Current Dictionary: All Dictionaries

Search results for: اشتراك

مَبْنِيٌّ من

مَبْنِيٌّ من
الجذر: ب ن ي

مثال: مَبْنِيٌّ من الحجارة
الرأي: مرفوضة
السبب: لتعدية الفعل بـ «من»، والوارد تعديته بـ «الباء».

الصواب والرتبة: -مَبْنِيٌّ بالحجارة [فصيحة]-مَبْنِيٌّ من الحجارة [صحيحة]
التعليق: أجاز اللغويون نيابة حروف الجر بعضها عن بعض، كما أجازوا تضمين فعل معنى فعل آخر فيتعدى تعديته، وفي المصباح (طرح): «الفعل إذا تضمَّن معنى فعل جاز أن يعمل عمله». وقد أقرَّ مجمع اللغة المصري هذا وذاك. ومجيء «من» محل «الباء» كثير في الاستعمال الفصيح، كما في قوله تعالى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} الرعد/11. أي، بأمر الله، وقوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} نوح/25، وقول الشاعر:
يموت الفتى من عثرة بلسانه وليس يموت المرء من عثرة الرِّجل
واشتراك الحرفين في بعض المعاني، كالتبعيض والاستعانة والتعليل يمكن معه اعتبارهما مترادفين. ويؤكد صحة النيابة هنا وقوعها في بعض الأفعال في المعاجم القديمة، كما أن دلالة «من» على التبعيض كافية لتصحيح اللفظ.

مَثِيل

مَثِيل
الجذر: م ث ل

مثال: هو مَثِيله في أخلاقه
الرأي: مرفوضة
السبب: لعدم ورودها في المعاجم بهذا المعنى.
المعنى: شبيهه ونظيره

الصواب والرتبة: -هو مَثِيله في أخلاقه [صحيحة]
التعليق: أقرَّ مجمع اللغة المصري قياسيّة صيغة «فَعِيل» للدلالة على المشاركة من الأفعال التي تقبل الــاشتراك والمنافسة والمقابلة والمضادّة والمساواة، وذلك عند الحاجة. وقد وردت كلمة «مَثِيل» بالمعنى المرفوض في المعاجم الحديثة كالوسيط والأساسي.

قصر الْإِفْرَاد

قصر الْإِفْرَاد: قصر الْمَوْصُوف على الصّفة. أَو قصر الصّفة على الْمَوْصُوف إِذا اعْتقد الْمُخَاطب شركَة صفتين أَو أَكثر فِي مَوْصُوف وَاحِد فِي قصر الْمَوْصُوف على الصّفة أَو اعْتقد شركَة موصوفين أَو أَكثر فِي صفة وَاحِدَة فِي قصر الصّفة على الْمَوْصُوف مثل مَا زيد إِلَّا كَاتب لمن يعْتَقد اتصافه بِالْكِتَابَةِ والشاعرية وَمَا كَاتب إِلَّا زيد لمن يعْتَقد اشْتِرَاك زيد وَعَمْرو فِي الْكِتَابَة. وَلما كَانَ هَذَا الْقصر قَاطعا للشَّرِكَة الْمَذْكُورَة مُفِيدا للإفراد سمي بقصر الْإِفْرَاد. قصر الْقلب: تَخْصِيص أَمر بِصفة مَكَان أُخْرَى أَو تَخْصِيص صفة بِأَمْر مَكَان آخر إِذا كَانَ الْمُخَاطب مُعْتَقدًا بعكس الحكم الَّذِي أثْبته الْمُتَكَلّم حَتَّى يكون الْمُخَاطب بقولنَا مَا زيد إِلَّا قَائِم من يعْتَقد اتصافه بالقعود دون الْقيام وكقولنا مَا شَاعِر إِلَّا زيد من يعْتَقد أَن الشَّاعِر عَمْرو دون زيد وَإِنَّمَا سمي هَذَا الْقصر قصر الْقلب لِأَنَّهُ يقلب حكم الْمُخَاطب واعتقاده.

مَغَاربيّة

مَغَاربيّة
الجذر: غ ر ب

مثال: القمة المغاربيّة
الرأي: مرفوضة
السبب: للنسب إلى الجمع مباشرة دون ردِّه إلى المفرد.

الصواب والرتبة: -القمّة المغاربيّة [فصيحة]
التعليق: إذا لم يبق جمع التكسير على دلالة الجمعية بأن صار علمًا على مفرد، أو على جماعة واحدة معينة كما هو الحال مع «المغاربيّة» وجب النسب إليه على لفظه، ولا يصح النسب إلى المفرد منعًا للإيهام واللبس، فالنسب إلى المفرد يوقع في اللبس؛ إذ يشير إلى «المملكة المغربية». أما الجمع فهو يشير إلى «بلاد المغرب العربيّ»، وقد أوجب بعض اللغويين النسبة إلى الجمع إذا أريدت الدلالة على الــاشتراك الجمعي.

نَدِيد

نَدِيد
الجذر: ن د د

مثال: هو نَدِيد له في علمه
الرأي: مرفوضة
السبب: لعدم ورودها في المعاجم بهذا المعنى.
المعنى: مثيل ونظير له

الصواب والرتبة: -هو نَدِيد له في علمه [صحيحة]
التعليق: أقرَّ مجمع اللغة المصري قياسيّة صيغة «فَعِيل» للدلالة على المشاركة من الأفعال التي تقبل الــاشتراك والمنافسة والمقابلة والمضادّة والمساواة، وذلك عند الحاجة. وقد جاءت كلمة «نَدِيد» بالمعنى المرفوض في الوسيط والمنجد.

نِسائِيَّة

نِسائِيَّة
الجذر: ن س

مثال: جمعية نسائيّة
الرأي: مرفوضة
السبب: للنسب إلى الجمع مباشرة دون ردِّه إلى المفرد.

الصواب والرتبة: -جمعيّة نسائيّة [فصيحة]-جمعيّة نِسْوِيّة [فصيحة]
التعليق: لما كان معنى الــاشتراك الجمعي مقصودًا في هذا المثال فإن الأدق النسب إلى الجمع. ومسألة النسب إلى الجمع على لفظه أو بردِّه إلى مفرده مسألة خلافية، فمذهب البصريين في النسب إلى جمع التكسير الباقي على جمعيته أن يرد إلى مفرده، ثم ينسب إلى هذا المفرد، بينما أجاز الكوفيون أن ينسب إلى جمع التكسير مطلقًا، سواء أكان اللبس مأمونًا عند النسب إلى مفرده، أم غير مأمون. وبرأيهم أخذ مجمع اللغة المصري؛ لأن السماع يؤيدهم؛ ولأن النسبة إلى الجمع قد تكون أبين وأدق في التعبير عن المراد من النسبة إلى المفرد، وقد ذكر سيبويه أن «نساء» جمع «نِسْوة» ولذا ينسب إليها على مذهبه فيقال: «نِسْويّة»، لكن المعاجم ذكرت أن «نساء» و «نسوة» جمعًا للمرأة من غير لفظها، ومن ثَمَّ يجوز على رأي الكوفيين أن يقال: نسائيّ ونسويّ، وقد ورد الاستعمال المرفوض في الأساسيّ والمنجد.

نَشَأَ من

نَشَأَ من
الجذر: ن ش أ

مثال: يَنْشَأُ الانفجار من الضغط
الرأي: مرفوضة
السبب: لمجىء حرف الجر «من» بدلاً من حرف الجر «عن».
المعنى: ينجم ويتولّد

الصواب والرتبة: -يَنْشَأُ الانفجار عن الضغط [فصيحة]-يَنْشَأُ الانفجار من الضغط [صحيحة]
التعليق: أجاز اللغويون نيابة حروف الجر بعضها عن بعض، كما أجازوا تضمين فعل معنى فعل آخر فيتعدى تعديته، وفي المصباح (طرح): «الفعل إذا تضمَّن معنى فعل جاز أن يعمل عمله». وقد أقرَّ مجمع اللغة المصري هذا وذاك. ومجيء «من» بدلاً من «عن» كثير في الاستعمال الفصيح، كما في قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} الزمر/22، وورد عن العرب أمثلة كثيرة ذكرها ابن قتيبة كقولهم: حدثني فلان من فلان. واشتراك الحرفين في بعض المعاني كالتعليل والمجاوزة- وهما من المعاني الأساسية للحرف «عن» - يسوِّغ تصحيح النيابة، ويؤكدها وقوعها في بعض الأفعال في المعاجم القديمة. كما يمكن تصحيح تعديته بـ «من»؛ لأنها تدل على السببية، ولمجيئها في بعض المعاجم الحديثة كالأساسي.

وَثِقَ من

وَثِقَ من
الجذر: و ث ق

مثال: وَثِقَ من إخلاصه
الرأي: مرفوضة
السبب: لتعدية الفعل بـ «من»، والوارد تعديته بـ «الباء».

الصواب والرتبة: -وَثِقَ بإخلاصه [فصيحة]-وَثِقَ من إخلاصه [صحيحة]
التعليق: أجاز اللغويون نيابة حروف الجر بعضها عن بعض، كما أجازوا تضمين فعل معنى فعل آخر فيتعدى تعديته، وفي المصباح (طرح): «الفعل إذا تضمَّن معنى فعل جاز أن يعمل عمله». وقد أقرَّ مجمع اللغة المصري هذا وذاك. ومجيء «من» محل «الباء» كثير في الاستعمال الفصيح، كما في قوله تعالى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} الرعد/11، أي، بأمر الله، وقوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} نوح/25، وقول الشاعر:
يموت الفتى من عثرة بلسانه وليس يموت المرء من عثرة الرِّجل
واشتراك الحرفين في بعض المعاني، كالتبعيض والاستعانة والتعليل يمكن معه اعتبارهما مترادفين. ويؤكد صحة النيابة هنا وقوعها في بعض الأفعال في المعاجم القديمة، كما يمكن تضمين هذا الفعل معنى الفعل «تأكّد» الذي يتعدى بـ «من»، وقد جاء مثل ذلك في كلام ابن المقفع، كقوله: «كل من عرف بالخصال المحمودة ووُثق منه بها».

قِياسِيَّة صيغة «فَعِيل» للدلالة على المشاركة

قِياسِيَّة صيغة «فَعِيل» للدلالة على المشاركة
الأمثلة: 1 - جَلِيس العلماء 2 - كُلَّما جلس إلى طعامه بحث عن أَكِيل 3 - مُوسَى عليه السلام كَلِيم الله 4 - هُمَا خَصِيمان أمام المحكمة 5 - هُمَا خَلِيطان في المسكن 6 - هُوَ مَثِيله في أخلاقه 7 - هُوَ نَدِيد له في علمه
الرأي: مرفوضة
السبب: لعدم ورودها في المعاجم بهذا المعنى.

الصواب والرتبة:
1 - جَلِيس العلماء [صحيحة]
2 - كُلَّما جلس إلى طعامه بحث عن أَكِيل [صحيحة]
3 - موسى عليه السلام كَلِيم الله [صحيحة]
4 - هما خَصِيمان أمام المحكمة [صحيحة]
5 - هما خَلِيطان في المسكن [صحيحة]
6 - هو مَثِيله في أخلاقه [صحيحة]
7 - هو نَدِيد له في علمه [صحيحة]
التعليق: أقر مجمع اللغة المصري قياسيّة صيغة «فَعِيل» للدلالة على المشاركة من الأفعال التي تقبل الــاشتراك والمنافسة والمقابلة والمضادّة والمساواة، وذلك عند الحاجة.

نِيَابَة الظرف «مع» عن حرف الجرّ «الباء»

نِيَابَة الظرف «مع» عن حرف الجرّ «الباء»
الأمثلة: 1 - امْتَزَجَ معه 2 - كَانَ على علاقة طيبة معه 3 - مَزَجَ اللبن مع الماء
الرأي: مرفوضة
السبب: لاستخدام «مع» بدلاً من حرف الجر «الباء»، وهو ما لم يرد في المعاجم.

الصواب والرتبة:
1 - امْتَزَجَ به [فصيحة]-امْتَزَجَ معه [صحيحة]
2 - كان على علاقة طيبة به [فصيحة]-كان على علاقة طيبة معه [صحيحة]
3 - مَزَجَ اللبن بالماء [فصيحة]-مَزَجَ اللبن مع الماء [صحيحة]
التعليق: التبادل بين بعض الظروف وحروف الجر شائع، وتشترك «مع» و «الباء» في إفادة معنى المعية والمصاحبة والــاشتراك في الحكم؛ ومن ثمَّ يكون التبادل بينهما سائغًا خاصة وأن مجمع اللغة المصري أجاز استعمال «مع» بدلاً من «الباء» فيما جاء من الأفعال على وزن «افتعل». وبعض الأفعال المرفوضة ليس في اللغة ما يحظر استخدام «مع» معها فضلاً عن إمكانية تعدد المتعلقات في الجملة أو حمله على التعدد الأسلوبي، وقد جاءت الاستعمالات المرفوضة في بعض المعاجم الحديثة.

نِيَابَة حرف الجرّ «من» عن حرف الجرّ «عن»

نِيَابَة حرف الجرّ «من» عن حرف الجرّ «عن»
الأمثلة: 1 - أَخْبَرَني بما صَدَرَ منه 2 - أَزَاحَ الأحجار من الطريق 3 - تَزَحْزَحَ من مكانه 4 - رَحَلَ من البلدة 5 - زَالَ منه الخوف 6 - ضَرَب الكرةَ من بُعْد عشرة أقدام 7 - عَاشَ بمَعْزِلٍ من الناس 8 - عَزَلَه من منصبه 9 - فَصَلَ الشيء من الشيء 10 - يَنْشَأ الانفجار من الضغط
الرأي: مرفوضة
السبب: لمجىء حرف الجر «من» بدلاً من حرف الجر «عن».

الصواب والرتبة:
1 - أخبرني بما صَدَرَ عنه [فصيحة]-أخبرني بما صَدَرَ منه [صحيحة]
2 - أزاح الأحجار عن الطريق [فصيحة]-أزاح الأحجار من الطريق [صحيحة]
3 - تَزَحْزَحَ عن مكانه [فصيحة]-تَزَحْزَحَ من مكانه [صحيحة]
4 - رَحَلَ عن البلدة [فصيحة]-رَحَلَ من البلدة [صحيحة]
5 - زَالَ عنه الخوف [فصيحة]-زَالَ منه الخوف [صحيحة]
6 - ضَرَب الكرةَ عن بُعْد عشرة أقدام [فصيحة]-ضَرَب الكرةَ من بُعْد عشرة أقدام [صحيحة]
7 - عاش بمَعْزِلٍ عن الناس [فصيحة]-عاش بمَعْزِلٍ من الناس [صحيحة]
8 - عَزَلَه عن منصبه [فصيحة]-عَزَلَه من منصبه [صحيحة]
9 - فَصَلَ الشيء عن الشيء [فصيحة]-فَصَلَ الشيء من الشيء [صحيحة]
10 - يَنْشَأ الانفجار عن الضغط [فصيحة]-يَنْشَأ الانفجار من الضغط [صحيحة]
التعليق: أجاز اللغويون نيابة حروف الجر بعضها عن بعض، كما أجازوا تضمين فعل معنى فعل آخر فيتعدى تعديته، وفي المصباح (طرح): «الفعل إذا تضمَّن معنى فعل جاز أن يعمل عمله». وقد أقرَّ مجمع اللغة المصري هذا وذاك. ومجيء «من» بدلاً من «عن» كثير في الاستعمال الفصيح، كما في قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} الزمر/22، وورد عن العرب أمثلة كثيرة ذكرها ابن قتيبة كقولهم: حدثني فلان من فلان. واشتراك الحرفين في بعض المعاني كالتعليل والمجاوزة- وهما من المعاني الأساسية للحرف «عن» - يسوِّغ قبول النيابة، ويؤكدها وقوعها في بعض الأفعال في المعاجم القديمة وجواز التضمين.

عَلاقَة مع

عَلاقَة مع
الجذر: ع ل ق

مثال: كَانَ على علاقة طيِّبة معه
الرأي: مرفوضة
السبب: لاستخدام «مع» بدلاً من حرف الجر «الباء»، وهو ما لم يرد في المعاجم.

الصواب والرتبة: -كان على علاقة طيِّبة به [فصيحة]-كان على علاقة طيِّبة معه [صحيحة]
التعليق: التبادل بين بعض الظروف وحروف الجر شائع، وتشترك «مع» و «الباء» في إفادة معنى المعية والمصاحبة والــاشتراك في الحكم؛ ومن ثمَّ يكون التبادل بينهما سائغًا خاصة وأن مجمع اللغة المصري أجاز استعمال «مع» بدلاً من الباء فيما جاء من الأفعال على وزن «افتعل». وبعض الأفعال المرفوضة ليس في اللغة ما يحظر استخدام «مع» معها فضلاً عن إمكانية تعدد المتعلقات في الجملة أو حمله على التعدد الأسلوبي، وقد جاء الاستعمال المرفوض في بعض المعاجم الحديثة.

الجماعية

(الجماعية) (فِي الاقتصاد السياسي) مَذْهَب اشتراكــي يُقرر أَن أَمْوَال الإنتاج يجب أَن تكون للدولة وَأَن تلغى الملكية الْخَاصَّة الْوَارِدَة عَلَيْهَا وَأَن أَمْوَال الِاسْتِهْلَاك هِيَ وَحدهَا الَّتِي تكون محلا للملكية الْخَاصَّة (وَفِي القانون الدولي الْعَام) المعاهدة الجماعية هِيَ اتِّفَاق بَين أَكثر من دولتين (مج)

القومية

(القومية) صلَة اجتماعية عاطفية تنشأ من الِــاشْتِرَاك فِي الوطن وَالْجِنْس واللغة وَالْمَنَافِع وَقد تَنْتَهِي بالتضامن والتعاون إِلَى الْوحدَة كالقومية الْعَرَبيَّة (محدثة)

وزعه

(وزعه) قسمه وفرقه والصحيفة أَو الْمجلة أَو الْكتاب فرقها على الْقُرَّاء بِالْبيعِ أَو الِــاشْتِرَاك والبريد حمله إِلَى الْمُرْسل إِلَيْهِ فِي مَحَله والموسيقار اللّحن فرقه على الْآلَات الْمُخْتَلفَة (الثَّلَاثَة محدثات)

مُصدِّقاً لِما بَيْن يَدَيْهِ 

مُصدِّقاً لِما بَيْن يَدَيْهِ
كلمتان، لم يفهمهما أكثر الناس، فظنّوا أن القُرآن يشهد بالكتب المحرفة المبدَّلَة: أما "مصدِّقاً" فقد كان مظنّة للشبهة، لــاشتراكِ كلمة "التصديق". وأما "بين يديه" فلجهل الناس بالعربية، لا سيّما في هذا الزمان.
فاعلم أن "صَدَّقَه" له معنيان:
شهد بِصدق رجل أو كلام .
والمعنى الثاني أنْ جعله صادقاً فيما توقَّع. قال الحماسي :
فَدَتْ نَفْسِي وَمَا مَلكَتْ يَمِيني ... فَوارِسَ صَدَّقَتْ فِيهم ظُنوني في القرآن: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ} .
ثم إذا تأملت في مواقع هذا القول، عَلِمت أن المراد هو المعنى الثاني. فإنّ النبي -والقرآنَ- جاء كما أخبرت به التوراة، فجعلها صادقة. فإن كذَّبوا القرآن والنبي يكن ذلك تكذيباً لكتبهم.
وهذا أيضاً يظهر إذا تأملت أن محمداً وعيسى عليهما الصلوات يأتيان بهذا القول مُسْتدلَّينِ بصحة نبوتهما. فأيّ استدلال في أنهما يشهدان بصدق ما عند اليهود؟ أرأيت إن تنبأ أحد في هذا اليوم، وقال: إني آمنت بالأنبياء، وأنا نبيّ مثلهم، فهل يكون هذا حجةً على دعواه؟.
أما موقع الآية، فقال تعالى:
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} . أي لما جاءهم محمد - صلى الله عليه وسلم - حسب ما وجدوا في كتبهم، أعرضوا عن كتبهم، وأنكروه، كأنهم لا يعلمون. وقبل هذه الآية:
{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} .
فاستدلّ بأنّ فريقاً منكم عاهدوا بالإيمان بهذا النبي، فكيف تنبذون ذلك العهد؟ ولكنكم غير مؤمنين وقد ذكر في سورة آل عمران عهدهم بإيمان نبي يأتيهم بصفات محمد عليه الصلوات .
ومثل ذلك ما قال:
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} .
أي جاء هذا الكتاب حسب ما وُعدوا في كتبهم مع وعد النصر بالإيمان بصاحب هذا الكتاب، فكانوا يستفتحون على الكفار. ولكن لما جاء الكتاب، وعرفوا أنه حسب ما وعدوا، جحدوا به، فلعنة الله على الكافرين. وهذه اللعنة أيضاً موعودة في كتبهم بتفصيل طويل.
في سورة يوسف:
{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . فهاهنا ذكر التصديق، لا من جهة إثبات القرآن، بل لإظهار فوائد القرآن، لأنه يثبت ما سبقه، ويفصّل، ويهدي، وهو الرحمة، فما أبعده عن الحديث المفترى!.
في الأحقاف:
{قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} .
أي لأنه يهدي إلى الحق وإلى الصراط المستقيم، فهو على نمط كتاب موسى. فكما أنه حق، هذا حق، ويثبت ما سبق، ولا يبطله في أمر الهداية.
في سورة الصف:
{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} .
فاستدلّ عيسى عليه الصلوات على نبوّته من جهتين: بإخبار خاص عن نبيّ بعده، وبأن قد أُخبر عنه في كتبهم، ثم الآية التالية:
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} .
تؤيد هذا المعنى، فإنهم إذا لم يؤمنوا بما أخبرت عنه التوراة، فقد افتروا على الله كذباً لإنكارهم ما أنزِل في التوراة من الله. وقوله: {وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ} يضيّق عليهم بابَ الفرار، فإنّ النبي الموعود جاء، ويدعوهم إلى دين الحق، فهم كذبوا على الله ومرقوا من الإسلام. في سورة القصص :
{وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ}. أي وُعِدوا بالنبي وصفته الخاصّة، فوجدوا في القرآن تلك الصفة، وقالوا: إنّا كنا مسلمين بهذه الآيات إجمالاً: وهو إكمالُه الدينَ، ووضْعُ الإصر والأغلالِ.
في سورة النساء :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ}.
فهذا الوعيد الشديد ينبغي أن يكون على عصيانِ أمرٍ كتِب عليهم. ثمّ نرى أن قبل هذه الآية حكماً يهدي إلى أن النبي الموعود هذا النبي: وهو تحريم الخمر قبل الصلاة. انظروا المقدمة على البشارات .
وقد ذكر الرازي رحمه الله وغيره المعنيين من غير تخصيصه بالمعنى الثاني، فتركوا الأمر مشتبهاً. ولم يتبين لهم وجه الاستدلال من مواقع الكلام. قال الرازي رحمه الله :
"اعلم أن معنى كون الرسول مصدقاً لما معهم هو أنه كان معترفاً بنبوة موسى عليه السلام وبصحة التوراة، أو مصدقاً لما معهم من حيث إنّ التوراة بشرت بمقدم محمد - صلى الله عليه وسلم -. فإذا أتى محمد - صلى الله عليه وسلم - كان مجرد مجيئه مصدّقاً للتوراة. أما قوله {نبذ فريق} فهو مثل لتركهم وإعراضهم عنه بمثل ما يرمى وراء الظهر استغناء عنه وقلة التفات إليه أما قوله تعالى {مِنَ الذِينَ أُوتواْ الكتاب} ... " .
وقال الرازي رحمه الله في تفسير الآية الثانية :
"المسألة الأولى: لا شبهة في أن القرآن مصدّق لما معهم في أمر يتعلق بتكليفهم بتصديق محمد - صلى الله عليه وسلم - في النبوة. واللائق بذلك هو كونه موافقاً لما معهم في دلالة نبوته، إذ قد عرفوا أنه ليس بموافق لما معهم في سائر الشرائع (لم يفهم معنى الموافقة) وعرفنا أنه لم يرد الموافقة في باب أدلّة القرآن، لأنّ جميع كتب الله كذلك. ولما بطل الكل ثبت أن المراد موافقته لكتبهم فيما يختص بالنبوة وما يدلّ عليها من العلامات والنعوت والصفات" .
ألا ترى أنّ الرازي رحمه الله يجتهد في إثبات النبوة من هذه الآية، فهو مصيب فيما تحرّى، وموقع الكلام يهدي إليه. أما دليله فكما ترى!.
ثم قال تحت قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} قولاً ضعيفاً يدلّ على قلّة معرفته بالتوراة والقرآن معاً، لما قال:
"لم يعرفوا [نبوته] بمجرد تلك الأوصاف بل بظهور المعجزات صارت تلك الأوصاف كالمؤكدة" .

تخير اللفظ

تخير اللفظ
يتأنق أسلوب القرآن في اختيار ألفاظه، ولما بين الألفاظ من فروق دقيقة في دلالتها، يستخدم كلا حيث يؤدى معناه في دقة فائقة، تكاد بها تؤمن بأن هذا المكان كأنما خلقت له تلك الكلمة بعينها، وأن كلمة أخرى لا تستطيع توفية المعنى الذى وفت به أختها، فكل لفظة وضعت لتؤدى نصيبها من المعنى أقوى أداء، ولذلك لا تجد في القرآن ترادفا، بل فيه كل كلمة تحمل إليك معنى جديدا.
ولما بين الكلمات من فروق، ولما يبعثه بعضها في النفس من إيحاءات خاصة، دعا القرآن ألا يستخدم لفظ مكان آخر، فقال: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ (الحجرات 14). فهو لا يرى التهاون في استعمال اللفظ ولكنه يرى التدقيق فيه ليدل على الحقيقة من غير لبس ولا تمويه، ولما كانت كلمة راعِنا لها معنى في العبرية مذموم، نهى المؤمنين عن مخاطبة الرسول بها فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا (البقرة 104).
فالقرآن شديد الدقة فيما يختار من لفظ، يؤدى به المعنى.
استمع إليه في قوله: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (البقرة 49). ما تجده قد اختار الفعل ذبح، مصورا به ما حدث، وضعّف عينه للدلالة على كثرة ما حدث من القتل فى أبناء إسرائيل يومئذ، ولا تجد ذلك مستفادا إذا وضعنا مكانها كلمة يقتلون.
وتنكير كلمة حياة، فى قوله تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ (البقرة 96).
يعبر تعبيرا دقيقا عن حرص هؤلاء الناس على مطلق حياة يعيشونها، مهما كانت حقيرة القدر، ضئيلة القيمة، وعند ما أضيفت هذه الكلمة إلى ياء المتكلم في قوله تعالى: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (الفجر 23، 24). عبرت بأدق تعبير عن شعور الإنسان يومئذ، وقد أدرك في جلاء ووضوح أن تلك الحياة الدنيا لم تكن إلا وهما باطلا، وسرابا خادعا، أما الحياة الحقة الباقية، فهى تلك التى بعد البعث؛ لأنها دائمة لا انقطاع لها، فلا جرم أن سماها حياته، وندم على أنه لم يقدم عملا صالحا، ينفعه في تلك الحياة.
واستمع إلى قوله تعالى: إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (الإنسان 10، 11). تجد كلمة العبوس قد استعملت أدق استعمال؛ لبيان نظرة الكافرين إلى ذلك اليوم، فإنهم يجدونه عابسا مكفهرّا، وما أشد اسوداد اليوم، يفقد فيه المرء الأمل والرجاء، وكلمة قَمْطَرِيراً بثقل طائها مشعرة بثقل هذا اليوم، وفي كلمتى النضرة والسرور تعبير دقيق عن المظهر الحسى لهؤلاء المؤمنين، وما يبدو على وجوههم من الإشراق، وعما يملأ قلوبهم من البهجة.
ومن دقة التمييز بين معانى الكلمات، ما تجده من التفرقة في الاستعمال بين:
يعلمون، ويشعرون، ففي الأمور التى يرجع إلى العقل وحده أمر الفصل فيها، تجد كلمة يَعْلَمُونَ صاحبة الحق في التعبير عنها، أما الأمور التى يكون للحواس مدخل في شأنها، فكلمة يَشْعُرُونَ أولى بها، وتأمل لذلك قوله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (البقرة 13). فالسفاهة أمر مرجعه إلى العقل، وقوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ (البقرة 26). وقوله تعالى: أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (البقرة 77). وقوله تعالى: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ (الأنعام 114). وقوله تعالى: أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (يونس 55). وقوله تعالى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (الأنبياء 24). وقوله تعالى: وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (النور 25). إلى غير ذلك مما يطول بى أمر تعداده، إذا مضيت في إيراد كل ما استخدمت فيه كلمة يعلمون.
وتأمل قوله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (البقرة 154). فمن الممكن أن يرى الأحياء وأن يحس بهم، وقوله تعالى:
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (الزمر 55)، فالعذاب مما يشعر به ويحس، وقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (البقرة 11، 12). وقوله تعالى: قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (النمل 18). وقوله تعالى: وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (القصص 11). وغير ذلك كثير.
واستخدم القرآن كلمة التراب، ولكنه حين أراد هذا التراب الدقيق الذى لا يقوى على عصف الريح استخدم الكلمة الدقيقة وهى الرماد، فقال: الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ (إبراهيم 18). كما أنه آثر عليها كلمة الثرى، عند ما قال: تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (طه 4 - 6). لأنه يريد- على ما يبدو من سياق الآيات الكريمة- الأرض المكونة من التراب، وهى من معانى الثرى، فضلا عما في اختيار الكلمة من المحافظة على الموسيقى اللفظية في فواصل الآيات.
وعبر القرآن عن القوة العاقلة في الإنسان بألفاظ، منها الفؤاد واللب والقلب، واستخدم كلا في مكانه المقسوم له، فالفؤاد في الاستخدام القرآنى يراد به تلك الآلة التى منحها الله الإنسان، ليفكر بها، ولذا كانت مما سوف يسأل المرء عن مدى انتفاعه بها يوم القيامة، كالسمع، والبصر، قال تعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا (الإسراء 36). وتجد هذا واضحا فيما وردت فيه تلك الكلمة من الآيات، واستمع إلى قوله تعالى: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (الملك 23). وقوله تعالى: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (النجم 11). وقوله تعالى: وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (الأنعام 113). وقوله تعالى: نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةَ (الهمزة 6، 7). وقوله تعالى: مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (إبراهيم 43).
أما اللب ولم يستخدم في القرآن إلا مجموعا، فيراد به التفكير الذى هو من عمل تلك الآلة، تجد هذا المعنى في قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (البقرة 179). وقوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (آل عمران 190). وقوله تعالى: وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (البقرة 269).
أما القلب، وهو أكثر هذه الكلمات دورانا في الاستخدام القرآنى، فهو بمعنى أداة التفكير، فى قوله تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها (الأعراف 179). وقوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها (الحج 46). وقوله تعالى: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً (آل عمران 8). وقوله تعالى: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (الحج 46). وهو أداة الوجدان، كما تشعر بذلك في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ (الأنفال 2). وقوله تعالى: وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ (الأحزاب 10). وقوله تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (النازعات 6 - 8). وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً (الفتح 4). وقوله تعالى: وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً (القيامة 27). وقوله تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (الرعد 28).
وهو أداة الإرادة، كما يبدو ذلك في قوله تعالى: إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (القصص 10). وقوله تعالى: وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (الأنفال 11). وقوله تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ (الأحزاب 5).
فالقرآن يستخدم القلب فيما نطلق عليه اليوم كلمة العقل، وجعله في الجوف حينا في قوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ (الأحزاب 4).
وفي الصدر حينا، فى قوله: وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (الحج 46). تعبير عما يشعر به الإنسان عند ما يلم به وجدان، أو تملؤه همة وإرادة.
ومن الدقة القرآنية في استخدام الألفاظ أنه لا يكاد يذكر المشركين، إلا بأنهم أصحاب النار، ولكنا نجده قال في سورة (ص): وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ . فنراه قد استخدم كلمة أَهْلِ وهى هنا أولى بهذا المكان من كلمة (أصحاب)، لما تدل عليه تلك من الإقامة في النار والسكنى بها. وكلمة (ميراث) فى قوله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (آل عمران 180). واقعة موقعها، وهى أدق من كلمة (ملك) فى هذا الموضع، لما أن المال يرى في أيدى مالكيه من الناس، ولكنه سوف يصبح ميراثا لله.
وقد يحتاج المرء إلى التريث والتدبر، ليدرك السر في إيثار كلمة على أخرى، ولكنه لا يلبث أن يجد سمو التعبير القرآنى، فمن ذلك قوله تعالى: قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (طه 63 - 65). فقد يبدو للنظرة العاجلة أن الوجه أن يقال: إما أن تلقى وإما أن نلقى، وربما توهم أن سر العدول يرجع إلى مراعاة النغم الموسيقى فحسب، حتى تتفق الفواصل في هذا النغم، وذلك ما يبدو بادئ الرأى، أما النظرة الفاحصة فإنها تكشف رغبة القرآن في تصوير نفسية هؤلاء السحرة، وأنهم لم يكونوا يوم تحدوا موسى بسحرهم، خائفين، أو شاكين في نجاحهم، وإنما كان الأمل يملأ قلوبهم، فى نصر مؤزر عاجل، فهم لا ينتظرون ما عسى أن تسفر عنه مقدرة موسى عند ما ألقى عصاه، بل كانوا مؤمنين بالنصر سواء أألقى موسى أولا، أم كانوا هم أول من ألقى.
ومن ذلك قوله تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (البقرة 176).
فقد يتراءى أن وصف الشقاق، وهو الخلاف، بالقوة أولى من وصفه بالبعد، ولكن التأمل يدل على أن المراد هنا وصف خلافهم بأنه خلاف تتباعد فيه وجهات النظر إلى درجة يعسر فيها الالتقاء، ولا يدل على ذلك لفظ غير هذا اللفظ الذى اختاره القرآن. ومن ذلك قوله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (الحج 27). فربما كانت الموسيقى، والفاصلة في الآية السابقة دالية- تجعل من المناسب أن يوصف الفج بالبعد، فيقال: فج بعيد، ولكن إيثار الوصف بالعمق، تصوير لما يشعر به المرء أمام طريق حصر بين جبلين، فصار كأن له طولا، وعرضا، وعمقا.
وإيثار كلمة مَسْكُوبٍ فى قوله تعالى: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ وَماءٍ مَسْكُوبٍ (الواقعة 27 - 31). مكان كلمة (غزيرة)، أدق في بيان غزارته، فهو ماء لا يقتصد في استعماله، كما يقتصد أهل الصحراء، بل هو ماء يستخدمونه استخدام من لا يخشى نفاده، بل ربما أوحت تلك الكلمة بمعنى الإسراف في هذا الاستخدام.
واستخدام كلمة يَظُنُّونَ فى الآية الكريمة: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (البقرة 45، 46).
قوية في دلالتها على مدح هؤلاء الناس، الذين يكفى لبعث الخشوع في نفوسهم، وأداء الصلاة، والاتصاف بالصبر- أن يظنوا لقاء ربهم، فكيف يكون حالهم إذا اعتقدوا؟.
ومن دقة أسلوب القرآن في اختيار ألفاظه ما أشار إليه الجاحظ حين قال :
(وقد يستخف الناس ألفاظا ويستعملونها، وغيرها أحق بذلك منها، ألا ترى أن الله تبارك وتعالى لم يذكر في القرآن الجوع، إلا في موضع العقاب، أو في موضع الفقر المدقع، والعجز الظاهر، والناس لا يذكرون السغب، ويذكرون الجوع في حالة القدرة والسلامة، وكذلك ذكر المطر، لأنك لا تجد القرآن يلفظ به إلا في موضع الانتقام، والعامة وأكثر الخاصة لا يفصلون بين ذكر المطر، وذكر الغيث).
لاختيار القرآن للكلمة الدقيقة المعبرة، يفضل الكلمة المصورة للمعنى أكمل تصوير، ليشعرك به أتم شعور وأقواه، وخذ لذلك مثلا كلمة يُسْكِنِ فى قوله تعالى: إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ (الشورى 33). وكلمة تَسَوَّرُوا فى قوله تعالى: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (القصص 21). وكلمة (يطوقون) فى الآية الكريمة: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ (آل عمران 180). وكلمة يَسْفِكُ فى آية: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ (البقرة 30). وكلمة (انفجر) فى قوله تعالى: وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً (البقرة 60). وكلمة يَخِرُّونَ فى الآية: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً . وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (الإسراء 107، 108). وكلمة مُكِبًّا فى قوله تعالى: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (النمل 22). وكلمة تَفِيضُ فى قوله تعالى: وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ (المائدة 83). وكلمة يُصَبُّ فى قوله تعالى: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (الحج 19). وكلمة (يدس) فى قوله تعالى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (النحل 58، 59). وكلمة قاصِراتُ فى قوله تعالى: وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (الصافات 48). وكلمة مُسْتَسْلِمُونَ. فى قوله تعالى: ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (الصافات 25، 26). ومُتَشاكِسُونَ فى قوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ (الزمر 29). ويطول بى القول، إذ أنا مضيت في عرض هذه الكلمات التى توضع في مكانها المقسوم من الجملة، فتجعل المعنى مصورا تكاد تراه بعينك، وتلمسه بيدك، ولا أريد أن أمضى في تفسير الكلمات التى استشهدت بها؛
لأنها من وضوح الدلالة بمكان.
ولهذا الميل القرآنى إلى ناحية التصوير، نراه يعبر عن المعنى المعقول بألفاظ تدل على محسوسات، مما أفرد له البيانيون علما خاصّا به دعوه علم البيان، وأوثر أن أرجئ الحديث عن ذلك إلى حين، وحسبى الآن أن أبين ما يوحيه هذا النوع من الألفاظ في النفس، ذلك أن تصوير الأمر المعنوى في صورة الشيء المحسوس يزيده تمكنا من النفس، وتأثيرا فيها، ويكفى أن تقرأ قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ (البقرة 7). وقوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ (الجاثية 23). لترى قدرة كلمة خَتَمَ، فى تصوير امتناع دخول الحق قلوب هؤلاء الناس، وقوله تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ (البقرة 257). لترى قيمة كلمتى الظلمات والنور، فى إثارة العاطفة وتصوير الحق والباطل. وقوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (البقرة 18). لترى قيمة هذه الصفات التى تكاد تخرجهم عن دائرة البشر، وقوله سبحانه: يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ (البقرة 27).
فكلمات ينقضون ويقطعون ويوصل، تصور الأمور المعنوية في صور المحس الملموس، وفي القرآن من أمثال ذلك عدد ضخم، سوف نعرض له في حينه.
وفي القرآن كثير من الألفاظ، تشع منها قوى توحي إلى النفس بالمعنى وحيا، فتشعر به شعورا عميقا، وتحس نحو الفكرة إحساسا قويّا. خذ مثلا قوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (التكوير 17، 18). فتأمل ما توحى به كلمة تَنَفَّسَ من تصوير هذه اليقظة الشاملة للكون بعد هدأة الليل، فكأنما كانت الطبيعة هاجعة هادئة، لا تحس فيها حركة ولا حياة، وكأنما الأنفاس قد خفتت حتى لا يكاد يحس بها ولا يشعر، فلما أقبل الصبح صحا الكون، ودبت الحياة في أرجائه.
وخذ قوله تعالى: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (التوبة 117، 118). وقف عند كلمة (ضاق) فى ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ، فإنها توحى إليك بما ألم بهؤلاء الثلاثة من الألم والندم، حتى شعروا بأن نفوسهم قد امتلأت من الندم امتلاء، فأصبحوا لا يجدون في أنفسهم مكانا، يلتمسون فيه الراحة والهدوء، فأصبح القلق يؤرق جفنهم، والحيرة تستبد بهم، وكأنما أصبحوا يريدون الفرار من أنفسهم.
واقرأ قوله تعالى: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً (السجدة 16).
وتبين ما تثيره في نفسك كلمة تَتَجافى، من هذه الرغبة الملحة التى تملك على المتقين نفوسهم، فيتألمون إذا مست جنوبهم مضاجعهم، ولا يجدون فيها الراحة والطمأنينة، وكأنما هذه المضاجع قد فرشت بالشوك فلا تكاد جنوبهم تستقر عليها حتى تجفوها، وتنبو عنها. وقف كذلك عند كلمة يَعْمَهُونَ فى قوله سبحانه: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (البقرة 15). فإن اشتراك هذه الكلمة مع العمى في الحروف كفيل بالإيحاء إلى النفس، بما فيه هؤلاء القوم من حيرة واضطراب نفسى، لا يكادون به يستقرون على حال من القلق.
واقرأ الآية الكريمة: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ (النساء 185). أفلا تجد فى كلمة زُحْزِحَ ما يوحى إليك بهذا القلق، الذى يملأ صدور الناس في ذلك اليوم، لشدة اقترابهم من جهنم، وكأنما هم يبعدون أنفسهم عنها في مشقة وخوف وذعر. وفي كلمة طمس في قوله تعالى: وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (القمر 37). ما يوحى إليك بانمحاء معالم هذه العيون، حتى كأن لم يكن لها من قبل في هذا الوجه وجود. ويوحى إليك الراسخون في قوله سبحانه: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (النساء 7). بهذا الثبات المطمئن، الذى يملأ قلب هؤلاء العلماء، لما ظفروا به من معرفة الحق والإيمان به. وتوحى كلمة شَنَآنُ فى قوله سبحانه: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا (المائدة 2). توحى بهذا الجوى، الذى يملأ الصدر، حتى لا يطيق المرء رؤية من يبغضه، ولا تستسيغ نفسه الاقتراب منه.
ولما سمعنا قوله تعالى لعيسى بن مريم: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا (النساء 55). أوحى إلينا التعبير بالتطهير، بما يشعر به المؤمن بالله نحو قوم مشركين، اضطر إلى أن يعيش بينهم، فكأنهم يمسونه برجسهم، وكأنه يصاب بشيء من هذا الرجس، فيطهر منه إذا أنقذ من بينهم. وكلمة سُكِّرَتْ فى قوله سبحانه: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (الحجر 14، 15). قد عبر بها الكافرون عما يريدون أن يوهموا به، عما حدث لأبصارهم من الزيغ، فكانت كلمة سُكِّرَتْ، وهى مأخوذة من السكر دالة أشد دلالة على هذا الاضطراب في الرؤية، ولا سيما أن هذا السكر قد أصاب العين واستقل بها، ومعلوم أن الخلط من خصائص السكر، فلا يتبين السكران ما أمامه، ولا يميزه على الوجه الحق. واختار القرآن عند عد المحرمات كلمة أُمَّهاتُ، إذ قال: حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ
(النساء 3). وآثر كلمة الْوالِداتُ فى قوله سبحانه: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ (البقرة 233)، لما أن كلمة (الأم) تبعث في النفس إحساسا بالقداسة، وتصور شخصا محاطا بهالة من الإجلال، حتى لتشمئز النفس وتنفر أن يمس بما يشين هذه القداسة، وذلك الإجلال، وتنفر من ذلك أشد النفور، فكانت أنسب كلمة تذكر عند ذكر المحرمات، وكذلك تجد كل كلمة في هذه المحرمات مثيرة معنى يؤيد التحريم، ويدفع إليه، أما كلمة الوالدات فتوحى إلى النفس بأن من الظلم أن ينزع من الوالدة ما ولدته، وأن يصبح فؤادها فارغا، ومن هنا كانت كل كلمة منهما موحية في موضعها، آخذة خير مكان تستطيع أن تحتله.
وقد تكون الكلمة في موضعها مثيرة معنى لا يراد إثارته، فيعدل عنها إلى غيرها، تجد ذلك في قوله سبحانه: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (الجن 3).
فقد آثر كلمة صاحِبَةً على زوج وامرأة، لما تثيره كلاهما من معان، لا تثيرهما فى عنف مثلهما- كلمة صاحبة.
وقد يكون الجمع بين كلمتين هو سر الإيحاء ومصدره، كالجمع بين النَّاسُ وَالْحِجارَةُ فى قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (البقرة 24). فهذا الجمع يوحى إلى النفس بالمشاكلةبينهما والتشابه. وقد تكون العبارة بجملتها هى الموحية كما تجد ذلك في قوله تعالى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ (المؤمنون 19). أو لا تجد هذه الثياب من النار، موحية لك بما يقاسيه هؤلاء القوم من عذاب أليم، فقد خلقت الثياب يتقى بها اللابس الحر والقر، فماذا يكون الحال إذا قدت الثياب من النيران.
لو بغير الماء صدرى شرق ... كنت كالغصان، بالماء اعتصارى
ومن هذا الباب قوله تعالى: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (الزمر 16). فإن الظلة إنما تكون ليتقى بها وهج الشمس، فكيف إذا كان الظلة نفسها من النيران.
هذه أمثلة قليلة لما في القرآن من كلمات شديدة الإيحاء، قوية البعث لما تتضمنه من المعانى. وهناك عدد كبير من ألفاظ، تصور بحروفها، فهذه «الظاء والشين» فى قوله تعالى: يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (الرحمن 35).
و «الشين والهاء» فى قوله تعالى: وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (الملك 7). و «الظاء» فى قوله تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (الليل 14). و «الفاء» فى قوله سبحانه: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (الفرقان 11، 12). حروف تنقل إليك صوت النار مغتاظة غاضبة. وحرف «الصاد» فى قوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (القمر 19). يحمل إلى سمعك صوت الريح العاصفة، كما تحمل «الخاء» فى قوله سبحانه: وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (فاطر 12). إلى أذنك صوت الفلك، تشق عباب الماء.
وألفاظ القرآن مما يجرى على اللسان في سهولة ويسر، ويعذب وقعه على الأذن، في اتساق وانسجام.
قال البارزى في أول كتابه: (أنوار التحصيل في أسرار التنزيل): اعلم أن المعنى الواحد قد يخبر عنه بألفاظ بعضها أحسن من بعض، وكذلك كل واحد من جزءي الجملة قد يعبر عنه بأفصح ما يلائم الجزء الآخر، ولا بدّ من استحضار معانى الجمل، واستحضار جميع ما يلائمها من الألفاظ، ثم استعمال أنسبها وأفصحها، واستحضار هذا متعذر على البشر، فى أكثر الأحوال، وذلك عتيد حاصل في علم الله، فلذلك كان القرآن أحسن الحديث وأفصحه، وإن كان مشتملا على الفصيح والأفصح، والمليح والأملح، ولذلك أمثلة منها قوله تعالى: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (الرحمن 54). لو قال مكانه: «وثمر الجنتين قريب». لم يقم مقامه من جهة الجناس بين الجنى والجنتين، ومن جهة أن الثمر لا يشعر بمصيره إلى حال يجنى فيها، ومن جهة مؤاخاة الفواصل. ومنها قوله تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ (العنكبوت 48). أحسن من التعبير بتقرأ لثقله بالهمزة. ومنها: لا رَيْبَ فِيهِ (البقرة 2). أحسن من (لا شك فيه) لثقل الإدغام، ولهذا كثر ذكر الريب. ومنها:
وَلا تَهِنُوا (آل عمران 139). أحسن من (ولا تضعفوا) لخفته. ووَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي (مريم 4). أحسن من (ضعف)؛ لأن الفتحة أخف من الضمة، ومنها «آمن» أخف من «صدق»، ولذا كان ذكره أكثر من ذكر التصديق. وآثَرَكَ اللَّهُ (يوسف 91). أخف من (فضّك) و (آتى) أخف من (أعطى) و (أنذر) أخف من (خوّف) و (خير لكم) أخف من (أفضل لكم) والمصدر في نحو: هذا خَلْقُ اللَّهِ (لقمان 11). (يؤمنون بالغيب) أخف من (مخلوق) و (الغائب) و (نكح) أخف من (تزوج)؛ لأن فعل أخف من تفعّل، ولهذا كان ذكر النكاح فيه أكثر، ولأجل التخفيف والاختصار استعمل لفظ الرحمة، والغضب، والرضا، والحب، والمقت، فى أوصاف الله تعالى مع أنه لا يوصف بها حقيقة؛ لأنه لو عبر عن ذلك بألفاظ الحقيقة لطال الكلام، كأن يقال: يعامله معاملة المحب، والماقت، فالمجاز في مثل هذا أفضل من الحقيقة، لخفته، واختصاره، وابتنائه على التشبيه البليغ، فإن قوله: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ (الزخرف 55). أحسن من (فلما عاملونا معاملة المغضب) أو (فلما أتوا إلينا بما يأتيه المغضب) أهـ .
وهناك لفظتان أبى القرآن أن ينطق بهما، ولعله وجد فيهما ثقلا، وهما كلمتا «الآجر» و «الأرضين». أما الأولى فقد أعرض عنها في سورة القصص، فبدل أن يقول: (وقال فرعون: يأيها الملأ ما علمت لكم من إله غيرى، فهيئ لى يا هامان آجرا، فاجعل لى صرحا، لعلى أطلع إلى إله موسى). قال: وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ
غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى
(القصص 38).
وأما الثانية فقد تركها في الآية الكريمة: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (الطّلاق 12).
هذا ومما ينبغى الإشارة إليه أن القرآن قد أقل من استخدام بعض الألفاظ، فكان يستخدم الكلمة مرة أو مرتين، وليس مرجع ذلك لشىء سوى المقام الذى يستدعى ورود هذه الكلمة. وللقرآن استعمالات يؤثرها، فمن ذلك وصفه الحلال بالطّيب، وذكر السّجّيل مع حجارة، وإضافة الأساطير إلى الأولين، وجعل مسنون وصفا للحمأ، ويقرن التأثيم باللغو، وإلّا بذمّة، ومختالا بفخور، ويصف الكذاب بأشر.
ووازن ابن الأثير بين كلمات استخدمها القرآن وجاءت في الشعر، فمن ذلك أنه جاءت لفظة واحدة في آية من القرآن وبيت من الشعر، فجاءت في القرآن جزلة متينة، وفي الشعر ركيكة ضعيفة ... أما الآية فهى قوله تعالى: فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ (الأحزاب 53). وأما بيت الشعر، فهو قول أبى الطيب المتنبى:
تلذ له المروءة، وهى تؤذى ... ومن يعشق يلذ له الغرام
وهذا البيت من أبيات المعانى الشريفة، إلا أن لفظة تؤذى قد جاءت فيه وفي آية القرآن، فحطت من قدر البيت لضعف تركيبها، وحسن موقعها في تركيب الآية ... وهذه اللفظة التى هى تؤذى إذا جاءت في الكلام، فينبغى أن تكون مندرجة مع ما يأتى بعدها، متعلقة به، كقوله تعالى: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ وقد جاءت في قول المتنبى منقطعة، ألا ترى أنه قال: تلذ له المروءة وهى تؤذى، ثم قال: ومن يعشق يلذ له الغرام، فجاء بكلام مستأنف، وقد جاءت هذه اللفظة بعينها في الحديث النبوى، وأضيف إليها كاف الخطاب، فأزال ما بها من الضعف والركة، قال: «باسم الله أرقيك، من كل داء يؤذيك» . وكذلك ورد في القرآن الكريم، إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ، فلفظة (لى) أيضا مثل لفظة يؤذى، وقد جاءت في الآية مندرجة متعلقة بما بعدها، وإذا جاءت منقطعة لا تجىء لائقة، كقول أبى الطيب أيضا:
تمسى الأمانى صرعى دون مبلغه ... فما يقول لشىء: ليت ذلك لى
وهنا من هذا النوع لفظة أخرى، قد وردت في القرآن الكريم، وفي بيت من شعر الفرزدق، فجاءت في القرآن حسنة، وفي بيت الشعر غير حسنة، وتلك اللفظة هى لفظة القمل، أما الآية فقوله تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ (الأعراف 133). وأما بيت الشعر فقول الفرزدق:
من عزه احتجرت كليب عنده ... زريا، كأنهم لديه القمّل
وإنما حسنت هذه اللفظة في الآية دون هذا البيت من الشعر؛ لأنها جاءت في الآية مندرجة في ضمن كلام، ولم ينقطع الكلام عندها، وجاءت في الشعر قافية أى آخرا انقطع الكلام عندها، وإذا نظرنا إلى حكمة أسرار الفصاحة في القرآن الكريم، غصنا في بحر عميق لا قرار له، فمن ذلك هذه الآية المشار إليها، فإنها قد تضمنت خمسة ألفاظ، هى: الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وأحسن هذه الألفاظ الخمسة هى: الطوفان، والجراد، والدم، فلما وردت هذه الألفاظ الخمسة بجملتها قدم منها لفظتا الطوفان، والجراد، وأخرت لفظة الدم آخرا، وجعلت لفظة القمل والضفادع في الوسط؛ ليطرق السمع أولا الحسن من الألفاظ الخمسة، وينتهى إليه آخرا، ثم إن لفظة الدم أحسن من لفظتى الطوفان، والجراد، وأخف في الاستعمال، ومن أجل ذلك جىء بها آخرا، ومراعاة مثل هذه الأسرار والدقائق في استعمال الألفاظ ليس من القدرة البشرية .
وقال ابن سنان الخفاجى، معلقا على قول الشريف الرضى:
أعزز علىّ بأن أراك وقد خلت ... عن جانبيك مقاعد العواد
إيراد مقاعد في هذا البيت صحيح، إلا أنه موافق لما يكره في هذا الشأن، لا سيما وقد أضافه إلى من يحتمل إضافته إليهم، وهم العواد، ولو انفرد، كان الأمر فيه سهلا، فأما إضافته إلى ما ذكره ففيها قبح لا خفاء به . وابن سنان يشترط لفصاحة الكلمة ألا يكون قد عبر بها عن أمر آخر يكره ذكره ، قال ابن الأثير: وقد جاءت هذه اللفظة المعيبة في الشعر في القرآن الكريم فجاءت حسنة مرضية، وهى قوله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ (آل عمران 121).
وكذلك قوله تعالى: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (الجن 8، 9). ألا ترى أنها في هاتين الآيتين غير مضافة إلى من تقبح إضافته إليه، كما جاءت في الشعر، ولو قال الشاعر بدلا من مقاعد العواد، مقاعد الزيادة، أو ما جرى مجراه، لذهب ذلك
القبح، وزالت تلك الهجنة، ولذا جاءت هذه اللفظة في الآيتين على ما تراه من الحسن، وجاءت على ما تراه من القبح، فى قول الشريف الرضى .
ومن ذلك استخدام كلمة شىء، ترجع إليها في القرآن الكريم، فترى جمالها في مكانها المقسوم لها. واستمع إلى قوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (الكهف 45). وقوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (الطّور 35). وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (يونس 44). إلى غير ذلك من عشرات الآيات التى وردت فيها تلك اللفظة، وكانت متمكنة في مكانها أفضل تمكن وأقواه، ووازن بينها في تلك، وبينها في قول المتنبى يمدح كافورا:
لو الفلك الدوار أبغضت سعيه ... لعوقه شىء عن الدوران
فإنك تحس بقلقها في بيت المتنبى، ذلك أنها لم توح إلى الذهن بفكرة واضحة، تستقر النفس عندها وتطمئن، فلا يزال المرء بعد البيت يسائل نفسه عن هذا الشيء، الذى يعوق الفلك عن الدوران، فكأن هذه اللفظة لم تقم بنصيبها في منح النفس الهدوء الذى يغمرها، عند ما تدرك المعنى وتطمئن إليه.
ولم يزد مرور الزمن بألفاظ القرآن إلا حفظا لإشراقها، وسياجا لجلالها، لم تهن لفظة ولم تتخل عن نصيبها، فى مكانها من الحسن، وقد يقال: إن كلمة الغائط من قوله سبحانه: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً (المائدة 43). قد أصابها الزمن، فجعلها مما تنفر النفس من استعمالها، ولكنا إذا تأملنا الموقف، وأنه موقف تشريع وترتيب أحكام، وجدنا أن القرآن عبر أكرم تعبير عن المعنى، وصاغه في كناية بارعة، فمعنى الغائط في اللغة المكان المنخفض، وكانوا يمضون إليه في تلك الحالة، فتأمل أى كناية تستطيع استخدامها مكان هذه الكناية القرآنية البارعة، وإن شئت أن تتبين ذلك، فضع مكانها كلمة تبرزتم، أو تبولتم، لترى ما يثور في النفس من صور ترسمها هاتان الكلمتان، ومن ذلك كله ترى كيف كان موقع هذه الكناية يوم نزل القرآن، وأنها لا تزال إلى اليوم أسمى ما يمكن أن يستخدم في هذا الموضع التشريعى الصريح.

وقف البيان

وقف البيان:
* ما يقصد منه بيان معنى لا يظهر إلا بالوقف عليه، ويعرف بـ (وقف التمييز)، ويمثلون له بالوقف على: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ}، والابتداء بـ: {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}.
لأن التسبيح لا يكون إلا لله جل جلاله فلو وصل لأوهم اشتراك الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيه، ونحو ذلك من الوقف، وغالب ما مثلوا به لا تساعده اللغة، لذلك لم يعده أكثر العلماء ضمن أنواع الوقف، ففي المثال المذكور قوله تعالى: {وَتُسَبِّحُوهُ} معطوف على ما قبله قد حذفت منه النون للنصب، فكيف يتم الكلام على ما قبله، وذلك يقتضي الوصل من جهة نحوية ومعنوية وبلاغية أيضاًً؛ لأن هذه الآية من قبيل اللف والنشر، كما هو مقرر في فن البديع، فغاية ما يقال في هذا المثال ونحوه: إنه من الوقف الحسن. ومما مثلوا به قوله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} حيث اعتبر الوقف على (مُؤْمِنٌ) وقف بيان، على معنى أنه ليس من آل فرعون ولكنه يكتم إيمانه من آل فرعون، وفيه نظر، وغايته أنه من الحسن أيضاًً.
* الوقف على رؤوس الآي في السورة بقصد الإعلام بفواصلها.

علم آداب الصحبة والمعاشرة

علم آداب الصحبة والمعاشرة مع أصناف الخلق
ولا بد أن يكون الغرض من الصحبة النفع الديني كاستفادة العلم والعمل وكاستفادة العز والجاه تحصنا به عن أذى من يشوش القلب وكاستفادة المال للاكتفاء به عن إضاعة الأوقات في طلب الأقوات وكالاستعانة في المهمات فيكون عدة في المصائب وقوة في الأهوال والنوائب وكالتبرك بمجرد الدعاء وكانتظار الشفاعة في الآخرة.
ومن حقوق الصحبة: الــاشتراك في المال مع عقد الأخوة والإعانة في قضاء الحاجات والسكوت عن ذكر عيوبه في حضرته وغيبته وذكر مناقبه في الغيب والعفو عن الزلات والهفوات والدعاء للأخ في حياته وبعد مماته والوفاء والإخلاص في المعاملة وترك التكليف في الصحبة.
وهذا العلم من فروع علوم العادات على ما ذكره في مدينة العلوم. علم آداب العزلة
ولها فضائل وآفات وآداب
أما الفضائل فست
أولها: الفراغ للعبادات والاستيناس بمناجاة رب الأرباب عن مناجاة المخلوقات والاستكشاف بأسرار الله تعالى في أمر الدنيا والآخرة وملكوت السماء والأرض.
وثانيها: التخلص بالعزلة عن المعاصي التي لا يسلم منها الإنسان عند الصحبة إلا نادرا.
ثالثها: الخلاص من الفتن والخصومات وصيانة الدين والنفس.
رابعها: الخلاص من شر الناس من الغيبة له وسوء الظن به والتهمة عليه والاقتراحات والأطماع الكاذبة التي يعد الوفاء بها.
خامسها: انقطاع طمع الناس عنه وانقطاع طمعه عنهم.
سادسها: الخلاص من مشاهدة الثقلاء السفهاء ومقاساة أخلاقهم.
وأما الآفات: فأولها فوات التعليم والتعلم وهما أعظم العبادات.
ثانيها: فوات النفع والانتفاع لأن كلا منهما بالمخالطة.
ثالثها: فوات التأدب والتأديب بكسر النفس وقهر الشهوات بتحمل أذى الناس.
رابعها: فوات الاستيناس والإيناس بالصلحاء الأتقياء.
خامسها: فوات نيل الثواب وإنالته.
أما النيل: فبحضور الجمعة والجماعات والجنائز وعيادة المرضى وحضور العيدين.
وأما الإنالة: فهي سد باب التعزية والتهنية والعيادة والزيارة إن كان عالما تقيا ففي هذه الصورة ينبغي أن يوازن ثواب هذه بآفاتها ويرجح ما ترجح.
سادسها: فوت التجارب إذ العقل الغريزي غير كاف بها.
وأما آدابها: فهي أن ينوي بعزلته كف شره عن الناس أولا ثم طلب السلامة من الأشرار.
ثانيا: ثم الخلاص من آفات الاختلاط.
ثالثا: التجرد بكنه الهمة لعبادة الله.
رابعا: ثم المواظبة في الخلوة على العلم والعمل والفكر والذكر والخلاص عن استماع أخبار الناس وأراجيف البلد اللذين يشوشان القلب لا سيما في الصلاة وهذا العلم ذكره في مدينة العلوم في العلوم المتعلقة بالعادات.

علم البيان

علم البيان
هو: علم يعرف به إيراد المعنى الواحد، بتراكيب مختلفة، في وضوح الدلالة على المقصود، بأن تكون دلالة بعضها أجلى من بعض.
وموضوعه: اللفظ العربي، من حيث وضوح الدلالة على المعنى المراد.
وغرضه: تحصيل ملكة الإفادة، بالدلالة العقلية، وفهم مدلولاتها.
وغايته: الاحتراز عن الخطأ، في تعيين المعنى المراد.
ومباديه: بعضها: عقلية، كأقسام الدلالات، والتشبيهات، والعلاقات، وبعضها: وجدانية، ذوقية، كوجوه التشبيهات، وأقسام الاستعارات، وكيفية حسنها.
وإنما اختاروا في علم البيان: وضوح الدلالة، لأن بحثهم لما اقتصر على الدلالة العقلية، أعني: التضمنية، والالتزامية، وكانت تلك الدلالة خفية، سيما إذا كان اللزوم بحسب العادات، والطبائع، فوجب التعبير عنها بلفظ أوضح.
مثلا: إذا كان المرئي دقيقا في الغاية، تحتاج الحاسة في إبصارها إلى شعاع قوي، بخلاف المرئي، إذا كان جليا، وكذا الحال في الرؤية العقلية، أعني: الفهم، والإدراك.
والحاصل: أن المعتبر في علم البيان: دقة المعاني المعتبرة فيها، من الاستعارات والكنايات، مع وضوح الألفاظ الدالة عليها.
ومن الكتب المفردة فيه:
علم البيان
هو: علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بتراكيب مختلفة في وضوح الدلالة على المقصود بأن تكون دلالة بعضها أجلى من بعض.
وموضوعه: اللفظ العربي من حيث وضوح الدلالة على المعنى المراد.
وغرضه: تحصيل ملكة الإفادة بالدلالة العقلية وفهم مدلولاتها ليختار الأوضح منها مع فصاحة المفردات.
وغايته: الاحتراز من الخطأ في تعيين المعنى المراد بالدلالة الواضحة.
ومباديه: بعضها: عقلية كأقسام الدلالات والتشبيهات والعلاقات المجازية ومراتب الكنايات وبعضها: وجدانية ذوقية كوجوه التشبيهات وأقسام الاستعارات وكيفية حسنها ولطفها وإنما اختاروا في علم البيان وضوح الدلالة لأن بحثهم لما اقتصر على الدلالة العقلية - أعني التضمنية والالتزامية - وكانت تلك الدلالات خفية سيما إذا كان اللزوم بحسب العادات والطبائع وبحسب الألف فوجب التعبير عنهما بلفظ أوضح مثلا إذا كان المرئي دقيقا في الغاية تحتاج الحاسة في إبصارها إلى شعاع قوي بخلاف المرئي إذا كان جليا وكذا الحال في الروية العقلية أعني الفهم والإدراك.
والحاصل: أن المعتبر في علم البيان دقة المعاني المعتبرة فيها من الاستعارات والكنايات مع وضوح الألفاظ الدالة عليها.
قال في: كشاف اصطلاحات الفنون: علم البيان: علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه كذا ذكر الخطيب في: التلخيص وقد احترز به عن ملكة الاقتدار على إيراد المعنى العادي عن الترتيب الذي يصير به المعنى معنى الكلام المطابق لمقتضى الحال بالطرق المذكورة فإنها ليست من علم البيان وهذه الفائدة أقوى مما ذكره السيد السند من أن فيما ذكره القوم تنبيها على أن علم البيان ينبغي أن يتأخر عن علم المعاني في الاستعمال وذلك لأنه يعلم منه هذه الفائدة أيضا فإن رعاية مرابت الدلالة في الوضوح والخفاء على المعنى ينبغي أن يكون بعد رعاية مطابقته لمقتضى الحال فإن هذه كالأصل في المقصودية وتلك فرع وتتمة لها وموضعه: اللفظ البليغ من حيث أنه كيف يستفاد منه المعنى الزائد على أصل المعنى وإن شئت زيادة التوضيح فارجع إلى الأطول. انتهى.
قال ابن خلدون في: بيان علم البيان: هذا العلم حادث في الملة بعد علم العربية واللغة وهو من العلوم اللسانية لأنه متعلق بالألفاظ وما تفيده ويقصد بها الدلالة عليه من المعاني.
وذلك وأن الأمور التي يقصد المتكلم بها إفادة السامع من كلامه هي: إما تصور مفردات تسند ويسند إليها ويفضي بعضها إلى بعض والدالة على هذه هي المفردات من الأسماء والأفعال والحروف.
وأما تمييز المسندات من المسند إليها والأزمنة ويدل عليها بتغير الحركات وهو الإعراب وأبنية الكلمات وهذه كلها هي صناعة النحو يبقى من الأمور المكتنفة بالواقعات المحتاجة للدلالة أحوال المتخاطبين أو الفاعلين وما يقتضيه حال الفعل وهو محتاج إلى الدلالة عليه لأنه من تمام الإفادة وإذا حصلت للمتكلم فقد بلغ غاية الإفادة في كلامه وإذا لم يشتمل على شيء منها فليس من جنس كلام العرب فإن كلامهم واسع ولكل مقام عندهم مقال يختص به بعد كمال الإعراب والإبانة ألا ترى أن قولهم: زيد جاءني مغاير لقولهم: جاءني زيد من قبل أن المتقدم منهما هو الأهم عند المتكلم.
ومن قال: جاءني زيد أفاد أن اهتمامه بالمجيء قبل الشخص المسند إليه.
ومن قال زيد جاءني أفاد أن اهتمامه بالشخص قبل المجيء المسند.
وكذا التعبير عن أجزاء الجملة بما يناسب المقام من موصول أو مبهم أو معرفة وكذا تأكيد الإسناد على الجملة كقولهم زيد قائم وإن زيدا قائم وإن زيدا القائم متغايرة كلها في الدلالة وإن استوت من طريق الأعراف.
فإن الأول: العادي عن التأكيد إنما يفيد الخالي الذهن.
والثاني: المؤكد بأن يفيد المتردد.
والثالث: يفيد المنكر فهي مختلفة. وكذلك تقول جاءني الرجل ثم تقول مكانه بعينه جاءني رجل إذا قصدت بذلك التنكير تعظيمه وأنه رجل لا يعادله أحد من الرجال ثم الجملة الإسنادية تكون خبرية: وهي التي لها خارج تطابقه أولا وإنشائية: وهي التي لا خارج لها كالطلب وأنواعه ثم قد يتعين ترك العاطف بين الجملتين إذا كان للثانية محل من الإعراب فينزل بذلك منزلة التابع المفرد نعتا وتوكيدا وبدلا بلا عطف أو يتعين العطف إذا لم يكن للثانية محل من الإعراب ثم يقتضي المحل الإطناب والإيجاز فيورد الكلام عليهما ثم قد يدل باللفظ ولا يريد منطوقه ويريد لازمه إن كان مفردا كما تقول:
زيد أسد فلا تريد حقيقة الأسد المنطوقة وإنما تزيد شجاعته اللازمة وتسندها إلى زيد وتسمى هذه استعارة.
وقد تريد باللفظ المركب الدلالة على ملزومه كما تقول: زيد كثير الرماد وتريد به ما لزم ذلك عنه من الجود وقرى الضيف لأن كثرة الرماد ناشئة عنهما فهي دالة عليهما وهذه كلها دلالة زائدة على دلالة الألفاظ المفرد والمركب وإنما هي هيئات وأحوال لواقعات جعلت للدلالة عليها أحوال وهيئات في الألفاظ كل بحسب ما يقتضيه مقامه فاشتمل هذا العلم المسمى ب: البيان على البحث عن هذه الدلالات التي للهيئات والأحوال والمقامات وجعل على ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: يبحث فيه عن هذه الهيئات والأحوال التي تطابق باللفظ جميع مقتضيات الحال ويسمى: علم البلاغة.
والصنف الثاني: يبحث فيه عن الدلالة على اللازم اللفظي وملزومه وهي الاستعارة والكناية كما قلناه ويسمى: علم البيان وألحقوا بهما صنفا آخر وهو النظر في تزيين الكلام وتحسينه بنوع من التنميق إما بسجع يفصله أو تجنيس يشابه بين ألفاظه وترصيع يقطع أوزانه أو تورية عن المعنى المقصود بإيهام معنى أخفى منه لــاشتراك اللفظ بينهما وأمثال ذلك ويسمى عندهم: علم البديع.
وأطلق على الأصناف الثلاثة عند المحدثين اسم: البيان وهو: اسم الصنف الثاني لأن الأقدمين أول ما تكلموا فيه ثم تلاحقت مسائل الفن واحدة بعد أخرى.
وكتب فيها جعفر بن يحيى والجاحظ وقدامة وأمثالهم ملاءات غير وافية.
ثم لم تزل مسائل الفن تكمل شيئا فشيئا إلى أن محض السكاكي زبدته وهذب مسائله ورتب أبوابه على نحو ما ذكرناه آنفا من الترتيب وألف كتابه المسمى ب: المفتاح في النحو الصرف والبيان فجعل هذا الفن من بعض أجزائه وأخذه المتأخرون من كتابه ولخصوا منه أمهات هي المتداولة لهذا العهد كما فعله السكاكي في كتاب: التبيان وابن مالك في كتاب: المصباح وجلال الدين القزويني في كتاب: الإيضاح والتلخيص وهو أصغر حجما من الإيضاح.
والعناية به لهذا العهد عند أهل المشرق في الشرح والتعليم منه أكثر من غيره وبالجملة فالمشارقة على هذا الفن أقوم من المغاربة وسببه - والله أعلم -: أنه كمالي في العلوم اللسانية والصنائع الكمالية توجد في العمران والمشرق أوفر عمراناً من المغرب.
أو نقول: لعناية العجم وهو معظم أهل المشرق كتفسير الزمخشري وهو كل مبني على هذا الفن وهو أصله وإنما اختص بأهل المغرب من أصنافه: علم البديع خاصة وجعلوه من جملة علوم الأدب الشعرية وفرعوا له ألقابا وعددوا أبوابا ونوعوا وزعموا أنهم أحصوها من لسان العرب وإنما حملهم على ذلك: الولوع بتزيين الألفاظ.
وأن علم البديع سهل المأخذ وصعبت عليهم مآخذ البلاغة والبيان لدقة أنظارهما وغموض معانيهما فتجافوا عنهما.
ومن ألف في البديع من أهل إفريقية ابن رشيق وكتاب: العمدة له مشهور وجرى كثير من أهل إفريقية والأندلس على منحاه.
واعلم أن ثمرة هذا الفن إنما هي في فهم الإعجاز من القرآن لأن إعجازه في وفاء الدلالة منبه لجميع مقتضيات الأحوال منطوقة ومفهومة وهي أعلى مراتب الكلام مع الكمال فيما يختص بالألفاظ في انتقائها وجودة رصفها وتركيبها وهذا هو الإعجاز الذي تقصر الأفهام عن دركه وإنما يدرك بعض الشيء منه من كان له ذوق بمخالطة اللسان العربي وحصول ملكته فيدرك من إعجازه على قدر ذوقه فلهذا كانت مدارك العرب الذين سمعوه من مبلغه أعلى مقاما في ذلك لأنهم فرسان الكلام وجهابذته والذوق عندهم موجود بأوفر ما يكون وأصحه.
وأحوج ما يكون إلى هذا الفن المفسرون وأكثر تفاسير المتقدمين غفل عنه حتى ظهر جار الله الزمخشري ووضع كتابه في التفسير حيث جاء بأحكام هذا الفن بما يبدي البعض من إعجازه فانفرد بهذا الفضل على جميع التفاسير لولا أنه يؤيد عقائد أهل البدع عند اقتباسها من القرآن بوجوه البلاغة ولأجل هذا يتحاماه كثير من أهل السنة مع وفور بضاعته من البلاغة فمن أحكم عقائد أهل السنة وشارك في هذا الفن بعض المشاركة حتى يقتدر على الرد عليه من جنس كلامه أو يعلم أنه بدعة فيعرض عنها ولا تضر في معتقده فإنه يتعين عليه النظر في هذا الكتاب للظفر بشيء من الإعجاز مع السلامة من البدع - والأهواء والله الهادي من يشاء إلى سواء السبيل -. انتهى كلام ابن خلدون.
وأقول: إن تفسير أبي السعود قد وفى بحق المعاني والبيان والبديع التي في القرآن الكريم على نحو ما أشار إليه ابن خلدون بيد أنه رجل فقيه لا يفسر الكتاب على مناحي السلف ولا يعرف علم الحديث حق المعرفة فجاء الله - سبحانه - بقاضي القضاة محمد بن علي الشوكاني اليمني - رحمه الله - ووفقه لتفسير كتابه العزيز - على طريقة الصحابة والتابعين وحذا حذوهم وميز بين الأقوال الصحيحة والآراء السقيمة وفسر بالأخبار المرفوعة والآثار المأثورة وحل المعضلات وكشف القناع عن وجوه المشكلات إعرابا وقراءة فجزاه الله عنا خير الجزاء.
ثم وفق الله - سبحانه - هذا العبد بتحرير تفسير جامع لهذه كلها على أبلغ أسلوب وأمتن طريقة يغني عن تفاسير الدنيا بتمامها وهو في أربعة مجلدات وسماه: فتح البيان في مقاصد القرآن ولا أعلم تفسيرا على وجه البسيطة يساويه في اللطافة والتنقيح أو يوازيه في الرقة والتصحيح ومن يرتاب في دعواي هذه فعليه بتفاسير المحققين المعتمدين ينظر فيها أولا ثم يرنو في ذلك يتضح له الأمر كالنيرين ويسفر الصبح لذي عينين وبالله التوفيق. قال في: مدينة العلوم: ومن الكتب المفردة فيه: الجامع الكبير لابن أثير الجزري و: نهاية الإعجاز للإمام فخر الدين الرازي - رحمه الله - تعالى -. انتهى.
Learn Quranic Arabic from scratch with our innovative book! (written by the creator of this website)
Available in both paperback and Kindle formats.