Current Dictionary: All Dictionaries

Search results for: أولئك

فِي الْغَابِرِينَ

{فِي الْغَابِرِينَ}
قال: فأخبرني عن قول الله - عز وجل -: {إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ}
فقال: عجوز من الباقين. واستشهد بقول عبيد بن الأبرص:
ذهبوا وخَلَّفنى المخَلَّفُ فيهمُ. . . فكأنني في الغابرين غَرِيبُ
(ك، ط، تق)
= الكلمة من آيتى الشعراء 171، والصافات 135 في امرأة لوط عليه السلام:
{فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ}
ومعها {مِنَ الْغَابِرِينَ} في السياق نفسه، من آيات:
الأعراف 83، الحجر 60، النمل 57، العنكبوت 32، 33
ويما عدا هذه الصيغة، لم يأت من المادة في القرآن إلا {} في آية عبس:
{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ}
وتفسير الغابرين بالباقين، قاله الفراء أيضاً في معنى آية الشعراء وأنشد في معناه بيت الحَارث بن حلزة:
لا تكسيعِ الشُولَ بأغْبارِها. . . إنك لا تدري مَنِ الناتجُ (2 / 282)
لكن الأصمعي قال في (الأضداد) : الغابر الباقي، والغابر الماضي (58 / 97) قال أبة حاتم السجتاني في أضداده: ومن الأضداد، الغابر: الباقي والماضي، والأكثر على الباقي. ومن شواهده قول العجاج:
فما وَنَى محمد مذ أنْ غَفَرْ. . . لهُ الإلهُ ما مضى وما غَبَرْ
(153 / 269)
ويبدو الفرق بين "الغابرين" والباقين، في أن القرآن لم يستعمل "الغابرين" إلا في سياق هذا الحديث عن امرأة لوط وقومه الفاسقين. وأما البقاء فيأتي في القرآن نقيض النفاد والفناء، فيما يبقى عند الله من عمل صالح، وما عند الله خير وأبقى (القصص 60 والشورى 36) ورَزق ربك خيرٌ وأبقى (طه 131) وفيما يخلد.
{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} الرحمن 27
{وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} الأعلى 17
{مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} النحل 96
{وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} طه 71 ومعها: 131
{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا} الكهف 46 ومعها مريم 76 وهو 86.
{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} الصافات 77
{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} الزخرف 28
{وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى} البقرة 248
ولا يقرب أن نفهمها بمعنى: غبر، فهل يحتمل (في الغابرين)
أن يكون بمعنى: في الباقين، أو بمعنى في الماضين الدابرين؟ في تفسير القرطبي لآية (الشعراء 171) عن قتادة: غبرتْ في عذاب الله - عز وجل -، أي بقيت.
وأبو عيبدة يذهب إلى أن المعنى: من الباقين في الهرم، أي بقيت حتى هرمت.
والعربية تستعمل الغابر فيمن بقى وطال عمره، مأخوذاً من الغبرة البقية في الضرع. والغبار ما يبقى من النقع المثار. ويذهب "الرغب" في المفردات، إلى أن الباقي قيل له غابر "تصوراً بتخلف الغبار عن الذي يعدو"
وأراه من الغبرة البقية، أوْلى.

سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ

{سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ}
وسأل نافع عن قوله تعالى: {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ}
فقال ابن عباس: الطعن باللسان. وشاهده قول الأعشى:
فيهمُ الخصبُ والسماحةُ والنجـ. . . ـدة فيهم، والخاطبُ المِسلاقُ
(تق، ك، ط)
= الكلمة من آية الأحزاب 19، في المعوَّقين عن الجهاد:
{أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}
{سَلَقُوكُمْ} وحيدة في القرآن مادة وصيغة.
وأما "حِداد" فوحيدة الصيغة، وجاء من المادة "حديد" ست مرات و"حدود الله" ثلاث عشرة مرة
كما جاء الفعل "حادَّ" ماضياً مرة، ومضارعاً مرتين.
وملحظ الحِدَّة والعنف واضح في: ألسنة حداد، وفي لجج المحادة ولَدَد الجدل. . . وفي الحديد ظاهرة القوة، وفي حدود الله ما يعطيها قوة الإلزام والحُرمة.
والسؤال فيما يبدو، متعلق بكلمة {سَلَقُوكُمْ} وتفسير السلق بالطعن باللسان احتراز يغني عنه التصريح {بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} فيأخذ السلق دلالته على النجريح والطعن، من أصل مادته في سلق الشيء بالماء الحار. وقال الفراء في معنى الآية آذوكم في الأمن (2 / 339)
وفي حديث "ليس منا من سلق أو حلق" قال ابن الأثير: أي رفع صوته عند المصيبة، وقيل هو ان تصك المرأة وجهها وتمرشه، والأول أصح. (النهاية)
وفي القاموس: سلقه بالكلام أذاه، واللحَم عن العظم: التحاه، وفلاناً: طعنه، والبردُ النباتَ: أحرقه، وفلاناً بالسوط: نزع جلده، وشيئاً بالماء الحار: أذهب شَعره ووبره.
والمسلاق في الشاهد من قول الأعشى، أخذ السلقُ فيه كونهَ باللسان، من لفظ * الخاطب * أي الخطيب. وكل هذا من الاستعمال المجازي للمادة، منقولاً إليه من أصل استعماله في السلْق بالماء الحار. والله أعلم.

قَانِتُونَ

{قَانِتُونَ}
وسأل نافع عو قوله تعالى: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}
فقال: مُقِرُّون. واستشهد بقول عَدىَّ بن زيد:
فقال: مُقِرُّون. واستشهد بقول عَدىَّ بن زيد:
قَانتاً للهِ يرجو عَفْوَهُ. . . يومَ لاَ يُكفَرُ عَبْدٌ مَا ادَّخرْ
(تق، ك، ط)
= الكلمة من آيتى:
البقرة 116: {سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}
والروم 26: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}
ومعهما اسم الفاعل، مفرداً، وجمعاً في آيات:
الزمر 9: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ}
النحل 120: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} البقرة 238: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}
آل عمران 17: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}
النساء 34: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ}
ومعها آيتا: الأحزاب 35، والتحريم 5 في نساء النبي عليه الصلاة والسلام، وآية التحريم 12 في مريم عليها السلام.
وجاء الفعل مرة واحدة في آية الأحزاب 31، خطاباً لنساء النبي: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ}
وتفسير القنوت بالإقرار لا يكون إلا على وجه تقريب لا يفوتنا فيه أن الإقرار يغلب أن يصدر على وجه الإلزام، وقد يكون عن تَقِيَّة وخوف، ولا يكون القنوت إلا عن خشوع صادق. يؤيد هذا الملحظ أن القرآن لم يستعمل القنوت إلا لله ورسوله، والقانتون والقانتات فيه هم الصفوة المؤمنون العابدون.
وجوهر الفرق أن القنوت من أفعال القلوب كالخشوع والتقوى، وليس الإقرار كذلك. وفي القرآن منه، آية البقرة 84 خطاباً لبني إسرائيل فيما نقضوا من ميثاق بعد الإقرار: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}
وآية آل عمران 81: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَــأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}
ملحظ الإلزام في الإقرار واضح، فاحتاج إلى الإشهاد عليه وكان نقضه بعد إقراره، إثماً وعدواناً وفسقاً. وقول "الراغب": القنوت لزوم الطاعة مع الخضوع، وفُسرَّ بكلَّ زاحد منهما في قوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} قيل: خاضعين، وقيل طائعين، وقيل ساكتين، لم يعن به: عن الكلام، وإنما عنى به ما قال عليه السلام: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين، إنما هي قرآن وتسبيح". (المفردات)
يرد عليه أن الخضوع، قد يكون أيضاً عن قسر وخوف أو عن تقية ومداراة. وهذا وجه تخصيصه عند الفراء، فقال في معنى آية البقرة 116: يريد مطيعين، وهذه خاصة لأهل الطاعة، ليس بعامة (1 / 141)
ومن معاني القنوت عن ابن الأثير: الطاعة، والخشوع - وهو غير الخضوع - ولاصلاة. والدعاء والعبادة وطول القيام والسكوت (النهاية) ولا يخرج عما في المعاجم. وهي معان متقاربة، وفيها من الخشوع والتواضع لله - عز وجل -، ما ليس في الإقرار الذي قد يكون عن إلزام بالخضوع.

قِدَدًا

{قِدَدًا}
وسأل نافع عن قوله تعالى: {طَرَائِقَ قِدَدًا}
قال ابن عباس: المتقطعة في كل وجه. وشاهده قول الشاعر:
ولقد قلتُ وزيدٌ حاسرً. . . يومَ ولَّتْ خيلُ زيدٍ قِدَدَا
(تق) وفي (ك، ط) : من كل وجه.
الكلمة من آية الجن 11:
{وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا}
وحيدة الصيغة في القرآن، وليس معها فيه من مادتها غير الفعل الماضي في آيات يوسف، وامرأة العزيز، (25 - 28) :
{وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ} ، {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}
والقد فيها على أصل معناه في التمزيق.
وتفسيره {طَرَائِقَ قِدَدًا} بالمتقطعة في كل وجه، لعله عنى به التقطع المجازي في الهدى والضلال، ونظر فيه، والله أعلم، إلى آيات:
الأعراف 168: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} ومعها 160 في تقكيع قوم موسى أسباطاً..
والمؤمنون 53: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} وآية الأنبياء 93:
وإن جاء التقطع والتقطيع كذلك في تقطيع الأرحام (محمد 22) وتقطع القلوب حسرة (التوبة 111) كما جاء على أصل معناه في تقطيع الأيدي في حد السرقة (المائدة 38) والأيدي والأرجل في حد الحرابة (التوبة 33) وتقطيع النسوة أيديهن في آيتى (يوسف 31، 50) ووعيد فرعون لمن آمن من السحرة بتقطيع أيديهم وأرجلهم من خلاف (الأعراف 124، طه 71، الشعراء 49)
وجاء في النذير بعذاب الكفار في الجحيم: {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} الحج 19 {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} محمد 15
وذهب الفراء في معنى آية الجن إلى: كنا فرقا مختلفة أهواؤنا (3 / 191) ونقل فيها القرطبي عن الضحاك: أدياناً مختلفة. وعن قتادة: أهواء متباينة، وأنشد:
القابض الباسط الهادي بطاعته. . . في فتنة الناسِ إذ أهواؤهم قِدَدُ
قال: ويقال القوم طرائق، جمع طريقة، أي على مذاهب شتى. والِقدَد نحو منها وهو توكيد لها واحدها قِدَّة، وأصلها من قدَّ السيور وهو قطعها (الجامع 19 / 14) وكذلك فسرها أبو حيان بالسِير المختلفة، وأنشد:
* القابض الباسط * البيت، وبيت الكُميت:
جمعتَ بالرأي منهم كلَّ رافضة. . . إذ هم طرائق في أهوائها قِدَدُ
(البحر 8 / 344)
والتفاوت بين الصلاح وما دونه، هو صريح آية الجن. ومعها في سياقها: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَــأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا}
وأما الشاهد في جواب المسألة - وهو للبيد بن ربيعة - فصريح في تشتت الخيل وتقطعها في كل وجه.

قَفَّيْنَا

{قَفَّيْنَا} :
وسأل نافع عن معنى قوله تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ}
فقال ابن عباس: أتبعنا على آثار الأنبياء. أي بعثنا. واستشهد بقول عدى ابن زيد:
يومَ قَفَّتْ عِيرهُم مِنْ عِيرِنا. . . واحتمال الحىَّ في الصُّبحِ فَلَقْ
(تق، ك، ط)
السؤال في روايتى (ظ) عن قوله - عز وجل -: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}
قال ابن عباس: لا تقل ما ليس لك به علم. وشاهده بيت زهير:
إذا ما رأيت المرء يقفو نفسه. . . والمحصَناتِ فما لذاكَ حَوِيرُ = الكلمة من آية المائدة 46، في الأنبياء المرسلين:
{وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} ومعها: آية الحديد 27.
وآية البقرة 87: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ}
وجاء الفعل الثلاثي في آية الإسراء 36: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} . وفيها السؤال في (ظ) . وهذا هو كل ما في القرآن من المادة.
وما نُقل عن ابن عباس في تفسيرها، تقريب. وقيدها "الراغب" في (المفردات) بإتباعٍ من خَلْف. راجعاً بها إلى أصل مأخذها من القَفَا، كالإرداف من الردف، والتعقيب من العَقِب، والتذييل من الذيل.
وتعلُّق "على آثارهم" بـ: قفيًّنا، يفيد معنى التأييدِ واتباع نهج من مَضى من الرسل عليهم السلام، من حيث يأتي النبي المرَسل، مصدقاً لمن سبقه من الرسل، تقفيةً على آثارهم. والعرب تقول: قفوت أثره، غذا تتبعت خطوه لا أِحيدُ عنه. وأغنت "على آثارهم" في السياق، عن الاحتراز بما يكون من التقفية مطاردةً أو صداً وإدباراً، ومنه في الحديث: "فلما قفى قال" أي ذهب مولياً.
قال ابن الأثير: كأنه من القفا، أي أعطاه قفاه وظهره.
ومثله الحديث: "أل أخبركم بأشد حرّاً منه يوم القيامة؟ هذينك الرجلين المقفَّفيَيْنِ" أي الموليين. (النهاية)
واضح من سياق الكلمة القرآنية في آياتها الثلاث، أن التقفية على آثار الرسل عليهم السلام، إتباعُ تصديقٍ وتأييد.
ويرد على الاستئهاد لمعنى الإتباع في الآية، بقول عدى بن زيد: يومَ قفَّت عِيرُهم من عيرنا * أن الفعل فيه تعدى بحرف "من" فأفلاد التولي والإدبار ممن احتملوا للرحيل، وهو في الآية متعد بحرف "على" آثارهم، فأفاد تتبعَ النهج والسير على الأثر. والله أعلم.

علم الفلسفيات

علم الفلسفيات
العلوم الفلسفية أربعة أنواع: رياضية ومنطقية وطبيعية وإلهية. فالرياضية على أربعة أقسام.
الأول: علم الأرتماطيقي وهو معرفة خواص العدد وما يطابقها من معاني الموجودات التي ذكرها فيثاغورس نيقوماخس وتحته علم الوفق وعلم الحساب الهندي وعلم الحساب القبطي والزنجي وعلم عقد الأصابع.
الثاني: علم الجومطريا وهو علم الهندسة بالبراهين المذكورة في إقليدس ومنها علمية وعملية وتحتها علم المساحة وعلم التكسير وعلم رفع الأثقال وعلم الحيل المائية والهوائية والمناظر والحزب.
الثالث: علم الإسطرلاب قوميا وهو: علم النجوم بالبراهين المذكورة في المجسطي وتحت علم الهيئة والميقات والزيج والتحويل.
الرابع: علم الموسيقى وتحته علم الإيقاع والعروض، والثاني العلوم المنطقية وهي خمسة أنواع:
الأول: أنولوطيقيا وهو معرفة صناعة الشعر.
الثاني: بطوريقا وهو معرفة صناعة الخطب.
الثالث: بوطيقيا وهو معرفة صناعة الجدل.
الرابع: الولوطيقي وهو معرفة صناعة البرهان. الخامس: سوفسطيقا وهو معرفة المغالطة.
والثالث العلوم الطبيعية وهي سبعة أنواع:
الأول: علم المبادئ وهو: معرفة خمسة أشياء لا ينفك عنها جسم وهي: الهيولى والصورة والزمان والمكان والحركة.
الثاني: علم السماء والعالم وما فيه.
الثالث: علم الكون والفساد.
الرابع: علم حوادث الجو.
الخامس: علم المعادن.
السادس: علم النبات.
السابع: علم الحيوان ويدخل فيه علم الطب وفروعه.
الرابع: العلوم الإلهية وهي خمسة أنواع:
الأول: علم الواجب وصفته.
الثاني: علم الروحانيات وهي معرفة الجواهر البسيطة العقلية الفعالة التي هي الملائكة.
الثالث: العلوم النفسانية وهي معرفة النفوس المتجسدة والأرواح السارية في الأجسام الفلكية والطبيعية من الفلك المحيط إلى مركز الأرض.
الرابع: علم السياسات وهي خمسة أنواع:
الأول: علم سياسة النبوة.
الثاني: علم سياسة الملك وتحته الفلاحة والرعايا وهو الأول المحتاج إليه في أول الأمر لتأسيس المدن.
الثالث: علم قود الجيش ومكائد الحرب والبيطرة والبيزرة وآداب الملوك.
الرابع: العلم المدني كعلم سياسة العامة وعلم سياسة الخاصة وهي سياسة المنزل.
الخامس: علم سياسة الذات وهو علم الأخلاق.
فصل في إبطال الفلسفة وفساد منتحلها
من كلام ابن خلدون رحمه الله وهذا الفصل مهم لأن هذه العلوم عارضة في العمران كثيرة في المدن وضررها في الدين كثير فوجب أن يصدع بشأنها ويكشف عن المعتقد الحق فيها وذلك أن قوما من عقلاء النوع الإنساني زعموا أن الوجود كله الحسي منه وما وراء الحسي تدرك ذواته وأحواله بأسبابها وعلل بالأنظار الفكرية والأقيسة العقلية وإن تصحيح العقائد الإيمانية من قبل النظر لا من جهة السمع فإنها بعض من مدارك العقل وهؤلاء يسمون فلاسفة جمع فيلسوف وهو باللسان اليوناني محب الحكمة فبحثوا عن ذلك وشمروا له وحوموا على إصابة الغرض منه ووضعوا قانونا يهتدي به العقل في نظره إلى التمييز بين الحق والباطل وسموه بالمنطق.
ومحصل ذلك أن النظر الذي يفيد تمييز الحق من الباطل إنما هو للذهن في المعاني المنتزعة من الموجودات الشخصية فيجرد منها أولا صورا منطبقة على جميع الأشخاص كما ينطبق الطابع على جميع النقوش التي ترسمها في طين أو شمع وهذه المجردة من المحسوسات تسمى المعقولات الأوائل؛ ثم تجرد من تلك المعاني الكلية إذا كانت مشتركة مع معاني أخرى وقد تميزت عنها في الذهن فتجرد منها معاني أخرى وهي التي اشتركت بها ثم تجرد ثانيا أن شاركها غيرها وثالثا إلى أن ينتهي التجريد إلى المعاني البسيطة الكلية المنطبقة على جميع المعاني والأشخاص ولا يكون منها تجريد بعد هذا وهي الأجناس العالية.
وهذه المجردات كلها من غير المحسوسات هي من حيث تأليف بعضها مع بعض لتحصيل العلوم منها تسمى المعقولات الثواني.
فإذا نظر الفكر في هذه المعقولات المجردة وطلب تصور الوجود كما هو فلا بد للذهن من إضافة بعضها إلى بعض ونفي بعضها عن بعض بالبرهان العقلي اليقيني ليحصل تصور الوجود تصورا صحيحا مطابقا إذا كان ذلك بقانون صحيح كما مر وصنف التصديق الذي هو تلك الإضافة والحكم متقدم عندهم على صنف التصور في النهاية والتصور متقدم عليه في البداية والتعليم لأن التصور التام عندهم هو غاية لطلب الإدراك وإنما التصديق وسيلة له وما تسمعه في كتب المنطقيين من تقدم التصور وتوقف التصديق عليه فبمعنى الشعور لا بمعنى العلم التام وهذا هو مذهب كبيرهم أرسطو.
ثم يزعمون أن السعادة في إدراك الموجودات كلها في الحس وما وراء الحس بهذا النظر وتلك البراهين.
وحاصل مداركهم في الوجود على الجملة وما آلت إليه وهو الذي فرعوا عليه قضايا أنظارهم أنهم عثروا أولا على الجسم السفلي بحكم الشهود والحس.
ثم ترقى إدراكهم قليلا فشعروا بوجود النفس من قبل الحركة والحس والحيوانات ثم أحسوا من قوى النفس بسلطان العقل ووقف إدراكهم فقضوا على الجسم العالي السماوي بنحو من القضاء على أمر الذات الإنسانية ووجب عندهم أن يكون للفلك نفس وعقل كما للإنسان.
ثم أنهوا ذلك نهاية عدد الآحاد وهي العشر تسع مفصلة ذواتها جمل واحد أول مفرد وهو العاشر ويزعمون أن السعادة في إدراك الوجود على هذا النحو من القضاء مع تهذيب النفس وتخلقها بالقضاء وإن ذلك ممكن للإنسان ولو لم يرد شرع لتمييزه بين الفضيلة والرذيلة من الأفعال بمقتضى عقله ونظره وميله إلى المحمود منها واجتنابه للمذموم بفطرته وذلك إذا حصل للنفس حصلت لها البهجة واللذة وإن الجهل بذلك هو الشقاء السرمدي وهذا عندهم هو معنى النعيم والعذاب في الآخرة إلى خبط لهم في تفاصيل ذلك معروف من كلماتهم.
وأمام هذه المذاهب الذي حصل مسائلها ودون علمها وسطر حجاجها فيما بلغنا في هذه الأحقاب هو أرسطو المقدوني من أهل مقدونية من بلاد الروم من تلاميذ أفلاطون وهو معلم الإسكندر1 ويسمونه المعلم الأول على الإطلاق ويعنون معلم صناعة المنطق إذ لم تكن قبله مهذبة وهو أول من رتب قانونها واستوفى مسائلها وأحسن بسطها ولقد أحسن في ذلك القانون ما شاء لو تكفل له بقصدهم في الإلهيات.
ثم كان من بعده في الإسلام من أخذ بتلك المذاهب واتبع فيها رأيه حذو النعل بالنعل إلا في القليل وذلك أن كتب أولئك المتقدمين لما ترجمها الخلفاء من بني العباس من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي تصفحها كثير من أهل الملة وأخذ من مذاهبهم من أضله الله من منتحلي العلوم وجادلوا عنها واختلفوا في مسائل من تفاريعها.
وكان من أشهرهم أبو نصر الفارابي في المائة الرابعة لعهد سيف الدولة. أبو علي بن سينا في المائة الخامسة لعهد نظام الملك من بني بويه بأصبهان وغيرهما.
واعلم: إن هذا الرأي الذي ذهبوا إليه باطل بجميع وجوهه فأما إسنادهم الموجودات كلها إلى العقل الأول واكتفائهم به في الترقي إلى الواجب فهو قصور عما وراء ذلك من رتب خلق الله فالوجود أوسع نطاقا من ذلك ويخلق ما لا تعلمون وكأنهم في اقتصارهم على إثبات العقل فقط والغفلة عما وراءه بمثابة الطبيعيين المقتصرين على إثبات الأجسام خاصة المعرضين عن النقل والعقل المعتقدين أنه ليس وراء الجسم في حكمة الله شيء.
وأما البراهين التي يزعمونها على مدعياتهم في الموجودات ويعرضوا على مغيار المنطق وقانونه فهي قاصرة وغير وافية بالغرض.
أما ما كان منها في الموجودات الجسمانية ويسمونه العلم الطبيعي فوجه قصوره أن المطابقة بين تلك النتائج الذهنية التي تستخرج بالحدود والأقيسة كما في زعمهم وبين ما في الخارج غير يقينية لأن تلك أحكام ذهنية كلية عامة والموجودات الخارجية متشخصة بموادها ولعل في المواد ما يمنع من مطابقة الذهني الكلي للخارجي الشخصي اللهم إلا ما يشهدوا له الحس من ذلك فدليله شهوده لا تلك البراهين فأين اليقين الذي يجدونه فيها وربما يكون تصرف الذهن أيضا في المعقولات الأول المطابقة للشخصيات بالصور الخيالية لا في المعقولات الثواني التي تجريدها في الرتبة الثانية فيكون الحكم حينئذ يقينيا بمثابة المحسوسات إذ المعقولات الأول أقرب إلى مطابقة الخارج لكمال الانطباق فيها فنسلم لهم حينئذ دعاويهم في ذلك إلا أنه ينبغي لنا الإعراض عن النظر فيها إذ هو من ترك المسلم لما لا يعنيه فإن مسائل الطبيعيات لا تهمنا في ديننا ولا معاشنا فوجب علينا تركها.
وأما ما كان منها في الموجودات التي وراء الحس وهي الروحانيات ويسمونه العلم الإلهي وعلم ما بعد الطبيعة فإن ذواتها مجهولة رأسا ولا يمكن التوصل إليها ولا البرهان عليها لأن تجريد المعقولات من الموجودات الخارجية الشخصية إنما هو ممكن فيما هو مدرك لها ونحن لا ندرك الذوات الروحانية حتى نجرد منها ماهيات أخرى بحجاب الحس بيننا وبينها فلا يتأتى لنا برهان عليها ولا مدرك لنا في إثبات وجودها على الجملة إلا ما نجده بين جنبينا من أمر النفس الإنسانية وأحوال مداركها وخصوصا في الرؤيا التي هي وجدانية لكل أحد وما وراء ذلك من حقيقتها وصفاتها فأمر غامض لا سبيل إلى الوقوف عليه وقد صرح بذلك محققوهم حيث ذهبوا إلى أن ما لا مادة له لا يمكن البرهان عليه لأن مقدمات البرهان من شرطها أن تكون ذاتية.
وقال كبيرهم أفلاطون: إن الإلهيات لا يوصل فيها إلى يقين وإنما يقال فيها بالأحق الأولى يعني الظن وإذا كنا إنما نحصل بعد التعب والنصب على الظن فقط فيكفينا الظن الذي كان أولا فأي فائدة لهذه العلوم والاشتغال بها ونحن إنما عنايتنا بتحصيل اليقين فيما وراء الحسن من الموجودات على ما هي عليه بتلك البراهين فقول مزيف مردود وتفسيره أن الإنسان مركب من جزئين.
أحدهما: جسماني والآخر روحاني ممتزج به ولكل واحد من الجزئين مدارك مختصة به والمدرك فيهما واحد وهو الجزء الروحاني يدرك تارة مدارك روحانية وتارة مدارك جسمانية إلا أن المدارك الروحانية يدركها بذاته بغير واسطة والمدارك الجسمانية بواسطة آلات الجسم من الدماغ والحواس وكل مدرك فله ابتهاج بما يدركه واعتبره بحال الصبي في أول مداركه الجسمانية التي هي بواسطة كيف يبتهج بما يبصره من الضوء وبما يسمعه من الأصوات فلا شك أن الاتبهاج بالإدراك الذي للنفس من ذاتها بغير واسطة يكون أشد وألذ فالنفس الروحانية إذا شعرت بإدراكها الذي لها من ذاتها بغير واسطة حصل لها ابتهاج ولذة لا يعبر عنها وهذا الإدراك لا يحصل بنظر ولا علم وإنما يحصل بكشف حجاب الحس ونسيان المدارك الجسمانية بالجملة والمتصوفة كثيرا ما يعنون بحصول هذا الإدراك للنفس حصول هذه البهجة فيحاولون بالرياضة أمانة القوى الجسمانية ومداركها حتى الفكر من الدماغ ليحصل للنفس إدراكها الذي لها من ذاتها عند زوال الشواغب والموانع الجسمانية فيحصل لهم بهجة ولذة لا يعبر عنها وهذا الذي زعموه بتقدير صحته مسلم لهم وهو مع ذلك غير واف بمقصودهم.
فأما قولهم إن البراهين والأدلة العقلية محصلة لهذا النوع من الإدراك والابتهاج عنه فباطل كما رأيته إذ البراهين والأدلة من جملة المدارك الجسمانية لأنها بالقوى الدماغية من الخيال والفكر والذكر ونحن أول شيء نعني به في تحصيل هذا الإدراك إماتة هذه القوى الدماغية كلها لأنها منازعة له فادحة فيه وتجد الماهر منهم عاكفا على كتاب الشفاء والإشارات والنجاة وتلاخيص ابن رشد للقص من تأليف أرسطو وغيره يبعثر أوراقها ويتوثق من براهينها ويلتمس هذا القسط من السعادة فيها ولا يعلم أنه يستكثر بذلك الموانع عنها ومستندهم في ذلك ما ينقلونه عن أرسطو والفارابي وابن سينا أن من حصل له إدراك العقل الفعال واتصل به في حياته فقد حصل حظه من هذه السعادة والعقل الفعال عندهم عبارة عن أول رتبة ينكشف عنها الحس من رتب الروحانيات ويحملون الاتصال بالعقل الفعال على الإدراك العلمي وقد رأيت فساده.
وإنما يعني أرسطو وأصحابه بذلك الاتصال والإدراك إدراك النفس الذي لها من ذاتها وبغير واسطة وهو لا يحصل إلا بكشف حجاب الحس.
وأما قولهم إن البهجة الناشئة عن هذا الإدراك هي عين السعادة الموعود بها فباطل أيضا لأنا إنما تبين لنا بما قرروه إن وراء الحس مدركا آخر للنفس من غير واسطة وإنها تبتهج بإدراكها ذلك ابتهاجا شديدا وذلك لا يعين لنا أنه عين السعادة الأخروية ولا بد بل هي من جملة الملاذ التي لتلك السعادة.
وأما قولهم أن السعادة في إدراك هذه الموجودات على ما هي عليه فقول باطل مبني على ما كنا قدمناه في أصل التوحيد من الأوهام والأغلاط في أن الوجود عند كل مدرك منحصر في مداركه وبينا فساد ذلك وأن الوجود أوسع من أن يحاط به أو يستوفي إدراكه بجمله روحانيا أو جسمانيا والذي يحصل من جميع ما قررناه من مذاهبهم أن الجزء الروحاني إذا فارق القوى الجسمانية أدرك إدراكا ذاتيا له مختصا بصنف من المدارك وهي الموجودات التي أحاط بها علمنا وليس بعام الإدراك في الموجودات كلها إذ لم تنحصر وأنه يبتهج بذلك النحو من الإدراك ابتهاجا شديدا كما يبتهج الصبي بمداركه الحسية في أول نشرة ومن لنا بعد ذلك بإدراك جميع الموجودات أو بحصول السعادة التي وعدنا به الشارع إن لم نعمل لها هيهات هيهات لما توعدون.
وأما قولهم إن الإنسان مستقل بتهذيب نفسه وإصلاحها بملابسة المحمود من الخلق ومجانبة المذموم فأمر مبني على أن ابتهاج النفس بإدراكها الذي لها من ذاتها هو عين السعادة الموعود بها لأن الرذائل عائقة للنفس عن تمام إدراكها ذلك بما يحصل لها من الملكات الجسمانية والروحانية فهذا التهذيب الذي توصولنا إلى معرفته إنما نفعه في البهجة الناشئة عن الإدراك الروحاني فقط الذي هو على مقاييس وقوانين.
وأما ما وراء ذلك من السعادة التي وعدنا به الشارع على امتثال ما أمر به من الأعمال والأخلاق فأملا يحيط به مدارك المدركين وقد تنبه لذلك زعميهم أبو علي بن سينا فقال في كتاب المبدأ والمعاد ما معناه أن المعاد الروحاني وأحواله هو مما يتوصل إليه بالبراهين العقلية والمقاييس لأنه على نسبة طبيعية محفوظة ووتيرة واحدة قلنا في البراهين عليه سعة.
وأما المعاد الجسماني أحواله فلا يمكننا إدراكه بالبرهان لأنه ليس على نسبة واحدة وقد بسطته لنا الشريعة الحقة المحمدية فلينظر فيها ولنرجع في أحواله إليها فهذا العلم كما رأيته غير واف بمقاصدهم التي حوموا عليها مع ما فيه من مخالفة الشرائع وظواهرها وليس له فيما علمنا إلا ثمرة واحدة وهي شحذ الذهن في ترتيب الأدلة والحجاج لتحصيل ملكة الجودة والصواب في البراهين وذلك أن نظم المقاييس وتركيبها على وجه الإحكام والإتقان هو كما شرطوه في صناعتهم المنطقية وقولهم بذلك في علومهم الطبيعية وهم كثيرا ما يستعلمونها في علومهم الحكمية من الطبيعيات والتعاليم وما بعدها فيستولي الناظر فيها بكثرة استعمال البراهين بشروطها على ملكه الإتقان والصواب في الحجاج والاستدلالات لأنها وإن كانت غير وافية بمقصودهم هم فهي أصح ما علمناه من قوانين الأنظار.
هذه هي ثمرة هذه الصناعة مع الاطلاع على مذاهب أهل العلم وآرائهم ومضارها ما علمت فليكن الناظر فيها متحرزا جهده من معاطيها فليكن نظر من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات والإطلاع على التفسير والفقه ولا يكبن أحد عليها وهو خلو عن علوم الملة فقل أن يسلم لذلك من معاطيها والله الموفق للصواب وللحق والهادي إليه وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
قال الغزالي في الإحياء: الفلسفة ليست علما برأسها بل هي أربعة أجزاء.
أحدها: الهندسة والحساب وهما مباحان ولا يمنع عنهما إلا من يخاف عليه أن يتجاوز بهما إلى علوم مذمومة فإن أكثر الممارسين لهما قد خرجوا منهما إلى البدع فيصان الضعيف عنهما لا لعينهما خوفا عليه من أن القوي يندب إلى مخالطتهم.
قال الثاني: المنطق وهو بحث عن وجه الدليل وشروطه ووجه الحد وشروطه وهما داخلان في علم الكلام.
الثالث: الإلهيات وهو بحث عن ذات الله تعالى وصفاته وهو داخل في الكلام أيضا والفلاسفة لم ينفردوا فيها بنمط آخر من العلم بل انفرد بمذاهب بعضها كفر وبعضها بدعة.
الرابع: الطبيعيات بعضها مخالف للشرع والدين الحق فهو جهل وليس بعلم حتى يورد في أقسام العلوم وبعضها بحث عن صفات الأجسام وخواصها وكيفية استحالتها وتغييرها وهو شبيه بنظر الأطباء ولا حاجة إليها وإنما حدث ذلك بحدوث البدع إلى آخر ما قال والله أعلم.

بحث الفاضل التاشكندي، والمولى أبي السعود

بحث الفاضل التاشكندي، والمولى أبي السعود
في الاستعارة التمثيلية.
في قوله: - سبحانه وتعالى - (أولئك على هدى من ربهم).
فرجع التاشكندي جانب السعد، وكان المولى أبو السعود قد اختار مسلك السيد في تفسيره، بعد تنقيح كلام الطرفين وتهذيبه، فامتدت المباحثة بينهما إلى خمس ساعات، واتفقوا على أنه أعظم بحث في السعدين الفاضلين.

موازنات

موازنات
أقصد بعقد هذه الموازنات أن نتبين الدقة القرآنية في تصوير المعنى تصويرا ينقل إلى النفس الفكرة نقلا أمينا، ولكنى لا أريد أن أعقد كل ما يمكن من الموازنات، فذلك ما لم يتيسر لى القيام به إلى اليوم، فضلا عن أنه فوق طاقتى، وكل ما أريده الآن هو عرض ما أمكننى من هذه الموازنات، راجيا أن أوفق إلى الإكثار منها، بقدر ما أستطيعه في قابل الطبعات إن شاء الله.
1 - قال تعالى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (يس 39).
وقال ابن المعتز:
ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا ... مثل القلامة قد قدّت من الظفر
وقال أيضا:
انظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر
وقال أيضا:
انظر إلى حسن هلال بدا ... يهتك من أنواره الحندسا
كمنجل قد صيغ من فضة ... يحصد من زهر الدجى نرجسا
وقال السرىّ الرفاء:
وكأن الهلال نون لجين ... غرّقت في صحيفة زرقاء
وقال أيضا:
ولاح لنا الهلال كشطر طوق ... على لبّات زرقاء اللباس
تتحدث هذه النصوص كلها عن الهلال، ولكى ندرك الفرق في القيمة بين هذه النصوص بعضها وبعض، نتبين معنى كل نص منها، لنرى أيها أدق وأوفى:
أما الآية الكريمة فإنها تتحدث عن تلك التنقلات التى تحدث للقمر بقدرة الله، فبينا هو وليد، إذا به ينمو رويدا رويدا، حتى يصبح بدرا مكتملا، ثم يعود أدراجه، وينقص قليلا قليلا، حتى يعود كعود الكباسة القديم، دقيقا معوجا لا يكاد يرى، ولا يؤبه له، بعد أن كان ملء البصر، وملء الفؤاد، وأنت بذلك ترى أن التشبيه الذى جاء في الآية كان له نصيب في أداء المعنى، ولم يجئ بعد أن استوفى المعنى تمامه، وكان دقيقا أتم دقة، فى أداء المعنى وتصويره كاملا.
أما بيت ابن المعتز الأول، فإن التشبيه الذى أورده لا دخل له أصلا في الفكرة التى يريد نقلها إلى قارئه، فإن كون الهلال مثل قلامة الظفر لا دخل له في أنه كاد يفضحهم، بل على العكس يقلل من شأن الفكرة ويضعفها، فإن هذا الهلال الضئيل الذى يشبه قلامة الظفر، خليق به ألا يكون له أثر ما في تبديد ظلمة الليل المتكاثفة، وخليق به ألا يفضحهم ولا يبين عن مكانهم، وبذلك ترى أن الصلة ليست وثيقة بين شطرى البيت، ولا بين التشبيه والفكرة التى جاء من أجلها.
وفي بيته الثانى سبق أن بينا وجوه النقص فيه ، وتحدثنا عن أن نفاسة المشبّه به لا ترفع من شأن التشبيه، ولا تستر ما فيه من ضعف، وذكرنا أن انتزاع الصورة من
الخيال لا يزيد المشبه وضوحا، ولا يمنحه قوة.
أما بيته الثالث فضعيف متهالك، لم يصور الهلال كما تراه العين، ولا كما تحس به النفس، ففضلا عن غفلة ابن المعتز عما يبعثه الهلال الجديد من آمال جديدة في النفس، ووقوفه عند حد التصوير البصرى لم يوفق في هذا التصوير، فإن الهلال في نظر العين هادئ ساكن، والمنجل في يد الحاصد متحرك في سرعة، فكيف نتخيل الهلال منجلا يحصد، وهو لم يتحرك، ثم ما الصلة بين زهر الدجى وبين النرجس، وكيف يحصد الهلال هذا الزهر، والزهر باق في مكانه لا ينمحى ولا يزول، والعهد بما يحصد أن يتخلى عن مكانه. ومن ذلك ترى نقص التشبيه وقصوره.
واقتصر السّرى الرفاء على التصوير البصرى أيضا ثمّ فاتته الدقة عند ما جعل هذه النون من اللجين غريقة في صحيفة زرقاء، فصور لنفسك أى قدر هذه التى تشبه بها السماء، وتأمل أهناك سبب يدعو إلى جعل هذه النون غريقة في تلك القدر الضخمة؟! فالغريق يعلو، ويهبط، ويبدو، ويختفى، مما لا تراه العين في الهلال الهادى المطمئن.
وانظر، أتجد في بيته الثانى تشبيها زادك شعورا بالهلال عند ما جعله نصف طوق فضلا عن عدم دقته؟! وتأمل أى صلة تربط بين السماء ولبة فتاة تلبس ثيابا زرقاء؟!. وبذلك العرض الموجز تتبين الفرق بين تشبيه القرآن الدقيق المصور وبين تلك التشبيهات الضعيفة العرجاء.
2 - وأطال القدماء في الموازنة بين قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ (البقرة 179). وقولهم: «القتل أنفى للقتل». قالوا: وفضله عليه من وجوه:
أولها: أن الآية الكريمة أقل حروفا من كلامهم.
وثانيها: النص على المطلوب وهو ثبوت الحياة، بخلاف قولهم لأنه إنما يدل على المطلوب باللزوم، من جهة أن نفى القتل يستلزم ثبوت الحياة.
وثالثها: أن تنكير حياة يفيد تعظيما لمنعهم عما كانوا عليه من قتل جماعة بواحد.
ورابعها: اطراده، بخلاف قولهم، فإن القتل ينفى القتل إذا كان على وجه القصاص المشروع، وقد يكون أدعى للقتل، كما إذا وقع ظلما، كقتلهم غير القاتل، وظاهر العبارة يحتمل المعنيين بخلاف القصاص.
وخامسها: أن فيه تكريرا غيره أبلغ منه، ومتى كان التكرير كذلك فهو مقصر عن أقصى طبقات البلاغة.
وسادسها: استغناؤه عما ذكره أكثر من حذفه، وهو (من) بعد أفعل التفضيل الواقع خبرا.
وسابعها: أن القصاص سبب للموت الذى هو ضد الحياة، فما في الآية ملحق بالطباق.
وثامنها: سلامة الآية الكريمة من لفظ القتل المشعر بالوحشة، وتاسعها ظهور العدل في كلمة القصاص.
3 - وتحدث الشعراء عن الصبح، فقال السرى الرفاء:
انظر إلى الليل، كيف تصدعه ... راية صبح مبيضة العذب
كراهب جن للهوى طربا ... فشق جلبابه من الطرب
وقال الشريف الرضى:
وكأنما أولى الصباح وقد بدا ... فوق الطويلع راكب متلثم
وأذاع بالظلماء فتق واضح ... كالطعنة النجلاء يتبعها دم
وقال أيضا:
وليلة خضتها على عجل ... وصبحها بالظلام معتصم تطلع الفجر من جوانبها ... وانفلتت من عقالها الظلم
وقال أيضا:
والصبح قد أخذت أنامل كفه ... فى كل جيب للظلام مزرر
فكأنما في الغرب راكب أدهم ... يحتثه في الشرق راكب أشقر
وليس كل ذلك الشعر بباعث إلى نفسك الشعور بما في الصبح من يقظة وحياة، كما يبعثه إلى نفسك تلك الكلمة القرآنية المختارة: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (التكوير 18).
فإنها تحمل إليك معنى الحياة التى دبت في الكون بعد طول هجوعه، واليقظة التى شملته بعد رقاد وهمود، ويصور لك الوجود، وقد بدأ يفتح عينيه وينهض من سبات، أما هذه الأبيات من الشعر فإنها وقفت تتلمس لهذه الظاهرة الكونية شبيها بصريا، وقد أخفقت جميعها في هذا التصوير البصرى، فشعر السرى الرفاء تلمس للصبح مثيلا، فوجد في الراية ذات العذبات البيض شبيها له، ولا شىء يجمع بين المشبه والمشبه به سوى هذا اللون الأبيض، أما الإحساس النفسى فلا دخل له في الربط بين هذين الطرفين، ثم جعل السرى الليل راهبا، ولا ندرى كيف يدفع الهوى راهبا إلى الجنون وهو راهب، وليت شعرى ما الذى يبدو من الراهب إذا شق ثوبه؟! وإذا كان الراهب أسود اللون فهل يبدو تحت جلبابه سوى السواد، وشق الثوب من مجنون إنما يكون في سرعة لا تمثل ضوء الصباح الزاحف في بطء.
أما شعر الشريف الرضى الأول فقد أجهدت ذهنى في أن أربط صلة بين الصبح والراكب المتلثم، فلم أجد رابطا ذا قيمة يصل بينهما، ولماذا اختار الشاعر الراكب دون الماشى؟ وما لون هذا الراكب؟ وعلى أى شىء يركب؟ وهل الصبح كمتلثم يظل متلثما، ثم يبدى صفحة وجهه دفعة واحدة؟ وما الصورة التى ترتسم في ذهنك لهذا الصبح المتلثم الراكب؟ وهل هيئة الصبح تشبه هيئة راكب متلثم؟ وفيم؟
كل هذه أسئلة تخرج منها بوهن الصلة بين الصبح وهذه الصورة التى يرسمها الشاعر، وفي البيت الثانى يصور لك هذا الصبح، وما فيه من جمال وروعة، تبعث فى النفس حب الجمال لهذه الطبيعة الباسمة المشرقة- صورة دامية بشعة، تثير فى النفس الخوف والألم والنفور، صورة طعنة نجلاء يقطر منها الدم، وسبب ذلك إغفال الجانب النفسى الشعورى من الشاعر عند التشبيه، والوقوف عند حد اللون الذى يربط لون الصبح بتلك الآلة الحادة الطاعنة، وذلك الضوء الأحمر الحى تزجيه الشمس بين يديها، ولون قطرات الدماء، ألا ما أعظم الفرق بين الشعورين! وما أقوى أن يتنافرا، حتى لا يجمع بينهما رباط! وأخطأ الشريف الرضى التوفيق أيضا عند ما وصف الصبح يسفر بعد ظلام الليل، وإن كانت هذه الصورة في بعض نواحيها أضوأ من صاحبتها، عند ما قال:
«تطلع الصبح من جوانبها»، ففي هذا التصوير نوع من الحياة، ولكنه بعيد كل البعد عن أن يصور حياة تكون كما صورتها الآية الكريمة، أما باقى الصورة التى ترسمها الأبيات فقد أخطأت في رسم هذه الظاهرة الطبيعية، فإن الشعر يصور لك أن الصبح لم يلبث أن أطل من الأفق، حتى مضى الليل مسرعا يهرول في جريه، كأنما قد أسفر الصبح ومضى الليل بين غمضة عين وانتباهتها، وذلك تصوير غير دقيق، لأن الليل ينحسر قليلا قليلا عن الصبح، حتى يتم أسفاره، كما أن النهار ينحسر قليلا قليلا، تاركا الكون لظلام الليل، وعبر القرآن عن ذلك في قوله سبحانه: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (يس 37). فاستخدم كلمة السلخ لتوحى بما ذكرناه.
وعاد في شعره الثالث إلى الراكب، لا يلمح من جمال الصبح وبهجته سوى لونه، ونقدنا لهذا الشعر هو ما سبق أن أوضحناه.
4 - ووصف الرسول كتاب الله، كما وصف الله كتابه في القرآن، فقال النبى:
«إن أحسن الحديث كتاب الله، قد أفلح من زينة الله في قلبه، وأدخله في الإسلام بعد الكفر، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنه أصدق الحديث وأبلغه » وقال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (الزمر 23). وأنت ترى الفرق واضحا بين قوة الكلامين، والمنهجين، والاتجاهين.
5 - وصاغ أبو بكر جملة على مثال الجملة القرآنية، فقال من خطبة له:
«واعلموا أن أكيس الكيس التقى » على مثال قوله تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى (البقرة 197)، ولا ريب أن النص القرآنى، يصور تلك الرحلة التى ينتقل فيها الإنسان من الحياة الدنيا إلى الآخرة، وهى رحلة تنتهى بحياة خالدة يحتاج المرء فيها إلى زاد يعيش عليه، فتصوير التقوى بأنها خير زاد يوحى بذلك كله، كما يوحى بالحاجة إليها، كما يحتاج المسافر إلى ما يتزود به في غربته، ولم تزد جملة أبى بكر على أن وصفت التقوى بأنها أحكم ما يتصف به العقلاء، فلم توح الجملة إلى النفس بما أوحت به جملة القرآن. 6 - ومن كتاب أرسله أبو عبيدة ومعاذ بن جبل إلى عمر بن الخطاب: «إنّا نحذرك يوما تعنو فيه الوجوه وتجب فيه القلوب »، وقد وصف القرآن هذا اليوم، فقال: رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (النور 37)، وكلمة «التقلب» فى الآية أشد دلالة على ما يصيب القلوب من الفزع والاضطراب في ذلك اليوم، من الوجيب، فضلا عما فى النص القرآنى من خلوصه من تكرير «فيه» الواردة في الرسالة.
7 - وعند ما يتأثر الشاعر القرآن، يبدو الفرق واضحا بين الأصل والتقليد، وأصغ إلى حسان يقول:
وهل يستوى ضلال قوم تسفهوا ... عمى، وهداة يهتدون بمهتد
أخذه من قوله سبحانه: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ (الرعد 16). فأنت ترى حسان يوازن بين ضلّال وهداة، وليس الفرق بينهما من الوضوح والقوة كالفرق بين الأعمى والبصير، والظلمات والنور، فالفرق هنا واضح ملموس، يشعر به الناس جميعا، حتى إذا اطمأنت النفس إلى هذا الفرق، وآمنت بأن هناك بونا شاسعا بينهما، انتقلت من ذلك إلى تبين مدى ما بين الضال والمهتدى من فرق بعيد.
8 - وقال حسان أيضا في رثاء رسول الله:
عزيز عليه أن يحيدوا عن الهدى ... حريص على أن يستقيموا ويهتدوا
أخذه من قوله تعالى: عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (التوبة 128). وقوة الآية القرآنية تبدو في إظهار نتيجة الحيد عن الهدى، وهى الهلاك والعذاب، وفي ذلك من التخويف لهم ما فيه، فهو يبرز هذه النتيجة كأنها حقيقة واقعة، تؤلم الرسول، وتثقل عليه، وتبدو هذه القوة أيضا في تعميم الحرص، فهو حريص على هدايتهم، حريص على خيرهم، حريص على أن يظفروا فى الآخرة بالثواب والنعيم المقيم، وكل ذلك وأكثر منه يفهم من قوله: «حريص عليكم»، أما حسان فقد خصص ولم يطلق.
9 - وقال حسان في غزوة بدر:
سرنا وساروا إلى بدر لحينهم ... لو يعلمون يقين العلم ما ساروا
دلاهمو بغرور، ثم أسلمهم ... إن الخبيث لمن ولاه غرار
وقال: إنى لكم جار، فأوردهم ... شر الموارد، فيه الخزى والعار ثم التقينا، فولوا عن سراتهم ... من منجدين، ومنهم فرقة غاروا
يستوحى ذلك من قوله تعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (الأنفال 48). وتأمل التصوير القوى البارع في القرآن لتزيين الشيطان أعمال الكافرين لهم، فإن القرآن قد نقل ذلك الحديث الذى أوحى به الشيطان إلى أوليائه وكيف ملأ قلبهم بالغرور، وهنا يجمل حسان، بينما يفصل القرآن، وفي هذا التفصيل سر الحياة، تلك الحياة التى ترينا الشيطان ناكصا على عقبيه، عند ما تراءت الفئتان، يبرأ من هؤلاء الذين غرهم بخداعه، وأسلمهم إلى الموت بكذبه وإيهامه، وهذه الحياة هى التى تنقص شعر حسان.
10 - وتأمل الفرق في الأسلوب، عند ما حور النابغة الجعدى أسلوب القرآن قليلا، فقال:
الحمد لله، لا شريك له ... من لم يقلها فنفسه ظلما
المولج الليل في النهار، وفي اللي ... ل نهارا، يفرج الظلما
فقد حور قوله سبحانه: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ (الحج 61). فحذف المولج، وتقديم في الليل، وتنكير نهارا، والمجيء بجملة «يفرج الظلما»، كل ذلك أضعف أسلوب الشاعر، وباعد بينه وبين الأسلوب القوى للقرآن.
11 - وخذ قول الشاعر:
فإنك لا تدرى بأية بلدة ... تمت، ولا ما يحدث الله في غد
المستمد من قوله تعالى: وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ (لقمان 34)، تر التعميم في الآية الكريمة أكسبها فخامة وقوة، والتعبير بتكسب فيه تصريح بعجز النفس عن أن تعرف ما تعمله هى نفسها في الغد، وذلك ما لا تجده عند الشاعر الذى عمم فيما يحدثه الله في غد، ولم يكن لهذا التعميم ما للتخصيص من قوة التعجيز.
12 - وهذا الشعر الذى ينسب إلى حمزة في غزوة بدر، يتحدث عن الكفار:
أولئك قوم قتلوا في ضلالهم ... وخلوا لواء غير محتضر النصر
لواء ضلال قاد إبليس أهله ... فخاس بهم، إن الخبيث إلى غدر
فقال لهم إذ عاين الأمر واضحا: ... برئت إليكم، ما بى اليوم من صبر
فإنى أرى ما لا ترون، وإننى ... أخاف عقاب الله، والله ذو قسر
فقدمهم للحين، حتى تورطوا ... وكان بما لم يخبر القوم ذا خبر وهو يستوحى كحسان قوله تعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ... (الأنفال 48) فأى فرق شاسع بين الأسلوبين وبين التصويرين، فالأسلوب في الشعر متهاو ضعيف، بينما هو في الآية قوى رائع، يصور الشيطان وقد ملأ أفئدتهم إعجابا بأعمالهم، فاغتروا بها، وتكاد تستمع إلى وسوسته، وهو يؤكد لهم أنه لا غالب لهم اليوم من الناس ما دام جارا لهم، وتتخيله موليا الأدبار بعد أن تراءت الفئتان، وبدت أمام عينيه الهزيمة، فيسلم قومه إلى القتل، ويفر غادرا بهم، ويرن فى أذنك براءته منهم، معللا ذلك بأنه يرى ما لا يرون، وبأنه يخاف الله، وفي ذلك التصوير من التهكم بهم ما فيه.
أما الشعر فبيّن الضعف، يصف اللواء بأنه غير محتضر النصر. وقوله: إذ عاين الأمر واضحا، ليس بأسلوب شعرى. والفرق قوى بين: والله شديد العقاب، وقوله:
والله ذو قسر، وأنت ترى أنه برغم أن المعنى قد أوضحه القرآن، لم يستطع الشاعر أن ينهض إلى مستوى رفيع.
... وللباقلانى منهج في الموازنة، يبين به فضل كتاب الله، هو «أن تنظر أولا في نظم القرآن، ثم في شىء من كلام النبى صلّى الله عليه وسلم، فتعرف الفصل بين النظمين، والفرق بين الكلامين، فإن تبين لك الفصل، ووقعت على جلية الأمر، وحقيقة الفرق، فقد أدركت الغرض، وصادفت المقصد، وإن لم تفهم الفرق، ولم تقع على الفصل، فلا بدّ لك من التقليد، وعلمت أنك من جملة العامة، وأن سبيلك سبيل من هو خارج عن أهل اللسان »، ثم أورد الباقلانى بعض خطب الرسول وكتبه، وعلق عليها بقوله: «ولا أطول عليك، وأقتصر على ما ألقيته إليك، فإن كان لك في الصنعة خطر ... فما أحسب أن يشتبه عليك الفرق بين براعة القرآن، وبين ما نسخناه لك من كلام الرسول صلّى الله عليه وسلم في خطبه ورسائله، وما عساك تسمعه من كلامه، ويتساقط إليك من ألفاظه، وأقدر أنك ترى بين الكلامين بونا بعيدا، وأمدا مديدا، وميدانا واسعا، ومكانا شاسعا  ... ».
«فإذا أردت زيادة في التبيين ... فتأمل (هداك الله) ما ننسخه لك من خطب الصحابة والبلغاء، لتعلم أن نسجها ونسج ما نقلنا من خطب النبى صلّى الله عليه وسلم واحد وسبكها سبك غير مختلف، وإنما يقع بين كلامه وكلام غيره ما يقع من التفاوت بين كلام الفصيحين، وبين شعر الشاعرين ... فإذا عرفت أن جميع كلام الآدمى منهاج، ولجملته طريق، وتبينت ما يمكن فيه من التفاوت- نظرت إلى نظم القرآن نظرة أخرى، وتأملته مرة ثانية، فترى بعد موقعه وعالى محله وموضعه  ... » ثم يورد بعض خطب البلغاء وكتبهم، ويقول: «تأمل ذلك وسائر ما هو مسطر من الأخبار المأثورة عن السلف وأهل البيان واللسن، والفصاحة والفطن ... فسيقع لك الفضل بين كلام الناس وبين كلام رب العالمين، وتعلم أن نظم القرآن يخالف نظم كلام الآدميين ... فإن خيل إليك، أو شبه عليك، وظننت أنه يحتاج أن يوازن بين نظم الشعر والقرآن، لأن الشعر أفصح من الخطب، وأبرع من الرسائل وأدق مسلكا من جميع أصناف المحاورات ... فتأمل ما نرتبه ينكشف لك الحق: إذا أردنا تحقيق ما ضمناه لك فمن سبيلنا أن نعمد إلى قصيدة متفق على كبر محلها وصحة نظمها، وجودة بلاغتها ومعانيها، وإجماعهم على إبداع صاحبها فيها، مع كونه من الموصوفين بالتقدم في الصناعة، والمعروفين بالحذق في البراعة، فنقفك على مواضع خللها، وعلى تفاوت نظمها، وعلى اختلاف فصولها، وعلى كثرة فضولها، وعلى شدة تعسفها، وبعض تكلفها، وما تجمع من كلام رفيع يقرن بينه، وبين كلام وضيع، وبين لفظ سوقى يقرن بلفظ ملوكى  ... » ثم عرض تطبيقا على منهجه معلقة امرئ القيس، وأخذ يبين ما فيها من مجال النقص، ووجوه العيب، ثم قال: «وقد بينا لك أن هذه القصيدة ونظائرها تتفاوت في أبياتها تفاوتا بينا في الجودة والرداءة، والسلاسة والانعقاد، والسلامة والانحلال، والتمكن والتسهل، والاسترسال والتوحش والاستكراه، وله شركاء في نظائرها، ومنازعون فى محاسنها، ومعارضون في بدائعها، ولا سواء كلام ينحت من الصخر تارة، ويذوب تارة، ويتلون تلون الحرباء، ويختلف اختلاف الأهواء، ويكثر في تصرفه اضطرابه، وتتقاذف به أسبابه، وبين قول يجرى في سبكه على نظام، وفي رصفه على منهاج، وفي وضعه على حد، وفي صفائه على باب، وفي بهجته ورونقه على طريق، مختلفه مؤتلف، ومؤتلفه متحد، ومتباعده متقارب وشارده مطيع، ومطيعه شارد، وهو على متصرفاته واحد، لا يستصعب في حال، ولا يتعقد في شأن ».
ذلك هو منهج الباقلانى في الموازنات.
... وإن مجال الموازنات لمتسع بين القرآن والشعر عند ما يكون الموضوع واحدا، فقد تحدث القرآن والشعر عن كثير من الغزوات ولم يستطع الشعر برغم تقليده في كثير من الأحيان للقرآن أن يصل إلى السمو القرآنى، وأن يتناول شتى الأغراض التى تنتظم شئون الجماعة الإسلامية، فى حين أن الشعر الذى تحدث عن هذه الغزوات ضعيف في جملته لا يخرج عن أغراض الشعر المعروفة يومئذ من مدح أو هجاء أو فخر أو رثاء. 

سَعْدٌ

سَعْدٌ:
بفتح أوّله، وسكون ثانيه: وهو موضع معروف قريب من المدينة، بينهما ثلاثة أميال، كانت غزاة ذات الرقاع قريبة منه، قال نصر: سعد جبل بالحجاز بينه وبين الكيد ثلاثون ميلا وعنده قصر ومنازل وسوق وماء عذب على جادّة طريق كان يسلك من فيد إلى المدينة، قال: والكديد على ثلاثة أميال من المدينة، قال نصيب:
وهل مثل أيّام بنعف سويقة ... عوائد أيّام كما كنّ بالسّعد؟
تمنّيت أنّا من أولئك والمنى ... على عهد عاد ما نعيد ولا نبدي
ودير سعد: بين بلاد غطفان والشام. وحمّام سعد:
في طريق حاجّ الكوفة. ومسجد سعد: على ستة أميال من الزّبيدية بين القرعاء والمغيثة في طريق حاج الكوفة فيه بركة وبئر رشاؤها خمس وثمانون قامة ماؤها غليظ تشربه الإبل والمضطر، ينسب إلى سعد ابن أبي وقّاص، قال ابن الكلبي: وكان لمالك وملكان ابني كنانة بساحل جدّة وبتلك الناحية صنم يقال له سعد، وكان صخرة طويلة، فأقبل رجل منهم بإبل له ليقفها عليه يتبرك بذلك فيها، فلمّا أدناها منه نفرت منه فذهبت في كلّ وجه وتفرّقت عنه، فأسف وتناول حجرا فرماه به وقال: لا بارك الله فيك إلها أنفرت عليّ إبلي! ثمّ انصرف عنه وهو يقول:
أتينا إلى سعد ليجمع شملنا، ... فشتتنا سعد فلا نحن من سعد
وهل سعد إلّا سخرة بتنوفة ... من الأرض لا تدعو لغيّ ولا رشد؟

نجدُ اليَمَن

نجدُ اليَمَن:
قال أبو زياد: فأما ديار همدان وأشعر وكندة وخولان فإنها مفترشة في أعراض اليمن وفي أضعافها مخاليف وزروع وبها بواد وقرى مشتملة على بعض تهامة وبعض نجد اليمن في شرقي تهامة، وهي قليلة الجبال مستوية البقاع، ونجد اليمن غير نجد الحجاز غير أن جنوبي نجد الحجاز يتصل بشمالي نجد اليمن وبين النجدين وعمان برية ممتنعة، ونجد اليمن أراد عمرو بن معدي كرب بقوله:
أولئك معشري وهم خيالي، ... وجدّي في كتيبتهم ومجدي
هم قتلوا عزيزا يوم لحج، ... وعلقمة بن سعد يوم نجد

لَحْجٌ

لَحْجٌ:
بالفتح ثم السكون، وجيم، وهو الميلولة، يقال: ألحجنا إلى موضع كذا أي ملنا، وألحاج الوادي: نواحيه وأطرافه، واحدها لحج: مخلاف باليمن ينسب إلى لحج بن وائل بن الغوث بن قطن ابن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير بن سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان ومدينة، منها الفقيه ابن ميش شرح التنبيه في مجلدين، وسكن لحجا الفقيه محمد بن سعيد بن معن الفريضي، صنف كتابا في الحديث سماه المستصفى في سنن المصطفى محذوف الأسانيد جمعه من الكتب الصحاح، وقال خديج بن عمرو أخو النّجاشي بن عمرو يرثي أخاه النجاشي:
فمن كان يبكي هالكا فعلى فتى ... ثوى بلوى لحج وآبت رواحله
فتى لا يطيع الزاجرين عن الندى، ... وترجع بالعصيان عنه عواذله
وقال ابن الحائك: ومن مدن تهائم اليمن لحج وبها الأصابح وهم ولد أصبح بن عمرو بن الحارث بن أصبح بن مالك بن زيد بن الغوث بن سعد بن عوف ابن عدي بن مالك بن زيد بن سدد بن زرعة وهو حمير الأصغر، ومن لحج كان مسلم بن محمد اللحجي أديب اليمن له كتاب سمّاه الأترنجة في شعراء اليمن أجاد فيه، كان حيّا في نحو سنة 530، وقال عمرو ابن معدي كرب:
أولئك معشري وهم حبالي، ... وجدّي في كتيبتهم ومجدي
هم قتلوا عزيزا يوم لحج ... وعلقمة بن سعد يوم نجد

اللّابَتَان

اللّابَتَان:
تثنية لابة وهي الحرّة، وجمعها لاب، وفي الحديث: أن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، حرّم ما بين لابتيها يعني المدينة لأنها بين الحرّتين، ذكرتهما في الحرار، قال الأصمعي: اللابة الأرض التي ألبستها الحجارة السود، وجمعها لابات ما بين الثلاث إلى العشر فإذا كثرت فهي اللاب واللوب، قال الرياشي: توفي ابن لبعض المهالبة بالبصرة فأتاه شبيب بن شيبة المنقري يعزّيه وعنده بكر بن شبيب السهمي فقال شبيب: بلغنا أن الطفل لا يزال محيطا على باب الجنة يشفع لأبويه، فقال بكر: وهذا خطأ فإن ما للبصرة واللوب لعلك غرّك قولهم: ما بين لابتي المدينة يعني حرّتيها، وقد ذكر مثل ذلك عن ابن الأعرابي وقد ذكرته في هذا الكتاب في كثوة، وقال أبو سعيد إبراهيم مولى قائد ويعرف بابن أبي سنّة يرثي بني أميّة:
أفاض المدامع قتلى كدا، ... وقتلى بكثوة لم ترمس
وقتلى بوجّ وباللّابتين ... ومن يثرب خير ما أنفس
وبالزابيين نفوس ثوت، ... وأخرى بنهر أبي فطرس
أولئك قوم أناخت بهم ... نوائب من زمن متعس
هم أضرعوني لريب الزمان، ... وهم ألصقوا الرّغم بالمعطس
فما أنس لا أنس قتلاهم، ... ولا عاش بعدهم من نسي

القَصْرَانِ

القَصْرَانِ:
تثنية القصر: وهما قصران بالقاهرة وكان يسكنهما ملوكها الذين انقرضوا وكانوا ينسبون إلى العلوية، وهما قصران عظيمان يقصر الوصف دونهما عن يمين السوق وشماليه، والأمير فارس الدين ميمون القصري الذي كان بالشام مشهورا بالشجاعة والعظم منسوب إليه لأنه ممن رأى في هذا القصر في أيام أولئك، وكان أصله أفرنجيّا مملوكا لهم، فلما كان منهم ما كان من مماليك صلاح الدين ظهرت شجاعته فقاد الجيوش إلى أن مات بحلب في رمضان سنة 616. والقصران أيضا: مدينة السيرجان بكرمان كانت تسمى القصرين.

عَذَاةُ

عَذَاةُ:
بالفتح، والعذاة: الأرض الطيبة التربة الكريمة النبت البعيدة عن الأحساء والنزوز والريف السهلة المريئة ولا تكون ذات وخامة: وهو موضع بعينه بدليل أن الشاعر لم يصرفه فقال:
تحنّ قلوصي من عذاة إلى نجد، ... ولم ينسها أوطانها قدم العهد
وقد هجت نصبا من تذكّر ما مضى، ... وأعديتني لو كان هذا الهوى يعدي
وأذكرتني قوما أصبّ إليهم، ... وأشتاقهم في القرب مني وفي البعد
أولئك قوم لو لجأت إليهم ... لكنت مكان السيف من وسط الغمد

طُرَيثيثُ

طُرَيثيثُ:
بضم أوله، وفتح ثانيه ثم ياء مثناة من تحت وثاء مثلثة، تصغير الطرثوث: وهو نبت كالفطر مستطيل دقيق يضرب إلى الحمرة يؤبس، وهو دباغ للمعدة، منه مرّ ومنه حلو جعل في الأدوية، قال الأزهري: طراثيث البادية ليست كالطراثيث التي تنبت في جبال خراسان التي عندنا فان لها ورقا عريضا ومنبته الجبال، وطرثوث البادية لا ورق له ولا ثمر ومنبته الرمال وسهولة الأرض وفيه حلاوة وربما كان فيه عفوصة، وهو أحمر مستدير الرأس كأنه ثومة ذكر الرجل، وطرثيث: ناحية وقرى كثيرة من أعمال نيسابور وطريثيث قصبتها، وما زالت منبعا للفضلاء وموطنا للعلماء وأهل الدين والصلاح إلى قريب من سنة 530، فان العميد منصور بن منصور الزورآباذي رئيس هذه الناحية آباء وأجدادا لما استولى الباطنية الملاحدة على نواحي قهستان وزوزن، كما نذكره إن شاء الله تعالى في موضعه، خاف العميد غائلتهم لاتصال أعماله بأعمالهم فاستمد الأتراك لنصرته وحفظا للحريم والأموال، وكان شديدا على الملاحدة مسرفا في قتلهم، فجاء قوم من الأتراك لمعاونته فجروا على عادتهم في سوء المعاملة واستباحة ما لا يليق ولم تكن همّتهم صادقة في دفع العدوّ وإنما كان قصدهم بلوغ الغرض في تحصيل ما يحصلونه، فرأى ثقل وطأتهم وقلة غنائهم فدفعهم عنه والتجأ إلى الملاحدة وصفت له ناحية طريثيث وقلاعها وأملاكها وضياعها، وكان فقيها مناظرا حسن الاعتقاد شافعيّ المذهب إلا أن الضرورة الجأته إلى ما فعل، ولما حضرته الوفاة أوصى إلى رجل شافعي المذهب في غسله وتجهيزه وأوصى إلى ابنه علاء الدين محمود بإظهار دعوته وإحياء معالم السنن، فامتثل وصيته في شهور سنة 545 وأمر بلبس السواد والخطبة بجامع طريثيث فخالفه عمه وأقاربه وكسروا المنبر وقتلوا الخطيب، فكتب محمود إلى نيسابور يستمدّ أهلها ويستنصرهم في كشف هذه البلية وقتل الملاحدة فلم يجد مساعدا فقدم نيسابور وجرى أولئك على رأيهم وخلصت للملاحدة، فهي في أيديهم إلى الآن، وقد خرج من هذه الناحية جماعة من أهل العلم، وأهل خراسان يسمون هذه الناحية اليوم ترشيش، بشينين معجمتين وأوله تاء مثناة من فوق، وحكى العمراني عن الأزهري ولم أجده أنا في كتاب التهذيب الذي نقلته من خطه ولعله من تصنيف له آخر، قال:
طريثيث قرية بنيسابور، وأنشد:
كنت عن أهلي مسافر ... بالطريثيث أساير
فإذا أبيض شاطر ... يتغنّى وهو طائر
يا جيادا يا غضائر
وقد نسبوا إلى طريثيث جماعة وافرة من أهل العلم والعبادة قبل انتقالهم إلى هذه البلية، منهم: أبو الفضل شافع بن عليّ بن الفضل الطريثيثي، سمع أبا الحسن محمد بن عليّ بن صخر الأزدي بمكة وأبا إسحاق إبراهيم بن محمد بن طلحة بن غسان الحافظ وغيرهما، روى عنه وجيه بن طاهر الشحامي، ومات بنيسابور في ذي الحجة سنة 488، ومولده بطريثيث سنة 460.

شِعبُ جَبَلَةَ

شِعبُ جَبَلَةَ:
قد ذكرت جبلة في موضعها، وكان فيه يوم من أيّام العرب اجتمع عليه أكثر قبائل العرب، وكان النصر فيه لبني عامر، فقال لبيد:
منّا حماة الشعب يوم تواعدت أسد وذبيان الصّفا وتميم فارتثّ جرحاهم عشيّة هزمهم حتى بمنعرج المسيل مقيم قومي أولئك إن سألت بخيمهم، ولكلّ قوم في النّوائب خيم وإذا تواكلت المقانب لم يزل بالنّفر منّا منسر وعظيم

سُدّ يأجُوجَ ومأجوجَ

سُدّ يأجُوجَ ومأجوجَ:
قيل: إن يأجوج ومأجوج ابنا يافث بن نوح، عليه السلام، وهما قبيلتان من خلق جاءت القراءة فيهما بهمز وبغير همز، وهما اسمان أعجميان، واشتقاق مثلهما من كلام العرب يخرج من أجّت النار ومن الماء الأجاج وهو الشديد الملوحة المحرق من ملوحته، ويكون التقدير يفعول ومفعول، ويجوز أن يكون يأجوج فاعولا وكذلك مأجوج، قال: هذا لو كان الاسمان عربيّين لكان هذا اشتقاقهما، فأمّا الأعجمية فلا تشتقّ من العربيّة، وروي عن الشعبي أنّه قال: سار ذو القرنين إلى ناحية يأجوج ومأجوج فنظر إلى أمّة صهب الشعور زرق العيون فاجتمع إليه منهم خلق كثير وقالوا له: أيها الملك المظفّر إنّ خلف هذا الجبل أمما لا يحصيهم إلّا الله وقد أخربوا علينا بلادنا يأكلون ثمارنا وزروعنا، قال: وما صفتهم؟ قالوا: قصار صلع عراض الوجوه، قال: وكم صنفا هم؟ قالوا: هم أمم كثيرة لا يحصيهم إلّا الله تعالى، قال: وما أساميهم؟
قالوا: أما من قرب منهم فهم ستّ قبائل: يأجوج، ومأجوج، وتاويل، وتاريس، ومنسك، وكمارى، وكلّ قبيلة منهم مثل جميع أهل الأرض، وأما من كان منّا بعيدا فإنّا لا نعرف قبائلهم وليس لهم إلينا طريق، فهل نجعل لك خرجا على أن تسدّ عليهم وتكفينا أمرهم؟ قال: فما طعامهم؟ قالوا: يقذف البحر إليهم في كلّ سنة سمكتين يكون بين رأس كلّ سمكة وذنبها مسيرة عشرة أيّام أو أكثر، قال:
ما مكّنني فيه ربي خير فأعينوني بقوّة تبذلون لي من الأموال في سدّه ما يمكن كلّ واحد منكم، ففعلوا، ثمّ أمر بالحديد فأذيب وضرب منه لبنا عظاما وأذاب النحاس ثمّ جعل منه ملاطا لذلك اللبن وبنى به الفجّ وسوّاه مع قلّتي الجبل فصار شبيها بالمصمت، وفي بعض الأخبار قال: السّدّ طريقة حمراء وطريقة سوداء من حديد ونحاس، ويأجوج ومأجوج اثنتان وعشرون قبيلة، منهم الترك قبيلة واحدة كانت خارج السدّ لما ردمه ذو القرنين فسلموا أن يكونوا خلفه، وسار ذو القرنين حتى توسط بلادهم فإذا هم على مقدار واحد، ذكرهم وأنثاهم، يبلغ طول الواحد منهم مثل نصف طول الرجل المربوع، لهم مخاليب في مواضع الأظفار ولهم أضراس وأنياب كأضراس السّباع
وأنيابها وأحناك كأحناك الإبل، وعليهم من الشعر ما يواري أجسادهم، ولكل واحد أذنان عظيمتان إحداهما على ظاهرها وبر كثير وباطنها أجرد والأخرى باطنها وبر كثير وظاهرها أجرد يلتحف إحداهما ويفترش الأخرى، وليس منهم ذكر ولا أنثى إلّا ويعرف أجله والوقت الذي يموت فيه، وذلك أنّه لا يموت حتى يلد ألف ولد، وهم يرزقون التنّين في أيّام الربيع ويستمطرونه إذا أبطأ عنهم كما نستمطر المطر إذا انقطع فيقذفون في كلّ عام بواحد فيأكلونه عامهم كلّه إلى مثله من قابل فيكفيهم على كثرتهم، وهم يتداعون تداعي الحمام ويعوون عواء الكلاب ويتسافدون حيث ما التقوا تسافد البهائم، وفي رواية أن ذا القرنين إنما عمل السدّ بعد رجوعه عنهم فانصرف إلى ما بين الصّدفين فقاس ما بينهما وهو منقطع أرض الترك ممّا يلي الشمس فوجد بعد ما بينهما مائة فرسخ فحفر له أساسا بلغ به الماء وجعل عرضه خمسين فرسخا وجعل حشوه الصخور وطينه النحاس المذاب يصبّ عليه، فصار عرقا من جبل تحت الأرض ثمّ علّاه وشرّفه بزبر الحديد والنحاس المذاب وجعل خلاله عرقا من نحاس أصفر فصار كأنّه برد محبّر من صفرة النحاس وسواد الحديد، فلمّا أحكمه انصرف راجعا، وأمّا ذكر التنّين فرأينا منه بنواحي حلب ما ذكرته في ترجمة كلز وجعلته حجّة على ما أورده ههنا من خبره وشجّعني على كتابته، فإن الإنسان شديد التكذيب بخبر ما لم ير مثله، روي عن شدّاد بن أفلح المقري أنّه قال: عدت عمر البكاليّ فذكرنا لون التنّين فقال عمر البكاليّ: أتدرون كيف يكون التنّين؟ قلنا: لا، قال: يكون في البرّ حيّة متمرّدة فتأكل حيّات البرّ فلا تزال تأكلها وتأكل غيرها من الهوامّ وهي تعظم وتكبر ثمّ يزيد أمرها فتأكل جميع ما تراه من الحيوان فإذا عظم أمرها ضجّت دوابّ البر منها فيرسل الله تعالى إليها ملكا فيحتملها حتى يلقيها في البحر فتفعل بدوابّ البحر مثل فعلها بدوابّ البرّ فتعظم ويزداد جسمها فتضجّ دوابّ البحر منها أيضا فيبعث الله إليها ملكا حتى يخرج رأسها من البحر فيتدلّى إليها سحاب فيحتملها فيلقيها إلى يأجوج ومأجوج، وحدّث المعلّى بن هلال الكوفي قال: كنت بالمصيصة فسمعتهم يتحدثون أن البحر ربّما مكث أيّاما وليالي تصطفق أمواجه ويسمع لها دويّ شديد فيقولون ما هذا إلّا بشيء آذى دوابّ البحر فهي تضجّ إلى الله تعالى، قال:
فتقبل سحابة حتى تغيب في البحر ثمّ تقبل أخرى حتى تعدّ سبع سحابات ثمّ ترتفع جميعا في السماء وقد حملن شيئا يرون أنّه التنّين حتى يغيب عنّا ونحن ننظر إليه يضطرب فيها فربّما وقع في البحر فتعود السحابة إلى البحر بالرعد الشديد الهائل والبرق العظيم حتى تغوص في البحر وتستخرجه ثانية فتحمله، فربما اجتاز وهو في السحاب وذنبه خارج عنها بالشجر العادي والبناء الشامخ فيضربه بذنبه فيهدم البناء من أصله ويقلع الشجر بعروقه، ولقد احتمله السحاب من بحر أنطاكية فضرب بذنبه بضعة عشر برجا من أبراج سورها فرمى بها، ويقال: إن السحاب الموكّل به يختطفه حيثما رآه كما يختطف حجر المغناطيس الحديد، فهو لا يطلع رأسه من الماء خوفا من السحاب ولا يخرج إلّا في الفرط إذا صحت الدنيا، وذكر بقراط الحكيم اليوناني في كتاب الثراء أنّه كان في بعض السواحل فبلغه أن هناك قرى كثيرة قد فشا فيها الموت فقصدها ليعرف السبب في ذلك فلمّا فحص عن الأمر إذا هو بتنّين قد احتمله السحاب من البحر فوقع على نحو عشرين فرسخا من هذه القرى فنتن
ففشا الموت فيها من نتنه فعمد ذلك الفيلسوف فجبا من أهل تلك القرى مالا عظيما واشترى به ملحا ثمّ أمر أهل تلك القرى أن يحملوه ويلقوه عليه ففعلوا ذلك حتى بطلت رائحته وكفّ الموتان عنهم، وروي عن بعضهم أنّه قصد موضعا سقط فيه فوجد طوله نحو الفرسخين وعرضه فرسخ ولونه مثل لون النمر مفلّس كفلوس السمك وله جناحان عظيمان كهيئة أجنحة السمك ورأسه مثل التلّ العظيم شبه رأس الإنسان وله أذنان مفرطتا الطول وعينان مدوّرتان كبيرتان جدّا ويتشعّب من عنقه ستّة أعناق طول كل عنق منها عشرون ذراعا في كل عنق رأس كرأس الحيّة، قلت: هذه صفة فاسدة لأنه قال أوّلا رأس كرأس الإنسان ثمّ قال ستة رؤوس كرءوس الحية، وقد نقلته كما وجدته ولكن تركه أولى، ومن مشهور الأخبار حديث سلّام الترجمان قال: إن الواثق بالله رأى في المنام أن السدّ الذي بناه ذو القرنين بيننا وبين يأجوج ومأجوج مفتوح، فأرعبه هذا المنام فأحضرني وأمرني بقصده والنظر إليه والرجوع إليه بالخبر، فضمّ إليّ خمسين رجلا ووصلني بخمسة آلاف دينار وأعطاني ديني عشرة آلاف درهم ومائتي بغل تحمل الزاد والماء، قال:
فخرجنا من سرّ من رأى بكتاب منه إلى إسحاق ابن إسماعيل صاحب أرمينية وهو بتفليس يؤمر فيه بإنفاذنا وقضاء حوائجنا ومكاتبة الملوك الذين في طريقنا بتيسيرنا، فلمّا وصلنا إليه قضى حوائجنا وكتب إلى صاحب السرير وكتب لنا صاحب السرير إلى ملك اللّان وكتب ملك اللّان إلى فيلانشاه وكتب لنا فيلانشاه إلى ملك الخزر فوجه ملك الخزر معنا خمسة من الأدلّاء فسرنا ستّة وعشرين يوما فوصلنا إلى أرض سوداء منتنة الرائحة وكنّا قد حملنا معنا خلّا لنشمّه من رائحتها بإشارة الأدلّاء، فسرنا في تلك الأرض عشرة أيّام ثمّ صرنا إلى مدن خراب فسرنا فيها سبعة وعشرين يوما فسألنا الأدلّاء عن سبب خراب تلك المدن فقالوا: خرّبها يأجوج ومأجوج، ثمّ صرنا إلى حصن بالقرب من الجبل الذي السّدّ في شعب منه فجزنا بشيء يسير إلى حصون أخر فيها قوم يتكلمون بالعربيّة والفارسيّة وهم مسلمون يقرؤون القرآن ولهم مساجد وكتاتيب، فسألونا من أين أقبلتم وأين تريدون، فأخبرناهم أنا رسل أمير المؤمنين، فأقبلوا يتعجبون من قولنا ويقولون: أمير المؤمنين! فنقول:
نعم، فقالوا: أهو شيخ أم شاب؟ قلنا: شابّ، قالوا: وأين يكون؟ قلنا: بالعراق في مدينة يقال لها سرّ من رأى، قالوا: ما سمعنا بهذا قط، ثمّ ساروا معنا إلى جبل أملس ليس عليه من النبات شيء وإذا هو مقطوع بواد عرضه مائة وخمسون ذراعا، وإذا عضادتان مبنيتان ممّا يلي الجبل من جنبي الوادي عرض كلّ عضادة خمسة وعشرون ذراعا الظاهر من تحتها عشرة أذرع خارج الباب، وكلّه مبني بلبن حديد مغيّب في نحاس في سمك خمسين ذراعا، وإذا دروند حديد طرفاه في العضادتين طوله مائة وعشرون ذراعا قد ركّب على العضادتين على كلّ واحد مقدار عشرة أذرع في عرض خمسة أذرع، وفوق الدروند بناء بذلك اللبن الحديد والنحاس إلى رأس الجبل، وارتفاعه مدّ البصر، وفوق ذلك شرف حديد في طرف كلّ شرفة قرنان ينثني كلّ واحد إلى صاحبه، وإذا باب حديد بمصراعين مغلقين عرض كل مصراع ستون ذراعا في ارتفاع سبعين ذراعا في ثخن خمسة أذرع وقائمتاها في دوّارة على قدر الدروند، وعلى الباب قفل طوله سبعة أذرع في غلظ باع، وارتفاع القفل من الأرض خمسة وعشرون ذراعا وفوق القفل نحو خمسة أذرع
غلق طوله أكثر من طول القفل، وعلى الغلق مفتاح معلق طوله سبعة أذرع له أربع عشرة دندانكة أكبر من دستج الهاون معلّق في سلسلة طولها ثمانية أذرع في استدارة أربعة أشبار والحلقة التي فيها السلسلة مثل حلقة المنجنيق، وارتفاع عتبة الباب عشرة أذرع في بسط مائة ذراع سوى ما تحت العضادتين والظاهر منها خمسة أذرع، وهذا الذرع كلّه بذراع السواد، ورئيس تلك الحصون يركب في كلّ جمعة في عشرة فوارس مع كلّ فارس مرزبة حديد فيجيئون إلى الباب ويضرب كل واحد منهم القفل والباب ضربات كثيرة ليسمع من وراء الباب ذلك فيعلموا أن هناك حفظة ويعلم هؤلاء أن أولئك لم يحدثوا في الباب حدثا، وإذا ضربوا الباب وضعوا آذانهم فيسمعون من وراء الباب دويّا عظيما، وبالقرب من السدّ حصن كبير يكون فرسخا في مثله يقال إنّه يأوي إليه الصّنّاع، ومع الباب حصنان يكون كلّ واحد منهما مائتي ذراع في مثلها، وعلى بابي هذين الحصنين شجر كبير لا يدرى ما هو، وبين الحصنين عين عذبة، وفي أحدهما آلة البناء التي بني بها السدّ من القدور الحديد والمغارف وهناك بقيّة من اللبن الحديد قد التصق بعضه ببعض من الصدإ، واللبنة ذراع ونصف في سمك شبر، وسألنا من هناك هل رأوا أحدا من يأجوج ومأجوج فذكروا أنّهم رأوا منهم مرّة عددا فوق الشرف فهبّت ريح سوداء فألقتهم إلى جانبنا فكان مقدار الواحد منهم في رأي العين شبرا ونصفا، فلمّا انصرفنا أخذ بنا الأدلّاء نحو خراسان فسرنا حتى خرجنا خلف سمرقند بسبعة فراسخ، قال: وكان بين خروجنا من سرّ من رأى إلى رجوعنا إليها ثمانية عشر شهرا، قد كتبت من خبر السدّ ما وجدته في الكتب ولست أقطع بصحة ما أوردته لاختلاف الروايات فيه، والله أعلم بصحته، وعلى كلّ حال فليس في صحة أمر السد ريب وقد جاء ذكره في الكتاب العزيز.

بحث: السيد الشريف الجرجاني، وسعد الدين التفتازاني

بحث: السيد الشريف الجرجاني، وسعد الدين التفتازاني
في استعارة قوله - سبحانه وتعالى -: (أولئك على هدى من ربهم...) الآية.
في مجلس تيمور.
فظهر السيد عليه لفصاحته، وطلاقة لسانه؛ وكان لسان السيد أفصح من قلمه، والتفتازاني بالعكس، والأفاضل في التفضيل بينهما على قسمين، والأكثر في جانب السعد.

الرَّقيمُ

الرَّقيمُ:
بفتح أوّله، وكسر ثانيه، وهو الذي جاء ذكره في القرآن، والرّقم والترقيم: تعجيم الكتاب ونقطة وتبين حروفه، وكتاب رقيم أي مرقوم، فعيل بمعنى مفعول، قال الشاعر:
سأرقم في الماء القراح إليكم، ... على بعدكم، إن كان للماء راقم
وبقرب البلقاء من أطراف الشام موضع يقال له الرقيم، يزعم بعضهم أن به أهل الكهف، والصحيح أنّهم ببلاد الروم كما نذكره، وهذا الرقيم أراد كثيّر بقوله، وكان يزيد بن عبد الملك ينزله، وقد ذكرته الشعراء:
أمير المؤمنين إليك نهوي ... على البخت الصّلادم والعجوم
إذا اتخذت وجوه القوم نصبا ... أجيج الواهجات من السّموم
فكم غادرن دونك من جهيض ... ومن نعل مطرّحة جذيم
يزرن، على تنائيه، يزيدا ... بأكناف الموقّر والرّقيم
تهنّئه الوفود إذا أتوه ... بنصر الله والملك العظيم
قال الفرّاء في قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا من آياتِنا عَجَباً 18: 9، قالوا: هو لوح رصاص كتبت فيه أنسابهم وأسماؤهم ودينهم ومما هربوا، وقيل: الرقيم اسم القرية التي كانوا فيها، وقيل: إنّه اسم الجبل الذي فيه الكهف، وروى عكرمة عن ابن عبّاس، رضي الله عنه، أنّه قال: ما أدري ما الرقيم أكتاب أم بنيان، وروى غيره عن ابن عبّاس: أصحاب الرقيم سبعة، وأسماؤهم:
يمليخا، مكسملينا، مشلينا، مرطونس، دبريوس، سرابيون، افستطيوس، واسم كلبهم قطمير، واسم ملكهم دقيانوس، واسم مدينتهم التي خرجوا منها أفسس ورستاقها الرّسّ، واسم الكهف الرقيم، وكان فوقهم القبطيّ دون الكرديّ، وقد قيل غير ذلك في أسمائهم، والكهف المذكور الذي فيه أصحاب الكهف بين عمورية ونيقية، وبينه وبين طرسوس عشرة أيام أو أحد عشر يوما، وكان الواثق قد وجّه محمد بن موسى المنجّم إلى بلاد الرّوم للنظر إلى أصحاب الكهف والرقيم، قال: فوصلنا إلى بلد الروم فإذا هو جبل صغير قدر أسفله أقلّ من ألف ذراع وله سرب من وجه الأرض فتدخل السرب فتمرّ في خسف من الأرض مقدار ثلاثمائة خطوة فيخرجك إلى رواق في الجبل على أساطين منقورة وفيه عدّة أبيات، منها: بيت مرتفع العتبة مقدار قامة عليها باب حجارة فيه الموتى ورجل موكل بهم يحفظهم معه خصيّان، وإذا هو يحيدنا عن أن نراهم ونفتّشهم ويزعم أنّه لا يأمن أن يصيب من التمس ذلك آفة في بدنه، يريد التمويه ليدوم كسبه، فقلت: دعني أنظر إليهم وأنت بريء، فصعدت بمشقّة عظيمة غليظة مع غلام من غلماني فنظرت إليهم وإذا هم في مسوح شعر تتفتت في اليد، وإذا أجسادهم مطليّة بالصبر والمرّ والكافور ليحفظها، وإذا جلودهم لاصقة بعظامهم، غير أني أمررت يدي على صدر أحدهم فوجدت خشونة شعره وقوّة ثيابه، ثمّ أحضرنا المتوكّل بهم طعاما وسألنا أن نأكل منه، فلمّا أخذناه منه ذقناه وقد أنكرت أنفسنا وتهوّعنا وكأن الخبيث أراد قتلنا أو قتل بعضنا ليصحّ له ما كان يموّه به عند الملك أنّه فعل بنا هذا الفعل أصحاب الرقيم، فقلنا له: إنّا ظننا أنهم أحياء يشبهون الموتى وليس هؤلاء كذلك، فتركناه وانصرفنا، قال غيرهم: إن بالبلقاء بأرض العرب من نواحي دمشق موضعا يزعمون أنّه الكهف والرقيم قرب عمّان، وذكروا أن عمّان هي مدينة دقيانوس، وقيل: هي في أفسس من بلاد الروم قرب أبلستين، قيل: هي مدينة دقيانوس، وفي برّ الأندلس موضع يقال له جنان الورد به الكهف والرقيم، وبه قوم موتى لا يبلون كما ذكر أهلها، وقيل: إن طليطلة هي مدينة دقيانوس، وذكر عليّ ابن يحيى أنّه لما قفل من غزاته دخل ذلك الموضع فرآهم في مغارة يصعد إليها من الأرض بسلّم مقدار ثلاثمائة ذراع، قال: فرأيتهم ثلاثة عشر رجلا وفيهم غلام أمرد عليهم جباب صوف وأكسية صوف وعليهم خفاف ونعال، فتناولت شعرات من جبهة أحدهم فمددتها فما منعني منها شيء، والصحيح أن أصحاب الكهف سبعة وإنّما الروم زادوا الباقي من عظماء أهل دينهم وعالجوا أجسادهم بالصبر وغيره على ما عرفوه، وروي عن عبادة بن الصامت قال:
بعثني أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، سنة استخلف إلى ملك الروم أدعوه إلى الإسلام أو أوذنه بحرب، قال: فسرت حتى دخلت بلد الروم فلمّا دنوت إلى قسطنطينية لاح لنا جبل أحمر قيل
إن فيه أصحاب الكهف والرقيم، ودفعنا فيه إلى دير وسألنا أهل الدير عنهم فأوقفونا على سرب في الجبل، فقلنا لهم: إنّا نريد أن ننظر إليهم، فقالوا: أعطونا شيئا، فوهبنا لهم دينارا، فدخلوا ودخلنا معهم في ذلك السرب وكان عليه باب حديد ففتحوه فانتهينا إلى بيت عظيم محفور في الجبل فيه ثلاثة عشر رجلا مضطجعين على ظهورهم كأنهم رقود وعلى كل واحد منهم جبّة غبراء وكساء أغبر قد غطوا بها رؤوسهم إلى أرجلهم، فلم ندر ما ثيابهم أمن صوف أو وبر أم غير ذلك إلّا أنّها كانت أصلب من الديباج وإذا هي تقعقع من الصفاقة والجودة، ورأينا على أكثرهم خفافا إلى أنصاف سوقهم وبعضهم منتعلين بنعال مخصوفة، ولخفافهم ونعالهم من جودة الخرز ولين الجلود ما لم ير مثله، فكشفنا عن وجوههم رجلا بعد رجل فإذا بهم من ظهور الدم وصفاء الألوان كأفضل ما يكون للأحياء وإذا الشيب قد وخط بعضهم وبعضهم شبّان سود الشعور وبعضهم موفورة شعورهم وبعضهم مطمومة وهم على زي المسلمين، فانتهينا إلى آخرهم فإذا هو مضروب الوجه بالسيف وكأنّه في ذلك اليوم ضرب، فسألنا أولئك الذين أدخلونا إليهم عن حالهم فأخبرونا أنّهم يدخلون إليهم في كل يوم عيد لهم يجتمع أهل تلك البلاد من سائر المدن والقرى إلى باب هذا الكهف فنقيمهم أيّاما من غير أن يمسّهم أحد فننفض جبابهم وأكسيتهم من التراب ونقلّم أظافيرهم ونقصّ شواربهم ثمّ نضجعهم بعد ذلك على هيئتهم التي ترونها، فسألناهم من هم وما أمرهم ومنذ كم هم بذلك المكان، فذكروا أنّهم يجدون في كتبهم أنّهم بمكانهم ذلك من قبل مبعث المسيح، عليه السلام، بأربعمائة سنة وأنّهم كانوا أنبياء بعثوا بعصر واحد وأنّهم لا يعرفون من أمرهم شيئا غير هذا، قال عبد الله الفقير إليه: هذا ما نقلته من كتب الثقات، والله أعلم بصحته.

خُوارِزْم

خُوارِزْم:
أوله بين الضمة والفتحة، والألف مسترقة مختلسة ليست بألف صحيحة، هكذا يتلفظون به، هكذا ينشد قول اللحّام فيه:
ما أهل خوارزم سلالة آدم، ... ما هم، وحقّ الله، غير بهائم
أبصرت مثل خفافهم ورؤوسهم ... وثيابهم وكلامهم في العالم
إن كان يرضاهم أبونا آدم، ... فالكلب خير من أبينا آدم
قال ابن الكلبي: ولد إسحاق بن إبراهيم الخليل الخزر والبزر والبرسل وخوارزم وفيل، قال بطليموس في كتاب الملحمة: خوارزم طولها مائة وسبع عشرة درجة وثلاثون دقيقة، وعرضها خمس وأربعون درجة، وهي في الإقليم السادس، طالعها السماك ويجمعها الذراع، بيت حياتها العقرب، مشرقة في قبة الفلك تحت ثلاث وعشرين درجة من السرطان، يقابلها مثلها من الجدي، بيت ملكها مثلها من الحمل، بيت عاقبتها مثلها من الميزان، وقال أبو عون في زيجه: هي في آخر الإقليم الخامس، وطولها إحدى وتسعون درجة وخمسون دقيقة، وعرضها أربع وأربعون درجة وعشر دقائق، وخوارزم ليس اسما للمدينة إنما هو اسم للناحية بجملتها، فأما القصبة العظمى فقد يقال لها اليوم الجرجانية، وقد ذكرت في موضعها، وأهلها يسمونها كركانج، وقد ذكروا في سبب تسميتها بهذا الاسم أن أحد الملوك القدماء غضب على أربعمائة من أهل مملكته وخاصة حاشيته فأمر بنفيهم إلى موضع منقطع عن العمارات بحيث يكون بينهم وبين العمائر مائة فرسخ، فلم يجدوا على هذه الصفة إلا موضع مدينة كاث، وهي إحدى مدن خوارزم، فجاؤوا بهم إلى هذا الموضع وتركوهم وذهبوا، فلما كان بعد مدة جرى ذكرهم على بال الملك فأمر قوما بكشف خبرهم، فجاؤوا فوجدوهم قد بنوا أكواخا ووجدوهم يصيدون السمك وبه يتقوّتون وإذا حولهم حطب كثير، فقالوا لهم: كيف حالكم؟ فقالوا: عندنا هذا اللحم، وأشاروا إلى السمك، وعندنا هذا الحطب فنحن نشوي هذا بهذا ونتقوّت به، فرجعوا إلى الملك وأخبروه بذلك فسمى ذلك الموضع خوارزم لأن اللحم بلغة الخوارزمية خوار والحطب رزم، فصار خوارزم فخفف وقيل خوارزم استثقالا لتكرير الراء، وقد جاء به بعض العرب على الأصل، فقال الأسدي:
أتاني، عن أبي أنس، وعيد، ... فسلّ تغيّظ الضحّاك جسمي
ولم أعص الأمير، ولم أربه، ... ولم أسبق أبا أنس بوغم
ولكنّ البعوث جرت علينا، ... فصرنا بين تطويح وغرم
وخافت من رمال السّغد نفسي، ... وخافت من رمال خوارزم
فقارعت البعوث وقارعتني، ... ففاز بضجعة في الحيّ سهمي
وأعطيت الجعالة، مستميتا، ... خفيف الحاذ من فتيان جرم
وأقرّ أولئك الذين نفاهم بذلك المكان وأقطعهم إياه وأرسل إليهم أربعمائة جارية تركية وأمدهم بطعام من الحنطة والشعير وأمرهم بالزرع والمقام هناك، فلذلك في وجوههم أثر الترك وفي طباعهم أخلاق الترك وفيهم جلد وقوة، وأحوجهم مقتضى القضية للصبر على الشقاء، فعمّروا هناك دورا وقصورا وكثروا وتنافسوا في البقاع فبنوا قرى ومدنا وتسامع بهم من يقاربهم من مدن خراسان فجاؤوا وساكنوهم فكثروا وعزّوا فصارت ولاية حسنة عامرة، وكنت قد جئتها في سنة 616، فما رأيت ولاية قط أعمر منها، فإنها على ما هي عليه من رداءة أرضها وكونها سبخة كثيرة النزوز متصلة العمارة متقاربة القرى كثيرة البيوت المفردة والقصور في صحاريها، قلّ ما يقع نظرك في رساتيقها على موضع لا عمارة فيه، هذا مع كثرة الشجر بها، والغالب عليه شجر التوت والخلاف لاحتياجهم إليه لعمائرهم وطعم دود الإبريسم، ولا فرق بين المارّ في رساتيقها كلها والمارّ في الأسواق، وما ظننت أن في الدنيا بقعة سعتها سعة خوارزم وأكثر من أهلها مع أنهم قد مرنوا على ضيق العيش والقناعة بالشيء اليسير، وأكثر ضياع خوارزم مدن ذات أسواق وخيرات ودكاكين، وفي النادر أن يكون قرية لا سوق فيها مع أمن شامل وطمأنينة تامة.
والشتاء عندهم شديد جدّا بحيث أني رأيت جيحون نهرهم وعرضه ميل وهو جامد، والقوافل والعجل الموقرة ذاهبة وآتية عليه، وذلك أن أحدهم يعمد إلى رطل واحد من أرز أو ما شاء ويكثر من الجزر والسلجم فيه ويضعه في قدر كبيرة تسع قربة ماء ويوقد تحتها إلى أن ينضج ويترك عليه أوقية دهنا ثم يأخذ المغرفة ويغرف من تلك القدر في زبدية أو زبديتين فيقنع به بقية يومه، فإن ثرد فيه رغيفا لطيفا خبزا فهو الغاية، هذا في الغالب عليهم، على أن فيهم أغنياء مترفهين إلّا أن عيش أغنيائهم قريب من هذا ليس فيه ما في عيش غيرهم من سعة النفقة وإن كان النزر من بلادهم تكون قيمته قيمة الكثير من بلاد غيرهم، وأقبح شيء عندهم وأوحشه أنهم يدوسون حشوشهم بأقدامهم ويدخلون إلى مساجدهم على تلك الحالة لا يمكنهم التحاشي من ذلك لأن حشوشهم ظاهرة على وجه الأرض، وذلك لأنهم إذا حفروا في الأرض مقدار ذراع واحد نبع الماء عليهم، فدروبهم وسطوحهم ملأى من القذر، وبلدهم كنيف جائف منتن، وليس لأبنيتهم أساسات إنما يقيمون أخشابا مقفصة ثم يسدونها باللبن، هذا غالب أبنيتهم، والغالب على خلق أهلها الطول والضخامة، وكلامهم كأنه أصوات الزرازير، وفي رؤوسهم عرض، ولهم جبهات واسعة، وقيل لأحدهم: لم رؤوسكم تخالف رؤوس الناس؟ فقال: إن قدماءنا كانوا يغزون الترك فيأسرونهم وفيهم شية من الترك فما كانوا يعرفون، فربما وقعوا إلى الإسلام فبيعوا في الرقيق، فأمروا النساء إذا ولدن أن يربطن أكياس الرمل على رؤوس الصبيان من الجانبين حتى ينبسط الرأس، فبعد ذلك
لم يسترقّوا وردّ من وقع منهم إليهم إلى الكوفة، قال عبد الله الفقير إليه: وهذا من أحاديث العامة لا أصل له، هب أنهم فعلوا ذلك فيما مضى فالآن ما بالهم؟ فإن كانت الطبيعة ورثته وولدته على الأصل الذي صنعه بهم أمهاتهم كان يجب أن الأعور الذي قلعت عينه أن يلد أعور وكذلك الأحدب وغير ذلك، وإنما ذكرت ما ذكر الناس.
قال البشاري: ومثل خوارزم في إقليم الشرق كسجلماسة في الغرب، وطباع أهل خوارزم مثل طبع البربر، وهي ثمانون فرسخا في ثمانين فرسخا، آخر كلامه، قلت: ويحيط بها رمال سيّالة يسكنها قوم من الأتراك والتركمان بمواشيهم، وهذه الرمال تنبت الغضا شبه الرمال التي دون ديار مصر، وكانت قصبتها قديما تسمى المنصورة، وكانت على الجانب الشرقي فأخذ الماء أكثر أرضها فانتقل أهلها إلى مقابلها من الغربي، وهي الجرجانية، وأهلها يسمونها كركانج، وحوّطوا على جيحون بالحطب الجزل والطرفاء يمنعونه من خراب منازلهم يستجدّونه في كل عام ويرمّون ما تشعث منه، وقرأت في كتاب ألفه أبو الريحان البيروني في أخبار خوارزم ذكر فيه أنّ خوارزم كانت تدعى قديما فيل، وذكر لذلك قصة نسيتها فإن وجدها واحد وسهل عليه أن يلحقها بهذا الموضع فعل مأذونا له في ذلك عنّي، قال محمد بن نصر بن عنين الدمشقي:
خوارزم عندي خير البلاد، ... فلا أقلعت سحبها المغدقه
فطوبى لوجه امرئ صبّحت ... هـ، أوجه فتيانها المشرقة
وما ان نقمت بها حالة، ... سوى أن أقامت بها مقلقه
وكان المؤذّن يقوم في سحرة من الليل يقارب نصفه فلا يزال يزعق إلى الفجر قامت، وقال الخطيب أبو المؤيد الموفّق بن أحمد المكي ثم الخوارزمي يتشوّقها:
أأبكاك لمّا أن بكى في ربى نجد ... سحاب ضحوك البرق منتحب الرعد
له قطرات كاللآلئ في الثرى، ... ولي عبرات كالعقيق على خدّي
تلفّتّ منها نحو خوارزم والها ... حزينا، ولكن أين خوارزم من نجد؟
وقرأت في الرسالة التي كتبها أحمد بن فضلان بن العباس بن راشد بن حمّاد مولى محمد بن سليمان رسول المقتدر بالله إلى ملك الصقالبة ذكر فيها ما شاهده منذ خرج من بغداد إلى أن عاد إليها فقال بعد وصوله إلى بخارى، قال: وانفصلنا من بخارى إلى خوارزم وانحدرنا من خوارزم إلى الجرجانية، وبينها وبين خوارزم في الماء خمسون فرسخا، قلت: هكذا قال ولا أدري أي شيء عنى بخوارزم لأن خوارزم هو اسم الإقليم بلا شك، ورأيت دراهم بخوارزم مزيفة ورصاصا وزيوفا وصفرا، ويسمون الدرهم طازجه، ووزنه أربعة دوانق ونصف، والصيرفي منهم يبيع الكعاب والدوامات والدراهم، وهم أوحش الناس كلاما وطبعا، وكلامهم أشبه بنقيق الضفادع، وهم يتبرؤون من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، في دبر كل صلاة، فأقمنا بالجرجانية أياما وجمد جيحون من أوله إلى آخره، وكان سمك الجمد تسعة عشر شبرا، قال عبد الله الفقير: وهذا كذب منه، فإنّ أكثر ما يجمد خمسة أشبار وهذا يكون نادرا، فأما العادة فهو شبران أو ثلاثة، شاهدته وسألت عنه أهل تلك البلاد، ولعله
ظنّ أنّ النهر يجمد كلّه وليس الأمر كذلك، إنما يجمد أعلاه وأسفله جار، ويحفر أهل خوارزم في الجليد ويستخرجون منه الماء لشربهم، لا يتعدّى الثلاثة أشبار إلّا نادرا، قال: وكانت الخيل والبغال والحمير والعجل تجتاز عليه كما تجتاز على الطريق، وهو ثابت لا يتحلحل، فأقام على ذلك ثلاثة أشهر فرأينا بلدا ما ظننا إلّا أنّ بابا من الزمهرير فتح علينا منه، ولا يسقط فيه الثلج إلّا ومعه ريح عاصف شديدة، قلت: وهذا أيضا كذب فإنه لولا ركود الهواء في الشتاء في بلادهم لما عاش فيها أحد، قال: وإذا أتحف الرجل من أهله صاحبه وأراد بره قال: تعال إليّ حتى نتحدّث فإن عندي نارا طيبة، هذا إذا بلغ في برّه وصلته، إلّا أنّ الله عز وجلّ قد لطف بهم في الحطب وأرخصه عليهم، حمل عجلة من حطب الطاغ وهو الغضا بدرهمين يكون وزنها ثلاثة آلاف رطل، قلت: وهذا أيضا كذب لأن العجلة أكثر ما تجرّ على ما اختبرته، وحملت قماشا لي عليها، ألف رطل لأن عجلتهم جميعها لا يجرها إلّا رأس واحد إما بقر أو حمار أو فرس، وأما رخص الحطب فيحتمل ان كان في زمانه بذلك الرخص، فأما وقت كوني بها فإن مائة من كان بثلث دينار ركنيّ، قال: ورسم سؤالهم أن لا يقف السائل على الباب بل يدخل إلى دار الواحد منهم فيقعد ساعة عند ناره يصطلي ثم يقول:
پكند، وهو الخبز، فإن أعطوه شيئا وإلّا خرج، قلت أنا: وهذا من رسمهم صحيح إلّا أنه في الرستاق دون المدينة شاهدت ذلك، ثم وصف شدة بردهم الذي أنا شاهدته من بردها أنّ طرقها تجمد في الوحول ثم يمشى عليها فيطير الغبار منها، فإن تغيّمت الدنيا ودفئت قليلا عادت وحولا تغوص فيها الدواب إلى ركبها، وقد كنت اجتهدت أن أكتب شيئا بها فما كان يمكنني لجمود الدواة حتى أقرّبها من النار وأذيبها، وكنت إذا وضعت الشربة على شفتي التصقت بها لجمودها على شفتي ولم تقاوم حرارة النفس الجماد، ومع هذا فهي لعمري بلاد طيبة وأهلها علماء فقهاء أذكياء أغنياء، والمعيشة بينهم موجودة وأسباب الرزق عندهم غير مفقودة، وأما الآن فقد بلغني أن التتر صنف من الترك وردوها سنة 618 وخرّبوها وقتلوا أهلها وتركوها تلولا، وما أظنّ أنه كان في الدنيا لمدينة خوارزم نظير في كثرة الخير وكبر المدينة وسعة الأهل والقرب من الخير وملازمة أسباب الشرائع والدين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
والذين ينسبون إليها من الأعلام والعلماء لا يحصون، منهم: داود بن رشيد أبو الفضل الخوارزمي، رحل فسمع بدمشق الوليد بن مسلم وأبا الزرقاء عبد الله بن محمد الصغاني، وسمع بغيرها خلقا، منهم بقية بن الوليد وصالح بن عمرو وحسان بن إبراهيم الكرماني وأبو حفص عمر بن عبد الرحمن الأمار وغيرهم، روى عنه مسلم بن الحجاج وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان وصالح بن محمد جزرة، روى البخاري عن محمد بن عبد الرحيم في كفّارات الأيمان، وقال البخاري:
مات في سنة 239، وآخر من روى عنه أبو القاسم البغوي.
Learn Quranic Arabic from scratch with our innovative book! (written by the creator of this website)
Available in both paperback and Kindle formats.