Current Dictionary: All Dictionaries

Search results for: خندق

طَرَسُوسُ

طَرَسُوسُ:
بفتح أوله وثانيه، وسينين مهملتين بينهما واو ساكنة، بوزن قربوس، كلمة عجمية رومية، ولا يجوز سكون الراء إلا في ضرورة الشعر لأن فعلول ليس من أبنيتهم، قال صاحب الزيج: طول طرسوس ثمان وخمسون درجة ونصف، وعرضها ست وثلاثون درجة وربع، وهي في الإقليم الرابع، وقالوا: سميت بطرسوس بن الروم بن اليفز بن سام ابن نوح، عليه السلام، وقيل: إن مدينة طرسوس أحدثها سليمان كان خادما للرشيد في سنة نيف وتسعين ومائة، قاله أحمد بن محمد الهمذاني، وهي مدينة بثغور الشام بين أنطاكية وحلب وبلاد الروم، قال أحمد بن الطيّب السّرخسي: رحلنا من المصيصة نريد العراق إلى أذنة ومن أذنة إلى طرسوس، وبينها وبين أذنة ستة فرسخ، وبين أذنة وطرسوس فندق بغا والفندق الجديد، وعلى طرسوس سوران وخندق واسع ولها ستة أبواب ويشقها نهر البردان وبها قبر المأمون عبد الله بن الرشيد جاءها غازيا فأدركته منيته فمات، فقال الشاعر:
هل رأيت النجوم أغنت عن المأ ... مون في عزّ ملكه المأسوس؟
غادروه بعرصتي طرسوس ... مثل ما غادروا أباه بطوس
وما زالت موطنا للصالحين والزهّاد يقصدونها لأنها من ثغور المسلمين ثم لم تزل مع المسلمين في أحسن حال وخرج منها جماعة من أهل الفضل إلى أن كان سنة 354 فان نقفور ملك الروم استولى على الثغور وفتح المصيصة، كما نذكره في موضعه، ثم رحل عنها ونزل على طرسوس وكان بها من قبل سيف الدولة رجل يقال له ابن الزّيّات ورشيق النسيمي مولاه فسلّما إليه المدينة على الأمان والصلح على أن من خرج منها من المسلمين وهو يحمل من ماله مهما قدر عليه لا يعترض من عين وورق أو خرثيّ وما لم يطق حمله فهو لهم مع الدور والضياع، واشترط تخريب الجامع والمساجد، وأنه من أراد المقام في البلد على الذمّة وأداء الجزية فعل وإن تنصّر فله الحباء والكرامة وتقرّ عليه نعمته، قال: فتنصّر خلق فأقرّت نعمهم عليهم وأقام نفر يسير على الجزية وخرج أكثر الناس يقصدون بلاد الإسلام وتفرّقوا فيها، وملك نقفور البلد فأحرق المصاحف وخرّب المساجد وأخذ من خزائن السلاح ما لم يسمع بمثله مما كان جمع من أيام بني أميّة إلى هذه الغاية، وحدث أبو القاسم التنوخي قال: أخبرني جماعة ممن جلا عن ذلك الثغر أن نقفور لما فتح طرسوس نصب في ظاهرها علمين ونادى مناديه: من أراد بلاد الملك الرحيم وأحبّ العدل والنّصفة والأمن على المال والأهل والنفس والولد وأمن السبل وصحة الأحكام والإحسان في المعاملة وحفظ الفروج وكذا وكذا، وعد أشياء جميلة، فليصر تحت هذا العلم ليقفل مع الملك إلى بلاد الروم، ومن أراد الزنا واللواط والجور في الأحكام والأعمال وأخذ الضرائب وتملّك الضياع عليه وغصب الأموال، وعد أشياء من هذا النوع غير جميلة، فليحصل تحت هذا العلم إلى بلاد
الإسلام، فصار تحت علم الروم خلق من المسلمين ممن تنصّر وممن صبر على الجزية، ودخل الروم إلى طرسوس فأخذ كلّ واحد من الروم دار رجل من المسلمين بما فيها ثم يتوكل ببابها ولا يطلق لصاحبها إلا حمل الخفّ فان رآه قد تجاوز منعه حتى إذا خرج منها صاحبها دخلها النصراني فاحتوى على ما فيها، وتقاعد بالمسلمين أمهات أولادهم لما رأين أهاليهنّ وقالت: أنا الآن حرّة لا حاجة لي في صحبتك، فمنهنّ من رمت بولدها على أبيه ومنهنّ من منعت الأب من ولده فنشأ نصرانيّا، فكان الإنسان يجيء إلى عسكر الروم فيودع ولده ويبكي ويصرخ وينصرف على أقبح صورة حتى بكى الروم رقّة لهم وطلبوا من يحملهم فلم يجدوا غير الروم فلم يكروهم إلا بثلث ما أخذوه على أكتافهم أجرة حتى سيروهم إلى أنطاكية، هذا وسيف الدولة حيّ يرزق بميّافارقين والملوك كلّ واحد مشغول بمحاربة جاره من المسلمين وعطّلوا هذا الفرض، ونعوذ بالله من الخيبة والخذلان ونسأله الكفاية من عنده، ولم تزل طرسوس وتلك البلاد بيد الروم والأرمن إلى هذه الغاية، وقد نسب إليها جماعة يفوت حصرهم، وأما أبو أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم بن سالم الطرسوسي فانه بغداديّ أقام بها إلى أن مات سنة 273 فنسب إليها، وممن نسب إليها من الحفّاظ محمد بن عيسى ابن يزيد الطرسوسي التميمي ثم السعدي، رحّال من أهل المعرفة، سمع بدمشق سليمان بن عبد الرحمن وصفوان بن صالح وسمع بحمص ومكة، وسمع عيسى بن قالون المقري بالمدينة، وبالكوفة أبا نعيم، وبالبصرة سليمان بن حرب، وبميافارقين مسلما ومحمد ابن حميد الرازي، روى عنه أبو بكر بن خزيمة وأبو العباس الدّغولي وأبو عوانة الأسفراييني وهو غير متهم، قال الحافظ أبو عبد الله: وكان من المشهورين بالطلب في الرحلة والكثرة والفهم والثبت، ورد خراسان بعد 250 ونزل نيسابور وأقام بها وكتب عنه من كان في عصره ثم خرج إلى مرو فأقام بها مدة وأكثر أهل مرو عنه بعد الستين ثم دخل بلخ فتوفي بها سنة 276.

الطَّفُّ

الطَّفُّ:
بالفتح، والفاء مشددة، وهو في اللغة ما أشرف من أرض العرب على ريف العراق، قال الأصمعي: وإنما سمي طفّا لأنه دان من الريف،
من قولهم: خذ ما طفّ لك واستطفّ أي ما دنا وأمكن، وقال أبو سعيد: سمي الطف لأنه مشرف على العراق من أطفّ على الشيء بمعنى أطلّ، والطف:
طف الفرات أي الشاطئ، والطف: أرض من ضاحية الكوفة في طريق البرية فيها كان مقتل الحسين ابن علي، رضي الله عنه، وهي أرض بادية قريبة من الريف فيها عدة عيون ماء جارية، منها: الصيد والقطقطانة والرّهيمة وعين جمل وذواتها، وهي عيون كانت للموكلين بالمسالح التي كانت وراء خندق سابور الذي حفره بينه وبين العرب وغيرهم، وذلك أن سابور أقطعهم أرضها يعتملونها من غير أن يلزمهم خراجا، فلما كان يوم ذي قار ونصر الله العرب بنبيه، صلّى الله عليه وسلّم، غلبت العرب على طائفة من تلك العيون وبقي بعضها في أيدي الأعاجم، ثم لما قدم المسلمون الحيرة وهربت الأعاجم بعد ما طمّت عامة ما كان في أيديها منها وبقي ما في أيدي العرب فأسلموا عليه وصار ما عمروه من الأرض عشرا، ولما انقضى أمر القادسية والمدائن وقع ما جلا عنه الأعاجم من أرض تلك العيون إلى المسلمين وأقطعوه فصارت عشرية أيضا، وقال الأقيشر الأسدي من قصيدة:
انّي يذكّرني هندا وجارتها ... بالطفّ صوت حمامات على نيق
بنات ماء معا بيض جآجئها، ... حمر مناقرها صفر الحماليق
أيدي السّقاة بهن الدهر معملة، ... كأنما لونها رجع المخاريق
أفنى تلادي وما جمّعت من نشب ... قرع القواقيز أفواه الأباريق
وكان مجرى عيون الطفّ وأعراضها مجرى أعراض المدينة وقرى نجد، وكانت صدقتها إلى عمال المدينة، فلما ولي إسحاق بن إبراهيم بن مصعد السواد للمتوكل ضمها إلى ما في يده فتولى عماله عشرها وصيّرها سواديّة، فهي على ذلك إلى اليوم، ثم استخرجت فيها عيون إسلامية يجري ما عمر بها من الأرضين هذا المجرى، قالوا: وسميت عين جمل لأن جملا مات عندها في حدثان استخراجها فسمّيت بذلك، وقيل: إن المستخرج لها كان يقال له جمل، وسميت عين الصيد لكثرة السمك الذي كان بها، قال أبو دهبل الجمحي يرثي الحسين بن علي، رضي الله عنه، ومن قتل معه بالطفّ:
مررت على أبيات آل محمد، ... فلم أرها أمثالها يوم حلّت
فلا يبعد الله الديار وأهلها، ... وإن أصبحت منهم برغمي تخلّت
ألا إنّ قتلى الطفّ من آل هاشم ... أذلّت رقاب المسلمين فذلّت
وكانوا غياثا ثم أضحوا رزيّة، ... ألا عظمت تلك الرزايا وجلّت!
وجا فارس الأشقين بعد برأسه ... وقد نهلت منه الرماح وعلّت
وقال أيضا:
تبيت سكارى من أميّة نوّما، ... وبالطفّ قتلى ما ينام حميمها
وما أفسد الإسلام إلا عصابة ... تأمّر نوكاها فدام نعيمها
فصارت قناة الدين في كفّ ظالم، ... إذا اعوجّ منها جانب لا يقيمها

عانَةُ

عانَةُ:
بالنون، والعانة: الجماعة من حمر الوحش، ويجمع عونا وعانات، وعانة الرجل: منبت الشعر من قبل الرجل، وعانة: بلد مشهور بين الرّقّة وهيت يعد في أعمال الجزيرة، وجاء في الشعر عانات كأنه جمع بما حوله، ونسبت العرب إليه الخمر، قال بعضهم:
تخيّرها أخو عانات شهرا، ... ورجّى برّها عاما فعاما
وقال الأعشى:
كأنّ جنيّا من الزنجبي ... ل خالط فيها، وأريا مشورا
وإسفنط عانة بعد الرّقا ... د شكّ الرصاف إليها غديرا
وهي مشرفة على الفرات قرب حديثة النورة وبها قلعة حصينة، وقد نسب إليها يعيش بن الجهم العاني، ويقال له الحدثي أيضا، يروي عن الحسين بن إدريس، وإليها حمل القائم بأمر الله في نوبة البساسيري فيه أن يأخذه فيقتله فمانع مهارش عنه إلى أن جاء طغرلبك وقتل البساسيري وأعاد الخليفة إلى داره، وكانت غيبته عن بغداد سنة كاملة، وأقيمت الخطبة في غيبته للمصريين، فعامة بغداد إلى الآن يضربون البساسيري مثلا في تفخيم الأمر، يقولون: كأنه قد جاء برأس البساسيري، وإذا كرهوا أمرا من ظلم أو عسف قالوا: الخليفة إذا في عانة حتى يفعل كذا، وقال محمد بن أحمد الهمذاني: كانت هيت وعانات مضافة إلى طسوج الأنبار، فلما ملك أنو شروان بلغه أن طوائف من الأعراب يغيرون على ما قرب من السواد إلى البادية فأمر بتجديد سور مدينة تعرف بألوس كان سابور ذو الأكتاف بناها وجعلها مسلحة لحفظ ما قرب من البادية، وأمر بحفر خندق من هيت يشق طفّ البادية إلى كاظمة مما يلي البصرة وينفذ إلى البحر وبنى عليه المناظر والجواسق ونظمه بالمسالح ليكون ذلك مانعا لأهل البادية عن السواد، فخرجت هيت وعانات بسبب ذلك السور عن طسوج شاذفيروز لأن عانات كانت قرى مضمومة إلى هيت. وعانة أيضا:
بلد بالأردنّ، عن نصر.

عَكّةُ

عَكّةُ:
بفتح أوله، وتشديد ثانيه، قال أبو زيد:
العكة الرملة حميت عليها الشمس، وقال الليث: العكة من الحرّ الفورة الشديدة في القيظ وهو الوقت الذي تركد فيه الريح، وقد تقدم في عك ما فيه كفاية، قال صاحب الملحمة: طول عكة ست وستون درجة، وعرضها إحدى وثلاثون درجة، وفي ذرع أبي عون:
طولها ثمان وخمسون درجة وخمس وعشرون دقيقة، وعرضها ثلاث وثلاثون درجة وثلث، وهي في الإقليم الرابع، وعكة: اسم بلد على ساحل بحر الشام من عمل الأردن، وهي من أحسن بلاد الساحل في أيامنا هذه وأعمرها، قال أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر البناء البشاري: عكة مدينة حصينة كبيرة الجامع فيه غابة زيتون يقوم بسرجه وزيادة، ولم تكن على هذه الحصانة حتى قدمها ابن طولون وكان قد رأى صور واستدارة الحائط على مينائها فأحب أن يتخذ لعكة مثل ذلك الميناء فجمع صنّاع الكور وعرض عليهم ذلك فقيل له لا يهتدي أحد إلى البناء في الماء في هذا الزمان، ثم ذكر له جدّنا أبو بكر البنّاء وقيل له: إن كان عند أحدهم فيه علم فهو عنده، فكتب إليه وأتي به من المقدس وعرض عليه ذلك فاستهان به والتمس منهم إحضار فلق من خشب الجميز غليظة، فلما حضرت عمد يصفّها على وجه الماء بقدر الحصن البرّي وضمّ بعضها إلى بعض وجعل لها بابا عظيما من ناحية الغرب ثم بنى عليها الحجارة والشّيد وجعل كلما بنى خمس دوامس ربطها بأعمدة غلاظ ليشتد البناء، وجعلت الفلق كلما ثقلت نزلت حتى إذا علم أنها قد استقرّت على الرمل تركها حولا كاملا حتى أخذت قرارها ثم عاد فبنى من حيث ترك، وكلما بلغ البناء إلى الحائط الذي قبله أدخله فيه ثم جعل على الباب قنطرة والمراكب كل ليلة تدخل الميناء وتجر سلسلة بينها وبين البحر الأعظم مثل صور، قال: فدفع إليه ألف دينار سوى الخلع والمركوب، واسمه عليه مكتوب إلى اليوم، قال: وكان العدو قبل ذلك يغير على المراكب، وفتحت عكة في حدود سنة 15 على يد عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان، وكان لمعاوية في فتحها وفتح السواحل أثر جميل، ولما ركب منها إلى غزوة قبرص رمّها وأعاد ما تشعّث منها وكذلك فعل بصور، ثم خربت فجددها هشام بن عبد الملك، وكانت فيها صناعة بلاد الأردنّ، وهي محسوبة من حدود الأردن، ثم نقل هشام الصناعة منها إلى صور فبقيت على ذلك إلى قرابة أيام الإمام المقتدر ثم اختلفت ايدي المتغلبين عليها، وعمّرت عكة أحسن عمارة وصارت بها الصناعة إلى يومنا ذا، وهي للافرنج، وفي الحديث: طوبى لمن رأى عكة، وقال الفراء: هذه أرض عكة وأرض عكة، تضاف ولا تضاف، أي حارّة، وكانت قديما بيد المسلمين حتى أخذها الأفرنج ومعديهم بغدوين صاحب بيت المقدس من زهر الدولة بناء الجيوشي [1] منسوب إلى أمير الجيوش بدر الجمالي أو ابنه، وكان بها من قبل المصريين، فقصد الأفرنج برّا وبحرا في سنة 497 فقاتلهم أهل عكة حتى عجزوا عنهم لقصور المادة بهم وكان أهل مصر لا يمدونهم بشيء فسلموها إليهم وقتلوا منها خلقا كثيرا وسبوا جماعة أخرى حملوهم إلى خلف البحر، وخرج زهر الدولة حتى وصل إلى دمشق ثم عاد إلى مصر، ولم تزل في أيديهم حتى افتتحها صلاح الدين يوسف بن أيوب في جمادى الأولى سنة 583 وأشحنها بالرجال والعدد والميرة، فعاد الأفرنج ونزلوا عليها وخندقــوا دونهم خندقــا وجاءهم صلاح الدين ونزل دونهم وأقام حولهم ثلاث سنين حتى استعادها الأفرنج من المسلمين عنوة في سابع جمادى الآخرة سنة 587 وأحضروا أسارى المسلمين وكانوا نحو ثلاثة آلاف وحملوا عليهم حملة واحدة فقتلوهم عن آخرهم، وهي في أيديهم إلى الآن، وقد نسب إليها قوم، منهم: الحسن بن إبراهيم العكي، يروي عن الحسن بن جرير الصوري، روى عنه عبد الصمد بن الحكم.

قَابِسُ

قَابِسُ:
إن كان عربيّا فهو من أقبست فلانا علما ونارا أو قبسته فهو قابس، بكسر الباء الموحدة:
مدينة بين طرابلس وسفاقس ثم المهدية على ساحل البحر فيها نخل وبساتين غربي طرابلس الغرب، بينها وبين طرابلس ثمانية منازل، وهي ذات مياه جارية من أعمال إفريقية في الإقليم الرابع، وعرضها خمس وثلاثون درجة، وكان فتحها مع فتح القيروان سنة 27 على ما يذكر في القيروان، قال البكري: قابس مدينة جليلة مسوّرة بالصخر الجليل من بنيان الأول ذات حصن حصين وأرباض وفنادق وجامع وحمّامات كثيرة وقد أحاط بجميعها خندق كبير يجرون إليه الماء عند الحاجة فيكون أمنع شيء، ولها ثلاثة أبواب، وبشرقيّها وقبليّها أرباض يسكنها العرب والأفارق، وفيها جميع الثمار، والموز فيها كثير وهي تمير القيروان بأصناف الفواكه، وفيها شجر التوت الكثير ويقوّم من الشجرة الواحدة منها من الحرير ما لا يقوّم من خمس شجرات غيرها، وحريرها أجود الحرير وأرقّه وليس في عمل إفريقية حرير إلا في قابس، واتصال بساتين ثمارها مقدار أربعة أميال، ومياهها سائحة مطرّدة يسقى بها جميع أشجارها، وأصل هذا الماء من عين خرّارة في جبل بين القبلة والغرب منها يصبّ في بحرها، وبها قصب السكر كثير، وبقابس منار كبير منيف يحدو به الحادي إذا ورد من مصر يقول:
يا قوم لا نوم ولا قرارا ... حتى نرى قابس والمنارا
وساحل مدينة قابس مرفأ للسّفن من كل مكان، وحوالي قابس قبائل من البربر: لواتة ولماتة ونفوسة وزواوة وقبائل شتّى أهل أخصاص، وكانت ولايتها منذ دخل عبيد الله إفريقية تتردد في بني لقمان الكناني، ولذلك يقول الشاعر:
لولا ابن لقمان حليف الندى ... سلّ على قابس سيف الرّدى
وبين مدينة قابس والبحر ثلاثة أميال، ومما يذكرون من معايبهم أن أكثر دورهم لا مذاهب لهم فيها وإنما يتبرّزون في الأفنية فلا يكاد أحد منهم يفرغ من
قضاء حاجته إلا وقد وقف عليه من يبتدر أخذ ما خرج منه لطعمة البساتين وربما اجتمع على ذلك النفر فيتشاحّون فيه فيخصّ به من أراد منهم، وكذلك نساؤهم لا يرين في ذلك حرجا عليهن إذا سترت إحداهن وجهها ولم يعلم من هي، ويذكر أهل قابس أنها كانت أصحّ البلاد هواء حتى وجدوا طلسما ظنوا أن تحته مالا فحفروا موضعه فأخرجوا منه قربة غبراء فحدث عندهم الوباء من حينئذ بزعمهم، وأخبر أبو الفضل جعفر بن يوسف الكلبي وكان كاتبا لمونس صاحب إفريقية أنهم كانوا في ضيافة ابن وانمو الصنهاجي فأتاه جماعة من أهل البادية بطائر على قدر الحمامة غريب اللون والصورة ذكروا أنهم لم يروه قبل ذلك اليوم في أرضهم كان فيه من كل لون أجمله وهو أحمر المنقار طويله، فسأل ابن وانمو العرب الذين أحضروه هل يعرفونه ورأوه فلم يعرفه أحد ولا سمّاه، فأمر ابن وانمو بقصّ جناحيه وإرساله في القصر، فلما جنّ الليل أشعل في القصر مشعل من نار فما هو إلا أن رآه ذلك الطائر فقصده وأراد الصعود إليه فدفعه الخدّام فجعل يلحّ في التقدم إلى المشعل فأعلم ابن وانمو بذلك فقام وقام من حضر عنده، قال جعفر:
وكنت ممن حضر فأمر بترك الطائر في شأنه فطار حتى صار في أعلى المشعل وهو يتأجج نارا واستوى في وسطه وجعل يتفلى كما يتفلى الطائر في الشمس، فأمر ابن وانمو بزيادة الوقود في المشعل من خرق القطران وغيره فزاد تأجج النار والطائر فيه على حاله لا يكترث ولا يبرح ثم وثب من المشعل بعد حين فلم ير به ريب واستفاض هذا بإفريقية وتحدث به أهلها، والله أعلم، وقد نسب إليها طائفة وافرة من أهل العلم، منهم: عبد الله بن محمد القابسي من مشايخ يحيى بن عمر، ومحمد بن رجاء القابسي، حدث عنه أبو زكرياء البخاري، وعيسى بن أبي عيسى بن نزار بن بجير أبو موسى القابسي الفقيه المالكي الحافظ، سمع بالمغرب أبا عبد الله الحسين بن عبد الرحمن الأجدابي وأبا علي الحسن بن حمول التونسي، وبمكة أبا ذر الهروي، وببغداد أبا الحسن روح الحرّة العتيقي وأبا القاسم بن أبي عثمان التنوخي وأبا الحسين محمد بن الحسين الحرّاني وأبا محمد الجوهري وأبا بكر بن بشران وأبا الحسن القزويني وغيرهم، وحدث بدمشق فروى عنه عبد العزيز الكناني وأبو بكر الخطيب ونصر المقدسي، وكان ثقة، ومات بمصر سنة 447.

كَفَرْبَيّا

كَفَرْبَيّا:
بفتح الباء الموحدة، وتشديد الياء المثناة من تحتها: هي مدينة بإزاء المصيصة على شاطئ جيحان وهي في بلاد ابن ليون اليوم، وكانت مدينة كبيرة ذات أسواق كثيرة وسور محكم وأربعة أبواب، كانت قد خربت قديما ثمّ جدّد بناءها الرشيد، وقيل: بل ابتدأ ببنائها المهدي ثمّ غيّر الرشيد بناءها وحصّنها بــخندق ثمّ رفع المأمون غلة كانت على منازلها كالحانات وأمر فجعل لها سور فلم يستتم حتى مات فأمر المعتصم بإتمامه وتشريفه.

القادِسِيَّةُ

القادِسِيَّةُ:
قال أبو عمرو: القادس السفينة العظيمة، قال المنجمون: طول القادسية تسع وستون درجة، وعرضها إحدى وثلاثون درجة وثلثا درجة، ساعات النهار بها أربع عشرة ساعة وثلثان، وبينها وبين الكوفة خمسة عشر فرسخا، وبينها وبين العذيب أربعة أميال، قيل:
سميت القادسية بقادس هراة، وقال المدايني: كانت القادسية تسمى قديسا، وروى ابن عيينة قال: مرّ إبراهيم بالقادسية فرأى زهرتها ووجد هناك عجوزا فغسلت رأسه فقال: قدّست من أرض، فسميت القادسية، وبهذا الموضع كان يوم القادسية بين سعد ابن ابي وقّاص والمسلمين والفرس في أيام عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، في سنة 16 من الهجرة، وقاتل المسلمون يومئذ وسعد في القصر ينظر إليهم فنسب إلى الجبن، فقال رجل من المسلمين:
ألم تر أن الله أنزل نصره ... وسعد بباب القادسية معصم
فأبنا وقد آمت نساء كثيرة ... ونسوة سعد ليس فيهنّ أيّم
وقال بشر بن ربيعة في ذلك اليوم:
ألمّ خيال من أميمة موهنا ... وقد جعلت أولى النجوم تغور
ونحن بصحراء العذيب ودوننا ... حجازية، إن المحلّ شطير
فزارت غريبا نازحا جلّ ماله ... جواد ومفتوق الغرار طرير
وحلّت بباب القادسية ناقتي ... وسعد بن وقاص عليّ أمير
تذكّر، هداك الله، وقع سيوفنا ... بباب قديس والمكرّ ضرير
عشيّة ودّ القوم لو أن بعضهم ... يعار جناحي طائر فيطير
إذا برزت منهم إلينا كتيبة ... أتونا بأخرى كالجبال تمور
فضاربتهم حتى تفرّق جمعهم، ... وطاعنت، إني بالطّعان مهير
وعمرو أبو ثور شهيد وهاشم ... وقيس ونعمان الفتى وجرير
والأشعار في هذا اليوم كثير لأنها كانت من أعظم وقائع المسلمين وأكثرها بركة، وكتب عمر، رضي الله عنه، إلى سعد بن أبي وقاص يأمره بوصف منزله من القادسية فكتب إليه سعد: إن القادسية فيما بين الــخندق والعتيق وإنما عن يسار القادسية بحر أخضر في جوف لاح إلى الحيرة بين طريقين فأما إحداهما فعلى الظهر وأما الأخرى فعلى شاطئ نهر يسمى الحضوض يطلع بمن يسلكه على ما بين الخورنق والحيرة، وإنما عن يمين القادسية فيض من فيوض مياههم، وإن جميع من صالح المسلمين قبلي ألّب لأهل فارس قد خفّوا لهم واستعدّوا لنا، وذكر أصحاب الفتوح أن القادسية كانت أربعة أيام: فسموا الأول يوم أرماث واليوم الثاني يوم أغواث واليوم الثالث يوم عماس وليلة اليوم الرابع ليلة الهرير واليوم الرابع سموه يوم القادسية، وكان الفتح للمسلمين وقتل رستم جازويه ولم يقم للفرس بعده قائمة، وقال ابن الكلبي فيما حكاه هشام قال: إنما سميت القادسية لأن ثمانية آلاف من ترك الخزر كانوا قد ضيّقوا على كسرى بن هرمز، وكتب قادس هراة إلى كسرى: إن كفيتك مؤونة هؤلاء الترك تعطيني ما أحتكم عليك؟ قال: نعم، فبعث النريمان إلى أهل القرى: اني سأنزل عليكم الترك فاصنعوا ما آمركم، وبعث النريمان إلى الأتراك وقال لهم: تشتّوا في أرضي العام، ففعلوا وأقبل منها ثمانية آلاف في منازل أصحابه بهراة فبعث النريمان إلى أهل الدّور وقال: ليذبح كل رجل منكم نزيله الذي نزل عليه ثم يغدو إليّ بسبلته، ففعلوا ذلك وذبحوهم عن آخرهم وغدوا إليه بسبلاتهم فنظمها في خيط وبعثها إلى كسرى وقال: قد وفيت لك فأوف لي بما شرطت عليك، فبعث إليه كسرى أن اقدم عليّ، فقدم عليه النريمان فقال له كسرى: احتكم، فقال له النريمان: تضع لي سريرا مثل سريرك وتعقد على رأسي تاجا مثل تاجك وتنادمني من غدوة إلى الليل، ففعل ذلك به ثم قال: أوفيت؟ قال: نعم، فقال له كسرى: لا والله لا ترى هراة أبدا فتجلس بين قومك وتحدث بما جرى، وأنزله موضع القادسية ليكون ردءا له من العرب فسمي الموضع القادسية بقادس هراة، وكان قدم عليه النريمان ومعه أربعة آلاف فكانوا بالقادسية، فلما كان يوم القادسية قرن أصحاب النريمان بن النريمان أنفسهم بالسلاسل كيلا يفروا فقتلوا كلهم ورجعت ابنة النريمان إلى مرو وأم النريمان ابن النريمان كبشة بنت النعمان بن المنذر، قال هشام:
فالشاه بن الشاه من ولد نريمان وهو الشاه بن الشاه بن لان بن نريمان بن نريمان، قال: ويقال إنما سميت القادسية بقديس وكان قصرا بالعذيب، وقد نسب إلى القادسية عدة قوم من الرواة، منهم: علي بن أحمد القادسي القطان، روى عن عبد الحميد بن صالح، يروي عنه جعفر الخلدي. والقادسية أيضا: قرية كبيرة من نواحي دجيل بين حربى وسامرّا يعمل بها الزجاج، وقد نسب إليها قوم من الرواة، وإليها ينسب الشيخ أحمد المقري الضرير وولده محمد بن أحمد القادسي الكتبي، وفي هذه القادسية يقول جحظة:
إلى شاطئ القاطول بالجانب الذي ... به القصر بين القادسية والنخل
في قصيدة ذكرت في القاطول.

المُحَمَّدِيّةُ

المُحَمَّدِيّةُ:
أصله مفعّل مشدّد للتكثير والمبالغة من الحمد وهو اسم مفعول منه ومعناه أنه يحمد كثيرا، وهو اسم لمواضع، منها: قرية من نواحي بغداد من كورة طريق خراسان أكثر زرعها الأرز. والمحمدية أيضا: ببغداد من قرى بين النهرين، منها أبو علي محمد بن الحسين بن أحمد بن الطيّب الأديب، كتب عنه هبة الله الشيرازي وقال: أنشدنا الأديب محمد بن الحسين لنفسه بالمحمدية من العراق فقال:
إذا اغترب الحرّ الكريم بدت له ... ثلاث خصال كلهنّ صعاب:
تفرّق أحباب، وبذل لهيبة، ... وإن مات لم تشقق عليه ثياب
والمحمدية أيضا: من أعمال برقة من ناحية الإسكندرية. والمحمدية: مدينة بنواحي الزاب من أرض المغرب. ومدينة المسيلة بالمغرب يقال لها أيضا المحمدية اختطّها محمد بن المهدي الملقب بالقائم في أيام أبيه، وذلك أن أباه أنفذه في جيش حتى بلغ
تاهرت فقتل وتملّك ومرّ بموضع المسيلة فأعجبه فخطّ برمحه وهو راكب فرسه صفة مدينة وأمر علي بن حمدون الأندلسي ببنائها وسماها المحمدية باسمه، وكانت خطّة لبني كملان قبيلة من البربر فأمر بنقلهم إلى فحص القيروان فهم كانوا أصحاب أبي يزيد الخارجي عليه فأحكمها ونقل إليها الذخائر وذلك في سنة 315.
والمحمدية: مدينة بكرمان في الإقليم الثالث، طولها تسعون درجة، وعرضها إحدى وثلاثون درجة ونصف وربع، قال البلاذري: الإيتاخيّة تعرف بإيتاخ التركي ثم سماها المتوكل المحمدية باسم ابنه محمد المنتصر وكانت تعرف أولا بدير أبي الصّفرة وهم قوم من الخوارج وهي بقرب سامرّا، ووقع لي بمرو كتاب اسمه تمام الفصيح لابن فارس وبخطه وقد كتب في آخره: وكتب أحمد بن فارس ابن زكرياء بخطه في شهر رمضان سنة 390 بالمحمدية، فعبرت دهرا أسأل عن موضع بنواحي الجبال يعرف بهذا الاسم فلم أجده لأن ابن فارس في هذه الأيام هناك كان حيّا حتى وقعت على كتاب محمد بن أحمد بن الفقيه فذكر فيه قال جعفر بن محمد الرازي: لما قدم المهدي الرّيّ في خلافة المنصور بنى مدينة الري التي بها الناس اليوم وجعل حولها خندقــا وبنى فيها مسجدا جامعا وجرى ذلك على يد عمّار بن أبي الخصيب وكتب اسمه على حائطها وتم عملها سنة 158 وجعل لها فصيلا يطيف به فارقين آخر وسماها المحمدية، فأهل الري يدعون المدينة الداخلة المدينة ويسمون الفصيل المدينة الخارجة والحصن المعروف بالزبيدية في داخل المدينة بالمحمدية، وقد كان المهدي نزله أيام كونه بالري وكان مطلّا على المسجد الجامع ودار الإمارة ثم جعل بعد ذلك سجنا ثم خرب فعمّره رافع بن هرثمة في سنة 278 ثم خربه أهل الري بعد خروج رافع عنها، فلما وقفت على هذا فرّج عني وإن كان في ألفاظ هذا الخبر اختلال إلا أن الغرض حصل أنها محلة بالري، وقرأت في تاريخ أبي سعد الآبي أن المهدي لما قدم الري بنى بها المسجد الجامع فذكر أنه لما أخذ في حفر الأساس أتي إلى أساس قديم في أبواب بيوت قد رسخت في الأرض كان السيل قد أتى عليها فطمّها ودفنها، فأخبر المهدي بذلك فنادى:
من كان له ههنا دار فليأت فإن شاء باع وإن شاء عوّض عنها دارا، فأتاه ناس كثير فاختار بعضهم الثمن فقبضوه وبعضهم اختار العوض فبنى لهم المحلة المعروفة بمهدي أباذ ووقع الفراغ من بناء جميع ذلك في سنة 158 فسميت الري المحمدية باسم المهدي وسميت البيوت المدينة الداخلة والفصيل المدينة الخارجة.

ديرُ هِندٍ الصُّغْرَى

ديرُ هِندٍ الصُّغْرَى:
بالحيرة يقارب خطة بني عبد الله ابن دارم بالكوفة مما يلي الــخندق في موضع نزه، وهو دير هند الصغرى بنت النعمان بن المنذر المعروفة بالحرقة، قال هشام الكلبي: كان كسرى قد غضب على النعمان بن المنذر فحبسه فأعطت بنته هند عهدا لله إن ردّه الله إلى ملكه أن تبني ديرا تسكنه حتى تموت، فخلّى كسرى عن أبيها النعمان فبنت الدير وأقامت به إلى أن ماتت ودفنت فيه، وهي التي دخل عليها خالد بن الوليد، رضي الله عنه، لما فتح الحيرة فسلمت عليه فقال لها لما عرفها:
أسلمي حتى أزوجك رجلا شريفا مسلما، فقالت له: أما الدين فلا رغبة لي فيه غير دين آبائي، واما التزويج فلو كانت في بقية لما رغبت فيه فكيف وأنا عجوز هرمة أترقّب المنيّة بين اليوم وغد! فقال: سليني حاجة، فقالت: هؤلاء النصارى الذين في ذمتكم تحفظونهم، قال: هذا فرض علينا أوصانا به نبينا محمد، صلى الله عليه وسلّم، قالت: ما لي حاجة غير هذا فإني ساكنة في هذا الدير الذي بنيته ملاصقا لهذه الأعظم البالية من أهلي حتى ألحق بهم، قال: فأمر لها بمعونة ومال وكسوة، قالت: أنا في غنى عنه، لي عبدان يزرعان مزرعة لي أتقوّت بما
يخرج منها ويمسك الرمق وقد اعتددت بقولك فعلا وبعرضك نقدا، فقال لها: أخبريني بشيء أدركت، قالت: ما طلعت الشمس بين الخورنق والسدير إلا على ما هو تحت حكمنا فما أمسى المساء حتى صرنا حولا لغيرنا، ثم أنشأت نقول:
فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا، ... إذا نحن فيهم سوقة نتنصّف
فتبا لدنيا لا يدوم نعيمها ... تقلّب تارات بنا وتصرّف
ثم قالت: اسمع منّي دعاء كنا ندعو به لأملاكنا:
شكرتك يد افتقرت بعد غنى ولا ملكتك يد استغنت بعد فقر، وأصاب الله بمعروفك مواضعه ولا أزال عن كريم نعمة إلا جعلك سببا لردّها إليه ولا جعل لك إلى لئيم حاجة، قال: فتركها وخرج، فجاءها النصارى وقالوا: ما صنع بك الأمير؟
فقالت:
صان لي ذمتي وأكرم وجهي، ... إنما يكرم الكريم الكريم
وقد أكثر الشعراء من ذكر هذا الدير، فقال فيه معن بن زائدة الشيباني الأمير وكان منزله قريبا منه:
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة ... لدى دير هند والحبيب قريب
فتقضي لبانات ونلقى أحبّة، ... ويورق غصن للسرور رطيب
وهند هذه صاحبة القصة مع المغيرة بن شعبة.

قِشْمِيرُ

قِشْمِيرُ:
بالكسر ثم السكون، وكسر الميم، وياء مثناة من تحت ساكنة، وراء: مدينة متوسطة لبلاد الهند، قال: إنها مجاورة لقوم من الترك فاختلط نسلهم بهم فهم أحسن خلق الله خلقة يضرب بنسائهم المثل لهنّ قامات تامّة وصورة سويّة وشعور على غاية السباطة والطول والغلظ، تباع الجارية منهن بمائتي دينار وأكثر، قال مسعر بن مهلهل في رسالته التي ذكرنا في ترجمة الصين: وخرجنا من جاجلّى إلى مدينة يقال لها قشمير كبيرة عظيمة لها سور وخندق محكمان تكون مثل نصف سندابل مدينة الصين وملكها أكبر من ملك كله وأتمّ طاعة، ولهم أعياد في رؤوس الأهلّة، وفي نزول النيرين شرفهما، ولهم رصد كبير في بيت معمول من الحديد الصيني لا يعمل فيه الزمان، ويعظمون الثريّا، وأكلهم البرّ ويأكلون المليح من السمك ولا يأكلون البيض ولا يذبحون، قال: وسرت منها إلى كابل، وقد ذكرها بعض الشعراء فقال:
وجوّلت الهنود وأرض بلخ ... وقشميرا وأدّتني الكميت

بِنْكَثُ

بِنْكَثُ:
هذه بالثاء المثلثة، ووجدته بخطّ البشّاري بيكث، بعد الباء ياء، وقال الإصطخري: بنكث قصبة إقليم الشاش ولها قهندز ومدينة، وقهندزها خارج عن المدينة، وللمدينة ربض عليه سور، وطول البلد من السور الثالث إلى أن تقطع عرضه كله مقدار فرسخ، وتجري في المدينة الداخلة والربض جميعا المياه، وفي الربض بساتين كثيرة، ويمتدّ من الجبل المعروف بسابلع حائط في وجه القلاص حتى ينتهي إلى وادي الشاش يمنع التّرك من الدخول، بناه عبد الله بن حميد، فإذا جزت هذا الحائط بمقدار فرسخ كان هناك خندق من الجبل إلى الوادي، وينسب إليها أبو سعيد الهيثم بن كليب بن شريح ابن معقل الشاشي البنكثي، أصله من ترمذ وسكن بنكث فنسب إليها، كان إماما حافظا رحّالا أديبا، قرأ الأدب على أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة ببغداد، روى عن عيسى بن أحمد العسقلاني وأبي عيسى الترمذي وغيرهما من أهل خراسان والجبال والعراق، روى عنه أبو القاسم عليّ بن أحمد بن محمد الخزاعي، ومات بالشاش سنة 335، وله مسند في مجلدين ضخمين سمعناه بمرو علي أبي المظفر عبد الرحيم ابن أبي سعد الحافظ، رحمه الله.

الإسكَنْدَرِيَّة

الإسكَنْدَرِيَّة:
قال أهل السير: إنّ الإسكندر بن فيلفوس الرومي قتل كثيرا من الملوك وقهرهم، ووطئ البلدان إلى أقصى الصين وبنى السدّ وفعل الأفاعيل، ومات وعمره اثنتان وثلاثون سنة وسبعة أشهر، لم يسترح في شيء منها، قال مؤلف الكتاب: وهذا إن صح، فهو عجيب مفارق للعادات، والذي أظنّه، والله أعلم، أنّ مدّة ملكه أو حدة سعده هذا المقدار، ولم تحسب العلماء غير ذلك من عمره، فإن تطواف الأرض بسير الجنود مع ثقل حركتها لاحتياجها في كل منزل إلى تحصيل الأقوات والعلوفة ومصابرة من يمتنع عليه من أصحاب الحصون يفتقر إلى زمان غير زمان السير ومن المحال أن تكون له همة يقاوم بها الملوك العظماء، وعمره دون عشرين سنة، وإلى أن يتسق ملكه ويجتمع له الجند وتثبت له هيبة في النفوس وتحصل له رياسة وتجربة وعقل يقبل الحكمة التي تحكى عنه يفتقر إلى مدة أخرى مديدة، ففي أيّ زمان كان سيره في البلاد وملكه لها ثم إحداثه ما أحدث من المدن في كل قطر منها واستخلافه الخلفاء عليها؟ على أنه قد جرى في أيامنا هذه وعصرنا الذي نحن فيه في سنة سبع عشرة وثماني عشرة وستمائة من التتر الواردين من أرض الصين ما لو استمرّ لملكوا الدنيا كلها في أعوام يسيرة، فإنهم ساروا من أوائل أرض الصين إلى أن خرجوا من باب الأبواب وقد ملكوا وخرّبوا من البلاد الإسلامية ما يقارب نصفها، لأنهم ملكوا ما وراء النهر وخراسان وخوارزم وبلاد سجستان ونواحي غزنة وقطعة من السند وقومس وأرض الجبل بأسره غير أصبهان وطبرستان وأذربيجان وأرّان وبعض أرمينية وخرجوا من الدربند، كلّ ذلك في أقل من عامين. وقتلوا أهل كل مدينة ملكوها ثم خذلهم الله وردهم من حيث جاءوا، ثم إنّهم بعد خروجهم من الدربند ملكوا بلاد الخزر واللّان وروس وسقسين وقتلوا القبجاق في بواديهم حتى انتهوا إلى بلغار في نحو عام آخر فكأن هذا عضد قصة الإسكندر، على أنّ الإسكندر كان إذا ملك البلاد عمرها واستخلف عليها، وهذا يفتقر إلى زمان غير زمان الخراب فقط، قال أهل السير: بنى الإسكندر ثلاث عشرة مدينة وسمّاها كلها باسمه ثم تغيرت أساميها بعده، وصار لكل واحدة منها اسم جديد، فمنها الإسكندرية التي بناها في باورنقوس ومنها الإسكندرية التي بناها تدعى المحصّنة ومنها الإسكندرية التي بناها ببلاد الهند ومنها الإسكندرية التي في جاليقوس ومنها الإسكندرية التي في بلاد السّقوياسيس ومنها الإسكندرية التي على شاطئ النهر الأعظم ومنها الإسكندرية التي بأرض بابل ومنها الإسكندرية التي هي ببلاد الصّغد وهي سمرقند، ومنها الإسكندرية التي تدعى مرغبلوس وهي مرو، ومنها الإسكندرية التي في مجاري الأنهار بالهند ومنها الإسكندرية التي سميت كوش وهي بلخ، ومنها الإسكندرية العظمى التي ببلاد مصر، فهذه ثلاث عشرة إسكندرية نقلتها من كتاب ابن الفقيه كما كانت فيه مصورة، وقرأت في كتاب الحافظ أبي سعد:
أنشدني أبو محمد عبد الله بن الحسن بن محمد الإيادي من لفظه بالإسكندرية قرية بين حلب وحماة، قال الأديب الأبيوردي:
فيا ويح نفسي لا أرى الدهر منزلا ... لعلوة، إلّا ظلّت العين تذرف
ولو دام هذا الوجد لم يبق عبرة ... ولو أنني من لجّة البحر أغرف
والإسكندرية أيضا: قرية على دجلة بإزاء الجامدة بينها وبين واسط خمسة عشر فرسخا، ينسب إليها أحمد ابن المختار بن مبشّر بن محمد بن أحمد بن عليّ بن المظفّر أبو بكر الإسكندراني من ولد الهادي بالله أمير المؤمنين، تفقّه على مذهب الشافعي، رضي الله عنه، وكان أديبا فاضلا خيّرا قدم بغداد في سنة 510 متظلّما من عامل ظلمه، فسمع منه أبو الفضل محمد بن ناصر الحافظ وغيره أبياتا من شعره، قاله صاحب الفيصل.
ومنها الإسكندرية قرية بين مكة والمدينة ذكرها الحافظ أبو عبد الله بن النّجّار في معجمه وأفادنيها من لفظه، وجميع ما ذكرنا من المدن ليس فيها ما يعرف الآن بهذا الاسم إلا الإسكندرية العظمى التي بمصر، قال المنجّمون: طول الإسكندرية تسع وستون درجة ونصف، وعرضها ست وثلاثون درجة وثلث، وفي زيج أبي عون: طول الإسكندرية إحدى وخمسون درجة وعرضها إحدى وثلاثون درجة، وهي في الإقليم الثالث، وذكر آخر أنّ الإسكندرية في الإقليم الثاني، وقال: طولها إحدى وخمسون درجة وعشرون دقيقة وعرضها إحدى وثلاثون درجة، واختلفوا في أول من أنشأ الإسكندرية التي بمصر اختلافا كثيرا نأتي منه بمختصر لئلّا نملّ بالإكثار:
ذهب قوم إلى أنها إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد. وقد روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنّه قال: خير مسالحكم الإسكندرية. ويقال: إنّ الإسكندر والفرما أخوان، بنى كلّ واحد منهما مدينة بأرض مصر وسمّاها باسمه، ولما فرغ الإسكندر من مدينته، قال: قد بنيت مدينة إلى الله فقيرة، وعن الناس غنيّة، فبقيت بهجتها ونضارتها إلى اليوم، وقال الفرما لما فرغ من مدينته:
قد بنيت مدينة عن الله غنيّة وإلى الناس فقيرة، فذهب نورها فلا يمرّ يوم إلّا وشيء منها ينهدم، وأرسل الله عليها الرمال فدمّتها إلى أن دثرت وذهب أثرها.
وعن الأزهر بن معبد قال: قال لي عمر بن عبد العزيز: أين تسكن من مصر؟ قلت: أسكن الفسطاط، فقال: أفّ أمّ نتن! أين أنت عن الطيبة؟
قلت أيّتهنّ هي؟ قال: الإسكندرية، وقيل: إنّ الإسكندر لما همّ ببناء الإسكندرية دخل هيكلا عظيما كان لليونانيّين فذبح فيه ذبائح كثيرة وسأل ربّه أن يبيّن له أمر هذه المدينة هل يتمّ بناؤها أم هل يكون أمرها إلى خراب؟ فرأى في منامه كأن رجلا قد ظهر له من الهيكل، وهو يقول له: إنّك تبني مدينة يذهب صيتها في أقطار العالم ويسكنها من الناس ما لا يحصى عددهم، وتختلط الرياح الطيبة بهوائها، ويثبت حكم أهلها وتصرف عنها السّموم والحرور وتطوى عنها قوّة الحرّ والبرد والزمهرير ويكتم عنها الشرور حتى لا يصيبها من الشياطين خبل وإن جلبت عليها ملوك الأرض بجنودهم وحاصروها لم يدخل عليها ضرر. فبناها وسمّاها الإسكندرية ثم رحل عنها بعد ما استتمّ بناءها فجال الأرض شرقا وغربا، ومات بشهرزور وقيل ببابل وحمل إلى الإسكندرية فدفن فيها.
وذكر آخرون أنّ الذي بناها هو الإسكندر الأوّل ذو القرنين الرومي، واسمه أشك بن سلوكوس، وليس هو الإسكندر بن فيلفوس، وأن الإسكندر الأول هو الذي جال الأرض وبلغ الظّلمات وهو صاحب موسى والخضر، عليهما السلام، وهو الذي بنى السّدّ، وهو الذي لما بلغ إلى موضع لا ينفذه أحد صوّر فرسا من نحاس وعليه فارس من نحاس ممسك يسرى يديه على عنان الفرس وقد مدّ يمناه وفيها مكتوب: ليس ورائي مذهب. وزعموا أنّ بينه وبين الإسكندر الأخير صاحب دارا المستولي على أرض فارس وصاحب أرسطاطاليس الحكيم الذي زعموا أنّه عاش اثنتين وثلاثين سنة دهر طويل وأنّ الأوّل كان مؤمنا كما قص الله عنه في كتابه وعمّر عمرا طويلا وملك الأرض، وأما الأخير فكان يرى رأي الفلاسفة ويذهب إلى قدم العالم كما هو رأي أستاذه أرسطاطاليس، وقتل دارا ولم يتعدّ ملكه الروم وفارس. وذكر محمد بن إسحاق أنّ يعمر بن شدّاد بن عاد بن عوض ابن إرم بن سام بن نوح، عليه السلام، هو الذي أنشأ الإسكندرية وهي كنيسة حنس، وزبر فيها: أنا يعمر بن شداد أنشأت هذه المدينة وبنيت قناطرها ومعابرها قبل أن أضع حجرا على حجر، وأجريت ماءها لأرفق بعمّالها حتى لا يشقّ عليهم نقل الماء، وصنعت معابر لممرّ أهل السّبيل وصيّرتها إلى البحر وفرّقتها عند القبّة يمينا وشمالا. وكان يعمل فيها تسعون ألفا لا يرون لهم ربّا إلا يعمر بن شداد، وكان تاريخ الكتاب ألفا ومائتي سنة.
وقال ابن عفير: ان أول من بنى الإسكندرية جبير المؤتفكي وكان قد سخّر بها سبعين ألف بنّاء وسبعين ألف مــخندق وسبعين ألف مقنطر فعمّرها في مائتي سنة وكتب على العمودين اللذين عند البقرات بالإسكندرية، وهما أساطين نحاس يعرفان بالمسلّتين:
أنا جبير المؤتفكي عمرت هذه المدينة في شدّتي وقوّتي حين لا شيبة ولا هرم أضناني، وكنزت أموالها في مراجل جبيريّة وأطبقته بطبق من نحاس وجعلته داخل البحر، وهذان العمودان بالإسكندرية عند مسجد الرحمة، وروي أيضا أنّه كان مكتوبا عليهما بالحميرية: أنا شداد بن عاد الذي نصب العماد وجنّة الأجناد وسدّ بساعده الواد بنيت هذه الأعمدة في شدّتي وقوّتي إذ لا موت ولا شيب، وكنزت كنزا على البحر في خمسين ذراعا لا تصل إليه إلا أمة هي آخر الأمم، وهي أمّة محمد، صلى الله عليه وسلم. ويقال: إنما دعا جبيرا المؤتفكي إلى بنائها أنّه وجد بالقرب منها في مغارة على شاطئ البحر تابوتا من نحاس ففتحه فوجد فيه تابوتا من فضّة، ففتحه فإذا فيه درج من حجر الماس، ففتحه فإذا فيه مكحلة من ياقوتة حمراء مرودها عرق زبرجد أخضر فدعا بعض غلمانه فكحّل إحدى عينيه بشيء مما كان في تلك المكحلة فعرف مواضع الكنوز ونظر إلى معادن الذهب ومغاص الدّرّ، فاستعان بذلك على بناء الإسكندرية وجعل فيها أساطين الذهب والفضة وأنواع الجواهر حتى إذا ارتفع بناؤها مقدار ذراع أصبح وقد ساخ في الأرض، فأعاده أيضا فأصبح وقد ساخ فمكث على ذلك مائة سنة كلما ارتفع البناء ذراعا أصبح سائخا في الأرض فضاق ذرعا بذلك، وكان من أهل تلك الأرض راع يرعى على شاطئ البحر وكان يفقد في كل ليلة شاة من غنمه إلى أن أضرّ به ذلك فارتصد ليلة، فبينما هو يرصد إذا بجارية قد خرجت من البحر كأجمل ما يكون من النساء فأخذت شاة من غنمه فبادر إليها وأمسكها قبل أن تعود إلى البحر وقبض على شعرها فامتنعت عليه ساعة ثم قهرها وسار بها إلى منزله فأقامت عنده مدّة لا تأكل إلّا اليسير ثم واقعها فأنست به وبأهله وأحبّتهم ثم حملت وولدت فازداد أنسها وأنسهم بها، فشكوا إليها يوما ما يقاسونه من تهدّم بنائهم وسيوخه كلما علّوه وأنهم إذا خرجوا بالليل اختطفوا، فعملت لهم الطلسمات وصوّرت لهم الصّور فاستقرّ البناء وتمّ أمر المدينة وأقام بها جبير المؤتفكي خمسمائة سنة ملكا لا ينازعه أحد، وهو الذي نصب العمودين اللذين بها ويسمّيان المسلّتين. وكان أنفذ في قطعهما وحملهما إلى جبل بريم الأحمر سبعمائة عامل، فقطعوهما وحملوهما، ونصبهما في مكانهما غلام له يقال له قطن بن جارود المؤتفكي وكان أشد من رؤي في الخلق، فلما نصبهما على السّرطانين النّحاس جعل بإزائهما بقرات نحاس كتب عليها خبره وخبر المدينة وكيف بناها ومبلغ النفقة عليها والمدة، ثم غزاه رومان بن تمنع الثّمودي فهزمه وقتل أصحابه قتلا ذريعا وأقام عمودا بالقرب منهما وكتب عليه:
أنا رومان الثمودي صنّفت أصناف هذه المدينة وأصناف مدينة هرقل الملك بالدوام على الشهور والأعوام ما اختلف ابنا سمير، وبقيت حصاة في ثبير، وأنا غيّرت كتاب جبير الشديد ونشرته بمناشير الحديد وستجدون قصّتي ونعتي في طرف العمود، فولد رومان بزيعا فملك الإسكندرية بعده خمسين سنة لم يحدث فيها شيئا، ثم ملك بعده ابنه رحيب، وهو الذي بنى الساطرون بالإسكندرية وزبر على حجر منه: أنا رحيب بن بزيع الثمودي بنيت هذه البنية في قوّتي وشدّتي وعمّرتها في أربعين سنة على رأس ست وتسعين سنة من ملكي، وولد رحيب مرّة، وولد مرة موهبا ملك بعد أبيه مائتي سنة وغزا أنيس بن معدي كرب العادي موهبا بالإسكندرية وملكها بعده، ثم ملكها بعده يعمر بن شدّاد بن جنّاد بن صيّاد بن شمران بن ميّاد بن شمر بن يرعش فغزاه ذفافة بن معاوية بن بكر العمليقي فقتل يعمر وملك الإسكندرية، وهو أول من سمّي فرعون بمصر، وهو الذي وهب هاجر أمّ إسماعيل، عليه السلام، إلى ابراهيم، عليه السلام، وهذه أخبار نقلناها كما وجدناها في كتب العلماء، وهي بعيدة المسافة من العقل لا يؤمن بها إلّا من غلب عليه الجهل، والله أعلم.
ولأهل مصر بعد إفراط في وصف الإسكندرية وقد أثبتها علماؤهم ودوّنوها في الكتب، فيها وهم، ومنها ما ذكره الحسن بن ابراهيم المصري قال: كانت الإسكندرية لشدّة بياضها لا يكاد يبين دخول الليل فيها إلّا بعد وقت، فكان الناس يمشون فيها وفي أيديهم خرق سود خوفا على أبصارهم، وعليهم مثل لبس الرّهبان السواد، وكان الخيّاط يدخل الخيط في الإبرة بالليل، وأقامت الإسكندرية سبعين سنة ما يسرج فيها ولا يعرف مدينة على عرضها وطولها وهي شطرنجية ثمانية شوارع في ثمانية، قلت: أما صفة بياضها فهو إلى الآن موجود، فإن ظاهر حيطانها شاهدناها مبيّضة جميعها إلّا اليسير النادر لقوم من الصعاليك، وهي مع ذلك مظلمة نحو جميع البلدان. وقد شاهدنا كثيرا من البلاد التي تنزل بها الثلوج في المنازل والصحارى وتساعدها النجوم بإشراقها عليها إذا أظلم الليل أظلمت كما تظلم جميع البلاد لا فرق بينها، فكيف يجوز لعاقل أن يصدّق هذا ويقول به؟ قال: وكان في الإسكندرية سبعة حصون وسبعة خنادق، قال: وكتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: إني فتحت مدينة فيها اثنا عشر ألف بقّال يبيعون البقل الأخضر وأصبت فيها أربعين ألف يهودي عليهم الجزية. وروي عن عبد العزيز بن مروان بن الحكم لما ولي مصر وبلغه ما كانت الإسكندرية عليه استدعى مشايخها، وقال:
أحبّ أن أعيد بناء الإسكندرية على ما كانت عليه فأعينوني على ذلك وأنا أمدّكم بالأموال والرجال.
قالوا: أنظرنا أيها الأمير حتى ننظر في ذلك. وخرجوا من عنده وأجمعوا على أن حفروا ناووسا قديما وأخرجوا منه رأس آدمي وحملوه على عجلة إلى المدينة، فأمر بالرأس فكسر وأخذ ضرس من أضراسه فوجد وزنه عشرين رطلا على ما به من النخر والقدم، فقالوا: إذا جئتنا بمثل هؤلاء الرجال نعيد عمارتها على ما كانت، فسكت. ويقال: إن المعاريج التي بالإسكندرية مثل الدّرج كانت مجالس العلماء يجلسون عليها على طبقاتهم فكان أوضعهم علما الذي يعمل الكيمياء من الذهب والفضة، فإن مجلسه كان على الدّرجة السّفلى. وأما خبر المنارة فقد رووا لها أخبارا هائلة وادّعوا لها دعاوى عن الصدق عادلة وعن الحق مائلة، فقالوا: إنّ ذا القرنين لما أراد بناء منارة الإسكندرية أخذ وزنا معروفا من حجارة ووزنا من آجرّ ووزنا من حديد ووزنا من نحاس ووزنا من رصاص ووزنا من قصدير ووزنا من حجارة الصّوّان ووزنا من ذهب ووزنا من فضة وكذلك من جميع الأحجار والمعادن، ونقع جميع ذلك في البحر حولا ثم أخرجه فوجده قد تغير كله وحال عن حاله ونقصت أوزانه إلّا الزجاج فإنه لم يتغير ولم ينقص، فأمر أن يجعل أساس المنارة من الزجاج، وعمل على رأس المنارة مرآة ينظر فيها الناظر فيرى المراكب إذا خرجت من أفرنجة أو من القسطنطينية أو من سائر البلاد لغزو الإسكندرية، فأضرّ ذلك بالروم فلم يقدروا على غزوها. وكانت فيها حمّة تنفع من البرص ومن جميع الأدواء، وكان على الرّوم ملك يقال له سليمان فظهر البرص في جسمه فعزم الرّوم على خلعه والاستبدال منه، فقال: أنظروني أمض إلى حمّة الإسكندرية وأعود فإن برئت وإلّا شأنكم وما قد عزمتم عليه، قال: وكان فعله هذا من إظهار البرص بجسمه حيلة ومكرا، وإنما أراد قلع المرآة من المنارة ليبطل فعلها، فسار إليها في ألف مركب، وكان من شرط هذه الحمة أن لا يمنع منها أحد يريد الاستشفاء بها، فلما سار إليها فتحوا له أبوابها الشارعة إلى البحر فدخلها، وكانت الحمة في وسط المدينة بإزاء المعاريج التي تجلس العلماء عليها، فاستحم في مائها أياما. ثم ذكر أنه قد عوفي من دائه وذهب ما كان به من بلوائه. ولما أشرف على هذه الحمة وما تشفي من الأدواء وكان قد تمكّن من البلد بكثرة رجاله، قال: هذه أضرّ من المرآة. ثم أمر بها فغوّرت وأمر أن تقلع المرآة ففعل وأنفذ مركبا إلى القسطنطينية وآخر إلى أفرنجة وأمر من أشرف على المنارة ونظر إلى المركبين إذا دخلا القسطنطينية وأفرنجة وخرجا منها فأعلم أنهما لما بعدا عن الإسكندرية يسيرا غابا عنه، فعاد إلى بلاده وقد أمن غائلة المرآة.
وقيل: إن أول من عمر المنارة امرأة يقال لها دلوكة بنت ريّا، وسيأتي ذكرها في هذا الكتاب في حائط العجوز وغيره. وقيل: بل عمرتها ملكة من ملوك الرّوم، يقال لها قلبطرة، وهي في زعم بعضهم التي ساقت الخليج إلى الإسكندرية حق جاءت به إلى مدينتها، وكان الماء لا يصل إلّا إلى قرية يقال لها كسا، والأخبار والأحاديث عن مصر وعن الإسكندرية ومنارتها من باب حدّث عن البحر ولا حرج، وأكثرها باطل وتهاويل لا يقبلها إلّا جاهل، ولقد دخلت الإسكندرية وطوّفتها فلم أر فيها ما يعجب منه إلّا عمودا واحدا يعرف الآن بعمود السّواري تجاه باب من أبوابها يعرف بباب الشجرة، فإنه عظيم جدا هائل كأنه المنارة العظيمة، وهو قطعة واحدة مدوّر منتصب على حجر عظيم كالبيت المربّع قطعة واحدة أيضا وعلى رأس العمود حجر آخر مثل الذي في أسفله، فهذا يعجز أهل زماننا عن معالجة مثله في قطعه من مقطعه وجلبه من موضعه ثم نصبه على ذلك الحجر ورفع الآخر إلى أعلاه ولو اجتمع عليه أهل الإسكندرية بأجمعهم، فهو يدل على شدة حامليه وحكمة ناصبية وعظمة همة الآمر به. وحدثني الوزير الكبير الصاحب العالم جمال الدين القاضي الأكرم أبو الحسن علي بن يوسف بن إبراهيم الشيباني القفطي، أدام الله أيّامه، ثم وقفت على مثل ما حكاه سواء في بعض الكتب وهو كتاب ابن الفقيه وغيره: أنّه شاهد في جبل بأرض أسوان عمودا قد نقر وهندم في موضعه من الجبل طوله ودوره ولونه مثل هذا العمود المذكور، كأن المنية عاجلت بالملك الذي أمر بعمله فبقي على حاله.
قال أحمد بن محمد الهمذاني: وكانوا ينحتون السواري من جبال أسوان وبينها وبين الإسكندرية مسيرة شهر للبريد ويحملونها على خشب الأطواف في النيل، وهو خشب يركّب بعضه على بعض وتحمل الأعمدة وغيرها عليه، وأما منارة الإسكندرية فقد قدمنا إكثارهم في وصفها ومبالغتهم في عظمها وتهويلهم في أمرها وكل ذلك كذب لا يستحيي حاكيه ولا يراقب الله راويه، ولقد شاهدتها في جماعة من العلماء وكلّ عاد منا متعجبا من تخرّص الرّواة، وذلك إنما هي بنيّة مربّعة شبيهة بالحصن والصّومعة مثل سائر الأبنية، ولقد رأيت ركنا من أركانها وقد تهدّم فدعمه الملك الصالح ابن رزيك أو غيره من وزراء المصريين، واستجدّه فكان أحكم وأتقن وأحسن من الذي كان قبله، وهو ظاهر فيه كالشامة لأن حجارة هذا المستجدّ أحكم وأعظم من القديم وأحسن وضعا ورصفا، وأما صفتها التي شاهدتها فإنها حصن عال على سنّ جبل مشرف في البحر في طرف جزيرة بارزة في ميناء الإسكندرية، بينها وبين البرّ نحو شوط فرس وليس إليها طريق إلّا في ماء البحر الملح، وبلغني أنه يخاض من إحدى جهاته الماء إليها، والمنارة مربّعة البناء ولها درجة واسعة يمكن الفارس أن يصعدها بفرسه، وقد سقفت الدرج بحجارة طوال مركبة على الحائطين المكتنفي الدّرجة فيرتقى إلى طبقة عالية يشرف منها على البحر بشرافات محيطة بموضع آخر، كأنه حصن آخر مربّع يرتقى فيه بدرج أخرى إلى موضع آخر، يشرف منه على السطح الأول بشرفات أخرى، وفي هذا الموضع قبة كأنها قبة الديدبان وليس فيها، كما يقال، غرف كثيرة ومساكن واسعة يضل فيها الجاهل بها، بل الدرجة مستديرة بشيء كالبئر فارغ، زعموا أنه مهلك وأنه إذا ألقي فيها الشيء لا يعرف قراره، ولم أختبره والله اعلم به، ولقد تطلّبت الموضع الذي زعموا أن المرآة كانت فيه فما وجدته ولا أثره، والذي يزعمون انها كانت فيه هو حائط بينه وبين الأرض نحو مائة ذراع أو أكثر، وكيف ينظر في مرآة بينها وبين الناظر فيها مائة ذراع أو أكثر، ومن أعلى المنارة؟
فلا سبيل للناظر في هذا الموضع، فهذا الذي شاهدته وضبطته وكلّ ما يحكى غير هذا فهو كذب لا أصل له. وذكر ابن زولاق أنّ طول منارة الإسكندرية مائتا ذراع وثلاثون ذراعا وأنها كانت في وسط البلد وإنما الماء طفح على ما حولها فأخربه وبقيت هي لكون مكانها كان مشرفا على غيره.
وفتحت الإسكندرية سنة عشرين من الهجرة في أيام عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، على يد عمرو بن العاص بعد قتال وممانعة، فلما قتل عمر وولي عثمان، رضي الله عنه، ولّى مصر جميعها عبد الله بن سعد بن أبي سرح أخاه من الرضاع، فطمع أهل الإسكندرية ونقضوا، فقيل لعثمان: ليس لها إلا عمرو بن العاص فإن هيبته في قلوب أهل مصر قوية. فأنفذه عثمان ففتحها ثانية عنوة وسلمها إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح وخرج من مصر، فما رجع إليها إلا في أيام معاوية. حدثني القاضي المفضل أبو الحجاج يوسف بن أبي طاهر إسماعيل بن أبي الحجاج المقدسي عارض الجيش لصلاح الدين يوسف بن أيوب، قال: حدثني الفقيه أبو العباس أحمد بن محمد الأبّي، وأبّة من بلاد افريقية، قال: اذكر ليلة وانا امشي مع الأديب ابي بكر احمد بن محمد العيدي على ساحل بحر عدن، وقد تشاغلت عن الحديث معه فسألني: في أي شيء أنت مفكر؟ فعرّفته أنني قد عملت في تلك الساعة شعرا، وهو هذا:
وأنظر البدر مرتاحا لرؤيته، ... لعلّ طرف الذي أهواه ينظره
فقال مرتجلا:
يا راقد الليل بالإسكندرية لي ... من يسهر الّليل، وجدا بي، وأسهره
ألاحظ النجم تذكارا لرؤيته، ... وإن مرى دمع أجفاني تذكّره
وأنظر البدر مرتاحا لرؤيته، ... لعلّ عين الذي أهواه تنظره قلت: ولو استقصينا في أخبار الإسكندرية جميع ما بلغنا لجاء في غير مجلّد، وهذا كاف بحمد الله.

أَطْرَابَزُنْدَة

أَطْرَابَزُنْدَة:
بالفتح ثم السكون، وراء، وألف، وباء موحدة مفتوحة، وزاي مضمومة، ونون ساكنة، ودال مهملة، وهاء: مدينة من أعيان مدن الروم على ضفّة بحر القسطنطينية الشرقي، وهو المعروف ببحر بنطس، وإلى هذه المدينة منتهى جبل القبق ثم يقطعه البحر، وهي مشرفة على البحر، وماؤه محيط بها كالــخندق محفور حولها بأسرها، وعليه قنطرة إذا دهمهم عدوّ قطعوها، ولها رستاق واسع، ومقابلها مدينة كراسنده على ساحل هذا البحر الغربي، وأكثر أهلها رهبان، وهي من أعمال القسطنطينية، وولايتها كلها جبال وعرة.

أُنَى

أُنَى:
بالضم، والتخفيف، والقصر: واد قرب السواحل بين الصّلا ومدين يطؤه حجاج مصر، وفيه عين يقال لها عين أنى، قال كثيّر:
يجتزن أودية البضيع، جوازعا ... أجواز عين أنى فنعف قبال
وبئر أنى بالمدينة من آبار بني قريظة، وهناك نزل النبي، صلى الله عليه وسلم، لما فرغ من غزوة الــخندق وقصد بني النضير، عن نصر.

بابُ التِّبْنِ

بابُ التِّبْنِ:
بلفظ التبن الذي تأكله الدوابّ: اسم محلة كبيرة كانت ببغداد على الــخندق بإزاء قطيعة أم جعفر، وهي الآن خراب صحراء يزرع فيها، وبها قبر عبد الله بن أحمد بن حنبل، رضي الله عنه، دفن هناك بوصية منه، وذاك أنه قال: قد صحّ عندي أنّ بالقطيعة نبيّا مدفونا، ولأن أكون في جوار نبيّ أحب إليّ من أن أكون في جوار أبي، وبلصق هذا الموضع مقابر قريش التي فيها قبر موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن عليّ زين العابدين ابن الإمام الحسين ابن الإمام عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنهم، ويعرف قبره بمشهد باب التبن، مضاف إلى هذا الموضع، وهو الآن محلة
عامرة ذات سور، مفردة.

بَكَاسُ

بَكَاسُ:
بتخفيف الكاف: قلعة من نواحي حلب على شاطئ العاصي، ولها عين تخرج من تحتها، بينها وبين ثغور المصّيصة، تقابلها قلعة أخرى يقال لها الشّغر، بينهما واد كالــخندق يقال له الشّغر. وبكاس معطوف، ولا يكادون يفردون واحدة منهما، وهي في أيامنا هذه لصاحب حلب الملك العزيز محمد بن الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب.

بُنْجِيكَتُ

بُنْجِيكَتُ:
بضم أوله، وسكون ثانيه، وكسر الجيم، وياء ساكنة، وفتح الكاف، وتاء مثناة، قال الإصطخري: بنجيكت أكبر مدينة بأشروسنة، وهي التي يسكنها ولاة أشروسنة، يقدّر رجالها بعشرين ألفا، ويشتمل خندقــها على دور وبساتين وكروم وقصور وزروع، وقال أبو سعد: بنجيكت قرية من قرى سمرقند على ستة فراسخ، منها أبو مسلم مؤمن بن عبد الله البنجيكتي، يروي عن محمد بن نصر البلخي.

جَمَاجِمُو

جَمَاجِمُو:
كذا يتلفّظ بها أهل جرجان ويكتبونها جماجم: سكة بجرجان قرب الــخندق ينسب إليها أبو عليّ الحسن بن يحيى بن نصر الجماجمي، يروي عن العباس بن عيسى العقيلي، روى عنه أبو نصر محمد ابن يوسف الطوسي، وله مصنّفات.

الخَوَرْنَقُ

الخَوَرْنَقُ:
بفتح أوله وثانيه، وراء ساكنة، ونون مفتوحة، وآخره قاف: بلد بالمغرب، قرأت في كتاب النوادر الممتعة لأبي الفتح بن جنّي: أخبرنا أبو صالح السليل بن أحمد عن أبي عبد الله محمد بن العباس اليزيدي قال: قال الأصمعي سألت الخليل ابن أحمد عن الخورنق فقال ينبغي أن يكون مشتقّا من الخرنق الصغير من الأرانب، قال الأصمعي:
ولم يصنع شيئا إنما هو من الخورنقاه، بضم الخاء وسكون الواو وفتح الراء وسكون النون والقاف، يعني موضع الأكل والشرب بالفارسية، فعرّبته العرب فقالت الخورنق ردّته إلى وزن السّفرجل، قال ابن جنّي: ولم يؤت الخليل من قبل الصنعة لأنه أجاب على أن الخورنق كلمة عربية، ولو كان عربيّا لوجب أن تكون الواو فيه زائدة كما ذكر لأن الواو لا تجيء أصلا في ذوات الخمسة على هذا الحدّ فجرى مجرى الواو كذلك، وإنما أتي من قبل السماع، ولو تحقق ما تحققه الأصمعي لما صرف الكلمة، أنّى وسيبويه إحدى حسناته؟
والخورنق أيضا: قرية على نصف فرسخ من بلخ، يقال لها خبنك، وهو فارسيّ معرب من خرنكاه، تفسيره موضع الشرب، ينسب إليها أبو الفتح محمد ابن محمد بن عبد الله بن محمد البسطامي الخورنقي، وهو أخو عمر البسطامي الخورنقي، كان يسكن الخورنق فنسب إليها، سمع أباه أبا الحسن بن أبي محمد وأبا هريرة عبد الرحمن بن عبد الملك بن يحيى ابن أحمد القلانسي وأبا حامد أحمد بن محمد الشجاعي السرخسي وأبا القاسم أحمد بن محمد الخليلي وأبا إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الأصبهاني التاجر، وكانت له إجازة من أبي علي السرخسي، كتب عنه أبو سعد، وكانت ولادته في العشر الأخير من شهر رمضان سنة 468 ببلخ، ووفاته بالخورنق في السابع عشر من رمضان سنة 551، وأما الخورنق الذي ذكرته العرب في أشعارها وضربت به الأمثال في أخبارها فليس بأحد هذين إنما هو موضع بالكوفة، قال أبو منصور: هو نهر، وأنشد:
وتجبى إليه السّيلحون ودونها ... صريفون في أنهارها والخورنق
قال: وهكذا قال ابن السكّيت في الخورنق، والذي عليه أهل الأثر والأخبار أن الخورنق قصر كان بظهر الحيرة، وقد اختلفوا في بانيه فقال الهيثم بن عدي:
الذي أمر ببناء الخورنق النعمان بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي بن نصر بن الحارث بن عمرو بن لخم ابن عدي بن مرّة بن أدد بن زيد بن كهلان بن سبأ ابن يعرب بن قحطان، ملك ثمانين سنة وبنى الخورنق في ستين سنة، بناه له رجل من الروم يقال له سنمّار، فكان يبني السنتين والثلاث ويغيث الخمس سنين وأكثر من ذلك وأقل، فيطلب فلا يوجد، ثم يأتي فيحتجّ، فلم يزل يفعل هذا الفعل ستين سنة حتى فرغ من بنائه، فصعد النعمان على رأسه ونظر إلى البحر تجاهه والبرّ خلفه فرأى الحوت والضبّ والضبّي والنخل فقال: ما رأيت مثل هذا البناء قط! فقال له سنمّار: إني أعلم موضع آجرّة لو زالت لسقط القصر كله، فقال النعمان: أيعرفها أحد غيرك؟ قال:
لا، قال: لا جرم لأدعنّها وما يعرفها أحد! ثم أمر به فقذف من أعلى القصر إلى أسفله فتقطع، فضربت العرب به المثل، فقال شاعر:
جزاني، جزاه الله شرّ جزائه، ... جزاء سنمّار، وما كان ذا ذنب
سوى رمّه البنيان، ستين حجّة، ... يعلّ عليه بالقراميد والسكب
فلما رأى البنيان ثمّ سحوقه، ... وآض كمثل الطّود والشامخ الصّعب
فظنّ سنمّار به كلّ حبوة، ... وفاز لديه بالمودّة والقرب
فقال: اقذفوا بالعلج من فوق رأسه! ... فهذا، لعمر الله، من أعجب الخطب
وقد ذكرها كثير منهم وضربوا سنمّار مثلا، وكان النعمان هذا قد غزا الشام مرارا وكان من أشدّ الملوك بأسا، فبينما هو ذات يوم جالس في مجلسه في الخورنق فأشرف على النّجف وما يليه من البساتين والنخل والجنان والأنهار مما يلي المغرب وعلى الفرات مما يلي المشرق والخورنق مقابل الفرات يدور عليه على عاقول كالــخندق فأعجبه ما رأى من الحضرة والنور والأنهار فقال لوزيره: أرأيت مثل هذا المنظر وحسنه؟
فقال: لا والله أيها الملك ما رأيت مثله لو كان يدوم! قال: فما الذي يدوم؟ قال: ما عند الله في الآخرة، قال: فبم ينال ذلك؟ قال: بترك هذه الدنيا وعبادة الله والتماس ما عنده، فترك ملكه في ليلته ولبس المسوح وخرج مختفيا هاربا، ولا يعلم به أحد ولم يقف الناس على خبره إلى الآن، فجاؤوا بابه بالغداة على رسمهم فلم يؤذن لهم عليه كما جرت العادة، فلما أبطأ الإذن أنكروا ذلك وسألوا عن الأمر فأشكل الأمر عليهم أياما ثم ظهر تخلّيه من الملك ولحاقه بالنّسك في الجبال والفلوات، فما رؤي بعد ذلك، ويقال: إن وزيره صحبه ومضى معه، وفي ذلك يقول عدي بن زيد:
وتبيّن ربّ الخورنق، إذ ... أشرف يوما، وللهدى تفكير
سرّه ما رأى وكثرة ما يم ... لك والبحر، معرضا، والسدير
فارعوى قلبه وقال: فما غب ... طة حيّ إلى الممات يصير!
ثم بعد الفلاح والملك والإم ... مة وارتهم هناك القبور
ثم صاروا كأنهم ورق جف ... ف، فألوت به الصّبا والدّبور
وقال عبد المسيح بن عمرو بن بقيلة عند غلبة خالد ابن الوليد على الحيرة في خلافة أبي بكر، رضي الله عنه:
أبعد المنذرين أرى سواما ... تروّح بالخورنق والسدير
تحاماه فوارس كلّ حيّ، ... مخافة ضيغم عالي الزّئير
فصرنا، بعد هلك أبي قبيس، ... كمثل الشاء في اليوم المطير
تقسّمنا القبائل من معدّ ... كأنّا بعض أجزاء الجزور
وقال ابن الكلبي: صاحب الخورنق والذي أمر ببنائه بهرام جور بن يزدجرد بن سابور ذي الأكتاف، وذلك أن يزدجرد كان لا يبقى له ولد وكان قد لحق ابنه بهرام جور في صغره علّة تشبه الاستسقاء فسأل عن منزل مريء صحيح من الأدواء والأسقام ليبعث بهرام إليه خوفا عليه من العلّة، فأشار عليه أطبّاؤه أن يخرجه من بلده إلى أرض العرب ويسقى أبوال الإبل وألبانها، فأنفذه إلى النعمان وأمره أن يبني له قصرا مثّله على شكل بناء الخورنق، فبناه له وأنزله إياه وعالجه حتى برأ من مرضه، ثم استأذن أباه في
المقام عند النعمان فأذن له، فلم يزل عنده نازلا قصره الخورنق حتى صار رجلا ومات أبوه فكان من أمره في طلب الملك حتى ظفر به ما هو متعارف مشهور، وقال الهيثم بن عدي: لم يقدم أحد من الولاة الكوفة إلا وأحدث في قصرها المعروف بالخورنق شيئا من الأبنية، فلما قدم الضّحّاك بن قيس بني فيه مواضع وبيّضه وتفقّده، فدخل إليه شريح القاضي فقال:
يا أبا أميّة أرأيت بناء أحسن من هذا؟ قال: نعم، السماء وما بناها! قال: ما سألتك عن السماء، أقسم لتسبّن أبا تراب، قال: لا أفعل، قال: ولم؟
قال: لأنا نعظم أحياء قريش ولا نسب موتاهم، قال: جزاك الله خيرا! وقال علي بن محمد العلوي الكوفي المعروف بالحمّاني:
سقيا لمنزلة وطيب، ... بين الخورنق والكثيب
بمدافع الجرعات من ... أكناف قصر أبي الخصيب
دار تخيّرها الملو ... ك، فهتّكت رأي اللبيب
أيام كنت، من الغواني، ... في السواد من القلوب
لو يستطعن خبأنني ... بين المخانق والجيوب
أيام كنت، وكنّ لا ... متحرّجين من الذنوب
غرّين يشتكيان ما ... يجدان بالدمع السّروب
لم يعرفا نكدا سوى ... صدّ الحبيب عن الحبيب
وقال علي بن محمد الكوفي أيضا:
كم وقفة لك بالخور ... نق ما توازى بالمواقف
بين الغدير إلى السدي ... ر إلى ديارات الأساقف
فمدارج الرهبان في ... أطمار خائفة وخائف
دمن كأن رياضها ... يكسين أعلام المطارف
وكأنما غدرانها ... فيها عشور في مصاحف
وكأنما أغصانها ... تهتزّ بالريح العواصف
طرر الوصائف يلتقين ... بها إلى طرر المصاحف
تلقى أواخرها أوا ... ئلها بألوان الرّفارف
بحريّة شتواتها، ... برّيّة منها المصائف
درّيّة الصهباء كا ... فوريّة منها المشارف

حِصْنُ مَنْصُورٍ

حِصْنُ مَنْصُورٍ:
من أعمال ديار مضر لكنه في غربي الفرات قرب سميساط، وكان مدينة عليها سور وخندق وثلاثة أبواب، وفي وسطها حصن وقلعة عليها سوران، ومن حصن منصور إلى زبطرة مرحلة، وهو منسوب إلى منصور بن جعونة بن الحارث العامري القيسي، كان تولّى بناء عمارته ومرمّته، وكان مقيما به أيام مروان بن محمد ليردّ العدوّ ومعه جند كثيف من أهل الشام والجزيرة وأرمينية، وكان منصور هذا على أهل الرّها حين امتنعوا في أول الدولة العباسية فحصرهم أبو جعفر المنصور، وهو عامل أخيه السّفّاح على الجزيرة وأرمينية، فلما فتحها هرب منصور ثم أمّن فظهر، فلما خلع عبد الله بن علي أبا جعفر المنصور ولّى منصورا شرطته، فلما هرب عبد الله إلى البصرة استخفى منصور بن جعونة فدل عليه في سنة 141، فأتي به المنصور فقتله بالرّقّة عند منصرفه من البيت المقدس، وقوم يقولون إن منصور ابن جعونة أعطي الأمان بعد هرب عبد الله بن علي فظهر ثم وجدت له كتب إلى الروم يغشّ المسلمين فيها فقتله المنصور بالرقة، ثم إن الرشيد بنى حصن منصور وأحكمه وشحنه بالرجال في أيام أبيه المهدي، وينسب إليه أبو عمرو عبد الجبّار بن نعيم بن إسماعيل الحصني، قال أبو سعد: يروي عن أبي فروة يزيد بن محمد الرّهاوي، روى عنه أبو بكر محمد ابن إبراهيم المقري، سمع منه بحصن منصور، وقال أبو بكر بن موسى: روى عن أبي رفاعة، روى عنه ابن المقري وقال ابنا عبد الجبار بن نعيم الحصني بحصن منصور، قال ابنا أبي رفاعة، قال: سمعت أبا الوليد يقول أهديت إلى مالك قارورة غالية فقبلها.
Learn Quranic Arabic from scratch with our innovative book! (written by the creator of this website)
Available in both paperback and Kindle formats.