Current Dictionary: All Dictionaries

Search results for: إليهما

حُلْوانُ

حُلْوانُ:
بالضم ثم السكون، والحلوان في اللغة الهبة، يقال: حلوت فلانا كذا مالا أحلوه حلوا وحلوانا إذا وهبت له شيئا على شيء يفعله غير الأجر، وفي الحديث: نهي عن حلوان الكاهن، والحلوان: أن يأخذ الرجل من مهر ابنته لنفسه. وحلوان في عدة مواضع: حلوان العراق، وهي في آخر حدود السواد مما يلي الجبال من بغداد، وقيل: إنها سميت بحلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة كان بعض الملوك أقطعه إياها فسميت به.
وفي كتاب الملحمة المنسوب إلى بطليموس: حلوان
طولها إحدى وسبعون درجة وخمس وأربعون دقيقة، وعرضها أربع وثلاثون درجة، بيت حياتها أول درجة من الأسد، طالعها الذراع اليماني تحت عشر درج من السرطان، يقابلها مثلها من الجدي، بيت ملكها من الحمل، عاقبتها مثلها من الميزان، وهي في الإقليم الرابع، وكانت مدينة كبيرة عامرة، قال أبو زيد: أما حلوان فإنها مدينة عامرة ليس بأرض العراق بعد الكوفة والبصرة وواسط وبغداد وسرّ من رأى أكبر منها، وأكثر ثمارها التين، وهي بقرب الجبل، وليس للعراق مدينة بقرب الجبل غيرها، وربما يسقط بها الثلج، وأما أعلى جبلها فإن الثلج يسقط به دائما، وهي وبئة ردية الماء وكبريتيته، ينبت الدفلى على مياهها، وبها رمان ليس في الدنيا مثله وتين في غاية من الجودة ويسمونه لجودته شاه انجير أي ملك التين، وحواليها عدة عيون كبريتية ينتفع بها من عدة أدواء.
وأما فتحها فإن المسلمين لما فرغوا من جلولاء ضمّ هاشم بن عتبة بن أبي وقاص وكان عمه سعد قد سيّره على مقدمته إلى جرير بن عبد الله في خيل ورتبه بجلولاء، فنهض إلى حلوان فهرب يزدجرد إلى أصبهان وفتح جرير حلوان صلحا على أن كفّ عنهم وآمنهم على ديارهم وأموالهم ثم مضى نحو الدينور فلم يفتحها وفتح قرميسين على مثل ما فتح عليه حلوان وعاد إلى حلوان فأقام بها واليا إلى أن قدم عمار بن ياسر، فكتب إليه من الكوفة أن عمر قد أمره أن يمد به أبا موسى الأشعري بالأهواز، فسار حتى لحق بأبي موسى في سنة 19، قال الواقدي: بحلوان عقب لجرير بن عبد الله البجلي، وكان قد فتح حلوان في سنة 19، وفي كتاب سيف: في سنة 16، وقال القعقاع بن عمرو التميمي:
وهل تذكرون، إذ نزلنا وأنتم ... منازل كسرى، والأمور حوائل
فصرنا لكم ردءا بحلوان بعد ما ... نزلنا جميعا، والجميع نوازل
فنحن الأولى فزنا بحلوان بعد ما ... أرنّت، على كسرى، الإما والحلائل
وقال بعض المتأخرين يذم أهل حلوان:
ما إن رأيت جواميسا مقرّنة، ... إلا ذكرت ثناء عند حلوان
قوم، إذا ما أتى الأضياف دارهم ... لم ينزلوهم ودلوهم على الخان
وينسب إلى حلوان هذه خلق كثير من أهل العلم، منهم: أبو محمد الحسن بن عليّ الخلّال الحلواني، يروي عن يزيد بن هرون وعبد الرزاق وغيرهما، روى عنه البخاري ومسلم في صحيحيهما، توفي سنة 242، وقال أعرابيّ:
تلفّتّ من حلوان، والدمع غالب، ... إلى روض نجد، أين حلوان من نجد؟
لحصباء نجد، حين يضربها الندى، ... ألذّ وأشفى للعليل من الورد
ألا ليت شعري! هل أناس بكيتهم ... لفقدهم هل يبكينّهم فقدي؟
أداوي ببرد الماء حرّ صبابة، ... وما للحشا والقلب غيرك من برد
وأما نخلتا حلوان فأول من ذكرهما في شعره فيما علمنا مطيع بن إياس الليثي، وكان من أهل فلسطين من أصحاب الحجاج بن يوسف، ذكر أبو الفرج عن أبي الحسن الأسدي حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه
عن سعيد بن سلم قال: أخبرني مطيع بن إياس أنه كان مع سلم بن قتيبة بالرّيّ، فلما خرج إبراهيم بن الحسن كتب إليه المنصور يأمره باستخلاف رجل على عمله والقدوم عليه في خاصته على البريد، قال مطيع ابن إياس: وكانت لي جارية يقال لها جوذابة كنت أحبّها، فأمرني سلم بالخروج معه فاضطررت إلى بيع الجارية فبعتها وندمت على ذلك بعد خروجي وتتبعتها نفسي، فنزلنا حلوان فجلست على العقبة أنتظر ثقلي وعنان دابتي في يدي وأنا مستند إلى نخلة على العقبة وإلى جانبها نخلة أخرى فتذكرت الجارية واشتقت إليها فأنشدت أقول:
أسعداني يا نخلتي حلوان، ... وابكياني من ريب هذا الزمان
واعلما أن ريبه لم يزل يف ... رق بين الألّاف والجيران
ولعمري، لو ذقتما ألم الفر ... قة أبكاكما الذي أبكاني
أسعداني، وأيقنا أن نحسا ... سوف يأتيكما فتفترقان
كم رمتني صروف هذي الليالي ... بفراق الأحباب والخلّان
غير أني لم تلق نفسي كما لا ... قيت من فرقة ابنة الدهقان
جارة لي بالريّ تذهب همّي، ... ويسلّي دنوّها أحزاني
فجعتني الأيام، أغبط ما كن ... ت، بصدع للبين غير مدان
وبزعمي أن أصبحت لا تراها ال ... عين مني، وأصبحت لا تراني
وعن سعيد بن سلم عن مطيع قال: كانت لي بالرّيّ، جارية أيام مقامي بها مع سلم بن قتيبة، فكنت أتستر بها وأتعشق امرأة من بنات الدهاقين، وكنت نازلا إلى جنبها في دار لها، فلما خرجنا بعت الجارية وبقيت في نفسي علاقة من المرأة، فلما نزلنا بعقبة حلوان جلست مستندا إلى إحدى النخلتين اللتين على العقبة وقلت، وذكر الأبيات، فقال لي سلم: فيمن هذه الأبيات، أفي جاريتك؟ فاستحييت أن أصدقه فقلت:
نعم، فكتب من وقته إلى خليفته أن يبتاعها لي، فلم يلبث أن ورد كتابه بأني قد وجدتها وقد تداولها الرجال وقد بلغت خمسة آلاف درهم فإن أمرت أن أشتريها، فأخبرني بذلك سلم وقال: أيما أحب إليك هي أم خمسة آلاف درهم؟ فقلت: أما إن كانت قد تداولها الرجال فقد عزفت نفسي عنها، فأمر لي بخمسة آلاف درهم، فقلت: والله ما كان في نفسي منها شيء ولو كنت أحبها لم أبال إذا رجعت إلي بمن تداولها ولا أبالي لو ناكها أهل منى كلهم، وذكر المدائني أن المنصور اجتاز بنخلتي حلوان وكانت إحداهما على الطريق وكانت تضيّقه وتزدحم الأثقال عليه فأمر بقطعها، فأنشد قول مطيع:
واعلما إن بقيتما أن نحسا ... سوف يلقاكما فتفترقان
فقال: لا والله لا كنت ذلك النحس الذي يفرق بينهما! فانصرف وتركهما، وذكر أحمد بن إبراهيم عن أبيه عن جده إسمعيل بن داود أن المهدي قال:
أكثر الشعراء في ذكر نخلتي حلوان ولهممت بقطعهما فبلغ قولي المنصور فكتب إليّ: بلغني أنك هممت بقطع نخلتي حلوان ولا فائدة لك في قطعهما ولا ضرر عليك في بقائهما وأنا أعيذك بالله أن تكون النحس الذي يلقاهما فيفرق بينهما، يريد بيت مطيع، وعن أبي نمير عبد الله بن أيوب قال: لما خرج المهدي فصار بعقبة حلوان استطاب الموضع فتغدّى به ودعا بحسنة فقال لها: ما ترين طيب هذا الموضع! غنيني بحياتي حتى أشرب ههنا أقداحا، فأخذت محكّة كانت في يده فأوقعت على فخذه وغنته فقالت:
أيا نخلتي وادي بوانة حبّذا، ... إذا نام حرّاس النخيل، جناكما
فقال: أحسنت! لقد هممت بقطع هاتين النخلتين، يعني نخلتي حلوان، فمنعني منهما هذا الصوت، فقالت له حسنة: أعيذك بالله أن تكون النحس المفرق بينهما! وأنشدته بيت مطيع، فقال: أحسنت والله فيما فعلت إذ نبّهتني على هذا، والله لا أقطعهما أبدا ولأوكلن بهما من يحفظهما ويسقيهما أينما حييت! ثم أمر بأن يفعل ذلك، فلم تزالا في حياته على ما رسمه إلى أن مات، وذكر أحمد بن أبي طاهر عن عبد الله ابن أبي سعد عن محمد بن المفضل الهاشمي عن سلام الأبرش قال: لما خرج الرشيد إلى طوس هاج به الدم بحلوان فأشار عليه الطبيب بأكل جمّار، فأحضر دهقان حلوان وطلب منه، فأعلمه أن بلادهم ليس بها نخل ولكن على العقبة نخلتان، فأمر بقطع إحداهما، فلما نظر إلى النخلتين بعد أن انتهى إليهما فوجد إحداهما مقطوعة والأخرى قائمة وعلى القائمة مكتوب، وذكر البيت، فأعلم الرشيد وقال: لقد عز عليّ أن كنت نحسكما ولو كنت سمعت هذا البيت ما قطعت هذه النخلة ولو قتلني الدم، ومما قيل في نخلتي حلوان من الشعر قول حمّاد عجرد:
جعل الله سدرتي قصر شي ... رين فداء لنخلتي حلوان
جئت مستسعدا فلم تسع داني، ... ومطيع بكت له النخلتان
وروى حماد عن أبيه لبعض الشعراء في نخلتي حلوان:
أيها العاذلان لا تعذلاني، ... ودعاني من الملام دعاني
وابكيا لي، فإنني مستحقّ ... منكما بالبكاء أن تسعداني
إنني منكما بذلك أولى ... من مطيع بنخلتي حلوان
فهما تجهلان ما كان يشكو ... من هواه، وأنتما تعلمان
وقال فيهما أحمد بن إبراهيم الكاتب من قصيدة:
وكذاك الزمان ليس، وإن أل ... لف، يبقى عليه مؤتلفان
سلبت كفّه العزيز أخاه، ... ثم ثنّى بنخلتي حلوان
فكأنّ العزيز مذ كان فردا، ... وكأن لم تجاور النخلتان

وحلوان أَيضاً:
قرية من أعمال مصر، بينها وبين الفسطاط نحو فرسخين من جهة الصعيد مشرفة على النيل، وبها دير ذكر في الديرة، وكان أول من اختطها عبد العزيز بن مروان لما ولي مصر، وضرب بها الدنانير، وكان له كل يوم ألف جفنة للناس حول داره، ولذلك قال الشاعر:
كلّ يوم كأنه عيد أضحى ... عند عبد العزيز، أو يوم فطر
وله ألف جفنة مترعات، ... كلّ يوم، يمدّها ألف قدر
وكان قد وقع بمصر طاعون في سنة 70 وواليها عبد العزيز فخرج هاربا من مصر، فلما وصل حلوان هذه استحسن موضعها فبنى بها دورا وقصورا واستوطنها وزرع بها بساتين وغرس كروما ونخلا، فلذلك يقول عبيد الله بن قيس الرّقيّات:
سقيا لحلوان ذي الكروم، وما ... صنّف من تينه ومن عنبه
نخل مواقير بالقناء من ال ... برنيّ، يهتز ثم في سربه
أسود، سكانه الحمام، فما ... تنفكّ غربانه على رطبه
وقال سعد بن شريح مولى نجيب يهجو حفص بن الوليد الحضرمي والي مصر ويمدح زبّان بن عبد العزيز ابن مروان:
يا باعث الخيل، تردي في أعنّتها، ... من المقطّم في أكناف حلوان
لا زال بغضي ينمّى في صدوركم، ... إن كان ذلك من حيّ لزبّان

وحلوان أيضا:
بليدة بقوهستان نيسابور، وهي آخر حدود خراسان مما يلي أصبهان.

الرَّيّ

الرَّيّ:
بفتح أوّله، وتشديد ثانيه، فإن كان عربيّا فأصله من رويت على الراوية أروي ريّا فأنا راو إذا شددت عليها الرّواء، قال أبو منصور:
أنشدني أعرابي وهو يعاكمني:
ريّا تميميّا على المزايد
وحكى الجوهري: رويت من الماء، بالكسر، أروى ريّا وريّا وروى مثل رضى: وهي مدينة مشهورة من أمّهات البلاد وأعلام المدن كثيرة الفواكه والخيرات، وهي محطّ الحاجّ على طريق السابلة وقصبة بلاد الجبال، بينها وبين نيسابور مائة وستون فرسخا وإلى قزوين سبعة وعشرون فرسخا ومن قزوين إلى أبهر اثنا عشر فرسخا ومن أبهر إلى زنجان خمسة عشر فرسخا، قال بطليموس في كتاب الملحمة: مدينة الريّ طولها خمس وثمانون درجة، وعرضها سبع وثلاثون درجة وست وثلاثون دقيقة، وارتفاعها سبع وسبعون تحت ثماني عشرة درجة من السرطان خارجة من الإقليم الرابع داخلة في الإقليم الخامس، يقابلها مثلها من الجدي في قسمة النسر الطائر ولها شركة في الشعرى والغميصاء رأس الغول من قسمة سعد بلع، ووجدت في بعض تواريخ الفرس أن كيكاوس كان قد عمل عجلة وركّب عليها آلات ليصعد إلى السماء فسخر الله الريح حتى علت به إلى السحاب ثمّ ألقته فوقع في بحر جرجان، فلمّا قام كيخسرو بن سياوش بالملك حمل تلك العجلة وساقها ليقدم بها إلى بابل، فلمّا وصل إلى موضع الريّ قال الناس: بريّ آمد كيخسرو، واسم العجلة بالفارسيّة ريّ، وأمر بعمارة مدينة هناك فسميت الريّ بذلك، قال العمراني: الرّي بلد بناه فيروز ابن يزدجرد وسمّاه رام فيروز، ثمّ ذكر الرّي المشهورة بعدها وجعلهما بلدتين، ولا أعرف الأخرى، فأمّا الرّي المشهورة فإنّي رأيتها، وهي مدينة عجيبة الحسن مبنية بالآجر المنمق المحكم الملمع بالزرقة
مدهون كما تدهن الغضائر في فضاء من الأرض، وإلى جانبها جبل مشرف عليها أقرع لا ينبت فيه شيء، وكانت مدينة عظيمة خرب أكثرها، واتفق أنّني اجتزت في خرابها في سنة 617 وأنا منهزم من التتر فرأيت حيطان خرابها قائمة ومنابرها باقية وتزاويق الحيطان بحالها لقرب عهدها بالخراب إلّا أنّها خاوية على عروشها، فسألت رجلا من عقلائها عن السبب في ذلك فقال: أمّا السبب فضعيف ولكن الله إذا أراد أمرا بلغه، كان أهل المدينة ثلاث طوائف: شافعية وهم الأقل، وحنفية وهم الأكثر، وشيعة وهم السواد الأعظم، لأن أهل البلد كان نصفهم شيعة وأما أهل الرستاق فليس فيهم إلّا شيعة وقليل من الحنفيين ولم يكن فيهم من الشافعيّة أحد، فوقعت العصبيّة بين السنّة والشيعة فتضافر عليهم الحنفية والشافعيّة وتطاولت بينهم الحروب حتى لم يتركوا من الشيعة من يعرف، فلمّا أفنوهم وقعت العصبيّة بين الحنفية والشافعيّة ووقعت بينهم حروب كان الظفر في جميعها للشافعيّة هذا مع قلّة عدد الشافعيّة إلّا أن الله نصرهم عليهم، وكان أهل الرستاق، وهم حنفية، يجيئون إلى البلد بالسلاح الشاك ويساعدون أهل نحلتهم فلم يغنهم ذلك شيئا حتى أفنوهم، فهذه المحالّ الخراب التي ترى هي محالّ الشيعة والحنفية، وبقيت هذه المحلة المعروفة بالشافعية وهي أصغر محالّ الرّيّ ولم يبق من الشيعة والحنفية إلّا من يخفي مذهبه، ووجدت دورهم كلها مبنية تحت الأرض ودروبهم التي يسلك بها إلى دورهم على غاية الظلمة وصعوبة المسلك، فعلوا ذلك لكثرة ما يطرقهم من العساكر بالغارات ولولا ذلك لما بقي فيها أحد، وقال الشاعر يهجو أهلها:
الرّيّ دار فارغه ... لها ظلال سابغة
على تيوس ما لهم ... في المكرمات بازغه
لا ينفق الشّعر بها ... ولو أتاها النّابغه
وقال إسماعيل الشاشي يذمّ أهل الرّيّ:
تنكّب حدّة الأحد ... ولا تركن إلى أحد
فما بالرّيّ من أحد ... يؤهل لاسم الأحد
وقد حكى الاصطخري أنّها كانت أكبر من أصبهان لأنّه قال: وليس بالجبال بعد الريّ أكبر من أصبهان، ثمّ قال: والرّيّ مدينة ليس بعد بغداد في المشرق أعمر منها وإن كانت نيسابور أكبر عوصة منها، وأمّا اشتباك البناء واليسار والخصب والعمارة فهي أعمر، وهي مدينة مقدارها فرسخ ونصف في مثله، والغالب على بنائها الخشب والطين، قال: وللرّيّ قرى كبار كلّ واحدة أكبر من مدينة، وعدّد منها قوهذ والسّدّ ومرجبى وغير ذلك من القرى التي بلغني أنها تخرج من أهلها ما يزيد على عشرة آلاف رجل، قال: ومن رساتيقها المشهورة قصران الداخل والخارج وبهزان والسن وبشاويه ودنباوند، وقال ابن الكلبي: سميت الريّ بريّ رجل من بني شيلان ابن أصبهان بن فلوج، قال: وكان في المدينة بستان فخرجت بنت ريّ يوما إليه فإذا هي بدرّاجة تأكل تينا، فقالت: بور انجير يعني أن الدّرّاجة تأكل تينا، فاسم المدينة في القديم بورانجير ويغيره أهل الرّيّ فيقولون بهورند، وقال لوط بن يحيى:
كتب عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، إلى عمار بن ياسر وهو عامله على الكوفة بعد شهرين من فتح
نهاوند يأمره أن يبعث عروة بن زيد الخيل الطائي إلى الرّيّ ودستبى في ثمانية آلاف، ففعل وسار عروة لذلك فجمعت له الديلم وأمدوا أهل الرّيّ وقاتلوه فأظهره الله عليهم فقتلهم واستباحهم، وذلك في سنة 20 وقيل في سنة 19، وقال أبو نجيد وكان مع المسلمين في هذه الوقائع:
دعانا إلى جرجان والرّيّ دونها ... سواد فأرضت من بها من عشائر
رضينا بريف الرّيّ والرّيّ بلدة ... لها زينة في عيشها المتواتر
لها نشز في كلّ آخر ليلة ... تذكّر أعراس الملوك الأكابر
قال جعفر بن محمد الرازي: لما قدم المهديّ الرّيّ في خلافة المنصور بنى مدينة الرّيّ التي بها الناس اليوم وجعل حولها خندقا وبنى فيها مسجدا جامعا، وجرى ذلك على يد عمار بن أبي الخصيب، وكتب اسمه على حائطها، وتمّ عملها سنة 158، وجعل لها فصيلا يطيف به فارقين آجر، والفارقين: الخندق، وسمّاها المحمديّة، فأهل الرّيّ يدعون المدينة الداخلة المدينة ويسمون الفصيل المدينة الخارجة والحصن المعروف بالزينبدى في داخل المدينة المعروفة بالمحمدية، وقد كان المهدي أمر بمرمّته ونزله أيّام مقامه بالرّيّ، وهو مطلّ على المسجد الجامع ودار الإمارة، ويقال: الذي تولّى مرمّته وإصلاحه ميسرة التغلبي أحد وجوه قواد المهدي، ثمّ جعل بعد ذلك سجنا ثمّ خرب فعمره رافع بن هرثمة في سنة 278 ثمّ خرّبه أهل الرّيّ بعد خروج رافع عنها، قال:
وكانت الرّيّ تدعى في الجاهليّة أزارى فيقال إنّه خسف بها، وهي على اثني عشر فرسخا من موضع الرّيّ اليوم على طريق الخوار بين المحمدية وهاشمية الرّيّ، وفيها أبنية قائمة تدل على أنّها كانت مدينة عظيمة، وهناك أيضا خراب في رستاق من رساتيق الرّيّ يقال له البهزان، بينه وبين الرّيّ ستة فراسخ يقال إن الرّيّ كانت هناك، والناس يمضون إلى هناك فيجدون قطع الذهب وربّما وجدوا لؤلؤا وفصوص ياقوت وغير ذلك من هذا النوع، وبالرّيّ قلعة الفرّخان، تذكر في موضعها، ولم تزل قطيعة الرّيّ اثني عشر ألف ألف درهم حتى اجتاز بها المأمون عند منصرفه من خراسان يريد مدينة السلام فلقيه أهلها وشكوا إليه أمرهم وغلظ قطيعتهم فأسقط عنهم منها ألفي ألف درهم وأسجل بذلك لأهلها، وحكى ابن الفقيه عن بعض العلماء قال: في التوراة مكتوب الرّيّ باب من أبواب الأرض وإليها متجر الخلق، وقال الأصمعي: الرّيّ عروس الدنيا وإليه متجر الناس، وهو أحد بلدان الأرض، وكان عبيد الله ابن زياد قد جعل لعمر بن سعد بن أبي وقاص ولاية الرّيّ إن خرج على الجيش الذي توجّه لقتال الحسين ابن عليّ، رضي الله عنه، فأقبل يميل بين الخروج وولاية الرّيّ والقعود، وقال:
أأترك ملك الرّيّ والرّيّ رغبة، ... أم ارجع مذموما بقتل حسين
وفي قتله النار التي ليس دونها ... حجاب وملك الرّيّ قرّة عين
فغلبه حبّ الدنيا والرياسة حتى خرج فكان من قتل الحسين، رضي الله عنه، ما كان. وروي عن جعفر الصادق، رضي الله عنه، أنّه قال: الرّيّ وقزوين وساوة ملعونات مشؤومات، وقال إسحاق بن سليمان: ما رأيت بلدا أرفع للخسيس من الرّيّ،
وفي أخبارهم: الريّ ملعونة وتربتها تربة ملعونة ديلمية وهي على بحر عجاج تأبى أن تقبل الحق، والرّيّ سبعة عشر رستاقا منها دنباوند وويمة وشلمبة، حدث أبو عبد الله بن خالويه عن نفطويه قال: قال رجل من بني ضبّة وقال المدائني:
فرض لأعرابي من جديلة فضرب عليه البعث إلى الري وكانوا في حرب وحصار، فلمّا طال المقام واشتدّ الحصار قال الأعرابي: ما كان أغناني عن هذا! وأنشأ يقول:
لعمري لجوّ من جواء سويقة ... أسافله ميث وأعلاه أجرع
به العفر والظّلمان والعين ترتعي ... وأمّ رئال والظّليم الهجنّع
وأسفع ذو رمحين يضحي كأنّه ... إذا ما علا نشزا، حصان مبرقع
أحبّ إلينا أن نجاور أهلنا ... ويصبح منّا وهو مرأى ومسمع
من الجوسق الملعون بالرّيّ كلّما ... رأيت به داعي المنيّة يلمع
يقولون: صبرا واحتسب! قلت: طالما ... صبرت ولكن لا أرى الصبر ينفع
فليت عطائي كان قسّم بينهم ... وظلّت بي الوجناء بالدّوّ تضبع
كأنّ يديها حين جدّ نجاؤها ... يدا سابح في غمرة يتبوّع
أأجعل نفسي وزن علج كأنّما ... يموت به كلب إذا مات أجمع؟
والجوسق الملعون الذي ذكره ههنا هو قلعة الفرّخان، وحدث أبو المحلّم عوف بن المحلم الشيباني قال: كانت لي وفادة على عبد الله بن طاهر إلى خراسان فصادفته يريد المسير إلى الحجّ فعادلته في العماريّة من مرو إلى الريّ، فلمّا قاربنا الرّيّ سمع عبد الله بن طاهر ورشانا في بعض الأغصان يصيح، فأنشد عبد الله بن طاهر متمثلا بقول أبي كبير الهذلي:
ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر، ... وغصنك ميّاد، ففيم تنوح؟
أفق لا تنح من غير شيء، فإنّني ... بكيت زمانا والفؤاد صحيح
ولوعا فشطّت غربة دار زينب، ... فها أنا أبكي والفؤاد جريح
ثمّ قال: يا عوف أجز هذا، فقلت في الحال:
أفي كلّ عام غربة ونزوح؟ ... أما للنّوى من ونية فنريح؟
لقد طلّح البين المشتّ ركائبي، ... فهل أرينّ البين وهو طليح؟
وأرّقني بالرّيّ نوح حمامة، ... فنحت وذو الشجو القديم ينوح
على أنّها ناحت ولم تذر دمعة، ... ونحت وأسراب الدّموع سفوح
وناحت وفرخاها بحيث تراهما، ... ومن دون أفراخي مهامه فيح
عسى جود عبد الله أن يعكس النوى ... فتضحي عصا الأسفار وهي طريح
فإنّ الغنى يدني الفتى من صديقه، ... وعدم الغنى بالمقترين نزوح
فأخرج رأسه من العمارية وقال: يا سائق ألق زمام البعير، فألقاه فوقف ووقف الخارج ثمّ دعا بصاحب
بيت ماله فقال: كم يضمّ ملكنا في هذا الوقت؟
فقال: ستين ألف دينار، فقال: ادفعها إلى عوف، ثمّ قال: يا عوف لقد ألقيت عصا تطوافك فارجع من حيث جئت، قال: فأقبل خاصة عبد الله عليه يلومونه ويقولون أتجيز أيّها الأمير شاعرا في مثل هذا الموضع المنقطع بستين ألف دينار ولم تملك سواها! قال: إليكم عني فإنّي قد استحييت من الكرم أن يسير بي جملي وعوف يقول: عسى جود عبد الله، وفي ملكي شيء لا ينفرد به، ورجع عوف إلى وطنه فسئل عن حاله فقال: رجعت من عند عبد الله بالغنى والراحة من النوى، وقال معن بن زائدة الشيباني:
تمطّى بنيسابور ليلي وربّما ... يرى بجنوب الرّيّ وهو قصير
ليالي إذ كلّ الأحبّة حاضر، ... وما كحضور من تحب سرور
فأصبحت أمّا من أحبّ فنازح ... وأمّا الألى أقليهم فحضور
أراعي نجوم اللّيل حتى كأنّني ... بأيدي عداة سائرين أسير
لعلّ الذي لا يجمع الشمل غيره ... يدير رحى جمع الهوى فتدور
فتسكن أشجان ونلقى أحبّة، ... ويورق غصن للشّباب نضير
ومن أعيان من ينسب إليها أبو بكر محمد بن زكرياء الرازي الحكيم صاحب الكتب المصنفة، مات بالرّيّ بعد منصرفه من بغداد في سنة 311، عن ابن شيراز، ومحمد بن عمر بن هشام أبو بكر الرازي الحافظ المعروف بالقماطري، سمع وروى وجمع، قال أبو بكر الإسماعيلي: حدّثني أبو بكر محمد بن عمير الرازي الحافظ الصدوق بجرجان، وربّما قال الثقة المأمون، سكن مرو ومات بها في سنة نيف وتسعين ومائتين، وعبد الرحمن بن محمد بن إدريس أبو محمد ابن أبي حاتم الرازي أحد الحفّاظ، صنف الجرح والتعديل فأكثر فائدته، رحل في طلب العلم والحديث فسمع بالعراق ومصر ودمشق، فسمع من يونس بن عبد الأعلى ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم والربيع بن سليمان والحسن بن عرفة وأبيه أبي حاتم وأبي زرعة الرازي وعبد الله وصالح ابني أحمد بن حنبل وخلق سواهم، وروى عنه جماعة أخرى كثيرة، وعن أبي عبد الله الحاكم قال: سمعت أبا أحمد محمد بن محمد ابن أحمد بن إسحاق الحاكم الحافظ يقول: كنت بالرّيّ فرأيتهم يوما يقرؤون على محمد بن أبي حاتم كتاب الجرح والتعديل، فلمّا فرغوا قلت لابن عبدويه الورّاق: ما هذه الضحكة؟ أراكم تقرؤون كتاب التاريخ لمحمد بن إسماعيل البخاري عن شيخكم على هذا الوجه وقد نسبتموه إلى أبي زرعة وأبي حاتم! فقال: يا أبا محمد اعلم أن أبا زرعة وأبا حاتم لما حمل إليهما هذا الكتاب قالا هذا علم حسن لا يستغنى عنه ولا يحسن بنا أن نذكره عن غيرنا، فأقعدا أبا محمد عبد الرحمن الرازي حتى سألهما عن رجل معه رجل وزادا فيه ونقصا منه، ونسبه عبد الرحمن الرازي، وقال أحمد بن يعقوب الرازي: سمعت عبد الرحمن ابن أبي حاتم الرازي يقول: كنت مع أبي في الشام في الرحلة فدخلنا مدينة فرأيت رجلا واقفا على الطريق يلعب بحيّة ويقول: من يهب لي درهما حتى أبلع هذه الحيّة؟ فالتفت إليّ أبي وقال: يا بني احفظ دراهمك فمن أجلها تبلع الحيّات! وقال أبو يعلى الخليل بن عبد الرحمن بن أحمد الحافظ القزويني: أخذ عبد الرحمن بن أبي حاتم علم أبيه وعلم أبي زرعة وصنّف
منه التصانيف المشهورة في الفقه والتواريخ واختلاف الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار، وكان من الأبدال ولد سنة 240، ومات سنة 327، وقد ذكرته في حنظلة وذكرت من خبره هناك زيادة عمّا ههنا، وإسماعيل بن عليّ بن الحسين بن محمد بن زنجويه أبو سعد الرازي المعروف بالسمّان الحافظ، كان من المكثرين الجوّالين، سمع من نحو أربعة آلاف شيخ، سمع ببغداد أبا طاهر المخلص ومحمد بن بكران بن عمران، روى عنه أبو بكر الخطيب وأبو علي الحداد الأصبهاني وغيرهما، مات في الرابع والعشرين من شعبان سنة 445، وكان معتزليّا، وصنف كتبا كثيرة ولم يتأهّل قط، وكان فيه دين وورع، ومحمد بن عبد الله بن جعفر بن عبد الله بن الجنيد أبو الحسين الرازي والد تمام بن محمد الرازي الحافظان ويعرف في الرّيّ بأبي الرستاقي، سمع ببلده وغيره وأقام بدمشق وصنف، وكان حافظا ثقة مكثرا، مات سنة 347، وابنه تمام بن محمد الحافظ، ولد بدمشق وسمع بها من أبيه ومن خلق كثير وروى عنه خلق، وقال أبو محمد بن الأكفاني: أنبأنا عبد العزيز الكناني قال: توفي شيخنا وأستاذنا تمام الرازي لثلاث خلون من المحرم سنة 414، وكان ثقة مأمونا حافظا لم أر أحفظ منه لحديث الشاميّين، ذكر أن مولده سنة 303، وقال أبو بكر الحداد: ما لقينا مثله في الحفظ والخبر، وقال أبو علي الأهوازي:
كان عالما بالحديث ومعرفة الرجال ما رأيت مثله في معناه، وأبو زرعة أحمد بن الحسين بن علي بن إبراهيم ابن الحكم بن عبد الله الحافظ الرازي، قال الحافظ أبو القاسم: قدم دمشق سنة 347 فسمع بها أبا الحسين محمد بن عبد الله بن جعفر بن الجنيد الرازي والد تمام، وبنيسابور أبا حامد أحمد بن محمد بن يحيى بن بلال وأبا الحسن علي بن أحمد الفارسي ببلخ وأبا عبد الله بن مخلد ببغداد وأبا الفوارس أحمد بن محمد بن الحسين الصابوني بمصر وعمر بن إبراهيم بن الحدّاد بتنّيس وأبا عبد الله المحاملي وأبا العباس الأصمّ، وحدث بدمشق في تلك السنة فروى عنه تمام وعبد الرحمن بن عمر بن نصر والقاضيان أبو عبد الله الحسين بن محمد الفلّاكي الزّنجاني وأبو القاسم التنوخي وأبو الفضل محمد بن أحمد بن محمد الجارودي الحافظ وحمزة بن يوسف الخرقاني وأبو محمد إبراهيم بن محمد بن عبد الله الزنجاني الهمداني وعبد الغني بن سعيد والحاكم أبو عبد الله وأبو العلاء عمر بن علي الواسطي وأبو زرعة روح بن محمد الرازي ورضوان بن محمد الدّينوري، وفقد بطريق مكّة سنة 375، وكان أهل الريّ أهل سنّة وجماعة إلى أن تغلب أحمد بن الحسن المارداني عليها فأظهر التشيع وأكرم أهله وقرّبهم فتقرّب إليه الناس بتصنيف الكتب في ذلك فصنف له عبد الرحمن بن أبي حاتم كتابا في فضائل أهل البيت وغيره، وكان ذلك في أيّام المعتمد وتغلبه عليها في سنة 275، وكان قبل ذلك في خدمة كوتكين ابن ساتكين التركي، وتغلب على الرّيّ وأظهر التشيع بها واستمرّ إلى الآن، وكان أحمد بن هارون قد عصى على أحمد بن إسماعيل الساماني بعد أن كان من أعيان قواده وهو الذي قتل محمد بن زيد الراعي فتبعه أحمد بن إسماعيل إلى قزوين فدخل أحمد بن هارون بلاد الديلم وأيس منه أحمد بن إسماعيل فرجع فنزل بظاهر الري ولم يدخلها، فخرج إليه أهلها وسألوه أن يتولّى عليهم ويكاتب الخليفة في ذلك ويخطب ولاية الرّيّ، فامتنع وقال: لا أريدها لأنّها
مشؤومة قتل بسببها الحسين بن علي، رضي الله عنهما، وتربتها ديلمية تأبى قبول الحقّ وطالعها العقرب، وارتحل عائدا إلى خراسان في ذي الحجة سنة 289، ثمّ جاء عهده بولاية الرّيّ من المكتفي وهو بخراسان، فاستعمل على الرّيّ من قبله ابن أخيه أبا صالح منصور بن إسحاق بن أحمد بن أسد فوليها ستّ سنين، وهو الذي صنف له أبو بكر محمد بن زكرياء الرازي الحكيم كتاب المنصوري في الطبّ، وهو الكنّاشة، وكان قدوم منصور إليها في سنة 290، والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب.

زَمْلَكَانُ

زَمْلَكَانُ:
بفتح أوّله، وسكون ثانيه، وفتح اللام، وآخره نون، قال السمعاني أبو سعد: هما قريتان إحداهما ببلخ والأخرى بدمشق، ونسب إليهما، وأمّا أهل الشام فإنّهم يقولون زملكا، بفتح أوّله وثانيه، وضم لامه، والقصر، لا يلحقون به النون:
قرية بغوطة دمشق، منها جماهير بن أحمد بن محمد ابن حمزة أبو الأزهر الزّملكاني الدمشقي شيخ أبي بكر المقري، قال الحافظ أبو القاسم: جماهير بن محمد بن أحمد بن حمزة بن سعيد بن عبيد الله بن وهيب بن عبّاد بن سمّاك بن ثعلبة بن امرئ القيس ابن عمرو بن مازن بن الأزد بن الغوث أبو الأزهر الغسّاني الزملكاني من أهل زملكا، حدث عن هشام بن عمار وعمرو بن محمد بن الغاز والوليد بن عتبة وأحمد بن الحواري ومحمود بن خالد ورحيم وإسماعيل بن عبد الله السكري القاضي والمؤمل بن إهاب، روى عنه الفضل بن جعفر وأبو علي الحسن ابن علي بن الحسن المري المعروف بالشحيمة وأبو سليمان بن زير وأبو بكر المقري وأبو نصر ظفر بن محمد بن ظفر الزملكاني الأزدي، وأبو زرعة وأبو بكر ابنا أبي دجانة وأبو بكر أحمد بن عبد الوهاب الصابوني وأبو بكر أحمد بن محمد بن إسحاق السّني وأبو عمرو أحمد بن محمد بن علي بن مزاحم المزاحمي الصوري وإسماعيل بن أحمد بن محمد الخلّالي الجرجاني وجعفر بن محمد بن الحارث المراغي نزيل نيسابور ومحمد بن سليمان الربعي البندار وجمح ابن القاسم وعلي بن محمد بن سليمان الطوسي وعمر ابن علي بن الحسن العتيكي الأنطاكي، وهو هاشم المؤدب، ومولده سنة 213، ومات لثلاث بقين من المحرم سنة 313، وكان ثقة مأمونا، ومحمد بن أحمد بن عثمان بن محمد أبو الفرج الزملكاني الإمام، حدث عن أبي الحسين عبد الوهاب بن الحسن الكلابي وتمّام بن محمد الرازي وأبي بكر عبد الله بن محمد ابن هلال الجبّائي، روى عنه أبو عثمان محمد بن أحمد بن ورقاء الأصبهاني الصوفي نزيل بيت المقدس وأبو الحسن علي بن الخضر السّلمي، وتوفي في جمادى الأولى سنة 421.

سِنْجَارُ

سِنْجَارُ:
بكسر أوّله، وسكون ثانيه ثمّ جيم، وآخره راء: مدينة مشهورة من نواحي الجزيرة، بينها وبين الموصل ثلاثة أيّام، وهي في لحف جبل عال، ويقولون: إن سفينة نوح، عليه السلام، لما مرّت به نطحته فقال نوح: هذا سنّ جبل جار علينا، فسميت سنجار، ولست أحقّق هذا، والله أعلم به، إلّا أن أهل هذه المدينة يعرفون هذا صغيرهم وكبيرهم ويتداولونه، وقال ابن الكلبي: إنّما سميت سنجار وآمد وهيت باسم بانيها، وهم بنو البلندى ابن مالك بن دعر بن بويب بن عنقاء بن مدين بن إبراهيم، عليه السلام، ويقال: سنجار بن دعر نزلها، قالوا: ودعر هو الذي استخرج يوسف من الجبّ وهو أخو آمد الذي بنى آمد وأخو هيت الذي بنى هيت، وذكر أحمد بن محمد الهمذاني قال: ويقال إن سفينة نوح نطحت في جبل سنجار بعد ستة أشهر وثمانية أيّام من ركوبه إيّاها فطابت نفسه وعلم أن الماء قد أخذ ينضب فسأل عن الجبل فأخبر به، فقال: ليكن هذا الجبل مباركا كثير الشجر والماء! ثمّ وقفت السفينة على جبل الجودي بعد مائة واثنين وتسعين يوما فبنى هناك قرية سماها قرية الثمانين لأنّهم كانوا ثمانين نفسا، وقال حمزة الأصبهاني: سنجار تعريب سنكار، ولم يفسره، وهي مدينة طيبة في وسطها نهر جار، وهي عامرة جدّا، وقدّامها واد فيه بساتين ذات أشجار ونخل وترنج ونارنج، وبينها وبين نصيبين ثلاثة أيام أيضا، وقيل: إن السلطان سنجر بن ملك شاه بن ألب أرسلان بن سلجوق ولد بها فسمّي باسمها، عن الزمخشري، قال في الزيج: طول سنجار ثلاثون درجة، وعرضها خمس وثلاثون درجة ونصف وثلث، وقد خرج منها جماعة من أهل العلم والأدب والشعر، قال أبو عبيدة: قدم خالد الزبيدي في ناس معه من زبيد إلى سنجار ومعه ابنا عمّ له يقال لأحدهما صابي وللآخر عويد، فشربوا يوما من شراب سنجار فحنّوا إلى بلادهم فقال خالد:
أيا جبلي سنجار ما كنتما لنا ... مقيظا ولا مشتى ولا متربّعا
ويا جبلي سنجار هلّا بكيتما ... لداعي الهوى منّا شنينين أدمعا
فلو جبلا عوج شكونا إليهما ... جرت عبرات منهما أو تصدّعا
بكى يوم تلّ المحلبيّة صابئ، ... وألهى عويدا بثّه فتقنّعا
فانبرى له رجل من النمر بن قاسط يقال له دثار أحد بني حييّ فقال:
أيا جبلي سنجار هلّا دققتما ... بركنيكما أنف الزّبيديّ أجمعا
لعمرك ما جاءت زبيد لهجرة، ... ولكنّها كانت أرامل جوّعا
تبكّي على أرض الحجاز وقد رأت ... جرائب خمسا في جدال فأربعا
جرائب: جمع جريب، وجدال: قرية قرب سنجار، كأنّه يتعجب من ذلك ويقول كيف تحنّ إلى أرض الحجاز وقد شبعت بهذه الديار؟ فأجابه خالد يقول:
وسنجار تبكي سوقها كلّما رأت ... بها نمريّا ذا كساوين أيفعا
إذا نمريّ طالب الوتر غرّه ... من الوتر أن يلقى طعاما فيشبعا
إذا نمريّ ضاف بيتك فاقره ... مع الكلب زاد الكلب وازجرهما معا
أمن أجل مدّ من شعير قريته ... بكيت وناحت أمّك الحول أجمعا؟
بكى نمريّ أرغم الله أنفه ... بسنجار حتى تنفد العين أدمعا
وقال المؤيد بن زيد التكريتي يخاطب الحسين بن عليّ السنجاري المعروف بابن دبّابة ويلقّب بأمين الدين:
زاد أمين الدّين في وصفه ... سنجار حتى جئن سنجارا
فعاينت عيناي إذ جئتها ... مصيدة قد ملئت فارا
وقد نسب إلى سنجار جماعة وافرة من أهل العلم، منهم من أهل عصرنا: أسعد بن يحيى بن موسى بن منصور الشاعر يعرف بالبهاء السنجاري أحد المجيدين المشهورين، وكان أوّلا فقيها شافعيّا ثمّ غلب عليه قول الشعر فاشتهر به وقدّم عند الملوك وناهز التسعين وكان جريّا ثقة كيّسا لطيفا فيه مزاح وخفة روح، وله أشعار جيدة، منها في غلام اسمه عليّ وقد سئل القول فيه فقال في قطعة وكان مرّ به ومعه سيف:
بي حامل الصارم الهنديّ منتصرا، ... ضع السّلاح قد استغنيت بالكحل
ما يفعل الظّبي بالسّيف الصّقيل وما ... ضرب الصّوارم بالضّروب بالمقل
قد كنت في الحبّ سنّيّا فما برحت ... بي شيعة الحبّ حتى صرت عبد علي
وخرج من الموصل في سنة تسع عشرة وستمائة.

صَرْصَرُ

صَرْصَرُ:
بالفتح، وتكرير الصاد والراء، يقال:
أصله صرر من الصّرّ وهو البرد فأبدلوا مكان الراء الوسطى فاء الفعل كما قالوا تجفجف، ويقال: ريح صرصر وصرّة شديدة البرد، قال ابن السكيت:
ريح صرصر فيه قولان: يقال هو من صرير الباب أو من الصّرّة وهي الصيحة، وصرصر: قريتان من سواد بغداد، صرصر العليا وصرصر السفلى، وهما على ضفة نهر عيسى، وربما قيل نهر صرصر فنسب النهر إليهما، وبين السفلى وبغداد نحو فرسخين، قال عبيد الله بن الحرّ:
ويوم لقينا الخثعميّ وخيله ... صبرنا وجالدنا على نهر صرصرا
ويوما تراني في رخاء وغبطة، ... ويوما تراني شاحب اللّون أغبرا
وصرصر: في طريق الحاج من بغداد قد كانت تسمّى قديما قصر الدير أو صرصر الدير، وقد خرج منها جماعة من التجار الأعيان وأرباب الأموال، منهم:
التقي أبو إسحاق إبراهيم بن عسكر بن محمد بن ثابت صديقنا فيه عصبية ومروّة تامّة، وقد مدحه الشعراء فقال فيه الكمال القاسم الواسطي وأنشد لنفسه فيه:
أقول لمرتاد تقسّم لحمه ... على البيد ما بين السّرى والتّهجّر
تيمّم بها أرض العراق فإنّها ... مراد الحيا والخصب، وانزل بصرصر
تجد مستقرّا للعفاة وقرّة ... لعينك، فاحكم في الندى وتخيّر
وإن دهمت أمّ الدّهيم وعسكرت ... عليك اللّيالي فاعتهد آل عسكر
أناسا يرون الموت عارا لبوسه ... إذا لم يكن بين القنا والسّنوّر
ومن كان إبراهيم فرعا لأصله ... جنى ثمر الأخيار من خير مخبر

طَبَرِستانُ

طَبَرِستانُ:
بفتح أوله وثانيه، وكسر الراء، قد ذكرنا معنى الطبر قبله، واستان: الموضع أو الناحية، كأنه يقول: ناحية الطبر، وسنذكر سبب تسمية هذا الموضع بذلك، والنسبة إلى هذا الموضع الطّبري، قال البحتري:
وأقيمت به القيامة في ق ... مّ على خالع وعات عنيد
وثنى معلما إلى طبرستا ... ن بخيل يرحن تحت اللّبود
وهي بلدان واسعة كثيرة يشملها هذا الاسم، خرج من نواحيها من لا يحصى كثرة من أهل العلم والأدب والفقه، والغالب على هذه النواحي الجبال، فمن أعيان بلدانها دهستان وجرجان واستراباذ وآمل، وهي قصبتها، وسارية، وهي مثلها، وشالوس، وهي مقاربة لها، وربما عدّت جرجان من خراسان إلى غير ذلك من البلدان، وطبرستان في البلاد المعروفة بمازندران، ولا أدري متى سميت بمازندران فانه اسم لم نجده في الكتب القديمة وإنما يسمع من أفواه أهل تلك البلاد ولا شكّ أنهما واحد، وهذه البلاد مجاورة لجيلان وديلمان، وهي بين الرّي وقومس والبحر وبلاد الديلم والجيل، رأيت أطرافها وعاينت جبالها، وهي كثيرة المياه متهدّلة الأشجار كثيرة الفواكه إلا أنها مخيفة وخمة قليلة الارتفاع كثيرة الاختلاف والنّزاع، وأنا أذكر ما قال العلماء في هذا القطر وأذكر فتوحه واشتقاقه ولا بدّ من احتمالك لفصل فيه تطويل بالفائدة الباردة، فهذا من عندنا مما استفدناه بالمشاهدة والمشافهة، وخذ الآن ما قالوه في كتبهم: زعم أهل العلم بهذا الشأن أن الطّيلسان والطالقان وخراسان ما عدا خوارزم من ولد اشبق بن إبراهيم الخليل والديلم بنو كماشج بن يافث بن نوح، عليه السلام، وأكثرهم سميت جبالهم بأسمائهم إلا الإيلام قبيل من الديلم فإنهم ولد باسل بن ضبّة بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر، كما نذكره إن شاء الله في كتاب النسب، وموقان وجبالها وهم أهل طبرستان من ولد كماشج بن يافث بن نوح، عليه السّلام، وفيما روى ثقات الفرس قالوا: اجتمع في جيوش بعض الأكاسرة خلق كثير من الجناة وجب عليهم القتل فتحرّج منه وشاور وزراءه وسألهم عن عدّتهم فأخبروه بخلق كثير فقال: اطلبوا لي موضعا أحبسهم فيه، فساروا إلى بلاده يطلبون موضعا خاليا حتى وقعوا بجبال طبرستان فأخبروه بذلك فأمر بحملهم إليه وحبسهم فيه، وهو يومئذ جبل لا ساكن فيه، ثم سأل عنهم بعد حول فأرسلوا من يخبر بخبرهم فأشرفوا عليهم فإذا هم أحياء لكن بالسوء، فقيل لهم: ما تشتهون؟ وكان الجبل أشبا كثير الأشجار، فقالوا: طبرها طبرها، والهاء فيه بمعنى الجمع في جميع كلام الفرس، يعنون نريد أطبارا نقطع بها
الشجر ونتخذها بيوتا، فلما أخبر كسرى بذلك أمر أن يعطوا ما طلبوا فحمل إليهم ذلك، ثم أمهلهم حولا آخر وأنفذ من يتفقدهم فوجدهم قد اتخذوا بيوتا فقال لهم: ما تريدون؟ فقالوا: زنان زنان، أي نريد نساء، فأخبر الملك بذلك فأمر بحمل من في حبوسه من النساء أن يحملن إليهم، فحملن فتناسلوا فسميت طبرزنان أي الفؤوس والنساء ثم عرّبت فقيل طبرستان، فهذا قولهم، والذي يظهر لي وهو الحقّ ويعضده ما شاهدناه منهم أن أهل تلك الجبال كثير والحروب وأكثر أسلحتهم بل كلها الأطبار حتى إنك قلّ أن ترى صعلوكا أو غنيّا إلا وبيده الطّبر صغيرهم وكبيرهم، فكأنها لكثرتها فيهم سميت بذلك، ومعنى طبرستان من غير تعريب موضع الأطبار، والله أعلم، وقال أبو العلاء السروي يصف طبرستان فيما كتبنا عن أبي منصور النيسابوري:
إذا الريح فيها جرّت الريح أعجلت ... فواختها في الغصن أن تترنّما
فكم طيّرت في الجوّ وردا مدنّرا ... تقلّبه فيه ووردا مدرهما
وأشجار تفّاح كأنّ ثمارها ... عوارض أبكار يضاحكن مغرما
فإن عقدتها الشمس فيها حسبتها ... خدودا على القضبان فذّا وتوأما
ترى خطباء الطير فوق غصونها ... تبثّ على العشّاق وجدا معتّما
وقد كان في القديم أول طبرستان آمل ثم مامطير، وبينها وبين آمل ستة فراسخ، ثم ويمة، وهي من مامطير على ستة فراسخ، ثم سارية ثم طميس، وهي من سارية على ستة عشر فرسخا، هذا آخر حدّ طبرستان وجرجان، ومن ناحية الديم على خمسة فراسخ من آمل مدينة يقال لها ناتل ثم شالوس، وهي ثغر الجبل، هذه مدن السهل، وأما مدن الجبل فمنها مدينة يقال لها الكلار ثم تليها مدينة صغيرة يقال لها سعيدآباذ ثم الرويان، وهي أكبر مدن الجبل، ثم في الجبل من ناحية حدود خراسان مدينة يقال لها تمار وشرّز ودهستان، فإذا جزت الأرز وقعت في جبال ونداد هرمز، فإذا جزت هذه الجبال وقعت في جبال شروين، وهي مملكة ابن قارن، ثم الديلم وجيلان، وقال البلاذري: كور طبرستان ثمان: كورة سارية وبها منزل العامل وإنما صارت منزل العامل في أيام الطاهرية وقبل ذلك كان منزل العامل بآمل، وجعلها أيضا الحسن بن زيد ومحمد بن زيد دار مقامهما، ومن رساتيق آمل أرم خاست الأعلى وأرم خاست الأسفل والمهروان والأصبهبذ ونامية وطميس، وبين سارية وسلينة على طريق الجبال ثلاثون فرسخا، وبين سارية والمهروان عشرة فراسخ، وبين سارية والبحر ثلاثة فراسخ، وبين جيلان والرويان اثنا عشر فرسخا، وبين آمل وشالوس وهي إلى ناحية الجبال عشرون فرسخا، وطول طبرستان من جرجان إلى الرويان ستة وثلاثون فرسخا، وعرضها عشرون فرسخا، في يد الشكري من ذلك ستة وثلاثون فرسخا في عرض أربعة فراسخ والباقي في أيدي الحروب من الجبال والسفوح، وهو طول ستة وثلاثين فرسخا في عرض ستة عشر فرسخا والعرض من الجبل إلى البحر.

ذكر فتوح طبرستان
وكانت بلاد طبرستان في الحصانة والمنعة على ما هو مشهور من أمرها، وكانت ملوك الفرس يولّونها
رجلا ويسمونه الأصبهبذ فإذا عقدوا له عليها لم يعزلوه عنها حتى يموت فإذا مات أقاموا مكانه ولده إن كان له ولد وإلّا وجّهوا بأصبهبذ آخر، فلم يزالوا على ذلك حتى جاء الإسلام وفتحت المدن المتّصلة بطبرستان، وكان صاحب طبرستان يصالح على الشيء اليسير فيقبل منه لصعوبة المسلك، فلم يزل الأمر على ذلك حتى ولّى عثمان بن عفّان، رضي الله عنه، سعيد ابن العاصي الكوفة سنة 29 وولى عبد الله بن عامر بن كريز بن حبيب بن عبد شمس البصرة فكتب إليهما مرزبان طوس يدعوهما إلى خراسان على أن يملكه عليها من غلب، وخرجا جميعا يريدانها فسبق ابن عامر فغزا سعيد بن العاصي طبرستان ومعه في غزاته فيما يقال الحسن والحسين، رضي الله عنهما، وقيل:
إن سعيدا غزاها من غير أن يأتيه كتاب أحد بل سار إليها من الكوفة ففتح طميس أو طميسة، وهي قرية، وصالح ملك جرجان على مائتي ألف درهم بغليّة وافية فكان يؤدّيها الى المسلمين، وافتتح أيضا من طبرستان الرويان ودنباوند وأعطاه أهل الجبال مالا، فلما ولي معاوية ولّى مصقلة بن هبيرة أحد بني ثعلبة بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة فسار إليها ومعه عشرون ألف رجل فأوغل في البلد يسبي ويقتل فلما تجاوز المضايق والعقاب أخذها عليه وعلى جيشه العدوّ عند انصرافه للخروج ودهدهوا عليه الحجارة والصخور من الجبال فهلك أكثر ذلك الجيش وهلك مصقلة فضرب الناس به مثلا فقالوا: لا يكون هذا حتى يرجع مصقلة من طبرستان، فكان المسلمون بعد ذلك إذا غزوا هذه البلاد تحفّظوا وتحذّروا من التوغّل فيها، حتى ولي يزيد بن المهلّب خراسان في أيام سليمان بن عبد الملك وسار حتى أناخ على طبرستان فاستجاش الأصبهبذ الديلم فأنجدوه وقاتله يزيد أياما ثم صالحه على أربعة آلاف ألف درهم وسبعمائة ألف درهم مثاقيل في كل عام وأربعمائة وقر زعفران وأن يوجّهوا في كل عام أربعمائة رجل على رأس كل رجل ترس وجام فضة ونمرقة حرير، وفتح يزيد الرويان ودنباوند ولم يزل أهل طبرستان يؤدّون هذا الصلح مرة ويمتنعون أخرى إلى أيام مروان بن محمد فإنهم نقضوا ومنعوا ما كانوا يحملونه، فلما ولي السفاح وجّه إليهم عاملا فصالحوه على مال ثم غدروا وقتلوا المسلمين، وذلك في خلافة المنصور، فوجّه المنصور إليهم خازم بن خزيمة التميمي وروح بن حاتم المهلّبي ومعهما مرزوق أبو الخصيب فنزلوا على طبرستان وجرت مدافعات صعب معها بلوغ غرض وضاق عليهم الأمر فواطأ أبو الخصيب خازما وروحا على أن ضرباه وحلقا رأسه ولحيته ليوقع الحيلة على الأصبهبذ فركن إلى ما رأى من سوء حاله واستخصّه حتى أعمل الحيلة وملك البلد، وكان عمرو بن العلاء الذي يقول فيه بشّار بن برد:
إذا أيقظتك حروب العدى ... فنبّه لها عمرا ثمّ نم
جزّارا من أهل الريّ فجمع جمعا وقاتل الديلم فأبلى بلاء حسنا فأوفده جهور بن مرار العجلي إلى المنصور فقوّده وجعل له منزلة وتراقت به الأمور حتى ولي طبرستان واستشهد في خلافة المهدي، ثم افتتح موسى بن حفص بن عمرو بن العلاء ومازيار بن قارن جبال شروين من طبرستان، وهي من أمنع الجبال وأصعبها، وذلك في أيام المأمون، فولّى المأمون عند ذلك بلاد طبرستان المازيار وسماه محمدا وجعل له مرتبة الأصبهبذ، فلم يزل واليا عليها حتى توفي المأمون واستخلف المعتصم فأقرّه عليها ولم يعزله فأقام على الطاعة مدة ثم غدر وخالف وذلك بعد ست
سنين من خلافة المعتصم فكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر وهو عامله على المشرق خراسان والريّ وقومس وجرجان يأمره بمحاربته، فوجّه إليه عبد الله الحسن ابن الحسين في جماعة من رجال خراسان ووجّه المعتصم محمد بن إبراهيم بن مصعب في جماعة من الجند، فلما قصدته العساكر خرج إلى الحسن بن الحسين بغير عهد ولا عقد فأخذه وحمله إلى سرّ من رأى في سنة 225 فضرب بالسياط بين يدي المعتصم حتى مات وصلب بسرّ من رأى مع بابك الخرّمي على العقبة التي بحضرة مجلس الشّرطة وتقلد عبد الله بن طاهر طبرستان، وكان ممن ذكرنا جماعة من الولاة من قبل بني العباس لم يكن منهم حادثة ولم يتحقق أيضا عندنا وقت ولاية كل واحد منهم، ثم وليها بعد عبد الله بن طاهر ابنه طاهر بن عبد الله وخلفه عليها أخوه سليمان بن عبد الله بن طاهر فخرج عليه الحسن ابن زيد العلوي الحسني في سنة 249 فأخرجه عنها وغلب عليها إلى أن مات وقام مقامه أخوه محمد بن زيد، وقد ذكرت قصة هؤلاء الزيدية في كتاب المبدإ والمآل مشبعا على نسق، وقال عليّ بن زين الطبري كاتب المازيار وكان حكيما فاضلا له تصانيف في الأدب والطب والحكمة، قال: كان في طبرستان طائر يسمونه ككم يظهر في أيام الربيع فإذا ظهر تبعه جنس من العصافير موشّاة الريش فيخدمه كل يوم واحد منها نهاره أجمع يجيئه بالغذاء ويزقّه به فإذا كان في آخر النهار وثب على ذلك العصفور فأكله حتى إذا أصبح وصاح جاءه آخر من تلك العصافير فكان معه على ما ذكرنا فإذا أمسى أكله فلا يزال على هذا مدة أيام الربيع فإذا زال الربيع فقد هو وسائر أشكاله وكذلك أيضا ذلك الجنس من العصافير فلا يرى شيء من الجميع إلى قابل في ذلك الوقت، وهو طائر في قدر الفاختة وذنبه مثل ذنب الببغاء وفي منسره تعقيف، هكذا وجدته وحققته.

عُوجٌ

عُوجٌ:
بضم أوله، جمع أعوج ضدّ المستقيم، ويجوز أن يكون جمع عوجاء كما يقال صوراء وصور، ويجوز أن يكون جمع عائج كأنه في الأصل عوج، بضم الواو مخفّفة، كما قال الأخطل:
فهنّ بالبذل لا بخل ولا جود
أراد لا بخل ولا جود، وهو اسم لجبلين باليمن يقال لهما جبلا عوج، قال خالد الزّبيدي وكان قد قدم الجزيرة فشرب من شراب سنجار فحنّ إلى وطنه فقال:
أيا جبلي سنجار ما كنتما لنا ... مقيلا ولا مشتى ولا متربّعا
فلو جبلا عوج شكونا إليهما ... جرت عبرات منهما أو تصدّعا

الغَبْغَبُ

الغَبْغَبُ:
بتكرير الغين المعجمة والباء الموحدة، وهو لغة في الغبب المتدلي في عنق البقر وغيره، والغبغب المنحر بمنى: وهو جبيل، وقيل: كان لمعتب بن قيس بيت يقال له غبغب كانوا يحجّون إليه كما يحجّون إلى البيت الشريف، وقيل: الغبغب هو الموضع الذي كان ينحر فيه للات والعزّى بالطائف وخزانة ما يهدى إليهما بها، وقيل: هو بيت كان لمناف وهو صنم كان مستقبل الركن الأسود وله غبغبان أسودان من حجارة تذبح بينهما الذبائح، والغبغب: حجر ينصب بين يدي الصنم كان لمناف مستقبل ركن الحجر الأسود مثل الحجر الذي ينصب عند الميل، منه إلى المدينة ثلاثة فراسخ، قال أبو المنذر: وكان للعزى منحر ينحرون فيه هداياهم يقال له الغبغب، فله يقول الهذلي يهجو رجلا تزوّج امرأة جميلة يقال لها أسماء:
لقد نكحت أسماء لحي بقيرة ... من الأدم أهداها امرؤ من بني غنم
رأى قذعا في عينها، إذ يسوقها ... إلى غبغب العزّى، فوضّع بالقسم
وكانوا يقسمون لحوم هداياهم فيمن حضرها وكان عندها، فلغبغب يقول نهيكة الفزاري لعامر بن الطفيل:
يا عام لو قدرت عليك رماحنا، ... والراقصات إلى منى بالغبغب
للمست بالرّصعاء طعنة فاتك ... حرّان أو لثويت غير محسّب
وله يقول قيس بن منقذ بن عبيد بن ضاطر بن حبشيّة ابن سلول الخزاعي ولدته امرأة من بني حداد من كنانة، وناس يجعلونها من حداد محارب، وهو قيس بن الحدادية الخزاعي:
تكسّا ببيت الله أوّل خلقه ... وإلا فأنصاب يسرن بغبغب
يسرن: يرتفعن.

أول من صنف في الإسلام

في أول من صنف في الإسلام
اعلم واعلم: أنه اختلف في أول من صنف.
فقيل: الإمام: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج البصري.
المتوفى: سنة خمس وخمسين ومائة.
وقيل: أبو النضر: سعيد بن أبي عروبة.
المتوفى: سنة ست وخمسين ومائة.
ذكرهما: الخطيب البغدادي.
وقيل: ربيع بن صبيح.
المتوفى: سنة ستين ومائة.
قاله: أبو محمد الرامهرمزي.
ثم صنف: سفيان بن عيينة، ومالك بن أنس بالمدينة.
وعبد الله بن وهب بمصر.
ومعمر، وعبد الرزاق باليمن.
وسفيان الثوري، ومحمد بن فضيل بن غزوان بالكوفة.
وحماد بن سلمة، وروح بن عبادة بالبصرة.
وهشيم بواسط.
وعبد الله بن المبارك بخراسان.
وكان مطمح نظرهم في التدوين: ضبط معاقد القرآن والحديث، ومعانيهما، ثم دونوا فيما هو كالوسيلة إليهما.

فارِسُ

فارِسُ:
ولاية واسعة وإقليم فسيح، أول حدودها من جهة العراق أرّجان ومن جهة كرمان السّيرجان ومن جهة ساحل بحر الهند سيراف ومن جهة السند مكران، قال أبو علي في القصريات: فارس اسم البلد وليس باسم الرجل ولا ينصرف لأنه غلب عليه التأنيث كنعمان وليس أصله بعربي بل هو فارسيّ معرّب أصله بارس وهو غير مرتضى فعرّب فقيل فارس، قال بطليموس في كتاب ملحمة البلاد: مدينة فارس طولها ثلاث وستون درجة، وعرضها أربع وثلاثون درجة، طالعها الحوت تسع درجات منه تحت عشر درج من السرطان من الإقليم الرابع، لها شركة في سرّة الجوزاء، يقابلها عشر درج من الجدي، بيت عاقبتها مثلها من الميزان، بيت ملكها مثلها من الحمل، وهي في هذه الولاية من أمهات المدن المشهورة غير قليل، وقد ذكرت في مواضعها، وقصبتها الآن شيراز، سميت بفارس بن علم بن سام بن نوح، عليه السلام، وقال ابن الكلبي: فارس بن ماسور بن سام ابن نوح، وقال أبو بكر أحمد بن أبي سهل الحلواني:
الذي أحفظ فارس بن مدين بن إرم بن سام بن نوح، وقيل: بل سميت بفارس بن طهمورث وإليه ينسب الفرس لأنهم من ولده، وكان ملكا عادلا قديما قريب العهد من الطوفان، وكان له عشرة بنين، وهم: جم وشيراز وإصطخر وفسا وجنّابة وكسكر وكلواذى وقرقيسيا وعقرقوف، فأقطع كل واحد منهم البلد الذي سمّي به، ووافق من العربية أن يقال: رجل فارس بيّن الفروسية والفراسة من ركوب الفرس، وفارس بيّن الفراسة إذا كان جيّد النظر والحدس، هذا مصدره بالكسر، ويقال: إنه لفارس بهذا الأمر إذا كان عالما به، والفارس: الحاذق بما يمارس، والعجم لا يقولون لهذا البلد إلا بارس، بالباء الموحدة، وقال الإصطخري: فارس على التربيع إلا من الزاوية التي تلي أصبهان والزاوية التي تلي كرمان مما يلي المفازة وفي الحد الذي يلي البحر تقويس قليل من أوله إلى آخره، وإنما قلنا إن في زاويتها مما يلي كرمان وأصبهان زنقة لأن من شيراز وهي وسط فارس إليهما من المسافة نحوا من نصف ما بين شيراز وخوزستان وبين شيراز وجروم كرمان، وليس بفارس بلد إلا وبه جبل أو يكون الجبل بحيث لا تراه إلا اليسير، وكورها المشهورة خمس، فأوسعها كورة إصطخر ثم أردشير خرّه ثم كورة دارابجرد ثم كورة سابور ثم قباذ خرّه، ونحن نصف كل كورة من هذه في موضعها، وبها خمسة رموم: أكبرها رمّ جيلويه ثم رمّ أحمد ابن الليث ثم رمّ أحمد بن الصالح ثم رمّ شهريار ثم رمّ أحمد بن الحسن، فالرم منزل الأكراد ومحلتهم، وقد روي في فارس فضائل كثيرة، منها
قال ابن لهيعة: فارس والروم قريش العجم، وقد روي عن النبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال:
أبعد الناس إلى الإسلام الروم ولو كان الإسلام معلقا بالثريّا لتناولته فارس، وكانت أرض فارس قديما قبل الإسلام ما بين نهر بلخ إلى منقطع أذربيجان وأرمينية الفارسية إلى الفرات إلى برّية العرب إلى عمان ومكران وإلى كابل وطخارستان وهذا صفوة الأرض وأعدلها فيما زعموا، وفارس خمس كور: إصطخر وسابور وأردشير خرّه ودارابجرد وأرّجان، قالوا:
وهي مائة وخمسون فرسخا طولا ومثلها عرضا، وأما فتح فارس فكان بدؤه أن العلاء الحضرمي عامل أبي بكر ثم عامل عمر على البحرين وجّه عرفجة بن هرثمة البارقي في البحر فعبره إلى أرض فارس ففتح جزيرة مما يلي فارس فأنكر عمر ذلك لأنه لم يستأذنه وقال: غررت المسلمين، وأمره أن يلحق بسعد بن أبي وقاص بالكوفة لأنه كان واحدا على سعد فأراد قمعه بتوجهه إليه على أكره الوجوه، فسار نحوه، فلما بلغ ذا قار مات العلاء الحضرمي وأمر عمر عرفجة بن هرثمة أن يلحق بعتبة بن فرقد السلمي بناحية الجزيرة ففتح الموصل وولّى عمر، رضي الله عنه، عثمان بن أبي العاصي الثقفي على البحرين وعمان فدوّخها واتسقت له طاعة أهلها، فوجّه أخاه الحكم بن أبي العاصي في البحر إلى فارس في جيش عظيم ففتح جزيرة لافت وهي جزيرة بركاوان ثم سار إلى توّج، ففتحها كما نذكره في توج، واتسق فتح فارس كلها في أيام عثمان بن عفان كما نذكره متفرقا عند كل مدينة نذكرها، وكان المستولي على فارس مرزبان يقال له سهرك فجمع جموعه والتقى المسلمين بريشهر فانهزم جيشه وقتل، كما نذكره في ريشهر، فضعفت فارس بعده، وكتب عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، إلى عثمان بن أبي العاصي أن يعبر إلى فارس بنفسه، فاستخلف أخاه المغيرة، وقيل: إنه جاءه حفص بالبحرين وعمان وعبر إلى فارس ومدينة توج وجعل يغير على بلاد فارس وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري بمظاهرة عثمان بن أبي العاصي على أرض فارس، فتتابعت إليه الجيوش حتى فتحت، وكان أبو موسى يغزو فارس من البصرة ثم يعود إليها، وخراج فارس ثلاثة وثلاثون ألف ألف درهم بالكفاية، وذكر أن الفضل بن مروان وزير المتوكل قبلها بخمسة وثلاثين ألف ألف درهم بالكفاية على أنه لا مؤونة على السلطان، وجباها الحجّاج بن يوسف مع الأهواز ثمانية عشر ألف ألف درهم، وقال بعض شعراء الفرس يمدح هذه البلاد:
في بلدة لم تصل عكل بها طنبا ... ولا خباء ولا عكّ وهمدان
ولا لجرم ولا الأتلاد من يمن، ... لكنها لبني الأحرار أوطان
أرض يبنّي بها كسرى مساكنه، ... فما بها من بني اللّخناء إنسان
وبنواحي فارس من أحياء الأكراد ما يزيد على خمسمائة ألف بيت شعر ينتجعون المراعي في الشتاء والصيف على مذاهب العرب، وبفارس من الأنهار الكبار التي تحمل السفن نهر طاب ونهر سيرين ونهر الشاذكان ونهر درخيد ونهر الخوبذان ونهر سكان ونهر جرسق ونهر الإخشين ونهر كرّ ونهر فرواب ونهر بيرده، ولها من البحار بحر فارس وبحيرة البجكان وبحيرة دشت أرزن وبحيرة التوز وبحيرة الجوذان وبحيرة جنكان، قال: وأما القلاع فانه يقال فيما بلغني إن لفارس زيادة على خمسة آلاف قلعة مفردة في الجبال
وبقرب المدن وفي المدن ولا يتهيأ تقصّيها إلا من الدواوين، ومنها قلاع لا يمكن فتحها البتة بوجه من الوجوه، منها قلعة ابن عمارة، وهي قلعة الديكدان، وقلعة الكاريان وقلعة سعيدآباذ وقلعة جوذرز وقلعة الجصّ وغير ذلك، ونحن نصفها في مواضعها من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

قَرِيُّ الخَيل

قَرِيُّ الخَيل:
بالفتح ثم الكسر، والياء مشددة، قال ابن السكيت: سمعت أبا صاعد الكلابي يقول القريّة أن تؤخذ عصيّتان طولهما ذراع ثم يعرض على أطرافهما عويد يؤسر إليهما من كل جانب بقدّ فيكون ما بين العصيتين أربع أصابع ثم يؤتى بعويد فيه فرض فيعرض في وسط القريّة ويشدّ طرفاه بقدّ فيكون فيه رأس للعمود، وليس لها معنى مع ذكر الخيل، إنما القريّ سنن الطريق، يقال: تنحّ عن قريّ الطريق أي سننه، قال ابن جني: لام القريّ ياء لقولهم في تكسيره قريان، وقال ابن جني أيضا: القريان مجاري الماء إلى الرياض، واحدها قريّ، وقري الخيل: واد بعينه يصبّ في ذي مرخ يحبس الماء وينبت البقل كان يحمل إليه الخيل فترعاه، فيجوز على ذلك أن يكون من القريّ يعني يقري الخيل أي يطعمها ويضيفها، قال جرير:
أمسى فؤادك عند الحيّ مرهونا، ... وأصبحوا من قريّ الخيل غادينا
قادتهم نيّة للبين شاطنة، ... يا حبّ بالبين، إذ حلّت به، بينا!
البين، بالكسر: التخوم بين البلدين، وفي الحماسة قال جابر بن حريش:
ولقد أرانا يا سميّ بحائل ... نرعى القريّ فكامسا فالأصفرا
وقريّ السّقيّ باليمامة، وقريّ سفيان: باليمامة أيضا.
وقري بني ملكان: باليمامة أيضا قرية كان يسكن ذو الرمة وأهله بها إلى الساعة، قاله الحفصي، وقريّ بني قشير، قال الحفصي في ذكره نواحي اليمامة: على شط وادي الفقيّ مما يلي الشمال قريّ يسير، والقريّ: حيث يستقر الماء.

كَرْخُ بَغْدَاد

كَرْخُ بَغْدَاد:
ولما ابتنى المنصور مدينة بغداد أمر أن تجعل الأسواق في طاقات المدينة إزاء كل باب سوق، فلم يزل على ذلك مدّة حتى قدم عليه بطريق من بطارقة الروم رسولا من عند الملك فأمر الربيع أن يطوف به في المدينة حتى ينظر إليها ويتأملها ويرى سورها وأبوابها وما حولها من العمارة ويصعده السور حتى يمشي من أوله إلى آخره ويريه قباب الأبواب والطاقات وجميع ذلك، ففعل الربيع ما أمره به، فلما رجع إلى المنصور قال له: كيف رأيت مدينتي؟
قال: رأيت بناء حسنا ومدينة حصينة إلا أن أعداءك فيها معك، قال: من هم؟ قال: السوقة، يوافي الجاسوس من جميع الأطراف فيدخل الجاسوس بعلّة التجارة والتجار هم برد الآفاق فيتجسس الأخبار ويعرف ما يريد وينصرف من غير أن يعلم به أحد، فسكت المنصور، فلما انصرف البطريق أمر بإخراج السوقة من المدينة وتقدم إلى إبراهيم بن حبيش الكوفي وخرّاش بن المسيب اليماني بذلك وأمرهما أن يبنيا ما بين الصراة ونهر عيسى سوقا وأن يجعلاها صفوفا ورتّب كل صف في موضعه وقال: اجعلا سوق القصّابين في آخر الأسواق فإنهم سفهاء وفي أيديهم الحديد القاطع، ثم أمر أن يبنى لهم مسجد يجتمعون فيه يوم الجمعة ولا يدخلوا المدينة، قال الخطيب:
وقلد المنصور ذلك رجلا يقال له الوضّاح بن شبا فبنى القصر الذي يقال له قصر الوضاح والمسجد فيه، قال ولم يضع المنصور على الأسواق غلّة حتى مات، فلما استخلف المهدي أشار عليه أبو عبد الله حتى وضع على الحوانيت الخراج، وقال غيره: إنه وضع عليهم المنصور الغلة على قدر الصناعة، فلما كثر الناس ضاقت عليهم فقالوا لإبراهيم بن حبيش وخرّاش: قد ضاقت علينا هذه الصفوف ونحن نتسع ونبني لنا أسواقا من أموالنا ونؤدي عنّا الإجارة، فأجيبوا إلى ذلك فاتسعوا في البناء والأسواق، وقد قيل: إن السبب في نقلهم إلى الكرخ أن دخاخينهم ارتفعت واسودّت حيطان المدينة وتأذّى بها المنصور فأمر بنقلهم، وقال محمد بن داود الأصبهاني:
يهيم بذكر الكرخ قلبي صبابة، ... وما هو إلا حبّ من حلّ بالكرخ
ولست أبالي بالرّدى بعد فقدهم، ... وهل يجزع المذبوح من ألم السلخ؟
وأضاف إليهما عبيد الله بن عبد الله الحافظ بيتين آخرين وهما:
أقول وقد فارقت بغداد مكرها: ... سلام على أهل القطيعة والكرخ
هواي ورائي والمسير خلافه، ... فقلبي إلى كرخ ووجهي إلى بلخ
والأشعار في الكرخ كثيرة جدّا، وكانت الكرخ أولا في وسط بغداد والمحالّ حولها، فأما الآن فهي محلة وحدها مفردة في وسط الخراب وحولها محالّ إلا أنها غير مختلطة بها، فبين شرقها والقبلة محلة باب البصرة وأهلها كلهم سنّيّة حنابلة لا يوجد غير ذلك، وبينهما نحو شوط فرس، وفي جنوبها المحلة المعروفة بنهر القلّائين وبينهما أقلّ مما بينهما وبين باب البصرة، وأهلها أيضا سنّيّة حنابلة، وعن يسار قبلتها محلة تعرف بباب المحوّل وأهلها أيضا سنية، وفي قبلتها نهر الصراة، وفي شرقيها نصب بغداد ومحالّ كثيرة، وأهل الكرخ كلهم شيعة إمامية لا يوجد فيهم سنيّ البتة.

كُنْدُر

كُنْدُر:
مثل الذي قبله بنقص الألف والنون: موضعان أحدهما قرية من نواحي نيسابور من أعمال طريثيث، وإليها ينسب عميد الملك أبو نصر محمد بن أبي صالح منصور بن محمد الكندري الجرّاحي وزير طغرلبك أول ملوك السلجوقية ثم قتل سنة 459، وقد ذكرت قصته في كتابي المبدإ والمآل ومعجم الأدباء. وكندر أيضا: قرية قريبة من قزوين، ينسب إليها أبو غانم الحسين وأبو الحسن علي ابنا عيسى بن الحسين الكندري سمعا أبا عبد الله عبد الرحمن بن محمد بن الحسين السّلمي الصوفي وكتبا تصانيفه ولهما في جامع قزوين كتب موقوفة تنسب إليهما في الصندوق المعروف بالعثماني.

المَحْلَبِيّةُ

المَحْلَبِيّةُ:
بالفتح ثم السكون، واللام مفتوحة ثم باء موحدة، والياء مشدّدة، كأنه اسم المكان من حلب يحلب أو يكون اسم بقعة نسبت إلى المحلب وهو شيء من العطر: وهي بليدة بين الموصل وسنجار قصبة كورة الفرج من تلّ أعفر وجميعها أملاك لأهلها وليس للسلطان فيها إلا خراج يسير، قال بعضهم:
أيا جبلي سنجار ما كنتما لنا ... مقيظا ولا مشتى ولا متربّعا
فلو جبلا عوج شكونا إليهما ... جرت عبرات منهما أو تصدّعا
بكى يوم تلّ المحلبية صابئ ... وألهى عويدا بثّه فتقنّعا

المدَائِنُ

المدَائِنُ:
قال بطليموس: طول المدائن سبعون درجة وثلث، وعرضها ثلاث وثلاثون درجة وثلث، بالفتح جمع المدينة، تهمز ياؤها ولا تهمز، إن أخذت من دان يدين إذا أطاع لم تهمز إذا جمع على مداين لأنه مثل معيشة وياؤه أصلية، وإن أخذت من مدن بالمكان إذا أقام به همزت لأن ياءها زائدة فهي مثل قرينة وقرائن وسفينة وسفائن، والنسبة إليها مدائنيّ وإنما جاز النسبة إلى الجمع بصيغته لأنه صار علما بهذه الصيغة وإلّا فالأصل أن يردّ المجموع إلى الواحد ثم ينسب إليه، والنسبة إلى مدينة الرسول، صلّى الله عليه وسلّم، مدنيّ وربما قيل مدينيّ، والنسبة إلى مدينة أصبهان مدينيّ لا غير وربما نسب إلى غيرها هذه النسبة كبغداد ومرو ونيسابور والمدائن العظام، قال يزدجرد بن مهبندار الكسروي في رسالة له عملها في تفضيل بغداد فقال في تضاعيفها ولقد كنت أفكر كثيرا في نزول فقال في نزول الأكاسرة بين أرض الفرات ودجلة فوقفت على أنهم توسطوا مصبّ الفرات في دجلة هذا ان الإسكندر لما سار في الأرض ودانت له الأمم وبنى المدن العظام في المشرق والمغرب رجع إلى المدائن وبنى فيها مدينة وسوّرها وهي إلى هذا الوقت موجودة الأثر وأقام بها راغبا عن بقاع الأرض جميعا وعن بلاده ووطنه حتى مات، قال يزدجرد: أما أنوشروان بن قباذ وكان أجلّ ملوك فارس حزما ورأيا وعقلا وأدبا فإنه بنى المدائن وأقام بها هو ومن كان بعده من ملوك بني ساسان إلى أيام عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، وقد ذكر في سير الفرس أن أول من اختطّ مدينة في هذا الموضع أردشير بن بابك، قالوا: لما ملك البلاد سار حتى نزل في هذا الموضع فاستحسنه فاختطّ به مدينة، قال: وإنما سميت المدائن لأن زاب الملك الذي بعد موسى، عليه السّلام، ابتناها بعد ثلاثين سنة من ملكه وحفر الزوابي وكوّرها وجعل المدينة العظمى المدينة العتيقة، فهذا ما وجدته مذكورا عن القدماء ولم أر أحدا ذكر لم سمّيت بالجمع والذي عندي فيه أن هذا الموضع كان مسكن الملوك من الأكاسرة الساسانية وغيرهم فكان كلّ واحد منهم إذا ملك بنى لنفسه مدينة إلى جنب التي قبلها وسماها باسم، فأولها المدينة العتيقة التي لزاب، كما ذكرنا، ثم مدينة الإسكندر ثم طيسفون من مدائنها ثم اسفانبر ثم مدينة يقال لها رومية فسميت المدائن بذلك، والله أعلم، وكان فتح المدائن كلها على يد سعد بن أبي وقّاص في صفر سنة 16 في أيام عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال حمزة: اسم المدائن بالفارسية توسفون وعرّبوه على الطيسفون والطيسفونج وإنما سمّتها العرب المدائن لأنها سبع مدائن بين كل مدينة إلى الأخرى مسافة قريبة أو بعيدة، وآثارها واسماؤها باقية، وهي: اسفابور ووه أردشير وهنبو شافور ودرزيندان ووه جنديوخسره ونونيافاذ وكردافاذ، فعرّب اسفابور على اسفانبر، وعرّب وه أردشير على بهرسير، وعرب هنبو شافور على جنديسابور، وعرب درزيندان على درزيجان، وعرب وه جنديوخسره على رومية، وعرب السادس والسابع على اللفظ، فلما ملك العرب ديار الفرس واختطت الكوفة والبصرة انتقل إليهما الناس عن المدائن وسائر مدن العراق ثم اختط الحجاج واسطا فصارت دار الإمارة، فلما زال ملك بني أميّة اختط المنصور بغداد فانتقل إليها الناس ثم اختط المعتصم سامرّا فأقام الخلفاء بها مدّة ثم رجعوا إلى بغداد فهي الآن أم بلاد العراق، فأما في وقتنا هذ فالمسمى بهذا الاسم بليدة شبيهة بالقرية بينها وبين بغداد ستة فراسخ وأهلها فلّاحون يزرعون ويحصدون والغالب على أهلها التشيّع على مذهب الإمامية، وبالمدينة الشرقية قرب الإيوان قبر سلمان الفارسي، رضي الله عنه، وعليه مشهد يزار إلى وقتنا هذا، وقال رجل من مراد:
دعوت كريبا بالمدائن دعوة، ... وسيرت إذ ضمّت عليّ الأظافر
فيال بني سعد علام تركتما ... أخا لكما يدعوكما وهو صابر
أخا لكما إن تدعواه يجبكما، ... ونصركما منه إذا ريع فاتر
وقال عبدة بن الطيب:
هل حبل خولة بعد الهجر موصول، ... أم أنت عنها بعيد الدار مشغول؟
وللأحبّة أيّام تذكّرها، ... وللنّوى قبل يوم البين تأويل
حلّت خويلة في دار مجاورة ... أهل المدائن فيها الديك والفيل
يقارعون رؤوس العجم ظاهرة ... منها فوارس لا عزل ولا ميل
من دونها، لعتاق العيس إن طلبت، ... خبت بعيد نياط الماء مجهول
وقال رجل من الخوارج كان مع الزبير بن الماخور وكانوا أوقعوا بأهل المدائن فقال:
ونجّى يزيدا سابح ذو علالة، ... وأفلتنا يوم المدائن كردم
وأقسم لو أدركته إذ طلبته ... لقام عليه من فزارة مأتم
والمدائن أيضا: اسم قريتين من نواحي حلب في نقرة بني أسد، إليها فيما أحسب ينسب أبو الفتح أحمد ابن علي المدائني الحلبي، قرأت بخط عبد الله بن محمد ابن سنان الخفاجي الحلبي على جزء من كتاب الحيوان للجاحظ: ابتعته من تركة أبي الفتح أحمد المدائني في جمادى الآخرة سنة 459.

المَقْدِسُ

المَقْدِسُ:
في اللغة المنزه، قال المفسرون في قوله تعالى:
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ 2: 30، قال الزّجاج: معنى نقدس لك أي نطهّر أنفسنا لك وكذلك نفعل بمن أطاعك نقدسه أي نطهّره، قال: ومن هذا قيل للسطل القدس لأنه يتقدّس منه أي يتطهّر، قال:
ومن هذا بيت المقدس، كذا ضبطه بفتح أوله، وسكون ثانيه، وتخفيف الدال وكسرها، أي البيت المقدّس المطهّر الذي يتطهر به من الذنوب، قال مروان:
قل للفرزدق، والسفاهة كاسمها: ... إن كنت تارك ما أمرتك فاجلس
ودع المدينة إنها محذورة، ... والحق بمكة أو بيت المقدس
وقال قتادة: المراد بأرض المقدس أي المبارك، وإليه ذهب ابن الأعرابي، ومنه قيل للراهب مقدّس، ومنه قول امرئ القيس:
فأدركنه يأخذن بالساق والنّسا ... كما شبرق الولدان ثوب المقدّس
وصبيان النصارى يتبرّكون به وبمسح مسحه الذي هو لابسه وأخذ خيوطه منه حتى يتمزق عنه ثوبه، وفضائل بيت المقدس كثيرة ولا بدّ من ذكر شيء منها حتى يستحسنه المطّلع عليه، قال مقاتل بن سليمان قوله تعالى: وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ، 21: 71 قال: هي بيت المقدس، وقوله تعالى لبني إسرائيل: وواعدناكم جانب الطور الأيمن، يعني بيت المقدس، وقوله تعالى: وجعلنا ابن مريم وأمه آيتين وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين، قال:
البيت المقدس، وقال تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا من الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى 17: 1، هو بيت المقدس، وقوله تعالى: في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، البيت المقدس، وفي الخبر: من صلى في بيت المقدس فكأنما صلى في السماء، ورفع الله عيسى بن مريم إلى السماء من بيت المقدس وفيه مهبطه إذا هبط وتزفّ الكعبة بجميع حجّاجها إلى البيت المقدس يقال لها مرحبا بالزائر والمزور، وتزف جميع مساجد الأرض إلى البيت المقدس، أول شيء حسر عنه بعد الطوفان صخرة بيت المقدس وفيه ينفخ في الصور يوم القيامة وعلى صخرته ينادي المنادي يوم القيامة، وقد قال الله تعالى لسليمان بن داود، عليهما السلام، حين فرغ من بناء البيت المقدس:
سلني أعطك، قال: يا رب أسألك أن تغفر لي ذنبي، قال: لك ذلك، قال: يا رب وأسألك أن تغفر لمن جاء هذا البيت يريد الصلاة فيه وأن تخرجه من ذنوبه كيوم ولد، قال: لك ذلك، قال: وأسألك من جاء فقيرا أن تغنيه، قال: لك ذلك، قال:
وأسألك من جاء سقيما أن تشفيه، قال: ولك ذلك، وعن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال: لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام ومسجد البيت المقدس، وإن الصلاة في بيت المقدس خير من ألف صلاة في غيره، وأقرب بقعة في الأرض من السماء البيت المقدس ويمنع الدّجال من دخولها ويهلك يأجوج ومأجوج دونها، وأوصى آدم، عليه السّلام، أن يدفن بها وكذلك إسحاق وإبراهيم، وحمل يعقوب من أرض مصر حتى دفن بها، وأوصى يوسف، عليه السّلام، حين مات بأرض مصر أن يحمل إليها، وهاجر إبراهيم من كوثى إليها، وإليها المحشر ومنها المنشر، وتاب الله على داود بها، وصدّق إبراهيم الرؤيا بها، وكلّم عيسى الناس في المهد بها، وتقاد الجنة يوم القيامة إليها ومنها يتفرّق الناس إلى الجنة أو إلى النار، وروي عن كعب أن جميع الأنبياء، عليهم السلام، زاروا بيت المقدس تعظيما له، وروي عن كعب أنه قال: لا تسمّوا بيت المقدس إيلياء ولكن سموه باسمه فإن إيلياء امرأة بنت المدينة، وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم: فلما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس سأل الله حكما يوافق حكمه وملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه الله ذلك، وعن ابن عباس قال: البيت المقدس بنته الأنبياء وسكنته الأنبياء ما فيه موضع شبر إلا وقد صلى فيه نبيّ أو أقام فيه ملك، وعن أبي ذر قال: قلت لرسول الله، صلّى الله عليه وسلّم: أيّ مسجد وضع على وجه الأرض أوّلا؟ قال: المسجد الحرام، قلت: ثم أيّ؟ قال: البيت المقدس وبينهما أربعون سنة، وروي عن أبيّ بن كعب قال: أوحى الله تعالى إلى داود ابن لي بيتا، قال: يا رب وأين من الأرض؟ قال: حيث ترى الملك شاهرا سيفه، فرأى داود ملكا على الصخرة واقفا وبيده سيف، وعن الفضيل بن عياض قال: لمّا صرفت القبلة نحو الكعبة قالت الصخرة: إلهي لم أزل قبلة لعبادك حتى إذا بعثت خير خلقك صرفت قبلتهم عني! قال: ابشري فإني واضع عليك عرشي وحاشر إليك خلقي وقاض عليك أمري وناشر منك عبادي، وقال كعب: من زار البيت المقدس شوقا إليه دخل الجنة، ومن صلى فيه ركعتين خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه وأعطي قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا، ومن تصدّق فيه بدرهم كان فداءه من النار، ومن صام فيه يوما واحدا كتبت له براءته من النار، وقال كعب: معقل المؤمنين أيام الدجال البيت المقدس يحاصرهم فيه حتى يأكلوا أوتار قسيّهم من الجوع، فبينما هم كذلك إذ سمعوا صوتا من الصخرة فيقولون هذا صوت رجل شعبان، ينظرون فإذا عيسى بن مريم، عليه السّلام، فإذا رآه الدجال هرب منه فيتلقاه بباب لدّ فيقتله، وقال أبو مالك القرظي في كتاب اليهود الذي لم يغيّر: إن الله تعالى خلق الأرض فنظر إليها وقال: أنا واطئ على بقعتك، فشمخت الجبال وتواضعت الصخرة فشكر الله لها وقال: هذا مقامي وموضع ميزاني وجنتي وناري ومحشر خلقي وأنا ديّان يوم الدين، وعن وهب بن منبّه قال: أمر إسحاق ابنه يعقوب أن لا ينكح امرأة من الكنعانيين وأن ينكح من بنات خاله لابان ابن تاهر بن أزر وكان مسكنه فلسطين فتوجه إليها يعقوب، وأدركه في بعض الطريق الليل فبات متوسدا حجرا فرأى فيما يرى النائم كأن سلّما منصوبا إلى باب السماء عند رأسه والملائكة تنزل منه وتعرج فيه وأوحى الله إليه: إني أنا الله لا إله إلا أنا إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وقد ورّثتك هذه الأرض المقدسة وذريتك من بعدك وباركت فيك وفيهم وجعلت فيكم الكتاب والحكمة والنبوّة ثم أنا معك حتى تدرك إلى هذا المكان فاجعله بيتا تعبدني فيه أنت وذريتك، فيقال إنه بيت المقدس، فبناه داود وابنه سليمان ثم أخربته الجبابرة بعد ذلك فاجتاز به شعيا، وقيل عزير، عليهما السلام، فرآه خرابا، فقال: أنّي يحيى هذه الله بعد موتها؟ فأماته الله مائة عام ثم بعثه، كما قص، عزّ وجل، في كتابه الكريم، ثم بناه ملك من ملوك فارس يقال له كوشك، وكان قد اتخذ سليمان في بيت المقدس أشياء عجيبة، منها القبّة التي فيها السلسلة المعلقة ينالها صاحب الحق ولا ينالها المبطل حتى اضمحلت بحيلة غير معروفة، وكان من عجائب بنائه أنه بنى بيتا وأحكمه وصقله فإذا دخله الفاجر والورع تبيّن الفاجر من الورع لأن
الورع كان يظهر خياله في الحائط أبيض والفاجر يظهر خياله أسود، وكان أيضا مما اتخذ من الأعاجيب أن ينصب في زاوية من زواياه عصا آبنوس فكان من مسها من أولاد الأنبياء لم تضرّه ومن مسها من غيرهم أحرقت يده، وقد وصفها القدماء بصفات إن استقصيتها أمللت القارئ، والذي شاهدته أنا منها أن أرضها وضياعها وقراها كلّها جبال شامخة وليس حولها ولا بالقرب منها أرض وطيئة البتة وزروعها على الجبال وأطرافها بالفؤوس لأن الدواب لا صنع لها هناك، وأما نفس المدينة فهي على فضاء في وسط تلك الجبال وأرضها كلها حجر من الجبال التي هي عليها وفيها أسواق كثيرة وعمارات حسنة، وأما الأقصى فهو في طرفها الشرقي نحو القبلة أساسه من عمل داود، عليه السّلام، وهو طويل عريض وطوله أكثر من عرضه، وفي نحو القبلة المصلى الذي يخطب فيه للجمعة وهو على غاية الحسن والإحكام مبنيّ على الأعمدة الرخام الملونة والفسيفساء التي ليس في الدنيا أحسن منها لا جامع دمشق ولا غيره، وفي وسط صحن هذا الموضع مصطبة عظيمة في ارتفاع نحو خمسة أذرع كبيرة يصعد إليها الناس من عدة مواضع بدرج، وفي وسط هذه المصطبة قبة عظيمة على أعمدة رخام مسقفة برصاص منمّقة من برّا وداخل بالفسيفساء مطبقة بالرخام الملون قائم ومسطح، وفي وسط هذا الرخام قبة أخرى وهي قبة الصخرة التي تزار وعلى طرفها أثر قدم النبي، صلّى الله عليه وسلّم، وتحتها مغارة ينزل إليها بعدّة درج مبلّطة بالرخام قائم ونائم يصلّى فيها وتزار، ولهذه القبة أربعة أبواب، وفي شرقيها برأسها قبة أخرى على أعمدة مكشوفة حسنة مليحة يقولون إنها قبة السلسلة، وقبة المعراج أيضا على حائط المصطبة وقبة النبي داود، عليه السّلام، كل ذلك على أعمدة مطبق أعلاها بالرصاص، وفيها مغاور كثيرة ومواضع يطول عددها مما يزار ويتبرك به، ويشرب أهل المدينة من ماء المطر، ليس فيها دار إلا وفيها صهريج لكنها مياه رديّة أكثرها يجتمع من الدروب وإن كانت دروبهم حجارة ليس فيها ذلك الدّنس الكثير، وبها ثلاث برك عظام: بركة بني إسرائيل وبركة سليمان، عليه السّلام، وبركة عياض عليها حمّاماتهم، وعين سلوان في ظاهر المدينة في وادي جهنم مليحة الماء وكان بنو أيوب قد أحكموا سورها ثم خرّبوه على ما نحكيه بعد، وفي المثل:
قتل أرضا عالمها وقتلت أرض جاهلها، هذا قول أبي عبد الله محمد بن أحمد بن البنّاء البشّاري المقدسي له كتاب في أخبار بلدان الإسلام وقد وصف بيت المقدس فأحسن فالأولى أن نذكر قوله لأنه أعرف ببلده وإن كان قد تغير بعده بعض معالمها، قال: هي متوسطة الحرّ والبرد قلّ ما يقع فيها ثلج، قال:
وسألني القاضي أبو القاسم عن الهواء بها فقلت: سجسج لا حرّ ولا برد، فقال: هذه صفة الجنّة، قلت:
بنيانهم حجر لا ترى أحسن منه ولا أنفس منه ولا أعفّ من أهلها ولا أطيب من العيش بها ولا أنظف من أسواقها ولا أكبر من مسجدها ولا أكثر من مشاهدها، وكنت يوما في مجلس القاضي المختار أبي يحيى بهرام بالبصرة فجرى ذكر مصر إلى أن سئلت: أيّ بلد أجلّ؟ قلت: بلدنا، قيل: فأيهما أطيب؟ قلت: بلدنا، قيل: فأيهما أفضل؟ قلت: بلدنا، قيل: فأيهما أحسن؟ قلت:
بلدنا، قيل: فأيهما أكثر خيرات؟ قلت: بلدنا، قيل: فأيهما أكبر؟ قلت: بلدنا، فتعجب أهل المجلس من ذلك وقيل: أنت رجل محصّل وقد ادّعيت ما لا يقبل منك وما مثك إلا كصاحب
الناقة مع الحجاج، قلت: أما قولي أجلّ فلأنها بلدة جمعت الدنيا والآخرة فمن كان من أبناء الدنيا وأراد الآخرة وجد سوقها، ومن كان من أبناء الآخرة فدعته نفسه إلى نعمة الدنيا وجدها، وأما طيب هوائها فإنه لا سمّ لبردها ولا أذى لحرها، وأما الحسن فلا يرى أحسن من بنيانها ولا أنظف منها ولا أنزه من مسجدها، وأما كثرة الخيرات فقد جمع الله فيها فواكه الأغوار والسهل والجبل والأشياء المتضادّة كالأترجّ واللوز والرطب والجوز والتين والموز، وأما الفضل فهي عرصة القيامة ومنها النشر وإليها الحشر وإنما فضلت مكة بالكعبة والمدينة بالنبي، صلّى الله عليه وسلّم، ويوم القيامة تزفّان إليها فتحوي الفضل كله، وأما الكبر فالخلائق كلهم يحشرون إليها فأي أرض أوسع منها؟ فاستحسنوا ذلك وأقرّوا به، قال: إلا أن لها عيوبا، يقال إن في التوراة مكتوبا بيت المقدس طست من ذهب مملوء عقارب، ثم لا ترى أقذر من حماماتها ولا أثقل مؤنة وهي مع ذلك قليلة العلماء كثيرة النصارى وفيهم جفاء وعلى الرحبة والفنادق ضرائب ثقال وعلى ما يباع فيها رجّالة وعلى الأبواب أعوان فلا يمكن أحدا أن يبيع شيئا مما يرتفق به الناس إلا بها مع قلة يسار، وليس للمظلوم أنصار، فالمستور مهموم والغني محسود والفقيه مهجور والأديب غير مشهور، ولا مجلس نظر ولا تدريس، قد غلب عليها النصارى واليهود وخلا المجلس من الناس والمسجد من الجماعات، وهي أصغر من مكة وأكبر من المدينة عليها حصن بعضه على جبل وعلى بقيته خندق، ولها ثمانية أبواب حديد:
باب صهيون وباب النية وباب البلاط وباب جب ارميا وباب سلوان وباب أريحا وباب العمود وباب محراب داود، عليه السّلام، والماء بها واسع، وقيل: ليس ببيت المقدس أكثر من الماء والأذان قلّ أن يكون بها دار ليس بها صهريج أو صهريجان أو ثلاثة على قدر كبرها وصغرها، وبها ثلاث برك عظام: بركة بني إسرائيل وبركة سليمان وبركة عياض عليها حمّاماتهم لها دواع من الأزقة، وفي المسجد عشرون جبّا مشجّرة قلّ أن تكون حارة ليس بها جبّ مسيل غير أن مياها من الأزقة وقد عمد إلى واد فجعل بركتين تجتمع إليهما السيول في الشتاء وقد شقّ منهما قناه إلى البلد تدخل وقت الربيع فتدخل صهاريج الجامع وغيرها، وأما المسجد الأقصى فهو على قرنة البلد الشرقي نحو القبلة أساسه من عمل داود، طول الحجر عشرة أذرع وأقلّ منقوشة موجّهة مؤلفة صلبة وقد بنى عليه عبد الملك بحجارة صغار حسان وشرّفوه وكان أحسن من جامع دمشق لكن جاءت زلزلة في أيام بني العباس فطرحته إلّا ما حول المحراب، فلما بلغ الخليفة خبره أراد رده مثلما كان فقيل له:
تعيا ولا تقدر على ذلك، فكتب إلى أمراء الأطراف والقوّاد يأمرهم أن يبني كل واحد منهم رواقا، فبنوه أوثق وأغلظ صناعة مما كان، وبقيت تلك القطعة شامة فيه وهي إلى حذاء الأعمدة الرخام، وما كان من الأساطين المشيدة فهو محدث، وللمغطى ستة وعشرون بابا: باب يقابل المحراب يسمّى باب النحاس الأعظم مصفح بالصفر المذهّب لا يفتح مصراعه إلا رجل شديد القوّة عن يمينه سبعة أبواب كبار في وسطها باب مصفح مذهب وعلى اليسار مثلها وفي نحو المشرق أحد عشر بابا سواذج وخمسة عشر رواقا على أعمدة رخام أحدثها عبد الله بن طاهر، وعلى الصحن من الميمنة أروقة على أعمدة رخام وأساطين، وعلى المؤخر أروقة ازاج من الحجارة، وعلى وسط المغطى جمل عظيم خلف قبة حسنة، والسقوف كلها إلّا المؤخر ملبسة بشقاق الرصاص والمؤخر مرصوف بالفسيفساء الكبار والصحن كله مبلط، وفي وسط الرواق دكة مربعة مثل مسجد يثرب يصعد إليها من أربع جهاتها بمراق واسعة، وفي الدكة أربع قباب:
قبة السلسلة وقبة المعراج وقبة النبي، صلّى الله عليه وسلّم، وهذه الثلاث الصغار ملبسة بالرصاص على أعمدة رخام مكشوفة، وفي وسط الدكة قبة الصخرة على بيت مثمن بأربعة أبواب كل باب يقابل مرقاة من مراقي الدكة، وهي: الباب القبليّ وباب إسرافيل وباب الصور وباب النساء، وهو الذي يفتح إلى المغرب، جميعها مذهبة في وجه كل واحد باب مليح من خشب التّنّوب، وكانت قد أمرت بعملها أمّ المقتدر بالله، وعلى كل باب صفّة مرخمة والتنّوبيّة مطبّقة على الصفرية من خارج، وعلى أبواب الصفّات أبواب أيضا سواذج داخل البيت ثلاثة أروقة دائرة على أعمدة معجونة أجلّ من الرخام وأحسن لا نظير لها قد عقدت عليه أروقة لاطئة داخلة في رواق آخر مستدير على الصخرة على أعمدة معجونة بقناطر مدورة فوق هذه منطقة متعالية في الهواء فيها طاقات كبار والقبة فوق المنطقة طولها غير القاعدة الكبرى مع السّفّود في الهواء مائة ذراع ترى من البعد فوقها سفود حسن طوله قامة وبسطة، والقبة على عظمها ملبسة بالصفر المذهب وأرض البيت مع حيطانه، والمنطقة من داخل وخارج على صفة جامع دمشق، والقبة ثلاث سافات: الأولى مروّقة على الألواح، والثانية من أعمدة الحديد قد شبكت لئلا تميلها الرياح، ثم الثالثة من خشب عليها الصفائح وفي وسطها طريق إلى عند السفود يصعد منها الصّنّاع لتفقدها ورمّها فإذا بزغت عليها الشمس أشرقت القبة وتلألأت المنطقة ورؤيت شيئا عجيبا، وعلى الجملة لم أر في الإسلام ولا سمعت أن في الشرك مثل هذه القبة، ويدخل المسجد من ثلاثة عشر موضعا بعشرين بابا، منها:
باب الحطّة وباب النبي، عليه الصلاة والسلام، وباب محراب مريم وباب الرحمة وباب بركة بني إسرائيل وباب الأسباط وباب الهاشميين وباب الوليد وباب إبراهيم، عليه السلام، وباب أمّ خالد وباب داود، عليه السّلام، وفيه من المشاهد محراب مريم وزكرياء ويعقوب والخضر ومقام النبي، صلى الله عليه وسلم، وجبرائيل وموضع المنهل والنور والكعبة والصراط متفرقة فيه وليس على الميسرة أروقة، والمغطى لا يتصل بالحائط الشرقي وإنما ترك هذا البعض لسبين أحدهما قول عمر: واتخذوا في غربي هذا المسجد مصلّى للمسلمين، فتركت هذه القطعة لئلا يخالف، والآخر لو مدّ المغطى إلى الزاوية لم تقع الصخرة حذاء المحراب فكرهوا ذلك، والله أعلم، وطول المسجد ألف ذراع بالذراع الهاشمي، وعرضه سبعمائة ذراع، وفي سقوفه من الخشب أربعة آلاف خشبة وسبعمائة عمود رخام، وعلى السقوف خمسة وأربعون ألف شقة رصاص، وحجم الصخرة ثلاثة وثلاثون ذراعا في سبعة وعشرين، وتحت الصخرة مغارة تزار ويصلّى فيها تسع مائة وستين نفسا، وكانت وظيفته كل شهر مائة دينار، وفي كل سنة ثمانمائة ألف ذراع حصرا، وخدّامه مماليك له أقامهم عبد الملك من خمس الأسارى ولذلك يسمّون الأخماس لا يخدمه غيرهم ولهم نوب يحفظونها، وقال المنجمون:
المقدس طوله ست وخمسون درجة، وعرضه ثلاث وثلاثون درجة، في الإقليم الثالث، وأما فتحها في أول الإسلام إلى يومنا هذا فإن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أنفذ عمرو بن العاص إلى فلسطين ثم نزل البيت المقدس فامتنع عليه فقدم أبو عبيدة بن الجرّاح
بعد أن افتتح قنّسرين وذلك في سنة 16 للهجرة فطلب أهل بيت المقدس من أبي عبيدة الأمان والصلح على مثل ما صولح عليه أهل مدن الشام من أداء الجزية والخراج والدخول فيما دخل فيه نظراؤهم على أن يكون المتولّي للعقد لهم عمر بن الخطاب، فكتب أبو عبيدة بذلك إلى عمر فقدم عمر ونزل الجابية من دمشق ثم صار إلى بيت المقدس فأنفذ صلحهم وكتب لهم به كتابا وكان ذلك في سنة 17، ولم تزل على ذلك بيد المسلمين، والنصارى من الروم والأفرنج والأرمن وغيرهم من سائر أصنافهم يقصدونها للزيارة إلى بيعتهم المعروفة بالقمامة وليس لهم في الأرض أجلّ منها، حتى انتهت إلى أن ملكها سكمان بن أرتق وأخوه ايلغازي جدّ هؤلاء الذين بدياربكر صاحب ماردين وآمد، والخطبة فيها تقام لبني العباس، فاستضعفهم المصريون وأرسلوا إليهم جيشا لا طاقة لهم به، وبلغ سكمان وأخاه خبر ذلك فتركوها من غير قتال وانصرفوا نحو العراق، وقيل: بل حاصروها ونصبوا عليها المجانيق ثم سلموها بالأمان ورجع هؤلاء إلى نحو المشرق، وذلك في سنة 491، واتّفق أن الأفرنج في هذه الأيام خرجوا من وراء البحر إلى الساحل فملكوا جميع الساحل أو أكثره وامتدوا حتى نزلوا على البيت المقدّس فأقاموا عليها نيفا وأربعين يوما ثم ملكوها من شماليها من ناحية باب الأسباط عنوة في اليوم الثالث والعشرين من شعبان سنة 492 ووضعوا السيف في المسلمين أسبوعا والتجأ الناس إلى الجامع الأقصى فقتلوا فيه ما يزيد على سبعين ألفا من المسلمين وأخذوا من عند الصخرة نيفا وأربعين قنديلا فضّة كل واحد وزنه ثلاثة آلاف وستمائة درهم فضّة وتنّور فضة وزنه أربعون رطلا بالشامي وأموالا لا تحصى، وجعلوا الصخرة والمسجد الأقصى مأوى لخنازيرهم، ولم يزل في أيديهم حتى استنقذه منهم الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب في سنة 583 بعد إحدى وتسعين سنة أقامها في يد الأفرنج وهي الآن في يد بني أيوب، والمستولي عليهم الآن منهم الملك المعظم عيسى ابن العادل أبي بكر بن أيوب، وكانوا قد أحكموا سوره وعمّروه وجوّدوه، فلما خرج الأفرنج في سنة 616 وتملّكوا دمياط استظهر الملك المعظم بخراب سوره وقال: نحن لا نمنع البلدان بالأسوار إنما نمنعها بالسيوف والأساورة، وهذا كاف في خبرها وليس كلّ ما أجده أكتبه ولو فعلت ذلك لم يتسع لي زماني، وفي المسجد أماكن كثيرة وأوصاف عجيبة لا تتصوّر إلا بالمشاهدة عيانا، ومن أعظم محاسنه أنه إذا جلس إنسان فيه في أي موضع منه يرى أن ذلك الموضع هو أحسن المواضع وأشرحها، ولذا قيل إن الله نظر إليه بعين الجمال ونظر إلى المسجد الحرام بعين الجلال:
أهيم بقاع القدس ما هبّت الصّبا، ... فتلك رباع الأنس في زمن الصّبا
وما زلت في شوقي إليها مواصلا ... سلامي على تلك المعاهد والرّبى
والحمد لله الذي وفّقني لزيارته، وينسب إلى بيت المقدس جماعة من العبّاد الصالحين والفقهاء، منهم:
نصر بن إبراهيم بن نصر بن إبراهيم بن داود أبو الفتح المقدسي الفقيه الشافعي الزاهد أصله من طرابلس وسكن بيت المقدس ودرّس بها وكان قد سمع بدمشق من أبي الحسن السمسار وأبي الحسن محمد بن عوف وابن سعدان وابن شكران وأبي القاسم وابن الطبري، وسمع بآمد هبة الله بن سليمان وسليم بن أيوب بصور وعليه تفقّه وعلى محمد بن البيان الكازروني، وروى عنه أبو بكر الخطيب وعمر بن عبد الكريم
الدهستاني وأبو القاسم النسيب وأبو الفتح نصر الله اللاذقي وأبو محمد بن طاووس وجماعة، وكان قدم دمشق في سنة 71 في نصف صفر ثم خرج إلى صور وأقام بها نحو عشر سنين ثم قدم دمشق سنة 80 فأقام بها يحدث ويدرّس إلى أن مات، وكان فقيها فاضلا زاهدا عابدا ورعا أقام بدمشق ولم يقبل لأحد من أهلها صلة، وكان يقتات من غلة تحمل إليه من أرض كانت له بنابلس وكان يخبز له منها كل يوم قرص في جانب الكانون، وكان متقلّلا متزهدا عجيب الأمر في ذلك، وكان يقول: درست على الفقيه سليم من سنة 37 إلى سنة 40 ما فاتني فيها درس ولا إعادة ولا وجعت إلا يوما واحدا وعوفيت، وسئل كم في ضمن التعليقة التي صنّفها من جزء، فقال:
نحو ثلاثمائة جزء وما كتبت منها حرفا وأنا على غير وضوء، أو كما قال، وزاره تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان يوما فلم يقم إليه وسأله عن أحلّ الأموال السلطانية فقال: أموال الجزية، فخرج من عنده وأرسل إليه بمبلغ من المال وقال له: هذا من مال الجزية، ففرّقه على الأصحاب ولم يقبله وقال: لا حاجة لنا إليه، فلما ذهب الرسول لامه الفقيه أبو الفتح نصر الله بن محمد وقال له: قد علمت حاجتنا إليه فلو كنت قبلته وفرّقته فينا، فقال: لا تجزع من فوته فلسوف يأتيك من الدنيا ما يكفيك فيما بعد، فكان كما تفرّس فيه، وذكر بعض أهل العلم قال: صحبت أبا المعالي الجويني بخراسان ثم قدمت العراق فصحبت الشيخ أبا إسحاق الشيرازي فكانت طريقته عندي أفضل من طريقة الجويني، ثم قدمت الشام فرأيت الفقيه أبا الفتح فكانت طريقته أحسن من طريقتهما جميعا، وتوفي الشيخ أبو الفتح يوم الثلاثاء التاسع من المحرم سنة 490 بدمشق ودفن بباب الصغير، ولم تر جنازة أوفر خلقا من جنازته، رحمة الله عليه، ومحمد بن طاهر بن علي بن أحمد أبو الفضل المقدسي الحافظ ويعرف بابن القيسراني، طاف في طلب الحديث وسمع بالشام وبمصر والعراق وخراسان والجبل وفارس، وسمع بمصر من الجبّاني وأبي الحسن الخلعي، قال: وسمعت أبا القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل الحافظ يقول: أحفظ من رائيّة محمد ابن طاهر ما هو هذا:
إلى كم أمنّي النفس بالقرب واللّقا ... بيوم إلى يوم وشهر إلى شهر؟
وحتّام لا أحظى بوصل أحبّتي ... وأشكو إليهم ما لقيت من الهجر؟
فلو كان قلبي من حديد أذابه ... فراقكم أو كان من صالب الصخر
ولمّا رأيت البين يزداد والنّوى ... تمثّلت بيتا قيل في سالف الدهر:
متى يستريح القلب، والقلب متعب، ... ببين على بين وهجر على هجر؟
قال الحافظ: سمعت أبا العلاء الحسن بن أحمد الهمذاني الحافظ ببغداد يذكر أن أبا الفضل ابتلي بهوى امرأة من أهل الرستاق كانت تسكن قرية على ستة فراسخ فكان يذهب كل ليلة فيرقبها فيراها تغزل في ضوء السراج ثم يرجع إلى همذان فكان يمشي كل يوم وليلة اثني عشر فرسخا، ومات ابن طاهر ودفن عند القبر الذي على جبلها يقال له قبر رابعة العدوية وليس هو بقبرها إنما قبرها بالبصرة وأما القبر الذي هناك فهو قبر رابعة زوجة أحمد بن أبي الحواري الكاتب وقد اشتبه على الناس.

مَنظَرَةُ الرَّيْحانِيِّينَ

مَنظَرَةُ الرَّيْحانِيِّينَ:
في السوق الذي يباع فيه الريحان والفواكه وتشرف على سوق الصّرف ببغداد، كان أول من استحدثها المستظهر بالله أبو العباس أحمد بن المقتدي بالله، وكان هناك دار لخاتون باب الغربة ودار للسيدة أخته بنت المقتدي فنقضهما وأضاف إليهما من الريحانيين سوق السّقط وهو اثنان وعشرون دكانا وخان كان خلفه ويعرف بخان عاصم وثلاثة عشر دكانا من ورائه وسوق العطارين جميعه وكان عدد دكاكينه ثلاثة وأربعين دكانا ودكاكين مدّ الذهب وكانت ستة عشر دكانا وعدة ارون من باب الحرم واستأنف الجميع دارا واحدة ذات وجوه أربعة متقابلة وسعة صحنها ستمائة ذراع في وسطها بستان وكان فيها ما يزيد على ستين حجرة وينتهي إلى باب في موضع يعرف بدركاه خاتون من باب الحرم، وفرغ من بنائها في سنة 507، ثم أوصل المستنجد بهذه الدار منظرة مشرفة على الريحانيين في وسط السوق على باب بدر، وهو أحد خواصّ الخدم، وكان قبل ذلك يدعى بباب الخاصة يدخل منه من سمت منزلته ثم سدّ منذ أيام الطائع وتلك الفتن، وكان ابتداء العمل في منظرة الريحانيين سنة 557.

المَهْدِيّةُ

المَهْدِيّةُ:
بالفتح ثم السكون، في موضعين: إحداهما بإفريقية والأخرى اختطها عبد المؤمن بن عليّ قرب سلا، فأما المهديّ ففي اشتقاقه عندي أربعة أوجه:
أحدها أن يكون من المهدي، بفتح ميمه، ويعني أنه هو مهتد في نفسه لا أنه هداه غيره ولو كان ذلك لكان المهدي، بضم الميم، كقولك المرميّ والمكريّ والملقيّ، ولو كان يفعل ذلك بغيره لضمّت الميم، وليس الضم والفتح للتعدية وغير التعدية، فإن الأصمعي يقول: هداه يهديه في الدين هدى وهداه يهديه هداية إذا دلّه على الطريق، وهديت العروس فأنا أهديها هداء، وأهديت الهديّة إهداء وأهديت الهدي، هذان الأخيران بالألف والأول كما تراه ثلاثيّا متعدّيا فلا يفتقر إلى زيادة ألف التعدية فهو بمنزلة اسم الزمان والمكان وإن كان اسم رجل لأنك إذا قلت مضرب أو مشرب إنما المراد موضع
الضرب والشرب ومحلهما، فكذلك هذا المسمّى المراد أنه موضع الهدي ومحلّه، ويجوز أن يكون المهديّ منسوبا إلى اسم مكان الهدي كما أن مضربيّ منسوب إلى اسم مكان الضرب، والقياس هدى يهدي والمكان مهديّ بتصحيح الياء كما أن قاض أصله قاضي بتصحيح الياء مثل مضرب سواء ولكنهم استثقلوا الخروج من الكسر إلى الضم كما استثقلوا في القاضي والغازي فعدلوا إلى الأخفّ فقالوا مهدى كما قالوا مغزى فصار مقصورا لا يحتمل ما تحتمله الياء من التحريك في النصب فلزم طريقة واحدة وأعيدت الياء في القاضي إلى أصلها لما أمن الثقل عليها، فإن قيل فهلّا فرّوا في القاضي والغازي إلى القصر وألزموه طريقة واحدة؟ قلنا إنما فرّوا من الثقل، ولو قالوا قاضا لصار بعد الضاد ألف وقبلها ألف وصار في زنة الفعل من قاضيت ففرّوا إلى الأخفّ، لكنهم لما نسبوا إليهما ردّوهما إلى الأصل الواحد في رأيي فقالوا قاضيّ ومهديّ، فكسروا الدال التي في مهدي وشدّدوا ياء النسبة وإن كان الأشهر الأكثر قاضويّ ومهدويّ ومغزويّ إلا أن ذلك هو الأولى على أصلنا، فهذا هو وجه حسن في تعليل من قال قاضيّ ومغزيّ لا مطعن للمنصف فيه، والوجه الثاني وهو الذي يراه النحويون في هذا أن المهديّ هو اسم المفعول من هدى يهدي فهو مهديّ مثل ضرب يضرب فهو مضروب فعلى هذا أصله مهدوي، بفتح أوله وسكون ثانيه وضم الدال وسكون واوه وتصحيح يائه، بوزن مضروب، فاستثقلوا الخروج من الواو الساكنة إلى الياء فأدغموا الواو في الياء فصارت ياء مشددة فكسرت لها الدال فصار مهديّ مثل مرميّ ومشويّ ومقليّ، والوجه الثالث أن يكون منسوبا إلى المهد تشبيها له بعيسى، عليه السلام، فإنه تكلم في المهد فضيلة اختصّ بها وإنه يأتي في آخر الزمان فيهدي الناس من الضلالة ويردهم إلى الصواب، وهذه المدينة بإفريقية منسوبة إلى المهدي، وبينها وبين القيروان مرحلتان، القيروان في جنوبيها، والثياب السوسية المهدويّة إليها تنسب، وقد اختطها المهدي، واختلف في نسبه فأكثر أهل السير الذين لم يدخلوا في رعيتهم وبعض رعيتهم الذين كانوا يخفون أمرهم يزعمون أنه كان ابن يهوديّ من أهل سلمية الشام وتزوّج القدّاح الذي كان أصل هذه الدعوة بأمه فربّاه إلى أن حضرته الوفاة ولم يكن له ولد فعهد إليه وعلّمه الدعوة وكان اسمه سعيدا فلما صار الأمر إليه سمي عبيد الله، وقال قوم قليلون: إنه ولد القداح نفسه، في قصص طويلة، وقال من صحّح نسبه: إنه أحمد بن إسماعيل الثاني ابن محمد بن إسماعيل الأكبر بن جعفر بن محمد بن علي ابن الحسين بن علي بن أبي طالب، قدم إفريقية، فملكها وأقام بالقيروان مدّة ثم خطّ المهدية، وهي على ساحل بحر الروم داخلة فيه ككفّ على زند، عليها سور عال محكم كأعظم ما يكون يمشي عليه فارسان، عليها باب من حديد مصمت مصراع واحد تأنّق المهديّ في عمله، وقال بعض أهل المعرفة بأخبارهم:
في سنة 300 خرج المهدي بنفسه إلى تونس يرتاد لنفسه موضعا يبني فيه مدينة خوفا من خارج يخرج عليه، وأراد موضعا حصينا حتى ظفر بموضع المهدية وهي جزيرة متصلة بالبرّ كهيئة كف متصلة بزند، فتأمّلها فوجد فيها راهبا في مغارة فقال له: بم يعرف هذا الموضع؟ فقال: هذا يسمّى جزيرة الخلفاء، فأعجبه هذا الاسم فبناها وجعلها دار مملكته وحصّنها بالسور المحكم والأبواب الحديد المصمت وجعل في كل مصراع من الأبواب مائة قنطار، ولها بابان بأربعة مصاريع لكل باب منها دهليز يسع خمسمائة فارس،
وكان شروعه في اختطاطها لخمس خلون من ذي القعدة سنة 303، وقال أبو عبيد البكري: كان شروعه فيها سنة 300 وكمّل سورها في سنة خمس وانتقل إليها سنة ثمان في شوال، ولم تزل دار مملكة لهم إلى أن ولي الأمر إسماعيل بن أبي القاسم سنة 44 فسار إلى القيروان محاربا لأبي يزيد واتخذ مدينة صبرة واستوطنها بعد أبيه معدّ وعمل فيها مصانع واحتفر أبآرا وبنى فيها قصورا عالية، قال بطليموس: مدينة برقة وهي المهدية طولها اثنتان وثلاثون درجة، وعرضها ست وثلاثون درجة، داخلة في الإقليم الرابع، طالعها العقرب تحت اثنتي عشرة درجة، منزلها من قلب العقرب الجناح الأيمن ولها ممسك العنان ولها جبهة الليث تحت اثنتي عشرة درجة من السرطان، يقابلها مثلها اثنتا عشرة درجة من الجدي، وقال أبو عبيد البكري: جعل لمدينتها بابا حديد لا خشب فيهما كل باب وزنه ألف قنطار وطوله ثلاثون شبرا كل مسمار من مساميره ستة أرطال وجعل فيها من الصهاريج العظام، وأهل تلك النواحي يسمّونها مواجل، ثلاثمائة وستين موجلا غير ما يجري إليها من القناة التي فيها، والماء الجاري الذي بالمهدية جلبه عبيد الله من قرية ميّانش وهي على مقربة من المهدية في أول أقداس ويصبّ في المهدية في صهريج داخل المدينة عند جامعها ويرفع من الصهريج إلى القصر بالدواليب وكذلك يسقي أيضا من قرية ميّانش من الآبار بالدواليب يصبّ في محبس يجري منه في تلك القناة، قال: ومرسى المهدية منقور في حجر صلد يسع ثلاثين مركبا، على طرفي المرسى برجان بينهما سلسلة حديد فإذا أريد إدخال سفينة أرسل حرّاس البرجين أحد طرفي السلسلة حتى تدخل السفينة ثم يمدّونها كما كانت تحبيسا لها، ولما فرغ من إحكام ذلك قال: اليوم أمنت على الفاطميّات، يعني بناته، وارتحل إليها وأقام بها ثم عمّر فيها الدكاكين ورتب فيها أرباب المهن كلّ طائفة في سوق فنقلوا إليها أموالهم فلما استقام ذلك أمر بعمارة مدينة أخرى إلى جانب المهدية وجعل بين المدينتين قدر طول ميدان وأفردها بسور وأبواب وحفظة وسماها زويلة وأسكن أرباب الدكاكين من البزّازين وغيرهم فيها بحرمهم وأهاليهم وقال: إنما فعلت ذلك لآمن غائلتهم وذاك أن أموالهم عندي وأهاليهم هناك، فإن أرادوني بكيد وهم بزويلة كانت أموالهم عندي فلا يمكنهم ذلك، وإن أرادوني بكيد وهم بالمهدية خافوا على حرمهم هناك، وبنيت بيني وبينهم سورا وأبوابا فأنا آمن منهم ليلا ونهارا لأني أفرّق بينهم وبين أموالهم ليلا وبينهم وبين حرمهم نهارا، وشرب أهلها من الآبار والصهاريج، ومهما ذكرنا من حصانتها فإن أحوال ملوكها تناقضت حتى أفضى الأمر إلى أن أنفذ روجار صاحب صقليّة جرجي إليها في سنة 543 فأخلاها الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعزّ بن باديس وخرج هاربا حتى لحق بعبد المؤمن وبقيت في يد الأفرنج اثنتي عشرة سنة حتى قدم عبد المؤمن في سنة 555 إلى إفريقية فأخذ المهدية في أسرع وقت فهي في يد أصحابه إلى يومنا هذا ولم تغن حصانتها في جنب قضاء الله شيئا، وينسب إلى المهدية جماعة وافرة من العلماء في كل فنّ، منهم: أبو الحسن علي بن محمد بن ثابت الخولاني المعروف بالحدّاد المهدوي القائل:
قالت، وأبدت صفحة ... كالشمس من تحت القناع:
بعت الدفاتر وهي آ ... خر ما يباع من المتاع
فأجبتها، ويدي على ... كبدي وهمّت بانصداع:
لا تعجبي فيما رأي ... ت فنحن في زمن الضّياع

نَهْرَوانُ

نَهْرَوانُ:
وأكثر ما يجري على الألسنة بكسر النون، وهي ثلاثة نهروانات: الأعلى والأوسط والأسفل،
وهي كورة واسعة بين بغداد وواسط من الجانب الشرقي حدّها الأعلى متصل ببغداد وفيها عدة بلاد متوسطة، منها: إسكاف وجرجرايا والصافية ودير قنّى وغير ذلك، وكان بها وقعة لأمير المؤمنين علي ابن أبي طالب، رضي الله عنه، مع الخوارج مشهورة، وقد خرج منها جماعة من أهل العلم والأدب فمن كان من مدنها نسب إلى مدينة ومن كان من قراها الصغار نسب إلى الكورة، وهو نهر مبتدؤه قرب تامرّا أو حلوان، فإني لا أحققه ولم أر أحدا ذكره، وهو الآن خراب ومدنه وقراه تلال يراها الناس بها والحيطان قائمة، وكان سبب خرابه اختلاف السلاطين وقتال بعضهم بعضا في أيام السلجوقية إذ كان كل من ملك لا يحتفل بالعمارة إذ كان قصده أن يحوصل ويطير، وكان أيضا في ممر العساكر فجلا عنه أهله واستمرّ خرابه، وقد استشأم الملوك أيضا من تجديد حفر نهره وزعموا أنه ما شرع فيه أحد إلا مات قبل تمامه، وكان قد شرع فيه نهروان الخادم وغيره فمات وبقي على حاله، وكان من أجمل نواحي بغداد وأكثرها دخلا وأحسنها منظرا وأبهاها مخبرا، قال ابن الكلبي:
وفارس حفرت النهروان وكان اسمه نهروانا أي إن قلّ ماؤه عطش أهله وإن كثر غرقوا، وقال حمزة الأصبهاني: ويقبل من نواحي أذربيجان إلى جانب العراق واد جرّار فيسقي قرى كثيرة ثم ينصبّ ما بقي منه في دجلة أسفل المدائن، ولهذا النهر اسمان أحدهما فارسي والآخر سرياني، فالفارسي جوروان والسرياني تامرّا، فعرّب الاسم الفارسي فقيل نهروان والعامة يقولون نهروان، بكسر النون، على خطإ، وقرأت في كتاب ابن الكلبي في أنساب البلدان قال:
تامرّا ونهروان ابنا جوخي حفرا النهرين فنسبا إليهما، وقد ذكر أبو علي التنوخي في نشوراه خبرا في اشتقاق هذه اللفظة لا أرى يوافق لفظ ما ذكره أنه مشتق منه إلا أني ذكرت الخبر بطوله، قال أبو علي:
حدثني أبو الحسين بن أبي قيراط قال: سمعت علي بن عيسى الوزير يحدث دفعات أنه سمع أباه يحدّث عن جده عن مشايخ أهل العلم بأخبار الفرس وأيامهم، قالوا: معنى قولهم النهروان ثواب العمل، قالوا:
وإنما سمي النهروان بذلك لأن بعض الملوك الأكاسرة قد غلب عليه بعض حاشيته حتى دبر أكثر أمره وترقّت منزلته عنده وكان قبل ذلك من قبل صاحب المائدة مرسوما بإصلاح الألبان والكواميخ، وكان صاحب المائدة يتحسر كيف علت منزلة هذا وقد كان تابعا له وكان قد غلب على الملك، وكان مع ذلك الرجل يهوديّ ساحر حاذق فقال له اليهودي: ما لي أراك مهموما فحدّثني بأمرك لعلّ فرجك عندي، فحدثّه بأمره، فقال له اليهودي: إن رددتك إلى منزلتك ما لي عندك؟ فقال: أشاطرك حالي ونعمتي وجميع مالي، فتعاهدا على ذلك، فقال: أظهر وحشة بيننا وأنك قد صرفتني ظاهرا، ففعل ذلك به فسار اليهودي إلى الرجل الغالب على الملك فحدّثه وتقرّب إليه بما جرى عليه من الرجل الأول ولم يزل يحدثه مدة طويلة حتى أنس به ذلك الرجل فلقيه في بعض الأيام ومع غلامه غضارة من ذهب فيها شيراز في غاية الطيب يريد أن يقدمه إلى الملك، فقال له: أرني هذا الشيراز، فقال الرجل لغلامه: أره إياه، فأراه إياه فخاتل الرجل والغلام وأخذ بأعينهما بسحره وطرح في الشيراز قرطاسا كان فيه سمّ ساعة وغطا الغلام الغضارة ومضى ليقدّمها إذا قدّمت المائدة، فبادر اليهودي إلى صاحب المائدة الأول وقال: قد فرغت من القصة، وعرّفه ما عمل ووصف له الغضارة وقال له: امض الساعة إلى الملك وأخبره، فبادر الرجل ووجد المائدة تريد أن
تقدّم فقال: أيها الملك إن هذا يريد أن يسمّك في هذه الغضارة فإنه قد جعل فيها سمّ ساعة فلا تأكلها وجرّبها ليصحّ لك قولي، فقال الرجل: هذا إليّ وما بنا إلى تجربتها حاجة على حيوان، أنا آكل منه، فبادر فأكل منها لقمة فتلف في الحال لأنه لا يعلم بالقصة، فقال صاحب المائدة الأول: إنما أكل ليتلف أيها الملك لمّا علم أنك إذا جرّبته وصحّ عندك قتلته فقتل هو نفسه بيده واستراح من عذاب توقعه فيه، فلم يشكّ الملك في صحة قوله وردّ إليه مرتبته وزاد في إكرامه وعظمته، ومضت السنون على ذلك فاتفق أن عرض للملك علة كان يسهر لأجلها وكان يخرج بالليل ويطوف في صحون حجره ودوره وبساتينها ويستمع على أبواب حجر نسائه وغيرها، فانتهى ليلة في طوافه إلى حجرة الطباخ وفيها ذلك اليهودي وغلمانه وهو جالس يحدّث بعض أصحاب المطبخ ويتشكى إليه ويقول إنه يقصر في حقي وإنما أنا أصل نعمته وما هو فيه، فقال له المحدّث:
وكيف صرت أصل نعمته؟ فاستكتمه ما يحدثه به فضمن له ذلك فحدّثه بحديث الشيراز والسمّ، فلما سمع الملك ذلك قامت قيامته وأحضر الموبذ من غد وحدّثه بالحديث وشاوره فيما يعمل مما يزيل ذلك عنه إثم ذلك الفعل في معاده فأمره بقتل اليهودي وصاحب المائدة والإحسان إلى عقب الذي كان قتل نفسه ثم قال: ولا يزيل عنك إثم هذا إلا أن تطوف في عملك حتى تنتهي إلى بقعة خراب فتستحدث لها عمارة ونهرا وشربا فيعيش الناس بذلك في باقي الدهر فتكون كمن أحيا شيئا عوضا عمّن أماته فيتمحّص عنك الإثم، فقتل الملك الرجلين وطاف عمله حتى بلغ موضع النهروان وهو صحراء خراب فأجمع رأيه على حفر نهر فيه وأحدث قرى عليه وسماه ثواب العمل لأجل هذه القصة، قلت أنا: وقد سألت جماعة من الفرس إذ لم أثق بما أعرفه منها هل بين هذا اللفظ ومسماه توافق فلم يعرفوا ذلك ولعلّه باللغة الفهلوية، قال ابن الجرّاح في تاريخه في سنة 326 في ذي القعدة أصعد بجكم التركي إلى بغداد ليدفع عنها محمد بن رائق مولى محمد الخليفة فبعث أحمد بن عليّ بن سعيد الكوفي من يبثق نهر النهروان إلى درب ديالى، فلما أشرف عليه بجكم قال: يا قوم لقد أحسنوا إلينا، وأمر بسفينتين فنصبتا عليه جسرا فعبر هنيئا مريئا ولو ركبه ما كان يصعب ركوبه، قال: فحدّثني أحمد الكاتب بن محمد بن سهل وكان على ديوان فارس في ديوان الخراج وقد تجاذبنا خبر خطاب السواد ومنه النهروانان وعليهما يومئذ للسلطان ألف ألف ومائتا ألف دينار فأخرجها الكوفي، قال: حضرت مجلس الكوفي وقت ولي بجكم وقد كتب إلى عامله عليها جواب كتابه في أمر أعجزه: ويلك ولو في قلبك يعني ماء النهروان إلى درب ديالى، ففعل وعظم أمره المستحفل وبقي البلد خرابا مدة أربع عشرة سنة حتى فني أهله بالغربة والموت إلى أن قبض الله معزّ الدولة أبا الحسين أحمد بن بويه الديلمي فسدّه بعد أن سدّ مرارا فانقلع ووقع الناس منه في شدة، فلما قضى الله سدّه عاش اليسير فمن بقي من أهله تراجعوا إليه، ثم ذكر ابن الجرّاح أيضا: في سنة 31 لما ورد ناصر الدولة الحسن بن حمدان إلى بغداد مستوليا على تدبير الأمور بها أطلق عشرين ألف دينار للنفقة على بثق النهروان بالسهلية، قال: وكنا في هذا الموضع بحضرة ناصر الدولة وجرى ذكر هذا البثق بمحضر من يواخي وكان عبيد الله بن محمد الكلواذاني صاحب الديوان حاضرا وخاضوا فيه وفيما يرتفع بإصلاحه من نواحيه وهي النهروانات الثلاثة وجاذر
والمدينة العتيقة وشرقي كلواذى والأهواز.، فقال الكلواذاني وهو في الديوان منذ أربعين سنة: هذه بلدان يرتفع منها للسلطان ألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم، فقلت: يا هذا ما تفعل؟ ووقع لي أن الحال يصلح والأيام بناصر الدولة تستمر وتدوم ويطالب بهذا المال عند تمام المصلحة هذه النواحي ترتفع على السعر الوافي أصلا دون هذا المقدار كثيرا فكيف ما يخصّ السلطان وأكثر ما عرف من ارتفاع هذه النواحي على توسط الأسعار وغلبة المدار ألف ألف دينار ونحو مائتي دينار للسلطان أربعمائة ألف دينار وفي الإقطاعات والتسويغات والإيغارات والمنقولات أربعمائة ألف دينار للسلطان وللتناء والمزارعين والأكرة نحو أربعمائة ألف دينار، فرجع عن هذا القول، وقال: سهوت، هذا الذي قلته هو ارتفاع جميع الأصل، ثم بطل ما أراده ناصر الدولة بانزعاجه من بغداد ورجوعه إلى الموصل ورجوع الأمر إلى ترون التركي، والله المستعان، قلت: وينسب إلى هذه الناحية المعافى بن زكرياء بن يحيى بن حميد بن حماد النهرواني أبو الفرج القاضي، كان من أعلم أهل زمانه، روى عن أبي القاسم البغوي ويحيى بن صاعد وغيرهما، روى عنه القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري وأبو القاسم الأزهري وغيرهما، ومات سنة 390، ومولده سنة 305، قال أبو عبد الله الحميدي: قرأت بخط أبي الفرج المعافى بن زكرياء النهرواني القاضي قال: حججت سنة فكنت بمنى أيام التشريق إذ سمعت مناديا ينادي: يا أبا الفرج! فقلت في نفسي: لعله يريدني، ثم قلت: في الناس خلق كثير ممن يكنى أبا الفرج فلعله يريد غيري، فلم أجبه، فلما رأى أنه لا يجيبه أحد نادى: يا أبا الفرج المعافى! فهممت أن أجيبه ثم قلت: يتفق من يكون اسمه المعافى وكنيته أبا الفرج، فلم أجبه، فرجع ونادى:
يا أبا الفرج المعافي بن زكرياء النهرواني! فقلت: لم يبق شك في مناداته إياي إذ ذكر اسمي وكنيتي واسم أبي وما أنسب إليه، فقلت له: ها أنا ذا ما تريد؟ فقال: ومن أنت؟ فقلت: أبو الفرج المعافى ابن زكرياء النهرواني، قال: فلعلك من نهروان الشرق؟ قلت: نعم، قال: نحن نريد نهروان الغرب، فعجبت من اتفاق الاسم والكنية واسم الأب وما أنسب إليه وعلمت أن بالمغرب موضعا يعرف بالنهروان غير نهروان العراق، وأبو حكيم إبراهيم ابن دينار بن أحمد بن الحسين بن حامد بن إبراهيم النهرواني البغدادي الفقيه الحنبلي، شيخ صالح نزل باب الأزج وله هناك مدرسة منسوبة إليه، تفقه على أبي الخطاب محفوظ بن أحمد الكلواذاني، وكان حسن المعرفة بالفقه والمناظرة، تخرج به جماعة وانتفعوا به لخيره وصلاحه، سمع أبا الحسن عليّ بن محمد العلّاف وأبا القاسم عليّ بن محمد بن بيان وغيرهما، وحدّث ودرّس وأفتى، وروى عنه أبو الفرج ابن الجوزي وقال: مات في جمادى الآخرة سنة 556، ومولده سنة 480.

الوَرْكاء

الوَرْكاء:
بالفتح ثم السكون، وكاف، وألف ممدودة:
موضع بناحية الروابي ولد به إبراهيم الخليل، عليه السلام، وهو من حدود كسكر، قال ابن الكلبي:
لما فرّق الله الألسن بعد نوح، عليه السّلام، وكان اللسان سريانيّا واحدا فانطق الله فالج بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح بكل لسان أنطق به أحدا منهم فتكلم بالألسن كلها وهو الذي قسم الأرض بين العرب وسكن العراق وكان هو الملك عليهم فلم يزل فالج وبنوه يتوارثون الألسن ويتكلمون بها، قال: والعراق أسفل كل أرض عراقها، فكانوا في آخر جزيرة العرب وأدنى جزيرة العجم منازلهم الوركاء وكانوا أمة وسطا بين الناس لا ينسبونهم إلى أرض ولا إلى أمة وأرضهم العراق ولسانهم كل لسان
وهم من كل أحد ومع كل أحد تنتحلهم الأمم حتى انتهى ذلك إلى إبراهيم، عليه السّلام، فتولّه أو تقى له انتحال الخلق ويسمون بني فالج والصحيح أن الوركاء ما ذكر أولا، قال سيف: أول من قدم أرض فارس لقتال الفرس حرملة بن مريطة وسلمى بن القين فكانا من المهاجرين ومن صالحي الصحابة فنزلا أطد ونعمان والجعرانة في أربعة آلاف من بني تميم والرباب وكان بإزائهما النوشجان والفيومان بالوركاء فزحفوا إليهما فغلبوهما على الوركاء وغلبا على هرمزجرد إلى فرات بادقلى، فقال في ذلك سلمى بن القين:
ألم يأتيك والأنباء تسري ... بما لاقى على الوركاء جان
وقد لاقى كما لاقى صتيتا ... قتيل الطّفّ إذ يدعوه ماني
وقال حرملة بن مريطة:
شللنا ماه ميسان بن قاما ... إلى الوركاء تنفيه الخيول
وجزنا ما جلوا عنه جميعا ... غداة تغيّمت منها الجبول
Learn Quranic Arabic from scratch with our innovative book! (written by the creator of this website)
Available in both paperback and Kindle formats.