المناسبة:
[في الانكليزية] Convenience ،agreement ،harmony
[ في الفرنسية] Convenance ،accord ،harmonie
هي عند المتكلّمين والحكماء هي الاتحاد في النسبة وتسمّى تناسبا أيضا كزيد وعمرو إذا تشاركا في بنوّة بكر كذا في شرح المواقف وشرح حكمة العين في أقسام الوحدة. وعند أهل البديع وتسمّى أيضا بالتناسب والتوفيق والايتلاف والتلفيق ومراعاة النظير جمع أمر وما يناسبه لا بالتضاد. وبهذا القيد يخرج الطباق فإنّ فيه المناسبة بالتضاد وهي أن يكون كلّ واحد من الأمرين مقابلا للآخر، وذلك قد يكون بالجمع بين أمرين نحو الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ وقد يكون بالجمع بين أمور ثلاثة كقول البحتري:
كالقسيّ المعطفات بل الأسهم مبرية بل الأوتار جمع بين القوس والسّهم والوتر. وقد يكون بين أربعة كقول البعض للمهدي الوزير أيها الوزير إسماعيلي الوعد شعيبي التوفيق يوسفي العفو ومحمّدي الخلق، وقد يكون بين أكثر منه، ومنها أي من مراعاة النظير ما يسمّيه بعضهم تشابه الأطراف وهو أن يختم الكلام بما يناسب ابتداءه في المعنى. والتناسب قد يكون ظاهرا نحو لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ فإنّ اللطيف يناسب كونه غير مدرك بالأبصار والخبير يناسب كونه مدركا للأبصار لأنّ المدرك للشيء يكون خبيرا به، وقد يكون خفيا نحو إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فإنّ قوله تعالى وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ يوهم أنّ الفاصلة الغفور الرحيم، لكن يعرف بعد التأمّل أنّ الواجب هو العزيز الحكيم، لأنّه لا يغفر لمن يستحقّ العذاب إلّا من ليس فوقه أحد يرد عليه حكمه فهو العزيز أي الغالب. ثم وجب أن يوصف بالحكيم على سبيل الاحتراس لئلّا يتوهّم أنّه خارج عن الحكمة لأنّ الحكيم من يضع الشيء في محله أي إن تغفر لهم مع استحقاقهم العذاب فلا اعتراض عليك لأحد في ذلك، والحكمة فيما فعلته. ويلحق بالتناسب أن يجمع بين معنيين غير متناسبين بلفظين يكون لهما معنيان متناسبان، وإن لم يكونا مقصودين هاهنا نحو الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ، وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ أي ينقادان لله تعالى.
فالمراد بالنجم النبات الذي ينجم أي يظهر من الأرض مما لا ساق له كالبقول وهو بهذا المعنى لا يناسب الشمس والقمر، لكنه قد يكون بمعنى الكوكب وهو مناسب لهما، ولهذا يسمّى مثل ذلك إيهام التناسب والنجم بالنسبة إلى الشّجر من التناسب حقيقة، هكذا يستفاد من المطول وحواشيه. ويقول في جامع الصنائع: إنّ الفرق بين التناسب الذي يسمّى مراعاة النظير وبين رعاية التناسب هو: أن يقول ما يقول بالنسبة، على سبيل العموم وذلك في الأسماء الذاتية والصّفات والأفعال والحروف ومثاله ما ترجمته:
شفتك اللمياء طافت في العالم وأجرت الدّماء هذه الطرفة فحينا فوق السّوالف تنعقد وحينا تتقلّب على العين ففي هذا البيت مراعاة التناسب بين الارتباط فوق السّوالف والتقلّب على العين، وهو لازم أيضا، لأنّك لو قلت: التقلّب على السوالف فإنّ المعنى يحصل ولكنّ التركيب لا تناسب فيه.
وفي التناسب أكثر ما يكون استعمال أسماء الذوات، وذلك لأنّه عبارة عن الجمع بين أمر وآخر يناسبه وليس مضادا له. مثاله ما ترجمته:
لو استطاع الفرقدان لوضعا الرأس تحت قدمك يدري هذا الكلام من أحضره من الفرقدين ففي هذا البيت كلمة رأس وقدم وفرق هي أسماء ذوات. انتهى. وأما عند الأصوليين ففي أصول الحنفية أنّ المناسبة هي الملائمة وهي موافقة الوصف أي العلّة للحكم بأن يصحّ إضافة الحكم إليه ولا يكون نائبا عنه، كإضافة ثبوت الــفرقة في إسلام أحد الزوجين إلى آباء الآخر لأنّه يناسبه لا إلى وصف الإسلام لأنّه ناب عنه، لأنّ الإسلام عرف عاصما للحقوق لا قاطعا لها، وكذا المحظور يصلح سببا للعقوبة والمباح سببا للعبادة لا العكس لعدم الملائمة، وهذا معنى قولهم الملائمة أن يكون الوصف على وفق ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن السلف فإنّهم كانوا يعلّلون بأوصاف مناسبة وملائمة للأحكام غير نائبة عنها، ويقابلها الطّرد، أعني وجود الحكم عند وجود الوصف من غير اشتراط ملائمة وتأثير، أو وجوده عند وجوده وعدمه عند عدمه على اختلاف الرأيين.
والشافعية يجعلون المناسبة أعمّ من الملائمة ويقسمون المناسب إلى ملائم وغير ملائم، وفسّرها الآمدي بأنّها وصف ظاهر منضبط يحصل عقلا من ترتّب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصودا للعقلاء من حصول مصلحة أو دفع مضرة أو مجموعهما، وذلك إمّا في الدنيا كالمعاملات أو في الأخرى كإيجاب الطاعات وتحريم المعاصي، وفيه أخذ المناسبة بمعنى المناسب تجوّزا. والتحقيق أن يقال إنّ المناسبة كون الوصف ظاهرا إلى آخره، واحترز بالظاهر عن الوصف الخفي وبالمنضبط عن غير المنضبط وهو المضطرب، وبقوله عقلا عن الشبه، وبقوله ما يصلح أن يكون مقصودا عن الوصف المستبقي في السير وعن الوصف المدار في الدوران وغيرهما من الأوصاف التي لا يكون اعتبارها لترتّب ما يصلح كونه مقصودا عليه.
وفسّر المقصود بما يكون مقصودا للعقلاء من حصول مصلحة واندفاع مفسدة لئلّا يتوهّم أنّ المراد ما يكون مقصودا من شرعية الحكم فيلزم الدور. فمن فسّره بما يكون مقصودا للشارع من شرع الحكم نفيا كان أو إثباتا سواء كان المقصود جلب منفعة للعبد أو دفع مفسدة عنه فقد لزمه الدّور لأنّ ذلك إنّما يعرف بكونه مناسبا، فلو عرف كونه مناسبا بذلك كان دورا والمصلحة اللذة وطريقها والمفسدة الألم وطريقه مثاله القتل العمد العدوان فإنّه وصف مناسب لوجوب القصاص، لأنّه يلزم من ترتّب وجوب القصاص على القتل حصول ما هو مقصود من شرعية القصاص وهو بقاء النفوس على ما يشير إليه قوله تعالى وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ.
ثم إن كان الوصف الذي يحصل من ترتّب الحكم عليه المقصود خفيا أو غير منضبط لم يعتبر لأنّه لم يعلم فكيف يعلم به الحكم فالطريق حينئذ أن يعتبر وصف ظاهر منضبط يلازم ذلك الوصف الحكم فيوجد بوجوده ويعدم بعدمه، سواء كانت الملازمة عقلية أو لا، فيجعل ذلك الوصف الظاهر معرّفا للحكم مثلا وصف العمدية في القتل العمد العدوان خفي، لأنّ القصد وعدمه أمر نفسي لا يدرك شيء منه فيتعلّق القصاص بما يلازم العمدية من أفعال مخصوصة يقتضي في العرف عليها بكونها عمدا كاستعمال الجارح في القتل. وقال القاضي الإمام أبو زيد: المناسب ما لو عرض على العقول تلقته بالقبول أي إذا عرض على العقل أنّ هذا الحكم إنّما يشرع لأجل هذه المصلحة يكون ذلك الحكم موصلا إلى تلك المصلحة عقلا أو تكون تلك المصلحة أمرا مقصودا عقلا، وهذا قريب من تفسير الآمدي لأنّ تلقّي العقول بالقبول في قوة ما يصلح مقصودا للعقلاء من ترتّب الحكم عليه، إلّا أنّه لم يصرّح بالظهور والانضباط ولعدم التصريح المذكور ولعدم كونه صالحا إلّا للناظر دون المناظر، إذ ربّما يقول الخصم هذا مما لا يتلقاه عقلي بالقبول فلا يكون مناسبا عندي، عدل عنه الآمدي، وبه يقول أبو زيد فإنّه قائل بامتناع التمسّك بالمناسبة في مقام المناظرة، وإن لم يمتنع في مقام النظر لأنّ العاقل لا يكابر نفسه فيما يقتضي به عقله. قيل هذا يرد على الآمدي أيضا لأنّه ذكر قيد العقل، فللمناظر أن يمنع بأنّه لا يصلح في عقلي. وقيل المناسب ما يجلب نفعا ويدفع ضررا وهو قريب مما ذكره الإمام في المحصول أنّه الوصف الذي يقضي إلى ما يجلب للإنسان نفعا أو يدفع عنه ضررا. والفرق بينهما أنّ المناسب على هذا القول نفس الجالب.
وعلى ما ذكره الإمام المفضي إلى الجالب.
وقال الغزالي المراد بالمناسب ما هو على منهاج المصالح بحيث إذا أضيف إليه الحكم انتظم كالإسكار لحرمة الخمر فإنّه المناسب لأنّه يزيل العقل هو ملاك التكليف، بخلاف كونها مائعا يقذف بالزّبد ويحفظ في الدّنّ، فإنّ ذلك لا يناسب. واعلم أنّ هذه التعاريف إنّما هي على قول من يجعل الأحكام الثابتة بالنصوص متعلّقة بالحكم والمصالح، ومن يأبى عنه يقول المناسب هو الملائم لأفعال العقلاء في العادات.
اعلم أنّ المناسبة كما يطلق على ما مرّ من كون الوصف ظاهرا منضبطا إلى آخره كذلك يطلق على معنى أخصّ من ذلك وهو تعيين العلّة في الأصل بمجرّد إبداء مناسبة بينها وبين الحكم من ذات الأصل لا بنصّ ولا غيره، أي كون الوصف بحيث تتعيّن علّيته إلى آخره، نصّ على ذلك المحقّق التفتازاني في حاشية العضدي.
وقال في التلويح: المذكور في أصول الشافعية أنّ المناسب هو المخيّل ومعناه تعيين العلّة في الأصل إلى آخره، وهذا على المسامحة، حيث عرّف المناسب بتعريف المناسبة، وإلّا فالتحقيق أنّ المناسب هو الوصف الذي يتعين علّيته إلى آخره. فقولنا بمجرّد إبداء المناسبة أي إظهار المناسبة بينها وبين الحكم، والمراد المناسبة بالمعنى اللغوي لئلّا يلزم الدور، وبهذا خرج الطّرد إذ ليس فيه مناسبة والسّبر والتقسيم إذ لا يعتبر فيه المناسبة أيضا. وبقولنا من ذات الأصل خرج الشّبه لأنّ مناسبته إنّما هي بالتّبع.
وقولنا لا بنصّ ولا غيره يخرج إثبات العلّة بهما فإنّه ليس بمناسبة. مثاله الإسكار لتحريم الخمر فإنّ النظر في نفس المسكر وحكمه ووصفه يعلم منه كون الإسكار مناسبا لشرع التحريم صيانة للعقل الشريف عن الزوال، ويسمّى بالإحالة أيضا لأنّه بالنظر إليه يحال أي يظن أنّه علّة، ويسمّى تخريج المناط أيضا لأنّه إبداء مناط الحكم أي علّيته وهو من أحد مسالك إثبات العلّة. وإنّما كان هذا المعنى أخصّ لأنّه هو معنى المناسب المرسل. ولذا قال في التلويح:
قال الإمام الغزالي: من المصالح ما يشهد الشرع باعتباره هي أصل في القياس وحجة، ومنها ما يشهد ببطلانه وهو باطل، ومنها ما لم يشهد له بالاعتبار ولا بالإبطال، وهذا في محل النّظر. وإذا أطلقنا المعنى المخيل والمناسب في باب القياس أردنا به هذا الجنس.
التقسيم:
للمناسب تقسيمات باعتبارات. الأول باعتبار إفضائه إلى المقصود ينقسم إلى خمسة أقسام. الأول أن يحصل المقصود منه يقينا كالبيع للحل. الثاني أن يحصل ظنّا كالقصاص للانزجار فإنّ الممتنعين أكثر من المقدمين، وهذان مما لا ينكرهما أحد. الثالث أن يكون حصوله وعدم حصوله متساويين كحدّ الخمر للزجر فإنّ عدد الممتنع والمقدم متقاربان. الرابع أن يكون نفي الحصول أرجح من الحصول كنكاح الآيسة لتحصيل غرض التّناسل، فإنّ عدد من لا ينتسل منهن أكثر من عدد من ينتسل، وهذان قد أنكروا، والمختار الجواز. الخامس أن يكون المقصود فائتا بالكلّية مثاله جعل النكاح مظنّة لحصول النطفة في الرّحم فرتّب عليه إلحاق الولد بالأب، فإذا تزوّج مشرقي مغربية وقد علم عدم تلاقيهما فاتفق الجمهور على أنّه لا يعتبر، وخالف في ذلك الحنفية نظرا إلى ظاهر العلّة. وقيل لم ينقل أحد من الحنفية في كتبهم جواز التعليل بوصف مع تيقّن الخلوّ عن المقصود، وهذا المثال من قبيل ما يكون المقصود غالب الحصول في صور الجنس، وفي مثله يجوز التعليل اتفاقا، ولا يشترط حصول المقصود في كلّ فرد. والثاني باعتبار نفس المقصود فنقول المقاصد ضربان: ضروري وهو أيضا ينقسم إلى قسمين ضروري في أصله وهو أعلى المقاصد كالمقاصد الخمسة التي روعيت في كلّ صلة: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. فالدين كقتل الكافر المضل وعقوبة الداعي إلى البدع. والنفس كالقصاص.
والنسل كالحدّ على الزنا. والمال كعقوبة السارق والمحارب أي قاطع الطريق. ومكمل للضروري كتحريم قليل الخمر مع أنّه لا يزيل العقل الذي هو المقصود للتتميم والتكميل لأنّ قليله يدعو إلى كثيره بما يورث النفس من الطرب المطلوب زيادته بزيادة سببه إلى أن يسكر. وغير ضروري وهو ينقسم إلى حاجي وغير حاجي، والحاج أيضا ينقسم إلى قسمين حاجي في نفسه ومكمّل للحاجي. مثال الحاجي في نفسه البيع والإجارة ونحوها كالفرض فإنّ المعاوضة وإن ظنّت أنّها ضرورية، لكن كلّ واحد منها ليس بحيث لو لم يشرع لأدّى إلى فوات شيء من الضروريات الخمس. واعلم أنّ هذه ليست في مرتبة واحدة، فإنّ الحاجة تشتدّ وتضعف، وبعضها آكد من بعض. وقد يكون بعضها ضروريا في بعض الصور كالإجارة في تربية الطفل الذي لا أمّ له ترضعه، وكشراء المطعوم والملبوس فإنّه ضروري من قبيل حفظ النفس. ولذلك لم يخل عنه شريعة؛ وإنّما أطلقنا الحاجي عليها بالاعتبار الأغلب. ومثال المكمّل للحاجي وجوب رعاية مهر المثل والكفاءة في الصغيرة، فإنّ أصل المقصود من شرع النكاح وإن كان حاصلا بدونهما، لكنه أشدّ إفضاء إلى دوام النكاح، وهي من مكمّلات مقصود النكاح، وغير الحاجي وهو ما لا حاجة إليه لكن فيه تحسين وتزيين كسلب العبد أهلية الشهادة. وإن كان ذا دين وعدالة لانحطاط رتبته عن الحرّ فلا يليق به المناصب الشريفة.
والثالث اعتبار الشارع إلى مؤثّر ملائم وغريب ومرسل لأنّه إمّا معتبر شرعا أو لا. فالمعتبر إمّا أن يثبت اعتباره بنصّ أو إجماع وهو المؤثّر أوّلا، بل يترتّب الحكم على وفقه بأن يثبت الحكم معه في المحل، فذلك لا يخلو إمّا أن يثبت بنصّ أو إجماع اعتبار عينه في جنس الحكم أو جنسه في عين الحكم أو جنسه في جنس الحكم أو لا. فإن ثبت فهو الملائم وتسمّيه الحنفية بالملائم المعدّل، وإن لم يثبت فهو الغريب. وأما غير المعتبر لا بنصّ ولا بإجماع ولا يترتّب الحكم على وفقه فهو المرسل. فإن قلت كيف يتصوّر اعتبار العين في الجنس أو الجنس في العين أو الجنس في الجنس فيما لم يعتبر شرعا؟ وهل هذا إلّا تهافت؟ قلت معنى الاعتبار شرعا عند الإطلاق هو اعتبار عين الوصف في عين الحكم في موضع آخر، وعلى هذا فلا إشكال. وبالجملة فالمؤثّر وصف مناسب ثبت بنصّ أو إجماع اعتبار عينه في عين الحكم كإحياء الأرض بالنسبة إلى تملّكها فإنّه يثبت تأثيره بالنصّ وهو قوله عليه السلام: (من أحيى أرضا ميتة فهي له)، وكالصغر بالنسبة إلى ولاية المال فإنّه اعتبر عين الصغر في عين الولاية بالمال بالإجماع. والملائم هو المناسب الذي لم يثبت اعتباره بنصّ أو إجماع بل بترتّب الحكم على وفقه فقط ومع ذلك يثبت بنصّ أو إجماع اعتبار عينه في جنس الحكم أو جنسه في عين الحكم أو جنسه في جنس الحكم. فمثال تأثير العين في الجنس ما يقال ثبت للأب ولاية النكاح على الصغيرة كما يثبت له عليها ولاية المال بجامع الصّغر، فالوصف الصّغر وهو أمر واحد ليس بجنس والحكم الولاية وهو جنس تحته نوعان من التصرّف وهما ولاية النكاح وولاية المال، وعين الصّغر معتبر في جنس الولاية بالإجماع، لأنّ الإجماع على اعتباره في ولاية المال إجماع على اعتباره في جنس الولاية، بخلاف اعتباره في عين ولاية النكاح فإنّه إنّما يثبت بمجرّد ترتّب الحكم على وفقه حيث يثبت الولاية في الجملة، وإن وقع الاختلاف في أنّه للصّغر أو للبكارة أو لهما جميعا. ومثال تأثير الجنس في العين ما يقال الجمع جائز في الحضر مع المطر قياسا على السّفر بجامع الحرج، فالحكم رخصة وهو واحد والوصف الحرج وهو جنس بجمع الحاصل بالسّفر وبالمطر وهما نوعان مختلفان، وقد اعتبر جنس الحرج في عين رخصة الجمع للنصّ والإجماع على اعتبار حرج السفر ولو في الحج فيها. وأمّا اعتبار عين الحرج فليس إلّا بمجرّد ترتّب الحكم على وفقه إذ لا نصّ ولا إجماع على علّية نفس حرج السّفر. ومثال تأثير الجنس في الجنس أن يقال يجب القصاص في القتل بالمثقل قياسا على القتل بالمحدد لجامع كونها جناية عمد عدوان، فالحكم أيضا مطلق وهو القصاص وهو جنس بجمع القصاص في النفس وفي الأطراف وفي المال، وقد اعتبر جنس الجناية في جنس القصاص في النفس لا بالنصّ أو الإجماع بل يترتّب الحكم على وفقه ليكون من الملائم دون المؤثّر، ووجهه أن لا نصّ ولا إجماع على أنّ العلّة ذلك وحده أو مع قيد كونه بالمحدّد. والغريب هو ما ثبت اعتبار عينه في عين الحكم بمجرّد ترتّب الحكم على وفقه لكن لم يثبت بنصّ أو إجماع اعتبار عينه في جنس الحكم أو جنسه في عين الحكم أو جنسه في جنس الحكم. مثاله أن يقال يحرّم النبيذ قياسا على الخمر بجامع الإسكار على تقدير عدم فرض النصّ بالتعليل فيه لأنّ الإسكار مناسب للتحريم حفظا للعقل، وعلم أنّ الشارع لم يعتبر عينه في جنس التحريم ولا جنسه في عين التحريم ولا جنسه في جنس التحريم. فلو لم يدلّ النّصّ وهو قوله (كلّ مسكر حرام) بالإيماء على اعتبار عينه لكان غريبا. والمرسل هو ما لم يثبت اعتبار عينه في عين الحكم أصلا وبعبارة أخرى ما لم يعتبر شرعا لا بنصّ ولا إجماع ولا بترتّب الحكم على وفقه، وهو ينقسم إلى ما علم إلغاؤه وإلى ما لم يعلم إلغاؤه.
والثاني أي ما لا يعلم إلغاؤه ينقسم إلى ملائم قد علم اعتبار عينه في جنس الحكم أو جنسه في عين الحكم أو جنسه في جنس الحكم، وإلى ما لا يعلم منه ذلك وهو الغريب. فإن كان غريبا أو علم إلغاؤه فمردود اتفاقا، وإن كان ملائما فقد قيل بقبوله، والمختار أنّه مردود. وقد شرط الغزالي في قبوله شروطا ثلاثة: أن تكون ضرورية لا حاجية وقطعية لا ظنّية وكلّية لا جزئية. أمّا الأوّلان أي المؤثّر والملائم فمقبولان وفاقا، فكلّ واحد من الملائم والغريب له معنيان هو بأحدهما من الأقسام الأوّلية للمناسب، وبالآخر من أقسام المرسل، فأقسام المرسل ثلاثة ما علم إلغاؤه والملائم والغريب. ومثال ما علم إلغاؤه إيجاب صيام شهرين قبل العجز عن الإعتاق في كفّارة الظّهار بالنسبة إلى من يسهل عليه الإعتاق دون الصيام فإنّه مناسب تحصيلا لمقصود الزجر لكن علم عدم اعتبار الشارع له فلا يجوز. ثم اعتبار العين في العين أو في الجنس أو اعتبار الجنس في العين أو في الجنس بحسب أفراده أو تركيبه الثنائي أو الثلاثي أو الرباعي، والنّظر في أنّ الجنس قريب أو بعيد أو متوسط وأنّ ثبوت ذلك بالنّصّ أو الإجماع أو بمجرّد ترتّب الحكم على وفقه يفضي إلى أقسام كثيرة وإيراد أمثلة متعددة، وقد أشير إلى نبذ منها في التلويح. هذا وقال الآمدي أنّ من القياس مؤثّرا يكون علّته منصوصة أو مجمعا عليها أو أثر عين الوصف في عين الحكم أو في جنسه أو جنسه في عين الحكم أو أثر جنس الوصف في جنس الحكم، ويناسب هذا الاصطلاح ما وقع في التوضيح من أنّ المراد بالملائمة اعتبار الشارع جنس هذا الوصف في جنس هذا الحكم، إلّا أنّه خصّ الجنس بكونه أخصّ من كونه متضمّنا لمصلحة اعتبرها الشارع كمصلحة حفظ النفس مثلا.
فالمراد أن يكون أخصّ من مصلحة حفظ النفس، وكذا من مصلحة حفظ الدين إلى غير ذلك، ولا يكفي كونه أخصّ من المتضمن لمصلحة ما لأنّ المتضمّن لمصلحة حفظ النفس أخصّ من المتضمّن لمصلحة ما، وليس بملائم.
وقال الآمدي أيضا الملائم ما أثّر عين الوصف في عين الحكم كما أثّر جنس الوصف في جنس الحكم. هذا كله خلاصة ما في العضدي والتوضيح وغيرهما.
[في الانكليزية] Convenience ،agreement ،harmony
[ في الفرنسية] Convenance ،accord ،harmonie
هي عند المتكلّمين والحكماء هي الاتحاد في النسبة وتسمّى تناسبا أيضا كزيد وعمرو إذا تشاركا في بنوّة بكر كذا في شرح المواقف وشرح حكمة العين في أقسام الوحدة. وعند أهل البديع وتسمّى أيضا بالتناسب والتوفيق والايتلاف والتلفيق ومراعاة النظير جمع أمر وما يناسبه لا بالتضاد. وبهذا القيد يخرج الطباق فإنّ فيه المناسبة بالتضاد وهي أن يكون كلّ واحد من الأمرين مقابلا للآخر، وذلك قد يكون بالجمع بين أمرين نحو الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ وقد يكون بالجمع بين أمور ثلاثة كقول البحتري:
كالقسيّ المعطفات بل الأسهم مبرية بل الأوتار جمع بين القوس والسّهم والوتر. وقد يكون بين أربعة كقول البعض للمهدي الوزير أيها الوزير إسماعيلي الوعد شعيبي التوفيق يوسفي العفو ومحمّدي الخلق، وقد يكون بين أكثر منه، ومنها أي من مراعاة النظير ما يسمّيه بعضهم تشابه الأطراف وهو أن يختم الكلام بما يناسب ابتداءه في المعنى. والتناسب قد يكون ظاهرا نحو لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ فإنّ اللطيف يناسب كونه غير مدرك بالأبصار والخبير يناسب كونه مدركا للأبصار لأنّ المدرك للشيء يكون خبيرا به، وقد يكون خفيا نحو إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فإنّ قوله تعالى وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ يوهم أنّ الفاصلة الغفور الرحيم، لكن يعرف بعد التأمّل أنّ الواجب هو العزيز الحكيم، لأنّه لا يغفر لمن يستحقّ العذاب إلّا من ليس فوقه أحد يرد عليه حكمه فهو العزيز أي الغالب. ثم وجب أن يوصف بالحكيم على سبيل الاحتراس لئلّا يتوهّم أنّه خارج عن الحكمة لأنّ الحكيم من يضع الشيء في محله أي إن تغفر لهم مع استحقاقهم العذاب فلا اعتراض عليك لأحد في ذلك، والحكمة فيما فعلته. ويلحق بالتناسب أن يجمع بين معنيين غير متناسبين بلفظين يكون لهما معنيان متناسبان، وإن لم يكونا مقصودين هاهنا نحو الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ، وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ أي ينقادان لله تعالى.
فالمراد بالنجم النبات الذي ينجم أي يظهر من الأرض مما لا ساق له كالبقول وهو بهذا المعنى لا يناسب الشمس والقمر، لكنه قد يكون بمعنى الكوكب وهو مناسب لهما، ولهذا يسمّى مثل ذلك إيهام التناسب والنجم بالنسبة إلى الشّجر من التناسب حقيقة، هكذا يستفاد من المطول وحواشيه. ويقول في جامع الصنائع: إنّ الفرق بين التناسب الذي يسمّى مراعاة النظير وبين رعاية التناسب هو: أن يقول ما يقول بالنسبة، على سبيل العموم وذلك في الأسماء الذاتية والصّفات والأفعال والحروف ومثاله ما ترجمته:
شفتك اللمياء طافت في العالم وأجرت الدّماء هذه الطرفة فحينا فوق السّوالف تنعقد وحينا تتقلّب على العين ففي هذا البيت مراعاة التناسب بين الارتباط فوق السّوالف والتقلّب على العين، وهو لازم أيضا، لأنّك لو قلت: التقلّب على السوالف فإنّ المعنى يحصل ولكنّ التركيب لا تناسب فيه.
وفي التناسب أكثر ما يكون استعمال أسماء الذوات، وذلك لأنّه عبارة عن الجمع بين أمر وآخر يناسبه وليس مضادا له. مثاله ما ترجمته:
لو استطاع الفرقدان لوضعا الرأس تحت قدمك يدري هذا الكلام من أحضره من الفرقدين ففي هذا البيت كلمة رأس وقدم وفرق هي أسماء ذوات. انتهى. وأما عند الأصوليين ففي أصول الحنفية أنّ المناسبة هي الملائمة وهي موافقة الوصف أي العلّة للحكم بأن يصحّ إضافة الحكم إليه ولا يكون نائبا عنه، كإضافة ثبوت الــفرقة في إسلام أحد الزوجين إلى آباء الآخر لأنّه يناسبه لا إلى وصف الإسلام لأنّه ناب عنه، لأنّ الإسلام عرف عاصما للحقوق لا قاطعا لها، وكذا المحظور يصلح سببا للعقوبة والمباح سببا للعبادة لا العكس لعدم الملائمة، وهذا معنى قولهم الملائمة أن يكون الوصف على وفق ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن السلف فإنّهم كانوا يعلّلون بأوصاف مناسبة وملائمة للأحكام غير نائبة عنها، ويقابلها الطّرد، أعني وجود الحكم عند وجود الوصف من غير اشتراط ملائمة وتأثير، أو وجوده عند وجوده وعدمه عند عدمه على اختلاف الرأيين.
والشافعية يجعلون المناسبة أعمّ من الملائمة ويقسمون المناسب إلى ملائم وغير ملائم، وفسّرها الآمدي بأنّها وصف ظاهر منضبط يحصل عقلا من ترتّب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصودا للعقلاء من حصول مصلحة أو دفع مضرة أو مجموعهما، وذلك إمّا في الدنيا كالمعاملات أو في الأخرى كإيجاب الطاعات وتحريم المعاصي، وفيه أخذ المناسبة بمعنى المناسب تجوّزا. والتحقيق أن يقال إنّ المناسبة كون الوصف ظاهرا إلى آخره، واحترز بالظاهر عن الوصف الخفي وبالمنضبط عن غير المنضبط وهو المضطرب، وبقوله عقلا عن الشبه، وبقوله ما يصلح أن يكون مقصودا عن الوصف المستبقي في السير وعن الوصف المدار في الدوران وغيرهما من الأوصاف التي لا يكون اعتبارها لترتّب ما يصلح كونه مقصودا عليه.
وفسّر المقصود بما يكون مقصودا للعقلاء من حصول مصلحة واندفاع مفسدة لئلّا يتوهّم أنّ المراد ما يكون مقصودا من شرعية الحكم فيلزم الدور. فمن فسّره بما يكون مقصودا للشارع من شرع الحكم نفيا كان أو إثباتا سواء كان المقصود جلب منفعة للعبد أو دفع مفسدة عنه فقد لزمه الدّور لأنّ ذلك إنّما يعرف بكونه مناسبا، فلو عرف كونه مناسبا بذلك كان دورا والمصلحة اللذة وطريقها والمفسدة الألم وطريقه مثاله القتل العمد العدوان فإنّه وصف مناسب لوجوب القصاص، لأنّه يلزم من ترتّب وجوب القصاص على القتل حصول ما هو مقصود من شرعية القصاص وهو بقاء النفوس على ما يشير إليه قوله تعالى وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ.
ثم إن كان الوصف الذي يحصل من ترتّب الحكم عليه المقصود خفيا أو غير منضبط لم يعتبر لأنّه لم يعلم فكيف يعلم به الحكم فالطريق حينئذ أن يعتبر وصف ظاهر منضبط يلازم ذلك الوصف الحكم فيوجد بوجوده ويعدم بعدمه، سواء كانت الملازمة عقلية أو لا، فيجعل ذلك الوصف الظاهر معرّفا للحكم مثلا وصف العمدية في القتل العمد العدوان خفي، لأنّ القصد وعدمه أمر نفسي لا يدرك شيء منه فيتعلّق القصاص بما يلازم العمدية من أفعال مخصوصة يقتضي في العرف عليها بكونها عمدا كاستعمال الجارح في القتل. وقال القاضي الإمام أبو زيد: المناسب ما لو عرض على العقول تلقته بالقبول أي إذا عرض على العقل أنّ هذا الحكم إنّما يشرع لأجل هذه المصلحة يكون ذلك الحكم موصلا إلى تلك المصلحة عقلا أو تكون تلك المصلحة أمرا مقصودا عقلا، وهذا قريب من تفسير الآمدي لأنّ تلقّي العقول بالقبول في قوة ما يصلح مقصودا للعقلاء من ترتّب الحكم عليه، إلّا أنّه لم يصرّح بالظهور والانضباط ولعدم التصريح المذكور ولعدم كونه صالحا إلّا للناظر دون المناظر، إذ ربّما يقول الخصم هذا مما لا يتلقاه عقلي بالقبول فلا يكون مناسبا عندي، عدل عنه الآمدي، وبه يقول أبو زيد فإنّه قائل بامتناع التمسّك بالمناسبة في مقام المناظرة، وإن لم يمتنع في مقام النظر لأنّ العاقل لا يكابر نفسه فيما يقتضي به عقله. قيل هذا يرد على الآمدي أيضا لأنّه ذكر قيد العقل، فللمناظر أن يمنع بأنّه لا يصلح في عقلي. وقيل المناسب ما يجلب نفعا ويدفع ضررا وهو قريب مما ذكره الإمام في المحصول أنّه الوصف الذي يقضي إلى ما يجلب للإنسان نفعا أو يدفع عنه ضررا. والفرق بينهما أنّ المناسب على هذا القول نفس الجالب.
وعلى ما ذكره الإمام المفضي إلى الجالب.
وقال الغزالي المراد بالمناسب ما هو على منهاج المصالح بحيث إذا أضيف إليه الحكم انتظم كالإسكار لحرمة الخمر فإنّه المناسب لأنّه يزيل العقل هو ملاك التكليف، بخلاف كونها مائعا يقذف بالزّبد ويحفظ في الدّنّ، فإنّ ذلك لا يناسب. واعلم أنّ هذه التعاريف إنّما هي على قول من يجعل الأحكام الثابتة بالنصوص متعلّقة بالحكم والمصالح، ومن يأبى عنه يقول المناسب هو الملائم لأفعال العقلاء في العادات.
اعلم أنّ المناسبة كما يطلق على ما مرّ من كون الوصف ظاهرا منضبطا إلى آخره كذلك يطلق على معنى أخصّ من ذلك وهو تعيين العلّة في الأصل بمجرّد إبداء مناسبة بينها وبين الحكم من ذات الأصل لا بنصّ ولا غيره، أي كون الوصف بحيث تتعيّن علّيته إلى آخره، نصّ على ذلك المحقّق التفتازاني في حاشية العضدي.
وقال في التلويح: المذكور في أصول الشافعية أنّ المناسب هو المخيّل ومعناه تعيين العلّة في الأصل إلى آخره، وهذا على المسامحة، حيث عرّف المناسب بتعريف المناسبة، وإلّا فالتحقيق أنّ المناسب هو الوصف الذي يتعين علّيته إلى آخره. فقولنا بمجرّد إبداء المناسبة أي إظهار المناسبة بينها وبين الحكم، والمراد المناسبة بالمعنى اللغوي لئلّا يلزم الدور، وبهذا خرج الطّرد إذ ليس فيه مناسبة والسّبر والتقسيم إذ لا يعتبر فيه المناسبة أيضا. وبقولنا من ذات الأصل خرج الشّبه لأنّ مناسبته إنّما هي بالتّبع.
وقولنا لا بنصّ ولا غيره يخرج إثبات العلّة بهما فإنّه ليس بمناسبة. مثاله الإسكار لتحريم الخمر فإنّ النظر في نفس المسكر وحكمه ووصفه يعلم منه كون الإسكار مناسبا لشرع التحريم صيانة للعقل الشريف عن الزوال، ويسمّى بالإحالة أيضا لأنّه بالنظر إليه يحال أي يظن أنّه علّة، ويسمّى تخريج المناط أيضا لأنّه إبداء مناط الحكم أي علّيته وهو من أحد مسالك إثبات العلّة. وإنّما كان هذا المعنى أخصّ لأنّه هو معنى المناسب المرسل. ولذا قال في التلويح:
قال الإمام الغزالي: من المصالح ما يشهد الشرع باعتباره هي أصل في القياس وحجة، ومنها ما يشهد ببطلانه وهو باطل، ومنها ما لم يشهد له بالاعتبار ولا بالإبطال، وهذا في محل النّظر. وإذا أطلقنا المعنى المخيل والمناسب في باب القياس أردنا به هذا الجنس.
التقسيم:
للمناسب تقسيمات باعتبارات. الأول باعتبار إفضائه إلى المقصود ينقسم إلى خمسة أقسام. الأول أن يحصل المقصود منه يقينا كالبيع للحل. الثاني أن يحصل ظنّا كالقصاص للانزجار فإنّ الممتنعين أكثر من المقدمين، وهذان مما لا ينكرهما أحد. الثالث أن يكون حصوله وعدم حصوله متساويين كحدّ الخمر للزجر فإنّ عدد الممتنع والمقدم متقاربان. الرابع أن يكون نفي الحصول أرجح من الحصول كنكاح الآيسة لتحصيل غرض التّناسل، فإنّ عدد من لا ينتسل منهن أكثر من عدد من ينتسل، وهذان قد أنكروا، والمختار الجواز. الخامس أن يكون المقصود فائتا بالكلّية مثاله جعل النكاح مظنّة لحصول النطفة في الرّحم فرتّب عليه إلحاق الولد بالأب، فإذا تزوّج مشرقي مغربية وقد علم عدم تلاقيهما فاتفق الجمهور على أنّه لا يعتبر، وخالف في ذلك الحنفية نظرا إلى ظاهر العلّة. وقيل لم ينقل أحد من الحنفية في كتبهم جواز التعليل بوصف مع تيقّن الخلوّ عن المقصود، وهذا المثال من قبيل ما يكون المقصود غالب الحصول في صور الجنس، وفي مثله يجوز التعليل اتفاقا، ولا يشترط حصول المقصود في كلّ فرد. والثاني باعتبار نفس المقصود فنقول المقاصد ضربان: ضروري وهو أيضا ينقسم إلى قسمين ضروري في أصله وهو أعلى المقاصد كالمقاصد الخمسة التي روعيت في كلّ صلة: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. فالدين كقتل الكافر المضل وعقوبة الداعي إلى البدع. والنفس كالقصاص.
والنسل كالحدّ على الزنا. والمال كعقوبة السارق والمحارب أي قاطع الطريق. ومكمل للضروري كتحريم قليل الخمر مع أنّه لا يزيل العقل الذي هو المقصود للتتميم والتكميل لأنّ قليله يدعو إلى كثيره بما يورث النفس من الطرب المطلوب زيادته بزيادة سببه إلى أن يسكر. وغير ضروري وهو ينقسم إلى حاجي وغير حاجي، والحاج أيضا ينقسم إلى قسمين حاجي في نفسه ومكمّل للحاجي. مثال الحاجي في نفسه البيع والإجارة ونحوها كالفرض فإنّ المعاوضة وإن ظنّت أنّها ضرورية، لكن كلّ واحد منها ليس بحيث لو لم يشرع لأدّى إلى فوات شيء من الضروريات الخمس. واعلم أنّ هذه ليست في مرتبة واحدة، فإنّ الحاجة تشتدّ وتضعف، وبعضها آكد من بعض. وقد يكون بعضها ضروريا في بعض الصور كالإجارة في تربية الطفل الذي لا أمّ له ترضعه، وكشراء المطعوم والملبوس فإنّه ضروري من قبيل حفظ النفس. ولذلك لم يخل عنه شريعة؛ وإنّما أطلقنا الحاجي عليها بالاعتبار الأغلب. ومثال المكمّل للحاجي وجوب رعاية مهر المثل والكفاءة في الصغيرة، فإنّ أصل المقصود من شرع النكاح وإن كان حاصلا بدونهما، لكنه أشدّ إفضاء إلى دوام النكاح، وهي من مكمّلات مقصود النكاح، وغير الحاجي وهو ما لا حاجة إليه لكن فيه تحسين وتزيين كسلب العبد أهلية الشهادة. وإن كان ذا دين وعدالة لانحطاط رتبته عن الحرّ فلا يليق به المناصب الشريفة.
والثالث اعتبار الشارع إلى مؤثّر ملائم وغريب ومرسل لأنّه إمّا معتبر شرعا أو لا. فالمعتبر إمّا أن يثبت اعتباره بنصّ أو إجماع وهو المؤثّر أوّلا، بل يترتّب الحكم على وفقه بأن يثبت الحكم معه في المحل، فذلك لا يخلو إمّا أن يثبت بنصّ أو إجماع اعتبار عينه في جنس الحكم أو جنسه في عين الحكم أو جنسه في جنس الحكم أو لا. فإن ثبت فهو الملائم وتسمّيه الحنفية بالملائم المعدّل، وإن لم يثبت فهو الغريب. وأما غير المعتبر لا بنصّ ولا بإجماع ولا يترتّب الحكم على وفقه فهو المرسل. فإن قلت كيف يتصوّر اعتبار العين في الجنس أو الجنس في العين أو الجنس في الجنس فيما لم يعتبر شرعا؟ وهل هذا إلّا تهافت؟ قلت معنى الاعتبار شرعا عند الإطلاق هو اعتبار عين الوصف في عين الحكم في موضع آخر، وعلى هذا فلا إشكال. وبالجملة فالمؤثّر وصف مناسب ثبت بنصّ أو إجماع اعتبار عينه في عين الحكم كإحياء الأرض بالنسبة إلى تملّكها فإنّه يثبت تأثيره بالنصّ وهو قوله عليه السلام: (من أحيى أرضا ميتة فهي له)، وكالصغر بالنسبة إلى ولاية المال فإنّه اعتبر عين الصغر في عين الولاية بالمال بالإجماع. والملائم هو المناسب الذي لم يثبت اعتباره بنصّ أو إجماع بل بترتّب الحكم على وفقه فقط ومع ذلك يثبت بنصّ أو إجماع اعتبار عينه في جنس الحكم أو جنسه في عين الحكم أو جنسه في جنس الحكم. فمثال تأثير العين في الجنس ما يقال ثبت للأب ولاية النكاح على الصغيرة كما يثبت له عليها ولاية المال بجامع الصّغر، فالوصف الصّغر وهو أمر واحد ليس بجنس والحكم الولاية وهو جنس تحته نوعان من التصرّف وهما ولاية النكاح وولاية المال، وعين الصّغر معتبر في جنس الولاية بالإجماع، لأنّ الإجماع على اعتباره في ولاية المال إجماع على اعتباره في جنس الولاية، بخلاف اعتباره في عين ولاية النكاح فإنّه إنّما يثبت بمجرّد ترتّب الحكم على وفقه حيث يثبت الولاية في الجملة، وإن وقع الاختلاف في أنّه للصّغر أو للبكارة أو لهما جميعا. ومثال تأثير الجنس في العين ما يقال الجمع جائز في الحضر مع المطر قياسا على السّفر بجامع الحرج، فالحكم رخصة وهو واحد والوصف الحرج وهو جنس بجمع الحاصل بالسّفر وبالمطر وهما نوعان مختلفان، وقد اعتبر جنس الحرج في عين رخصة الجمع للنصّ والإجماع على اعتبار حرج السفر ولو في الحج فيها. وأمّا اعتبار عين الحرج فليس إلّا بمجرّد ترتّب الحكم على وفقه إذ لا نصّ ولا إجماع على علّية نفس حرج السّفر. ومثال تأثير الجنس في الجنس أن يقال يجب القصاص في القتل بالمثقل قياسا على القتل بالمحدد لجامع كونها جناية عمد عدوان، فالحكم أيضا مطلق وهو القصاص وهو جنس بجمع القصاص في النفس وفي الأطراف وفي المال، وقد اعتبر جنس الجناية في جنس القصاص في النفس لا بالنصّ أو الإجماع بل يترتّب الحكم على وفقه ليكون من الملائم دون المؤثّر، ووجهه أن لا نصّ ولا إجماع على أنّ العلّة ذلك وحده أو مع قيد كونه بالمحدّد. والغريب هو ما ثبت اعتبار عينه في عين الحكم بمجرّد ترتّب الحكم على وفقه لكن لم يثبت بنصّ أو إجماع اعتبار عينه في جنس الحكم أو جنسه في عين الحكم أو جنسه في جنس الحكم. مثاله أن يقال يحرّم النبيذ قياسا على الخمر بجامع الإسكار على تقدير عدم فرض النصّ بالتعليل فيه لأنّ الإسكار مناسب للتحريم حفظا للعقل، وعلم أنّ الشارع لم يعتبر عينه في جنس التحريم ولا جنسه في عين التحريم ولا جنسه في جنس التحريم. فلو لم يدلّ النّصّ وهو قوله (كلّ مسكر حرام) بالإيماء على اعتبار عينه لكان غريبا. والمرسل هو ما لم يثبت اعتبار عينه في عين الحكم أصلا وبعبارة أخرى ما لم يعتبر شرعا لا بنصّ ولا إجماع ولا بترتّب الحكم على وفقه، وهو ينقسم إلى ما علم إلغاؤه وإلى ما لم يعلم إلغاؤه.
والثاني أي ما لا يعلم إلغاؤه ينقسم إلى ملائم قد علم اعتبار عينه في جنس الحكم أو جنسه في عين الحكم أو جنسه في جنس الحكم، وإلى ما لا يعلم منه ذلك وهو الغريب. فإن كان غريبا أو علم إلغاؤه فمردود اتفاقا، وإن كان ملائما فقد قيل بقبوله، والمختار أنّه مردود. وقد شرط الغزالي في قبوله شروطا ثلاثة: أن تكون ضرورية لا حاجية وقطعية لا ظنّية وكلّية لا جزئية. أمّا الأوّلان أي المؤثّر والملائم فمقبولان وفاقا، فكلّ واحد من الملائم والغريب له معنيان هو بأحدهما من الأقسام الأوّلية للمناسب، وبالآخر من أقسام المرسل، فأقسام المرسل ثلاثة ما علم إلغاؤه والملائم والغريب. ومثال ما علم إلغاؤه إيجاب صيام شهرين قبل العجز عن الإعتاق في كفّارة الظّهار بالنسبة إلى من يسهل عليه الإعتاق دون الصيام فإنّه مناسب تحصيلا لمقصود الزجر لكن علم عدم اعتبار الشارع له فلا يجوز. ثم اعتبار العين في العين أو في الجنس أو اعتبار الجنس في العين أو في الجنس بحسب أفراده أو تركيبه الثنائي أو الثلاثي أو الرباعي، والنّظر في أنّ الجنس قريب أو بعيد أو متوسط وأنّ ثبوت ذلك بالنّصّ أو الإجماع أو بمجرّد ترتّب الحكم على وفقه يفضي إلى أقسام كثيرة وإيراد أمثلة متعددة، وقد أشير إلى نبذ منها في التلويح. هذا وقال الآمدي أنّ من القياس مؤثّرا يكون علّته منصوصة أو مجمعا عليها أو أثر عين الوصف في عين الحكم أو في جنسه أو جنسه في عين الحكم أو أثر جنس الوصف في جنس الحكم، ويناسب هذا الاصطلاح ما وقع في التوضيح من أنّ المراد بالملائمة اعتبار الشارع جنس هذا الوصف في جنس هذا الحكم، إلّا أنّه خصّ الجنس بكونه أخصّ من كونه متضمّنا لمصلحة اعتبرها الشارع كمصلحة حفظ النفس مثلا.
فالمراد أن يكون أخصّ من مصلحة حفظ النفس، وكذا من مصلحة حفظ الدين إلى غير ذلك، ولا يكفي كونه أخصّ من المتضمن لمصلحة ما لأنّ المتضمّن لمصلحة حفظ النفس أخصّ من المتضمّن لمصلحة ما، وليس بملائم.
وقال الآمدي أيضا الملائم ما أثّر عين الوصف في عين الحكم كما أثّر جنس الوصف في جنس الحكم. هذا كله خلاصة ما في العضدي والتوضيح وغيرهما.