شيء إلا التفسير وقد بحث في تفسيره هذا عن كل شيء لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وقد أخطأ في مواضع مما يتعلق بفهم القرآن الكريم ويقال: إنه لم يكمل تفسيره بل كمله بعض من جاء بعده والخطأ منه وقد أصاب في مواضع منها: رد التقليد واثبات الاتباع. والله أعلم.
ثم قال في: مدينة العلوم: إن الكتب المؤلفة في العلم الإلهي لما لم يخل عن الرياضي والطبعي أيضا أحببنا أن نذكره بعد الفراغ عن الكل - اللهم إلا نادرا -: كالمباحث المشرقية للإمام فخر الدين الرازي وأمثاله ولا تظن أن العلوم الحكمية مخالفة للعلوم الشرعية مطلقا بل الخلاف في مسائل يسيرة وبعضها مخالف في مسائل قليلة ظاهرا لكن إن حقق يصافح أحدهما الآخر ويعانقه. انتهى.
قال في: كشف الظنون ثم اعلم أن البحث والنظر في هذا العلم لا يخلو إما: أن يكون على طريق النظر أو: على طريق الذوق فالأول: إما على قانون فلاسفة المشائين فالمتكفل له كتب الحكمة أو على قانون المتكلمين فالمتكفل حينئذ كتب الكلام لأفاضل المتأخرين والثاني: إما على قانون فلاسفة الإشراقين فالمتكفل له حكمة الإشراق ونحوه أو على قانون الصوفية واصطلاحهم فكتب التصوف.
وقد علم موضوع هذا الفن ومطالبه فلا تغفل فإن هذا التنبيه والتعليم مما فات عن أصحاب الموضوعات - وفوق كل ذي علم عليم.
وعبارة ابن خلدون في: تاريخه هكذا.
قال: علم الإلهيات: هو علم ينظر في الوجود المطلق.
فأولا: في الأمور العامة للجسمانيات والروحانيات من الماهيات والوحدة والكثرة والوجوب والإمكان وغير ذلك.
ثم ينظر في مبادئ الموجودات وأنها روحانيات.
ثم في كيفية صدور الموجودات عنها ومراتبها.
ثم في أحوال النفس بعد مفارقة الأجسام وعودها إلى المبدأ.
وهو عندهم: علم شريف يزعمون أنه يوقفهم على معرفة الوجود على ما هو عليه وإن ذلك عين السعادة في زعمهم وسيأتي الرد عليهم وهو تال للطبيعيات في ترتيبهم ولذلك يسمونه: علم ما وراء الطبيعة وكتب المعلم الأول فيه موجود بين أيدي الناس ولخصه ابن سينا في كتاب: الشفاء والنجاة وكذلك لخصها ابن رشد من حكماء الأندلس.
ولما وضع المتأخرون في علوم القوم ودونوا فيها رد عليهم الغزالي ما رد منها ثم خلط المتأخرون من المتكلمين مسائل علم الكلام بمسائل الفلسفة لعروضها في مباحثهم وتشابه موضوع علم الكلام بموضوع الإلهيات ومسائله بمسائلها فصارت كأنها فن واحد ثم غيروا ترتيب الحكماء في مسائل الطبيعيات والإلهيات وخلطوهما فنا واحدا قدموا الكلام في الأمور العامة ثم أتبعوه بالجسمانيات وتوابعها إلى آخر العلم كما فعله الإمام ابن الخطيب في: المباحث المشرقية وجميع من بعده من علماء الكلام وصار علم الكلام مختلطا بمسائل الحكمة وكتبه محشوة بها كان الغرض من موضوعهما ومسائلهما واحد والتبس ذلك على الناس وهي غير صواب لأن مسائل علم الكلام إنما هي عقائد ملتقاة من الشريعة كما نقلها السلف من غير رجوع فيها إلى العقل ولا تعويل عليه بمعنى أنها لا تثبت إلا به فإن العقل معزول عن الشرع وأنظاره وما تحدث فيه المتكلمون من إقامة الحجج فليس بحثا عن الحق فيها فالتعليل بالدليل بعد أن لم يكن معلوما هو شأن الفلسفة بل إنما هو التماس حجة عقلية تعضد عقائد الإيمان ومذاهب السلف فيها وتدفع شبه أهل البدع عنها الذين زعموا أن مداركهم فيها عقلية وذلك بعد أن تفرض صحيحة بالأدلة النقلية كما تلقاها السلف واعتقدوها وكثيرا ما بين المقامين من التفاوت في ذلك مدارك صاحب الشريعة أوسع لاتساع نطاقها عن مدارك الأنظار العقلية فهي فوقها ومحيطة بها لاستمدادها من الأنوار الإلهية فلا تدخل تحت قانون النظر الضعيف والمدارك المحاط بها فإذا هدانا الشارع إلى مدرك فينبغي أن نقدمه على مداركنا ونثق به دونها ولا ننظر في تصحيحه بمدارك العقل ولو عارضه نعتمد ما أمرنا به اعتقادا وعلما ونسكت عما لم نفهم من ذلك ونفوضه إلى الشارع ونعزل العقل عنه.
والمتكلمون إنما دعاهم إلى ذلك كلام أهل الإلحاد في معارضات العقائد السلفية بالبدع النظرية فاحتاجوا إلى الرد عليهم من جنس معارضاتهم واستدعى ذلك الحجج النظرية والبطلان فليس من موضوع علم الكلام ولا من جنس أنظار المتكلمين فاعلم ذلك لتميز به بين الفنين فإنهما مختلطان عند المتأخرين في الوضع والتأليف والحق مغايرة كل منه لصاحبه بالموضوع والمسائل وإنما جاء الالتباس من اتحاد المطالب عند الاستدلال وصار احتجاج أهل الكلام كأنه إنشاء لطلب الاعتداد بالدليل وليس كذلك بل إنما هو رد على الملحدين
والمطلوب مفروض الصدق معلومه وكذا جاء المتأخرين من غلاة المتصوفة المتكلمين بالمواجد أيضا فخلطوا مسائل الفنين بفنهم وجعلوا الكلام واحدا فيه كلها مثل كلامهم في النبوات والاتحاد والحلول والوحدة وغير ذلك.
والمدارك في هذه الفنون الثلاثة متغايرة مختلفة وأبعدها من جنس الفنون والعلوم مدارك المتصوفة لأنهم يدعون فيها الوجدان ويفرون عن الدليل والوجدان بعيد عن المدارك العلمية وأبحاثها وتوابعها كما بيناه ونبينه - والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم -. انتهى كلامه.

نَابُولِيّ

نَابُولِيّ
صورة كتابية صوتية من نابلي نسبة إلى نابلي مدينة بإيطاليا، ونسبة إلى نابل وهو إقليم من أقاليم إفريقيا بين تونس وسوسة.

الحرارة

الحرارة: كيفية شأنها تفريق المؤتلفات وجمع المتشكلات. والحرارة ضربان: حرارة عارضة في الهواء من الأجسام المحمية كحرارة النار والشمس، وحرارة عارضة في البدن من الطبيعة كحرارة المحموم.
الحرارة:
[في الانكليزية] Heat
[ في الفرنسية] Chaleur
بالفتح بمعنى گرمى ضد البرودة بمعنى سردى وماهيتهما من البديهات، وما ذكر في حقيقتهما فهي من جملة الأحكام. وبعض الحكماء جعل البرودة عبارة عن عدم الحرارة عمّا من شأنه أن يكون حارا. وقيد من شأنه للاحتراز عن الفلك فإنّ عدم حرارته لا يسمّى برودة إذ ليس من شأنه أن يكون حارا، فعلى هذا التقابل بينهما تقابل العدم والملكة وهو باطل لأنّها محــسوسة ولا شيء من العدم بمحسوس. واعترض عليه بأنّ الانفصال عدم الاتصال مع أنّه محسوس. وأجيب بأنّ المحسوس هو المنفصل وعوارضه كاللون، والانفصال يدرك بالوهم التابع للحسّ الظاهر لا بالحسّ الظاهر، فإنّ الحكم بأنّ العدم غير محسوس بالحواس الظاهرة بديهية، فالحق أنها كيفية موجودة مضادة للحرارة من شأنها أن تجمع المتشاكلات وغيرها. وهاهنا أبحاث.
الأول كما يقال الحار لما تحسّ حرارته بالفعل كالنار مثلا يقال أيضا لما لا تحسّ حرارته بالفعل، ولكن تحسّ بها بعد مماسّة البدن الحيواني والتأثر منه كالأدوية والأغذية الحارّة ويسمّى حارا بالقوة، وكذا البارد يطلق على البارد بالفعل والبارد بالقوة. ولهم في معرفة الحار والبارد بالقوة طريقان، التجربة والقياس من الاستدلال باللون والطعم والرائحة وسرعة الانفعال مع استواء القوام أو قوته.
والثاني الأشبه بالصواب أنّ الحرارة الغريزية أي الطبيعية الملائمة للحياة الموجودة في أبدان الحيوانات، ويسمّيها أفلاطون بالنار الإلهية والحرارة الكوكبية، والنارية أنواع متخالفة الماهية لاختلاف آثارها الدالة على اختلاف ملزوماتها في الحقيقة، فإنّه يفعل حرّ الشمس في عين الأغشى من المضرّة ما لا يفعل حرّ النار.
والحرارة الغريزية أشدّ الأشياء مقاومة للحرارة النارية التي ليست غريزية بل غريبة فإنّ الحرارة النارية إذا حاولت إبطال اعتدال المزاج الحيواني قاومتها الغريزية أشدّ مقاومة حتى أنّ السموم الحارة والباردة لا يدافعها إلّا الغريزية، وهذا مذهب أرسطو. وقال جالينوس الغريزية والنارية من نوع واحد. فالغريزية هي النارية واستفادت بالمزاج مزاجا معتدلا حصل به التيام، فإذا أرادت الحرارة أو البرودة تفريقها عسر عليها ذلك التفريق. والفرق بين الحار الغريزي والغريب أنّ أحدهما جزء المركب والآخر خارج عنه، مع كونهما متوافقين في الماهية.
الثالث قال ابن سينا الحرارة تفرّق المختلفات وتجمع المتماثلات والبرودة بالعكس، أي تجمّع بين المتشاكلات وغيرها أيضا لأنّ الحرارة فيها قوة مصعّدة فإذا أثرت في جسم مركب من أجزاء مختلفة في رقة القوام وغلظه ينفعل الجزء اللطيف الرقيق منه انفعالا أسرع من الكثيف الغليظ فيتبادر الألطف فالألطف إلى الصعود دون الكثيف، فإنّه لا ينفعل إلّا ببطء وربّما لم تفد الحرارة فيه خفة تقوي على تصعّده، فيلزم بهذا السبب تفريق المختلفات. ثم تلك الأجزاء تجتمع بالطبع إلى ما يجانسها، فإنّ الجنسية علّة الضم كما اشتهر، والحرارة معدّة للاجتماع الصادر عن طبائعها بعد زوال المانع الذي هو الالتئام، فنسب الاجتماع إليها كما نسبت الأفعال إلى معدّاتها، هذا إذا لم يكن الالتئام بين بسائط ذلك المركّب شديدا. وأما إذا اشتد وقوي التركيب لا تفرقها لوجود المانع، فإن كانت الأجزاء اللطيفة والكثيفة في الجسم متقاربة في الكمية كما في الذهب أفادته الحرارة سيلانا وذوبانا، وكلّما حاول اللطيف صعودا منعه الكثيف، فحدث بينهما تمانع وتجاذب، فيحدث من ذلك حركة دوران كما نشاهد في الذهب من حركته السريعة العجيبة في البوتقة. ولولا هذا العائق لفرّقه النار. وإن غلب اللطيف جدا فيصعد ويستصحب معه الكثيف لقلته كالنوشادر فإنّه إذا أشرفته النار تفرقه النار. وإن غلب الكثيف جدا لم يتأثر فلا يذوب ولا يلين كالطلق فإنّه يحتاج في تليينه إلى حيل. ولذا قيل من حل الطلق فقد استغنى عن الخلق.
تنبيه
الفعل الأوليّ للحرارة هو التصعيد، والجمع والتفريق لا زمان له. ولذا قال ابن سينا في كتاب الحدود إنّها كيفية فعلية أي تجعل محلها فاعلا لمثلها فيما يجاوره، فإنّ النار تسخن ما جاورها محركة لما تكون تلك الكيفية فيه إلى فوق لإحداثها الخفة، فيحدث عن هذا التحريك أن تفرق الحرارة المختلفات وتجمع التماثلات وتحدث تخلخلا من باب الكيف وتكاثفا من باب الوضع لتحليله الكثيف وتصعيده اللطيف. وفعلها في الماء إحالته إلى الهواء لا تفريق بين أجزاء المتماثلات. وفعلها في البيض إحالتها في القوام لا جمع للأجزاء المختلفة فإنّ النار بحرارتها توجب غلظا في قوام الصفرة والبياض، وأمّا الانضمام بينهما فقد كان حاصلا قبل تأثير الحرارة فيهما.
الرابع الحركة تحدث الحرارة والتجربة تشهده، وأنكره أبو البركات مستدلا بأنه حينئذ يجب أن تسخّن الأفلاك سخونة شديدة، وتسخّن بمجاورتها العناصر الثلاثة، فتصير كلها بالتدريج نارا. والجواب أنّ مواد الأفلاك لا تقبل السخونة أصلا ولا بدّ في وجود الحرارة مع المقتضي الذي هو الحركة من وجود القابل، ولا تسخّن العناصر، فإنّ النار متحركة بمشايعة الفلك دون باقي العناصر، وليس سخونة النار توجب سخونة الباقي لأنّ برودة الطبقة الزمهريرية تقاومها، هذا كلّه خلاصة ما في شرح المواقف وشرح التجريد.

بُوصِيرُ

بُوصِيرُ:
بكسر الصاد، وياء ساكنة، وراء: اسم لأربع قرى بمصر، بوصير قوريدس، وقال الحسن بن إبراهيم بن زولاق: بها قتل مروان بن محمد بن مروان بن الحكم الذي به انقرض ملك بني أمية، وهو المعروف بالحمار، والجعدي قتل بها لسبع بقين من ذي الحجة سنة 132، وقال أبو عمر الكندي: قتل مروان ببوصير من كورة الأشمونين، وقال لي القاضي المفضل بن الحجاج: بوصير قوريدس من كورة البوصيرية، وإلى بوصير قوريدس ينسب أبو القاسم هبة الله بن علي بن مسعود بن ثابت بن غالب ابن هاشم الأنصاري الخزرجي، كتب إليّ أبو الربيع سليمان بن عبد الله التميمي المكي في جواب كتاب كتبته إليه من حلب أسأله عنه فقال: سألت ابن الشيخ البوصيري عن سلفه ونسبه وأصله فأخبرني أنهم من المغرب من موضع يسمى المنستير، قال وبالمغرب موضعان يسميان المنستير، أحدهما بالأندلس بين لقنت وقرطاجنّة في شرق الأندلس والآخر بقرب سوسة من أرض إفريقية، بينه وبينها اثنا عشر ميلا، قال: ولم يعرّفني والدي من أيهما نحن، وكان أول قادم منّا إلى مصر جدّ والدي مسعود، فنزل بوصير قوريدس فأولد بها جدي عليّا ودخل عليّ إلى مصر فأقام بها فأولد بها أبي القاسم، ولم يخرج من الإقليم إلى سواه إلى أن توفي في ليلة الخميس الثاني من صفر سنة 598، أخبرني بالوفاة الحافظ الزكي عبد
العظيم المنذري، وسألته عن مولد أبيه فلم يعرفه إلا أنه قال: مات بعد أن نيف على التسعين بسنتين أو ثلاث، أخبرني الحافظ زكي الدين المنذري أنه ظفر بمولده محقّقا بخط أبيه وأنه يظن أنه في سنة 505 أو 506.

رُجَيْز

رُجَيْز
من (ر ج ز) تصغير الرِّجْز: الذنب، والعذاب، وعبادة الأوثان والشرك ووسوسة الشيطان، أو تصغير الرجز: داء يصيب الإبل، وبحر من بحور الشعر العربي.

علم الفال

علم الفال
هو علم يعرف به بعض ما يحدث من الحوادث الآتية بطريق اتفاق حدوث أمر من جنس الكلام المسموع من الغير أو بفتح المصحف أو كتب الأنبياء والمشائخ كديوان الحافظ والمثنوي ونحوهما.
وموضوع هذا العلم ظاهر من تعريفه.
ومنفعته وفائدته كعلم الرمل.
وقد اشتهر ديوان الحافظ بالتفاؤل حتى صنفوا فيه وهو ديوان معروف متداول بين أهل الفرس ويتفاءل به وكثيرا ما جاء بيت منه مطابقا بحسب حال المتفائل ولهذا يقال له لسان الغيب وقد ألف في تصديق هذا المدعا محمد بن الشيخ محمد الهروي رسالة مختصرة وأورد أخباره متعلقة بالتفاؤل به ووقع مطابقا لمتقضى حال المتفائل.
وأفرط في مدح الشيخ المذكور وللكفري حسين المتوفى بعد سنة ثمانين وتسعمائة رسالة تركية في تفاؤلات ديوان الحافظ مشحونة بالحكايات الغريبة.
وقد شرحه مصطفى بن شعبان المتخلص بسروري المتوفى سنة تسع وستين تسعمائة شرحا تركياً.
وأما التفاؤل بالقرآن الكريم فجوزه بعضهم لما روي عن الصحابة وكان عليه الصلاة والسلام يحب الفال وينهي عن الطيرة.
ومنعه آخرون، وقد صرح الإمام العلامة أبو بكر بن العربي في كتابه الأحكام في سورة المائدة بتحريم أخذ الفال وهو الحق ونقله الإمام القرافي عن الإمام الطرطوشي أيضاً.
قال الدميري: ومقتضى مذهبنا كراهيته لكن أباحه ابن بطة الحنبلي.
قال في مدينة العلوم:
الأصح الذي شهد الشرع بجوازه التجربة بصدقه هو التفاؤل بالقرآن العظيم وقد نقل عن الصحابة وعن السلف الصالحين وطريق فتح الفال من المصحف كثير مشهور عند الناس لكن الأحسن الاعتبار بالمعاني دون الألفاظ والحروف انتهى.
قلت: والمعتمد عدم التفاؤل من كتاب الله ولم يرو عن السلف بطريق يعمد عليها في هذا الباب ولم يقل به أحد من أهل العلم بالحديث وإذا كان فتح الفال من التنزيل ممنوعا فكيف بغيره من كتب الأنبياء والأولياء والمشائخ؟
وقد تدرب بهذا نوع من الشرك في عقائد المسلمين أعاذنا الله منه نعم كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعجبه الفال ولا يتطير.
ولما هاجر إلى المدينة وقاربها سمع مناديا ينادي: يا سالم فقال لأصحابه: سلمنا.
فلما دخل المدينة سمع قول الأخر يقول: يا غانم فقال: غنمنا.
فلما نزل أتي برطب فقال: حلانا البلد رواه أهل السير والله أعلم بسنده وأمثال ذلك كثيرة والاقتصار على ما وردت به السنة أسلم وأصون للدين وأما الطيرة والزجر فهو عكس الفال لأن المطلوب في الفال الإقدام وفي الطيرة والإحجام وأصل الزجر أن يتشاءم الإنسان من شيء تتأثر النفس من وروده على المسامع والمناظر تأثرا لا بالطبع فإن التنفر الطبيعي كالنفرة من صوت صرير الزجاج أو الحديد ليس من هذا القبيل.
واشتقاق التطير من الطير لأن أصل الزجر في العرب كان من الطير كصوت الغراب فألحق به غيره في التعبير وأمثاله من الطيرة في العرب كثيرة.
وقد تكون في غيرهم فيتكدر به عيشهم وينفتح عليهم أبواب الوسوسة من اعتبارهم إلى المناسبات البعيدة من حيث اللفظ والمعنى كالسفر والجلاء من السفرجل واليأس والمين من الياسمين وسوء سنة من السؤسنة والمصادفة إلى معلول حين الخروج وأمثال ذلك.
قال ابن القيم رحمه الله في مفتاح السعادة اعلم: أن مضرة التطير وتأثيره لمن يخاف به ويتغير منه وأما من لم يكن له مبالاة منه فلا تأثير له أصلا خصوصا إذا قال عند المشاهدة أو السماع: اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك انتهى.
قلت: وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن التطير وقال: "لا طيرة ولا هامة ولا صفر" والمسئلة مصرحة في كتب الأحاديث لا سيما في فتح الباري شرح صحيح البخاري ونيل الأوطار شرح منتقى الأخبار وغير ذلك.
Learn Quranic Arabic from scratch with our innovative book! (written by the creator of this website)
Available in both paperback and Kindle formats.