الْجِهَة: قَالَ الْحسن الميبذي رَحمَه الله فِي (الفواتح) حكما يَقُولُونَ إِن الْجِهَات الْحَقِيقِيَّة اثْنَتَانِ فَوق وَتَحْت. ويحددان بالفلك الْأَعْظَم، فَوق بمحيطه وَتَحْت بالمركز. وَعَلِيهِ يُقَال إِنَّه محدد الْجِهَات (أَي الْفلك) وَجَمِيع الأفلاك شفافة بِمَعْنى أَنهم لَا يحجبون الْأَبْصَار وَلَيْسوا خفافا وَلَا ثقالا، فالخفة تميل إِلَى الْمُحِيط والثقل يمِيل إِلَى المركز وَلَيْسوا باردين وَلَا حارين وَكَذَلِكَ لَا رطبين وَلَا جافين وَلَا ينمون وَلَا يزيلون وَلَا شَهْوَة وَلَا غضب لَهُم، وَلَا يقبلُونَ الكينونة وَلَا الْفساد وهم دائمو الْحَرَكَة بِإِرَادَة دائرية، وهم أَحيَاء ناطقون، وَلَا تعتقد أَن كَونهمَا ناطقين وحيين يَعْنِي أَن لَا مَانع فِي تَحْدِيد الإنساني بِالْحَيَوَانِ النَّاطِق. إِذا مَا كَانَ المُرَاد من الْحَيّ هُوَ حَاجِب الْحَيَاة وَمن الْحَيَوَان الْجِسْم النامي الحساس المتحرك بِإِرَادَة وعلاقته الْقَدِيمَة مَوْقُوفَة بالحوادث على الْأَمر على وَجه الْعلية. وَأَنه بِوَجْه مُسْتَمر وَيَوْم آخر متجدد ومستند على اعْتِبَار الِاسْتِمْرَار بالقديم، وَبِاعْتِبَار تجدّد وَاسِطَة صُدُور الْحَوَادِث. وَهَذَا الْحَرَكَة الفلكية. المشاؤون يَقُولُونَ إِن الْعقل هُوَ حَاصِل جَمِيع الكمالات الممكنة بِالْفِعْلِ، وَإِن الْكَمَال الْمُمكن بِالْقُوَّةِ لَيْسَ فلكا إِلَّا الأوضاع الْمُخْتَلفَة، وَهُوَ يُرِيد أَن يتشبه بِالْعقلِ وَيُرِيد أَن ينْقل الأوضاع الْمُخْتَلفَة من الْقُوَّة إِلَى الْفِعْل وَهَذَا لَيْسَ ميسرًا دفْعَة وَاحِدَة وَلَكِن بالتدريج عَن طَرِيق أَو بوسيلة الْحَرَكَة ينْتَقل إِلَى الْفِعْل.
الْجِهَة: تطلق على مَعْنيين: أَحدهمَا: أَطْرَاف الامتدادات وَتسَمى مُطلق الْجِهَة وَبِهَذَا الْمَعْنى يُقَال ذُو الْجِهَات الثَّلَاث والسبع إِذْ لَا تَنْحَصِر الْجِهَة بِهَذَا الْمَعْنى فِي السِّت بل يكون أقل أَو أَكثر. وَالثَّانِي: تِلْكَ الْأَطْرَاف من حَيْثُ إِنَّهَا مُنْتَهى الإشارات ومقصد الحركات ومنتهاها وَتسَمى الْجِهَة الْمُطلقَة وَهِي بِالْمَعْنَى الأول قَائِمَة بالجسم الَّذِي هُوَ ذُو الْجِهَة وبالمعنى الثَّانِي بِخِلَاف ذَلِك. وَفِي غَايَة الْهِدَايَة أَن الْجِهَة تطلق على مَعْنيين: أَحدهمَا: مُنْتَهى الإشارات. وَثَانِيهمَا: مُنْتَهى الحركات المستقيمة فبالنظر إِلَى الأول قيل إِن جِهَة الفوق هِيَ محدب الْفلك الْأَعْظَم لِأَنَّهُ مُنْتَهى الْإِشَارَة الحسية ومقطعها وبالنظر إِلَى الثَّانِي قيل هِيَ مقعر فلك الْقَمَر لِأَنَّهُ مُنْتَهى الْحَرَكَة المستقيمة وَالْأول هُوَ الصَّحِيح لِأَن الْإِشَارَة إِذا نفذت من فلك الْقَمَر كَانَت إِلَى جِهَة الفوق قطعا لكَونهَا آخذة من جِهَة التحت وَهُوَ مَرْكَز الْفلك الْأَعْظَم متوجهة إِلَى مَا يقابلها وَلَا بَأْس بنفوذ الْإِشَارَة من فلك الْقَمَر لِأَنَّهَا أَمر وهمي لَا يضر نفوذها للفلك الْغَيْر الْقَابِل للخرق والالتئام بِخِلَاف الْحَرَكَة فَإِنَّهَا تضره لاستلزامها الْخرق.
وَهَاتَانِ: الجهتان أَعنِي الفوق والتحت حقيقيتان لَا تتبدلان فَإِن الْقَائِم إِذا صَار منكوسا لم يصر مَا يَلِي رَأسه فوقا وَمَا يَلِي رجله تحتا بل صَار رَأسه من تَحت وَرجله من فَوق بِخِلَاف بَاقِي الْجِهَات. فَإِن المتوجه إِلَى الْمشرق مثلا يكون الْمشرق قدامه وَالْمغْرب خَلفه والجنوب يَمِينه وَالشمَال بِالْفَتْح شِمَاله بِالْكَسْرِ. ثمَّ إِذا توجه إِلَى الْمغرب يتبدل الْجَمِيع وَصَارَ قدامه خَلفه وَبِالْعَكْسِ يَمِينه شِمَاله وَبِالْعَكْسِ. وَالْمَشْهُور أَن الْجِهَات سِتّ وعَلى غير الْمَشْهُور أَكثر مِنْهَا لِأَنَّهُ يُمكن أَن يفْرض فِي جسم وَاحِد بل من نقطة وَاحِدَة امتدادات غير متناهية.
وَلَكِن نقرع سَمعك بِمَا قَالَ الْحَكِيم صَدرا فِي شرح هِدَايَة الْحِكْمَة فِي تمهيد فصل أَن الْقُوَّة المحركة للفلك يجب أَن تكون مُجَرّدَة عَن الْمَادَّة الخ كَمَا أثبت كَون الْفلك حَيَوَانا متحركا بالإرادة أَرَادَ أَن يبين أَن الْفلك إِنْسَان كَبِير بِمَعْنى أَن مبدأ حركته لَيْسَ قُوَّة حيوانية منطبعة بل نفسا مُجَرّدَة عَن الْمَادَّة ذَات إِرَادَة كُلية لَا يكون تعلقهَا بجرم الْفلك تعلق الانطباع بل تعلق التَّدْبِير وَالتَّصَرُّف كتعلق النَّفس الناطقة ببدن الْإِنْسَان انْتهى لَعَلَّ مُرَاده بِالْحَيَوَانِ الْحَيّ لَا مَا هُوَ المصطلح عَلَيْهِ وَإِطْلَاق الْإِنْسَان الْكَبِير على الْفلك لَا يضرنا لِأَنَّهُ إِنَّمَا أطلق الْإِنْسَان الْكَبِير لَا الْإِنْسَان. وَالْإِنْسَان وَالْإِنْسَان الْكَبِير حقيقتان متبائنتان. وَلَعَلَّ عِنْد غَيْرِي أحسن من هَذَا. وَقد تطلق الْجِهَة على صفة الشَّيْء وحاله الَّذِي يكون مقتضيا وسببا للْحكم عَلَيْهِ بِشَيْء آخر وتغاير الْجِهَتَيْنِ فِي الْمَوْقُوف وَالْمَوْقُوف عَلَيْهِ إِنَّمَا يُفِيد فِي دفع الدّور إِذا كَانَتَا مؤثرتين فِي التَّوَقُّف وَكَانَ الْمَوْقُوف وَالْمَوْقُوف عَلَيْهِ هما الجهتان فاحفظ فَإِنَّهُ نَافِع جدا.
والجهة عِنْد المنطقيين: هِيَ الْكَيْفِيَّة المعقولة للنسبة بَين الْمَوْضُوع والمحمول. وَالتَّفْصِيل إِن النِّسْبَة الَّتِي بَين الْمَوْضُوع والمحمول إيجابية أَو سلبية لَا بُد وَأَن تكون لَهَا كَيْفيَّة من الكيفيات. ثمَّ إِن تِلْكَ الْكَيْفِيَّة الثَّابِتَة فِي نفس الْأَمر تسمى مَادَّة وَمن حَيْثُ إِنَّهَا مدركة وثابتة فِي الْعقل سَوَاء كَانَت النِّسْبَة فِي نفس الْأَمر أَولا تسمى جِهَة معقولة. والعبارة الدَّالَّة على تِلْكَ الْكَيْفِيَّة المدركة هِيَ الْجِهَة الملفوظة. وَقَالَ بَعضهم اللَّفْظ الدَّال عَلَيْهَا أَي على تِلْكَ الْكَيْفِيَّة فِي نفس الْأَمر فِي الْقَضِيَّة الملفوظة وَالصُّورَة الْعَقْلِيَّة الدَّالَّة عَلَيْهَا فِي الْقَضِيَّة المعقولة تسمى جِهَة الْقَضِيَّة.
وَقد علمت مِمَّا ذكرنَا أَن جِهَة الْقَضِيَّة لَا بُد وَأَن تكون خَارِجَة عَن الطَّرفَيْنِ وَالنِّسْبَة كَيفَ فَإِنَّهَا كَيْفيَّة النِّسْبَة بَين الْمَوْضُوع والمحمول. لَا يُقَال إِن الِامْتِنَاع جِهَة من الْجِهَات لِأَنَّهَا غير محصورة فِيمَا ذكرُوا وَهُوَ مَحْمُول فِي قَوْلنَا شريك الْبَارِي مُمْتَنع لأَنا نقُول إِن الْمَحْمُول هُوَ الْمَوْجُود لَا الْمُمْتَنع فَإِن مَعْنَاهُ شريك الْبَارِي مَوْجُود بالامتناع لَكِن لما كَانَ الْمَقْصُود وَالْحكم بالامتناع يَجْعَل مَحْمُولا قصرا للمسافة. وَقس عَلَيْهِ الله وَاجِب وَالْإِنْسَان مُمكن. وَمن قَالَ إِن الِامْتِنَاع لَيْسَ بِجِهَة فقد أغمض الْعَينَيْنِ من نور القمرين كَيفَ وَقد أذن مُؤذن فِي مَسْجِد التَّجْرِيد أَن الْوُجُود إِذا حمل أَو جعل رابطا يثبت مواد ثَلَاث فِي أَنْفسهَا جِهَات فِي التعقل دَالَّة على وثاقة الرابطة وضعفها هِيَ الْوُجُوب والامتناع والإمكان وَكَذَا الْعَدَم انْتهى.
قَالَ الْفَاضِل المدقق مَوْلَانَا مرزاجان فِي حَوَاشِيه على شرح التَّجْرِيد لَا يُقَال مثلا قَوْلنَا شريك الْبَارِي مَوْجُود لَيْسَ بقضية بِالْفِعْلِ وَلَا بِالْقُوَّةِ لِأَن الْقَضِيَّة إِنَّمَا تكون بِالْفِعْلِ أَو بِالْقُوَّةِ إِذا كَانَت النِّسْبَة فِيهَا بِالْفِعْلِ كَمَا فِي القضايا الفعلية. أَو بِالْقُوَّةِ كَمَا فِي الممكنة على مَا ذكر الْعَلامَة الرَّازِيّ. وَإِذا لم تكن قَضِيَّة بِالْفِعْلِ وَلَا بِالْقُوَّةِ فَكيف تتكيف بالمادة والجهة مَعَ أَنهم فسروا الْمَادَّة والجهة بالكيفية الْعَارِضَة لنسبة الْمَحْمُول إِلَى الْمَوْضُوع فِي نفس الْأَمر أَو فِي الْعقل والموضوع والمحمول لَا يتحققان إِلَّا فِي الْقَضَاء. وَأَيْضًا صَرَّحُوا بِأَن الممكنة الْعَامَّة أَعم جَمِيع الْجِهَات وَظَاهر أَنه لَا يصدق شريك الْبَارِي مَوْجُود بالإمكان الْعَام لأَنا نقُول امْتنَاع الشَّيْء إِنَّمَا يُنَافِي تحَققه لَا صدق اسْمه ورسمه عَلَيْهِ إِذْ لَا يخفى أَن اجْتِمَاع النقيضين مُسْتَحِيل يصدق عَلَيْهِ اسْمه ورسمه.
وَمن هَا هُنَا يظْهر أَن القَوْل بِأَن الممكنة لَيست قَضِيَّة بِالْفِعْلِ بِنَاء على أَن النِّسْبَة فِيهَا لَيست متحققة بِالْفِعْلِ مَنْظُور فِيهِ وَقَوْلهمْ الممكنة أَعم الموجهات مَعْنَاهُ أَنَّهَا أَعم من الموجهات الْمَشْهُورَة المعدودة فِي كتب الْمنطق. بَقِي شَيْء وَهُوَ أَنه لَا بُد فِي الْقَضِيَّة من الحكم والإذعان الْمُتَعَلّق بِالنِّسْبَةِ الَّتِي فِيهَا والقضية الَّتِي جِهَتهَا الِامْتِنَاع لم يذعن بِالنِّسْبَةِ الَّتِي فِيهَا وَالْقَوْل بِأَن المذعن هَا هُنَا كَون شريك الْبَارِي مَوْجُودا بالامتناع فَإِن كَون شريك الْبَارِي مَوْجُودا وَإِن لم يصلح لتَعلق الإذعان بِهِ لَكِن كَونه مَوْجُودا بالامتناع مِمَّا يذعن بِهِ وهم مَحْض فَإِن المذعن بِهِ هَا هُنَا فِي الْحَقِيقَة هُوَ أَن وجود شريك الْبَارِي مُمْتَنع. بل الْحق فِي الْجَواب أَن يُقَال امْتنَاع النِّسْبَة فِي الْحَقِيقَة هُوَ ضَرُورَة الطّرف الْمُقَابل لتِلْك النِّسْبَة اعْتبر بِالْعرضِ فِيهَا. وَلَا شكّ فِي تحقق الطّرف الْمُقَابل فِي النِّسْبَة الممتنعة انْتهى.
ثمَّ الْوَاجِب عَلَيْك أَن تحفظ أَن الْمَحْكُوم عَلَيْهِ إِذا كَانَ الْمُمكن الْخَاص سَوَاء كَانَ الْمَحْمُول هُوَ الْوُجُود أَو الْعَدَم فالجهة هِيَ الْإِمْكَان. وَإِمَّا إِذا كَانَ الْمَحْكُوم عَلَيْهِ هُوَ الْوَاجِب لذاته فَلَا تكون الْجِهَة هِيَ الْإِمْكَان مَا لم يكن الْمَحْمُول هُوَ الْوُجُود لِأَنَّهُ إِذا كَانَ الْعَدَم فالجهة هِيَ الِامْتِنَاع وَكَذَا إِذا كَانَ الْمَحْكُوم عَلَيْهِ هُوَ الْمُمْتَنع بِالذَّاتِ لَا تكون الْجِهَة هِيَ الْإِمْكَان مَا لم يكن الْمَحْمُول هُوَ الْعَدَم وَأما إِذا كَانَ الْوُجُود فالجهة هِيَ الِامْتِنَاع فَافْهَم واحفظ.