Current Dictionary: All Dictionaries

Search results for: بحار

الْفَحْشَاء

(الْفَحْشَاء) الْفُحْش وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيز {الشَّيْطَان يَعدكُم الْفقر ويأمركم بالفحشاء}
الْفَحْشَاء: كل مَا يتنفر عَنهُ الطَّبْع السَّلِيم. ويستنقصه الْعقل الْمُسْتَقيم. وَأَيْضًا الْبُخْل فِي أَدَاء الزَّكَاة. والفاحش الْبَخِيل جدا وَالْكثير الْغَالِب. وَالْفُحْش بِالضَّمِّ وَالْفَتْح (سخن درشت وناسزا) . وبالفتح خَاصَّة بِمَعْنى الْإِظْهَار أَيْضا قَالَ الله تَعَالَى {الشَّيْطَان يَعدكُم الْفقر ويأمركم بالفحشاء} . الْإِشَارَة فِيهِ إِلَى أَن الشَّيْطَان حِين يَعدكُم بالفقر ظَاهرا فَهُوَ يَأْمُركُمْ بالفحشاء حَقِيقَة. والفحشاء اسْم جَامع لكل سوء لِأَن عدته بالفقر يتَضَمَّن مَعَاني الْفَحْشَاء وَهِي الْبُخْل والحرص واليأس من الْحق وَالشَّكّ فِي مواعيد الْحق لِلْخلقِ بالرزق ومضاعفة الْحَسَنَات وَسُوء الظَّن بِاللَّه تَعَالَى وَترك التَّوَكُّل عَلَيْهِ تَعَالَى وَتَكْذيب قَول الْحق ونسيان فَضله وكفران النِّعْمَة والإعراض عَن الْحق والإقبال على الْخلق وَانْقِطَاع الرَّجَاء من الله تَعَالَى والتعلق بِغَيْرِهِ ومتابعة الشَّهَوَات وإيثار الحظوظ وَترك الْعِفَّة والقناعة والتمسك بحب الدُّنْيَا وَهُوَ رَأس كل خَطِيئَة وبذر كل بلية. وَلِهَذَا الْقَوْم بالانحطاط من كل مقَام على إِلَى منزل دني فِي مثل الْخُرُوج عَن حول الله تَعَالَى وقوته إِلَى حول نَفسه وقوتها - وَالنُّزُول عَن التَّسْلِيم - والتفويض إِلَى التَّدْبِير وَالِاخْتِيَار - وَمن العزائم إِلَى الرُّخص والتأويلات - والركون إِلَى غير الله بعد السّكُون مَعَه - وَالرُّجُوع إِلَى مَا ترك لله تَعَالَى بعد بذله فِي الله فَهَذِهِ كلهَا وأضعافها مِمَّا تضمنه عدَّة الشَّيْطَان بالفقر فَمن فتح على نَفسه بَاب وسوسته فَسَوف يبتلى بِهَذِهِ الْآيَات وَمن سد بَاب وسوسته بالعدة وَيفتح على نَفسه بَاب عدَّة الْحق بالمغفرة يفِيض الله عَلَيْهِ من بحار فَضله سِجَال نواله ويحفظه من هَذِه الْآفَات وَيُعْطِيه على عكسها من أَنْوَاع الكرامات ورفعة الدَّرَجَات - والركون فِي اللُّغَة الْميل.

لَيْلَة الرغائب وَلَيْلَة الْبَرَاءَة

لَيْلَة الرغائب وَلَيْلَة الْبَرَاءَة: كَمَا قَالَ زين الْمُحدثين الشَّيْخ عبد الْحق الدهلوي رَحمَه الله فِي رِسَالَة (موصل المريد إِلَى المُرَاد) أَن طَرِيق الْمُحدثين هُوَ أَخذ الْعَمَل بالمنصوص. الَّذِي ثَبت بِالنَّقْلِ الصَّحِيح، أَو جَوَاز الْعَمَل بِالْحَدِيثِ الضَّعِيف فِي فَضَائِل الْأَعْمَال وَلَا سِيمَا عِنْدَمَا تَتَعَدَّد الطّرق وتتعاضد. وَطَرِيقَة الْفُقَهَاء اعْتِبَار الْمَعْنى وَعلة الحكم قَاعِدَة الْبَاب. باستثناء أَن يَقع نَص فِي مقابلها كَمَا ثَبت فِي تَحْقِيق الْقيَاس وَأكْثر صلوَات الْأَيَّام والأسابيع وَالْأَشْهر ومراسيم لَيْلَة الرغائب تكون لَيْلَة الْجُمُعَة الأول من رَجَب تقضى بشكل وَكَيْفِيَّة خَاصَّة وَالْمَشْهُور فِي أوساط الْمَشَايِخ هُوَ من هَذَا الْقَبِيل، وَقد أَنْكَرُوا إِنْكَار غَرِيبا على من يمْنَع أَو يشنع عَلَيْهَا. والْحَدِيث الَّذِي ينقلونه فِي هَذَا الْبَاب مطعون فِيهِ. وَكَذَلِكَ الصَّلَوَات الَّتِي تصلى فِي لَيْلَة النّصْف من شعْبَان وَالَّتِي يسميها الْعَامَّة بليلة الْبَرَاءَة وَكَذَلِكَ فِي يَوْم عَاشُورَاء وأمثال ذَلِك لَهَا الحكم نَفسه. وَكَذَلِكَ قيام اللَّيْل وَتَطْوِيل السَّجْدَة والدعاة وزيارة الْقُبُور وَالدُّعَاء لأَهْلهَا وَالِاسْتِغْفَار لَهُم. فَلم يثبت سوى الصَّوْم والتوسعة فِي الطَّعَام يَوْم عَاشُورَاء، وَأَحَادِيث التَّوسعَة فِي الطَّعَام ضَعِيفَة وتعدد الطّرق أنقص من جبرها، أما فِيمَا يخص صَوْم يَوْم عَاشُورَاء فقد ورد التَّأْكِيد التَّام عَلَيْهِ.
وَطَرِيقَة أَكثر مَشَايِخ ديار الْعَرَب، خُصُوصا أهل الْمغرب مُوَافقَة لطريقة الْمُحدثين. وَقَالَ: فِي الْأَخْذ بِالصَّحِيحِ كِفَايَة من الطَّالِب واستغناء عَمَّا سواهُ. (انْتهى) . وَقد قَالَ فِي شرح (سفر السَّعَادَة) فِي بَاب صَلَاة الرغائب أَنه لم يتَبَيَّن شَيْء فِي صَلَاة الرغائب وَصَلَاة النّصْف من شعْبَان وَصَلَاة الْإِيمَان، وَصَلَاة النّصْف من رَجَب وَصَلَاة لَيْلَة الْقدر، وَصَلَاة كل من رَجَب وَشَعْبَان ورمضان، وَهَذِه الصَّلَاة وأمثالها كتبت فِي أوراد بعض مَشَايِخ الطَّرِيقَة واقترنت بهم، والْحَدِيث لم يبلغ الصِّحَّة لَدَى مَشَايِخ الحَدِيث وَبَعْضهمْ يرى فِيهِ مُبَالغَة عَظِيمَة. وَقد قَالَ السَّيِّد أَحْمد بن زَرُّوق وَهُوَ من مشاهير مَشَايِخ ديار الْعَرَب فِي وَصَايَاهُ، ((لَا تقل بِصَلَاة الْأَيَّام والأسابيع)) . (انْتهى) . (]حرف الْمِيم [)
لَيْلَة الرغائب وَلَيْلَة الْبَرَاءَة: أما الأولى فَهِيَ لَيْلَة أول الْجُمُعَة من رَجَب والرغائب جمع الرَّغْبَة الَّتِي بِمَعْنى الْعَطاء الْكثير - وَأما الثَّانِيَة فَهِيَ لَيْلَة الْخَامِس عشر من شعْبَان - والبراءة بَرَاءَة من النيرَان وَالْمَغْفِرَة من الْعِصْيَان وهما ليلتان مباركتان - وللفقهاء والصلحاء فيهمَا صلوَات وأذكار وَلَكِن لم يثبت شَيْء من ذَلِك عِنْد الْمُحدثين الأخيار.
وَفِي شرح عين الْعلم لملا عَليّ الْقَارِي قدس سره. وَفِي الْإِحْيَاء أما لَيْلَة النّصْف من شعْبَان فيصلى فِيهَا مائَة رَكْعَة سُورَة الْإِخْلَاص عشر مَرَّات وفاتحة الْكتاب مرّة كَانُوا لَا يتركونها - فَقَالَ الْعِرَاقِيّ حَدِيث بَاطِل - وَصَلَاة الرغائب وَهِي لَيْلَة أول الْجُمُعَة من رَجَب يصلى اثْنَا عشر رَكْعَة بست تسليمات يقْرَأ فِي كل رَكْعَة بعد الْفَاتِحَة سُورَة الْقدر ثَلَاثًا وَالْإِخْلَاص اثْنَي عشر مرّة وَبعد الْفَرَاغ يصلى على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سبعين مرّة وَيَدْعُو بِمَا شَاءَ وَهِي بِدعَة مُنكرَة كَمَا صرح بِهِ النَّوَوِيّ وَغَيره انْتهى - وَفِي الْبَحْر الرَّائِق شرح كنز الدقائق وَفِي أَوَاخِر شرح منية الْمُصَلِّي وَمن المندوبات إحْيَاء لَيْلَة النّصْف من شعْبَان كَمَا وَردت بِهِ الْأَحَادِيث وَذكرهَا فِي التَّرْغِيب والترهيب مفصلة. وَالْمرَاد بإحياء اللَّيْل قِيَامه وَظَاهره الِاسْتِيعَاب وَيجوز أَن يُرَاد غالبه وَيكرهُ الِاجْتِمَاع على إحْيَاء لَيْلَة فِي الْمَسَاجِد. قَالَ فِي الْحَاوِي الْقُدسِي وَلَا يصلى تطوع بِجَمَاعَة غير التَّرَاوِيح وَمَا رُوِيَ من الصَّلَاة فِي الْأَوْقَات الشَّرِيفَة كليلة الْقدر وَلَيْلَة النّصْف من شعْبَان وَلَيْلَة الْعِيد وعرفة وَالْجُمُعَة وَغَيرهَا فُرَادَى انْتهى. وَمن هَا هُنَا يعلم كَرَاهَة الِاجْتِمَاع فِي صَلَاة الرغائب الَّتِي تفعل فِي رَجَب لَيْلَة أول جُمُعَة مِنْهُ فَإِنَّهَا بِدعَة وَمَا يحتال لَهَا أهل الرّوم من نذرها ليخرج من النَّفْل وَالْكَرَاهَة فَبَاطِل وَقد أوضحه الْعَلامَة الجلبي رَحمَه الله تَعَالَى وَأطَال فِيهِ إطالة حَسَنَة كَمَا هُوَ دأبه انْتهى. وَفِي شرح الْأَشْبَاه والنظائر للحموي رَحمَه الله تَعَالَى قَوْله وَيكرهُ الِاقْتِدَاء فِي صَلَاة الرغائب وَصَلَاة الْبَرَاءَة وَصَلَاة الرغائب هِيَ الَّتِي فِي رَجَب فِي لَيْلَة أول جُمُعَة مِنْهُ وَصَلَاة الْبَرَاءَة هِيَ الَّتِي تفعل لَيْلَة نصف شعْبَان وَإِنَّمَا كره الِاقْتِدَاء فِي صَلَاة الرغائب وَمَا ذكر بعْدهَا لِأَن أَدَاء النَّفْل بِجَمَاعَة على سَبِيل التداعي مَكْرُوه إِلَّا مَا اسْتثْنِي كَصَلَاة التَّرَاوِيح. قَالَ ابْن أَمِير الْحَاج فِي الْمدْخل وَقد حدثت صَلَاة الرغائب بعد أَربع مائَة وَثَمَانِينَ من الْهِجْرَة وَقد صنف الْعلمَاء فِي إنكارها وذمها وتسفيه فاعلها وَلَا تغتر بِكَثْرَة الفاعلين لَهَا فِي كثير من الْأَمْصَار انْتهى.فِي تذكرة الموضوعات: لصَاحب مجمع الْــبحار وَحَدِيث صَلَاة الرغائب مَوْضُوع بالِاتِّفَاقِ وَفِي اللآلي فضل لَيْلَة الرغائب واجتماع الْمَلَائِكَة مَعَ طوله وَصَوْم أول خَمِيس وَصَلَاة اثْنَي عشر رَكْعَة بعد الْمغرب مَعَ الْكَيْفِيَّة الْمَشْهُورَة مَوْضُوع رِجَاله مَجْهُولُونَ. قَالَ شَيخنَا وفتشت جَمِيع الْكتب فَلم أجدهم. وَفِي شرح مُسلم للنووي احْتج الْعلمَاء على كَرَاهَة صَلَاة الرغائب بِحَدِيث " لَا تختصوا لَيْلَة الْجُمُعَة بِقِيَام وَلَا تختصوا يَوْم الْجُمُعَة بصيام ". فَإِنَّهَا بِدعَة مُنكرَة من بدع الضَّلَالَة والجهالة وفيهَا مُنكرَات ظَاهِرَة قَاتل الله تَعَالَى واضعها. وَقد صنف الْأَئِمَّة مصنفات نفيسة فِي تقبيحها وتضليل مصليها ومبدعها ودلائله أَكثر من أَن تحصى. وَفِي الْمُخْتَصر حَدِيث صَلَاة نصف شعْبَان بَاطِل. وَلابْن حبَان من حَدِيث عَليّ رَضِي الله عَنهُ إِذا كَانَ لَيْلَة النّصْف من شعْبَان قومُوا لَيْلهَا وصوموا نَهَارهَا ضَعِيف. وَفِي اللآلي مائَة رَكْعَة فِي نصف شعْبَان بالإخلاص عشر مَرَّات مَعَ طول فَضله للديلمي وَغَيره مَوْضُوع وَجُمْهُور رُوَاته من الطّرق الثَّلَاث مَجَاهِيل وضعفاء انْتهى. والطرق الثَّلَاث هِيَ الْمَرْفُوع وَالْمَوْقُوف والمقطوع. وَفِي مَا ثَبت من السّنة فِي أَيَّام السّنة للشَّيْخ عبد الْحق الدهلوي قدس سره وَاخْتلفت الْآثَار فِي إحْيَاء لَيْلَة النّصْف من شعْبَان وَقَالَ بِهِ من التَّابِعين خَالِد بن معدان وَمَكْحُول ولقمان بن عَامر وَخَالف فِي ذَلِك عَطاء وَابْن أبي مليكَة وَغَيرهم وَعَلِيهِ أَصْحَاب مَالك وَالشَّافِعِيّ. وخَالِد بن معدان ولقمان بن عَارِم كَانَا يلبسان فِيهَا أحسن الثِّيَاب ويكتحلان وَيقومَانِ فِي الْمَسْجِد تِلْكَ اللَّيْلَة. وَفِي تَنْزِيه الشَّرِيعَة فِي الْأَحَادِيث الْمَوْضُوعَة حَدِيث عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يَا عَليّ من صلى مائَة رَكْعَة فِي لَيْلَة النّصْف من شعْبَان يقْرَأ فِي كل رَكْعَة بِفَاتِحَة الْكتاب وَقل هُوَ الله أحد أحد عشرَة مرّة " الحَدِيث. قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِيهِ مَجَاهِيل وضعفاء - وَقَالَ الشَّيْخ محيي الدّين النَّوَوِيّ أما صَلَاة الرغائب وَصَلَاة لَيْلَة النّصْف من شعْبَان فليستابِسنتَيْنِ بل هما بدعتان قبيحتان مذمومتان - وَلَا تغتر بِذكر أبي طَالب الْمَكِّيّ لَهما فِي قوت الْقُلُوب وَلَا بِذكر حجَّة الْإِسْلَام الْغَزالِيّ لَهما فِي الْإِحْيَاء وَلَا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور فيهمَا فَإِن ذَلِك بَاطِل. وَقد صنف عز الدّين بن عبد السَّلَام كتابا نفيسا فِي إبطالهما وَأطَال الإِمَام الْمَذْكُور فِي فَتَاوَاهُ أَيْضا ذمهما وتقبيحهما وإنكارهما - وَقَالَ الشَّيْخ ابْن حجر الْمَكِّيّ هَذَا مَذْهَبنَا وَمذهب الْمَالِكِيَّة وَآخَرين من الْأَئِمَّة وَمذهب أَكثر عُلَمَاء الْحجاز وَمذهب فُقَهَاء الْمَدِينَة. وَقد صنف الشَّيْخ الْمَذْكُور كتابا فِي هَذَا الشَّأْن انْتهى - وَأما صَلَاة التَّسْبِيح فَالصَّحِيح أَن الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِيهَا صَحِيحَة ورواتها ثِقَات فَلَا تلْتَفت إِلَى الِاخْتِلَاف واترك الاعتساف.

الْمُؤثر

الْمُؤثر: مَا لَهُ تَأْثِير فِي الشَّيْء إِمَّا تَامّ فَهُوَ الْعلَّة التَّامَّة أَو غير تَامّ فَهُوَ الْعلَّة النَّاقِصَة. وَالْمرَاد بالتأثير التَّام عدم الاجتياج فِي إِيجَاد الْمَعْلُول إِلَى شَيْء آخر. وَاخْتلفُوا فِي أَن الْمُؤثر فِي الْمَلْزُوم هُوَ الْمُؤثر فِي اللَّازِم فِي آن وَاحِد أم الْمُؤثر فِي اللَّازِم غير الْمُؤثر فِي الْمَلْزُوم - فَقَالَ بَعضهم بِالْأولِ وَبَعْضهمْ بِالثَّانِي بِأَن الْمُؤثر فِي اللَّازِم قد يكون مَا هُوَ الْمُؤثر فِي الْمَلْزُوم لَكِن فِي آنين وَقد يكون على حِدة - وَالْمذهب الْمَنْصُور أَن الْمُؤثر فِي الْمَلْزُوم هُوَ الْمُؤثر فِي اللَّازِم فِي آن وَاحِد وَإِلَّا يلْزم وجود الْمَلْزُوم بِدُونِ اللَّازِم.
وَفِي الْمُؤثر فِي الْأَفْعَال الاختيارية للعباد اخْتِلَاف قَالَت الجبرية إِن الْمُؤثر فِيهَا قدرَة الله تَعَالَى بِلَا قدرَة من الْعباد أصلا أَي لَيْسَ للْعَبد قدرَة أصلا عِنْدهم - وَعند أبي الْحسن الْأَشْعَرِيّ الْمُؤثر فبها قدرَة الله تَعَالَى بِلَا تَأْثِير لقدرة الْعباد يَعْنِي أَن للْعَبد قدرَة لَكِن لَا تَأْثِير لَهَا فِي إِيجَاد الْفِعْل عِنْده فَإِنَّهُ قَالَ إِن الله تَعَالَى أجْرى عَادَته بِأَن العَبْد إِذا صرف قدرته وإرادته إِلَى الْفِعْل أوجده عقيب ذَلِك من غير أَن يكون لقدرته وإرادته تَأْثِير فِي وجوده فَذَلِك الْفِعْل مَخْلُوق الله تَعَالَى ومكسوب للْعَبد فَجعل قدرَة العَبْد شرطا ومدارا لتأثير قدرته تَعَالَى وإيجاده. والمؤثر فِي فعل العَبْد عِنْد الْمُعْتَزلَة قدرَة العَبْد فَقَط بِلَا إِيجَاب واضطرار. وَعند الفلاسفة الْمُؤثر فِيهِ قدرَة العَبْد بِالْإِيجَابِ وَامْتِنَاع التَّخَلُّف كَمَا يفهم من ظَاهر كَلَامهم - وَالتَّحْقِيق أَن مَذْهَبهم أَنه تَعَالَى فَاعل الْحَوَادِث كلهَا وَأَن الْمَرَاتِب شُرُوط معدة لإفاضة المبدأ - وَقيل إِن إِمَام الْحَرَمَيْنِ رَحمَه الله تَعَالَى ذهب إِلَى مَذْهَب الْحُكَمَاء وَلَكِن قَالَ الْعَلامَة التَّفْتَازَانِيّ رَحمَه الله تَعَالَى فِي شرح الْمَقَاصِد هَذَا القَوْل من الإِمَام وَإِن اشْتهر فِي الْكتب إِلَّا أَنه خلاف مَا صرح بِهِ فِي الْإِرْشَاد وَغَيره حَيْثُ قَالَ إِن الْخَالِق هُوَ الله تَعَالَى لَا خَالق سواهُ وَإِن الْحَوَادِث كلهَا حَادِثَة بقدرته تَعَالَى من غير فرق بَين مَا يتَعَلَّق بقدرة الْعباد وَمَا لَا يتَعَلَّق بهَا انْتهى.
وَذهب الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الاسفراييني إِلَى أَن المُرَاد الْمُؤثر فِي فعل العَبْد مَجْمُوع القدرتين أَي قدرَة الله تَعَالَى وقدرة العَبْد فَذَلِك الْمَجْمُوع يُؤثر وَيُوجد أصل الْفِعْل فَيكون قدرَة الله تَعَالَى جُزْء الْمُؤثر كقدرة العَبْد. وَمذهب القَاضِي أبي بكر الباقلاني رَحمَه الله تَعَالَى أَيْضا أَن الْمُؤثر فِي فعل العَبْد مَجْمُوع القدرتين لَكِن قدرَة الله تَعَالَى تُؤثر فِي أصل الْفِعْل وقدرة العَبْد فِي وَصفه بِأَن تجْعَل ذَلِك الْفِعْل مَوْصُوفا بِكَوْنِهِ طَاعَة أَو مَعْصِيّة أَو مَكْرُوها أَو مُبَاحا وَفِي أَفعَال سَائِر الْحَيَوَانَات أَيْضا اخْتِلَاف على هَذَا التَّفْصِيل.
وَقَالَ الْفَاضِل الْكَامِل ملا شرِيف كجكنه رَحمَه الله تَعَالَى اعْلَم أَن بداهة الْعقل حاكمة على أَن الْأَفْعَال الْوَاقِعَة من الْعباد بمدخلية الِاخْتِيَار لَيست اضطرارية صرفة للْفرق الضَّرُورِيّ بَين حَرَكَة المرتعش وحركة الْمُخْتَار فَبَطل الْجَبْر الْمَحْض وَبعد الحكم يتَحَقَّق الْقُدْرَة فَالْحكم بِأَن قدرَة العَبْد مُسْتَقلَّة فِي التَّأْثِير وَالْعَبْد فَاعل موجد يُنَافِيهِ عُمُوم قَوْله تَعَالَى: {خَالق كل شَيْء} فَبَطل مَذْهَب الاعتزال فالجبر الْمَحْض والتفويض الْمَحْض اللَّذَان هما طرفان باطلان. وَبعد بطلانهما فالحد الْوسط الَّذِي اخْتَارَهُ الشَّيْخ الْأَشْعَرِيّ أَن قدرَة العَبْد مدَار مَحْض لَا أَنَّهَا مَعَ قدرَة الله تَعَالَى مُؤثرَة فِي أصل الْفِعْل فَيكون جُزْء الْمُؤثر كَمَا هُوَ مَذْهَب الْأُسْتَاذ أبي إِسْحَاق وَلَا أَنَّهَا مَعَ قدرَة الله تَعَالَى مُؤثرَة فِي وصف الْفِعْل بِأَن تُؤثر قدرته تَعَالَى فِي أصل الْفِعْل وقدرة العَبْد فِي كَونه طَاعَة أَو مَعْصِيّة كَمَا هُوَ مَذْهَب القَاضِي أبي بكر الباقلاني لِأَن فِي كل من هذَيْن الْقَوْلَيْنِ نوع ضَرَر فِي اسْتِقْلَال الْوَاجِب بالفاعلية وَفِي التَّوْحِيد الافعالي. وَالْمرَاد بِكَوْن قدرَة العَبْد مدارا مَحْضا أَن الصَّانِع تقدست ذَاته وتنزهت صِفَاته جعل عَبده صَاحب إِرَادَة وقدرة بِحَيْثُ لَو تَركه مَعَ نَفسه لَهُ أَن يُؤثر وَيُوجد مَا أَرَادَهُ من الْأَفْعَال لَكِن الْوَاجِب تَعَالَى لعزته وجلاله لم يرض أَن يكون فِي ملكه صَاحب تصرف فأوجد مَا علم أَنه إِذا خلي وطبعه لَا وجده بإرادته وَقدرته بِحَيْثُ لم يطلع العَبْد أَنه سُبْحَانَهُ أوجده دونه بل ظن أَنه فعله سُبْحَانَهُ فسبحان الَّذِي لَيْسَ لَهُ شريك فِي الْملك وَكبره تَكْبِيرا. فاستقام أَمر التكاليف الشَّرْعِيَّة وترتب الْجَزَاء فِي هَذِه النشأة وَيَوْم الْجَزَاء - هَذَا مَا أَفَاضَ الله علينا فِي تَحْقِيق مَذْهَب الشَّيْخ ولغيرنا فِي تَحْقِيق كَلَامه غير هَذَا فَارْجِع إِلَى المطولات من الْكتب فَانْظُر أَيهَا الطَّالِب الصَّادِق أَن هَذَا الشَّيْخ الإِمَام الْهَام مقتدى الْأَنَام مَا أدق نظره وَمَا أجلى بَصَره أحسن الله إِلَيْهِ وَجعل بحار الْمَغْفِرَة عَلَيْهِ انْتهى.

الشَّافِعِي

الشَّافِعِي: هُوَ الإِمَام الثَّانِي فِي الِاجْتِهَاد بعد سراج الْأمة الإِمَام الْهمام الْأَعْظَم أبي حنيفَة رَضِي الله عَنْهُمَا، وَقد كتب عَنهُ قدوة السالكين وزبدة العارفين الشَّيْخ فريد الدّين الْعَطَّار قدس سره وأنور مرقده فِي كتاب (تذكرة الْأَوْلِيَاء) يَقُول: إِن فضائله وشمائله ومناقبه ومجاهداته خَارِجَة عَن حد الْوَصْف، درس فِي الْحرم الشريف ثَلَاثَة عشر سنة وَكَانَ يَقُول: ((سلوني عَمَّا شِئْتُم)) وَقد أفتى هُوَ فِي سنّ الْخَامِسَة عشر من الْعُمر.
وَأحمد بن حَنْبَل رَحمَه الله تَعَالَى الَّذِي كَانَ إِمَام الدُّنْيَا، ويحفظ ثَلَاثمِائَة ألف حَدِيث وَمَعَ كل هَذِه العظمة أصبح تلميذا لَهُ يدْخل عَلَيْهِ، وَقد قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ رَحمَه الله، إِذا وزنا عقل الشَّافِعِي مَعَ عقول جَمِيع الْخلق لرجح عقل الشَّافِعِي. وَالشَّافِعِيّ مَعَ كل هَذِه الْمرتبَة والمنقبة كَانَ تلميذا ل (مُحَمَّد بن الْحسن) الَّذِي كَانَ تلميذا للْإِمَام أَبُو حنيفَة، وَإِذا أردْت أَن تعرف مدى علم هَذَا الرجل فَمَا عَلَيْك سوى الرُّجُوع إِلَى (طَالب الْعلم) . (انْتهى) . وقبة الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى قبَّة عَظِيمَة الْبناء وَاسِعَة الفضاء وَفِي رَأس ميل الْقبَّة سفينة صَغِيرَة من حَدِيد، وَأنْشد بعض الشُّعَرَاء لما زار الْقبَّة وَرَأى ذَلِك الْميل والسفينة فِي رَأسه:
(قبَّة مولَايَ قد علاها ... لعظم مقدارها السكينَة ... )
(لَو لم يكن تحتهَا بحار ... مَا كَانَ من فَوْقهَا السَّفِينَة ... ) 

والمثل الأفلاطوني جَاءَ على عدَّة معَان

والمثل الأفلاطوني جَاءَ على عدَّة معَان: أَحْيَانًا يُرَاد بِهِ، الماهيات الْكُلية الْمُجَرَّدَة عَن عوارض الأبدية والأزلية وَلَا تغير وَلَا فنَاء فِيهَا باستثناء أَفْرَاد هَذِه الماهيات.
وَأَحْيَانا يُرَاد بِهِ الْعَالم الْمِثَال الْمُتَوَسّط بَين عَالم الْغَيْب وعالم الشَّهَادَة.
وَأَحْيَانا يُرَاد بِهِ الصُّور العلمية الإلهية الْقَائِمَة بِالذَّاتِ الإلهية وَلَيْسَ بِذَات الله.
وَأَحْيَانا يُرَاد بِهِ الْجَوَاهِر الْمُجَرَّدَة الَّتِي تسمى أَرْبَاب الْأَنْوَاع، أَي من كل نوع فَرد مُجَرّد من الْمَادَّة الأزلية والأبدية الَّتِي تكون جَمِيع إضافات الكمالات على كل أَفْرَاد هَذَا النَّوْع مُتَعَلقَة بِهِ وَهُوَ بِلِسَان الشَّرْع ملك الْــبحار وَملك الْجبَال وَغير ذَلِك فَافْهَم واحفظ أَيهَا الْقَارئ.

التّوحيد

التّوحيد:
[في الانكليزية] Union ،monotheism ،unicity
[ في الفرنسية] Union ،monotheisme ،unicite
هو لغة جعل شيء واحدا. وفي عبارة العلماء اعتقاد وحدانيته تعالى. وعند الصوفية معرفة وحدانيته الثابتة له في الأزل والأبد، وذلك بأن لا يحضر في شهوده غير الواحد جلّ جلاله، كذا في مجمع السلوك. قال في شرح القصيدة الفارضية: كلّ المقامات والأحوال بالنسبة إلى التوحيد كالطّرق والأسباب الموصلة إليه وهو المقصد الأقصى والمطلب الأعلى، وليس وراءه للعباد قربة، وحقيقته جلّت عن أن يحيط بها فهم أو يحوم حولها وهم. وتكلّم كل طائفة فيه بعضهم بلسان العلم والعبارة والبعض بلسان الذوق والإشارة، وما قدّروه حق قدره وما زاد بيانهم غير ستره انتهى. ويؤيده ما قال الإمام الرازي في التفسير الكبير من أن هاهنا حالة عجيبة، فإنّ العقل ما دام يلتفت إلى الوحدة فهو بعد لم يصل إلى عالم الوحدة، فإذا ترك الوحدة فقد وصل الوحدة، وهل يمكن التعبير عن ذلك. فالحق أنه لا يمكن لأنك متى عبّرت عنه فقد أخبرت عنه بأمر آخر، والمخبر عنه غير المخبر به، فليس هناك توحيد. ولو أخبرت عنه فهناك ذات مع السلب الخاص فلا يكون توحيد هناك. فأما إذا نظرت إليه من حيث أنه هو من غير أن يخبر عنه لا بالنفي ولا بالإثبات، فهناك تحقّق الوصول إلى مبادي عالم التوحيد. ثم الالتفات المذكور لا يمكن التعبير عنه إلّا بقوله هو، فلذلك عظم وقع هذه الكلمة عند الخائضين في بحار التوحيد انتهى.

ثم قال شارح القصيدة الفارضية: لكن أرباب الذوق لما كانت إشارتهم عن وجدان وبيانهم عن عيان الاحت إشارتهم لأسرار المحبين لوائح الكشف المبين، كما قيل: التوحيد إسقاط الإضافات أي لا تضيف شيئا من الأشياء إلى غير الحق سبحانه، وقيل تنزيه الله عن الحدث.
وقيل إسقاط الحدث وإثبات القدم. وحاصل الإشارات أنّ التوحيد إفراد القدم عن الحدث.

وللتوحيد مراتب: علم وعين وحق، كما لليقين علمه ما ظهر بالبرهان، وعينه ما ثبت بالوجدان، وحقه ما اختص بالرحمن. أما التوحيد العلمي فتصديقي إن كان دليله نقليا، وهو التوحيد العام، وتحقيقي إن كان عقليا، وهو التوحيد الخاص. والمصدّق وإن علم أن للخلق إلها واحدا لا شريك له لكن قد يعتوره الشبه، والمحقق يشاهده بعقله المقبل على الله تعالى بأنوار الهداية، ويعلم يقينا بالدليل القاطع أنّ الموجود الحقيقي هو الله سبحانه، وكل ما سواه معدوم الأصل، وجوده ظلّ وجود الحق، فيعتقد أن ليس في الوجود فعل وصفة وذات إلّا لله حقيقة، لكنه لا يجد بمجرد هذا العلم عين التوحيد لتعوقه عنه بالتشبّثات الجسمانية والتعلّقات النفسانيّة.
وأمّا التوحيد العيني الوجداني فهو أن يجد صاحبه بطريق الذوق والمشاهدة عين التوحيد، وهو على ثلاث مراتب. الأولى توحيد الأفعال وهو إفراد فعل الحقّ عن فعل غيره بمعنى إثبات الفاعليّة لله تعالى مطلقا ونفيها عن غيره وذلك إذا تجلى الله بأفعاله. والثانية توحيد الصفات وهو إفراد صفته عن صفة غيره بمعنى إثبات الصفة لله تعالى مطلقا ونفيها عن غيره، وذلك إذا تجلّى الله له بصفاته، والثالثة توحيد الذات وهو إفراد الذات القديمة عن الذوات بمعنى إثبات الذات لله تعالى مطلقا ونفيها عن غيره، وذلك إذا تجلّى الله بذاته، فيرى صاحب هذا التوحيد كلّ الذوات والصفات والأفعال متلاشية في أشعة ذاته وصفاته وأفعاله، ويجد نفسه مع جميع المخلوقات كأنها مدبّرة لها وهي أعضاؤها، ولا يلمّ بواحد منها شيء إلّا ويراه مسلّما به، ويرى ذاته الذات الواحدة وصفته صفتها وفعله فعلها لاستهلاكه بالكلية في عين التوحيد، وليس للإنسان وراء هذه الرتبة مقام في التوحيد وهو التوحيد الأخص.
ويرشد فهم هذا المعنى إلى تنزيه عقيدة أهل التوحيد عن الحلول والتشبيه والتعطيل. كما طعن فيهم طائفة من الجامدين العاطلين عن المعرفة والذوق لأنهم إذا لم يثبتوا معه غيره فكيف يعتقدون حلوله فيه أو تشبيهه به، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وأمّا التوحيد الرحماني فهو أن يشهد الحق سبحانه على توحيد نفسه بإظهار الوجود، إذ كل موجود مختص بخاصية لا يشاركه فيها غيره، وإلّا لما تعيّن. وهذه الوحدة فيه دليل على وحدانية موجده كما قيل، ففي كلّ شيء له آية تدلّ على أنّه واحد. فإظهار الموجودات على صفة الوحدة صورة شهادة الحق تعالى أنّه واحد لا شريك له، شهادة أزلية أبدية غير مستندة إلى سبب يقلها أو منزّه يحلها، وليس للإنسان في هذا المقام قدم إلّا أن يلمع برق من جانب القدم أضاء به أرجاء سرّه وينطفئ سريعا، وهو الذي اصطفاه الله لنفسه، انتهى كلامه.

الحورية

(الحورية) فتاة أسطورية تتراءى فِي الْــبحار والأنهار والغابات والحسناء وحشرة فِي طور مَا بعد الْبَيْضَة فِي طور الحشرات النَّاقِصَة التَّحَوُّل وتختلف عَن الحشرة الْبَالِغَة فِي عدم وجود أَجْنِحَة وأعضاء تناسل فِيهَا (مج)
الحورية:
[في الانكليزية] Al -Huriyya (sect)
[ في الفرنسية] Al -Huriyya (secte)
بالضم فرقة من المتصوفة المبطلة ومذهبهم مثل مذهب الحالية ما عدا في قولهم بأنّ حور الجنّة في حالة اللّاوعي يقتربن منهم ونضاجعهن وحين يفيقون يغتسلون. كذا في توضيح المذاهب.

السّبعية

السّبعية:
[في الانكليزية] AL -Sabiyya (sect)
[ في الفرنسية] AL -Sabiyya (secte)
فرقة من غلاة الشيعة لقّبوا بذلك لأنهم زعموا أنّ النّطقاء بالشريعة أي الرّسل سبع:
آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ومحمد المهدي سابع النّطقاء، وبين كلّ اثنين من النطقاء سبعة أئمة يتمّمون شريعة، ولا بد في كل شريعة من سبعة بهم يقتدى إمام يؤدّي عن الله، حجة يؤدّي عن ذلك الإمام ويحمل عليه ويحتج به له، وذو مصّة يمصّ أي يأخذ العلم من الحجة، وأبواب وهم الدّعاة، فداع أكبرهم وهو لرفع درجات المؤمنين، وداع مأذون يأخذ العهود على الطالبين من أهل الظاهر فيدخلهم في ذمّة الإمام ويفتح لهم باب العلم والمعرفة، ومكلّب قد ارتفعت درجته في الدين، لكن لم يؤذّن له في الدعوة بل في الاحتجاج على الناس فهو يحتج ويرغب إلى الداعي، ومؤمن يتبعه أي يتبع الداعي وهو الذي أخذ عليه العهد وآمن وأيقن بالعهد ودخل في ذمته وحزبه. قالوا ذلك الذي ذكرنا كالسماوات والأرضين والــبحار وأيام الأسبوع والكواكب السّيّارة وهي المدبّرات أمرا، كلّ منها سبعة كما هو المشهور. وأصل دعوتهم على إبطال الشرائع لأنّ الغبارية وهم طائفة من المجوس راموا عند شوكة الإسلام تأويل الشرائع على وجه يعود إلى قواعد أسلافهم ليوجب ذلك اختلافا في الإسلام. ورئيسهم في ذلك حمدان قرمط وقيل عبد الله ابن ميمون القداح، ولهم في الدعوة واستدراج الضّعفاء مراتب الذّوق وهو تفرّس حال المدعو هل هو قابل للدعوة أم لا. ولذا منعوا دعوة من ليس قابلا لها، ومنعوا التكلّم في بيت فيه سراج أي موضع فيه فقيه أو متكلّم، ثم التأنيس باستمالة كلّ واحد من المدعوّين بما يميل إليه هواه وطبعه من زهد وخلاعة، فإن كان يميل إلى الزهد زيّنه في عينه وقبّح نقيضه، وإن كان يميل إلى الخلاعة زيّنها وقبّح نقيضها حتى يحصل له الأنس [به،] ثم التّشكيك في أركان الشريعة، ثم التدليس وهو دعوى موافقة أكابر الدين والدنيا لهم حتى يزداد ميله، ثم التأسيس وهو تمهيد مقدمات يسلّمها المدعو وتكون سائقة له إلى ما يدعوه إليه من الباطل، ثم الخلع وهو الطمأنينة إلى إسقاط الأعمال البدنية، ثم السلخ من الاعتقادات الدينية وحينئذ يأخذون في الإباحة والحثّ على استعمال اللّذات وتأويل الشرائع، كقولهم الوضوء عبارة عن موالاة الإمام والتيمم هو الأخذ من المأذون عند غيبة الإمام الذي هو الحجة، والصلاة عبارة عن الناطق أي الرسول، والاحتلام عبارة عن إفشاء شيء من أسرارهم إلى من ليس هو أهله بغير قصد منه، والغسل تجديد العهد، والزكاة تزكية النفس بمعرفة ما هم عليه من الدين، والكعبة النبي، والباب عليّ، والصفا هو النبي، والمروة علي، والميقات الإيناس، والتلبية إجابة المدعو، والطواف بالبيت سبعا موالاة الأئمة السبعة، والجنة راحة الأبدان عن التكاليف، والنار مشقتها بمزاولة التكاليف إلى غير ذلك من خرافاتهم.
اعلم أنّهم كما يلقبون بالسّبعية كذلك بالإسماعيلية لانتسابهم إلى محمد بن إسماعيل. وقيل لإثباتهم الإمامة لإسماعيل بن جعفر الصادق، وبالقرامطة لأنّ أولهم رجل يقال له حمدان قرمط، وقرمط إحدى قرى واسط. وبالخرّمية لإباحتهم المحرّمات والمحارم. وبالبابكية إذا تبعت طائفة منهم بابك الخرّمي في الخروج بآذربيجان، وبالمحمّرة للبسهم الحمرة في أيام بابك، أو لتسميتهم المخالفين [لهم] من المسلمين حميرا، وبالباطنية لقولهم بباطن القرآن دون ظاهره، قالوا للقرآن ظاهر وباطن، والمراد باطنه لا ظاهره المعلوم من اللغة، والمتمسّك بظاهره معذّب بالمشقة في الاكتساب، وباطنه مؤدّ إلى ترك العمل بظاهره، كذا في شرح المواقف.

الشّرك

(الشّرك) النَّصِيب (ج) أشراك واعتقاد تعدد الْآلهَة

(الشّرك) حبالة الصَّيْد (ج) أشراك وشرك
الشّرك:
[في الانكليزية] Polytheism ،idolatry
[ في الفرنسية] Polytheisme ،idolaterie
بالكسر وهي مصدر معناه الإشراك والاعتقاد بشريك للرّبّ الذي لا شريك له. كما في المنتخب. قال العلماء: الشّرك على أربعة أنحاء. الشّرك في الألوهية، والشّرك في وجوب الوجود، والشرك في التدبير، والشّرك في العبادة. وليس أحد أثبت لله تعالى شريكا يساويه في الألوهية والوجوب والقدرة والحكمة إلّا الثنوية، فإنّهم يثبتون إلهين أحدهما حكيم يفعل الخير والثاني سفيه يفعل الشّرّ، ويسمّون الأول باسم يزدان والثاني باسم أهرمن وهو الشيطان بزعمهم. وأمّا الشّريك في العبادة والتدبير ففي الذاهبين إليه كثرة. فمنهم عبدة الكواكب وهم فريقان، منهم من يقول إنّه سبحانه خلق هذه الكواكب وفوّض تدبير العالم السّفلي إليها، فهذه الكواكب هي المدبّرات لهذا العالم، قالوا فيجب علينا أن نعبد هذه الكواكب تعبّدا لله ونطيعه، وهؤلاء هم الفلاسفة. ومنهم قوم غلاة ينكرون الصانع ويقولون هذه الأفلاك والكواكب أجسام واجبة الوجود لذواتها ويمتنع عليها العدم فهي المدبّرة لأحوال العالم السّفلي وهؤلاء هم الدّهرية الخالصة. وممّن يعبد غير الله النصارى الذين يعبدون المسيح ومنهم أيضا عبدة الأوثان.
ولا بدّ من بيان سبب عبادة الأوثان، إذ عبادة الأحجار من جمّ غفير عقلاء ظاهر البطلان، وقد ذكروا لها وجوها. الوجه الأوّل أنّ الناس لمّا رأوا تغيّرات هذا العالم منوطة ومربوطة بتغييرات أحوال الكواكب فإنّ بحسب قرب الشمس وبعدها عن سمت الرأس تحدث الفصول الأربعة التي بسببها تحدث الأحوال المختلفة في هذا العالم. ثم إنّ الناس رصدوا أحوال سائر الكواكب فاعتقدوا انبساط السعادات والنحوسات بكيفيّة وقوعها في طوالع الناس على أحوال مختلفة. فلما اعتقدوا ذلك غلبت على ظنونهم أنّ مبدأ الحوادث هو الاتصالات الكوكبية، فبالغوا في تعظيمها.
فمنهم من اعتقادها واجبة الوجود لذواتها وهي خلقت هذا العالم. ومنهم من اعتقد حدوثها وكونها مخلوقة للإله الأكبر إلّا أنها هي المدبّرة لأحوال هذا العالم؛ وهؤلاء هم الذي أثبتوا الوسائط بين الإله الأكبر وبين أحوال هذا العالم. ثم إنّهم لمّا رأوا أنّ هذه الكواكب قد تغيب عن الأبصار في أكثر الأوقات اتخذوا لكلّ كوكب صنما من الجوهر المنسوب إليه كاتخاذهم صنم الشمس من الذهب والياقوت والألماس، ثم اشتغلوا بعبادة تلك الأصنام.
وغرضهم منها عبادة تلك الكواكب والتقرّب إليها. وأمّا الأنبياء فلهم مقامان: أحدهما إقامة الدليل على أنّ هذه الكواكب لا تأثير لها البتة في أحوال هذا العالم لما قال الله تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ بعد أن بيّن أنها مسخّرات.
وثانيهما أنّ بتقدير تأثيرها دلائل الحدوث حاصلة فيها فوجب كونها مخلوقة. والاشتغال بعبادة الخالق أولى من الاشتغال بعبادة المخلوق. في الكشاف في تفسير قوله تعالى:
فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. النّد المماثل في الذات المخالف في الصفات. فإن قلت كانوا يسمّون أصنامهم باسمه ويعظمونها بما يعظّم به من القرب، وما كانوا يزعمون أنّها تخالف الله وتناديه؟ قلت: لمّا تقرّبوا إليها وعظّموها وسمّوها آلهة اشتبهت حالهم حال من يعتقد أنّها آلهة مثله قادرة على مخالفته ومضادّته، فقيل لهم ذلك على سبيل التّهكم.
الوجه الثاني ما ذكره أبو معشر وهو أنّ كثيرا من أهل الصين والهند كانوا يثبتون الإله والملائكة إلّا أنّهم يعتقدون أنه تعالى جسم ذو صورة حسنة وكذا الملائكة، لكنهم احتجبوا عنّا بالسماوات فاتخذوا صورا وتماثيل، فيتّخذون صورة في غاية الحسن ويقولون إنّها هيكل الإله وصورة أخرى دونها في الحسن ويجعلونها صورة الملائكة، ثم يواظبون على عبادتها قاصدين بتلك العبادة الزّلفى من الله وملائكته.
فالسبب على عبادة الأوثان على هذا اعتقاد أنّ الله سبحانه جسم وفي مكان. الوجه الثالث أنّ القوم يعتقدون أنّ الله فوّض تدبير كلّ من الأقاليم إلى ملك معيّن وفوّض تدبير كلّ قسم من أقسام العالم إلى روح سماوي بعينه، فيقولون مدبّر الــبحار ملك، ومدبّر الجبال ملك آخر وهكذا، فاتخذوا لكلّ واحد من الملائكة المدبّرة صنما مخصوصا، ويطلبون من كلّ صنم ما يليق بذلك الروح الكلّي. وللقوم هاهنا تأويلات أخر تركناها لمخافة الإطناب.
اعلم أنّهم اختلفوا في أنّ لفظ المشرك يتناول الكفّار من أهل الكتاب فأنكر بعضهم ذلك وقال: اسم المشرك لا يتناول إلّا عبدة الأوثان لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ الآية. فالله تعالى عطف المشركين على أهل الكتاب، والعطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه.
والأكثرون من العلماء على أنّ المشرك يتناول الكفار من أهل الكتاب أيضا، وهو المختار.
قال أبو بكر الأصم كلّ من جحد رسالته فهو مشرك، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ. فقد دلّت الآية على أنّ ما سوى الشّرك قد يغفر الله تعالى في الجملة. فلو كان كفر اليهود والنصارى ليس بشرك لوجب أن يغفر لهم الله تعالى في الجملة، وذلك باطل.

والجواب عن الآية بوجهين: الأول أنّ لفظ المشركين عطف على الذين الخ، والمعنى أنّ الذين كانوا مؤمنين بنبي من الأنبياء أو كانوا من أهل الكتاب ثم كفروا بمحمد صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلّم ولم يؤمنوا به فأشركوا، به، وإنّ الذين كانوا مشركين من الابتداء كلاهما في نار جهنم الخ. والثاني أنّ عطف المشركين على أهل الكتاب من قبيل عطف العام على الخاص، والمعنى أنّ الذين كفروا من أهل الكتاب وجميع المشركين سواء كانوا من أهل الكتاب كاليهود والنصارى وعبدة الأوثان كلّهم في نار جهنم. ثم القائلون بدخول اليهود والنصارى تحت اسم المشرك اختلفوا على قولين: فقال قوم وقوع هذا الاسم عليها من حيث اللغة. وقال الجبائي والقاضي هذا الاسم من جملة الأسماء الشّرعية لأنّه تواتر النقل عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنّه كان يسمّي كلّ من كان كافرا بالمشرك، وقد كان في الكفار من لا يثبت إلها أصلا أو كان شاكّا في وجوده، أو كان شاكّا في وجود الشّريك. وقد كان فيهم من كان عند البعثة منكرا للبعث والقيمة، فلا جرم كان منكرا للبعثة وللتكليف، وما كان يعبد شيئا من الأوثان. وعابدوا الأوثان فيهم من كانوا لا يقولون إنّهم شركاء الله في الخلق، وتدبير العالم، بل كانوا يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله. فثبت أنّ الأكثر منهم كانوا مقرّين بأنّ [الله] إله العالم واحد، وإنّه ليس له في الإلهية بمعنى خلق العالم وتدبيره شريك ونظير كما يدلّ عليه قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ فإذا ثبت أنّ وقوع اسم المشرك على الكافر ليس من الأسماء اللغوية بل من الأسماء الشّرعية كالزكاة والصلاة وغيرهما وجب اندراج كلّ كافر تحت هذا الاسم. هذا كلّه خلاصة ما في التفسير الكبير في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً، وفي سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ. والمفهوم من الإنسان الكامل أيضا أنّ المشرك لا يتناول الكفار بأجمعهم. قال: ما في الوجود حيوان إلّا وهو يعبد الله إمّا على التقييد بمحدث ومظهر وهو المشرك وإمّا على الإطلاق وهو الموحّد، وكلّهم عباد الله على الحقيقة لأجل الوجود الحق، فإنّ الحقّ تعالى من حيث ذاته يقتضي أن لا يظهر في شيء إلّا ويعبد ذلك الشيء، وقد ظهرت في ذات الوجود. فمن الناس من عبد الطبائع أي العناصر وهي أصل العالم، ومنهم من عبد الكواكب، ومنهم من عبد المعدن، ومنهم من عبد النار، ولم يبق شيء في الوجود إلّا وقد عبد شيئا من العالم إلّا المحمّديون فإنّهم عبدوه من حيث الإطلاق بغير تقييد بشيء آخر من المحدثات انتهى.

ينبغي أن يعلم أنّ العلماء قالوا: الشّرك على أربعة أوجه: حينا في العدد. وقد نفي بقوله تعالى: أحد، أي «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ». وحينا في المرتبة: وقد نفي بقوله تعالى: صمد، أي «اللَّهُ الصَّمَدُ». وحينا بالنسبة (للزوجة والولد) وقد نفاه بقوله سبحانه «لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ». وحينا في العمل والتأثير وقد نفاه سبحانه بقوله: «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ». وقالوا أيضا: إن أصحاب المذاهب الباطلة ينقسمون إلى خمس فرق:

الفرقة الأولى: الدّهرية القائلون بأنّه ليس للعالم صانع، وأنّ المواد اجتمعت هكذا وتشكّلت منها الصّور الموجودة. وعليه متى ذكر المسلمون بلسانهم لفظة هو فذلك هو التبرّي من عقائد الدّهرية.

الفرقة الثانية هم الفلاسفة: وهم الذين يقرّون بوجود الصّانع ولكن لا صفة له عندهم.
أي أنّ التأثير في العوالم من الوسائط وليس من الصّانع. وفي الحقيقة: الهنود على هذا الرأي.

ومتى قال الرجل المؤمن: الله، فإنّ ذلك يعني وصفه بجميع صفات الكمال، وبذلك ينجو ويبتعد من عقائد هذه الفرق.

والفرقة الثالثة: الثّنوية: وهم القائلون بأنّ العالم لا يكفي وجود صانع لجميع ما في العالم، وذلك لأنّ العالم فيه الخير والشّرّ موجودان، فلا بدّ للخير من خالق وللشّرّ من خالق. إذن لا بدّ من صانعين اثنين. وخالق الخير يسمّى عندهم يزدان وأمّا خالق الشّرّ فهو عندهم أهرمن. فإذن، متى نطق المؤمن بلفظ، أحد، فقد نجا من شرّ شرك هؤلاء.

والفرقة الرابعة: عبدة الأوثان؛ الذين يعتقدون بأنّ عبادة الأوثان وسيلة لقضاء حاجاتهم الدنيوية والدينية، والمؤمن حين يقول: الله الصّمد، فإنّه يخلص من هذه العقيدة.
وهكذا الضالون من أهل الكتاب من اليهود الذين يقولون بأنّ العزير هو ابن الله، والنصارى القائلين بأنّ المسيح هو ابن الله. فإذن متى قال المؤمن: لم يلد ولم يولد فإنّه يطهّر من هذه العقيدة.

والفرقة الخامسة: المجوس القائلون بأنّ (أهرمن) إبليس له نفس القدرة الإلهية في التأثير، والمنازعة دائمة بين جنود الرحمن والشيطان. ففي بعض الأحيان: يجري حكم الله في عالم الخير ويكون هو الغالب، وحينا يتغلّب جيش إبليس. وهو يظهر في عالم الشّرّ والقبح.

إذن: فالمؤمن حين يقول: ولم يكن له كفوا أحد ينجو من شرّ هذا الاعتقاد، ولذلك سمّيت هذه السورة سورة الإخلاص.
إذن فليعلم أنّ تفصيل أنواع الشّرك في عالم الواقع هو: ثمّة فرقة تعتقد بوجود صانعين للعالم؛ أحدهما حكيم وهو مصدر الخير والفضائل، وذاك الذي يدعى يزدان، وآخر:
سفيه هو مصدر الشّرّ والرذائل وذاك ما يدعونه أهرمن. ويقال لهذه الجماعة: الثنوية. وبطلان مذهبهم بلسانهم أيضا ظاهر؛ لأنّ ذلك الصانع السفيه إذا كان من عمل الصانع الحكيم، فيلزم إذن أن يكون الشّرّ صادرا عن الحكيم أيضا.
وأمّا إذا كان ظهوره بذاته فهو إذن واجب، وتجب له حينئذ صفات الكمال كالعلم والقدرة والحكمة. إذن هذا الواجب الموجود صار سفيها وجاهلا؟
والفرقة الثانية هي التي تسمّى صابئة وتقول: على رغم أنّ صفات واجب الوجود كالعلم والقدرة والحكمة هي خاصة بالله، لكنه سبحانه جعل أمور هذا العالم مرتبطة بنجوم السماء، وفوّض إليها تدبير أمور الخير والشّرّ، فعلينا إذن أن ننظّم أرواح هذه الكواكب كلّ التنظيم حتى تنتظم أمورنا. ومذهب هؤلاء باطل بلسانهم وذلك أنّه إذا كان الله جلّ جلاله يعلم عبادتنا، فتكون عبادة الكواكب لغوا ولا نتيجة لها، لأنّ التّقرّب الذي يحصل لنا من عبادته يغنينا عن التوسّل بأرواح هذه الكواكب، وأمّا إذا كان الله سبحانه لا يدري بعبادتنا، فحينئذ يطرأ على علمه القصور، فلا يكون واجب الوجود، ويضاف لذلك أنّ تلك النجوم التي تسيّر أمور معاشنا إن كانت تفعل ذلك من عندها فهي إذن مساوية في القدرة لله، وصار الشّرك في القدرة الإلهية لازما. وإذا كانت تفعل ما تفعل بقدرة معطاة لها من الله. إذن فكما أنّه سبحانه جعلها واسطة لتسيير مصالحنا وأمورنا، فكذلك يمكن أن يلقي في روعها أن تفيض علينا (من بركاتها) وأيضا تصبح عبادتها مساوية لعبادة الله.
وحينئذ يكون هؤلاء (الصابئة) قد ساووا بينها وبين الله، فيحصل الشّرك في العبادة.

والفرقة الثالثة هم الهنود القائلون: بأنّ الروحانيات الغيبية التي تدبّر شئون العالم لها صور ملوّنة، وهي محجوبة عنّا بالحجب والسّتائر فعلينا إذن أن نتقدّم منها بالأشياء النفيسة كالذّهب والفضّة، لأنّ تعظيم تلك الصور في الحقيقة هو تعظيم لها، لكي ترضى عنّا تلك الروحانيات وتسيّر أمورنا.
وهذا المذهب باطل بنفس البرهان الذي تبطل به عقيدة الفرقة الثانية أي (الصابئة).

والفرقة الرابعة: عبّاد الشيوخ. القائلون:
بأنّ الرجل الكبير قد صار بسبب كمال الرياضة والمجاهدة الروحية مستجاب الدّعوة ومقبول الشفاعة، فتصل إلى روحه قوة عظيمة واسعة وفخمة جدا من هذا العالم. فكلّ من يجعل من صورته برزخا أو يتذلّل على قبره ويسجد أو يذكر مكان عبادته أو ينذر باسمه ويتضرّع له وما شابه، وحينئذ تطلع عليه روح ذلك الشيخ بسبب كمالها وتشفع له في الدنيا والآخرة.
والفرقة الخامسة وهم عوام الهنود القائلين بأنّ: الحقّ ذاته منزّهة عن أن يستطيع أحد أن يعبده، ذلك لأنّه سبحانه لا يأتي في عقلنا وذهننا، وبسبب كونه منزّها عن الجسمية أو التمكّن بمكان فلا يمكن تصوره، إذن فلا سبيل إلى عبادته إلّا بالاتّجاه إلى مخلوق من مخلوقاته المقرّبين والمقبولين لديه، فيكون توجّهنا نحو تلك القبلة هو عين التوجّه نحو الله، والمخلوق الذي هو أهل لهذا الأمر ليس مخصوصا بجنس معيّن، بل أيّ واحد مقبول لدى أعتابه، أو أي شيء مشتمل على أمر عجيب وغريب يمكن أن يكون قبلة مثل مياه نهر الغانج أو شجرة ضخمة وأمثال ذلك.
وهؤلاء الأقوام يساوون غيرهم في العبادة شركاء مع الله.
وأمّا الذين يسوّون بين الله وغيره في غير العبادة فكثيرون. فمن جملتهم، من يذكرون الآخرين مع الله كذكرهم لله، كما يقولون عن الملوك: مالك الملك ومالك رقاب الأمم، وملك الأملاك، وأحكم الحاكمين، وأمثال ذلك.

ومن جملة هؤلاء أيضا: من ينذر لغير الله أو يذبح ويقرّب القرابين تعظيما لغير الله، أو تقرّبا لغير الله، وهم بذلك يسوّون بين الله وبين مخلوقاته في تلك الأمور. كما أنّ من جملة هؤلاء من يتسمّى باسم عبد فلان أو غلام فلان وهذا نوع من الشّرك في الأسماء. كما ذكر ذلك الترمذي في الحديث وأخرجه الحاكم في تفسير قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ، فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ في سورة الأعراف؛ بما أنّه لم يعش لهود عليه السلام ولد، فتمثّل إبليس بهيئة رجل كبير وقال: إذا ولد لك غلام هذه المرة فسمّه عبد الحارث لكي يعيش. وبناء على ذلك هكذا فعلوا وعاش الغلام. ومن جملة هؤلاء أيضا:
أولئك الذي يدعون غير الله لدفع بلاء، وكذلك لجلب المنافع يتوجّهون لغير الله. ويعدّون هؤلاء عالمين بالغيب ولهم القدرة المطلقة. وهذا نوع من الشّرك في العلم والقدرة.
كذلك من جملة هؤلاء قوم يسوّون بين اسم الله وبين اسم كائن آخر في مقام العلم الشامل أو المشيئة الشاملة أو الإرادة المطلقة، وذلك كما أخرج النسائي وابن ماجة في الحديث الذي ورد فيه أنّ أحدهم قال للنبي صلّى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت. فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: جعلتني لله ندّا، بل ما شاء الله وحده.
وينبغي أن يعلم هنا بأنّ عبادة غير الله تعدّ شركا وكفرا، فكذلك إطاعة غيره سبحانه على وجه الاستقلال كفر. وهذا يعني أنّه لا يعدّ ذلك الغير مبلّغا لحكم الله، فيطيعه ويرى اتّباعه لازما، ومع معرفته بأنّ حكم الغير مخالف للحكم الإلهي فإنّه يستمرّ في ضلاله، ولا ينزع عن عبادة غيره، وهذا نوع من اتخاذ الأنداد كما ورد في القرآن قوله سبحانه: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ. التوبة: 31. ويشبه هذا من يعتقد بأنّ حكم الحاكم أو الملك الذي هو مخالف لحكم الله هو حقّ وواجب الإتباع كحكم الله. وهذا الأمر ينطبق عليه قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ. المائدة:
44. هكذا قال مولانا عبد العزيز الدهلوي في التفسير العزيزي في تفسير سورة الاخلاص وسورة البقرة وغيرها. 

بوصلة

بوصلة: (بالإيطالية bussola و bossola بَوصَلة، حك (هي آلة لمعرفة الاتجاه في الــبحار) (بوشر) ووريقة مكتوبة تعرف بالمذكرة والتذكرة، أعجمية (محيط المحيط).
بوصلة
بُوصلة [مفرد]: ج بوصلات: (جغ) جهاز يتركب من إبرة مغناطيسيّة، تتحرك حرَّة حول مركز ثقلها على سنّ مدبَّبة في علبة من مادة غير مغناطيسيّة، يستخدم في تعيين الاتّجاهات الجغرافيّة "استعِنْ بالبُوصلة في معرفة الاتّجاهات- اصطحب بوصلة في رحلته". 

الْأَمْرَد

الْأَمْرَد: من لَا يكون الشّعْر على ذقنه وَجمعه مرد. والمصاحبة مَعَ المرد كمصاحبة الْقطن المنفوش مَعَ النَّار لَا تسكن وَإِن صب عَلَيْهَا مَاء سَبْعَة بحار.

الصّاعقة

ص ع ق [الصّاعقة]
قال: يا ابن عباس: أخبرني عن قول الله عزّ وجلّ: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ .
قال: الصاعقة: العذاب، وأصله الموت.
قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت لبيد بن ربيعة وهو يقول:
قد كنت أخشى عليك الحتوف ... وقد كنت آمنك الصاعقة 
الصّاعقة:
[في الانكليزية] Thunderbolt
[ في الفرنسية] foudre
المحراق الذي بيد الملك السائق للسّحاب، ولا يأتي على شيء إلّا أحرقه، أو نار تسقط من السماء كذا في القاموس. اعلم أنّ الدّخان الذي هو أجزاء نارية تخالطها أجزاء صغار أرضية، إذا ارتفع مع البخار وانعقد السّحاب من البخار واحتبس الدخان فيما بين السحاب، فما صعد من الدخان إلى العلوّ لاشتعال حرارته أو نزل إلى السّفل لانتقاص حرارته يمزّق السّحاب في صعوده ونزوله تمزيقا أنيقا، فيحصل صوت هائل فيسمّى هذا الصوت رعدا. وإن اشتعل الدّخان لها فيه من الدهنية بالحركة العنيفة المقتضية للحرارة فيحصل لمعان وضوء فيسمّى هذا برقا، وإن كان الدخان كثيفا غليظا جدا حتى يصير ثقيلا فيمزّق السّحاب لشدة حرارته وينزل إلى الأرض لثقالته فيحرق كلّ شيء لحرارته ويمزّقه لغلظه وثقله فيسمّى صاعقة هكذا في الميبدي وغيره. وقد مرّ في لفظ البرق. وذكر في التفسير العزيزي أنّ أهل الحكمة قالوا: بما أنّ القوى الفلكية تؤثّر في العناصر بواسطة التّسخين والتّبخير فتتحرّك وتختلط ببعضها، وينشأ من اختلاط العناصر ببعضها عدة مخلوقات من مخلوقات أخرى.

فمثلا: بما أنّ حرارة الصيف تؤثّر في العناصر فيتصاعد بخار الماء من الــبحار والدّخان من الأرض نحو السماء، ومن ثمّ يعلو الدّخان حينا عن الهواء حتى يصل إلى كرة النار فيشتعل، وقد يستمرّ حينا من الزمن لعدة أيام في اشتعال بسبب غلظ قوام مادّة الدخان. ويبدو للناظر بشكل مذنّب أو حربة أو سالفة من الشعر أو غير ذلك، وإذا كان بعد الاشتعال زائلا عن قريب فيكون شهابا.
وفي بعض الحالات لا يشتعل بل يكون قابلا للاحتراق ويبدو للناظر للسّماء كقطعة حمراء أو سوداء أو زرقاء بين السّماء والأرض.
وينقسم البخار حال ارتفاعه من الأرض إلى عدد من الأقسام: فمرة يكون لطيفا وخفيفا فيعلو كثيرا فيصل إلى مكان ينقطع فيه انعكاس أشعة الشمس من الأرض فيبرد ويتكثّف ثمّ ينزل إلى الأرض على شكل قطرات. ويقال لهذا البخار المتكيّف الغيم. وتلك القطرات من الماء تسمّى المطر. وحينا آخر لا يكون البخار لطيفا بل ثقيلا، ولذلك فإنّه لا يرتفع عن سطح الأرض كثيرا، ثم إنّه بسبب البرد في أواخر الليل فإنّه يتجمّد (يتكثف) فيقع ويقال له آنذاك قطر النّدى. وإذا اشتدّ البرد بدرجة أكبر فإنّ البخار يتجمّد وينزل على الأرض بصورة حبّات من الثلج تسمّى البرد.

وقالوا أيضا: متى ارتفع الغبار والبخار والدّخان المخلوطة بعضها ببعض ثم انفصل كلّ منها عن الآخر، فحينئذ تهبّ ريح قوية وأعاصير شديدة.
وإذا وصل البخار والدّخان إلى درجة البرودة فإنّ البخار يبرد فيتغلغل فيه الدّخان حتى ينفذ إلى الطبقات العليا، وعن هذا التغلغل يحدث صوت قوي هو الذي يقال له الرّعد، وأحيانا بسبب شدّة التغلغل والحركة يشتعل ذلك الدّخان فيكون منه البرق.
وحينا آخر بسبب شدّة التكثّف والبرودة معا فإنّ البخار يتجمّد فيقع على الأرض وهو ما يسمّى حينئذ بالصاعقة.
هذا وإنّ هؤلاء الحكماء (أصحاب هذه الأقوال) بسبب ضعف وسائلهم لم يستطيعوا أن يتصوّروا شيئا آخر مؤثّرا في العناصر سوى قابلية تلك المواد للتأثير والتأثّر فلذلك اكتفوا بذلك.

وفي الحقيقة: هناك أسباب أخرى بالإضافة إلى الأسباب المذكورة وهي مؤثّرة وعاملة في هذا المصنع العظيم (الكون)، بل جميع الكائنات، وتلك هي الأرواح (الملائكة) المدبّرة والموكلة في إدارة شئون الكائنات المادّية وصورها.
وهذه الأرواح تابعة لأمر الله (كن فيكون)، ولا تقوم بأيّ عمل من تلقاء ذاتها. وعليه فالاقتصار على رؤية الأسباب المادية الظاهرة خطأ وغفلة عن قدرة مسبّب الأسباب، سبحانه ما أعظم شأنه. كما أنّ نفي تأثير الأسباب هو إنكار لحكمة الحكيم على الإطلاق ولفوائد الأسباب في هذا الكون، فسبحانه ما أحكم بنيانه.
وإذن فالأسلم في عدم الإفراط ولا التفريط بل التوسّط وهو الاعتقاد بأنّ الله سبحانه هو الفاعل الحقيقي والمكوّن لكلّ كائن بلا واسطة.
أمّا توسيط الأسباب فبناء على إجراء وتنفيذ عادته، ومن أجل إظهار قدرته وحكمته.
وأمّا في حال الاعتقاد حسب الصورة الأولى فإنّه يؤدّي إلى تعطيل قدرة الله سبحانه، وأمّا على التقدير الثاني فيؤدي للاعتقاد بالعبثية وأنّ الأسباب لا لزوم لها. نعوذ بالله منهما.
انتهى ملخصا.

المحدّث

المحدّث:
[في الانكليزية] Narrator ،informed Of prophetic traditions
[ في الفرنسية] Narrateur ،instruit des traditions prophetiques
بكسر الدال المشددة على أنّه اسم فاعل من التحديث هو عند المحدّثين على ما ذكره العراقي من يكون كتب وقرأ وسمع ووعى ورحل إلى المدائن والقرى وحصّل أصولا وعلّق فروعا من كتب المسانيد والعلل والتواريخ التي تقرب من ألف تصنيف. وقيل من تحمّل الحديث رواية واعتنى به دراية كذا في شرح النخبة.
المحدّث:
[في الانكليزية] Inspired
[ في الفرنسية] Inspire
بفتح الدال المشددة على أنه اسم مفعول من التحديث عند المحدّثين هو الملهم الذي إذا رأى رأيا أو ظنّ ظنّا أصاب كأنّه حدث به والقي في روعه من عالم الملكوت، كذا ذكر القاضي في شرح المصابيح في باب مناقب عمر رضي الله عنه. وقال السّيّد الشريف في حاشية المشكاة المحدّث الصادق الظنّ كأنه الملهم من الملأ الأعلى وحدّث بالأمر وحقيقته. وقال في ترجمة المشكاة: المحدّث بمعنى الملهم كأنّه يحدّث ويخبّر بالشيء.

وقال في مجمع الــبحار: هو الرجل الذي ألقي في روعه كلام، ثم يخبر بذلك عن طريق الحدس والفراسة الإيمانية المخصوصة. والله سبحانه وتعالى يعطي هذه الخاصّية لمن شاء من عباده.

وقيل: هو من يظنّ الشيء فيصدق ظنّه كأنّما ألهم بذلك

وقيل: من تكلّمه الملائكة، انتهى كلامه. والمحدّث عند النحاة ويسمّى المحدّث به أيضا هو المسند، والمحدّث عنه عندهم هو المسند إليه كما في المصباح.

المفارق

المفارق:
[في الانكليزية] Accident ،separated ،abstract
[ في الفرنسية] Accident ،separe ،abstrait
بكسر الراء هو عند المنطقيين هو العرض الغير اللازم. وعند الحكماء والمتكلّمين هو الممكن الذي لا يكون متحيّزا ولا حالّا في المتحيّز ويسمّى بالمجرّد أيضا، وقد سبق. وقد يراد به الأعمّ الشامل للواجب والممكن كما يجيء في لفظ الواحدة. التقسيم:
قالوا الجواهر المفارقة أي الغائبة عن الحسّ إمّا أن تكون مؤثّرة في الأجسام أو مدبّرة لها، أو لا تكون مؤثّرة ولا مدبّرة. والأول أي الجواهر المجرّدة المؤثّرة في الأجسام هي العقول السماوية عند الحكماء والملأ الأعلى في عرف حملة الشرع. والثاني أي الجواهر المجرّدة المدبّرة للأجسام العلوية أي الفلكية وهي النفوس الفلكية عند الحكماء والملائكة السماوية عند أهل الشرع والملائكة السّفلية تدبّر عالم العناصر، وهي إمّا أن تكون مدبّرة للبسائط الأربعة العنصرية وأنواع الكائنات وهم يسمّون ملائكة الأرض، وإليه أشار صاحب الوحي صلوات الله عليه والسلام وقال جاءني ملك الــبحار وملك الجبال وملك الأمطار وملك الأرزاق. وإمّا أن تكون مدبّرة للأشخاص الجزئية وتسمّى نفوسا أرضية كالنفوس الناطقة.
والثالث أي الجواهر المجرّدة التي لا تكون مؤثّرة في الأجسام ولا مدبّرة لها تنقسم إلى خيّر بالذات وهم الملائكة الكروبيّون بتخفيف الراء أي الملائكة المقرّبون وهم الملائكة المهيمنون المستغرقون في أنوار جلال الله سبحانه بحيث لا يتفرّغون معه لشيء أصلا، لا لتدبير الأجسام ولا لتأثير فيها، وإلى شرّير بالذات وهم الشياطين، وإلى مستعدّ للخير والشرّ وهم الجنّ.
والظاهر من كلام الحكماء أنّ الجنّ والشياطين هم النفوس البشرية المفارقة عن الأبدان، إن كانت شرّيرة كانت شديدة الانجذاب إلى ما يشاكلها من النفوس البشرية الشّريرة، فتتعلّق ضربا من التعلّق بأبدانها، وتعاونها على أفعال الشّرّ، فذلك هو الشيطان، وإن كانت خيّرة كان الأمر بالعكس وهي الجنّ. وأكثر المتكلّمين لمّا أنكروا الجواهر المجرّدة قالوا الملائكة والجنّ والشياطين أجسام لطيفة قادرة على التشكّل بأشكال مختلفة. وأوائل المعتزلة أنكروها لأنّها إن كانت لطيفة وجب أن لا تكون قوية على شيء من الأفعال وأن يفسد تركيبها بأدنى سبب، وإن كانت كثيفة وجب أن نشاهدها وإلّا لأمكن أن تكون بحضرتنا جبال لا نراها. وأجيب بأنّه لما لا يجوز أن تكون لطيفة بمعنى عدم اللون لا بمعنى رقّة القوام. ولئن سلّم أنّها كثيفة لكن لا نسلّم أنّها يجب أن تراها لأنّ رؤية الكثيف عند الحضور غير واجب، كيف وقد يفيض عليها القادر المختار مع لطافتها ورقتها قوة عظيمة فإنّ القوة لا تتعلّق بالقوام ولا بالجثة.
ألا ترى أنّ قوام الإنسان دون قوام الحديد والحجر، ونرى بعضهم يفتل الحديد ويكسر الحجر ويصدر عنه ما لا يمكن أن يستند إلى غلظ القوام، ونرى الحيوانات مختلفة في القوة اختلافا ليس بحسب اختلاف القوام والجثة كما في الأسد مع الحمار. ثم إنّ القائلين بأنّها أجسام تتشكّل بأي شكل شاءت وتقدر على أن تلج في بواطن الحيوانات وتنفذ في منافذها الضيّقة نفوذ الهواء المستشفّ بعد اتفاقهم على أنّها من أصناف المكلّفين مثل الإنسان، اختلفوا في اختلافها بالنوع. ونقل عن المعتزلة أنّهم قالوا الملائكة والجنّ والشياطين يتّحدون في النوع ويختلفون بأفعالهم، أمّا الذين لا يفعلون إلّا الخير فهم الملائكة وأمّا الذين لا يفعلون إلّا الشّرّ فهم الشيطان، وأمّا الذين يفعلون تارة الخير وتارة الشّر فهم الجنّ، ولذلك عدّ إبليس تارة في الملائكة وتارة في الجنّ، وأكثر ما ذكرنا هو المستفاد من شرح الطوالع وبعضه من شرح المواقف.
فائدة:
في تهذيب الكلام ولا يمنع ظهور الكلّ أي جميع المجرّدات على بعض الأبصار في بعض الأحوال. 

المقابلة

المقابلة:
[في الانكليزية] Opposition ،reciprocity ،oxymoron
[ في الفرنسية] Opposition ،reciprocite ،oxymoron
هي عند المنجّمين كون الكوكبين بحيث يكون البعد بينهما بقدر نصف فلك البروج ككون الزهرة في أول درجة الحمل والمريخ في أول درجة الميزان، ومقابلة الشمس والقمر يسمّى استقبالا وامتلاء. وعند المحاسبين عبارة عن إسقاط الأجناس المشتركة في كلّ واحد من المتعادلين أي المتساويين وهذا مستعمل في علم الجبر والمقابلة. مثاله شيء وعشرة أعداد يعدل مائة، فالجنس المشترك في الطرفين المتعادلين والعشرة التي هي من جنس العدد توجد في كلّ واحد من شيء وعشرة ومائة، فإذا أسقطناها من الطرفين بقي شيء معادلا لتسعين، فهذا الإسقاط هو المقابلة كذا في شرح خلاصة الحساب.
وعند أهل البديع هي أن يؤتى بمعنيين متوافقين أو بمعان متوافقة، ثم بما يقابل ذلك على الترتيب ويسمّى بالتقابل أيضا. وأمّا ما وقع في العضدي من أنّ التقابل ذكر معنيين متقابلين، فقد قال السّيّد السّند إنّه خلاف المشهور فإنّ ما ذكره تفسير للمطابقة، والتقابل قسم منها، وهو أن يؤتى بمعنيين إلى آخره، إلّا أنّه لا مناقشة في الاصطلاحات فجاز أن يطلق التقابل على ما يسمّى مطابقة وبالعكس. ثم المراد بالتوافق خلاف التقابل لا أن يكونا متناسبين ومتماثلين فإنّ ذلك غير مشروط في المقابلة. قيل يختصّ اسم المقابلة بالإضافة إلى العدد الذي وقع عليه المقابلة مثل مقابلة الواحد بالواحد وذلك قليل جدا، كقوله تعالى لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ومقابلة الاثنين بالاثنين كقوله فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً ومقابلة الثلاثة بالثلاثة كقول الشاعر:
وما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل ومقابلة الأربعة بالأربعة نحو فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى والمراد باستغنى أنّه زهد فيما عند الله تعالى كأنّه مستغن عنه والاستغناء مستلزم لعدم الاتقاء المقابل للاتقاء، فإنّ المقابلة قد يتركّب بالطّباق وقد يتركّب مما هو يلحق بالطّباق. ومقابلة الخمسة بالخمسة كقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي الآيات قابل بين بعوضة فما فوقها وبين فأمّا الذين آمنوا، وأمّا الذين كفروا وبين يضلّ ويهدي وبين ينقضون وميثاقه ويقطعون وأن يوصل. ومقابلة الستّة بالستّة كقوله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ الآية ثم قال: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ الآية. قابل الجنات والأنهار والخلد والأرواح والتطهير والرضوان بإزاء النساء والبنين والذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث. وقسّم بعضهم المقابلة إلى ثلاثة أنواع: نظيري ونقيضي وخلافي. مثال الأول مقابلة السّنة بالنوم في قوله تعالى: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ فإنّهما من باب الرّقاد المقابل باليقظة في آية وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ فهذه الآية مثال النقيضي. ومثال الخلافي مقابلة الشّر بالرشد في قوله تعالى وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً فإنّهما خلافان لا نقيضان، فإن نقيض الشر الخير والرشد البغي. قال ابن أبي الأصبع: الفرق بين الطّباق والمقابلة من وجهين: أحدهما أنّ الطباق لا يكون بين ضدين فقط والمقابلة لا يكون إلّا بما زاد من الأربعة إلى العشرة وثانيهما أنّ الطّباق لا يكون بالأضداد والمقابلة تكون بالأضداد وبغيرها.
قال السّكّاكي ومن خواصّ المقابلة أنّه إذا شرط في الأول أمر شرط في الثاني ضدّ ذلك الأمر نحو فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى الآية. فإنّه لما جعل في الأول التيسير مشتركا بين الإعطاء والاتقاء والتصديق جعل ضده مشتركا بين أضدادها، فعلى هذا لا يكون البيت المذكور سابقا من المقابلة عنده لأنّه اشترط في الدين والدنيا الاجتماع ولم يشترط في الكفر والإفلاس ضده. وقال السّيّد السّند ظاهر هذا الكلام أنّه لا يجب أن يكون في المقابلة شرط لكن إذا اعتبر في أحد الطرفين شرط وجب اعتبار ضدّه في الطرف الآخر. ثم إنّ السّكاكي مثّل في المطابقة بقوله تعالى: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً ولا شكّ أنّه مندرج عنده في المقابلة أيضا إذ لم يجب فيها اعتبار الشرط، ومن ذلك يعلم انتفاء التباين بين المطابقة والمقابلة. فإذا تؤمّل في أحدهما عرف كونها أخصّ من المطابقة. هذا كله خلاصة ما في المطول وحواشيه والاتقان.
وقد يطلق المقابلة على المشاكلة أيضا كما مرّ؛ وعلى هذا وقع في البيضاوي معنى قوله تعالى اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ أي يجازيهم على استهزائهم سمّى جزاء الاستهزاء باسمه كما سمّى جزاء السّيّئة سيئة بمقابلة اللفظ باللفظ.
وعند الحكماء هي امتناع اجتماع شيئين في موضوع واحد من جهة واحدة ويسمّى بالتقابل أيضا، والشيئان يسمّيان بالمتقابلين وهو قسم من التخالف، وليس المراد بامتناع الاجتماع امتناعه في نفس الأمر لأن المفهومين المتخالفين قد يمتنع اجتماعهما في نفس الأمر مع عدم تقابلهما كالموت مع العلم والقدرة بل امتناع الاجتماع في العقل بأن لم يجوّز العقل اجتماعهما. ثم امتناع تجويز الاجتماع الذي هو عبارة عن حصول الشيئين معا إمّا بامتناع تجويز الحصول أو بامتناع المعية، والأول ليس بمراد إذ المتقابلان لا يمتنع حصولهما في المحلّ فضلا عن التجويز فتعيّن الثاني، وامتناع تجويز معيّتهما في المحلّ يستلزم تجويز تعاقبهما فصار معنى التعريف أنّ العقل إذا لاحظهما وقاسهما إلى موضوع شخصي جوّز بمجرّد ملاحظتهما ثبوت كلّ واحد منهما فيه على سبيل التبدّل دون الاجتماع من جهة واحدة، واندفع ما قيل إنّ المعتبر في مفهوم المتقابلين نسبة كلّ منهما إلى محلّ واحد. وأمّا أنّه يجب أن يجوّز العقل ثبوت كلّ منهما فيه بدلا عن الآخر فلا، والمراد بمجرّد الملاحظة أن لا يلاحظ ما في الواقع من ثبوت أحدهما لا أن لا يلاحظ شيء آخر سوى المفهومين حتى يلزم قطع النظر عمّا هو خارج عنهما فلا يرد ما قيل إنّ العقل يجوّز ثبوت الوحدة والكثرة مثلا بمجرّد النظر إلى مفهوميهما، وعدم التجويز إنّما كان بملاحظة أنّ محل الوحدة جزء لمحل الكثرة فتحقّق المقابلة بالذات بين الوحدة والكثرة مع أنّه لا تقابل بالذات بينهما كما تقرّر. والمراد بامتناع الاجتماع امتناعه بحسب الحلول لا بحسب الصدق والحمل فإنّ امتناع الاجتماع من حيث الصدق قد يسمّى تباينا فلا يدخل نحو الإنسان والفرس في المتقابلين بخلاف مفهومي البياض واللابياض فإنّه يمتنع اجتماعهما باعتبار الحلول في محلّ واحد. إن قلت اللابياض ليس له حلول من المحل لأنّه مختص بالموجودات، قلت: الحلول أعمّ من أن يكون حقيقيا أو شبيها به، واتصاف المحلّ باللابياض اتصاف خارجي شبيه بالحلول، فالمراد بالاجتماع الاتصاف سواء كان بطريق الحلول أو لا.
وأجاب شارح حكمة العين عنه بتعميم امتناع الاجتماع حيث قال: عدم الاجتماع أعمّ من أن يكون بحسب الوجود أو بحسب القول والحمل، وفيه ما عرفت. وقيد من جهة واحدة لإدخال المتضايفين كالأبوّة والبنوّة العارضتين لزيد من جهتين، فعلى هذا لا تضاد في الجواهر إذ لا موضوع لها، فإنّ الموضوع هو المحل المستغني عمّا يحلّ فيه، فالجسم والهيولى والمفارق ليس لها محل، والصورة النوعية والجسمية وإن كان لهما محل لكنهما ليسا مستغنيين عنه. واعتبر بعضهم المحل مطلقا ولذلك أثبت التّضاد بين الصور النوعية للعناصر بخلاف الصور الجسمية لتماثلها، وبخلاف الصور النوعية للأفلاك لاختصاص كلّ صورة منها بمادتها لا يمكن زوالها عن مادتها، فلا يصحّ اعتبار نسبتها إلى محلّ واحد بالشخص يجوز العقل تواردهما عليه فلا تقابل بينهما.

التقسيم:
المتقابلان إمّا وجوديان أي ليس السلب داخلا في مفهوم شيء منهما أو لا، وعلى الأول إمّا أن يعقل كلّ منهما بالقياس إلى الآخر فهما المتضايفان أو لا، فهما المتضادان. وعلى الثاني يكون أحدهما وجوديا والآخر عدميا فإمّا أن يعتبر في العدمي محلّ قابل للوجودي فهما العدم والملكة وإلّا فهما السّلب والإيجاب، فالتقابل أربعة أقسام: تقابل التضاد وتقابل التضايف، وقد سبقا، وتقابل العدم والملكة وتقابل السلب والإيجاب. ثم المتقابلان تقابل العدم والملكة قسمان لأنّهما إن اعتبر نسبتهما إلى قابل للأمر الوجودي واعتبر قبوله لذلك الأمر في ذلك الوقت فهما العدم والملكة المشهوريان كالكوسج فإنّه عدم اللحية عمّا من شأنه في ذلك الوقت أن يكون ملتحيا، بخلاف الأمرد فإنه لا يقال له كوسج إذ ليس من شأنه اللحية في ذلك الوقت، وإن اعتبر نسبتهما إليه واعتبر قبوله له أعمّ من ذلك، سواء كان بحسب شخصه في ذلك أو قبله أو بعده أو بحسب نوعه كالعمى للأكمه وعدم اللحية للمرأة، أو بحسب جنسه القريب كالعمى للعقرب فإنّ البصر من شأن جنسها القريب كالحيوان أو جنسه البعيد كالسكون المقابل للحركة الإرادية للجبل فإنّ جنسه البعيد أعني الجنس الذي هو فوق قابل للحركة الإرادية فهما العدم والملكة الحقيقيتان. فالعدم الحقيقي هو عدم كلّ معنى وجودي يكون ممكنا للشيء بحسب الأمور الأربعة والعدم المشهوري هو ارتفاع المعنى الوجودي بحسب الوقت الذي يمكن حصوله فيه، فالمتقابلان تقابل العدم والملكة هما المتقابلان تقابل السّلب والإيجاب باعتبار النسبة إلى المحل القابل وهو المذكور في التجريد.

لكن قال المحقّق الدّواني: إنّ مجرّد امتناع الاجتماع بالنسبة إلى الموضوع القابل لا يكفي في العدم والملكة، بل لا بد مع ذلك أن تكون النسبة إليه مأخوذة في مفهوم العدمي.
فائدة:
المتقابلان تقابل التضاد قد يتقابلان باعتبار وجودهما في الخارج بالنسبة إلى محلّ واحد كالسواد والبياض ولا يلزم كونهما موجودين بل أن يكون السلب جزءا من مفهومهما، وكذا الحال في المتضايفين عند من قال بوجود الإضافات في الخارج. وأمّا على مذهب من قال بعدمها مطلقا فالتقابل بينهما باعتبار اتصاف المحلّ بهما في الخارج، وكذا الحال في العدم والملكة كالبصر مثلا فإنّه بحسب الوجود الخارجي في المحل يقابل العمي بحسب اتصاف المحل به بخلاف الإيجاب والسّلب فإنّه لا يكون لهما وجود في الخارج أصلا لأنّهما أمران عقليان واردان على النسبة التي هي عقلية أيضا لأنّهما بمعنى ثبوت النسبة وانتفائها الذين هما جزء القضية، وقد يعبّر عنهما بوقوع النسبة ولا وقوعها أيضا، فهما يوجدان في الذهن حقيقة أو في القول إذا عبّر عنهما بعبارة مجازا، وهذا معنى ما قيل إنّ تقابل الإيجاب والسلب راجع إلى القول والعقد أي الاعتقاد وليس المراد بالإيجاب والسلب هاهنا إدراك الوقوع وإدراك اللاوقوع إذ هما بهذا المعنى متقابلان تقابل التضاد لكونهما قسما من العلم قائمين بالذهن قيام العرض بمحله.
فائدة:

قال الشيخ في الشفاء: المتقابلان بالإيجاب والسلب إن لم يحتملا الصدق والكذب فبسيط كالفرسية واللافرسية وإلّا فمركّب، كقولنا زيد فرس وزيد ليس بفرس انتهى. وهذا كلام ظاهري إذ لا تقابل بين الفرسية واللافرسية إلّا باعتبار وقوع تلك النسبة إيجابا ولا وقوعها سلبا فيرجعان حينئذ إلى القضيتين بالقوة، وإذا اعتبر مفهوم الفرسية ولم يلاحظ معه نسبة بالصدق على شيء بأن يكون مفهوم اللافرسية حينئذ هو مفهوم كلمة لا مقيّدا بمفهوم الفرسية ولا سلب في الحقيقة هاهنا إذ السلب رفع الإيجاب، والإيجاب إنّما يرد على النسبة وهو ظاهر، فكذا السلب. فإذا عبرت عن مفهوم واحد ولم تعتبر معه نسبته إلى مفهوم آخر لا يمكنك تصوّر وقوع أو لا وقوع متعلّق بذلك المفهوم الواحد ضرورة. فمفهوما الفرسية واللافرسية المأخوذان على هذا الوجه متباعدان في أنفسهما غاية التباعد ومتدافعان في الصدق على ذات واحدة فهما متقابلان بهذا الاعتبار.
وبالجملة فمبنى كلام الشيخ على تشبيه الاعتبار الثاني بالاعتبار الأول في كون المفهومين في كلّ منهما في غاية التباعد، فيراد بالإيجاب وجود أيّ معنى كان سواء كان وجوده في نفسه أو وجوده بغيره، وبالسلب لا وجود أي معنى كان سواء كان لا وجوده في نفسه أو لا وجوده بغيره.
فائدة:
التقابل بالذات بمعنى انتفاء الواسطة في الإثبات والثبوت والعروض إنّما هو بين الإيجاب والسّلب وغيرهما من الأقسام إنّما يثبت التقابل فيها لأنّ كلّ واحد منها مستلزم لسلب الآخر، ولولا ذلك الاستلزام لم يتقابلا، فإنّ معنى التقابل ذلك الاستلزام فتقابل الإيجاب والسلب أقوى. وقيل بل هو التضاد إذ في المتضادين مع السّلب الضمني أمر آخر وهو غاية الخلاف المعتبرة في التضاد الحقيقي.
والمراد بالذات في قولهم تقابل الوحدة والكثرة ليس بالذات انتفاء الواسطة في العروض، ولا تقابل بين الأعدام لامتناع كون العدم المطلق مقابلا للعدم المطلق، وإلّا لزم تقابل الشيء لنفسه، وكذا للعدم المضاف لكونه جزءا منه.
فائدة:
المتقابلان بالإيجاب والسلب يكون أحدهما كاذبا فقط وهو ظاهر وسائر المتقابلين يجوز أن يكذبا، أمّا المضافان فبخلوّ المحلّ عنهما كقولك زيد بن عمر أو ابوه إذا لم يكن واحدا منهما واما العدم والملكة فلذلك أيضا اما المشهوريان فكقولك بصير أو أعمى للجنين، وأمّا الحقيقيان فكقولك للهواء البحت مستنير أو مظلم، وأمّا الضدان فعند عدم المحلّ كقولك لزيد المعدوم هو أبيض أو أسود وعند وجود المحلّ أيضا لاتصافه بالوسط كالفاتر للماء الذي ليس بحار ولا بارد، أو لخلوّه عن الوسط كالشفاف فإنّه خال عن السواد والبياض إذ لا لون له، هذا كلّه خلاصة ما في شرح المواقف وحاشيته للمولوي عبد الحكيم وشرح حكمة العين.

خَطط

خَطط
{الخَطُّ: الطَّريقَةُ المُسْتَطيلَةُ فِي الشَّيْءِ وقِيل: هُوَ الطَّريقُ الخَفيفُ فِي السَّهْلِ. وَقَدْ أَعادَه المُصَنِّفِ ثَلَاث مَرَّاتٍ، وَهُوَ إيّاه، وَهُوَ غَريبٌ، ج:} خُطوطٌ، وَقَدْ جمعه العَجَّاجُ عَلَى {أَخْطاط فَقَالَ: وشِمْنَ فِي الغُبارِ} كالأخْطاطِ و {الخَطُّ: الكَتْبُ بالقَلَمِ، خَطَّ الشَّيْءَ} يَخُطُّه {خَطًّا: كَتَبَه بقَلَمٍ، أَو غَيْرِه، قالَ امرؤُ القَيس:
(لِمَنْ طَلَلٌ أَبْصَرْتُه فَشَجاني ... } كخَطِّ الزَّبورِ فِي عَسيبِ يَمانِ)
وأَمّا قَوْلُ الشَّاعِر:
(فأَصْبَحتْ بَعْدَ {خَطَّ بَهْجَتها ... كأَنَّ قَفْراً رُسومَها قَلَما)
أَراد: فأَصْبَحَتْ بعد بَهْجَتِها قَفْراً، كأَنَّ قَلَماً خَطَّ رُسومَها. وَمن المَجَازِ: الخَطُّ: ضَرْبٌ من الجِماع، وقَد} خَطَّها قُساحاً، والقَسْحُ بقاءُ الإنْعاظِ، نَقَله اللَّيْثُ، كَمَا فِي التَّهْذيب. وَمن المَجَازِ: الخَطُّ: ضِدُّ الحَطِّ، وَهُوَ الأَكْلُ القَليلُ، وبالحاءِ: الكَثير، {كالتَّخْطيطِ، ومِنْهُ حَديثُ ابْن أُنيسٍ: ذَهَب بِي رَسُولُ الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلّم إِلَى مَنْزلهِ، فدَعا بطَعامٍ قَليلٍ، فجَعلْتُ} أُخَطِّطُ حتَّى يَشْبَعَ رَسُولُ الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلّم أَي: {أَخُطُّ فِي الطَّعامِ، أُريهِ أَنِّي آكُلُ ولَسْتُ بآكِلٍ، ووَصَف أَبُو المَكارِم مَدْعاةً دُعِيَ إِلَيْهَا، قالَ: فحَطَطْنا ثمَّ} خَطَطْنا. والخَطُّ: الطَّريقُ عَن ثَعْلَبٍ، يُقَالُ: الْزَمْ ذَلِك {الخَطَّ وَلَا تَظْلِم عَنهُ شَيْئاً، ويُقَالُ: هُوَ بالضَّمِّ، كَمَا سَيَأْتِي، ويُروى بالوَجْهَيْنِ قَوْلُ أَبي صَخْرٍ الهُذَليِّ:
(صُدودَ القِلاصِ الأُدْمِ فِي لَيْلَةِ الدُّجَى ... عَن الخَطِّ لم يَسْرُبْ لَها الخَطَّ سارِبُ)
وَقَالَ سَلامَةُ بنُ جَنْدَلٍ:
(حتَّى تُرِكْنا وَمَا تُثْنَى ظَعائِنُنا ... يأخُذْنَ بَيْنَ سَوادِ الخَطِّ فاللُّوبِ)
وَقَالَ ابْن سِيدَه: الخَطُّ سيفُ البَحْرَيْنِ وعُمانَ أَو كُلُّ سيفٍ: خَطٌّ، وَقَالَ الأّزْهَرِيّ: وَذَلِكَ السِّيفُ كُلُّه يُسَمَّى الخَطّ. وَمن قُرَى الخَطِّ: القَطيفُ، والعُقَيْرُ، وقَطَرُ. وقِيل فِي قَوْلِ امرِئِ القَيْس:
(فإنْ تَمْنَعوا مِنّا المُشَقَّرَ والصَّفا ... فإِنَّا وَجَدْنا الخَطَّ جَمًّا نَخيلُها)
هُوَ خَطُّ عبدِ القَيْسِ بالَبحْرَيْن، وَهُوَ كَثيرُ النَّخيلِ. والخَطُّ، أَيْضاً: ع، باليَمامَةِ، وَهُوَ خَطُّ هَجَرَ، تُنْسَبُ إِلَيْهِ الرِّماحُ الخَطِّيّة لأنَّها تُحْمَلُ من بِلادِ الهِنْدِ، فتُقَوَّمُ بِهِ. كَذَا فِي الصّحاح. وَقَالَ ابْن سِيدَه: وقِيل: الخَطُّ مَرْفَأُ السُّفُنِ بالبَحْرَيْن، قالَ غيرُه: وَقَدْ يُكْسَرُ، وَفِيه نَظَرٌ، فإِنَّه إنَّما يُكْسَرُ)
عِنْد إرادَةِ الاسْمِيَّة، كَمَا يَأْتِي عَن اللَّيْثُ، فتأمَّل. قالَ ابْن سِيدَه: وإلَيْهِ نُسِبَتْ الرِّماحُ يُقَالُ رُمْحٌ} خَطِّيٌّ، ورِماحٌ {خَطِّيَّة} وخِطِّيَّة عَلَى الْقيَاس، وعَلى غيرِ القِياس، لأنَّها تُباعُ بِهِ، لَا أَنَّه مَنْبِتُها، كَمَا قَالُوا: مِسْكُ دارينَ، وَلَيْسَ هُنالك مِسْكٌ، ولكنَّها مَرْفَأُ السُّفُنِ الَّتِي تَحْمِلُ المِسْكَ من الهِنْد.
وَقَالَ اللَّيْثُ: الخَطُّ أَرْضٌ تُنْسَب إِلَيْهَا الرِّماح الخَطِّيّة، فَإِذا جَعلتَ النِّسْبةَ اسْما لازِماً قُلْتَ: خِطِّيَّةٌ، وَلم تَذْكُرِ الرِّماحَ، وَهُوَ خَطُّ عُمانَ، كَمَا قَالُوا: ثِيابٌ قِبْطِيَّة، فَإِذا جَعَلوها اسْما قَالُوا: قُبْطِيَّةٌ، بتَغْيير النَّسب، وامرأةٌ قِبْطِيَّةٌ لَا غير، لَا يُقَالُ إلاَّ هَكَذا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: {الخَطِّيُّ: الرِّماحُ، وَهُوَ نِسْبةٌ، قَدْ جَرَى مَجْرى الاسمِ العَلَمِ، ونُسِبتْ إِلَى الخَطّ خَطِّ البَحْرَيْنِ، وإِلَيْه تَرْفأُ السُّفُن إِذا جاءَت من أرضِ الهِنْدِ وَلَيْسَ الخِطِّيّ الَّذي هُوَ الرِّماحُ من نباتِ أَرْضِ العَرَب. وَقَدْ كَثُرَ مَجيئُه فِي أَشْعارِها قالَ الشَّاعِر فِي نبَاتِه:
(وهَلْ يُنْبِتُ الخَطِّيُّ إلاَّ وَشِيجَةً ... وتُغْرَسُ إلاَّ فِي مَنَابِتِها النَّخْلُ)
وَفِي العُبَاب قالَ عَمْرو بن كُلْثوم:
(بسُمْرٍ من قَنَا الخَطِّيِّ لُدْنٍ ... ذَوابِلَ أَو ببِيضٍ يَخْتلِينَا)
وَقَالَ غيرُه:
(ذَكَرْتُكِ} - والخَطِّيُّ يَخْطِرُ بَيْنَنا ... وَقَدْ نَهِلَتْ مِنَّا المُثَقَّفَةُ السَّمْرُ)
وجَبَلُ الخُطِّ، بالضَّمِّ ويُفْتَحُ: أَحدُ الأَخْشَبَيْن بمكَّةَ، شرَّفَها الله تَعالَى. وَقَالَ أَبُو عَمْرو: الخُطُّ: مَوْضِعُ الحَيِّ. والخُطُّ: الطَّريقُ الشارِعُ ويُفْتحُ، وَهَكَذَا ضُبِطَ بالوجْهَيْن فِي الجَمْهَرَةِ، ويُروَى بالوَجْهَين قَوْلُ أَبي صَخْرٍ الهُذَلِيّ، وَقَدْ تَقَدَّم. والخِطُّ، بالكَسْرِ: الأرْضُ الَّتِي لم تُمْطَرُ وَقَدْ مُطِرَ مَا حولَها، عَن أَبي حَنِيفَةَ. والخِطُّ: الأَرْضُ الَّتِي تُنْزِلُها وَلم يَنْزِلُها نازِلٌ قبْلَكَ، عَن ابنِ دُرَيْدٍ، {كالخِطَّةُ، بزِيادَةِ الْهَاء، وإِنَّما كُسِرت الخاءُ مِنْهَا لأَنَّها أُخْرِجتْ عَلَى مصدَرٍ بُنِيَ عَلَى فِعله.
وجمعُ الخِطَّة:} خِطَطٌ، وَقَدْ {خَطَّها لنَفْسهِ} خَطًّا {واخْتَطَّها وَهُوَ أَن يُعلِمُ عَلَيْهَا علامَةً} بالخَطِّ ليُعْلَمَ أَنَّه قَدْ اخْتارَها ليَبْنِيَها دَارا، ومِنْهُ {خِطَطُ البصرَةِ والكوفَةِ، نَقَلَهُ الجَوْهَرِيّ. قُلْتُ: وَلِهَذَا سَمَّى المَقْرِيزِيُّ كتابَه} الخِطَط. وَحكى ابنُ بَرِّيّ عَن ابنِ دُرَيْدٍ أَنَّه يُقَالُ خِطٌّ: للمكان الَّذي {يَخْتَطُّه لنَفسِه، من غيرِ هاءٍ، يُقَالُ: هَذَا خَطُّ بني فُلانٍ. وكلُّ مَا حَظرْتهُ، أَي مَنَعْتَه فَقَدْ} خَطَطْتَ عَلَيْهِ.
{والخَطيطَةُ: الأَرْضُ الَّتِي لم تُمْطَر بَيْنَ أَرْضَينِ مَمْطورَتَيْنِ، وَقَالَ ابنُ شُمَيْلٍ: هِيَ الَّتِي يُمْطَرُ مَا حولَها وَلَا تُمْطَر هِيَ، أَو هِيَ الَّتِي مُطِرَ بعضُها دونَ بعضٍ. والجَمْعُ:} خَطَائِطُ، وأَنْشَدَ أَبُو) عُبَيْدَةَ لهمْيانَ بنِ قُحافَةَ: عَلَى قِلاَصٍ تَخْتَطِي {الخَطَائطَا يَتْبَعْنَ مَوَّارَ المِلاَطِ مَائِطَا وَقَالَ الكُمَيْتُ:
(قِلاَتٌ} بالخَطِيطَةِ جاوَرْتُها ... فنَضَّ سِمالُها العَيْنُ الذَّرُورُ)
{والخُطَّةُ: بالضَّمِّ: شِبْهُ القِصَّةِ، وَفِي الصّحاح: الخُطَّة: الأَمْرُ والقِصَّةُ، وزادَ غيرُه: والحالُ والخَطبُ، وَفِي اللّسَان: يُقَالُ: سُمْتُه} خُطَّةَ خَسْفٍ {وخُطَّةَ سَوْءٍ، وأَنْشَدَ الجَوْهَرِيّ لتأَبَّطَ شَرًّا:
(هُما} خُطَّتَا إِمَّا إِسارٍ ومِنَّةٍ ... وإِمَّا دَمٌ والقَتْلُ بالحُرِّ أَجْدَرُ)
أَرادَ {خُطَّتان، فحذَفَ النُّونَ اسْتِخْفافاً، كَذَا فِي الصِّحَاح، وَفِي حَدِيث الحُدَيْبِيَةِ: لَا يسْأَلوني} خُطَّةً يُعَظِّمون فِيهَا حُرُماتِ الله إلاَّ أَعْطَيْتُهم إِيَّاها. وَفِي حديثِها أَيْضاً: قَدْ عَرَضَ عليكُم خُطَّةَ رُشْدٍ فاقْبَلُوها أَي أَمراً واضِحاً فِي الهُدى والاسْتِقامَة. و! الخُطَّةُ: الجَهْلُ، يُقَالُ: فِي رأْسِهِ خُطَّةٌ، أَي جَهْلٌ، وقِيل: أَمْرٌ مَا. وَقَالَ الفَرَّاءُ: الخُطَّة: لُعْبَةٌ للأَعْرابِ. وَفِي الصّحاح: الخُطَّةُ من الخَطِّ، كالنُّقْطَةُ من النَّقْطِ، أَي اسمُ ذَلِك. والخُطَّةُ: الإِقْدامُ عَلَى الأُمورِ، يُقَالُ: جاءَ وَفِي رأْسِهِ خُطَّةٌ إِذا جاءَ وَفِي نفسِهِ حاجَةٌ وَقَدْ عَزَم عَلَيْهَا، والعامَّةُ تَقول: خُطْبةٌ، كَذَا فِي الصّحاح، زَاد فِي اللّسَان: وكلامُ العربِ الأَوَّلُ، وَفِي العُبَاب: قالَ القُحَيْفُ العُقَيْلِيّ:
(وَفِي الصَّحْصَحِيِّين المُوَلِّينَ غُدْوَةٌ ... كَوَاعِبُ من بَكْرٍ تُسَامُ وتُجْتَلَى)
قالَ:! بخَطِّ ابنِ حَبيبٍ النَّسَّابَةِ فِي شِعْرِ القُحَيْف خُطَّةٌ وَفِي نوادِرِ أَبي زَيْدٍ: خِطْبَةً. قُلْتُ: فإنْ صَحَّ مَا فِي نَوادِرِ أَبي زَيْدٍ فنِسْبَةُ الجَوْهَرِيّ إِيَّاها للعامَّةِ محلُّ نَظَرٍ. قالَ الجَوْهَرِيّ: وَفِي حديثِ قَيْلَةَ نبتِ مَخْرَمَةَ التَّميميَّة: أَيُلامُ ابنُ هَذِه أَنْ يَفْصِلَ الخُطَّةَ ويَنْتَصِرَ مِنْ وراءِ الحَجَزَة أَي أَنَّهُ إِذا نزَلَ بِهِ أَمرٌ مُلْتَبِسٌ مُشْكِل لَا يُهْتَدَى لَهُ، إِنَّهُ لَا يَعْيَا بِهِ، ولكنَّه يَفْصِله حتَّى يُبْرِمَه ويخرُجُ مِنْهُ.
وخُطَّةُ، بِلَا لامٍ: اسمُ عَنْزِ سَوْءٍ، عَن الْأَصْمَعِي، قالَ: ومِنْهُ المَثَلُ: قَبَحَ الله مِعْزَى خَيْرُها خُطَّةُ، نَقَلَهُ الجَوْهَرِيّ. وَقَالَ الصَّاغَانِيُّ: يُضربُ لقوْمٍ أَشْرارٍ يُنسبُ بعضُهم إِلَى أَدْنى فضِيلَةٍ، وَفِي اللّسَان: قالَ الأَصْمَعِيّ: إِذاوقالَ اللَّيْثُ: وحَلْبَسٌ {الخَطَّاطُ: اسمُ رجلٍ زاجِرٍ مَشْهورٍ، وَهُوَ الَّذي أَتاه الثَّوْرِيُّ وسأَله فخَبَّره بكُلِّ مَا عَرَفَ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: سهَّلَ عليَّ ذَلِك الحديثَ الَّذي يرْويهِ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْه، عَن النَّبِيّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلّم: كانَ نبِيٌّ من الأَنْبِياءِ} يَخُطُّ قالَ الصَّاغَانِيُّ: هَكَذا قالَهُ اللَّيْثُ. وأَمَّا الحَدِيث فرَاوِيهِ مُعاوِيَةُ بنُ الحَكَمِ السُّلَمِيُّ. قُلْتُ: وَهَكَذَا فِي النِّهايَةِ، ولعلَّهُ رُوِيَ مِنْ طَريقٍ آخَرَ إِلَى أَبي هُرَيْرَةَ أَيْضاً. وَلم نطَّلِعْ عَلَيْهِ، فتأَمَّلْ. وقالَ البَعِيثُ:
(أَلا إنَّما أَزْرَى بِحارَــك عامِداً ... سُوَيْعٌ كخطَّافِ {الخَطيطَةِ أَسْحَمُ)
كَذَا فِي اللّسَان، وَلم يُفَسِّرْه، وعِنْدي أنَّ الخَطيطَةَ هُنا هِيَ الرَّمْلَة الَّتِي} يَخُطُّ عَلَيْهَا الزّاجِرُ، وأَسْحَم: اسمُ خَطٍّ من خُطوطِ الزَّاجِرِ، وَهُوَ عَلامةُ الخَيْبَةِ عِنْدَهم، وَذَلِكَ أَنْ يأتيَ إِلَى أَرْضٍ رِخْوَةٍ، وَله غُلامٌ مَعَه مِيلٌ فيَخُطَّ الأُسْتاذُ خُطوطاً كثيرَةً بالعَجَلَة، لِئَلاَّ يَلْحَقَها العَدَدُ، ثمَّ يَرْجِع فيَمْحو مِنْهَا عَلَى مَهَلٍ خَطَّيْنِ خَطَّيْنِ، فإنْ بَقِيَ من الخُطوطِ {خَطّانِ فهُما علامَةُ النُّجْحِ وقَضاءِ الحاجَةِ، قالَ: وَهُوَ يَمْحو وغُلامهُ يَقُولُ للتّفاؤُل: ابْنَيْ عِيان أَسْرِعا البَيان، قالَ ابنُ عَبّاسٍ: فَإِذا مَحا الخُطوطَ فبَقِيَ مِنْهَا خَطٌّ واحدٌ فَهِيَ علامَةُ الخَيْبَةِ. وَقَدْ رَوَى مِثْلَُ ذَلِك أَبُو زَيْدٍ، وَاللَّيْث.
وخَطَّ برِجْلِه الأرْضَ: مَشَى، وَهُوَ مَجازٌ، قالَ أَبُو النَّجْمِ: أَقْبَلْتُ مِنْ عندِ زِيادٍ كالخَرِفْ} تَخُطُّ رِجْلايَ! بخَطٍّ مُخْتَلِفْ تُكَتِّبان فِي الطَّريقِ لامَ أَلِفْ والخَطوط، كصَبورٍ، من بَقَرِ الوَحْشِ: الَّتِي تَخُطُّ الأرْضَ بأَظْلافِها، نَقَلَه الجَوْهَرِيّ، وكَذلِكَ كُلُّ دابّةٍ، كَمَا فِي اللّسَان. والعَجَبُ من المُصَنِّفِ كَيْفَ أَهْمَلَه، وَهُوَ مَوْجودٌ فِي العُبَاب أَيْضاً. ويُقَالُ: فُلانٌ يَخُطُّ فِي الأرْضِ، إِذا كانَ يُفَكِّر فِي أَمْرِه ويُدَبِّرهُ، وَهُوَ مَجازٌ، قالَ ذُو الرُّمَّة:
(عَشِيَّةَ مَالِي حيلَةٌ غيرَ أَنَّني ... بِلَقْطِ الحَصَى {والخَطِّ فِي الدّارِ مولَعُ)

(} أَخُطُّ وأَمْحو {الخَطَّ ثمَّ أُعيدُه ... بكَفِّيَ والغِرْبانُ فِي الدَّارِ وُقَّعُ)
} والمِخْطاطُ: عودٌ تُسَوَّى عَلَيْهِ الخُطوطُ، نَقَلَهُ الجَوْهَرِيّ، والعَجَبُ من المُصَنِّفِ كَيْفَ أَهْمَلَه وَهُوَ مَوْجودٌ فِي العُبَاب أَيْضاً. وكِتابٌ مَخْطوطٌ: مكتوبٌ فِيهِ. وعَلى ظَهْر الحِمار خُطَّتانِ، بالضَّمِّ، أَي جُدَّتانِ، كَمَا فِي الأَسَاسِ، وهُما طَريقَتان مُسْتَطيلَتان تُخالِفانِ لَوْنَ سائِر الجَسَد. وخَطّ الله نَوْءها، من الخَطيطَة، وَهِي الأرْضُ الغَيْرُ المَمْطورَةِ، هَكَذا رُوِيَ فِي حَديثِ ابْن عَبّاسٍ، قالَهُ) أَبُو عُبَيْدٍ: ويُرْوَى خَطَّأَ أَي جَعَلَه مُخْطِئاً لَهَا لَا يُصيبُها مَطَرُه، ويُرْوَى {خَطَّى، وأَصْلُه} خَطَّط، كتَقَضَّى الْبَازِي والأُولَى أَضْعَفُ الرِّواياتِ. ويُقَالُ: الْزَمْ! خَطيطَةَ الذُّلِّ مَخافَةَ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ، نَقَلَه ابْن الأَعْرَابِيّ من قَوْلِ بعضِ العَرَبِ لابنِه. وَهُوَ مَجازٌ، استعارها للذُلِّ، لأنَّ الخَطيطَةَ من الأرَضينَ ذَليلَةٌ بِمَا بَخَسَته الأمْطارُ من حَقِّها، كَذَا فِي المُحْكَمِ. وَعَن ابْن الأَعْرَابِيّ: الأَخَطُّ: الدَّقيقُ المَحاسِنِ. ويُقَالُ: {خَطَطْتُ بالسَّيْفِ وَجْهَه، ووَسَطَه، وَهُوَ مَجازٌ. وكَذلِكَ} خَطَّهُ بالسَّيْفِ نِصْفَيْن. {والخَطيطُ، كأَميرٍ: قَريبٌ من الغَطيطِ، وَهُوَ صَوْتُ النّائم، والغَيْنُ والخاءُ يتقارَبان، يُقَالُ: خَطَّ فِي نَوْمِه، أَي غَطَّ فِيهِ. ويَوْمُ مُخَطَّطِ، كمُحَدِّثٍ: من أَيّامِهِم، عَن ابْن الأَعْرَابِيّ، وأَنْشَدَ:
(إلاَّ أَكُنْ لاقَيْتُ يومَ مُخَطِّطٍ ... فقَدْ خَبَّرَ الرُّكْبانُ مَا أَتَوَدَّدُ)
} والخُطَّة، بالضَّمِّ: الحُجَّة، كَمَا فِي العُبَاب، وَفِي النّوادِرِ: يُقَالُ: أَقِمْ عَلَى هَذَا الأمْرِ {بخُطَّةٍ، وبحُجَّةٍ، مَعْناهُما واحدٌ. وقولُهم: خُطَّةٌ نائِيَةٌ، أَي مَقْصِدٌ بَعيدٌ، كَمَا فِي الصّحاح. وَفِيه أَيْضاً: قَوْلُهُم: خُذْ خُطَّةً، أَي خُذْ خُطَّةَ الانْتِصاف، وَمَعْنَاهُ: انْتَصِفْ. وفُلانٌ يَبْني خُطَطَ المَكارِم، وَهُوَ مَجازٌ. وغُلامٌ} مُخْتَطٌّ، كمُخَطِّط، وَهُوَ مَجازٌ. وجاراهُ فَمَا خَطَّ غُبارَهُ، أَي مَا شَقَّ، كَمَا فِي الأَسَاسِ، واللِّسان، وَهُوَ مَجازٌ. قالَ الفَرَّاءُ: وَمن لُعَبِهم: تَيْسُ عَماءٍ! خُطْخوط، قالَ الصَّاغَانِيُّ: وَلم يُفَسِّرْها.

الماء

الماء: جسمٌ رقيقٌ مائعٌ يشرب وبه حَياةُ كل نامٍ قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30].
الماء: جوهر سيال يضاد النار برطوبته وبرودته. وقيل: الماء جسم لطيف بسيط شفاف يبرد غلة العطش، به حياة كل نام. وهو متحرك إلى المكان الذي تحت كرة الهواء، وفوق كرة الأرض. قال الحرالي: وهو أول ظاهر للعين من أشباح الخلق.الماء عند الأطباء: رطوبة غريبة تحتقن في ثقب العين بين الصفاق والرطوبة البياضية.
الماء:
[في الانكليزية] Water
[ في الفرنسية] Eau
بالفتح بمعنى أب وهمزته مبدلة من الهاء، وأصله موه بفتحتين، ويجمع على أمواه في القلّة ومياه في الكثرة كما في الصراح. وهو عند الفقهاء على نوعين ماء مطلق غير محتاج إلى قيد كماء الــبحار وهو يزيل النّجاسة الحقيقية والحكمية، وماء مقيّد محتاج إلى قيد كماء الثّمار وهو يزيل النجاسة الحقيقية فقط. وأمّا إن اختلط مائع به فإن غلب فمطلق، إلّا فمقيّد كذا في جامع الرموز. وفي شرح المنهاج فتاوى الشافعية: الماء المطلق ما لا يحتاج إلى قيد أي يمكن إطلاق اسم الماء عليه بلا قيد فلا يحتاج إلى زيادة قيد بأن يقال الماء المطلق ما لا يحتاج إلى قيد لازم كما ظنّ ليخرج المضاف إلى مقرّه وممرّه كماء البير والنهر. وقيل الماء المطلق هو الباقي على أوصاف خلقية انتهى.
ويطلق الماء في عرف الأطباء أيضا على رطوبة غريبة تحبس في الثّقب العيني بين الصفاق والرطوبة البيضية. وقيل الماء غلظ الرّطوبة البيضية.

زعرف

زعرف
بَحْرٌ زَعْرَفٌ، كَجَعْفَرٍ، أَهْمَلَهُ الجَوْهَرِيُّ، وصاحِبُ اللِّسَانِ، والصَّاغَانِيُّ فِي العُبَابِ هُنَا، وَفِي التَّكْمِلَةِ، وَقَالَ ابنُ عَبَّادٍ: أَي كَثِيرُ الْمَاءِ، والجَمْعُ: زَعَارِفُ، أَو هُوَ بِالْغَيْنِ المُعْجَمَةِ، وبِهِمَا فُسِّرَ قَوْلُ مُزَاحِمٍ العُقَيْلِيِّ:
(كصَعْدَةِ مُرَّانٍ جَرَى تَحْتَ ظِلِّها ... خَلِيجٌ أَمَدَّتْهُ الــبِحَارُ الزَّعَارِفُ)
وأَنْكَرَهَمَا أَبو حاتمٍ، وَرَوَى: المَحَاذِفُ، أَوْرَدَهُ الصَّاغَانِيُّ فِي العُبَابِ، فِي تَرْجَمَةِ غَرف اسْتِطْرَاداً، وسيأْتِي بَيَانُهُ.

السورة

السورة: هي الطائفة من القرآن المسمَّاة باسم خاص توقيفاً وأقله ثلاث آيات.
السورة
- 1 - قسم القرآن الكريم سورا، سمّيت كل منها باسم خاص، أخذ من بعض ما عالجته السورة من المعانى، أو مما تحدث عنه من إنسان وحيوان أو غيرهما، أو من بعض كلماتها.
والسورة القرآنية قد تكون ذات موضوع واحد تتحدث عنه، ولا تتجاوزه إلى سواه، مثل كثير من قصار السور، كسورة النبأ والنازعات والانشقاق، وكلها تتحدث عن اليوم الآخر، والهمزة والفيل وقريش، وهى تتحدث عن عقاب من يعيب الناس، وما حدث لأصحاب الفيل، وما أنعم الله به على قريش من نعمة الألفة.
وقد تتناول السورة أغراضا شتى، مثل معظم سور القرآن، وهنا نقف لنتبين أىّ الخطتين أقوم وأهدى: أن يرتب القرآن موضوعاته ويجعل كل سورة تتناول موضوعا واحدا معينا، فتكون سورة للأحكام وأخرى للتاريخ وثالثة للقصص ورابعة للابتهال، حتى إذا فرغت منه تناولت سورة أخرى غرضا آخر وهكذا، أو أن تتناثر أحكامه وقصصه ووعده ووعيده على النحو الذى انتهجه، والذى يبدو بادئ ذى بدء أن السلك الذى يربط بين آياته ضعيف الربط أو واهى التماسك؟
وللإجابة عن هذا السؤال يجب أن نعرف الهدف الذى إليه يرمى القرآن الكريم؛ لنرى أقوم الخطتين لتحقيق هذا الهدف والوصول به إلى جانب التوفيق والنجاح.
أما هدف القرآن الكريم فغرس عقيدة التوحيد في النفس، وانتزاع ما يخالف هذه العقيدة من الضمير، والدعوة إلى العمل الصالح المكوّن للإنسان المهذب الكامل، بسن القوانين المهذّبة للفرد، الناهضة بالجماعة.
وإذا كان ذلك هو هدف القرآن، فإن المنهج القرآنى هو الذى يحقق هذا الهدف فى أكمل صوره، وأقوى مظاهره، ذلك أنه لكى يحمل على اتّباع ما يدعو إليه يمزج دعوته بالحث على اتباعها، ويضرب المثل بمن اتبع فنجح، أو ضل فخاب، ويتبع الحديث عن المؤمنين بذكر بعض الأحكام التى يجب أن يتبعها هؤلاء المؤمنون، ويعقب ذلك بالترغيب والترهيب، ثم يولى ذلك بوصف اليوم الآخر وما فيه من جنة أو نار، وهو في كل ذلك يتكئ على الغريزة الإنسانية التى تجعل المرء خاضعا بالترغيب حينا، والترهيب حينا آخر، والقرآن حين يستمد شواهده من حوادث التاريخ لا يستدعيه ذلك أن ينهج منهج المؤرخين، فيتتبع الحادث من مبدئه إلى منتهاه، وينعم النظر في الأسباب والنتائج، ويقف عند كل خطوة من خطواته، ولكنه يقف من هذا الحادث عند الفكرة التى تؤيد غرض الآية، والجزء الذى يؤيد الهدف الذى ورد في الآيات، وقل مثل ذلك في القصة عند ما يوردها، فإنها تساق للهدف الذى تحدّثنا عنه، وهو من أجل ذلك ينظر إليها من زاوية بعينها، ولا يرمى غالبا إلى قص القصّة برمتها، وسوف نشبع الحديث في ذلك فيما يلى:
يتنقل القرآن إذا بين الأغراض المختلفة، لا اعتباطا وبلا هدف، ولكن لصلات وثيقة تربط بين هذه الأغراض، بحيث تتضافر جميعها في الوصول إلى الغاية القصوى وتحقيقها.
ولنبدأ في تفصيل ما أجملناه مبينين الصلات الوثيقة التى تربط آية بآية، ثم موضحين وجوه الترابط القوى بين الأغراض المختلفة في السورة الواحدة.
فقد تقع الآية الثانية صفة لكلمة في الآية الأولى كما في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (البقرة 26، 27). وقد تكون الآية الثانية توكيدا لفكرة الآية الأولى، كما تجد ذلك في قوله سبحانه: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (البقرة 94 - 96). وقد تكون الآية الثانية ردّا على ما في الآية الأولى كما في قوله تعالى: وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (البقرة 80، 81). وقد تحمل الآية الثانية فكرة مضادة لفكرة سابقتها، كما في قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ  وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (البقرة 24، 25). ولا ريب أن الجمع بين حكم المتضادين في الذهن يزيده جلاء ووضوحا.
وتأمل الصلة القوية بين هاتين الآيتين، وهى صلة الربط بين الحكم وحكمته فى قوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ وَلَكُمْ فِي
الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
(البقرة 178، 179). ويصف الكتاب ثمّ يحبّب في اتباعه مبغّضا إلى النفوس صورة منكريه، فيقول: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (البقرة 2 - 7). ويعقب توحيد الله بدلائل هذا التوحيد في قوله: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (البقرة 163، 164).
ويطول بى القول إذا أنا مضيت في الاستشهاد على بيان الصلات التى تربط آية بآية، ولكنى أشير هنا إلى أن إدراك هذه الصلة يتطلب في بعض الأحيان تريثا وتدبرا يسلمك إلى معرفة هذه الصلة وتبيّنها، ولكنك تصل- ولا ريب- إلى وثاقة هذا الارتباط ومتانته، وخذ لذلك مثلا قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (الأنفال 4، 5). فقد لا يظهر موضع الكاف ولا مكان الصلة بين الآية الثانية وما قبلها من الآيات، ولكن التأمل يهدى إلى أن القرآن يربط بين أمرين: أولهما ما بدا من بعض المسلمين من عدم الرضا بما فعله الرسول في قسمة الغنائم، وثانيهما ما كان قد ظهر من بعض المؤمنين من كراهية أن يخرج الرسول من منزله إلى الغزو، وقد تمّ في هذا الغزو النصر والغنيمة، فكأنه يقول إن الخير فيما فعله الرسول في قسمة الغنائم، كما كان الخير فيما قام به الرسول من خروجه إلى الغزو، وبذلك تبدو الصلة قوية واضحة بين الخبرين. ومن ذلك قوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (البقرة 114، 115). فقد تبدو الصلة منفصمة بين هذه الآيات، ولكنك إذا تأملت الآية الأولى وجدت فيها حديثا عن الذين لا يعلمون ولا يتلون الكتاب، وهؤلاء لا يعترفون بشيء مما أنزل الله، فهم يسعون في تقويض أسس الأديان جميعا، لا فرق عندهم بين دين ودين، وهم لذلك يعملون على أن يحولوا بين المسلمين وعبادة الله، ويسعون في تخريب بيوت عبادته، ومن هنا صحّ هذا الاستفهام الذى يدل على أنه لا أظلم من هؤلاء الذين لا يعلمون، وارتباط الآية الثالثة بما قبلها لدلالتها على أن عبادة الله ليست في حاجة إلى مسجد يقام، بل لله المشرق والمغرب، فحيثما كنتم ففي استطاعتكم عبادة الله؛ لأن ثمة وجه الله.
«قال بعض المتأخرين: الأمر الكلى المفيد لعرفان مناسبات الآيات في جميع القرآن هو أنك تنظر الغرض الذى سيقت له السورة، وتنظر ما يحتاج إليه ذلك الغرض من المقدمات، وتنظر إلى مراتب تلك المقدمات في القرب والبعد من المطلوب، وتنظر عند انجرار الكلام في المقدمات إلى ما يستتبعه من استشراف نفس السامع إلى الأحكام واللوازم التابعة له التى تقتضى البلاغة شفاء الغليل بدفع عناء الاستشراف إلى الوقوف عليها، فهذا هو الأمر الكلّى المهيمن على حكم الربط بين جميع أجزاء القرآن، فإذا عقلته تبين لك وجه النظم مفصلا بين كل آية وآية في كل سورة» .
ولكل سورة في القرآن هدف ترمى إليه، فتجد سورة الأنعام مثلا تتجه إلى إثبات توحيد الله ونبوّة رسوله، وإبطال مذاهب المبطلين وما ابتدعوه من تحليل حرام أو تحريم حلال؛ وتجد سورة الأعراف تتجه إلى الإنذار والاتّعاظ بقصص الأولين وأخبارهم، وتجد سورة التوبة تحدد علاقة المسلمين بأعدائهم من مشركين وأهل كتاب ومنافقين، وتجد سورة الحجر ترمى إلى إثبات تنزيل القرآن وترهيب المكذبين به، بقصّ أخبار المكذبين قبلهم، وهكذا تجد هدفا عامّا تدور حوله السورة، وتتبعه معان أخرى تؤكده ويستتبعها، ويخلص الإنسان في السورة من معنى إلى آخر خلوصا طبيعيّا لا عسر فيه ولا اقتسار. ولنحلل سورة من القرآن، نتبين فيها منهجه، وندرك مدى تأثير هذا المنهج فى النفس الإنسانية.
ففي سورة المزمل، والهدف منها تهيئة الرسول للدعوة، وإعداده لما سيلقاه في سبيلها من متاعب ومشاق، بدئت السورة بنداء الرسول، وتكليفه بما يعده لحمل أعباء الرسالة، فقال تعالى: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (المزمل 1 - 9). ألا تراه يعدّه بهذه الرّياضة النفسية الشاقة لتحمل أعباء الرسالة المضنية فليمض الليل أو جزءا منه في التهجد وقراءة القرآن، استعدادا لما سيلقى عليه من تكاليف شاقة ثقيلة، وإنما أمر الرسول بالتهجّد في الليل؛ لأن السهر فيه أشق على النفس، ولكنها تخلص فيه لله، وتفرغ من مشاغل النهار وصوارفه، وأمر بذكر الله، والإخلاص له تمام الإخلاص، فهو رب المشرق والمغرب، لا إله إلا هو.
بعد هذا الإعداد بالرياضة أراد أن يوطنه على تحمل الأذى في سبيل هذه الدعوة والصبر عليه، وينذر هؤلاء المكذبين بما سيجدونه يوم القيامة من عذاب شديد، وهنا يجد المجال فسيحا لوصف هذا اليوم وصفا يبعث الرهبة في النفس، والخوف في القلب، عساها تكف عن العناد، وتنصاع إلى الصواب والحق، ولا ينسى أن يضرب المثل من
التاريخ لمن كذّب وعصى، كى يكون عظة وذكرى، فقال:
وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (المزمل 10 - 18).
فأنت ترى الانتقال طبيعيّا من توطين الرسول على الأذى، ثم بعث الطمأنينة إلى نفسه بأن الله سيتكفل عنه بتأديب المكذبين، بما أعده الله لهم من عذاب أليم يوم القيامة، وتأمل ما يبعثه في النفس تصور هذا اليوم الذى ترتجف فيه الأرض، وتنهار الجبال فيه منهالة، وينتقل إلى الحديث عن عاقبة من كذب بالرسل من أسلافهم، ثم يتجه إليهم، موجّها لهم الخطاب يسألهم متعجبا، عما أعدوه من وقاية لأنفسهم يصونونها بها من هول يوم يشيب الطفل فيه من شدته، وحسبك أن ترفع الطرف إلى أعلى، فترى السماء التى أحكم بناؤها، قد فقدت توازنها وتصدّع بناؤها.
ويختم هذا الإنذار بجملة تدفع النفس إلى التفكير العميق، وتفتح أمامها باب الأمل والنجاة لمن أراد أن يظفر وينجو، إذ قال: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا (المزمل 19). ألا تحس في هذه الجملة معنى إلقاء المغبة على عاتق هؤلاء المنذرين، وأنهم المسئولون عما سوف يحيق بهم من ألم وشقاء، أو ليس في ذلك ما يحفزهم إلى التفكير الهادئ المتزن، عساهم يتخذون إلى ربهم سبيلا؟
وينتقل القرآن من إنذاره لهؤلاء المكذبين إلى خطابه للمطيعين، وهم الرسول وطائفة ممن معه، فيشكر لهم طاعتهم، ولا يرهقهم من أمرهم عسرا، ويطلب إليهم القيام ببعض الفروض، ويحببها إليهم، فهم عند ما يؤتون الزكاة يقرضون الله، ومن أوفى بأداء الحقوق منه سبحانه، ويختم خطابه لهم بوصفه بالغفران والرحمة، فيقول: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (المزمل 20).
فأنت ترى في هذه الآية الكريمة مدى الرفق في خطاب المطيعين، وما أعد لهم من رحمة وغفران، فى مقابل ما لدى الله من أنكال وجحيم لهؤلاء المكذبين.
أنت بذلك التحليل ترى مدى الترابط بين الأغراض المختلفة، واتساق كل غرض مع صاحبه، وحسن التخلص وطبيعة الانتقال من غرض إلى آخر وتستطيع أن تمضى في تحليل سور القرآن على هذا النسق، وسوف ترى الربط بين الأغراض، قويا وثيقا.
فإذا رأيت في بعض السور بعض آيات يشكل عليك معرفة وجه اتساقها في غرض السورة فتريث قليلا تروجه المجيء بها قويا، ولعل من أبعد الآيات تعلقا بسورتها في الظاهر قوله تعالى في سورة القيامة: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (القيامة 16 - 19)، فإن السورة كلها حديث عن يوم القيامة وأحواله. وأفضل ما رأيته في توجيه هذه الآيات ما حكاه الفخر الرازى من «أنها نزلت في الإنسان المذكور قبل في قوله: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (القيامة 13). قال: «يعرض عليه كتابه، فإذا أخذ في القراءة تلجلج خوفا، فأسرع في القراءة، فيقال له: لا تحرك به لسانك، لتعجل به، إن علينا أن نجمع عملك، وأن نقرأ عليك، فإذا قرأناه عليك فاتبع قرآنه بالإقرار بأنك فعلت، ثم إن علينا بيان أمر الإنسان، وما يتعلق بعقوبته» وإذا كنت أوافقه في أصل الفكرة فإنى أخالفه في تفصيلاتها، فالمعنى، على ما أدرى، ينبّأ الإنسان يومئذ بما قدّم وأخّر، وذلك كما أخبر القرآن، فى كتاب مسطور، وفي تلك الآيات يصف القرآن موقف المرء من هذا الكتاب فهو يتلوه في عجل كى يعرف نتيجته، فيقال له: لا تحرك بالقراءة لسانك لتتعجل النتيجة، إن علينا أن نجمع ما فيه من أعمال في قلبك، وأن نجعلك تقرؤه في تدبر وإمعان، فإذا قرأته فاتجه الاتجاه الذى يهديك إليه، وإن علينا بيان هذا الاتجاه وإرشادك إليه إما إلى الجنة، وإما إلى السعير. وبذلك يتضح أن لا خروج فى الآيات على نظم السورة وهدفها.
ذلك هو ما أراه في ترتيب آيات القرآن الكريم وشدة ما بينها من ارتباط، وكان بعض العلماء يشعر بشدة صلة آى القرآن بعضها ببعض، حتى يكون كالكلمة الواحدة، ومن هؤلاء ابن العربى . وممن عنى بدراسة التناسب بين الآيات أبو بكر النيسابورى «وكان غزير العلم في الشريعة والأدب، وكان يقول على الكرسى إذا قرئ عليه: لم جعلت هذه الآية إلى جانب هذه، وما الحكمة في جعل هذه السورة إلى جنب هذه السورة؟ وممن أكثر منه فخر الدين، قال في تفسيره: أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط» .
لا أوافق إذا عز الدين بن عبد السلام عند ما قال: «المناسبة علم حسن، ولكن يشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره فإن وقع على أسباب مختلفة لم يقع فيه ارتباط، ومن ربط ذلك فهو متكلف بما لا يقدر عليه إلا بربط ركيك يصان عن مثله حسن الحديث، فضلا عن أحسنه، فإن القرآن نزل في نيّف وعشرين سنة في أحكام مختلفة، وما كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه ببعض» . ولا أوافق أبا العلاء بن غانم في قوله: «إن القرآن إنما ورد على الاقتضاب الذى هو طريقة العرب من الانتقال إلى غير ملائم وأن ليس في القرآن شىء من حسن التخلص» .
لا أوافقهما وحجتى في ذلك أمران: أما أولهما فما نراه من حسن التناسب وقوة الارتباط حقا بين الآى بعضها وبعض، محققة بذلك هدف القرآن كما تحدثنا، ولعل عز الدين ومن لف لفه كان يرى التناسب يتم إذا جمعت آيات الأحكام مثلاكلها في سورة واحدة أو عدة سور، وجمعت القصص كلها كذلك في سورة واحدة أو عدة سور، وجمعت حوادث التاريخ كلها في سورة واحدة أو عدة سور، وهكذا، وقد سبق أن بيّنا أن هذا النهج لا يحقق الهدف الذى يرمى إليه القرآن من الإرشاد والهداية، فليس القرآن كتاب قصص أو تاريخ، ولكنه كتاب دين، يرمى إلى التأثير فى النفس، فهو يلقى العظة، مبيّنا ما في اتباعها من خير، وضاربا المثل من التاريخ على صدق ما ادعى، ومستشهدا بقصص الأولين وآثارهم، ومقنّنا من الأحكام ما فيه خير الإنسانية وكمالها، وكل ذلك في تسلسل واطراد وحسن اتساق، ترتبط المعانى بعضها ببعض، ويؤدى بعضها إلى بعض.
أولا نرى في هذا النهج القرآنى وسيلة لتكرير العظات والإنذار والتبشير في صور متعددة مرات عدة، وللتكرير كما قلنا أثره في تثبيت المعنى في النفس، وبلوغ العظة الهدف الذى ترمى إليه، ولن يكون للتكرير جماله إذا عمد القرآن إلى كل غرض على حدة فوضع آية بعضها إلى جانب بعض.
وأما ثانيهما فتاريخى يعود إلى ترتيب الرسول للقرآن بأمر ربه، فقد كانت تنزل عليه الآيات فيأمر كتبة الوحى أن يضعوها في موضعها بين ما نزل من القرآن، فى هذه السورة أو تلك، ويضع بعض ما نزل في مكة بين آيات السور المدنية، فلولا أن رابطا يجمع بين هذه الآيات بعضها وبعض، ما كان ثمة سبب يدفع إلى هذا الوضع ولا يقتضيه بل لرتبت الآى كما نزلت وما كان هناك داع إلى ترتيب ولا تبويب، أما والقرآن قد نزل للناس كافة، وللأجيال جميعها فقد اختار الله لكتابه خير ترتيب يحقق الهدف الذى له نزل الكتاب الحكيم.
- 2 - وتبدأ سور القرآن مثيرة في النفس الإجلال، وباعثة فيها الشوق، والرغبة في تتبع القراءة، والاستزادة منها، فهى حينا ثناء عليه تعالى بتعداد ما له من صفات العظمة والجلال كما في قوله تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (الحديد 1 - 3). وحينا تعظيم من شأن الكتاب وتقدير له، تقديرا يبعث على الإصغاء إليه وتدبّر آياته كما في قوله سبحانه: تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً ... (فصلت 2 - 4) أولا ترى الشوق يملأ نفسك وأنت تصغى إلى مثل تلك الفاتحة: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (يوسف 1). وكأنما هى تنبيه للسامع كى يستجمع كل ما يملك من قوة، ليستمع إلى ما سيلقى إليه، وكذلك يثور الشوق لدى سماع كل فاتحة فيها ثناء على الكتاب وتعظيم لأمره، شوق يدعو إلى معرفة ما يحويه هذا الكتاب، الذى يصفه حينا بأنه يخرج من الظلمات إلى النور، فى قوله: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (إبراهيم 1).
وبأنه لا ريب فيه في قوله تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (البقرة 2).
وكثر في القرآن البدء بالقسم، وهو بطبيعته يدفع إلى التطلع لمعرفة المقسم عليه، لأنه لا يلجأ إلى القسم إلا في الأمور المهمة التى تحتاج إلى تأكيد وإثبات، وقد يطول القسم فيطول الشوق، وتأمّل جمال البدء بالقسم في قوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (الليل 1 - 4).
وكما يثير القسم الشوق والتطلع، كذلك يثيرهما في النفس الاستفهام والشرط، ففي الاستفهام تتجمع النفس لمعرفة الجواب، وفي الشرط تتطلع لمعرفة الجزاء، وقد افتتحت عدة سور من القرآن بهما كما في قوله تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (العنكبوت 2). وقوله: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ وَإِذَا الْــبِحارُ فُجِّرَتْ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (الانفطار 1 - 5).
وقد تبدأ السورة بنداء الرسول أو المؤمنين، للأمر بشيء ذى بال، أو النهى عن أمر شديد النكر، أو تبدأ بخبر يثير الشوق، أو تدخل السورة مباشرة في الحديث عن الغرض الذى نزلت لأجله، كما في قوله تعالى: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (التوبة 1). وكأن في ضخامة الغرض وقوته ما يشغل عن التمهيد له، بل كأن في التمهيد إضاعة لوقت يحرص القرآن على ألا يضيع.
وقد يكون مفتتح السورة موحيا بفكرتها، ومتصلا بها شديد الاتصال، ومتناسبا معها شديد التناسب، فمن ذلك سورة آل عمران التى افتتحت بقوله:
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (آل عمران 2). وقد عالجت السورة أمر عيسى ونزهت الله عن الولد، أو لا ترى البدء مناسبا لهذا التنزيه؟ ومن ذلك سورة النساء، فقد تحدثت عن كثير من أحكامهن في الزواج والميراث، فكان من أجمل براعات الاستهلال قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (النساء 1)، ألا ترى في خلق المرأة من زوجها ما يوحى بالرفق والحنان الذى يجب أن تعامل به المرأة فلا يبخس حقها زوجة أو أما أو بنتا، وفي الحديث عن تقوى الأرحام هنا إشارة كذلك إلى أن السورة ستعالج بعض أمورهم أيضا ورثة يتامى.
وقل مثل ذلك في أول الأنعام التى ترمى إلى إثبات توحيد الله إذ قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (الأنعام 1)، فليس غير السموات والأرض شىء يبقى خلقه لغير الله.
- 3 - ولخاتمة السورة أثرها الباقى في النفس، لأنه آخر ما يبقى في الذهن، وربما حفظ دون باقى الكلام، ومن أجل هذا كانت خواتم سور القرآن مع تنوعها تحمل أسمى المعانى وأنبلها، فهى حينا دعاء وابتهال يحمل النفس الإنسانية إلى عالم روحى سام، يعترف فيه الإنسان بعجزه أمام قدرة الله، ويطلب من هذه القوة القاهرة أن تعينه وأن تنصره، أو لا يشعر المرء حين يلتجئ إلى هذه القوة بأنه ألقى ثقله، وتخفف من عبئه، كما تجد ذلك في ختام سورة البقرة إذ يقول سبحانه: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (البقرة 286). أو لا يؤذن هذا الدعاء بعد سورة اشتملت على كثير من الجدل والنقاش، وجملة كبيرة من الأحكام بأن السعادة الحقة إنما هى في هذا الالتجاء إلى الله، واستمداد القوة من قدرته، وبذا كان هذا الدعاء مؤذنا بالانتهاء، باعثا برد الراحة في الفؤاد، بعد معركة طال فيها بيان الحق، ومناقشة الباطل وهدمه.
وحينا حديث عن الله بإجلاله وتقديسه، أو بتعداد صفاته الباعثة على حبه وإجلاله معا، فتراه في ختام سورة المائدة يقول: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (المائدة 120). وفي ختام سورة الإسراء يقول: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (الإسراء 111). إلى غير ذلك من سور كثيرة، وكأن في هذا الختام خلاصة الدعوة التى تهدف السورة إليها، فكان ذكره مؤذنا بانتهائها، كما تذكر خلاصة الكتاب في نهايته.
وفي أحيان كثيرة تختم السورة بما يشعر بأن القرآن قد أدى رسالته، فعلى السامع أن يتدبر الأمر، ليرى أى الطريقين يختار، والختم بذلك يبعث في نفس القارئ التفكير أيؤثر الهدى أم يختار الضلال، فتراه مثلا في نهاية سورة التوبة يقول: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (التوبة 128 - 129)، أو تختم بإنذار أو وعد أو أمر بركن من أركان الحياة الرفيعة الصالحة، فيختم آل عمران بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (آل عمران 200).
وقل أن تختم السورة بحكم تشريعى جديد، كما في سورة النساء. وفي كل ختام تشعر النفس بأن المعانى التى تناولتها السورة قد استوفت تمامها، ووجدت النفس عند الخاتمة سكونها وطمأنينتها، حتى إن السورة التى ختمت باستفهام لم يشعر المرء عنده بنقص يحتاج إلى إتمام، بل كان جوابه مغروسا فى القلب، مستقرا في الضمير، فتم بالاستفهام معنى السورة، وأثار في النفس ما أثار من إقرار لا تستطيع تحولا عنه ولا إخفاء له. 
Learn Quranic Arabic from scratch with our innovative book! (written by the creator of this website)
Available in both paperback and Kindle formats.