يتأنق أسلوب القرآن في اختيار ألفاظه، ولما بين الألفاظ من فروق دقيقة في دلالتها، يستخدم كلا حيث يؤدى معناه في دقة فائقة، تكاد بها تؤمن بأن هذا المكان كأنما خلقت له تلك الكلمة بعينها، وأن كلمة أخرى لا تستطيع توفية المعنى الذى وفت به أختها، فكل لفظة وضعت لتؤدى نصيبها من المعنى أقوى أداء، ولذلك لا تجد في القرآن ترادفا، بل فيه كل كلمة تحمل إليك معنى جديدا.
ولما بين الكلمات من فروق، ولما يبعثه بعضها في النفس من إيحاءات خاصة، دعا القرآن ألا يستخدم لفظ مكان آخر، فقال: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ (الحجرات 14). فهو لا يرى التهاون في استعمال اللفظ ولكنه يرى التدقيق فيه ليدل على الحقيقة من غير لبس ولا تمويه، ولما كانت كلمة راعِنا لها معنى في العبرية مذموم، نهى المؤمنين عن مخاطبة الرسول بها فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا (البقرة 104).
فالقرآن شديد الدقة فيما يختار من لفظ، يؤدى به المعنى.
استمع إليه في قوله: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (البقرة 49). ما تجده قد اختار الفعل ذبح، مصورا به ما حدث، وضعّف عينه للدلالة على كثرة ما حدث من القتل فى أبناء إسرائيل يومئذ، ولا تجد ذلك مستفادا إذا وضعنا مكانها كلمة يقتلون.
وتنكير كلمة حياة، فى قوله تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ (البقرة 96).
يعبر تعبيرا دقيقا عن حرص هؤلاء الناس على مطلق حياة يعيشونها، مهما كانت حقيرة القدر، ضئيلة القيمة، وعند ما أضيفت هذه الكلمة إلى ياء المتكلم في قوله تعالى: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (الفجر 23، 24). عبرت بأدق تعبير عن شعور الإنسان يومئذ، وقد أدرك في جلاء ووضوح أن تلك الحياة الدنيا لم تكن إلا وهما باطلا، وسرابا خادعا، أما الحياة الحقة الباقية، فهى تلك التى بعد البعث؛ لأنها دائمة لا انقطاع لها، فلا جرم أن سماها حياته، وندم على أنه لم يقدم عملا صالحا، ينفعه في تلك الحياة.
واستمع إلى قوله تعالى: إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (الإنسان 10، 11). تجد كلمة العبوس قد استعملت أدق استعمال؛ لبيان نظرة الكافرين إلى ذلك اليوم، فإنهم يجدونه عابسا مكفهرّا، وما أشد اسوداد اليوم، يفقد فيه المرء الأمل والرجاء، وكلمة قَمْطَرِيراً بثقل طائها مشعرة بثقل هذا اليوم، وفي كلمتى النضرة والسرور تعبير دقيق عن المظهر الحسى لهؤلاء المؤمنين، وما يبدو على وجوههم من الإشراق، وعما يملأ قلوبهم من البهجة.
ومن دقة التمييز بين معانى الكلمات، ما تجده من التفرقة في الاستعمال بين:
يعلمون، ويشعرون، ففي الأمور التى يرجع إلى العقل وحده أمر الفصل فيها، تجد كلمة يَعْلَمُونَ صاحبة الحق في التعبير عنها، أما الأمور التى يكون للحواس مدخل في شأنها، فكلمة يَشْعُرُونَ أولى بها، وتأمل لذلك قوله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (البقرة 13). فالسفاهة أمر مرجعه إلى العقل، وقوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ (البقرة 26). وقوله تعالى: أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (البقرة 77). وقوله تعالى: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ (الأنعام 114). وقوله تعالى: أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (يونس 55). وقوله تعالى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (الأنبياء 24). وقوله تعالى: وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (النور 25). إلى غير ذلك مما يطول بى أمر تعداده، إذا مضيت في إيراد كل ما استخدمت فيه كلمة يعلمون.
وتأمل قوله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (البقرة 154). فمن الممكن أن يرى الأحياء وأن يحس بهم، وقوله تعالى:
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (الزمر 55)، فالعذاب مما يشعر به ويحس، وقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (البقرة 11، 12). وقوله تعالى: قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (النمل 18). وقوله تعالى: وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (القصص 11). وغير ذلك كثير.
واستخدم القرآن كلمة التراب، ولكنه حين أراد هذا التراب الدقيق الذى لا يقوى على عصف الريح استخدم الكلمة الدقيقة وهى الرماد، فقال: الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ (إبراهيم 18). كما أنه آثر عليها كلمة الثرى، عند ما قال: تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (طه 4 - 6). لأنه يريد- على ما يبدو من سياق الآيات الكريمة- الأرض المكونة من التراب، وهى من معانى الثرى، فضلا عما في اختيار الكلمة من المحافظة على الموسيقى اللفظية في فواصل الآيات.
وعبر القرآن عن القوة العاقلة في الإنسان بألفاظ، منها الفؤاد واللب والقلب، واستخدم كلا في مكانه المقسوم له، فالفؤاد في الاستخدام القرآنى يراد به تلك الآلة التى منحها الله الإنسان، ليفكر بها، ولذا كانت مما سوف يسأل المرء عن مدى انتفاعه بها يوم القيامة، كالسمع، والبصر، قال تعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا (الإسراء 36). وتجد هذا واضحا فيما وردت فيه تلك الكلمة من الآيات، واستمع إلى قوله تعالى: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (الملك 23). وقوله تعالى: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (النجم 11). وقوله تعالى: وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (الأنعام 113). وقوله تعالى: نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةَ (الهمزة 6، 7). وقوله تعالى: مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (إبراهيم 43).
أما اللب ولم يستخدم في القرآن إلا مجموعا، فيراد به التفكير الذى هو من عمل تلك الآلة، تجد هذا المعنى في قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (البقرة 179). وقوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (آل عمران 190). وقوله تعالى: وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (البقرة 269).
أما القلب، وهو أكثر هذه الكلمات دورانا في الاستخدام القرآنى، فهو بمعنى أداة التفكير، فى قوله تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها (الأعراف 179). وقوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها (الحج 46). وقوله تعالى: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً (آل عمران 8). وقوله تعالى: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (الحج 46). وهو أداة الوجدان، كما تشعر بذلك في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ (الأنفال 2). وقوله تعالى: وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ (الأحزاب 10). وقوله تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (النازعات 6 - 8). وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً (الفتح 4). وقوله تعالى: وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً (القيامة 27). وقوله تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (الرعد 28).
وهو أداة الإرادة، كما يبدو ذلك في قوله تعالى: إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (القصص 10). وقوله تعالى: وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (الأنفال 11). وقوله تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ (الأحزاب 5).
فالقرآن يستخدم القلب فيما نطلق عليه اليوم كلمة العقل، وجعله في الجوف حينا في قوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ (الأحزاب 4).
وفي الصدر حينا، فى قوله: وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (الحج 46). تعبير عما يشعر به الإنسان عند ما يلم به وجدان، أو تملؤه همة وإرادة.
ومن الدقة القرآنية في استخدام الألفاظ أنه لا يكاد يذكر المشركين، إلا بأنهم أصحاب النار، ولكنا نجده قال في سورة (ص): وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ . فنراه قد استخدم كلمة أَهْلِ وهى هنا أولى بهذا المكان من كلمة (أصحاب)، لما تدل عليه تلك من الإقامة في النار والسكنى بها. وكلمة (ميراث) فى قوله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (آل عمران 180). واقعة موقعها، وهى أدق من كلمة (ملك) فى هذا الموضع، لما أن المال يرى في أيدى مالكيه من الناس، ولكنه سوف يصبح ميراثا لله.
وقد يحتاج المرء إلى التريث والتدبر، ليدرك السر في إيثار كلمة على أخرى، ولكنه لا يلبث أن يجد سمو التعبير القرآنى، فمن ذلك قوله تعالى: قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (طه 63 - 65). فقد يبدو للنظرة العاجلة أن الوجه أن يقال: إما أن تلقى وإما أن نلقى، وربما توهم أن سر العدول يرجع إلى مراعاة النغم الموسيقى فحسب، حتى تتفق الفواصل في هذا النغم، وذلك ما يبدو بادئ الرأى، أما النظرة الفاحصة فإنها تكشف رغبة القرآن في تصوير نفسية هؤلاء السحرة، وأنهم لم يكونوا يوم تحدوا موسى بسحرهم، خائفين، أو شاكين في نجاحهم، وإنما كان الأمل يملأ قلوبهم، فى نصر مؤزر عاجل، فهم لا ينتظرون ما عسى أن تسفر عنه مقدرة موسى عند ما ألقى عصاه، بل كانوا مؤمنين بالنصر سواء أألقى موسى أولا، أم كانوا هم أول من ألقى.
ومن ذلك قوله تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (البقرة 176).
فقد يتراءى أن وصف الشقاق، وهو الخلاف، بالقوة أولى من وصفه بالبعد، ولكن التأمل يدل على أن المراد هنا وصف خلافهم بأنه خلاف تتباعد فيه وجهات النظر إلى درجة يعسر فيها الالتقاء، ولا يدل على ذلك لفظ غير هذا اللفظ الذى اختاره القرآن. ومن ذلك قوله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (الحج 27). فربما كانت الموسيقى، والفاصلة في الآية السابقة دالية- تجعل من المناسب أن يوصف الفج بالبعد، فيقال: فج بعيد، ولكن إيثار الوصف بالعمق، تصوير لما يشعر به المرء أمام طريق حصر بين جبلين، فصار كأن له طولا، وعرضا، وعمقا.
وإيثار كلمة مَسْكُوبٍ فى قوله تعالى: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ وَماءٍ مَسْكُوبٍ (الواقعة 27 - 31). مكان كلمة (غزيرة)، أدق في بيان غزارته، فهو ماء لا يقتصد في استعماله، كما يقتصد أهل الصحراء، بل هو ماء يستخدمونه استخدام من لا يخشى نفاده، بل ربما أوحت تلك الكلمة بمعنى الإسراف في هذا الاستخدام.
واستخدام كلمة يَظُنُّونَ فى الآية الكريمة: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (البقرة 45، 46).
قوية في دلالتها على مدح هؤلاء الناس، الذين يكفى لبعث الخشوع في نفوسهم، وأداء الصلاة، والاتصاف بالصبر- أن يظنوا لقاء ربهم، فكيف يكون حالهم إذا اعتقدوا؟.
ومن دقة أسلوب القرآن في اختيار ألفاظه ما أشار إليه الجاحظ حين قال :
(وقد يستخف الناس ألفاظا ويستعملونها، وغيرها أحق بذلك منها، ألا ترى أن الله تبارك وتعالى لم يذكر في القرآن الجوع، إلا في موضع العقاب، أو في موضع الفقر المدقع، والعجز الظاهر، والناس لا يذكرون السغب، ويذكرون الجوع في حالة القدرة والسلامة، وكذلك ذكر المطر، لأنك لا تجد القرآن يلفظ به إلا في موضع الانتقام، والعامة وأكثر الخاصة لا يفصلون بين ذكر المطر، وذكر الغيث).
لاختيار القرآن للكلمة الدقيقة المعبرة، يفضل الكلمة المصورة للمعنى أكمل تصوير، ليشعرك به أتم شعور وأقواه، وخذ لذلك مثلا كلمة يُسْكِنِ فى قوله تعالى: إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ (الشورى 33). وكلمة تَسَوَّرُوا فى قوله تعالى: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (القصص 21). وكلمة (يطوقون) فى الآية الكريمة: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ (آل عمران 180). وكلمة يَسْفِكُ فى آية: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ (البقرة 30). وكلمة (انفجر) فى قوله تعالى: وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً (البقرة 60). وكلمة يَخِرُّونَ فى الآية: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً . وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (الإسراء 107، 108). وكلمة مُكِبًّا فى قوله تعالى: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (النمل 22). وكلمة تَفِيضُ فى قوله تعالى: وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ (المائدة 83). وكلمة يُصَبُّ فى قوله تعالى: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (الحج 19). وكلمة (يدس) فى قوله تعالى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (النحل 58، 59). وكلمة قاصِراتُ فى قوله تعالى: وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (الصافات 48). وكلمة مُسْتَسْلِمُونَ. فى قوله تعالى: ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (الصافات 25، 26). ومُتَشاكِسُونَ فى قوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ (الزمر 29). ويطول بى القول، إذ أنا مضيت في عرض هذه الكلمات التى توضع في مكانها المقسوم من الجملة، فتجعل المعنى مصورا تكاد تراه بعينك، وتلمسه بيدك، ولا أريد أن أمضى في تفسير الكلمات التى استشهدت بها؛
لأنها من وضوح الدلالة بمكان.
ولهذا الميل القرآنى إلى ناحية التصوير، نراه يعبر عن المعنى المعقول بألفاظ تدل على محسوسات، مما أفرد له البيانيون علما خاصّا به دعوه علم البيان، وأوثر أن أرجئ الحديث عن ذلك إلى حين، وحسبى الآن أن أبين ما يوحيه هذا النوع من الألفاظ في النفس، ذلك أن تصوير الأمر المعنوى في صورة الشيء المحسوس يزيده تمكنا من النفس، وتأثيرا فيها، ويكفى أن تقرأ قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ (البقرة 7). وقوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ (الجاثية 23). لترى قدرة كلمة خَتَمَ، فى تصوير امتناع دخول الحق قلوب هؤلاء الناس، وقوله تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ (البقرة 257). لترى قيمة كلمتى الظلمات والنور، فى إثارة العاطفة وتصوير الحق والباطل. وقوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (البقرة 18). لترى قيمة هذه الصفات التى تكاد تخرجهم عن دائرة البشر، وقوله سبحانه: يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ (البقرة 27).
فكلمات ينقضون ويقطعون ويوصل، تصور الأمور المعنوية في صور المحس الملموس، وفي القرآن من أمثال ذلك عدد ضخم، سوف نعرض له في حينه.
وفي القرآن كثير من الألفاظ، تشع منها قوى توحي إلى النفس بالمعنى وحيا، فتشعر به شعورا عميقا، وتحس نحو الفكرة إحساسا قويّا. خذ مثلا قوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (التكوير 17، 18). فتأمل ما توحى به كلمة تَنَفَّسَ من تصوير هذه اليقظة الشاملة للكون بعد هدأة الليل، فكأنما كانت الطبيعة هاجعة هادئة، لا تحس فيها حركة ولا حياة، وكأنما الأنفاس قد خفتت حتى لا يكاد يحس بها ولا يشعر، فلما أقبل الصبح صحا الكون، ودبت الحياة في أرجائه.
وخذ قوله تعالى: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (التوبة 117، 118). وقف عند كلمة (ضاق) فى ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ، فإنها توحى إليك بما ألم بهؤلاء الثلاثة من الألم والندم، حتى شعروا بأن نفوسهم قد امتلأت من الندم امتلاء، فأصبحوا لا يجدون في أنفسهم مكانا، يلتمسون فيه الراحة والهدوء، فأصبح القلق يؤرق جفنهم، والحيرة تستبد بهم، وكأنما أصبحوا يريدون الفرار من أنفسهم.
واقرأ قوله تعالى: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً (السجدة 16).
وتبين ما تثيره في نفسك كلمة تَتَجافى، من هذه الرغبة الملحة التى تملك على المتقين نفوسهم، فيتألمون إذا مست جنوبهم مضاجعهم، ولا يجدون فيها الراحة والطمأنينة، وكأنما هذه المضاجع قد فرشت بالشوك فلا تكاد جنوبهم تستقر عليها حتى تجفوها، وتنبو عنها. وقف كذلك عند كلمة يَعْمَهُونَ فى قوله سبحانه: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (البقرة 15). فإن اشتراك هذه الكلمة مع العمى في الحروف كفيل بالإيحاء إلى النفس، بما فيه هؤلاء القوم من حيرة واضطراب نفسى، لا يكادون به يستقرون على حال من القلق.
واقرأ الآية الكريمة: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ (النساء 185). أفلا تجد فى كلمة زُحْزِحَ ما يوحى إليك بهذا القلق، الذى يملأ صدور الناس في ذلك اليوم، لشدة اقترابهم من جهنم، وكأنما هم يبعدون أنفسهم عنها في مشقة وخوف وذعر. وفي كلمة طمس في قوله تعالى: وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (القمر 37). ما يوحى إليك بانمحاء معالم هذه العيون، حتى كأن لم يكن لها من قبل في هذا الوجه وجود. ويوحى إليك الراسخون في قوله سبحانه: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (النساء 7). بهذا الثبات المطمئن، الذى يملأ قلب هؤلاء العلماء، لما ظفروا به من معرفة الحق والإيمان به. وتوحى كلمة شَنَآنُ فى قوله سبحانه: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا (المائدة 2). توحى بهذا الجوى، الذى يملأ الصدر، حتى لا يطيق المرء رؤية من يبغضه، ولا تستسيغ نفسه الاقتراب منه.
ولما سمعنا قوله تعالى لعيسى بن مريم: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا (النساء 55). أوحى إلينا التعبير بالتطهير، بما يشعر به المؤمن بالله نحو قوم مشركين، اضطر إلى أن يعيش بينهم، فكأنهم يمسونه برجسهم، وكأنه يصاب بشيء من هذا الرجس، فيطهر منه إذا أنقذ من بينهم. وكلمة سُكِّرَتْ فى قوله سبحانه: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (الحجر 14، 15). قد عبر بها الكافرون عما يريدون أن يوهموا به، عما حدث لأبصارهم من الزيغ، فكانت كلمة سُكِّرَتْ، وهى مأخوذة من السكر دالة أشد دلالة على هذا الاضطراب في الرؤية، ولا سيما أن هذا السكر قد أصاب العين واستقل بها، ومعلوم أن الخلط من خصائص السكر، فلا يتبين السكران ما أمامه، ولا يميزه على الوجه الحق. واختار القرآن عند عد المحرمات كلمة أُمَّهاتُ، إذ قال: حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ
(النساء 3). وآثر كلمة الْوالِداتُ فى قوله سبحانه: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ (البقرة 233)، لما أن كلمة (الأم) تبعث في النفس إحساسا بالقداسة، وتصور شخصا محاطا بهالة من الإجلال، حتى لتشمئز النفس وتنفر أن يمس بما يشين هذه القداسة، وذلك الإجلال، وتنفر من ذلك أشد النفور، فكانت أنسب كلمة تذكر عند ذكر المحرمات، وكذلك تجد كل كلمة في هذه المحرمات مثيرة معنى يؤيد التحريم، ويدفع إليه، أما كلمة الوالدات فتوحى إلى النفس بأن من الظلم أن ينزع من الوالدة ما ولدته، وأن يصبح فؤادها فارغا، ومن هنا كانت كل كلمة منهما موحية في موضعها، آخذة خير مكان تستطيع أن تحتله.
وقد تكون الكلمة في موضعها مثيرة معنى لا يراد إثارته، فيعدل عنها إلى غيرها، تجد ذلك في قوله سبحانه: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (الجن 3).
فقد آثر كلمة صاحِبَةً على زوج وامرأة، لما تثيره كلاهما من معان، لا تثيرهما فى عنف مثلهما- كلمة صاحبة.
وقد يكون الجمع بين كلمتين هو سر الإيحاء ومصدره، كالجمع بين النَّاسُ وَالْحِجارَةُ فى قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (البقرة 24). فهذا الجمع يوحى إلى النفس بالمشاكلةبينهما والتشابه. وقد تكون العبارة بجملتها هى الموحية كما تجد ذلك في قوله تعالى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ (المؤمنون 19). أو لا تجد هذه الثياب من النار، موحية لك بما يقاسيه هؤلاء القوم من عذاب أليم، فقد خلقت الثياب يتقى بها اللابس الحر والقر، فماذا يكون الحال إذا قدت الثياب من النيران.
لو بغير الماء صدرى شرق ... كنت كالغصان، بالماء اعتصارى
ومن هذا الباب قوله تعالى: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (الزمر 16). فإن الظلة إنما تكون ليتقى بها وهج الشمس، فكيف إذا كان الظلة نفسها من النيران.
هذه أمثلة قليلة لما في القرآن من كلمات شديدة الإيحاء، قوية البعث لما تتضمنه من المعانى. وهناك عدد كبير من ألفاظ، تصور بحروفها، فهذه «الظاء والشين» فى قوله تعالى: يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (الرحمن 35).
و «الشين والهاء» فى قوله تعالى: وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (الملك 7). و «الظاء» فى قوله تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (الليل 14). و «الفاء» فى قوله سبحانه: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (الفرقان 11، 12). حروف تنقل إليك صوت النار مغتاظة غاضبة. وحرف «الصاد» فى قوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (القمر 19). يحمل إلى سمعك صوت الريح العاصفة، كما تحمل «الخاء» فى قوله سبحانه: وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (فاطر 12). إلى أذنك صوت الفلك، تشق عباب الماء.
وألفاظ القرآن مما يجرى على اللسان في سهولة ويسر، ويعذب وقعه على الأذن، في اتساق وانسجام.
قال البارزى في أول كتابه: (أنوار التحصيل في أسرار التنزيل): اعلم أن المعنى الواحد قد يخبر عنه بألفاظ بعضها أحسن من بعض، وكذلك كل واحد من جزءي الجملة قد يعبر عنه بأفصح ما يلائم الجزء الآخر، ولا بدّ من استحضار معانى الجمل، واستحضار جميع ما يلائمها من الألفاظ، ثم استعمال أنسبها وأفصحها، واستحضار هذا متعذر على البشر، فى أكثر الأحوال، وذلك عتيد حاصل في علم الله، فلذلك كان القرآن أحسن الحديث وأفصحه، وإن كان مشتملا على الفصيح والأفصح، والمليح والأملح، ولذلك أمثلة منها قوله تعالى: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (الرحمن 54). لو قال مكانه: «وثمر الجنتين قريب». لم يقم مقامه من جهة الجناس بين الجنى والجنتين، ومن جهة أن الثمر لا يشعر بمصيره إلى حال يجنى فيها، ومن جهة مؤاخاة الفواصل. ومنها قوله تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ (العنكبوت 48). أحسن من التعبير بتقرأ لثقله بالهمزة. ومنها: لا رَيْبَ فِيهِ (البقرة 2). أحسن من (لا شك فيه) لثقل الإدغام، ولهذا كثر ذكر الريب. ومنها:
وَلا تَهِنُوا (آل عمران 139). أحسن من (ولا تضعفوا) لخفته. ووَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي (مريم 4). أحسن من (ضعف)؛ لأن الفتحة أخف من الضمة، ومنها «آمن» أخف من «صدق»، ولذا كان ذكره أكثر من ذكر التصديق. وآثَرَكَ اللَّهُ (يوسف 91). أخف من (فضّك) و (آتى) أخف من (أعطى) و (أنذر) أخف من (خوّف) و (خير لكم) أخف من (أفضل لكم) والمصدر في نحو: هذا خَلْقُ اللَّهِ (لقمان 11). (يؤمنون بالغيب) أخف من (مخلوق) و (الغائب) و (نكح) أخف من (تزوج)؛ لأن فعل أخف من تفعّل، ولهذا كان ذكر النكاح فيه أكثر، ولأجل التخفيف والاختصار استعمل لفظ الرحمة، والغضب، والرضا، والحب، والمقت، فى أوصاف الله تعالى مع أنه لا يوصف بها حقيقة؛ لأنه لو عبر عن ذلك بألفاظ الحقيقة لطال الكلام، كأن يقال: يعامله معاملة المحب، والماقت، فالمجاز في مثل هذا أفضل من الحقيقة، لخفته، واختصاره، وابتنائه على التشبيه البليغ، فإن قوله: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ (الزخرف 55). أحسن من (فلما عاملونا معاملة المغضب) أو (فلما أتوا إلينا بما يأتيه المغضب) أهـ .
وهناك لفظتان أبى القرآن أن ينطق بهما، ولعله وجد فيهما ثقلا، وهما كلمتا «الآجر» و «الأرضين». أما الأولى فقد أعرض عنها في سورة القصص، فبدل أن يقول: (وقال فرعون: يأيها الملأ ما علمت لكم من إله غيرى، فهيئ لى يا هامان آجرا، فاجعل لى صرحا، لعلى أطلع إلى إله موسى). قال: وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ
غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى
(القصص 38).
وأما الثانية فقد تركها في الآية الكريمة: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (الطّلاق 12).
هذا ومما ينبغى الإشارة إليه أن القرآن قد أقل من استخدام بعض الألفاظ، فكان يستخدم الكلمة مرة أو مرتين، وليس مرجع ذلك لشىء سوى المقام الذى يستدعى ورود هذه الكلمة. وللقرآن استعمالات يؤثرها، فمن ذلك وصفه الحلال بالطّيب، وذكر السّجّيل مع حجارة، وإضافة الأساطير إلى الأولين، وجعل مسنون وصفا للحمأ، ويقرن التأثيم باللغو، وإلّا بذمّة، ومختالا بفخور، ويصف الكذاب بأشر.
ووازن ابن الأثير بين كلمات استخدمها القرآن وجاءت في الشعر، فمن ذلك أنه جاءت لفظة واحدة في آية من القرآن وبيت من الشعر، فجاءت في القرآن جزلة متينة، وفي الشعر ركيكة ضعيفة ... أما الآية فهى قوله تعالى: فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ (الأحزاب 53). وأما بيت الشعر، فهو قول أبى الطيب المتنبى:
تلذ له المروءة، وهى تؤذى ... ومن يعشق يلذ له الغرام
وهذا البيت من أبيات المعانى الشريفة، إلا أن لفظة تؤذى قد جاءت فيه وفي آية القرآن، فحطت من قدر البيت لضعف تركيبها، وحسن موقعها في تركيب الآية ... وهذه اللفظة التى هى تؤذى إذا جاءت في الكلام، فينبغى أن تكون مندرجة مع ما يأتى بعدها، متعلقة به، كقوله تعالى: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ وقد جاءت في قول المتنبى منقطعة، ألا ترى أنه قال: تلذ له المروءة وهى تؤذى، ثم قال: ومن يعشق يلذ له الغرام، فجاء بكلام مستأنف، وقد جاءت هذه اللفظة بعينها في الحديث النبوى، وأضيف إليها كاف الخطاب، فأزال ما بها من الضعف والركة، قال: «باسم الله أرقيك، من كل داء يؤذيك» . وكذلك ورد في القرآن الكريم، إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ، فلفظة (لى) أيضا مثل لفظة يؤذى، وقد جاءت في الآية مندرجة متعلقة بما بعدها، وإذا جاءت منقطعة لا تجىء لائقة، كقول أبى الطيب أيضا:
تمسى الأمانى صرعى دون مبلغه ... فما يقول لشىء: ليت ذلك لى
وهنا من هذا النوع لفظة أخرى، قد وردت في القرآن الكريم، وفي بيت من شعر الفرزدق، فجاءت في القرآن حسنة، وفي بيت الشعر غير حسنة، وتلك اللفظة هى لفظة القمل، أما الآية فقوله تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ (الأعراف 133). وأما بيت الشعر فقول الفرزدق:
من عزه احتجرت كليب عنده ... زريا، كأنهم لديه القمّل
وإنما حسنت هذه اللفظة في الآية دون هذا البيت من الشعر؛ لأنها جاءت في الآية مندرجة في ضمن كلام، ولم ينقطع الكلام عندها، وجاءت في الشعر قافية أى آخرا انقطع الكلام عندها، وإذا نظرنا إلى حكمة أسرار الفصاحة في القرآن الكريم، غصنا في بحر عميق لا قرار له، فمن ذلك هذه الآية المشار إليها، فإنها قد تضمنت خمسة ألفاظ، هى: الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وأحسن هذه الألفاظ الخمسة هى: الطوفان، والجراد، والدم، فلما وردت هذه الألفاظ الخمسة بجملتها قدم منها لفظتا الطوفان، والجراد، وأخرت لفظة الدم آخرا، وجعلت لفظة القمل والضفادع في الوسط؛ ليطرق السمع أولا الحسن من الألفاظ الخمسة، وينتهى إليه آخرا، ثم إن لفظة الدم أحسن من لفظتى الطوفان، والجراد، وأخف في الاستعمال، ومن أجل ذلك جىء بها آخرا، ومراعاة مثل هذه الأسرار والدقائق في استعمال الألفاظ ليس من القدرة البشرية .
وقال ابن سنان الخفاجى، معلقا على قول الشريف الرضى:
أعزز علىّ بأن أراك وقد خلت ... عن جانبيك مقاعد العواد
إيراد مقاعد في هذا البيت صحيح، إلا أنه موافق لما يكره في هذا الشأن، لا سيما وقد أضافه إلى من يحتمل إضافته إليهم، وهم العواد، ولو انفرد، كان الأمر فيه سهلا، فأما إضافته إلى ما ذكره ففيها قبح لا خفاء به . وابن سنان يشترط لفصاحة الكلمة ألا يكون قد عبر بها عن أمر آخر يكره ذكره ، قال ابن الأثير: وقد جاءت هذه اللفظة المعيبة في الشعر في القرآن الكريم فجاءت حسنة مرضية، وهى قوله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ (آل عمران 121).
وكذلك قوله تعالى: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (الجن 8، 9). ألا ترى أنها في هاتين الآيتين غير مضافة إلى من تقبح إضافته إليه، كما جاءت في الشعر، ولو قال الشاعر بدلا من مقاعد العواد، مقاعد الزيادة، أو ما جرى مجراه، لذهب ذلك
القبح، وزالت تلك الهجنة، ولذا جاءت هذه اللفظة في الآيتين على ما تراه من الحسن، وجاءت على ما تراه من القبح، فى قول الشريف الرضى .
ومن ذلك استخدام كلمة شىء، ترجع إليها في القرآن الكريم، فترى جمالها في مكانها المقسوم لها. واستمع إلى قوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (الكهف 45). وقوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (الطّور 35). وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (يونس 44). إلى غير ذلك من عشرات الآيات التى وردت فيها تلك اللفظة، وكانت متمكنة في مكانها أفضل تمكن وأقواه، ووازن بينها في تلك، وبينها في قول المتنبى يمدح كافورا:
لو الفلك الدوار أبغضت سعيه ... لعوقه شىء عن الدوران
فإنك تحس بقلقها في بيت المتنبى، ذلك أنها لم توح إلى الذهن بفكرة واضحة، تستقر النفس عندها وتطمئن، فلا يزال المرء بعد البيت يسائل نفسه عن هذا الشيء، الذى يعوق الفلك عن الدوران، فكأن هذه اللفظة لم تقم بنصيبها في منح النفس الهدوء الذى يغمرها، عند ما تدرك المعنى وتطمئن إليه.
ولم يزد مرور الزمن بألفاظ القرآن إلا حفظا لإشراقها، وسياجا لجلالها، لم تهن لفظة ولم تتخل عن نصيبها، فى مكانها من الحسن، وقد يقال: إن كلمة الغائط من قوله سبحانه: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً (المائدة 43). قد أصابها الزمن، فجعلها مما تنفر النفس من استعمالها، ولكنا إذا تأملنا الموقف، وأنه موقف تشريع وترتيب أحكام، وجدنا أن القرآن عبر أكرم تعبير عن المعنى، وصاغه في كناية بارعة، فمعنى الغائط في اللغة المكان المنخفض، وكانوا يمضون إليه في تلك الحالة، فتأمل أى كناية تستطيع استخدامها مكان هذه الكناية القرآنية البارعة، وإن شئت أن تتبين ذلك، فضع مكانها كلمة تبرزتم، أو تبولتم، لترى ما يثور في النفس من صور ترسمها هاتان الكلمتان، ومن ذلك كله ترى كيف كان موقع هذه الكناية يوم نزل القرآن، وأنها لا تزال إلى اليوم أسمى ما يمكن أن يستخدم في هذا الموضع التشريعى الصريح.