Current Dictionary: All Dictionaries

Search results for: أمين

الأَخْشبانِ

الأَخْشبانِ:
تثنية الأخشب، وقد تقدم اشتقاقه في الأخاشب، والأخشبان: جبلان يضافان تارة إلى مكة، وتارة إلى منى، وهما واحد، أحدهما: أبو قبيس، والآخر قعيقعان. ويقال: بل هما أبو قبيس والجبل الأحمر المشرف هنالك، ويسميان الجبجبين أيضا. وقال ابن وهب: الأخشبان الجبلان اللذان تحت العقبة بمنى، وقال السيد عليّ العلوي: الأخشب الشرقي أبو قبيس، والأخشب الغربي هو المعروف بجبل الخطّ، والخط من وادي ابراهيم. وقال الأصمعي: الأخشبان أبو قبيس، وهو الجبل المشرف على الصفا، وهو ما بين حرف أجياد الصغير المشرف على الصفا إلى السويداء التي تلي الخندمة، وكان يسمى في الجاهلية الــأمين، لأن الركن كان مستودعا فيه عام الطوفان، فلما بنى إسماعيل، عليه السلام، البيت نودي: إن الركن في مكان كذا وكذا.
والأخشب الآخر الجبل الذي يقال له الأحمر، كان يسمى في الجاهلية الأعرف، وهو الجبل المشرف وجهه على قعيقعان، قال مزاحم العقيلي:
خليليّ! هل من حيلة تعلمانها، ... يقرّب من ليلى إلينا احتيالها؟
فإنّ بأعلى الأخشبين أراكة ... عدتني عنها الحرب دان ظلالها
وفي فرعها، لو يستطاب جنابها، ... جنّى يجتنيه المجتني لو ينالها
ممنّعة في بعض أفنانها العلا ... يروح إلينا كلّ وقت خيالها
والذي يظهر من هذا الشعر أن الأخشبين فيه غير التي بمكة، إنه يدلّ على أنها من منازل العرب التي يحلّونها بأهاليهم، وليس الأخشبان كذلك، ويدل أيضا على أنه موضع واحد، لأن الأراكة لا تكون في موضعين، وقد تقدّم أن الأخشبين جبلان، كل واحد منهما غير الآخر، وأما الشعر الذي قيل فيهما، بلا شك، فقول الشريف الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم ابن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ابن ابي طالب، رضي الله عنه:
أحبّك ما أقام منى وجمع، ... وما أرسى بمكة أخشباها
وما نحروا بخيف منى وكبّوا ... على الأذقان مشعرة ذراها
نظرتك نظرة بالخيف كانت ... جلاء العين أو كانت قذاها
ولم يك غير موقفنا وطارت ... بكل قبيلة منا نواها
وقد تفرد هذه التثنية، فيقال لك واحد منهما:
الأخشب، قال ساعدة بن جؤيّة:
أفي وأهديهم، وكلّ هدية ... مما تثجّ لها ترائب تثعب
ومقامهنّ، إذا حبسن بمأزم، ... ضيق ألفّ وصدّهنّ الأخشب
يقسم بالحجّاج والبدن التي تنحر بالمأزمين، وتجمع على الأخاشب، قال:
فبلدح أمسى موحشا فالأخاشب

أَرْتاحُ

أَرْتاحُ:
بالفتح ثم السكون، وتاء فوقها نقطتان، وألف وحاء مهملة: اسم حصن منيع، كان من العواصم من أعمال حلب، قال أبو عليّ: يجوز أن يكون أرتاح افتعل من الراحة، وهمزته مقطوعة، ويجوز أن يكون أرتاح أفعال كأنبار. وينسب اليه الحسين بن عبد الله الأرتاحي، روي عن عبد الله بن حبيق، وأبو عليّ الحسن بن عليّ بن الحسن بن شوّاس الكناني المقري المعدّل أصله من أرتاح: مدينة من أعمال حلب، وتولى الإشراف على وقوف جامع
دمشق. حدث عن الفضل بن جعفر، ويوسف بن القاسم الميانجي، وأبي العباس احمد بن محمد البرذعي، روى عنه أبو علي الأهوازي وهو من أقرانه وغيره، مات سنة 439، وفي تاريخ دمشق عليّ بن عبد الواحد بن الحسن بن عليّ بن الحسن بن شوّاس أبو الحسن بن أبي الفضل بن أبي عليّ المعدّل أصلهم من أرتاح. سمع أبا العباس بن قبيس وأبا القاسم بن أبي العلاء والفقيه أبا الفتح نصر بن ابراهيم، وكان أمينــا على المواريث ووقف الأشراف، وكان ذا مروءة، قال:
سمعت منه وكان ثقة لم يكن الحديث من صناعته، توفي في ثالث عشر ربيع الآخر سنة 523، وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن حامد بن مفرّج بن غياث الأرتاحي من أرتاح الشام، وكان يقول: نحن من أرتاح البصر لأن يعقوب، عليه السلام، بها ردّ عليه بصره، روى بالإجازة عن أبي الحسن عليّ بن الحسين بن عمر الفرّاء وهو آخر من حدّث بها في الدنيا، مات سنة 601.

الحِمَى

الحِمَى:
بالكسر، والقصر، وأصله في اللغة الموضع فيه كلأ يحمى من الناس أن يرعوه أي يمنعونهم، يقال:
حميت الموضع إذا منعت منه، وأحميته إذا جعلته حمى لا يقرب، والحمى يمدّ ويقصر، فمن مدّه جعله من حامى يحامي محاماة وحماء، وقال الأصمعي:
الحمى من حمى ثوبه، وحجة من مده قولهم: نفسي لك الفداء والحماء، ويكتب المقصور منه بالياء
والألف لأنه قد حكي في تثنيته حموان وهو شاذ، وقال الأصمعي: الحمى حميان حمى ضريّة وحمى الرّبذة، قال المؤلف: ووجدت أنا حمى فيد وحمى النير وحمى ذي الشرى وحمى النقيع، فأما حمى ضرية فهو أشهرها وأسيرها ذكرا، وهو كان حمى كليب بن وائل فيما زعم لي بعض أهل بادية طيّء، قال: ذلك مشهور عندنا بالبادية يرويه كابرنا عن كابر، قال: وفي ناحية منه قبر كليب معروف أيضا إلى اليوم، وهو سهل الموطئ كثير الخلّة، وأرضه صلبة ونباته مسمنة، وبه كانت ترعى إبل الملوك، وحمى الربذة أيضا أراده رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بقوله: لنعم المنزل الحمى، لولا كثرة حيّاته، وهو غليظ الموطئ كثير الحموض، تطول عنه الأوبار وتنفتق الخواصر ويرهل اللحم، وحمى فيد، قال ثعلب: الحمى حمى فيد إذا كان في أشعار أسد وطيء، فأما في أشعار كلب فهو حمى بلادهم قريب من المدينة بينها وبين عرب، قال أعرابيّ:
سقى الله حيّا بين صارة والحمى، ... حمى فيد، صوب المدجنات المواطر
أمين، وردّ الله من كان منهم ... إليهم، ووقّاهم صروف المقادر
كأني طريف العين، يوم تطالعت ... بنا الرّمل سلّاف القلاص الضوامر
أقول لفقّام بن زيد: أما ترى ... سنا البرق يبدو للعيون النواظر؟
فإن تبك للوجد الذي هيّج الجوى ... أعنك، وإن تصبر فلست بصابر
وحمى النّير، بكسر النون، وقد ذكر في موضعه، قال الخطيم العكلي:
وهل أرين بين الحفيرة والحمى، ... حمى النير، يوما، أو بأكثبة الشعر
جميع بني عمرو الكرام وإخوتي، ... وذلك عصر قد مضى قبل ذا العصر
ويروى حمى بن عوى، وكلاهما بالدّهناء. حمى الشّرى ذكر في الشرى. حمى النقيع، بالنون، ذكر في النقيع، قال الشافعي، رضي الله عنه، في تفسير قول النبي، صلى الله عليه وسلم: لا حمى إلا لله ولرسوله، كان الشريف من العرب في الجاهلية إذا نزل بلدا في عشيرته استعوى كلبا لخاصّة به مدى عوائه فلم يرعه معه أحد وكان شريكا في سائر المرابع حوله، قال: فنهى أن يحمى على الناس حمى كما كان في الجاهلية، وقوله: إلا لله ولرسوله يقول إلا لخيل المرسلين وركابهم المرصدة للجهاد كما حمى عمر النقيع لنعم الصدقة والخيل المعدّة في سبيل الله، وللعرب في الحمى أشعار كثيرة ما يعنون بها إلّا حمى ضرية، قال أعرابيّ:
ومن كان لم يغرض، فإني وناقتي ... بنجد إلى أرض الحمى غرضان
أليفا هوى، مثلان في سرّ بيننا، ... ولكننا في الجهر مختلفان
تحنّ فتبدي ما بها من صبابة، ... وأخفي الذي لولا الأسى لقضاني
وقال أعرابيّ آخر:
ألا تسألان الله أن يسقي الحمى؟ ... بلى فسقى الله الحمى والمطاليا
فإني لأستسقي لثنتين بالحمى، ... ولو تملكان البحر ما سقتانيا
وأسأل من لاقيت: هل مطر الحمى؟ وهل يسألن أهل الحمى كيف حاليا؟
وقال أعرابيّ آخر:
خليليّ! ما في العيش عيب لو اننا ... وجدنا لأيام الحمى من يعيدها
ليالي أثواب الصبا جدد لنا، ... فقد أنهجت هذي عليها جديدها

الزُّبَيْدِيّةُ

الزُّبَيْدِيّةُ:
مثل الذي قبله منسوب نسبة المؤنث:
اسم بركة بين المغيثة والعذيب وبها قصر ومسجد عمرته زبيدة أمّ جعفر زوجة الرشيد وأمّ الــأمين فنسب إليها. والزّبيدية أيضا: قرية بالجبال بين قرميسين ومرج القلعة، بينها وبين كلّ واحد منهما ثمانية فراسخ، وأخرى قرب واسط بينهما نحو فرسخين أو ثلاثة، ومحلّة ببغداد في الجانب الغربي قرب مشهد موسى بن جعفر في قطيعة أم جعفر.
والزبيدية أيضا: محلّة أخرى أسفل مدينة السلام منسوبة إليها أيضا وهي في الجانب الغربي أيضا.

رَوْضَة المَثْرِيّ

رَوْضَة المَثْرِيّ:
بالثاء المثلثة ويروى بالمثناة، وأوّله مفتوح، قال منذر بن درهم الكلبي أنشد أبو النّدى:
سقى روضة المثريّ عنّا وأهلها ... ركام سرى من آخر الليل رادف
أمن حبّ أمّ الأشيمين وحبّها ... فؤادك معمود له أو مقارف؟
تمنّيتها حتى تمنّيت أن أرى ... من الوجد كلبا للوكيعين آلف
وكيع بن أبي طفيل الكلبي وابنه.
أقول وما لي حاجة هي تردّني ... سواها بأهل الروض: هل أنت عاطف؟
وهدّت عويد من أمينــة نظرة ... على جانب العلياء هل أنا واقف
تقول حنان: ما أتى بك ههنا، ... أذو نسب أم أنت بالحيّ عارف؟
فقلت: أنا ذو حاجة ومسلّم، ... فضمّ علينا المأزق المتضايف
كأنّه يرجع المجتمع الذي أضيف بعضه على بعض.

دَير حَنْظَلَة

دَير حَنْظَلَة:
آخر وهو بالحيرة منسوب إلى حنظلة بن عبد المسيح بن علقمة بن مالك بن ربى بن نمارة بن لخم بن عديّ بن الحارث بن مرة بن أدد، وفيه يقول الشاعر:
بساحة الحيرة دير حنظله، ... عليه أذيال السرور مسبله
أحييت فيه ليلة مقتبله، ... وكأسنا بين الندامى معمله
والراح فيها مثل نار مشعله، ... وكلنا منتقد ما خوّله
فما يزال عاصيا من عذله، ... مبادرا قبل تلاقي آجله
دَير حَنْظَلَة:
بالقرب من شاطئ الفرات من الجانب الشرقي بين الدالية والبهسنة أسفل من رحبة مالك بن طوق معدود من نواحي الجزيرة، منسوب إلى حنظلة بن أبي غفر بن النعمان بن حية بن سعنة ابن الحارث بن الحويرث بن ربيعة بن مالك بن سفر بن هنيّ بن عمرو بن الغوث بن طيّء، وحنظلة هو عم إياس بن قبيصة بن أبي غفر الذي كان ملك الحيرة ومن رهطه أبو زبيد الطائي الشاعر، وحنظلة هذا هو القائل، وكان قد نسك في الجاهلية وتنصّر وبنى هذا الدير فعرف به إلى الآن:
ومهما يكن من ريب دهر، فإنني ... أرى قمر الليل المعذب كالفتى
يهلّ صغيرا ثم يعظم ضوؤه ... وصورته، حتى إذا ما هو استوى
وقرّب يخبو ضوؤه وشعاعه، ... ويمصح حتى يستسرّ فما يرى
كذلك زيد الأمر ثم انتقاصه، ... وتكراره في إثره بعد ما مضى
تصبّح فتح الدار والدار زينة، ... وتؤتى الجبال من شماريخها العلى
فلا ذا غنى يرجين من فضل ماله، ... وإن قال أخّرني وخذ رشوة أبى
ولا عن فقير يأتجرن لفقره، ... فتنفعه الشكوى إليهن إن شكا
وفي هذا الدير يقول عبد الله بن محمد الــأمين بن الرشيد وقد نزل به فاستطابه:
ألا يا دير حنظلة المفدّى، ... لقد أورثتني سقما وكدّا
أزفّ من الفرات إليك دنّا، ... وأجعل حوله الورد المندّى
وأبدأ بالصّبوح أمام صحبي، ... ومن ينشط لها فهو المفدّى
ألا يا دير جادتك الغوادي ... سحابا حمّلت برقا ورعدا
يزيد بناءك النامي نماء، ... ويكسو الروض حسنا مستجدّا

دِمَشْقُ الشّام

دِمَشْقُ الشّام:
بكسر أوله، وفتح ثانيه، هكذا رواه الجمهور، والكسر لغة فيه، وشين معجمة، وآخره قاف: البلدة المشهورة قصبة الشام، وهي جنة الأرض بلا خلاف لحسن عمارة ونضارة بقعة وكثرة فاكهة ونزاهة رقعة وكثرة مياه ووجود مآرب، قيل: سميت بذلك لأنهم دمشقوا في بنائها أي أسرعوا، وناقة دمشق، بفتح الدال وسكون الميم: سريعة، وناقة دمشقة اللحم: خفيفة، قال الزّفيان:
وصاحبي ذات هباب دمشق
قال صاحب الزيج: دمشق طولها ستون درجة، وعرضها ثلاث وثلاثون درجة ونصف، وهي في الإقليم الثالث، وقال أهل السير: سمّيت دمشق بدماشق بن قاني بن مالك بن أرفخشد بن سام بن نوح، عليه السلام، فهذا قول ابن الكلبي، وقال في موضع آخر: ولد يقطان بن عامر سالف وهم السلف وهو الذي بنى قصبة دمشق، وقيل: أول من بناها بيوراسف، وقيل: بنيت دمشق على رأس ثلاثة آلاف ومائة وخمس وأربعين سنة من جملة الدهر الذي يقولون إنه سبعة آلاف سنة، وولد إبراهيم الخليل، عليه السلام، بعد بنائها بخمس سنين، وقيل:
إن الذي بنى دمشق جيرون بن سعد بن عاد بن إرم ابن سام بن نوح، عليه السلام، وسماها إرم ذات العماد، وقيل: إن هودا، عليه السلام، نزل دمشق وأسس الحائط الذي في قبلي جامعها، وقيل: إن العازر غلام إبراهيم، عليه السلام، بنى دمشق وكان حبشيّا وهبه له نمرود بن كنعان حين خرج إبراهيم من النار، وكان يسمّى الغلام دمشق فسماها باسمه،
وكان إبراهيم، عليه السلام، قد جعله على كلّ شيء له، وسكنها الروم بعد ذلك، وقال غير هؤلاء:
سميت بدماشق بن نمرود بن كنعان وهو الذي بناها، وكان معه إبراهيم، كان دفعه إليه نمرود بعد أن نجّى الله تعالى إبراهيم من النار، وقال آخرون: سميت بدمشق بن إرم بن سام بن نوح، عليه السلام، وهو أخو فلسطين وأيلياء وحمص والأردنّ، وبنى كلّ واحد موضعا فسمي به، وقال أهل الثقة من أهل السير: إن آدم، عليه السلام، تكان ينزل في موضع يعرف الآن ببيت انات وحوّاء في بيت لهيا وهابيل في مقرى، وكان صاحب غنم، وقابيل في قنينة، وكان صاحب زرع، وهذه المواضع حول دمشق، وكان في الموضع الذي يعرف الآن بباب الساعات عند الجامع صخرة عظيمة يوضع عليها القربان فما يقبل منه تنزل نار تحرقه وما لا يقبل بقي على حاله، فكان هابيل قد جاء بكبش سمين من غنمه فوضعه على الصخرة فنزلت النار فأحرقته، وجاء قابيل بحنطة من غلّته فوضعها على الصخرة فبقيت على حالها، فحسد قابيل أخاه وتبعه إلى الجبل المعروف بقاسيون المشرف على بقعة دمشق وأراد قتله، فلم يدر كيف يصنع فأتاه إبليس فأخذ حجرا وجعل يضرب به رأسه فلما رآه أخذ حجرا فضرب به رأس أخيه فقتله على جبل قاسيون، وأنا رأيت هناك حجرا عليه شيء كالدم يزعم أهل الشام أنه الحجر الذي قتله به، وأن ذلك الاحمرار الذي عليه أثر دم هابيل، وبين يديه مغارة تزار حسنة يقال لها مغارة الدم، لذلك رأيتها في لحف الجبل الذي يعرف بجبل قاسيون.
وقد روى بعض الأوائل أن مكان دمشق كان دارا لنوح، عليه السلام، ومنشأ خشب السفينة من جبل لبنان وأنّ ركوبه في السفينة كان من عين الجرّ من ناحية البقاع، وقد روي عن كعب الأحبار:
أن أوّل حائط وضع في الأرض بعد الطوفان حائط دمشق وحرّان، وفي الأخبار القديمة عن شيوخ دمشق الأوائل: أن دار شدّاد بن عاد بدمشق في سوق التين يفتح بابها شأما إلى الطريق وأنه كان يزرع له الريحان والورد وغير ذلك فوق الأعمدة بين القنطرتين قنطرة دار بطّيخ وقنطرة سوق التين، وكانت يومئذ سقيفة فوق العمد، وقال أحمد بن الطيب السرخسي: بين بغداد ودمشق مائتان وثلاثون فرسخا.
وقالوا في قول الله عز وجل: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ 23: 50، قال: هي دمشق ذات قرار وذات رخاء من العيش وسعة ومعين كثيرة الماء، وقال قتادة في قول الله عز وجل والتين قال: الجبل الذي عليه دمشق، والزيتون: الجبل الذي عليه بيت المقدس، وطور سينين: شعب حسن، وهذا البلد الــأمين: مكة، وقيل: إرم ذات العماد دمشق، وقال الأصمعي: جنان الدنيا ثلاث: غوطة دمشق ونهر بلخ ونهر الأبلّة، وحشوش الدنيا ثلاثة:
الأبلّة وسيراف وعمان، وقال أبو بكر محمد بن العباس الخوارزمي الشاعر الأديب: جنان الدنيا أربع: غوطة دمشق وصغد سمرقند وشعب بوّان وجزيرة الأبلّة، وقد رأيتها كلها وأفضلها دمشق، وفي الأخبار: أنّ إبراهيم، عليه السلام، ولد في غوطة دمشق في قرية يقال لها برزة في جبل قاسيون، وعن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: إنّ عيسى، عليه السلام، ينزل عند المنارة البيضاء من شرقي دمشق، ويقال: إنّ المواضع الشريفة بدمشق التي يستجاب فيها الدعاء مغارة الدم في جبل قاسيون،
ويقال: إنها كانت مأوى الأنبياء ومصلّاهم، والمغارة التي في جبل النّيرب يقال: إنها كانت مأوى عيسى، عليه السلام، ومسجدا إبراهيم، عليه السلام، أحدهما في الأشعريّين والآخر في برزة، ومسجد القديم عند القطيعة، ويقال: إن هنا قبر موسى، عليه السلام، ومسجد باب الشرقي الذي قال النبي، صلى الله عليه وسلّم: إن عيسى، عليه السلام، ينزل فيه، والمسجد الصغير الذي خلف جيرون يقال إنّ يحيى بن زكرياء، عليه السلام، قتل هناك، والحائط القبلي من الجامع يقال إنه بناه هود، عليه السلام، وبها من قبور الصحابة ودورهم المشهورة بهم ما ليس في غيره من البلدان، وهي معروفة إلى الآن.
قال المؤلف: ومن خصائص دمشق التي لم أر في بلد آخر مثلها كثرة الأنهار بها وجريان الماء في قنواتها، فقلّ أن تمرّ بحائط إلّا والماء يخرج منه في أنبوب إلى حوض يشرب منه ويستقي الوارد والصادر، وما رأيت بها مسجدا ولا مدرسة ولا خانقاها إلّا والماء يجري في بركة في صحن هذا المكان ويسحّ في ميضأة، والمساكن بها عزيزة لكثرة أهلها والساكنين بها وضيق بقعتها، ولها ربض دون السور محيط بأكثر البلد يكون في مقدار البلد نفسه، وهي في أرض مستوية تحيط بها من جميع جهاتها الجبال الشاهقة، وبها جبل قاسيون ليس في موضع من المواضع أكثر من العبّاد الذين فيه، وبها مغاور كثيرة وكهوف وآثار للأنبياء والصالحين لا توجد في غيرها، وبها فواكه جيدة فائقة طيبة تحمل إلى جميع ما حولها من البلاد من مصر إلى حرّان وما يقارب ذلك فتعمّ الكل، وقد وصفها الشعراء فأكثروا، وأنا أذكر من ذلك نبذة يسيرة، وأما جامعها فهو الذي يضرب به المثل في حسنه، وجملة الأمر أنه لم توصف الجنة بشيء إلا وفي دمشق مثله، ومن المحال أن يطلب بها شيء من جليل أعراض الدنيا ودقيقها إلا وهو فيها أوجد من جميع البلاد، وفتحها المسلمون في رجب سنة 14 بعد حصار ومنازلة، وكان قد نزل على كلّ باب من أبوابها أمير من المسلمين فصدمهم خالد بن الوليد من الباب الشرقي حتى افتتحها عنوة، فأسرع أهل البلد إلى أبي عبيدة بن الجرّاح ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل ابن حسنة، وكان كل واحد منهم على ربع من الجيش، فسألوهم الأمان فأمنوهم وفتحوا لهم الباب، فدخل هؤلاء من ثلاثة أبواب بالأمان، ودخل خالد من الباب الشرقي بالقهر، وملكوهم وكتبوا إلى عمر ابن الخطاب، رضي الله عنه، بالخبر وكيف جرى الفتح، فأجراها كلها صلحا.
وأما جامعها فقد وصفه بعض أهل دمشق فقال:
هو جامع المحاسن كامل الغرائب معدود إحدى العجائب، قد زوّر بعض فرشه بالرخام وألّف على أحسن تركيب ونظام، وفوق ذلك فصّ أقداره متفقة وصنعته مؤتلفة، بساطه يكاد يقطر ذهبا ويشتعل لهبا، وهو منزه عن صور الحيوان إلى صنوف النبات وفنون الأغصان لكنها لا تجنى إلا بالأبصار ولا يدخل عليها الفساد كما يدخل على الأشجار والثمار بل باقية على طول الزمان مدركة بالعيان في كلّ أوان، لا يمسها عطش مع فقدان القطر ولا يعتريها ذبول مع تصاريف الدهر، وقالوا: عجائب الدنيا أربع: قنطرة سنجة ومنارة الإسكندرية وكنيسة الرّها ومسجد دمشق، وكان قد بناه الوليد بن عبد الملك بن مروان، وكان ذا همّة في عمارة المساجد، وكان الابتداء بعمارته في سنة 87، وقيل سنة 88، ولما أراد بناءه جمع نصارى دمشق وقال لهم: إنّا نريد أن نزيد في مسجدنا كنيستكم، يعني كنيسة يوحنا، ونعطيكم 30- 2 معجم البلدان دار صادر
كنيسة حيث شئتم وإن شئتم أضعفنا لكم الثمن، فأبوا وجاءوا بكتاب خالد بن الوليد والعهد وقالوا:
إنّا نجد في كتبنا أنه لا يهدمها أحد إلا خنق، فقال لهم الوليد: فأنا أول من يهدمها، فقام وعليه قباء أصفر فهدم وهدم الناس ثم زاد في المسجد ما أراده واحتفل في بنائه بغاية ما أمكنه وسهل عليه إخراج الأموال وعمل له أربعة أبواب: في شرقيه باب جيرون وفي غربيه باب البريد وفي القبلة باب الزيادة وباب الناطفانيين مقابله وباب الفراديس في دبر القبلة، وذكر غيث بن علي الأرمنازي في كتاب دمشق على ما حدثني به الصاحب جمال الدين الأكرم أبو الحسن علي بن يوسف الشيباني، أدام الله أيامه:
أن الوليد أمر أن يستقصى في حفر أساس حيطان الجامع، فبينما هم يحفرون إذ وجدوا حائطا مبنيّا على سمت الحفر سواء فأخبروا الوليد بذلك وعرّفوه إحكام الحائط واستأذنوه في البنيان فوقه، فقال: لا أحب إلا الإحكام واليقين فيه ولست أثق بإحكام هذا الحائط حتى تحفروا في وجهه إلى أن تدركوا الماء فإن كان محكما مرضيّا فابنوا عليه وإلا استأنفوه، فحفروا في وجه الحائط فوجدوا بابا وعليه بلاطة من حجر مانع وعليها منقور كتابة، فاجتهدوا في قراءتها حتى ظفروا بمن عرّفهم أنه من خط اليونان وأن معنى تلك الكتابة ما صورته: لما كان العالم محدثا لاتصال أمارات الحدوث به وجب أن يكون له محدث لهؤلاء كما قال ذو السنين وذو اللحيين فوجدت عبادة خالق المخلوقات حينئذ أمر بعمارة هذا الهيكل من صلب ماله محبّ الخير على مضي سبعة آلاف وتسعمائة عام لأهل الأسطوان فإن رأى الداخل إليه ذكر بانيه بخير فعل والسلام، وأهل الأسطوان:
قوم من الحكماء الأول كانوا ببعلبك، حكى ذلك أحمد بن الطيب السرخسي الفيلسوف، ويقال: إن الوليد أنفق على عمارته خراج المملكة سبع سنين وحملت إليه الحسبانات بما أنفق عليه على ثمانية عشر بعيرا فأمر بإحراقها ولم ينظر فيها وقال: هو شيء أخرجناه لله فلم نتبعه، ومن عجائبه أنه لو عاش الإنسان مائة سنة وكان يتأمله كل يوم لرأى فيه كل يوم ما لم يره في سائر الأيام من حسن صنائعه واختلافها، وحكي أنه بلغ ثمن البقل الذي أكله الصنّاع فيه ستة آلاف دينار، وضج الناس استعظاما لما أنفق فيه وقالوا: أخذ بيوت أموال المسلمين وأنفقها فيما لا فائدة لهم فيه، قال: فخاطبهم وقال بلغني أنكم تقولون وتقولون وفي بيت مالكم عطاء ثماني عشرة سنة إذا لم تدخل لكم فيها حبة قمح، فسكت الناس، وقيل: إنه عمل في تسع سنين، وكان فيه عشرة آلاف رجل في كل يوم يقطعون الرخام، وكان فيه ستمائة سلسلة ذهب، فلما فرغ أمر الوليد أن يسقّف بالرصاص فطلب من كل البلاد وبقيت قطعة منه لم يوجد لها رصاص إلا عند امرأة وأبت أن تبيعه إلا بوزنه ذهبا فقال: اشتروه منها ولو بوزنه مرتين، ففعلوا فلما قبضت الثمن قالت: إني ظننت أن صاحبكم ظالم في بنائه هذا، فلما رأيت إنصافه فأشهدكم أنه لله! وردّت الثمن، فلما بلغ ذلك إلى الوليد أمر أن يكتب على صفائح المرأة لله ولم يدخله فيما كتب عليه اسمه، وأنفق على الكرمة التي في قبلته سبعين ألف دينار، وقال موسى بن حمّاد البربري: رأيت في مسجد دمشق كتابة بالذهب في الزجاج محفورا سورة:
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ 102: 1 إلى آخرها، ورأيت جوهرة حمراء ملصقة في القاف التي في قوله تعالى: حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ 102: 2، فسألت عن ذلك: فقيل لي إنه كانت للوليد بنت وكانت هذه الجوهرة لها فماتت فأمرت أمها أن تدفن
هذه الجوهرة معها في قبرها، فأمر الوليد بها فصيرت في قاف المقابر من: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ 102: 1- 2، ثم حلف لأمها أنه قد أودعها المقابر فسكتت.
وحكى الجاحظ في كتاب البلدان قال: قال بعض السلف ما يجوز أن يكون أحد أشدّ شوقا إلى الجنة من أهل دمشق لما يرونه من حسن مسجدهم، وهو مبنيّ على الأعمدة الرخام طبقتين، الطبقة التحتانية أعمدة كبار والتي فوقها صغار في خلال ذلك صورة كلّ مدينة وشجرة في الدنيا بالفسيفساء الذهب والأخضر والأصفر، وفي قبليّه القبّة المعروفة بقبة النسر، ليس في دمشق شيء أعلى ولا أبهى منظرا منها، ولها ثلاث منائر إحداها، وهي الكبرى، كانت ديدبانا للروم وأقرت على ما كانت عليه وصيّرت منارة، ويقال في الأخبار: إن عيسى، عليه السلام، ينزل من السماء عليها، ولم يزل جامع دمشق على تلك الصورة يبهر بالحسن والتنميق إلى أن وقع فيه حريق في سنة 461 فأذهب بعض بهجته، وهذا ما كان في صفته، قال أبو المطاع بن حمدان في وصف دمشق:
سقى الله أرض الغوطتين وأهلها، ... فلي بجنوب الغوطتين شجون
وما ذقت طعم الماء إلّا استخفني ... إلى بردى والنّيربين حنين
وقد كان شكّي في الفراق يروعني، ... فكيف أكون اليوم وهو يقين؟
فو الله ما فارقتكم قاليا لكم، ... ولكنّ ما يقضى فسوف يكون
وقال الصّنوبري:
صفت دنيا دمشق لقاطنيها، ... فلست ترى بغير دمشق دنيا
تفيض جداول البلّور فيها ... خلال حدائق ينبتن وشيا
مكللة فواكههنّ أبهى ال ... مناظر في مناظرنا وأهيا
فمن تفاحة لم تعد خدّا، ... ومن أترجّة لم تعد ثديا
وقال البحتري:
أمّا دمشق فقد أبدت محاسنها، ... وقد وفى لك مطريها بما وعدا
إذا أردت ملأت العين من بلد ... مستحسن وزمان يشبه البلدا
يمسي السحاب على أجبالها فرقا، ... ويصبح النبت في صحرائها بددا
فلست تبصر إلا واكفا خضلا، ... أو يانعا خضرا أو طائرا غردا
كأنما القيظ ولّى بعد جيئته، ... أو الربيع دنا من بعد ما بعدا
وقال أبو محمد عبد الله بن أحمد بن الحسين بن النّقّار يمدح دمشق:
سقى الله ما تحوي دمشق وحيّاها، ... فما أطيب اللذات فيها وأهناها!
نزلنا بها واستوقفتنا محاسن ... يحنّ إليها كلّ قلب ويهواها
لبسنا بها عيشا رقيقا رداؤه، ... ونلنا بها من صفوة اللهو أعلاها
وكم ليلة نادمت بدر تمامها ... تقضّت، وما أبقت لنا غير ذكراها
فآها على ذاك الزمان وطيبه، ... وقلّ له من بعده قولتي واها!
فيا صاحبي إمّا حملت رسالة ... إلى دار أحباب لها طاب مغناها
وقل ذلك الوجد المبرِّح ثابت، ... وحرمة أيام الصّبا ما أضعناها
فإن كانت الأيام أنست عهودنا، ... فلسنا على طول المدى نتناساها
سلام على تلك المعاهد، إنها ... محطّ صبابات النفوس ومثواها
رعى الله أياما تقضّت بقربها، ... فما كان أحلاها لديها وأمراها!
وقال آخر في ذمّ دمشق:
إذا فاخروا قالوا مياه غزيرة ... عذاب، وللظامي سلاف مورّق
سلاف ولكن السراجين مزجها، ... فشاربها منها الخرا يتنشق
وقد قال قوم جنة الجلد جلّق، ... وقد كذبوا في ذا المقال ومخرقوا
فما هي إلا بلدة جاهليّة، ... بها تكسد الخيرات والفسق ينفق
فحسبهم جيرون فخرا وزينة، ... ورأس ابن بنت المصطفى فيه علّقوا
قال: ولما ولي عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، قال: إني أرى في أموال مسجد دمشق كثرة قد أنفقت في غير حقها فأنا مستدرك ما استدركت منها فردت إلى بيت المال، أنزع هذا الرخام والفسيفساء وأنزع هذه السلاسل وأصيّر بدلها حبالا، فاشتدّ ذلك على أهل دمشق حتى وردت عشرة رجال من ملك الروم إلى دمشق فسألوا أن يؤذن لهم في دخول المسجد، فأذن لهم أن يدخلوا من باب البريد، فوكل بهم رجلا يعرف لغتهم ويستمع كلامهم وينهي قولهم إلى عمر من حيث لا يعلمون، فمروا في الصحن حتى استقبلوا القبلة فرفعوا رؤوسهم إلى المسجد فنكس رئيسهم رأسه واصفرّ لونه، فقالوا له في ذلك فقال: إنّا كنّا معاشر أهل رومية نتحدث أن بقاء العرب قليل فلما رأيت ما بنوا علمت أن لهم مدّة لا بدّ أن يبلغوها، فلما أخبر عمر بن عبد العزيز بذلك قال: إني أرى مسجدكم هذا غيظا على الكفار، وترك ما همّ به، وقد كان رصّع محرابه بالجواهر الثمينة وعلّق عليه قناديل الذهب والفضة.
وبدمشق من الصحابة والتابعين وأهل الخير والصلاح الذين يزارون في ميدان الحصى، وفي قبلي دمشق قبر يزعمون أنه قبر أمّ عاتكة أخت عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وعنده قبر يروون أنه قبر صهيب الرومي وأخيه، والمأثور أن صهيبا بالمدينة، وأيضا بها مشهد التاريخ في قبلته قبر مسقوف بنصفين وله خبر مع عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، وفي قبلي الباب الصغير قبر بلال بن حمامة وكعب الأحبار وثلاث من أزواج النبي، صلى الله عليه وسلّم، وقبر فضّة جارية فاطمة، رضي الله عنها، وأبي الدرداء وأمّ الدرداء وفضالة بن عبيد وسهل بن الحنظليّة وواثلة ابن الأسقع وأوس بن أوس الثقفي وأمّ الحسن بنت جعفر الصادق، رضي الله عنه، وعليّ بن عبد الله بن العباس وسلمان بن عليّ بن عبد الله بن العباس وزوجته أم الحسن بنت عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، وخديجة بنت زين العابدين وسكينة بنت الحسين، والصحيح أنها بالمدينة، ومحمد بن عمر بن عليّ بن أبي طالب، وبالجابية قبر أويس القرني، وقد زرناه بالرّقّة، وله مشهد بالإسكندرية وبديار بكر
والأشهر الأعرف أنه بالرقة لأنه قتل فيما يزعمون مع عليّ بصفّين، ومن شرقي البلد قبر عبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب، وهذه القبور هكذا يزعمون فيها، والأصحّ الأعرف الذي دلّت عليه الأخبار أن أكثر هؤلاء بالمدينة مشهورة قبورهم هناك، وكان بها من الصحابة والتابعين جماعة غير هؤلاء، قيل إن قبورهم حرثت وزرعت في أول دولة بني العباس نحو مائة سنة فدرست قبورهم فادّعى هؤلاء عوضا عما درس، وفي باب الفراديس مشهد الحسين بن عليّ، رضي الله عنهما، وبظاهر المدينة عند مشهد الخضر قبر محمد بن عبد الله بن الحسين بن أحمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، رضي الله عنه، وبدمشق عمود العسر في العليين يزعمون أنهم قد خرّبوه وعمود آخر عند الباب الصغير في مسجد يزار وينذر له، وبالجامع من شرقيه مسجد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ومشهد عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، ومشهد الحسين وزين العابدين، وبالجامع مقصورة الصحابة وزاوية الخضر، وبالجامع رأس يحيى بن زكرياء، عليه السلام، ومصحف عثمان بن عفان، رضي الله عنه، قالوا إنه خطه بيده، ويقولون إن قبر هود، عليه السلام، في الحائط القبلي، والمأثور أنه بحضرموت، وتحت قبة النسر عمودان مجزّعان زعموا أنهما من عرش بلقيس، والله أعلم، والمنارة الغربية بالجامع هي التي تعبّد فيها أبو حامد الغزّالي وابن تومرت ملك الغرب، قيل إنها كانت هيكل النار وإن ذؤابة النار تطلع منها، وسجد لها أهل حوران، والمنارة الشرقية يقال لها المنارة البيضاء التي ورد أن عيسى بن مريم، عليه السلام، ينزل عليها، وبها حجر يزعمون أنه قطعة من الحجر الذي ضربه موسى بن عمران، عليه السلام، فانبجست منه اثنتا عشرة عينا، ويقال إن المنارة التي ينزل عندها عيسى، عليه السلام، هي التي عند كنيسة مريم بدمشق، وبالجامع قبة بيت المال الغربية يقال إن فيها قبر عائشة، رضي الله عنها، والصحيح أن قبرها بالبقيع، وعلى باب الجامع المعروف بباب الزيادة قطعة رمح معلّقة يزعمون أنها من رمح خالد ابن الوليد، رضي الله عنه، وبدمشق قبر العبد الصالح محمود بن زنكي ملك الشام وكذلك قبر صلاح الدين يوسف بن أيوب بالكلاسة في الجامع.
وأما المسافات بين دمشق وما يجاورها فمنها إلى بعلبكّ يومان وإلى طرابلس ثلاثة أيام وإلى بيروت ثلاثة أيام وإلى صيدا ثلاثة أيام وإلى أذرعات أربعة أيام وإلى أقصى الغوطة يوم واحد وإلى حوران والبثنيّة يومان وإلى حمص خمسة أيام وإلى حماة ستة أيام وإلى القدس ستة أيام وإلى مصر ثمانية عشر يوما وإلى غزّة ثمانية أيام وإلى عكا أربعة أيام وإلى صور أربعة أيام وإلى حلب عشرة أيام، وممن ينسب إليها من أعيان المحدّثين عبد العزيز بن أحمد ابن محمد بن سلمان بن إبراهيم بن عبد العزيز أبو محمد التميمي الدمشقي الكناني الصوفي الحافظ، سمع الكثير وكتب الكثير ورحل في طلب الحديث، وسمع بدمشق أبا القاسم صدقة بن محمد بن محمد القرشي وتمّام بن محمد وأبا محمد بن أبي نصر وأبا نصر محمد بن أحمد بن هارون الجندي وعبد الوهاب ابن عبد الله بن عمر المرّي وأبا الحسين عبد الوهاب ابن جعفر الميداني وغيرهم، ورحل إلى العراق فسمع محمد بن مخلّد وأبا عليّ بن شاذان وخلقا سواهم، ونسخ بالموصل ونصيبين ومنبج كثيرا، وجمع جموعا، وروى عنه أبو بكر الخطيب وأبو نصر الحميدي وأبو القاسم النسيب وأبو محمد الأكفاني
وأبو القاسم بن السمرقندي وغيرهم، وكان ثقة صدوقا، قال ابن الأكفاني: ولد شيخنا عبد العزيز بن الكناني في رجب سنة 389، وبدأ بسماع الحديث في سنة 407، ومات في سنة 466، وقد خرّج عنه الخطيب في عامّة مصنفاته، وهو يقول: حدثني عبد العزيز بن أبي طاهر الصوفي، وأبو زرعة عبد الرحمن ابن عمرو بن عبد الله بن صفوان بن عمرو البصري الدمشقي الحافظ المشهور شيخ الشام في وقته، رحل وروى عن أبي نعيم وعفان ويحيى بن معين وخلق لا يحصون، وروى عنه من الأئمة أبو داود السجستاني وابنه أبو بكر بن أبي داود وأبو القاسم بن أبي العقب الدمشقي وعبدان الأوزاعي ويعقوب بن سفيان الفسوي، ومات سنة 281، وينسب إليها من لا يحصى من المسلمين، وألّف لها الحافظ ابن عساكر تاريخا مشهورا في ثمانين مجلدة، وممن اشتهر بذلك فلا يعرف إلا بالدمشقي، يوسف بن رمضان بن بندار أبو المحاسن الدمشقي الفقيه الشافعي، كان أبوه قرقوبيّا من أهل مراغة، وولد يوسف بدمشق وخرج منها بعد البلوغ إلى بغداد، وصحب أسعد الميهني وأعاد له بعض دروسه، ثم ولي تدريس النظامية ببغداد مدّة وبنيت له مدرسة بباب الأزج، وكان يذكر فيها الدرس، ومدرسة أخرى عند الطّيوريّين ورحبة الجامع، وانتهت إليه رياسة أصحاب الشافعي ببغداد في وقته، وحدث بشيء يسير عن أبي البركات هبة الله بن أحمد البخاري وأبي سعد إسماعيل بن أبي صالح، وعقد مجلس التذكير ببغداد، وأرسله المستنجد إلى شملة أمير الأشتر من قهستان، فأدركته وفاته وهو في الرسالة في السادس والعشرين من شوال سنة 563.

خُوزُ

خُوزُ:
بضم أوله، وتسكين ثانيه، وآخره زاي:
بلاد خوزستان يقال لها الخوز، وأهل تلك البلاد يقال لهم الخوز وينسب إليه، ومنهم: سليمان بن الخوزي، روى عن خالد الحذّاء وأبي هاشم الرّماني، حدث عنه عبد الله بن موسى، وعمرو بن سعيد الخوزي، حدث عنه عباد بن صهيب. والخوز أيضا، شعب الخوز: بمكة، قال الفاكهي محمد بن إسحاق: إنما سمّي شعب الخوز لأن نافع بن الخوزي مولى عبد الرحمن بن نافع بن عبد الحارث الخزاعي نزله وكان أول من بنى فيه، ويقال شعب المصطلق، وعنده صلّي على أبي جعفر المنصور، ينسب إليه أبو إسماعيل إبراهيم بن يزيد الخوزي المكي مولى عمر ابن عبد العزيز، حدّث عن عمرو بن دينار وأبي الزبير وغيرهما بمناكير كثيرة وكان ضعيفا، روى عنه المعتمر بن سليمان والمعافى بن عمران الموصلي، وقال التّوزّي: الأهواز تسمّى بالفارسية هرمشير وإنما كان اسمها الأخواز فعرّبها الناس فقالوا الأهواز، وأنشد لأعرابي:
لا ترجعنّ إلى الأخواز ثانية، ... فعيقعان الذي في جانب السوق
ونهر بطّ الذي أمسى يؤرّقني ... فيه البعوض بلسب غير تشفيق
والخوز الأمّ الناس وأسقطهم نفسا، قال ابن الفقيه قال الأصمعي: الخوز هم الفعلة وهم الذين بنوا الصّرح واسمهم مشتقّ من الخنزير، ذهب أن اسمه بالفارسية خوه فجعله العرب خوز، زادوه زايا كما زادوها في رازي ومروزي وتوزي، وقال قوم: معنى قولهم خوزيّ أي زيّهم زيّ الخنزير، وهذا كالأول، وروي أن كسرى كتب إلى بعض عمّاله: ابعث إليّ بشرّ طعام على شرّ الدوابّ مع شرّ الناس، فبعث إليه برأس سمكة مالحة على حمار مع خوزيّ، وروى أبو خيرة عن عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، أنه قال: ليس في ولد آدم شرّ من الخوز ولم يكن منهم نجيب، والخوز: هم أهل خوزستان ونواحي الأهواز بين فارس والبصرة وواسط وجبال اللور المجاورة لأصبهان.
والخوزيّون: محلّة بأصبهان نزلها قوم من الخوز فنسبت إليهم فيقال لها درخوزيان، نسب إليها أبو العباس أحمد بن الحسن بن أحمد الخوزي يعرف بابن نجوكه، سمع أبا نعيم الحافظ، وقيل إنه آخر من حدّث عنه السمعاني منه إجازة، ومات في سنة 517 أو 518، وأحمد بن محمد بن أبي القاسم بن فليزة أبو نصر الــأمين الخوزي الأصبهاني، سكن سكة الخوزيين، بها سمع أبا عمرو بن مندة وأبا العلاء سليمان بن عبد الرحيم الحسناباذي، مات يوم الأربعاء ثالث عشر شوّال سنة 531، ذكره في التحبير.

خِضْرِمَةُ

خِضْرِمَةُ:
بكسر أوله، وسكون ثانيه، وكسر رائه، الخضرمة ومخضوراء: ماءتان لبني سلول.
والخضرمة: بلد بأرض اليمامة لربيعة، وقال الحازمي:
جوّ اليمامة قصبة اليمامة، ويقال لبلدها خضرمة، بكسر الخاء والراء، وينسب إليها نفر، منهم:
خصيف بن عبد الرحمن الخضرمي وأخوه خصّاف، وفي كتاب دمشق: خصيف بن عبد الرحمن ويقال ابن يزيد أبو عون الجزري الحرّاني الخضرمي مولى بني أمية أخوه خصّاف، وكانا توأمين، وخصيف أكبرهما، حدّث عن أنس بن مالك وسعيد بن جبير ومجاهد وأبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود ومقسم بن عكرمة مولى ابن عباس وعمر بن عبد العزيز، روى عنه عبد الله بن أبي نجيح المكي ومحمد بن إسحاق صاحب المغازي وابن جريج وإسرائيل بن يونس وسفيان الثوري وعتاب بن بشير ومعمر بن سليمان الرّقّي ومروان بن حيّان الرقي وشريك بن عبد الله القاضي ومحمد بن فضيل وابن غزوان وغير هؤلاء كثير، وقدم على عمر بن عبد العزيز، وقال يحيى ابن معين: خصيف ثقة، وقال أحمد بن حنبل:
خصيف ليس بحجة في الحديث، وعباس بن الحسن الخضرمي، يروي عن الزهري، حدث عنه ابن جريج، قال أبو بكر المقري الأصبهاني، وهو محمد بن إبراهيم العاصمي: سألت أبا عروبة عن العباس بن الحسن الخضرمي فقال: كان لا شيء، وفي رجله خيط، والله أعلم.

الحريمُ الطّاهريُّ

الحريمُ الطّاهريُّ:
بأعلى مدينة السلام بغداد في الجانب الغربي، منسوب إلى طاهر بن الحسين بن مصعب بن زريق، وبه كانت منازلهم، وكان من لجأ إليه أمن، فلذلك سمّي الحريم، وكان أول من جعلها حريما عبد الله بن طاهر بن حسين، وكان عظيما في دولة بني العباس، ولا أعلم أحدا بلغ مبلغه فيها حديثا ولا قديما، وكان أديبا شاعرا شجاعا جوادا ممدّحا، وكانت إليه الشرطة ببغداد وهي أجلّ ما يلي يومئذ، وكان يلي خراسان وبها نوّابه والجبال وبها نوّابه وطبرستان وبها نوّابه والشام ومصر وبها نوّابه، ولما أراد عمارة قصره ببغداد وهو الحريم هذا، وقد كانت العمارات متصلة وهو في وسطها، وأما الآن فقد خرب جميع ما حوله وبقي كالبلدة المفردة في وسط الخراب، وهو عامر، فيه دور وقصر مطلّ متصل به شارع دار الرفيق، وبعضه عامر، وفيه أسواق، وله سور بحيزه، بصر برجل يستغيث وبيده قصة، فأمر من أخذها منه، فقرأها فإذا فيها أن وكيله أخذ داره غصبا وهدمها وأدخلها في قصره، فأحضر الوكيل وسأله عن القصة فقال:
إن تربيع القصر لا يتم إلا بها وقيمتها ثلاثمائة دينار فبذلتها له فامتنع فبلغنا ألف دينار، فأخبرت قاضي المسلمين خبره فرأى الحجر عليه ونصب أمينــا فباع الدار وقبضناه المال، وهو عنده، فقال عبد الله:
أتعرف موضع الدار؟ قال: نعم، فإذا هي قد وقعت في شمالي حجرة، فأمر عبد الله بهدم البنيان، فلما رأى صاحبها الجدّ منه في الهدم قال: لا حاجة لي في ذلك وقد أذنت في البيع، فقال: هيهات بعد الشكوى والمطالبة! ولم يزل جالسا والشمس تبلغ إليه وينفتل عنها وينفض التراب عن وجهه وموكبه واقف حتى كشف عن العرصة وجرّد الأساس القديم وأمر بردّ بناء الدار وتأديب الوكيل واستحل الرجل بماله وبقيت الدار طاعنة في داره إلى الآن ترى بروزها من البناء، ثم رأى يوما دخانا مرتفعا كريه الرائحة فتأذّى به فسأل عنه فقيل له:
إن الجيران يخبزون بالبعر والسّرجين، فقال: إن هذا لمن اللّؤم أن نقيم بمكان يتكلف الجيران شراء الخبز ومعاناته، اقصدوا الدور واكسروا التنانير واحصوا جميع من بها من رجل وامرأة وصبيّ وأجروا على كل واحد منهم خبزه وجميع ما يحتاج إليه، فسمّيت أيامه الكفاية. والحريم أيضا: موضع بالحجاز كانت به وقعة بين كنانة وخزاعة. والحريم
أيضا: قرية لبني العنبر باليمامة. والحريم أيضا: واد في ديار بني نمير فيه مياه لهم. والحريم أيضا: موضع في ديار بني تغلب قريب من ذي بهدا.

الأَشْأمانِ

الأَشْأمانِ:
بلفظ التثنية: موضع في قول ذي الرّمة:
وإن ترسّمت، من خرقاء، منزلة، ... ماء الصبابات من عينيك مسجوم
كأنها، بعد أحوال مضين لها ... بالأشــأمين، يمان فيه تسهيم

الحُرْجُلَّةُ

الحُرْجُلَّةُ:
بضم أوله والجيم، وتشديد اللام، وهو من صفات الطويلة: من قرى دمشق ذكرها في حديث أبي العميطر السّفياني الخارج بدمشق في أيام محمد الــأمين.

الحاضِرُ

الحاضِرُ:
بالضاد معجمة: من رمال الدهناء، والحاضر في الأصل خلاف البادي، والحاضر الحي العظيم، يقال حاضر طيّء، وهو جمع، كما يقال سامر للسّمّار وحاجّ للحجاج، وقال حسان:
لنا حاضر فعم وناد، كأنه ... قطين الإله عزة وتكرّما
وفلان حاضر بمكان كذا أي مقيم به، ويقال: على الماء حاضر، وفي كتاب الفتوح للبلاذري: كان بقرب حلب حاضر يدعى حاضر حلب بجمع أصنافا من العرب من تنوخ وغيرهم، جاءه أبو عبيدة بعد فتح قنّسرين فصالح أهله على الجزية ثم أسلموا بعد ذلك، وكانوا مقيمين وأعقابهم به إلى بعيد وفاة أمير المؤمنين الرشيد، ثم إن أهل ذلك الحاضر حاربوا أهل مدينة حلب وأرادوا إخراجهم عنها فكتب الهاشميون من أهلها إلى جميع من حولهم من قبائل العرب يستنجدونهم، فسارعوا إلى إنجادهم وكان أسبقهم إلى ذلك العباس بن زفر الهلالي، فلم يكن لأهل الحاضر بهم طاقة فأجلوهم عن حاضرهم وخربوه، وذلك في فتنة محمد الــأمين بن الرشيد، فانتقلوا إلى قنّسرين فتلقاهم أهلها بالأطعمة والكسى، فلما دخلوا أرادوا التغلب عليها، فأخرجوهم عنها فتفرقوا في البلاد، قال: فمنهم قوم بتكريت وقد رأيتهم، ومنهم قوم بأرمينية وفي بلدان كثيرة متباينة، آخر ما ذكره البلاذري. والذي شاهدناه نحن من حاضر حلب أنها محلة كبيرة كالمحلة العظيمة بظاهر حلب، بين بنائها وسور المدينة رمية سهم من جهة القبلة والغرب، ويقال لها حاضر السليمانية، ولا نعرف السليمانية، وأكثر سكانها تركمان مستعربة من أولاد الأجناد، وبه جامع حسن مفرد تقام فيه الخطبة والجمعة، والأسواق الكثيرة من كل ما يطلب، ولها وال يستقل بها حاضر قنسرين. قال أحمد بن يحيى بن جابر:
كان حاضر قنسرين لتنوخ منذ أول ما أناخوا بالشام ونزلوه وهم في خيم الشعر ثم ابتنوا به المنازل، ولما فتح أبو عبيد قنسرين دعا أهل حاضرها إلى الإسلام فأسلم بعضهم وأقام بعضهم على النصرانية فصالحهم على الجزية، وكان أكثر من أقام على النصرانية بني سليح ابن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وأسلم من أهل ذلك الحاضر جماعة في خلافة المهدي فكتب على أيديهم بالحضرة قنسرين، وقال عكرشة العبسي يرثي بنيه:
سقى الله أجداثا ورائي تركتها ... بحاضر قنسرين، من سبل القطر
مضوا لا يريدون الرواح، وغالهم، ... من الدهر، أسباب جرين على قدر
ولو يستطيعون الرواح تروّحوا ... معي، أو غدوا في المصبحين على ظهر
لعمري! لقد وارت وطمّت قبورهم ... أكفّا شداد القبض بالأسل السمر
يذكّرنيهم كل خير رأيته ... وشرّ، فما أنفكّ منهم على ذكر
وينسب إلى أحد هذه الحواضر سليم أبو عامر، قال الحافظ أبو القاسم الدمشقي: هو من الحاضر من نواحي حلب، أدرك أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، وروى عنه وعن عمر وعثمان وعمار بن ياسر وشهد فتح دمشق، روى عنه ثابت بن عجلان، وكان ممن سباه خالد بن الوليد من حاضر حلب، قال:
فلما قدمنا المدينة على أبي بكر، رضي الله عنه، جعلني في المكتب فكان المعلم يقول لي: اكتب الميم فإذا لم أحسنها قال دوّرها واجعلها مثل عين البقرة، قال عبد الله المؤلف: إنما فتحت قنسرين ونواحيها في أيام عمر، رضي الله عنه، ولم يطرق خالد نواحي حلب إلّا في أيام عمر، رضي الله عنه، وأما نفوذه من العراق إلى الشام في أيام أبي بكر، رضي الله عنه، فكان على سماوة كلب، وقد روي أنه مرّ بتدمر وكان عرّج على الحاضر حاضر طيء، وكان هذا الرجل قد خرج إلى البادية فصادفه، والله أعلم به. وحاضر طيء: كانت طيء قد نزلته قديما بعد حرب الفساد الذي كان بينهم حين نزل الجبلين منهم من نزل، فلما ورد عليهم أبو عبيدة أسلم بعضهم وصالح كثير منهم على الجزية ثم أسلموا بعد ذلك بيسير إلا من شذّ منهم.

التاجُ

التاجُ:
اسم لدار مشهورة جليلة المقدار واسعة الأقطار ببغداد من دور الخلافة المعظمة، كان أول من وضع أساسه وسماه بهذه التسمية أمير المؤمنين المعتضد، ولم يتم في أيامه فأتمه ابنه المكتفي، وأنا أذكر هاهنا خبر الدار العزيزة وسبب اختصاصها بهذا الاسم بعد أن كانت دور الخلافة بمدينة المنصور إلى أن أذكر قصة التاج وما يضامّه من الدور المعمورة المعظمة: كان أول ما وضع من الأبنية بهذا المكان قصر جعفر بن يحيى ابن خالد بن برمك، وكان السبب في ذلك أن جعفرا كان شديد الشغف بالشرب والغناء والتهتك، فنهاه أبوه يحيى فلم ينته، فقال: إن كنت لا تستطيع الاستتار فاتخذ لنفسك قصرا بالجانب الشرقي واجمع فيه ندماءك وقيانك وقضّ فيه معهم زمانك وابعد عن عين من يكره ذلك منك، فعمد جعفر فبنى بالجانب الشرقي قصرا موضع دار الخلافة المعظمة اليوم وأتقن بناءه وأنفق عليه الأموال الجمّة، فلما قارب فراغه سار إليه في أصحابه وفيهم مؤنس بن عمران وكان عاقلا، فطاف به واستحسنه وقال كل من حضر في وصفه ومدحه وتقريظه ما أمكنه وتهيّأ له، هذا ومؤنس ساكت، فقال له جعفر: ما لك ساكت لا تتكلم وتدخل معنا في حديثنا؟ فقال: حسبي ما قالوا، فعلم أن تحت قول مؤنس شيئا فقال: وأنت إذا فنك، فقد أقسمت لتقولن، فقال: أما إذا أبيت إلا أن أقول فيصير علي الحق، قال: نعم واختصر، فقال: أسألك بالله إن مررت الساعة بدار بعض أصحابك وهي خير من دارك هذه ما كنت صانعا؟ قال: حسبك فقد فهمت، فما الرأي؟ قال:
إذا صرت إلى أمير المؤمنين وسألك عن تأخرك فقل سرت إلى القصر الذي بنيته لمولاي المأمون. فأقام جعفر في القصر بقية ذلك اليوم ثم دخل على الرشيد، فقال له: من أين أقبلت وما الذي أخّرك إلى الآن؟
فقال: كنت في القصر الذي بنيته لمولاي المأمون بالجانب الشرقي على دجلة، فقال له الرشيد: وللمأمون بنيته! قال: نعم يا أمير المؤمنين، لأنه في ليلة ولادته جعل في حجري قبل أن يجعل في حجرك واستخدمني أبي له فدعاني ذلك إلى أن اتخذت له بالجانب الشرقي قصرا لما بلغني من صحة هوائه ليصحّ مزاجه ويقوى ذهنه ويصفو، وقد كتبت إلى النواحي
باتخاذ فرش لهذا الموضع، وقد بقي شيء لم يتهيأ اتخاذه وقد عوّلنا على خزائن أمير المؤمنين، إما عارية أو هبة، قال: بل هبة، وأسفر إليه بوجهه ووقع منه بموقع وقال: أبى الله أن يقال عنك إلا ما هو لك أو يطعن عليك إلا يرفعك، وو الله لا سكنه أحد سواك ولا تمم ما يعوزه من الفرش إلا من خزائننا، وزال من نفس الرشيد ما كان خاطره وظفر بالقصر بطمأنينة، فلم يزل جعفر يتردّد إليه أيام فرجه ومتنزّهاته إلى أن أوقع بهم الرشيد، وكان إلى ذلك الوقت يسمّى القصر الجعفري، ثم انتقل إلى المأمون فكان من أحبّ المواضع إليه وأشهاها لديه، واقتطع جملة من البرية عملها ميدانا لركض الخيل واللعب بالصوالجة وحيّزا لجميع الوحوش وفتح له بابا شرقيّا إلى جانب البرية وأجرى فيه نهرا ساقه من نهر المعلّى وابتنى مثله قريبا منه منازل برسم خاصته وأصحابه سميت المأمونية، وهي إلى الآن الشارع الأعظم فيما بين عقدي المصطنع والزّرّادين، وكان قد أسكن فيه الفضل والحسن ابني سهل، ثم توجّه المأمون واليا بخراسان والمقام بها وفي صحبته الفضل والحسن، ثم كان الذي كان من إنفاذ العساكر ومقتل الــأمين على يد طاهر بن الحسين ومصير الأمر إلى المأمون، فأنفذ الحسن بن سهل خليفة له على العراق، فوردها في سنة 198، ونزل في القصر المذكور وكان يعرف بالمأموني، وشفع ذلك أن تزوّج المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل بمرو بولاية عمها الفضل، فلما قدم المأمون من خراسان في سنة 203 دخل إلى قصور الخلافة بالخلد وبقي الحسن مقيما في القصر المأموني إلى أن عمل على عرس بوران بفم الصّلح، ونقلت إلى بغداد وأنزلت بالقصر، وطلبه الحسن من المأمون فوهبه له وكتبه باسمه وأضاف إليه ما حوله، وغلب عليه اسم الحسن فعرف به مدة، وكان يقال له القصر الحسني. فلما طوت العصور ملك المأمون والقصور وصار الحسن بن سهل من أهل القبور، بقي القصر لابنته بوران إلى أيّام المعتمد على الله، فاستنزلها المعتمد عنه وأمر بتعويضها منه، فاستمهلته ريثما تفرغ من شغلها وتنقل مالها وأهلها، وأخذت في إصلاحه وتجديده ورمّه وأعادت ما دثر منه وفرشته بالفرش المذهبة والنمارق المقصبة وزخرفت أبوابه بالستور وملأت خزائنه بأنواع الطّرف مما يحسن موقعه عند الخلفاء ورتبت في خزائنه ما يحتاج إليه الجواري والخدم الخصيان، ثم انتقلت إلى غيره وراسلت المعتمد باعتماد أمره، فأتاه فرأى ما أعجبه وأرضاه واستحسنه واشتهاه وصار من أحبّ البقاع إليه، وكان يتردّد فيما بينه وبين سرّ من رأى فيقيم هناك تارة وهناك أخرى ثم توفي المعتمد، وهو أبو العباس أحمد بن المتوكل على الله بالقصر الحسني سنة 279، وكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة وثلاثة أيام، وحمل إلى سامرّاء فدفن بها، ثم استولاه المعتضد بالله أبو العباس أحمد بن الموفّق الناصر لدين الله أبي أحمد بن المتوكل، فاستضاف إلى القصر الحسني ما جاوره فوسّعه وكبّره وأدار عليه سورا واتخذ حوله منازل كثيرة ودورا واقتطع من البرية قطعة فعملها ميدانا عوضا من الميدان الذي أدخله في العمارة وابتدأ في بناء التاج وجمع الرجال لحفر الأساسات، ثم اتفق خروجه إلى آمد، فلما عاد رأى الدخان يرتفع إلى الدار فكرهه وابتنى على نحو ميلين منه الموضع المعروف بالثّريّا ووصل بناء الثريا بالقصر الحسني، وابتنى تحت القصر آزاجا من القصر إلى الثريا تمشي جواريه فيها وحرمه وسراريه، وما زال باقيا إلى الغرق الأول الذي صار ببغداد فعفا أثره. ثم مات المعتضد بالله في
سنة 289، وتولى ابنه المكتفي بالله فأتمّ عمارة التاج الذي كان المعتضد وضع أساسه بما نقضه من القصر المعروف بالكامل ومن القصر الأبيض الكسروي الذي لم يبق منه الآن بالمدائن سوى الإيوان، وردّ أمر بنائه إلى أبي عبد الله النقري وأمره بنقض ما بقي من قصر كسرى، فكان الآجرّ ينقض من شرف قصر كسرى وحيطانه فيوضع في مسنّاة التاج وهي طاعنة إلى وسط دجلة وفي قرارها، ثم حمل ما كان في أساسات قصر كسرى فبنى به أعالي التاج وشرفاته، فبكى أبو عبد الله النقري وقال: إن فيما نراه لمعتبرا، نقضنا شرفات القصر الأبيض وجعلناها في مسنّاة التاج ونقضنا أساساته فجعلناها شرفات قصر آخر، فسبحان من بيده كل شيء حتى الآجر! وبذيل منه:
كلدت حوله الأبنية والدور، من جملتها قبة الحمار، وإنما سميت بذلك لأنه كان يصعد إليها في مدرج حولها على حمار لطيف، وهي عالية مثل نصف الدائرة. وأما صفة التاج فكان وجهه مبنيّا على خمسة عقود كل عقد على عشرة أساطين خمسة أذرع، ووقعت في أيام المقتفي سنة 549 صاعقة فتأججت فيه وفي القبة وفي دارها التي كانت القبة أحد مرافقها، وبقيت النار تعمل فيه تسعة أيام، ثم أطفئت، وقد صيّرته كالفحمة، وكانت آية عظيمة، ثم أعاد المقتفي بناء القبة على الصورة الأولى ولكن بالجصّ والآجر دون الأساطين الرخام، وأهمل إتمامه حتى مات، وبقي كذلك إلى سنة 574، فتقدم أمير المؤمنين المستضيء بنقضه وإبراز المسناة التي بين يديه إلى أن تحاذى به مسناة التاج فشقّ أساسها ووضع البناء فيه على خطّ مستقيم من مسناة التاج، واستعملت أنقاض التاج مع ما كان أعدّ من الآلات من عمل هذه المسناة ووضع موضع الصحن الذي تجلس فيه الأئمة للمبايعة، وهو الذي يدعى اليوم التاج.

بَغْدَادُ

بَغْدَادُ:
أم الدنيا وسيدة البلاد، قال ابن الأنباري:
أصل بغداد للأعاجم، والعرب تختلف في لفظها إذ لم يكن أصلها من كلامهم ولا اشتقاقها من لغاتهم، قال بعض الأعاجم: تفسيره بستان رجل، فباغ بستان وداد اسم رجل، وبعضهم يقول: بغ اسم للصنم، فذكر أنه أهدي إلى كسرى خصيّ من المشرق فأقطعه إياها، وكان الخصيّ من عباد الأصنام ببلده فقال: بغ داد أي الصنم أعطاني، وقيل: بغ هو البستان وداد أعطى، وكان كسرى قد وهب لهذا الخصي هذا البستان فقال: بغ داد فسميت به، وقال حمزة بن الحسن: بغداد اسم فارسي معرّب عن باغ داذويه، لأن بعض رقعة مدينة المنصور كان باغا لرجل من الفرس اسمه داذويه، وبعضها أثر مدينة دارسة كان بعض ملوك الفرس اختطّها فاعتل فقالوا:
ما الذي يأمر الملك أن تسمى به هذه المدينة؟ فقال:
هلدوه وروز أي خلّوها بسلام، فحكي ذلك للمنصور فقال: سميتها مدينة السلام، وفي بغداد سبع لغات:
بغداد وبغدان، ويأبى أهل البصرة ولا يجيزون بغداذ في آخره الذال المعجمة، وقالوا: لأنه ليس في كلام العرب كلمة فيها دال بعدها ذال، قال أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق: فقلت لأبي إسحاق إبراهيم بن السري فما تقول في قولهم خرداد؟ فقال: هو فارسي ليس من كلام العرب، قلت أنا: وهذا حجة من قال بغداد فإنه ليس من كلام العرب، وأجاز الكسائي بغداد على الأصل، وحكى أيضا مغداذ ومغداد ومغدان، وحكى الخارزنجي: بغداد بدالين مهملتين، وهي في اللغات كلها تذكّر وتؤنث، وتسمى مدينة السلام أيضا، فأما الزوراء: فمدينة المنصور خاصة، وسميت مدينة السلام لأن دجلة يقال لها وادي السلام، وقال موسى بن عبد الحميد النسائي:
كنت جالسا عند عبد العزيز بن أبي روّاد فأتاه رجل فقال له: من أين أنت؟ فقال له: من بغداد، فقال:
لا تقل بغداد فإن بغ صنم وداد أعطى، ولكن قل مدينة السلام، فإن الله هو السلام والمدن كلها له، وقيل: إن بغداد كانت قبل سوقا يقصدها تجار أهل الصين بتجاراتهم فيربحون الرّبح الواسع، وكان اسم ملك الصين بغ فكانوا إذا انصرفوا إلى بلادهم قالوا:
بغ داد أي إن هذا الربح الذي ربحناه من عطية
الملك، وقيل إنما سميت مدينة السلام لأن السلام هو الله فأرادوا مدينة الله، وأما طولها فذكر بطلميوس في كتاب الملحمة المنسوب إليه أن مدينة بغداد طولها خمس وسبعون درجة وعرضها أربع وثلاثون درجة داخلة في الإقليم الرابع، وقال أبو عون وغيره: إنها في الإقليم الثالث، قال: طالعها السماك الأعزل، بيت حياتها القوس، لها شركة في الكف الخضيب ولها أربعة أجزاء من سرّة الجوزاء تحت عشر درج من السرطان، يقابلها مثلها من الجدي عاشرها مثلها من الحمل عاقبتها مثلها من الميزان، قلت أنا: ولا شك أن بغداد أحدثت بعد بطليموس بأكثر من ألف سنة ولكني أظنّ أن مفسري كلامه قاسوا وقالوا، وقال صاحب الزيج: طول بغداد سبعون درجة، وعرضها ثلاث وثلاثون درجة وثلث، وتعديل نهارها ست عشرة درجة وثلثا درجة، وأطول نهارها أربع عشرة ساعة وخمس دقائق، وغاية ارتفاع الشمس بها ثمانون درجة وثلث، وظلّ الظهر بها درجتان، وظل العصر أربع عشرة درجة، وسمت القبلة ثلاث عشرة درجة ونصف، وجهها عن مكة مائة وسبع عشرة درجة، في الوجود ثلاثمائة درجة، هذا كله نقلته من كتب المنجمين ولا أعرفه ولا هو من صناعتي، وقال أحمد ابن حنبل: بغداد من الصّراة إلى باب التبن، وهو مشهد موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر ابن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد ابن الإمام علي ابن أبي طالب، ثم زيد فيها حتى بلغت كلواذى والمخرّم وقطربّل، قال أهل السير: ولما أهلك الله مهران بأرض الحيرة ومن كان معه من العجم استمكن المسلمون من الغارة على السواد وانتقضت مسالح الفرس وتشتت أمرهم واجترأ المسلمون عليهم وشنوا الغارات ما بين سورا وكسكر والصراة والفلاليج والأستانات، قال أهل الحيرة للمثنى: إن بالقرب منا قرية تقوم فيها سوق عظيمة في كل شهر مرة فيأتيها تجار فارس والأهواز وسائر البلاد، يقال لها بغداد، وكذا كانت إذ ذاك، فأخذ المثنى على البرّ حتى أتى الأنبار، فتحصّن فيها أهلها منه، فأرسل إلى سفروخ مرزبانها ليسير إليه فيكلّمه بما يريد وجعل له الأمان، فعبر المرزبان إليه، فخلا به المثنى وقال له: أريد أن أغير على سوق بغداد وأريد أن تبعث معي أدلّاء فيدلّوني الطريق وتعقد لي الجسر لأعبر عليه الفرات، ففعل المرزبان ذلك، وقد كان قطع الجسر قبل ذلك لئلا تعبر العرب عليه، فعبر المثنى مع أصحابه وبعث معه المرزبان الأدلاء، فسار حتى وافى السوق صحوة، فهرب الناس وتركوا أموالهم فأخذ المسلمون من الذهب والفضة وسائر الأمتعة ما قدروا على حمله ثم رجعوا إلى الأنبار، ووافى معسكره غانما موفورا، وذلك في سنة 13 للهجرة، فهذا خبر بغداد قبل أن يمصّرها المنصور، لم يبلغني غير ذلك.

فصل
في بدء عمارة بغداد، كان أول من مصّرها وجعلها مدينة المنصور بالله أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي ابن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ثاني الخلفاء، وانتقل إليها من الهاشمية، وهي مدينة كان قد اختطّها أخوه أبو العباس السّفّاح قرب الكوفة وشرع في عمارتها سنة 145 ونزلها سنة 149، وكان سبب عمارتها أن أهل الكوفة كانوا يفسدون جنده فبلغه ذلك من فعلهم، فانتقل عنهم يرتاد موضعا، وقال ابن عيّاش: بعث المنصور روّادا وهو بالهاشمية يرتادون له موضعا يبني فيه مدينة ويكون الموضع واسطا رافقا بالعامة والجند، فنعت له موضع قريب من
بارمّا، وذكر له غذاؤه وطيب هوائه، فخرج إليه بنفسه حتى نظر إليه وبات فيه، فرأى موضعا طيبا فقال لجماعة، منهم سليمان بن مجالد وأبو أيوب المرزباني وعبد الملك بن حميد الكاتب: ما رأيكم في هذا الموضع؟ قالوا: طيب موافق، فقال: صدقتم ولكن لا مرفق فيه للرعية، وقد مررت في طريقي بموضع تجلب إليه الميرة والامتعة في البرّ والبحر وأنا راجع إليه وبائت فيه، فإن اجتمع لي ما أريد من طيب الليل فهو موافق لما أريده لي وللناس، قال: فأتى موضع بغداد وعبر موضع قصر السلام ثم صلى العصر، وذلك في صيف وحرّ شديد، وكان في ذلك الموضع بيعة فبات أطيب مبيت وأقام يومه فلم ير إلا خيرا فقال: هذا موضع صالح للبناء، فإن المادة تأتيه من الفرات ودجلة وجماعة الأنهار، ولا يحمل الجند والرعية إلا مثله، فخطّ البناء وقدّر المدينة ووضع أول لبنة بيده فقال: بسم الله والحمد لله والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، ثم قال: ابنوا على بركة الله، وذكر سليمان بن مختار أن المنصور استشار دهقان بغداد، وكانت قرية في المربّعة المعروفة بأبي العباس الفضل بن سليمان الطوسي، وما زالت داره قائمة على بنائها إلى أن خرب كثير مما يجاورها في البناء، فقال: الذي أراه يا أمير المؤمنين أن تنزل في نفس بغداد، فإنك تصير بين أربعة طساسيج: طسّوجان في الجانب الغربي وطسّوجان في الجانب الشرقي، فاللذان في الغربي قطربل وبادوريا، واللذان في الشرقي نهر بوق وكلواذى، فإن تأخرت عمارة طسوج منها كان الآخر عامرا، وأنت يا أمير المؤمنين على الصّراة ودجلة، تجيئك بالميرة من القرب وفي الفرات من الشام والجزيرة ومصر وتلك البلدان، وتحمل إليك طرائف الهند والسند والصين والبصرة وواسط في دجلة، وتجيئك ميرة أرمينية وأذربيجان وما يتصل بها في تامرّا، وتجيئك ميرة الموصل وديار بكر وربيعة وأنت بين أنهار لا يصل إليك عدوك إلا على جسر أو قنطرة، فإذا قطعت الجسر والقنطرة لم يصل إليك عدوك، وأنت قريب من البرّ والبحر والجبل، فأعجب المنصور هذا القول وشرع في البناء، ووجه المنصور في حشر الصّنّاع والفعلة من الشام والموصل والجبل والكوفة وواسط فأحضروا، وأمر باختيار قوم من أهل الفضل والعدالة والفقه والأمانة والمعرفة بالهندسة، فجمعهم وتقدم إليهم أن يشرفوا على البناء، وكان ممن حضر الحجاج بن أرطاة وأبو حنيفة الإمام، وكان أول العمل في سنة 145، وأمر أن يجعل عرض السور من أسفله خمسين ذراعا ومن أعلاه عشرين ذراعا، وأن يجعل في البناء جرز القصب مكان الخشب، فلما بلغ السور مقدار قامة اتّصل به خروج محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، فقطع البناء حتى فرغ من أمره وأمر أخيه إبراهيم بن عبد الله بن حسن ابن حسن.
وعن علي بن يقطين قال: كنت في عسكر أبي جعفر المنصور حين سار إلى الصراة يلتمس موضعا لبناء مدينة، قال: فنزل الدير الذي على الصراة في العتيقة فما زال على دابته ذاهبا جائيا منفردا عن الناس يفكر، قال: وكان في الدير راهب عالم فقال لي: لم يذهب الملك ويجيء؟ قلت: إنه يريد أن يبني مدينة، قال: فما اسمه؟ قلت: عبد الله بن محمد، قال: أبو من؟ قلت: أبو جعفر، قال:
هل يلقب بشيء؟ قلت: المنصور، قال: ليس هذا الذي يبنيها، قلت: ولم؟ قال: لأنا قد وجدنا في كتاب عندنا نتوارثه قرنا عن قرن أن الذي يبني
هذا المكان رجل يقال له مقلاص، قال: فركبت من وقتي حتى دخلت على المنصور ودنوت منه، فقال لي: ما وراءك؟ قلت: خير ألقيه إلى أمير المؤمنين وأريحه من هذا العناء، فقال: قل، قلت:
أمير المؤمنين يعلم أن هؤلاء معهم علم، وقد أخبرني راهب هذا الدير بكذا وكذا، فلما ذكرت له مقلاص ضحك واستبشر ونزل عن دابته فسجد وأخذ سوطه وأقبل يذرع به، فقلت في نفسي: لحقه اللجاج، ثم دعا المهندسين من وقته وأمرهم بخط الرماد، فقلت له: أظنّك يا أمير المؤمنين أردت معاندة الراهب وتكذيبه، فقال: لا والله ولكني كنت ملقّبا بمقلاص وما ظننت أن أحدا عرف ذلك غيري، وذاك أننا كنا بناحية السراة في زمان بني أمية على الحال التي تعلم، فكنت أنا ومن كان في مقدار سنّي من عمومتي وإخوتي نتداعى ونتعاشر، فبلغت النوبة إليّ يوما من الأيام وما أملك درهما واحدا فلم أزل أفكر وأعمل الحيلة إلى أن أصبت غزلا لداية كانت لهم، فسرقته ثم وجّهت به فبيع لي واشتري لي بثمنه ما احتجت إليه، وجئت إلى الداية وقلت لها:
افعلي كذا واصنعي كذا، قالت: من أين لك ما أرى؟ قلت: اقترضت دراهم من بعض أهلي، ففعلت ما أمرتها به، فلما فرغنا من الأكل وجلسنا للحديث طلبت الداية الغزل فلم تجده فعلمت أني صاحبه، وكان في تلك الناحية لص يقال له مقلاص مشهور بالسرقة، فجاءت إلى باب البيت الذي كنا فيه فدعتني فلم أخرج إليها لعلمي أنها وقفت على ما صنعت، فلما ألحّت وأنا لا أخرج قالت: اخرج يا مقلاص، الناس يتحذّرون من مقلاصهم وأنا مقلاصي معي في البيت، فمزح معي إخوتي وعمومتي بهذا اللقب ساعة ثم لم أسمع به إلا منك الساعة فعلمت أن أمر هذه المدينة يتم على يدي لصحة ما وقفت عليه، ثم وضع أساس المدينة مدوّرا وجعل قصره في وسطها وجعل لها أربعة أبواب وأحكم سورها وفصيلها، فكان القاصد إليها من الشرق يدخل من باب خراسان والقاصد من الحجاز يدخل من باب الكوفة والقاصد من المغرب يدخل من باب الشام والقاصد من فارس والأهواز وواسط والبصرة واليمامة والبحرين يدخل من باب البصرة.
قالوا: فأنفق المنصور على عمارة بغداد ثمانية عشر ألف ألف دينار، وقال الخطيب في رواية: إنه أنفق على مدينته وجامعها وقصر الذهب فيها والأبواب والأسواق إلى أن فرغ من بنائها أربعة آلاف ألف وثمانمائة وثلاثة وثمانين ألف درهم، وذاك أن الأستاذ من الصّنّاع كان يعمل في كل يوم بقيراط إلى خمس حبّات والروزجاري بحبتين إلى ثلاث حبات، وكان الكبش بدرهم والحمل بأربعة دوانيق والتمر ستون رطلا بدرهم، قال الفضل بن دكين: كان ينادى على لحم البقر في جبانة كندة تسعون رطلا بدرهم، ولحم الغنم ستون رطلا بدرهم، والعسل عشرة أرطال بدرهم، قال: وكان بين كل باب من أبواب المدينة والباب الآخر ميل، وفي كل ساف من أسواف البناء مائة ألف لبنة واثنان وستون ألف لبنة من اللبن الجعفري، وعن ابن الشّروي قال: هدمنا من السور الذي يلي باب المحوّل قطعة فوجدنا فيها لبنة مكتوبا عليها بمغرة:
وزنها مائة وسبعة عشر رطلا، فوزناها فوجدناها كذلك.
وكان المنصور كما ذكرنا بنى مدينته مدوّرة وجعل داره وجامعها في وسطها، وبنى القبة الخضراء فوق إيوان، وكان علوّها ثمانين ذراعا، وعلى رأس القبة صنم على صورة فارس في يده رمح، وكان السلطان إذا رأى أن ذلك الصنم قد استقبل بعض الجهات ومدّ
الرمح نحوها علم أن بعض الخوارج يظهر من تلك الجهة، فلا يطول عليه الوقت حتى ترد عليه الأخبار بأن خارجيّا قد هجم من تلك الناحية، قلت أنا:
هكذا ذكر الخطيب وهو من المستحيل والكذب الفاحش، وإنما يحكى مثل هذا عن سحرة مصر وطلسمات بليناس التي أوهم الأغمار صحتها تطاول الأزمان والتخيل أن المتقدّمين ما كانوا بني آدم، فأما الملة الإسلامية فإنها تجلّ عن مثل هذه الخرافات، فإن من المعلوم أن الحيوان الناطق مكلف الصنائع لهذا التمثال لا يعلم شيئا مما ينسب إلى هذا الجماد ولو كان نبيّا مرسلا، وأيضا لو كان كلما توجهت إلى جهة خرج منها خارجيّ لوجب أن لا يزال خارجيّ يخرج في كل وقت لأنها لا بدّ أن تتوجه إلى وجه من الوجوه، والله أعلم، قال: وسقط رأس هذه القبة سنة 329، وكان يوم مطر عظيم ورعد هائل، وكانت هذه القبة تاج البلد وعلم بغداد ومأثرة من مآثر بني العباس، وكان بين بنائها وسقوطها مائة ونيف وثمانون سنة، ونقل المنصور أبوابها من واسط، وهي أبواب الحجّاج، وكان الحجاج أخذها من مدينة بإزاء واسط تعرف بزندورد، يزعمون أنها من بناء سليمان بن داود، عليه السلام، وأقام على باب خراسان بابا جيء به من الشام من عمل الفراعنة وعلى باب الكوفة بابا جيء به من الكوفة من عمل خالد القسري وعمل هو بابا لباب الشام، وهو أضعفها، وكان لا يدخل أحد من عمومة المنصور ولا غيرهم من شيء من الأبواب إلّا راجلا إلا داود بن عليّ عمه، فإنه كان متفرّسا وكان يحمل في محفّة، وكذلك محمد المهدي ابنه، وكانت تكنس الرحاب في كل يوم ويحمل التراب إلى خارج، فقال له عمه عبد الصمد: يا أمير المؤمنين أنا شيخ كبير فلو أذنت لي أن أنزل داخل الأبواب، فلم يأذن له، فقال: يا أمير المؤمنين عدني بعض بغال الرّوايا التي تصل إلى الرّحاب، فقال: يا ربيع بغال الروايا تصل إلى رحابي تتخذ الساعة قنيّ بالساج من باب خراسان حتى تصل إلى قصري، ففعل ومدّ المنصور قناة من نهر دجيل الآخذ من دجلة وقناة من نهر كرخايا الآخذ من الفرات وجرّهما إلى مدينته في عقود وثيقة، من أسفلها محكمة بالصاروج والآجر من أعلاها، فكانت كل قناة منها تدخل المدينة وتنفذ في الشوارع والدروب والأرباض، تجري صيفا وشتاء لا ينقطع ماؤها في شيء من الأوقات، ثم أقطع المنصور أصحابه القطائع فعمّروها وسميت بأسمائهم، وقد ذكرت من ذلك ما بلغني في مواضعه حسب ما قضى به ترتيب الحروف، وقد صنّف في بغداد وسعتها وعظم رفعتها وسعة بقعتها وذكر أبو بكر الخطيب في صدر كتابه من ذلك ما فيه كفاية لطالبه.

فلنذكر الآن ما ورد في مدح بغداد
ومن عجيب ذلك ما ذكره أبو سهل بن نوبخت قال:
أمرني المنصور لما أراد بناء بغداد بأخذ الطالع، ففعلت فإذا الطالع في الشمس وهي في القوس، فخبّرته بما تدلّ النجوم عليه من طول بقائها وكثرة عمارتها وفقر الناس إلى ما فيها ثم قلت: وأخبرك خلّة أخرى أسرك بها يا أمير المؤمنين، قال: وما هي؟ قلت: نجد في أدلة النجوم أنه لا يموت بها خليفة أبدا حتف أنفه، قال: فتبسم وقال الحمد لله على ذلك، هذا من فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، ولذلك يقول عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير بن الخطفى:
أعاينت في طول من الأرض أو عرض، ... كبغداد من دار بها مسكن الخفض
صفا العيش في بغداد واخضرّ عوده، ... وعيش سواها غير خفض ولا غضّ
تطول بها الأعمار، إنّ غذاءها ... مريء، وبعض الأرض أمرأ من بعض
قضى ربّها أن لا يموت خليفة ... بها، إنه ما شاء في خلقه يقضي
تنام بها عين الغريب، ولا ترى ... غريبا بأرض الشام يطمع في الغمض
فإن جزيت بغداد منهم بقرضها، ... فما أسلفت إلّا الجميل من القرض
وإن رميت بالهجر منهم وبالقلى، ... فما أصبحت أهلا لهجر ولا بغض
وكان من أعجب العجب أن المنصور مات وهو حاجّ، والمهدي ابنه خرج إلى نواحي الجبل فمات بما سبذان بموضع يقال له الرّذّ، والهادي ابنه مات بعيساباد قرية أو محلّة بالجانب الشرقي من بغداد، والرشيد مات بطوس، والــأمين أخذ في شبارته وقتل بالجانب الشرقي، والمأمون مات بالبذندون من نواحي المصّيصة بالشام، والمعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر وباقي الخلفاء ماتوا بسامرّا، ثم انتقل الخلفاء إلى التاج من شرقي بغداد كما ذكرناه في التاج، وتعطّلت مدينة المنصور منهم.
وفي مدح بغداد قال بعض الفضلاء: بغداد جنة الأرض ومدينة السلام وقبة الإسلام ومجمع الرافدين وغرّة البلاد وعين العراق ودار الخلافة ومجمع المحاسن والطيبات ومعدن الظرائف واللطائف، وبها أرباب الغايات في كل فنّ، وآحاد الدهر في كل نوع، وكان أبو إسحاق الزّجّاج يقول: بغداد حاضرة الدنيا وما عداها بادية، وكان أبو الفرج الببغا يقول: هي مدينة السلام بل مدينة الإسلام، فإنّ الدولة النبوية والخلافة الإسلامية بها عشّشتا وفرّختا وضربتا بعروقهما وبسقتا بفروعهما، وإنّ هواءها أغذى من كل هواء وماءها أعذب من كل ماء، وإنّ نسيمها أرقّ من كل نسيم، وهي من الإقليم الاعتدالي بمنزلة المركز من الدائرة، ولم تزل بغداد موطن الأكاسرة في سالف الأزمان ومنزل الخلفاء في دولة الإسلام، وكان ابن العميد إذا طرأ عليه أحد من منتحلي العلوم والآداب وأراد امتحان عقله سأله عن بغداد، فإن فطن بخواصّها وتنبّه على محاسنها وأثنى عليها جعل ذلك مقدّمة فضله وعنوان عقله، ثم سأله عن الجاحظ، فإن وجد أثرا لمطالعة كتبه والاقتباس من نوره والاغتراف من بحره وبعض القيام بمسائله قضى له بأنه غرّة شادخة في أهل العلم والآداب، وإن وجده ذامّا لبغداد غفلا عما يحب أن يكون موسوما به من الانتساب إلى المعارف التي يختص بها الجاحظ لم ينفعه بعد ذلك شيء من المحاسن، ولما رجع الصاحب عن بغداد سأله ابن العميد عنها، فقال: بغداد في البلاد كالأستاذ في العباد، فجعلها مثلا في الغاية في الفضل، وقال ابن زريق الكاتب الكوفي:
سافرت أبغي لبغداد وساكنها ... مثلا، قد اخترت شيئا دونه الياس
هيهات بغداد، والدنيا بأجمعها ... عندي، وسكان بغداد هم الناس
وقال آخر:
بغداد يا دار الملوك ومجتنى ... صوف المنى، يا مستقرّ المنابر
ويا جنّة الدنيا ويا مجتنى الغنى، ... ومنبسط الآمال عند المتاجر
وقال أبو يعلى محمد بن الهبّارية: سمعت الشيخ الزاهد أبا إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآباذي يقول: من دخل بغداد وهو ذو عقل صحيح وطبع معتدل مات بها أو بحسرتها، وقال عمارة بن عقيل ابن بلال بن جرير:
ما مثل بغداد في الدنيا ولا الدين، ... على تقلّبها في كلّ ما حين
ما بين قطربّل فالكرخ نرجسة ... تندى، ومنبت خيريّ ونسرين
تحيا النفوس بريّاها، إذا نفحت، ... وخرّشت بين أوراق الرّياحين
سقيا لتلك القصور الشاهقات وما ... تخفي من البقر الإنسيّة العين
تستنّ دجلة فيما بينها، فترى ... دهم السّفين تعالى كالبراذين
مناظر ذات أبواب مفتّحة، ... أنيقة بزخاريف وتزيين
فيها القصور التي تهوي، بأجنحة، ... بالزائرين إلى القوم المزورين
من كلّ حرّاقة تعلو فقارتها، ... قصر من الساج عال ذو أساطين
وقدم عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس إلى بغداد فرأى كثرة الناس بها فقال: ما مررت بطريق من طرق هذه المدينة إلّا ظننت أن الناس قد نودي فيهم، ووجد على بعض الأميال بطريق مكة مكتوبا:
أيا بغداد يا أسفي عليك! ... متى يقضى الرجوع لنا إليك؟
قنعنا سالمين بكلّ خير، ... وينعم عيشنا في جانبيك
ووجد على حائط بجزيرة قبرص مكتوبا:
فهل نحو بغداد مزار، فيلتقي ... مشوق ويحظى بالزيارة زائر
إلى الله أشكو، لا إلى الناس، إنه ... على كشف ما ألقى من الهمّ قادر
وكان القاضي أبو محمد عبد الوهّاب بن علي بن نصر المالكي قد نبا به المقام ببغداد فرحل إلى مصر، فخرج البغداديون يودّعونه وجعلوا يتوجعون لفراقه، فقال: والله لو وجدت عندكم في كل يوم مدّا من الباقلّى ما فارقتكم، ثم قال:
سلام على بغداد من كلّ منزل، ... وحقّ لها منّي السلام المضاعف
فو الله ما فارقتها عن قلى لها، ... وإني بشطّي جانبيها لعارف
ولكنها ضاقت عليّ برحبها، ... ولم تكن الأرزاق فيها تساعف
وكانت كخلّ كنت أهوى دنوّه، ... وأخلاقه تنأى به وتخالف
ولما حج الرشيد وبلغ زرود التفت إلى ناحية العراق وقال:
أقول وقد جزنا زرود عشيّة، ... وكادت مطايانا تجوز بنا نجدا
على أهل بغداد السلام، فإنني ... أزيد بسيري عن ديارهم بعدا
وقال ابن مجاهد المقري: رأيت أبا عمرو بن العلاء في النوم فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال: دعني مما فعل الله بي، من أقام ببغداد على السّنّة والجماعة ومات نقل من جنة إلى جنة، وعن يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي محمد بن إدريس الشافعي، رضي الله عنه: أيا يونس دخلت بغداد؟ فقلت: لا، فقال: أيا يونس ما رأيت الدنيا ولا الناس، وقال طاهر بن المظفّر بن طاهر الخازن:
سقى الله صوب الغاديات محلّة ... ببغداد، بين الخلد والكرخ والجسر
هي البلدة الحسناء، خصّت لأهلها ... بأشياء لم يجمعن مذ كنّ في مصر
هواء رقيق في اعتدال وصحّة، ... وماء له طعم ألذّ من الخمر
ودجلتها شطّان قد نظما لنا ... بتاج إلى تاج، وقصر إلى قصر
ثراها كمسك، والمياه كفضّة، ... وحصباؤها مثل اليواقيت والدّر
قال أبو بكر الخطيب: أنشدني أبو محمد الباقي قول الشاعر:
دخلنا كارهين لها، فلما ... ألفناها خرجنا مكرهينا
فقال يوشك هذا أن يكون في بغداد، قيل وأنشد لنفسه في المعنى وضمنه البيت:
على بغداد معدن كلّ طيب، ... ومغنى نزهة المتنزّهينا:
سلام كلما جرحت بلحظ ... عيون المشتهين المشتهينا
دخلنا كارهين لها، فلما ... ألفناها خرجنا مكرهينا
وما حبّ الديار بنا، ولكن ... أمرّ العيش فرقة من هوينا
قال محمد بن عليّ بن حبيب الماوردي: كتب إليّ أخي من البصرة وأنا ببغداد:
طيب الهواء ببغداد يشوّقني ... قدما إليها، وإن عاقت معاذير
وكيف صبري عنها، بعد ما جمعت ... طيب الهواءين ممدود ومقصور؟
وقلّد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر اليمن، فلما أراد الخروج قال:
أيرحل آلف ويقيم إلف، ... وتحيا لوعة ويموت قصف؟
على بغداد دار اللهو منّي ... سلام ما سجا للعين طرف
وما فارقتها لقلى، ولكن ... تناولني من الحدثان صرف
ألا روح ألا فرج قريب، ... ألا جار من الحدثان كهف
لعلّ زماننا سيعود يوما، ... فيرجع آلف ويسر إلف
فبلغ الوزير هذا الشعر فأعفاه، وقال شاعر يتشوق بغداد:
ولما تجاوزت المدائن سائرا، ... وأيقنت يا بغداد أني على بعد
علمت بأنّ الله بالغ أمره، وأن قضاء الله ينفذ في العبد وقلت، وقلبي فيه ما فيه من جوى، ودمعي جار كالجمان على خدّي: ترى الله يا بغداد يجمع بيننا فألقى الذي خلّفت فيك على العهد؟
وقال محمد بن عليّ بن خلف النيرماني:
فدى لك يا بغداد كل مدينة ... من الأرض، حتى خطّتي ودياريا
فقد طفت في شرق البلاد وغربها، ... وسيّرت خيلي بينها وركابيا
فلم أر فيها مثل بغداد منزلا، ... ولم أر فيها مثل دجلة واديا
ولا مثل أهليها أرقّ شمائلا، ... وأعذب ألفاظا، وأحلى معانيا
وقائلة: لو كان ودّك صادقا ... لبغداد لم ترحل، فقلت جوابيا:
يقيم الرجال الموسرون بأرضهم، ... وترمي النوى بالمقترين المراميا

في ذمّ بغداد
قد ذكره جماعة من أهل الورع والصلاح والزهّاد والعبّاد، ووردت فيها أحاديث خبيثة، وعلّتهم في الكراهية ما عاينوه بها من الفجور والظلم والعسف، وكان الناس وقت كراهيتهم للمقام ببغداد غير ناس زماننا، فأما أهل عصرنا فأجلس خيارهم في الحشّ وأعطهم فلسا فما يبالون بعد تحصيل الحطام أين كان المقام، وقد ذكر الحافظ أبو بكر أحمد بن عليّ من ذلك قدرا كافيا، وكان بعض الصالحين إذا ذكرت عنده بغداد يتمثل:
قل لمن أظهر التنسّك في النا ... س وأمسى يعدّ في الزّهّاد:
الزم الثغر والتواضع فيه، ... ليس بغداد منزل العبّاد
إن بغداد للملوك محلّ، ... ومناخ للقارئ الصياد
ومن شائع الشعر في ذلك:
بغداد أرض لأهل المال طيّبة، ... وللمفاليس دار الضّنك والضيق
أصبحت فيها مضاعا بين أظهرهم، ... كأنني مصحف في بيت زنديق
ويروى للطاهر بن الحسين قال:
زعم الناس أن ليلك يا بغ ... داد ليل يطيب فيه النسيم
ولعمري ما ذاك إلّا لأن خا ... لفها، بالنهار، منك السّموم
وقليل الرّخاء يتّبع الش ... دة، عند الأنام، خطب عظيم
وكتب عبد الله بن المعتز إلى صديق له يمدح سرّ من رأى ويصف خرابها ويذم بغداد: كتبت من بلدة قد أنهض الله سكانها وأقعد حيطانها، فشاهد اليأس فيها ينطق وحبل الرجاء فيها يقصر، فكأن عمرانها يطوى وخرابها ينشر، وقد تمزقت بأهلها الديار، فما يجب فيها حقّ جوار، فحالها تصف للعيون الشكوى، وتشير إلى ذم الدنيا، على أنها وإن جفيت معشوقة السّكنى، وحبيبة المثوى،
كوكبها يقظان، وجوّها عريان، وحصباؤها جوهر، ونسيمها معطّر، وترابها أذفر، ويومها غداة، وليلها سحر، وطعامها هنيء، وشرابها مريء، لا كبلدتكم الوسخة السماء، الومدة الماء والهواء، جوها غبار، وأرضها خبار، وماؤها طين، وترابها سرجين، وحيطانها نزوز، وتشرينها تموز، فكم من شمسها من محترق، وفي ظلّها من عرق، صيقة الديار، وسيئة الجوار، أهلها ذئاب، وكلامهم سباب، وسائلهم محروم، وما لهم مكتوم، ولا يجوز إنفاقه، ولا يحل خناقه، حشوشهم مسايل، وطرقهم مزابل، وحيطانهم أخصاص، وبيوتهم أقفاص، ولكل مكروه أجل، وللبقاع دول، والدهر يسير بالمقيم، ويمزج البؤس بالنعيم، وله من قصيدة:
كيف نومي وقد حللت ببغ ... داد، مقيما في أرضها، لا أريم
ببلاد فيها الركايا، علي ... هن أكاليل من بعوض تحوم
جوها في الشتاء والصيف دخّا ... ن كثيف، وماؤها محموم
ويح دار الملك التي تنفح المس ... ك، إذا ما جرى عليه النسيم
كيف قد أقفرت وحاربها الدّه ... ر، وعين الحياة فيها البوم
نحن كنا سكانها، فانقضى ذا ... لك عنا، وأي شيء يدوم
وقال أيضا:
أطال الهمّ في بغداد ليلي، ... وقد يشقى المسافر أو يفوز
ظللت بها، على رغمي، مقيما ... كعنّين تعانقه عجوز
وقال محمد بن أحمد بن شميعة البغدادي شاعر عصري فيها:
ودّ أهل الزوراء زور، فلا ... تغترر بالوداد من ساكنيها
هي دار السلام حسب، فلا يط ... مع منها، إلّا بما قيل فيها
وكان المعتصم قد سأل أبا العيناء عن بغداد وكان سيّء الرأي فيها، فقال: هي يا أمير المؤمنين كما قال عمارة بن عقيل:
ما أنت يا بغداد إلّا سلح، ... إذا اعتراك مطر أو نفح،
وإن جففت فتراب برح
وكما قال آخر:
هل الله من بغداد، يا صاح، مخرجي، ... فأصبح لا تبدو لعيني قصورها
وميدانها المذري علينا ترابها ... إذا شحجت أبغالها وحميرها
وقال آخر:
أذمّ بغداد والمقام بها، ... من بعد ما خبرة وتجريب
ما عند سكّانها لمختبط ... خير، ولا فرجة لمكروب
يحتاج باغي المقام بينهم ... إلى ثلاث من بعد تثريب:
كنوز قارون أن تكون له، ... وعمر نوح وصبر أيوب
قوم مواعيدهم مزخرفة ... بزخرف القول والأكاذيب
خلّوا سبيل العلى لغيرهم، ... ونافسوا في الفسوق والحوب
وقال بعض الأعراب:
لقد طال في بغداد ليلي، ومن يبت ... ببغداد يصبح ليله غير راقد
بلاد، إذا ولّى النهار، تنافرت ... براغيثها من بين مثنى وواحد
ديازجة شهب البطون، كأنها ... بغال بريد أرسلت في مذاود
وقرأت بخط عبيد الله بن أحمد بن جخجخ قال أبو العالية:
ترحّل فما بغداد دار إقامة، ... ولا عند من يرجى ببغداد طائل
محلّ ملوك سمتهم في أديمهم، ... فكلهم من حلية المجد عاطل
سوى معشر جلّوا، وجلّ قليلهم ... يضاف إلى بذل النّدى، وهو باخل
ولا غروان شلّت يد الجود والندى ... وقلّ سماح من رجال ونائل
إذا غطمط البحر الغطامط ماؤه ... فليس عجيبا أن تفيض الجداول
وقال آخر:
كفى حزنا، والحمد لله أنّني ... ببغداد قد أعيت عليّ مذاهبي
أصاحب قوما لا ألذّ صحابهم، ... وآلف قوما لست فيهم براغب
ولم أثو في بغداد حبّا لأهلها، ... ولا أنّ فيها مستفادا لطالب
سأرحل عنها قاليا لسراتها، ... وأتركها ترك الملول المجانب
فإن ألجأتني الحادثات إليهم ... فأير حمار في حرامّ النوائب
وقال بعضهم يمدح بغداد ويذمّ أهلها:
سقيا لبغداد ورعيا لها، ... ولا سقى صوب الحيا أهلها
يا عجبا من سفل مثلهم، ... كيف أبيحوا جنّة مثلها
وقال آخر:
اخلع ببغداد العذارا، ... ودع التنسّك والوقارا
فلقد بليت بعصبة ... ما إن يرون العار عارا
لا مسلمين ولا يهو ... د ولا مجوس ولا نصارى
وقدم بعض الهجريّين بغداد فاستوبأها وقال:
أرى الريف يدنو كل يوم وليلة، ... وأزداد من نجد وساكنه بعدا
ألا إن بغدادا بلاد بغيضة ... إليّ، وإن أمست معيشتها رغدا
بلاد ترى الأرواح فيها مريضة، ... وتزداد نتنا حين تمطر أو تندى
وقال أعرابيّ مثل ذلك:
ألا يا غراب البين ما لك ثاويا ... ببغداد لا تمضي، وأنت صحيح؟
ألا إنما بغداد دار بليّة، ... هل الله من سجن البلاد مريح؟
وقال أبو يعلى بن الهبّارية أنشدني جدّي أبو الفضل محمد بن محمد لنفسه:
إذا سقى الله أرضا صوب غادية، ... فلا سقى الله غيثا أرض بغداد
أرض بها الحرّ معدوم، كأنّ لها ... قد قيل في مثل: لا حرّ بالوادي
بل كلّ ما شئت من علق وزانية ... ومستحدّ وصفعان وقوّاد
وقال أيضا أبو يعلى بن الهبارية: أنشدني معدان التغلبي لنفسه:
بغداد دار، طيبها آخذ ... نسيمه مني بأنفاسي
تصلح للموسر لا لامرئ ... يبيت في فقر وإفلاس
لو حلّها قارون ربّ الغنى، ... أصبح ذا همّ ووسواس
هي التي توعد، لكنها ... عاجلة للطاعم الكاسي
حور وولدان ومن كلّ ما ... تطلبه فيها، سوى الناس

بركة أُمِّ جعفر

بركة أُمِّ جعفر:
إنما سميت البركة بركة لإقامة الماء فيها من بروك البعير، يقال: ما أحسن بركة هذا البعير، كما يقال ركبة وجلسة. وأم جعفر هذه:
هي زبيدة بنت جعفر بن المنصور أم محمد الــأمين، وهذه البركة في طريق مكة بين المغيثة والعذيب.

بَذَخْشَانُ

بَذَخْشَانُ:
بفتحتين، والخاء معجمة ساكنة، وشين معجمة محركة، وألف، ونون، والعامة يسمونها بلخشان، باللام: وهو الموضع الذي فيه معدن البلخش المقاوم للياقوت، وهو فيما حدّثني من شاهده:
عروق في جبلهم يكثر لكن الجيد منه قليل، رأيت مع هذا المخبر منه مخلاة ملأى لا ينتفع به، وفي جبلهم هذا أيضا معدن اللازورد الذي يزوّق ويعمل منه فصوص الخواتم، ومن هذا الموضع يدخل التجار أرض التّبت. وبذخشان: بلدة في أعلى طخارستان متاخمة لبلاد الترك، بينها وبين بلخ ما حكاه البشّاري والإصطخري، ثلاث عشرة مرحلة، ومثلها بينها وبين ترمذ، وبها رباط بنته زبيدة بنت جعفر ابن المنصور أمّ الإصطرخي، ثلاث عشرة مرحلة، ومثلها بينها وبين ترمذ، وبها رباط بنته زبيدة بنت جعفر ابن المنصور أمّ محمد الــأمين زوجة الرشيد، وبها حصن عجيب من بنائها، قلّ ما رأى الناس مثله، وفيها أيضا معدن البجادى: حجر كالياقوت غير البلخش والبلّور الخالص، كل ذلك عروق في جبالها، وفيها أيضا حجر الفتيلة، وهو شيء يشبه البردي والعامة تظنه ريش طائر يقال له الطّلق، لا تحرقه النار، يوضع في الدّهن ثم يشعل بالنار فيقد كما تقد الفتيلة فإذا اشتعل الدهن بقي على ما كان لم يتغير شيء من صفته، وكذلك أبدا كلما وضع في الدهن واشتعل، وإذا ألقي في النار المتأججة لا تحرقه، وينسج منه مناديل غلاظ للخوان فإذا اتسخت وأريد غسلها ألقيت في النار فيحترق ما عليها من الدّرن وتخلص وتطلع نقية كأن لم يكن بها درن قط. وهناك حجر يجعل في البيت المظلم فيضيء شيئا يسيرا، كلّ ذلك ذكره البشّاري.
Learn Quranic Arabic from scratch with our innovative book! (written by the creator of this website)
Available in both paperback and Kindle formats.