بدائع القرآن
لابن أبي الإصبع: زكي الدين، أبي محمد: عبد العظيم بن عبد الواحد القيرواني، ثم المصري.
المتوفى: سنة 654.
لابن أبي الإصبع: زكي الدين، أبي محمد: عبد العظيم بن عبد الواحد القيرواني، ثم المصري.
المتوفى: سنة 654.
بدائع القرآن
ليس البديع في يد الفنان حلية تقتسر، ولا زينة يستغنى الكلام عنها، ولا زخرفة يأتى دورها، بعد أن يكون المعنى قد استوفى تمامه. ولا يجيء مكانه فى المرتبة الثالثة، بعد استيفاء علمى المعانى والبيان حقهما، فإن الإنتاج الأدبى يبرز إلى الوجود في نظمه الخاص، وبه الصور البيانية، والمحسنات البديعية، دفعة واحدة، فكأنما هذا المحسن البديعى جاء في مكانه ليقوم بنصيبه من أداء المعنى أولا، أما ما فيه من جمال لفظى فقد جاء من أن تلك الكلمة بالذات يتطلبها المعنى، ويقتضى المجيء بها.
وليس كل ما ذكره علماء البديع بألوان جمال تستحق أن تذكر بين المحسنات، وذلك يتطلب معاودة النظر، فى دراسة هذه الألوان، لاستبقاء الجميل، وحذف ما لا غناء فيه.
ولست أريد الحديث الآن عن جناية البديع على الأدب العربى عند ما يراد لذاته، فيستغلق المعنى، ويضؤل. أما ما ورد في القرآن مما نعده محسنات بديعية فقد وردت الألفاظ التى كان بها هذا المحسن البديعى في مكانها، يتطلبها المعنى، ولا يغنى غيرها غناءها.
خذ ما ورد في القرآن الكريم من الجناس التام، كقوله تعالى: يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (النور 43، 44). تجد كلمة الْأَبْصارِ الأولى مستقرة في مكانها فهى جمع بصر، ويراد به نور العين الذى تميز بين الأشياء وكلمة الْأَبْصارِ الثانية جمع بصر بمعنى العين، ولكن كلمة الْأَبْصارِ هنا أدل على المعنى المراد من كلمة (العيون)، لما أنها تدل على ما منحته العين من وظيفة الإبصار، وهى التى بها العظة والاعتبار، فأنت ذا ترى أن أداء المعنى كاملا، تطلب إيراد هذه الكلمة، حتى إذا وردت رأينا هذا التناسق اللفظى.
واقرأ قوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ (الروم 55). فكلمة (الساعة) الأولى جىء بها دالة على يوم القيامة، واختير لذلك اليوم هذا الاسم هنا؛ للدلالة على معنى المفاجأة والسرعة، وكلمة ساعَةٍ الثانية تعبر أدق تعبير عن شعور هؤلاء المجرمين، فهم لا يحسون أنهم قضوا في حياتهم الدنيا برهة قصيرة الأمد جدّا، حتى يعبروا عنها ببرهة أو دقيقة مثلا، ولا بفترة طويلة، يعبرون عنها بيوم مثلا، فكانت كلمة (ساعة) خير معبر عن شعورهم بهذا الوقت الوجيز.
وما ورد في القرآن من جناس ناقص، فسبيله سبيل الجناس التام، وانظر إلى قوله تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (الأنعام 26).
ألا ترى أن موقف الكفار من القرآن، أنهم يبعدون الناس عنه، كما يبعدون أنفسهم عنه، فعبر القرآن عن ذلك بكلمتين متقاربتين ليشعر قربهما بقرب معنييهما.
ويطول بى القول إذا أنا مضيت في بيان كيف حلت كل كلمة في جمل الجناس محلها، بحيث لا تغنى كلمة أخرى في هذا الوضع غناءها، وحسبى أن أشير إلى تلك الآيات، التى ورد فيها ما كون بعض ألوان من الجناس، مثل قوله تعالى:
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (الضحى 9، 10). وقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (القيامة 22، 23). وقوله: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (القيامة 29، 30). وقوله سبحانه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (الصافات 72، 73).
فأنت ترى النهى عن القهر جاء إلى جانب اليتيم، بمعنى الغلبة عليه والاستيلاء على ماله، وأما السائل فقد نهى عن نهره وإذلاله، فكلتا الكلمتين جاءت في موضعها الدقيق، كما وردت كلمتا (ناظرة وناضرة) أى مشرقة، وإشراقها من نظرها إلى ربها، وقد توازنت الكلمتان في جملتيهما لما بينهما من صلة السبب بالمسبب. واختيار كلمة الْمَساقُ فى الآية الثانية لتصور هذه الرحلة التى ينتقل فيها المرء من الدنيا إلى الآخرة، فكأنه سوق مسافر ينتهى به السفر إلى الله. وفي كلمة المنذرين ما يشير إلى الربط بينهم وبين المنذرين الذين أرسلوا إليهم. وقل مثل ذلك في قوله تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (الهمزة 1). فإن شدة التشابه بين الكلمتين توحى بالقرابة بينهما، مما يجعل إحداهما مؤكدة للأخرى فالهمزة المغتاب، واللمزة العياب، فالصلة بينهما وثقى، كالصلة بين الفرح والمرح في قوله تعالى: ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (غافر 75).
وإيثار كلمة النبأ في قوله سبحانه: وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (النمل 22). لما فيها من معنى القوة؛ لأن هذه المادة تدل على الارتفاع والنتوء والبروز والظهور، فناسب مجيئها هنا، ووصف النبأ تأكيدا لقوته باليقين.
ويعدون من أنواع البديع المشاكلة، ويعنون بها ذكر الشيء بغير لفظه، لوقوعه فى صحبته، ويمثلون لذلك بقوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها (الشورى 40). قالوا:
فالجزاء عن السيئة في الحقيقة غير سيئة، والأصل وجزاء سيئة عقوبة مثلها.
وبقوله تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (آل عمران 54). والأصل أخذهم بمكرهم. وبقوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ (البقرة 194). قالوا: والمراد فعاقبوه، فعدل عن هذا؛ لأجل المشاكلة اللفظية. ولكننى أرى القرآن أجل من أن يسمى الشيء بغير اسمه لمجرد وقوعه في صحبته، بل أرى هذا التعبير يحمل معنى، وجىء به ليوحى إلى القارئ بما لا يستطيع أن يوحى به ولا أن يدل عليه ما قالوا إنه الأصل المعدول عنه، فتسمية جزاء السيئة سيئة؛ لأن العمل في نفسه سوء، وهو يوحى بأن مقابلة الشر بالشر، وإن كانت مباحة، سيئة يجدر بالإنسان الكامل أن يترفع عنها، وكأنه بذلك يشير إلى أن العفو أفضل وأولى، وعلى هذا النسق تماما ورد قوله: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ (البقرة 194). وأما مكر الله فأن يفعل بهم كما يفعل الماكر، يمدهم في طغيانهم يعمهون، ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وعدوا من ألوان البديع الاستثناء، ومثلوا له بقوله تعالى: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً (العنكبوت 14). وفي هذا التعبير، فضلا عن إيجازه، إيحاء بطول المدة، وتهويل للأمر على السامعين، وفي ذلك تمهيد العذر لنوح في الدعاء على قومه، وذلك لأن أول ما يطرق السمع ذكر الألف، فتشعر بطول مدته، وتتصور جهاد نوح في ذلك الزمن المديد، ولن يقلل الاستثناء من شأن هذا التصور، ولا يتحقق هذا الإحساس إذا بدأت بغير الألف.
ومنها اللف والنشر بذكر شيئين أو أكثر، ثم ذكر ما يقابلها، وفيه جمع للمتناسبات من غير فاصل بينها. خذ قوله تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ (القصص 73). ألا ترى بين الليل والنهار مناسبة تجمع بينهما، ثم يثير هذا تطلعا إلى معرفة السبب في أنهما من رحمته، وفي ذلك عنصر التشويق، وفي تقديم السكون على ابتغاء الفضل تقديم الاستعداد للجهاد فى الحياة على الجهاد. وتأمل كذلك ما يثيره الإجمال من التشويق في قوله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها
خالِدُونَ
(آل عمران 106، 107)، وفي الإجمال الأول إعطاء صورة سريعة لهذا اليوم، ثم يعود بعدئذ إلى إكمال الصورة في تفصيل وإيضاح، وربما يكون قد بدأ عند ما فصل بذكر من اسودت وجوههم، ليكون الحديث منتهيا بذكر طريقة الخلاص من عذاب ذلك اليوم. ومن اللف والنشر قوله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (الإسراء 29). والسر في الجمع أولا ذكر النهى عنه جملة واحدة، ثم العود بعد ذلك لبيان سر هذا النهى.
وما ورد في القرآن من طباق بالجمع بين المتضادين، كانت الكلمة فيه مستقرة في مكانها تمام الاستقرار، سواء كان التضاد لفظا أو معنى، حقيقة أو مجازا، إيجابا أو سلبا، كقوله تعالى: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ (فاطر 19، 20). فأنت تراه يعقد الموازنة بين هذين الضدين ولا مفر من الجمع بينهما في الجملة لعقد هذه الموازنة التى تبين عدم استوائهما.
وكقوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (النجم 43، 44)، وقوله سبحانه: وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ (الكهف 18).
ومن الطباق السلبى قوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (الزمر 9). وقوله: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ (المائدة 44). ومن الطباق المعنوى قوله تعالى: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (يس 15، 16)، أى إنا لصادقون فإن الرسول يجب أن يكون صادقا.
ومما يرتبط بالطباق المقابلة بأن يؤتى بمعنيين أو أكثر ثمّ بما يقابل ذلك على الترتيب، فمن الجمع بين الاثنين قوله تعالى: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً (التوبة 82).
وبين الثلاثة قوله سبحانه: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ (الحديد 23).
وبين الأربعة قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (الليل 5 - 10)، وهذه المقابلة بين المعانى تزيدها في الفكر وضوحا، وفي النفس رسوخا. ومن ذلك ترى أن ما ورد في القرآن من طباق ومقابلة لم يجئ اعتسافا، وإنما جاء المعنى مصورا في هذه الألفاظ، التى أدت المعنى خير أداء وأوفاه، وكان منها هذا الطباق والمقابلة.
ومن ألوان البديع العكس بأن يقدم في الكلام جزء، ويؤخر آخر، ثم يقدم المؤخر ويؤخر المقدم، وجمال العكس في أنه يربط بين أمرين، ويعقد بينهما أوثق الصلات أو أشد ألوان النفور، تجد ذلك في قوله سبحانه: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ (الحج 61). وقوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ (يونس 31). وقوله سبحانه: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ (البقرة 187). وقوله تعالى: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ (الممتحنة 10). وقوله تعالى: ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ (الأنعام 52).
ومن أجمل أنواعه ائتلاف المعنى مع المعنى بذكر الأمور المتناسبة بعضها إلى جانب بعض، كقوله سبحانه: قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ (يوسف 86). وقد يخفى في بعض الأحيان وجه الجمع بين المعنيين، كما في قوله سبحانه: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (طه 118، 119)، فقد يبدو أن الوجه الجمع بين الجوع والظمأ، والعرى والضحاء، ولكن التأمل الهادئ يدل على أن الجوع والعرى يسببان الشعور بالبرد فجمعا معا، والظمأ والضحاء يسببان الشعور بالحر، إذ الأول يبعث التهاب الجوف، والثانى يلهب الجلد، فناسب ذلك الجمع بينهما.
هذا ولست أرمى هنا إلى حصر ما عثر عليه العلماء من ألوان البديع في القرآن، فقد تكفل بذلك غيرى، وأفرد ابن أبى الإصبع لذلك كتابا عدّد فيه هذه الألوان ومثّل لها، وذكر من ذلك أكثر من مائة نوع، وكل ما قصدت إليه هو بيان أن ما نشعر به من جمال لفظى حينا ومعنوى حينا آخر، لم يأت إلا من أن اللفظة القرآنية قد استدعاها المعنى، ولم يكن ثمة لفظة أخرى تغنى غناءها، فلما استقرت في مكانها زاد بها الكلام إشراقا، والمعنى وضوحا وجلاء.
ليس البديع في يد الفنان حلية تقتسر، ولا زينة يستغنى الكلام عنها، ولا زخرفة يأتى دورها، بعد أن يكون المعنى قد استوفى تمامه. ولا يجيء مكانه فى المرتبة الثالثة، بعد استيفاء علمى المعانى والبيان حقهما، فإن الإنتاج الأدبى يبرز إلى الوجود في نظمه الخاص، وبه الصور البيانية، والمحسنات البديعية، دفعة واحدة، فكأنما هذا المحسن البديعى جاء في مكانه ليقوم بنصيبه من أداء المعنى أولا، أما ما فيه من جمال لفظى فقد جاء من أن تلك الكلمة بالذات يتطلبها المعنى، ويقتضى المجيء بها.
وليس كل ما ذكره علماء البديع بألوان جمال تستحق أن تذكر بين المحسنات، وذلك يتطلب معاودة النظر، فى دراسة هذه الألوان، لاستبقاء الجميل، وحذف ما لا غناء فيه.
ولست أريد الحديث الآن عن جناية البديع على الأدب العربى عند ما يراد لذاته، فيستغلق المعنى، ويضؤل. أما ما ورد في القرآن مما نعده محسنات بديعية فقد وردت الألفاظ التى كان بها هذا المحسن البديعى في مكانها، يتطلبها المعنى، ولا يغنى غيرها غناءها.
خذ ما ورد في القرآن الكريم من الجناس التام، كقوله تعالى: يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (النور 43، 44). تجد كلمة الْأَبْصارِ الأولى مستقرة في مكانها فهى جمع بصر، ويراد به نور العين الذى تميز بين الأشياء وكلمة الْأَبْصارِ الثانية جمع بصر بمعنى العين، ولكن كلمة الْأَبْصارِ هنا أدل على المعنى المراد من كلمة (العيون)، لما أنها تدل على ما منحته العين من وظيفة الإبصار، وهى التى بها العظة والاعتبار، فأنت ذا ترى أن أداء المعنى كاملا، تطلب إيراد هذه الكلمة، حتى إذا وردت رأينا هذا التناسق اللفظى.
واقرأ قوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ (الروم 55). فكلمة (الساعة) الأولى جىء بها دالة على يوم القيامة، واختير لذلك اليوم هذا الاسم هنا؛ للدلالة على معنى المفاجأة والسرعة، وكلمة ساعَةٍ الثانية تعبر أدق تعبير عن شعور هؤلاء المجرمين، فهم لا يحسون أنهم قضوا في حياتهم الدنيا برهة قصيرة الأمد جدّا، حتى يعبروا عنها ببرهة أو دقيقة مثلا، ولا بفترة طويلة، يعبرون عنها بيوم مثلا، فكانت كلمة (ساعة) خير معبر عن شعورهم بهذا الوقت الوجيز.
وما ورد في القرآن من جناس ناقص، فسبيله سبيل الجناس التام، وانظر إلى قوله تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (الأنعام 26).
ألا ترى أن موقف الكفار من القرآن، أنهم يبعدون الناس عنه، كما يبعدون أنفسهم عنه، فعبر القرآن عن ذلك بكلمتين متقاربتين ليشعر قربهما بقرب معنييهما.
ويطول بى القول إذا أنا مضيت في بيان كيف حلت كل كلمة في جمل الجناس محلها، بحيث لا تغنى كلمة أخرى في هذا الوضع غناءها، وحسبى أن أشير إلى تلك الآيات، التى ورد فيها ما كون بعض ألوان من الجناس، مثل قوله تعالى:
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (الضحى 9، 10). وقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (القيامة 22، 23). وقوله: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (القيامة 29، 30). وقوله سبحانه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (الصافات 72، 73).
فأنت ترى النهى عن القهر جاء إلى جانب اليتيم، بمعنى الغلبة عليه والاستيلاء على ماله، وأما السائل فقد نهى عن نهره وإذلاله، فكلتا الكلمتين جاءت في موضعها الدقيق، كما وردت كلمتا (ناظرة وناضرة) أى مشرقة، وإشراقها من نظرها إلى ربها، وقد توازنت الكلمتان في جملتيهما لما بينهما من صلة السبب بالمسبب. واختيار كلمة الْمَساقُ فى الآية الثانية لتصور هذه الرحلة التى ينتقل فيها المرء من الدنيا إلى الآخرة، فكأنه سوق مسافر ينتهى به السفر إلى الله. وفي كلمة المنذرين ما يشير إلى الربط بينهم وبين المنذرين الذين أرسلوا إليهم. وقل مثل ذلك في قوله تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (الهمزة 1). فإن شدة التشابه بين الكلمتين توحى بالقرابة بينهما، مما يجعل إحداهما مؤكدة للأخرى فالهمزة المغتاب، واللمزة العياب، فالصلة بينهما وثقى، كالصلة بين الفرح والمرح في قوله تعالى: ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (غافر 75).
وإيثار كلمة النبأ في قوله سبحانه: وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (النمل 22). لما فيها من معنى القوة؛ لأن هذه المادة تدل على الارتفاع والنتوء والبروز والظهور، فناسب مجيئها هنا، ووصف النبأ تأكيدا لقوته باليقين.
ويعدون من أنواع البديع المشاكلة، ويعنون بها ذكر الشيء بغير لفظه، لوقوعه فى صحبته، ويمثلون لذلك بقوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها (الشورى 40). قالوا:
فالجزاء عن السيئة في الحقيقة غير سيئة، والأصل وجزاء سيئة عقوبة مثلها.
وبقوله تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (آل عمران 54). والأصل أخذهم بمكرهم. وبقوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ (البقرة 194). قالوا: والمراد فعاقبوه، فعدل عن هذا؛ لأجل المشاكلة اللفظية. ولكننى أرى القرآن أجل من أن يسمى الشيء بغير اسمه لمجرد وقوعه في صحبته، بل أرى هذا التعبير يحمل معنى، وجىء به ليوحى إلى القارئ بما لا يستطيع أن يوحى به ولا أن يدل عليه ما قالوا إنه الأصل المعدول عنه، فتسمية جزاء السيئة سيئة؛ لأن العمل في نفسه سوء، وهو يوحى بأن مقابلة الشر بالشر، وإن كانت مباحة، سيئة يجدر بالإنسان الكامل أن يترفع عنها، وكأنه بذلك يشير إلى أن العفو أفضل وأولى، وعلى هذا النسق تماما ورد قوله: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ (البقرة 194). وأما مكر الله فأن يفعل بهم كما يفعل الماكر، يمدهم في طغيانهم يعمهون، ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وعدوا من ألوان البديع الاستثناء، ومثلوا له بقوله تعالى: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً (العنكبوت 14). وفي هذا التعبير، فضلا عن إيجازه، إيحاء بطول المدة، وتهويل للأمر على السامعين، وفي ذلك تمهيد العذر لنوح في الدعاء على قومه، وذلك لأن أول ما يطرق السمع ذكر الألف، فتشعر بطول مدته، وتتصور جهاد نوح في ذلك الزمن المديد، ولن يقلل الاستثناء من شأن هذا التصور، ولا يتحقق هذا الإحساس إذا بدأت بغير الألف.
ومنها اللف والنشر بذكر شيئين أو أكثر، ثم ذكر ما يقابلها، وفيه جمع للمتناسبات من غير فاصل بينها. خذ قوله تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ (القصص 73). ألا ترى بين الليل والنهار مناسبة تجمع بينهما، ثم يثير هذا تطلعا إلى معرفة السبب في أنهما من رحمته، وفي ذلك عنصر التشويق، وفي تقديم السكون على ابتغاء الفضل تقديم الاستعداد للجهاد فى الحياة على الجهاد. وتأمل كذلك ما يثيره الإجمال من التشويق في قوله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها
خالِدُونَ
(آل عمران 106، 107)، وفي الإجمال الأول إعطاء صورة سريعة لهذا اليوم، ثم يعود بعدئذ إلى إكمال الصورة في تفصيل وإيضاح، وربما يكون قد بدأ عند ما فصل بذكر من اسودت وجوههم، ليكون الحديث منتهيا بذكر طريقة الخلاص من عذاب ذلك اليوم. ومن اللف والنشر قوله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (الإسراء 29). والسر في الجمع أولا ذكر النهى عنه جملة واحدة، ثم العود بعد ذلك لبيان سر هذا النهى.
وما ورد في القرآن من طباق بالجمع بين المتضادين، كانت الكلمة فيه مستقرة في مكانها تمام الاستقرار، سواء كان التضاد لفظا أو معنى، حقيقة أو مجازا، إيجابا أو سلبا، كقوله تعالى: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ (فاطر 19، 20). فأنت تراه يعقد الموازنة بين هذين الضدين ولا مفر من الجمع بينهما في الجملة لعقد هذه الموازنة التى تبين عدم استوائهما.
وكقوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (النجم 43، 44)، وقوله سبحانه: وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ (الكهف 18).
ومن الطباق السلبى قوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (الزمر 9). وقوله: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ (المائدة 44). ومن الطباق المعنوى قوله تعالى: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (يس 15، 16)، أى إنا لصادقون فإن الرسول يجب أن يكون صادقا.
ومما يرتبط بالطباق المقابلة بأن يؤتى بمعنيين أو أكثر ثمّ بما يقابل ذلك على الترتيب، فمن الجمع بين الاثنين قوله تعالى: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً (التوبة 82).
وبين الثلاثة قوله سبحانه: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ (الحديد 23).
وبين الأربعة قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (الليل 5 - 10)، وهذه المقابلة بين المعانى تزيدها في الفكر وضوحا، وفي النفس رسوخا. ومن ذلك ترى أن ما ورد في القرآن من طباق ومقابلة لم يجئ اعتسافا، وإنما جاء المعنى مصورا في هذه الألفاظ، التى أدت المعنى خير أداء وأوفاه، وكان منها هذا الطباق والمقابلة.
ومن ألوان البديع العكس بأن يقدم في الكلام جزء، ويؤخر آخر، ثم يقدم المؤخر ويؤخر المقدم، وجمال العكس في أنه يربط بين أمرين، ويعقد بينهما أوثق الصلات أو أشد ألوان النفور، تجد ذلك في قوله سبحانه: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ (الحج 61). وقوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ (يونس 31). وقوله سبحانه: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ (البقرة 187). وقوله تعالى: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ (الممتحنة 10). وقوله تعالى: ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ (الأنعام 52).
ومن أجمل أنواعه ائتلاف المعنى مع المعنى بذكر الأمور المتناسبة بعضها إلى جانب بعض، كقوله سبحانه: قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ (يوسف 86). وقد يخفى في بعض الأحيان وجه الجمع بين المعنيين، كما في قوله سبحانه: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (طه 118، 119)، فقد يبدو أن الوجه الجمع بين الجوع والظمأ، والعرى والضحاء، ولكن التأمل الهادئ يدل على أن الجوع والعرى يسببان الشعور بالبرد فجمعا معا، والظمأ والضحاء يسببان الشعور بالحر، إذ الأول يبعث التهاب الجوف، والثانى يلهب الجلد، فناسب ذلك الجمع بينهما.
هذا ولست أرمى هنا إلى حصر ما عثر عليه العلماء من ألوان البديع في القرآن، فقد تكفل بذلك غيرى، وأفرد ابن أبى الإصبع لذلك كتابا عدّد فيه هذه الألوان ومثّل لها، وذكر من ذلك أكثر من مائة نوع، وكل ما قصدت إليه هو بيان أن ما نشعر به من جمال لفظى حينا ومعنوى حينا آخر، لم يأت إلا من أن اللفظة القرآنية قد استدعاها المعنى، ولم يكن ثمة لفظة أخرى تغنى غناءها، فلما استقرت في مكانها زاد بها الكلام إشراقا، والمعنى وضوحا وجلاء.